كتاب شرح الخطبة التطنجية

 

 

 

آية الله السيد كاظـم الـحسيني الرشتـي  (الأمجد)

 


الناشر : جامع الإمام الصادق عليه السلام - الكويت
سنة الطبع : 1421 هـ 2001م

المجلد الأول

 

 بسم اللّه الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على مخالفيهم وظالميهم أجمعين أبد الآبدين ، ودهر الداهرين .

 

أما بعد ؛ فيقول العبد الفقير الفاني الجاني ، ابن محمد قاسم محمد الكاظم الحسيني الرشتي : أن بعض السادة الأجلاء النبلاء - حرسه الله تعالى عن كل ضراء ولأواء وأيده بصنوف النعماء والآلاء بمحمد وآله السادة النجباء النقباء عليهم سلام الله ما دامت الأرض والسماء , قد التمس من الفقير بيان الخطبة الغراء العلية العلوية الموسومة بالتطنجية ، وكشف رموزها  ورفع أستارها على نهج الحقيقة الواقعية الأولية لا الثانوية ، وكان ذلك أمراً منيع الوصال وبعيد المنال , لاشتمالها على أسرار وحقائق وبدائع ومعاني لم تسمح بها الأفكار ، ولم تحظ لإدراكها الأنظار ، لكونها من أسرار ظهورات ولي الله الملك الجبار القهار ، وقد ضل دونها أسرار أولي الأخطار ، والذي طفح علينا رشح من قطرة من بحار تلك الأنوار ، وكثير منها ليست له عبارة ولم أعط بياناً ولا إشارة ، ومنها ما لا يمكن بيانه؛ لقول مولانا الصادق عليه السلام : (( ما كل ما يعلم يقال ، ولا كلما يقال حان وقته ، ولا كلما حان وقته حضر أهله ))1 , ومنها ما يتوقف بيانه على ذكر المقدمات الغريبة البعيدة عن الأفهام ، فيجب طيها لقوله عليه السلام : (( لا تتكلم بما تسارع العقول إلى إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره ، وليس كل ما تسمعه نكراً أو سعته عذراً ))2 , ومنها ما يطول بذكر جميع ما يتوقف عليه الكلام فتخل

________________

1 البحار 53/155 ح 138

2 لم نجد الـرواية كما هي في هذا الـشرح المبـارك , ووجدنا هذه الرواية (( إيـاك أن تتكلم بما يسبق إلى القلـوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره , فلـيس كل من تسمعه نكرا يمكنك لأن توسعـه عذرا )) البحار 71/229 ح 6

بالمقام ، مع ما ظهر في هذه الخطبة الشريفة من الأحوال ، والأمور الغريبة العجيبة التي كانت مطوية في بواطن القرآن وسائر أخبارهم عليهم السلام ، بحيث ما تحملها العلماء وطرحوها وأمثالها ، محتجين بأنها من وضع الغلاة , وحيث كان الأمر كذلك تسوفت في الجواب لعلمي بالناس ، وما يوسوس في صدورهم الخناس ، فعاد  سلمه الله تعالى في الالتماس وألح في السؤال ، فأجبت مسألته والتزمت طاعته ، إلَّا أني آتي بما يسهل بيانه ولا يعسر برهانه ، وأعتذر من البسط في المقال وشرح الحال وذكر الأحوال لتبلبل البال ، وتراكم الأعراض والأمراض وأنواع الاختلال ، والميسور لا يسقط بالمعسور وإلى الله ترجع الأمور ، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم ، وإني أمهد قبل الشروع في المقصود مقدمة؛ لتنبيه الغافلين، وإرشاد المسترشدين .

 

مقدمة

 

اعلم أن العلماء في هذه الخطبة الشريفة وأمثالها من الخطب ، كخطبة البيان وخطبة الافتخار وغيرها من الأخبار كخبر معرفتهم بالنورانية وخبر بيان مقامات المعرفة وغيرها تشعبوا على أربع شعب .

 

 الأولى : طرحوا هذه الأخبار وأسقطوها عن نظر الاعتبار ، وقالوا أنها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، ومن قال بحجية الظن المطلق قال وإن استفيد الظن بصحة مضمون هذه الأخبار إلَّا أنه لا يعول عليه في مثل هذه المطالب , ومن قال بحجية الخبر الواحد قال إن ذلك هو الخبر الصحيح من العدل الإمامي ، وتلك الأخبار أكثرها ضعيفة سيما الخطب وأغلبها في مشارق الأنوار للشيخ رجب البرسي وقد حكم العلماء بغلوه ، وما هذا شأنه لا حجية فيه مع أن هذه الأخبار والخطب تخالفها العقول وفيها رفع الإمكان عن مكانه ، وإثبات الربوبية للمخلوق ، واستلزام التفويض الذي أطبق العلماء وفاقاً للأخبار الصحيحة الصريحة المحكمة على بطلانه وتكفير القائل به ، ومخالفة الكتاب الصريح حيث يـقول الله سبحانـه { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ

اللَّهِ }1 { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ }2 { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }3 وقد دلت الأخبار وشهد صحيح الاعتبار أن الخبر إذا خالف الكتاب المجيد يضرب على عرض الحائط , وقد شاع وذاع شيوع الغلاة القائلين بالألوهية لأمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الطيبين الطاهرين عليهم السلام كالنصيرية والخطابية والشلمغانية وأمثالهم ، وأغلب رواة هذه الأخبار هم , فثبت أن هذه الخطب ليست من أمير المؤمنين عليه السلام ، ولا الأخبار من أولاده المعصومين عليهم السلام ، وإنما هي من موضوعات الغلاة والمفوضة .

 

       الثانية : توقفوا في تصديقها وتكذيبها حيث رأوا شيوع هذه الأخبار وتكررها وتواردها في كتب الفرقة المحقة ، وورود الأدعية الكثيرة بمضمونها والزيارات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، وورود الأخبار الكثيرة بمعناها عن أخبار الثقاة أيضا إلا أن هنا أخبارا بظاهرها تنفي هذه المضامين ويؤيدها ظواهر بعض الآيات مع أن العقل يقصر عن إدراكها ومعرفتها فالتوقف والسكوت فيها أولى لما قال عليه السلام (( الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ))4 .

 

الثالثة : تلقوها بالقبول وشهدوا على حقيتها لكنهم حاولوا معرفتها بالعقول ولم يستندوا فيها إلى آل الرسول صلى الله عليه وعليهم بباطن دعوتهم ولسان أعمالهم وإن ادعوا خلافه بظاهر مقالهم ، فجروا في بيان هذه الخطب مجرى الصوفية الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ، قال الملا محسن في قرة العيون ( قال بعض العارفين إذا تجلى الله بذاته لأحد يرى كل الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته وصفاته وأفعالـه , ويجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنها مدبرة لها وهي أعضاؤه لا يلم بواحدة منهـا شيء إلا

_______________

1 فاطر 3                    2 فاطر 40

3 الروم 40                 4 الكافي 1/68 ح 10

وهو يراه ملما به ، ويرى ذاته الذات الواحدة وصفته صفتها وفعله فعلها لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد ، ولما انجذبت بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة ، وارتفع التمييز بين القدم والحدوث لزهوق الباطل عند مجيء الحق ) إلى أن قال  ( ولعل هذا هو السر في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة البيان وفي خطبته الموسومة بالتطنجية وغيرها من نظائرهما كقوله عليه السلام (( أنا آدم الأول أنا نوح الأول )) إلى آخر ما قال من أمثال ذلك ) انتهى كلامه .

 

الرابعة : عملوا بمقتضى قوله تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا }1 فأولئك المؤمنون الممتحنون الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان وشرح صدورهم للإسلام ، وهم المتبعون لقادة الدين الأئمة الهادين الذين يتأدبون بآدابهم وينهجون نهجهم ، فهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان فاستجابت أرواحهم لقادة العلم واستلانوا من أحاديثهم ما استوعر على غيرهم وأنسوا بما استوحش منه المكذبون وأباه المسرفون ، فانقطعوا إلى ربهم وحاولوا قراءة الألواح الآفاقية والأنفسية التي قد نقش الله سبحانه فيها جميع أسراره المخزونة في ملكوته وجبروته ولاهوته ، فعرفوها بتعليم الله سبحانه وتعالى بألسنة أوليائه بعد ما جاهدوا في الله حق جهاده ، فنظروا في العالم والكتاب والسنة من غير معاندة ولجاج ولا قاعدة مأخوذة من غير أهل الحق عليهم السلام ليقبلوا ما يوافقها ويتركوا ما يخالفها أويؤولوا إليها ، ولا استئناس بطائفة ليميلوا بقلوبهم ليمنعهم عن إصابة الواقع بتلون مرآة حقائقهم بلون ذلك الميل ، بل نظروا إلى الكتاب والسنة والآيات الآفاقية والأنفسية بخالص الفطرة وصافي الطوية طالبي الحق والصواب من الله سبحانه بأهل فصل الخطاب عليهم سلام الله في المبدأ والمآب ، فقابلت مرايا قلوبهم عالم النور الذي هو وجه الله سبحانه قال الله تعالى {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }2‏  

________________

1 النساء 65                     2 النور 35

فظهرت في قلوبهم صور الحقائق المنتزعة من كتاب الأبرار في عليين ، فنطقوا بالحق والصواب وهو قـوله عز وجل { وَالَّـذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }1‏ وهذه كيفيتها وطريقها فعرفوا الشيء الواحد في مقامات عديدة هي خزائن وجوده قال الله تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ }2  فعرفوه في جميع الخزائن وإن قال تعالى {* وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }‏ 3 لكنه قال تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }4 وقالوا (( نحن العلماء وشيعتنا  المتعلمون ))5 إذ كلهم محمد أولهم محمد وآخرهم محمد وأوسطهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كان الشيء الواحد له أطوار وأحوال قال تعالى { مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا }‏6 طور الإجمال وطور التفصيل وطور البساطة وطور التركيب وطور التصوير وطور التجريد كما قال عز وجل { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ }7 وعرفوا كل هذه الأطوار وما تقتضيه الأوطار في عالم الأنوار بتعليم الأئمة الأطهار عليهم السلام صار لا يشتبه عليهم شيء في مقام الاختلاف والكثرة وعدم الائتلاف ، فيعطون كل ذي حق حقه من الأحكام وإن ظهر بألف طور مختلف ، إذ عرفوا اللطيفة السارية في المجموع الواحد ، فلا يحصل عندهم تعارض ولا تناقض ولا تضاد ، لا في الأكوان ولا في الصفات ولا في الألـفاظ والعبارات ولا في أخبار سادة البريات ، ولا في الآيات من المحكمات والمتشابهات فهم مطمئنوا القلب باردوا الفؤاد بالغوا المراد ، يعرفون الغريب من القريب ويأخذون النصيب من المعلى والرقيب ، فلا يحتاجون إلى طرح الأخبار ولا إلى اختلاف الأنظار، وهم

___________________

1 العنكبوت 69          2 الحجر 21              3 الأنعام 59

4 الجن 26

5 الكافي 1/34 ح 4 وهذا نص الرواية كاملا عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( يغدوا الناس على ثلاثة أصناف عالم ومتعلم وغثاء , فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء )) .

6 نوح 13 _ 14              7 يونس 19

الذين قال الله تعالى فيهم { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ }1لأن أهل البيت عليهم السلام علماء حكماء عارفون بمواقع الكلام ولحن الخطاب ، ولم يتكلموا بشيء إلا جعلوا فيه من تسديدهم قرينة تنفيه أوتثبته وإلا لم يكونوا حجة بالغة ، والقول بأنهم يتكلمون بلسان قومهم وما جرت به عادة العرب على نصب القرينة في كل مقالاتهم ولا يمكن لأحد معرفة القرينة لو فرض وجودها باطل لأنهم ما يتركون نصب القرينة إلا إذا عجزوا عن ذلك ، وإلا فمهما يمكنهم لا يتركونها وهو معلوم بديهي لكل عاقل ، وأما عدم الفهم فإنما يتصور إذا لم يمكنه أن يجري كلماته على نهج واحد وطور متسق ، فيختلف في المقال فتختل معرفة كلامه , وأما الذي يقدر على أن يجري كلماته على اختلافها على نظم محكم متقن مضبوط متسق يتميز مقاله عن غيره لمن عرف السياق ونظم الكلام فلا يترك ذلك وإنما يتكلم كذلك البتة ، ألا ترى القرآن فإنه على نظم وسياق محكم مضبوط لا يشتبه بغيره لمن عرفه وقرأه وواظب عليه ، ولا ريب أن الإمام عليه السلام يقدر أن يجري كلامه كما ذكرنا فلا يشتبه بكلام غيره فلا يضره دس الداسين وافتراء المفترين ، إذ في كلامهم عليهم السلام قرائن صدق على حقيته وفي كلام غيرهم قرائن صدق على بطلانه ، ألا ترى إلى الذين أرادوا أن يأتوا في مقابلة القرآن بسورة كمسيلمة وسجاح فأتوا بشيء يقطع كل من سمع القرآن أنه لا يشبهه ولا ينسبه إليه ، وكذلك أخبارهم عليهم السلام عند من يعرف سياقهم ويطلع على نظم كلامهم وعنده موازين قسط من أخبارهم المحكمة ، وقـد قـالوا عليهم السلام (( إن على كل حق حقيقة ،

____________________

1 البقرة 213

 

 

 

 

 

وعلى كل صواب نور ))1وقالوا أيضا عليهم السلام (( إن نخلة مريم إنما كانت عجوة نزلت من السماء فما نبت من أصلها كان عجوة وما كان من لقاط فهو لون ))2 .

 

       والناس لما لم يطلعوا على سياق كلامهم ونظم مقالهم وطور بيانهم ولم يعرفوا كيفية الوزن وأخذ الـقواعد الكلية من الأخبار المحكمة ورد غيرها إليها ، فوقعوا فيما وقعوا من التحير فاحتاجوا إلى طرح الأخبار واختلاف الأنظار وهم الذين أوقعوا الخلاف فيهم لعلمهم بأنهم في مقام المجادلة بالتي هي أحسن ، فذكروا الشيء الواحد بوجوه كثيرة وأطوار مختلفة غير مؤتلفة ليختلفوا فتسلم رقابهم عن شر الأعادي لكونهم لم يكونوا من أهل ذلك الوادي مثالهم العميان والفيل ، وأما الذي عرف نظام كلامهم وعلم سياق مقالهم فهو على بصيرة من ربه ، فيجري هذه الأخبار المتكثرة المختلفة مجرى الشيء الواحد الظاهر بالأطوار المختلفة كالتراب الجامع بين الإنسان والحيوان والجماد والنبات ، وفي كل ما يقول ويحكم ويجمع ويفرق مستند إلى كتاب محكم تفسيره، أو إلى خبر واضح تأويله أو إلى عقل تعرف العقول السليمة

________________

1 الكافي 1/69 ح 1         

2 الكافي 1/400 ح 6

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عدله { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء }‏1 وهذا معنى قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام كما سبق معناه (( إن المتبعين لقادة الدين )) إلى أن قال       (( ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم ، ويأنسون بما استوحش منه المكذبون وأباه المسرفون وأولئك أتباع العلماء ، صحبوا أهل الدنيا بطاعة الله تبارك وتعالى وأوليائه ، ودانوا بالتقية عن دينهم والخوف من عدوهم ، فأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى ، فعلماؤهم وأتباعهم خرس صمت في دولة الباطل منتظرون لدولة الحق ، وسيحق الله الحق بكلماته ويمحق الباطل ، ها ها طوبى لهم على صبرهم على دينهم حال هدنتهم ، ويا شوقاه إلى رؤيتهم في حال ظهور دولتهم وسيجمعنا الله وإياهم في جنات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ))2 ، وهؤلاء تلقوا هذه الخطبة وأشباهها من الخطب والأخبار بالقبول وعرفوها وبينوها على ما فهموا من كلمات آل الرسول عليهم السلام كما نبين إنشاء الله في خلال الشرح .

 

        وأما الطائفة الأولى : الذين طرحوا هذه الخطبة وشبهها من الأخبار وأسقطوها عن الاعتبار ونسبوها إلى الغلاة والمفوضة وغيرهم من الأشرار  فأخطئوا جدا واستعجلوا كثيرا ، أما دعواهم بأنها من أخبار الآحاد فليس بصحيح لأنها فوق الاستفاضة بل لا يبعد تواترها معنى لكثرة تكررها وورودها في الكتب في مواضع عديدة والأدعية المأثورة سيما في دعاء رجب المروي عن القائم عليه السلام على ما رواه الشيخ في المصباح ، والزيارات سيما الزيارة الرجبية والزيارة الخارجة عن الناحية المقدسة للحجة عجل الله تعالى فرجه (( سلام على آل يس )) وزيارات أمير المؤمنين عليه السلام ، وشيوع أنهم عليهم السلام يد الله وعين الله ولسان الله وأذن الله ، والزيارة الجامعة الكبيرة ، وأحاديث خلق أنوارهم قبل الخلق وأمثالها من الأمور التي لا يشكون ولا يختلفون في صحتها وأنها منهم ، فنشير إلى كل ذلك إنشاء الله على حسب الجهد والسعة والإقبال فيما بعد إنشاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك هذه الخطبة الشريفة بروايـة جابر بن عـبد الله الأنصاري ،

____________________

1 المائدة 54                  2 الكافي 1/335 ح 3

وخطبة الافتخار برواية الأصبغ بن نباتة ، وخطبة البيان وخطبه الأخرى أيضا من هذا القبيل ، وحديث معرفتهم بالنورانية برواية سلمان وأبي ذر رضوان الله عليهما ، وحديث البيان والمعاني برواية جابر بن يزيد الجعفي ، وحديث مقامات المعرفة برواية جابر في كتاب أنيس السمراء للشيخ سليمان الحلي ، وحديث الأكوان الستة برواية المفضل ، وحديث الرتق والفتق بروايته أيضا ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة وربما تزيد على ألف بل ألفين ، وليت شعري أي حكم من الأحكام التي يثبتونها عندهم عشرة أحاديث أوعشرين ، فإذا أمكن رد هذه الأخبار أمكن رد غيرها الذي لم يبلغ معشارها وكلها في كتب الشيعة الفرقة المحقة ، وفي ذلك خروج من الدين وكفر بما أتى به سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، وطرح الأخبار الكثيرة لعدم المعرفة والبصيرة ليس من شأن المؤمنين الممتحنين ، ولو سلمنا أنها من أخبار آحاد نقول أن الخبر الواحد إذا طابق العقل الصحيح الصريح وجب القول به والعمل عليه ، وكذلك هذه الأخبار فإن الأدلة العقلية القطعية دالة على مضامينها ومدلولاتها ، بل لا يستقيم التوحيد إلا بالقول بها ، ولعمري إن المنكرين يقرون بها من حيث لا يشعرون كما نذكره إنشاء الله تعالى عند الشرح فوجب اعتبارها وقبولها ، وأيضا إن الخبر الواحد إذا لم يكن له معارض أقوى من الكتاب والسنة وإجماع الفرقة المحقة يجب العمل به لكونه حجة لتقرير المعصوم عليه السلام على ما بينا في سائر رسائلنا بالبراهين العقلية والنقلية وذكرها هنا يؤدي إلى التطويل ومن أراد ذلك فعليه بما كتبنا في جواب من سأل عن الأدلة الأربعة التي يذكرها الأصوليون وبيانها فإن ما فيه كفاية للمستوضح المسترشد وهذه الأخبار كذلك ، ودعوى معارضتها ببعض الأخبار باطلة لصحة الجمع بينها ووجدان الدليل عليه من الأخبار الصحيحة أوما يقوم مقامها ، والقول بأنها من حيث السند ضعيفة فيه أنه ليس كلها كذلك بل فيها أخبار صحيحة الأسانيد باصطلاحهم ، والذين حكموا عليهم بالغلوما ثبت عندنا ذلك وما وجدنا منهم شيئا يدل عليه وليس الحكم بغلوهم إجماعيا حتى يحصل القطع به ، وأخبار الخطابية والشلمغانية وأضرابهم ليست معمولا بها عندنا إلا إذا كانت محفوفة بقرائن الصدق لقولهم عليهم السلام (( إن لنا أوعية من العلم نملأها علما لننقلها إليكم فخذوها وصفوها تجدوها نقية صافية، وإياكم والأوعية فإنها أوعية سوء فنكبوها ))1 .

 

مع أن القميين الذين كان أكثر الجرح والتعديل في الأخبار والرواة عنهم كانوا يحكمون بالغلو بأدنى شيء ، فعلى قولهم فنحن كلنا غلاة عندهم  كما قال الصدوق في الفقيه عن شيخه محمد بن الحسن بن الوليد إن أدنى الغلو إنكار سهو الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، ولا شك أننا ننكر ذلك بل نجعلهم معصومين مطهرين عن كل دنس فتبصر .

 

والقول بأنها تخالف العقول باطل لما ذكرنا وما نذكر إنشاء الله تعالى من دلالة العقول الصحيحة عليها ، نعم تخالف العقول المعوجة ، وليس فيها رفع الإمكان عن مكانه وإنما هي تنزيه القديم والأزل عن شوائب الجهات الإمكانية كما ستعرف إنشاء الله تعالى ، ولا فيها إثبات الربوبية للمخلوق وإنما هي كما قال عز وجل { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ

________________

1 لم نجد نص هذه الرواية بعينها في ما عندنا من المصادر ولكن وجدنا رواية مشابهة في البحار 2/93 ح 26 هذا نصها قال أبو جعفر عليه السلام (( إن لنا أوعية نملأها علما وحكما وليست لها بأهل فما نملأها إلا لتنقل إلى شيعتـنا , فانظروا إلى ما في الأوعية فخذوها ثم صفوها من الكدورة تأخذوها بيضاء نقية صافية , وإياكم والأوعية فإنها وعاء سوء فتنكبوها )) .

 

 

 

 

 

 

 

 

يَعْمَلُونَ }1 ولا تستلزم التفويض المجمع على بطلانه وإنما هي كما قال الله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا }‏2 وقـال تعالى {* قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }‏3 ولا يـنـافي قـوله تعالى { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ }‏4 ، وإنما هي كما قـال سبحانـه { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }‏5 { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي }‏6 ، والخبر إذا خالف الكتاب المجيد لا شك أنه يضرب على الحائط ، إلا أن هذه الخطبة موافقة للكتاب المجيد ومفسرة ومفصلة كما ستعرف إنشاء الله ، فثبت أن هذه الخطبة من مولانا علي أمير المؤمنين عليه السلام على القطع واليقين ، إذ فيها كلمات ومقامات يقصر مقام المخلوقين سواهعليه السلامعن ذلك .

        

       وأما الطائفة الثانية فهم وإن سلموا في ظاهر الأمر حيث أقروا بعجزهم وقصورهم عن إدراكها ، إلا أن دعوى معارضتها بالأخبار وظاهر الكتاب باطلة كما عرفت ، وأما موافقة الجمهور فليست شرطا سيما في مثل هذه الأمور التي معرفتها حظ المؤمنين الممتحنين الذين هم أعز من الكبريت الأحمر ، والعوام ليسوا مخاطبين بأمثال هذه المعارف المطوية في هذه الخطبة الشريفة فيلهى عنهم ليظهر لهم الأمر يـوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين .

 

وأما الطائفة الثالثة فقد أصابوا في القبول والتصديق وأخطئوا في التبيين والتحقيق حيث أولوها على غير مرادهم عليهم السلام ، بل بما يلزم منه المفسدة العظيمة والزندقة الكبيرة ، ألا ترى قول الملا محسن حيث قال عن بعض العارفين ( إذا تجلى الله بذاته لأحد .. إلخ ) فإنه مبني على القول بوحدة الوجود ، ومعنى تجلى الله بذاته لأحد عندهم كشف حجاب الإنية والتعين الفارقة بين القدم والحدوث فإن ذات العبد عندهم هو الوجود الصرف الذي

__________________

1 الأنبياء 26 _ 27               2 الزمر 42             3 السجدة 11

4 فاطر 3                           5 المؤمنون 14          6 المائدة 110

هو ذات الله سبحانه قد تعين بالتعين المخصوص كما قال هو في كلماته المكنونة ( كما أن وجودنا بعينه هو وجوده سبحانه إلا أنه بالنسبة إلينا محدث وبالنسبة إليه قديم ، كذلك صفاتنا من الحياة والقدرة والإرادة وغيرها فإنه بعينه صفاته سبحانه إلا أنها بالنسبة إلينا محدثة وبالنسبة إليه قديمة ، لأنها بالنسبة إلينا صفة لنا ملحقة بنا والحدوث اللازم لنا لازم لوصفنا ، وبالنسبة إليه سبحانه قديمة لأن صفاته لازمة لذاته القديمة ، وإن شئت أن تتعقل ذلك فانظر إلى حياتك وتقييدها بك فإنك لا تجد إلا روحا تختص بك وذلك هو المحدث ومتى رفعت النظر عن اختصاصها بك وذقت من حيث الشهود أن كل شيء في حياته كما أنت فيها وشهدت سريان تلك الحياة في جميع الموجودات علمت أنها بعينها هي الحياة التي قامت بالحي الذي قام به العالم وهي الحياة الإلهية وكذلك سائر الصفات إلا أن الخلائق متفاوتون فيها ..    إلخ ) .

 

       وهذا القول هو كفر بالله العلي العظيم وإثبات الكثرة في ذاته تعالى لاستلزامه الاقتران والانفعال والحركة والتغير وأمثال ذلك مما شرحنا تفصيلها في تفسيرنـا على آية الكرسي ، مع التهافت العظيم الذي في كلامه إذ قوله ( إذا تجلى الله لأحد  بذاته ) يريد ظهوره بذاته على زعمه وذلك الظهور لا يتم إلا إذا انكشفت الحجب بكلها وأعظم الحجب بل حقيقتها هي نفس العبد فلا يظهر المتجلي إلا بكشفها ولا معنى لكشفها إلا عدم النظر إليها بالوجدان ونسيانها وتنزيلها منزلة الفقدان من دون النظر إلى الفقدان والوجدان فهناك يظهر له بذاته على زعمه ، وبوجهه ودليله وآيته عندنا ، فإذن أين الذوات وأين الصفات وأين الأفعال حتى يراها متلاشية في أشعة ذاته لأنه نسي نفسه فلا يراها فضلا عن غيرها لأن النظر إلى الغير بالكثرة فرع النظر إلى نفسه والالتفات إلى المدرك الذي يدرك ويعرف الغير فإذا نسي نفسه فأين يجد غيره وإن لم ينس نفسه فأين يجد ربه بتجليه له بذاته لأنه يرى غيره فلا يمكن أن يرى غيره حين يرى ربه أويرى ربه حين يرى غيره ، والنظر على جهة الاضمحلال دليل رقـة الحجاب وهو دليل عدم تجلي الذات ، تعالى ربي عما يقولون علوا كبيرا، فما صح كلامه على مقتضى مقامه في مرامه .

 

وقوله ( ويرى ذاته الذات الواحدة فيه ) أنه يمتنع عند تجلي الذات وكذا في مقام رقة الحجاب لأنه كلما يقرب يعدم نفسه فيرى نفسه باطلة زائلة مضمحلة فانية بحيث يستحيي أن يقول أنا أويجدها شيئا ليرى ذاته ذاتا واحدة مستولية على كل الذوات ، وصفته واحدة تستولي على كل الصفات فإن وجدان ذاته دليل الفرق وهو هناك عند رقة الحجاب يراه باطلا زائلا لا ينسب إلى نفسه شيئـا ، ولذا قـال عليه السلام (( وأن كل معبـود مما دون عرشك إلى قـرار أرضك السابعة السفلى بـاطل مضمحل ما خلا وجهك ))1فظهر أن في مقام رقة الحجاب فقر محض واحتياج صرف وعدم بحت فانقطع قوله أنا ، كما قال مولانا الحسين عليه السلام (( إلهي حكمك النافذ ومشيتك القاهرة لم يتركا لذي مقال مقالا ولا لذي حال حالا ))2، وأما في مقام كشف الحجاب فلا حس ولا محسوس فلا يجد شيئا ينسب إلى نفسه برؤيته تجلي ربه شيئا ، فأين يرى ذاته ذاتا واحدة والصفة صفتها والفعل فعلها ، وبالجملة فقوله هذا إن كان في مقام رقة الحجاب فباطل لكونه مقام الفقر ، وإن كان في مقام الكشف فكذلك أيضا لأنه مقام عدم الوجدان ، ولا ينبئك مثل خبير ، ومن العجب قوله لاستهلاكه في عين التوحيد ، وكيف يكون مستهلكا في عين التوحيد من يرى نفسه الذات والصفات والفعل والكثرة ويفرق بينها ويجعل الكل واحدا ، ليس هذا في ذلك المقام بل في مقام الجبروت ، لكنه لو فرض نفسه أثرا لوجد الفقر المحض في هذا المقام ، لكنه يعتقد أن ذاته هو الله مع التعين ، ففي مقام المعاني يتخيل له هذا الخيـال الفاسد ، سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .

_______________

1 مصباح المتهجد 220

2 البحار 98/225 ح 3

 

 

ثم الأعجب قوله عليه السلام ( ولما انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة وارتفع التمييز بين القدم والحدوث لزهوق الباطل عند مجيء الحق ) ، إذ بعد الإغماض عما تستلزم هذه الكلمات من الكفر الصريح ، نقول إذا شاهد جمال الذات وارتفع التمييز بين القدم والحدوث على زعمه ، فهل حينئذ يشاهد جمال الأحدية والواحدية ، فإن قلت الواحدية ، قلت هل فيها كثرت الأسماء والصفات أم لا ، فإن قلت لا ، قلت إذاً ما الفرق بين الأحدية والواحدية ولا يسعك تدعي الترادف بينهما ، فإن قلت : بلى ، قلت : إذأ بطلت الأحدية إذ جعلتم رتبة الذات مقام الواحدية وبطل توحيدكم لأن مقام الواحدية مقام الكثرة الذكرية الصلوحية الغيبية وإن لم تكن محسوسة إذ فيها مقام الأسماء المتمايزة والصفات المختلفة , فقوله هذا يتم لو قيل أن مقام الذات مقام الواحدية ولا يقول به عاقل ، فإن قلت الأحدية ، قلت أين هناك ذكر الغير حتى يقول عليه السلام (( أنا آدم الأول ونوح الأول أنا خالق السموات والأرض بأمر ربي )) إذ لو كان الأمر كما يقول كان الحق متكلما بلسانه لاستغراقه في عين التوحيد فحينئذ فما معنى قوله عليه السلام (( أنا خالق السموات والأرض بأمر ربي )) ، إذ ليس هذا كلام العبد من حيث هو عبد وإنما لسانه على زعمه كالشجرة لموسى ، والرب لا يقول أنا خالق السموات والأرض بإذن ربي إذ ليس له رب يؤوب إليه سبحانه وتعالى ، ولا يمكن التوجيه لهذا الكلام بعد ما قال استهلاكه في عين التوحيد ، ويرى ذاته الذات الواحدة وصفته صفتها وفعله فعلها ، وأيضا لو كان الأمر كما يقول فلم لم يقل ما قاله علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه أفضل منه وأكمل ، وكان يحصل له يحصل ما له عليه السلام من الاستهلاك في عين التوحيد بل ربما كان أكثر وكذلك الأئمة المعصومون عليهم السلام ما تكلموا بذلك مع ما هم عليه من عين الاضمحلال في عين التوحيد حتى قالوا عليهم السلام (( لنا مع الله حالات هو فيها نحن، ونحن فيها هو، وهو هو ونحن نحن )) ، وكذلك أحد من شيعتهم المخلصين كسلمان الذي بلغ في المعرفة والتوحيد ما بلغ ولم يسمع منه مثل هذه الكلمات ، نعم قد سمع ذلك من الصوفية وأتباعهم من الملاحدة مثل قول الحلاج ( أنا الحق ) ، وقول أبي يزيد البسطامي ( سبحاني سبحاني ما أعظم شأني ) و ( ليس في جبتي سوى الله ) وقول مميت الدين ( أنا الله بلا أنا، سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ) وقول الآخر :

           أنـا ذلك القدوس في قد        س الـعمـاء محـجـب

    أنا قطب دائرة الـرحى         أنـا العلي المستـوعـب     

    أنـا ذلك الفرد الـذي        فيـه الكمال الأعـجـب 

 

إلى أن قال : أنا غافر والمذنب .

 

انظر كيف خلطوا كلام هؤلاء الكفرة الفجرة  ومع ذلك يدعون أنهم من شيعتهم ومحبيهم، حاشا وكلا { وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ }1  .

 

وإذ قد عرفت هذه المقدمة عرفت أن هذه الخطبة الشريفة وما في معناها من الأخبار كلها صحيحة واردة عنهمعليهم السلام، وبيانها لما كانت مشتملة على أسرار وعجائب وغرائب لا يجوز بل لا يمكن إلا من تفسيرهم عليهم السلام وإرشادهم وتسديدهم وتأييدهم عليهم السلام فإن لهم مع كل ولي أذنا سامعة .

ثم اعلم أن الأدلة ثلاثة كما قال تعالى { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }2 فدليل المجادلة للعوام وأهل الظاهر فإنه لا يوصل إلا إلى الصور والقشور والظواهر ، وهو دليل إلزامي إقناعي مسكت مفحم ولا يوصل إلى البصيرة التامة والمعرفة الكاملة وهو كما ذكر أهل المنطق وأهل الأصول عن بيان الحجة والقول الشارح وكيفية الاستدلالات اللفظية ومواقع جريان الأصول الأربعة من الاستصحاب والظاهر والقاعدة والدليل .

____________________

1 التوبة 56                     2 النحل 125

ودليل الموعظة الحسنة للخواص ولأهل الطريقة لأنه يوصل إلى مرتبة اليقين الذي لا شك فيه وصاحبه أبدا على برد اليقين من غير اضطراب واغتشاش ، وإن لم يوصل إلى المعرفة الكاملة والبصيرة التامة .

 

ودليل الحكمة لأهل الحقيقة وأهل الأسرار ، السالكين بل الواصلين إلى عالم الأنوار لأنه يوصل إلى المشاهدة والمعاينة والبصيرة التامة والمعرفة الكاملة ، وأنت تعلم أن المدلول نتيجة للدليل ، فإذا كان سرّيّا باطنيا فدليله أيضا كذلك لأنه المنبئ عن دليله فلا يمكن الاستدلال عليه إلا بدليل باطني غيابي شهودي ومن دونه لا يزداد السائر إلا بعدا وهو قـولهم عليهم السلام (( وسر لا يفيده إلا سر )) ، فمن حاول معرفة البواطن والأسرار بدليل المجادلة فقد أخطأ الطريق ، ولما كانت هذه الخطبة من أسرار باطن باطن القرآن وهوقد خفي عن أهل هذا الزمان لصعوبة مسلكه ودقة مأخذه وغموض دليله ، فلو كان يعرف بدليل المجادلة لما جهله أحد ، فنحن إنشاء الله نتكلم في هذه الخطبة الشريفة بذلك الدليل ونشاهدها بعين الفؤاد ، فمن ورد موردنا وأكل زادنا يبلغ مرادنا ، ومن لم يفرق بين إدراك العقل والفؤاد ولم يحصل لقلمه مداد ففرضه التسليم لعـل الله يفتح له الباب ويلهمه الصواب ، قال الشاعر :

    فإن كنت ذا فهم تشاهد ما قلنا         وإن لم يكن فهم فتأخذه عنـا

    فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمـد          عليه وكن في الحال كما كنـا

 

       ونحن نذكر الخطبة برواية الشيخ رجب الحافظ البرسي في مشارق الأنوار .

 

       قال رضوان الله عليه ( خطبـة لعلي عليه السلام يقال لها التطنجية ظاهرها أنيق وباطنها عميق فليحذر قارؤها من سوء ظنـه ، فإن فيها من تنزيه الخالق ما لا يطيقه أحد من الخلائق ، خطبها عليه السلام بين الكوفة والمدينة )1 .

_________________

1 مشارق أنوار اليقين 166

       أقول : إنما يقال لها التطنجية لاشتمالها على أكوار الوجود وأدواره منحصرة في الكرتين والدائرتين المتعاكستي السيرين المتحاذيتي السطحين والمتقابلتي الميلين ، في حال اجتماعهما مفترقتان وفي افتراقهما مجتمعتان ، وهما التطنجان أي الخليجان المتشعبان من البحر المحيط ، وذلك البحر هو الماء الذي خلق الله منه بشرا فجعله نسبا وصهرا ، فجرى خليجان أحدهما من باطنه وهو الماء العذب الفرات السائغ شرابه ومنه انشعبت أربعة أنهار ، فالنهر الذي من الماء من ميم بسم الله الـرحمن الرحيم ، والذي من العسل المصفى من هائها ، والذي من اللبن الذي لم يتغير طعمه من ميم الرحمن ، والذي من الخمر من ميم الرحيم ، وثانيهما من ظاهره وهو الماء المالح الأجاج ومنه انشعبت أربعة أنهار ، عين الكبريت ، وعين أبرهوت ، وعين أفريقية ، وجمة ماسيدان ، وهو الماء الذي نزله الله سبحانه من القرآن فجعل منه خليجين أحدهما شفاء ورحمة للمؤمنين ، وثانيهما عذاب ونقمة للكافرين ، قال الله تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }1  .

 

       ولما كانت هذه الخطبة الشريفة مشتملة على بيان دوران الكاف المستديرة على نفسها السارية بأسرها وكينونتها في هذين الخليجين الذين هما التطنجان سميت بهما ، فقيل للاستعمال التطنجية تخفيفا أوتغليبا لجهة النور لسر نسوا الله فنسيهم وسيأتي زيادة شرح وبيان في محله لهذا إنشاء الله .

 

قوله قدس سره ( ظاهرها أنيق ) لاشتمالها على أسلوب غريب وترتيب عجيب يدهش العارف الناظر بحسن التأدية قائلا { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }‏2 لأن الإمام عليه السلام سر الله المكنون وأمره بين الكاف        والنون ، ولما كان في غاية الاعتدال والاستقامة ظهرت الخطبة حاكية لها في دار الخلد ودار المقامة إذ الأثر على مثال ظهور مؤثره والفرع على هيكل تجلي أصله ، وباطنها عميق جريا لحكاية الأثر لقوله عليه السلام (( ظاهري

___________________

1 الإسراء 82                    2 الأنعام 124

ولاية وإمامة ، وباطني غيب لا يدرك )) ، وظاهرها شرح ظاهر الصنع      والصناعة ، وباطنها ذكر باطن الصنع والصناعة ، وظاهرها ذكر ظاهر الأكوار ، وباطنها شرح حقيقة الأدوار ، وظاهرها ظهور الكور في الدور والدور في الكور والحركات الوضعية الكروية من المستقيمة والمعوجة ، وباطنها حركات الأقطاب وجريان الألباب ، وظاهرها مقام الأسباب ، وباطنها مقام المسببات ، وظاهرها بيان الاتصال ، وباطنها حقيقة الانفصال ، وظاهرها مقام الفصل ، وباطنها رتبة الوصل ، وظاهرها عالم الأسماء والصفات ، وباطنها عالم التوحيد والذات ، وظاهرها مقامات التجلي ، وباطنها علامات المتجلي ، وظاهرها مقامات السر وسر السر ، وباطنها مراتب السر المستسر بالسر والسر المقنع بالسر ، وظاهرها مقامات الواحدية ، وباطنها مظاهر الأحدية ، وظاهرها قوابل الدلالة ، وباطنها الكلمة التامة بحروفها وألفها ونقطتها ، وظاهرها إقليم الأسماء ، وباطنها عالم المسمى ، وظاهرها ظهور الفاعل ، وباطنها لب الهوية ، وظاهرها حقيقة الفاعل ، وباطنها العماء المطلق ، إلى غير ذلك من الأحوال والأمور التي أكثرها لم يجر بها قلمي ولم ينطق بها فمي ، وكل المراتب التي يمكن تصورها في عالك الكينونة وعالم البينونة وعالم الصفة وعالم الاسم وعالم التجلي وعالم التقدس وعالم العزة وعالم الحمل في عوالم ألف ألف كل أحوالها مشروحة في هذه الخطبة الشريفة بظاهرها وباطنها وهي كما قال رضوان الله عليه ظاهرها أنيق وباطنها عميق .

 

       قوله عليه السلام قدس سره ( فليحذر قارؤها ) الغير المطلع على أسرارها من ظاهرها وخافيها الغير المتحمل لعلومها الغير الوارد على حوض صاحبها ( من سوء ظنه ) بإمامه وسيده عليه السلام في احتمال ادعائه أمرا عظيما أو كما صنع أيوب عليه السلام حيث شك وبكى وقال هذا أمر عظيم وخطب جسيم ، أو سوء ظنه براويه ليؤول أمره إلى الإنكار الذي هو الكفر فيقول ليس هذا وليس هذا , أوسوء ظنه في إدراكه وفهمه لعدم استقامته وإقامته فيفهم منها ما لا ينبغي ويتوهم الغلو لجهله بالمراد ، أويعتقد ذلك لعدم إدراكه بالفؤاد ، ويصغر عظمة الله قهار العباد ، أو سوء ظنه كما ظنته الملائكة لما تجلى نور صاحبها عليهم في عالم الأنوار فقالـوا هذا هو الإله القديم ، فقال هو وأخوه وزوجته وأبناؤه عليهم السلام لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

       قوله قدس سره ( فإن فيها من تنزيه الخالق ما لا يطيقه أحد من الخلائق ) وهو كما قال وهذا التنزيه في الظاهر وما اشتمل عليه ظاهر الخطبة الشريفة ظاهر ، وأما التنزيه الحقيقي فهو الذي فعل عليه السلام في مطاوي كلماته الشريفة عند قوله عليه السلام (( أنا الأمل والمأمول )) وهذا وأشباهه مما يدل على تنزيه الخالق بما لا تطيقه الخلائق وهو قول الحجة المنتظر عجل الله فرجه (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا  أنت ))1، وهو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام (( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياتـه ووجوده إثباتـه )) ، وقال أيضا عليه السلام (( رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك ، وعجز القلب عن الفهم ، والفهم  الإدراك )) ، وشرح هذا المعنى مولانا الحسين عليه السلام في دعاء عرفة (( إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليها بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار ، حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك عنها مصون السر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها إنك على كل شيء قدير ))2 وهذه الخطبة وأمثالها شرح وبيان لكيفية انتهاء المخلوق إلى مثله ورجوع الوصف من الوصف إلى الوصف ودوام الملك في الملك ، وفيها تنزيه لله سبحانه وتعالى عن الاكتناه والاقتران والاكتساب وتعدد الجهات والاعتبارات وعدم الأسماء والصفات ، وتعظيم لله سبحانه بعموم القدرة وشمول السلطنة وعظم الألوهية ، ويلزم هذا وأشباهه الذي ينكر هذا المعنى المذكور في الخطبة الشريفة ويزعم أن الله سبحانه فاعل بذاته والفاعل يصدق عليه بذاته ولم يعلم المسكين أن الفاعل إذا كان هو ذات الله سبحانه لزم التغير والاقتران ضرورة أن الفاعل مقترن بمفعولـه لا يذكر من حيث هو فاعل إلا والمفعول معه وهو مقام الواحديـة

___________________

1 البحار 98/393 ح 1                  2 البحار 98/226 ح 3

ومقام الكثرة الأسمائية ، فإذا صح الاقتران صح الانفعال ، وإذا صح الانفعال صح التركيب ، وإذا صح التركيب صح الافتقار ، وإذا صح الافتقار صح الحدوث ، وإذا صح الحدوث صح له محدث ، فننقل الكلام فيه فإن أثبت له الفاعلية والعلية فيجب أن تثبت له هذه الأمور ، وإذا نزهت الذات الحق سبحانه وتعالى عن الكثرة الأسمائية والصفاتية فلا بد أن تنسبها كلها إلى الفعل ، والفعل لا يتقوم إلا بالمتعلق والمحل ، فانتهت الأمور كلها مما فيه اقتران وارتباط وإضافة ومساوقة وتجاور وتعاقب وامتزاج وحركة وسكون وغير ذلك كلها إلى الفعل من حيث ظهوره بالمحل الذي هو الفاعل المشتق من الفعل فهناك يتم لك التنزيه الصرف الغير المشوب بشيء من التشبيه ويصفو لك التصديق بقوله عز وجل { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }‏1، ومعنى الحديث الذي أخبرني به شيخي وثقتي ومعتمدي جعلني الله فداه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جواب اليهودي إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم ما معناه (( فإن الله عز وجل أوحى إلي أن فضلك على الأنبياء كفضلي وأنا رب العزة على كل الخلق ))2، انظر في تصريح ما لوح بقوله وأنا رب العزة ، ويأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى .

 

       والظاهرية أرادوا بإنكار هذه الخطبة والأخبار التي في معناها تنزيه الخالق ولكنهم وقعوا في التشبيه والتشريك من حيث لا يشعرون ، وإنما قـال بما لا تطيقه الخلائق نظرا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم السلام لأمير المؤمنين عليـه السلام (( يـا علي ما عرف الله إلا أنـا وأنت ))1فكان وصفهما فوق وصف الواصفين ، وتنزيههما فوق طاقة

___________________

1 الصافات 180

2 هذه الرواية كما ترى أورده المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه بالمعنى ونحن نوردها بالنص تيمنا وزيادة في الفائدة قال صلى الله عليه وآله وسلم (( قال ربي يا محمد إن فضلك على جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين كفضلي وأنا رب العزة على سائر الخلق أجمعين )) البحار 9/309 ح 10

المخلوقين ، لأنه سبحانه استخلصهما في القدم على سائر الأمم وأقامهما مقامه في سائر عوالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا يحويه خواطر الأفكار فافهم .

 

       قوله ( خطبها بين المدينة والكوفة ) ، هذا الذي دعاه إلي بيان الطتنجين وذكر ملتقى البحرين ومزج العالمين لانطباق الظاهر مع الباطن والصورة مع الحقيقة ، فإن المدينة منتسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها أول أرض آمنت بالله وبولاية ولاة الأمر عليهم السلام بعد أرض مكة ولذا شرفها الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أول من آمن بربه وأول من قال بلى حين قال ألست بربكم ، والكوفة منتسبة إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لأنها أول أرض آمنت بالله وأذعنت بالولاية لولاة الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أرض المدينة فشرفها الله سبحانه بعلي عليه السلام ، فجرى لأرض الكوفة ما جرى لصاحبها المتمكن فيها من حكم الطتنجين ، وجرى عليها حكم زحل الذي هو كوكب أمير المؤمنين عليه السلام ، ألا ترى إلى الذم الذي ورد عن أهل العصمة عليهم السلام لهم وما قال فيهم أمير المؤمنين عليه السلام حتى

_________________

1 تأويل الآيات 145

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال فيهم عليه السلام (( اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ))1وخاطبهم مولانا علي بن الحسين عليـه السلام (( يا أهل الكوفة ، ويا أهل الغدر والحيلة )) ويكفيهم ذما وخسرانا ما فعلوا بالحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة ، وترى ما في أرض الكوفة من غور مياهها ويبس أنهارها وعدم نمو أشجارها وملوحة مائها ، وقد سمعت الممادح الكثيرة التي لها ولأهلها من كونها قطعة من أرض الجنة وإليها تأوي أرواح المؤمنين وهي مختلف الملائكة وقد صلى في مسجدها ألف نبي وألف وصي ، وأن القائم عليه السلام إذا خرج يكون محل حكمه وقضائه مسجد الكوفة وبيت ماله مسجد السهلة وخلوته النجف الأشرف على ساكنها آلاف التحية والشرف ، وفي آخر الرجعات تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما ورائها إلى ما شاء الله ، وأمثال ذلك من الفضائل الجمة والمناقب الكثيرة فجرى فيها بالتبع تأويل قوله تعالى { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }2 وقـولـه تعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }3 ، وهما الطتنجان ولما كان ينبوعهما واحد ومجمعهما هو البحر المحيط ، وكانت المدينـة مظهر لذلك السطوع وحاملا لذلك الينبوع وجرى فيها ذلك بحكم المجاورة والمنـاسبـة

_________________

1 البحار 42/195 ح 13

2 الحديد 13

3 المائدة 54

 

 

 

 

 

 

 

اقتضى المقام أن يكون بيان هذه المقامات والأحكام بين المدينة والكوفة ، لأنهم يضعون الأشياء في مواضعها ويجرون الأمور في أوقاتها الصالحة لها ، لأنهم عليهم السلام مظاهر الرحمانية التي استوى بها { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }1 فأعطى كل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه .

__________________

1 طه 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام

الحَمْدُ للهِ الذي فَتَقَ الأَجْواءَ وَخَرَقَ الهَواءَ

وعَلَّقَ الأَرْجاءَ وأَضاءَ الضِّياءَ وأَحْيى المَوْتى وأَماتَ الأَحْياءَ

 

       أقول : مادة الحمد بيان الشكل المربع وصورته شرح شكل       المثلث ، فعند الجمع هو السبع المثاني والقرآن العظيم ، فاستنطق منه اليد قال الله تعالى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ } أهل العرب أول المنكرين لنبوة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الذر الأول ، أي أوله في القابلية الأولى ، أي الثانية الظلية ، ومن تبعه من الأولين والآخرين إلى ما لانهاية له في التشريع والتكوين ، وإن كان بعد امتياز الغث والسمين فإن رحمة الله لا تتناهى فكذا غضبه لعدم تخلف الظل عن الأصل والظلمة عن النور فافهم ، { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } توهموا ذلك حسب دعواهم المجتثة عند ملاحظة إنياتهم الملعونة المشركة وإلا فلا استقلال ولا تذوت لهم إلا بها ، { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ }1، { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ

________________

1 النمل 24

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا }1 { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ }‏ ، وطردوا عن الرحمة المكتوبة وعن التجليات الشهودية السرمدية الإلهية بلا حجاب أن قالوا ذلك بلسان أعمالهم عند المباحات وعدم حفظ السر وفي الحجاب الأبيض الأعلى ، أن قالوا ذلك بلسان أعمالهم عند المرجوحات الغير المحرمة وفي الحجاب الزبرجد ، أن قالوا ذلك بما ذكر عند المحرمات مع التألم الحسي الذي هو في الحجاب الأسود أي الأخضر ، كل ذلك مع الدوام الأبدي السرمدي ، أن قالوا ذلك بلسان اعتقادهم وفي الدنيا مع كل ذلك أن قالوا ذلك بلسان مقالهم { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }‏ يد الفضل ويد العدل ، وهما الطتنجان المتشعبان من الحمد من ظاهره وباطنه وموافقته ومخالفته ، { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } في التكوين والتشريع والتأصيل والتفريع ، من أحكام الخزائن الغيبية والقياسات اليقينية والبراهين العلمية والكشوف الحقيقية في الأكوار والأدوار في الليل والنهار ، في عالم الأنوار والأكدار في الإعلان والإسرار ، فدلت الآية الشريفة بالمعرفة العيانية أن باليد ظهر الكون والوجود فامتاز الشاهد والمشهود والموجود والمفقود ، وتبين العابد من   المعبود ، فاليد هي مجمع الكمالات وينبوع الخيرات ، وهي مشتقة من الحمد ومستنطقة عنه فهي واحد في مقام الجمع ، وأربعة في مقام الصفة ، وسبعة في مقام الفرق ، وأربعة عشر في مقام التفصيل ، فلما استنطقت منه اليد استنطق منه الجواد والوهاب ، إذ كل الممكن في أحوالهم وأطوارهم وأوطارهم من فاضل جود الجواد وهبة الوهاب ، إذ لم يتصور للممكن حال إلا وهو طارق باب جوده ورشحة من رشحات عطاياه ومننه التي هي عين حمده ، فكلهم لسان للحمد بل نفس للثناء الذي هو الحمد ، بل مشتق من الجواد والوهاب المشتقين من اليد المشتقة من الحمد ، فلما اشتقت هذه الثلاثة منه ظهر مقام

_________________

1 مريم 88 _ 90

 

 

 

الوجه والجناب ، فإن المشتق منه وجه للمشتق وظهور له قال تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }1، فالحمد هو الوجه للذات التي هي ذو الوجه ، ولذا تقول لله مطلقا سواء كان وجها للتوحيد وآية للتنزيه والتفريد أووجها للتجليات الأسمائية والصفاتية والفعلية ، وظهور الجلال والعظمة والكبرياء بجميع مراتبها وأحوالها وهو قوله عز وجل { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }2 ، فالحمد هو المدار في عالم الأكوار والأدوار وفي الأظلال والأنوار وهو السبع المثاني ، ولقد فسر قوله تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }‏3  بسورة الحمد لكونها سبع آيات تثنى في كل صلاة في التكوينية في أول مقام الفرق { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }4 إلى آخر نهايات مراتب التفصيل والكثرة ، وفي التشريعية كذلك إلى هذه الصورة ذات الأركان والأوضاع ، والحمد في كل صلاة يتكرر لتمام أربعة عشر لكمال ظهور الوجهية في الحروف النورانية ، وهذا التكرار وتفاصيل الآيات في السورة المباركة إنما هي وجوه لفظ الحمد المطابق لمعناه لما بينا أن الكثرة في مقام التفصيل هي وجوه الواحد في مقام الإجمال ، وهذا الذي ذكرنا ملاحظة الصورة مع المادة مجتمعين ، وإن لاحظتهما مكعبتين فيدل على ظهور العرش في الكرسي في المنطقة التي هي أكمل مقامات ظهوره على اثني عشر برجا تسير الشمس فيها فتمد العوالم الكلية والجزئية بالشموس الكلية والجزئية فيكون مكث الشمس في كل برج شهرا كاملا شمسيا في كليات العوالم العلوية والسفلية التي آخرها العالم الجسماني والشمس الجسمية قال الله تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا

___________________

1 القصص 88              2 الصافات 180 _ 182

3 الحجر 87                4 الفاتحة 5

 

 

 

 

عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ }1 على جهة العموم والتفصيل ، والشمس هي النبوة والقمر هو الولايـة ، فالحمد ظاهر بالولايـة المطلقة في مقام التفصيل ، أي تفصيل الشجرة إلى الأصول والأغصان ، ومالك لها بتمليك الله الذي هو أولى بالتملّك بل هو المالك حقيقة قال سبحانه وتعالى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }‏2 في مقام الوحدة ، فصار الحمد هو الكلمة الأولى العليا والمثل الأعلى والنبي والولي من شجرة واحدة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا الشجرة وعلي أصلها

____________________

1 التوبة 36

2 الكهف 44

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وفاطمة فرعها والأئمة أغصانها وعلومهم ثمرها ))1، وهذه الشجرة هي الشجرة الإلهية الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولولم  تمسسه نار ، فظهر في الحمد العدد الكامل بنفسه مصرحا ، وبمثناه كناية وملوحا في الظهورات الغيرية والعدد التام بمثناه مصرحا وبنفسه ضمنا ، وكل الكمالات العددية والحرفية ترجع إليهما ، والظاهر مثال الباطن والصورة على طبق الحقيقة ، قال مولانا الرضا عليه السلام (( قد علم أولوا الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما ههنا ))2، وليس الحمد إلا إظهار صفة الكمال من حيث هو من غير مقابلته بشيء بل نفس الظهور ، فإن المظهر حقيقة إنما هو الظهور إذ لو كان في المظهر جهة غير جهة الظهور كان بتلك الجهة حاجبا لا مظهرا ، فدل على أن الحمد المطلق هو الكمال المطلق وهو في الحقيقة واحد لكونه إما مثال الواحد وأثره الحاكي لما تحقق عندنا أن الأثر على مثال مؤثره من حيث هو هو ، أو نفس الواحد الذي هو تجلي من تجليات             الأحد ، والأمران مرادان إلا أن كل واحد في صقع غير الآخر ، إذ الواحد

___________________

1 لم نجد هذه الرواية بعينها فيما لدينا من المراجع ووجدنا ما يقاربها ففي معاني الأخبار ص 93 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا أصلها ( أي الشجرة ) وأمير المؤمنين فرعها , والأئمة من ولده أغصانها , وشيعتهم ورقها وعلمهم ثمرها )) , وفي بصائر الدرجات ص 95 عن عمر بن يزيد قـال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى ( شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) قال : فقال (( رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جذرها وأمير المؤمنين فرعا والأئمة من ذريته أغصانها وعلم الأئمة ثمرها وشيعتهم المؤمنون ورقها , هل ترى فيها فضلا يا أبا جعفر , قال : فقال : والله إن المؤمن يولد فيورق ورقة وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقته )) .

2 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ولكن وجدنا ما يقرب منها ففي عيون أخبار الرضا 1/175 قال عليه السلام (( قد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على هناك لا يكون إلا بما ههنا )) .

      

استنطاق البسملة وظهر ذلك في الحمد إذ استنطاق الواحد هو الألف القائم المعبر عنها بالهمزة التي لها من العدد واحد ، والواحد لما تكرر وتضاعف صار منه اثنان ، وكذلك الألف القائم لما تنزل أي انبسط صار منه الباء وهي الألف المبسوطة في اصطلاح أهل الجفر ، والباء لما تكررت وانبسطت صارت منه الدال فهي تكرر الباء لفظا ومعنى ، كما أن الباء تكرر الألف       كذلك ، والدال هي أول المربع والمربعات كائنة ما كانت وبالغة ما بلغت إنما تنتهي إليها ، وهي هيئة الولاية الظاهرة بالـتدبير والتأليف والتصوير والتكييف ، ولذا يقال للولي المطلق أبو تراب وهو مقام الدال ، والسر في ذلك أن المقبول لا يوجد عينا إلا بالقابل فوجوده من شرائط وجود المقبول ووجود المقبول من متممات وجود القابـل ، فوجبت بينهما المساوقـة والحواية ، وقد ينسب التقدم إلى المقبول للأصل والذات ، وقد ينسب إلى القابل للظهور والبقاء والاستمرار والتعبير كذلك إنما هو لبيان حكم المساوقة ولذا ورد تقدم خلق السماء على الأرض والعكس وذلك لأن حرارة حركة الفاعل لكونها في مقام الاسم المستقر في ظله فلا يخرج منه إلى غيره لحقتها اليبوسة فكانت نارا ، والأثر الصادر منها لكونها يشابهها وهو الرابطة بين الفاعل والقابل لحقته الرطوبة فكان هواء ، والمنفعل وهو حيثية القبول ووجهه من نفسه لكونه ناظرا إلى الأثر ومرتبطا به لحقته الرطوبة ، ولانفعاله لحقته البرودة فكان ماء ، ومن جهة إمساكه وحفظه لأثر الفاعل لحقته اليبوسة فكان ترابا فبالأربعة ظهر الائتلاف والتثبت وبالرابع يتم لأنه جزء أخير للعلة التامة ، ولذا قلنا أنها هيئة الولاية المطلقة فظهرت الدال في الحمد دون الألف والباء لسر التربيع على ما ذكرنا فإن الألف والباء لهما حكم التثليث فقد ظهر حكمهما في صورة الحمد لا في مادته ، فلما تكررت الدال نطقت الحاء لبيان حملة العرش وأنها من ظهورات الأصل الواحد في مقام التفصيل لا التأثير ، والعرش هو مبدأ البداء وعلل الأشياء وعلم الكيفوفة ، ولما تكررت الحاء خمس مرات ظهرت الميم وهي تمام ميقات موسى عليه السلام ، وإنما كررت خمسا للإشارة إلى المقامات والعلامات الخمسة في كل من هذه المراتب ، وتوسطت الميم لأنها محاط أولأنها شرح الحاء والدال ، وتقدمت الحاء لكونها حياة العالم وبها قد جرى القلم لأن الحياة من الصورة ، وتأخرت الدال لكونها المداد ومنه يستمد القلم ، فالمادة إنما تظهر بعد الصورة وإن كانت مقدمة عليها ، فلوح بما يشار به إليها بما يقتضيان من حكم الظهور والبطون والتقدم والتأخر في الوجود والظهور ، فتم بذلك صوغ الحمد ظاهرا مطابقا لصوغ معناه باطنا ، فالحمد هو الصفة الكمالية المطلقة الكلية التي لها هيمنة على كل الكمالات وهو في أعلى مقامات المعاني إذ كل المعاني تـؤول إليه وتنتهي لديه ، لأن الحمد هو الثناء وهو فعل المثني من حيث هو ، أي أثره الصادر من فعله ، فالثناء ركن المثني فلا يظهر بل لا يوجد كونه مثنيا إلا بالثناء فالمثني إنما هو كذلك بالثناء فإن كان في ظهوره في مقام الثناء فيتحد الثناء والمثني ، وإن كان لا في مقامه فلم يكن مثنيا به بل بغيره وهذا خلف وإن كان في مقامه ، فإن قلت باتحادهما صح وإن قلت باختلافهما فصار المختلف من حيث هو كذلك متفقا وبالعكس ، هذا هو الحكم في كل المشتقات ، فصار معنى المثني هو الظاهر بالثناء وظهور الفاعل بالثناء ليس إلا عين الثناء وإلا لزم أن تكون الذات عين الظهور وهذا خلف , ولا شك أن ظهور الشيء هو صفته كالصورة في المرآة فإنها صفة المقابل وظاهريته لها بها أولك بها ، فأنت نصف المقابل بما تجلى بفعله فيها فإذا نظرت إلى المرآة تشاهد المقابل فيها مع أن تلك الصورة المشهودة إنما هي أثر المقابل بفعله ، فصار ظاهرية المقابل أثرا لفعله وهذا معنى قولنا أن أسماء الفاعلين كلها مشتقة من الفعل ، ومعنى قولهم أنها مشتقة من المصدر ونحن نجتمع معهم في اسم الفاعل في المصداق والواقع لا المراد .

 

       فإذا عرفت أن الثناء فعل المثني وفعله صفته وهو الحمد ولا شك أن كل الثنايا تقصر عن ثناء الحق سبحانه إلا ما أثنى به على نفسه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ))1، فثناء الله على نفسه ليس إلا إيجاد تلك الصفة الساريـة الجارية في كل شيء بجميع أنواع الجريان والسريـان في جميـع أنـواع الأكـوان

___________________

1 شرح النهج 1/59

والأعيان ، في بعضها سريان المؤثر بظهوره بفعله في الأثر ، وفي بعضها سريان الباطن في الظاهر ، وفي بعضها سريان المطلق في المقيد ، وتلك الصفة هي الحمد لله سبحانه وهو اللائق بجناب قدسه ، وكل ثناء رشحة من رشحات ذلك وقطرة من بحر ظهوره ، فلا ثناء يصل إليه ولا حمد يتصل به وذلك الحمد لله سبحانه والولاية المطلقة ظهوره وتفصيله ، أما سمعت قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي حامله ، وأعطيت الحوض وعلي ساقيه ، وأعطيت الجنة والنار وعلي قسيمها ))1 ، هذا معنى الحمد على الظاهر .

 

       ثم تلك الصفة المعنوية الإلهية لوحظ فيها من حيث ظهور الفاعل فزيد فيها الوأو والياء واللتان هما من حروف اللين في الوسط فقيل محمود وحميد والثاني مبالغة للأول ، قال تعالى (( أنا المحمود وأنت محمد شققت لك اسما

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في الفضائل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت ثلاثا وعلي مشاركي فيها , وأعطي علي ثلاثة ولما شاركه فيها , فقيل : يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام , فقال : لواء الحمد لي وعلي حامله , والكوثر لي وعلي ساقيه , والجنة لي وعلي قاسمها , وأما الثلاث التي أعطيت عليا ولما شاركه فيها فإنه أعطي رسول الله صهرا ولماعط مثله , وأعطي زوجته فاطمة الزهراء ولماعط مثلها , وأعطي ولديه الحسن والحسين ولماعط مثلهما )) .  

 

 

 

 

 

 

 

من اسمي ))1وقال تعالى { صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي }2 ، وقال عز وجل { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }3 فافهم السر المعمم والسر المتمم فإنه من الأسرار المقنعة بالسر .

 

       ولوحظ فيها جهة التعلق والارتباط فزادوا في التكرار تارة وفي إظهار الأصل الواحد المكرر أخرى ، فقالوا محمد وأحمد فزادوا الميم الذي هو تكرار الحاء الذي هو تكرار الدال الذي هو تكرار الألف القائم ، وإنما زادوا الميم في الأول وشددوا الميم الثاني لبيان ثمانين ألف سنة التي كان يطوف حول جلال القدرة قبل أن يصل إلى جلال العظمة ، وزادوا الهمزة في أحمد في الأول لبيان الأصل الواحد الذي نشأ منه الحمد وأنه شيء واحد تضاعف وتكرر إلى أن ظهرت منه الأربعة عشر المنازل النورانية واثنا عشر البروج في الأكوار والأدوار الكونية فافهم فكم من خبايا في زوايا لا يمكن البيان خوفا من فرعون وملئهم .

 

       وأما سر الألف واللام وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مع أنها أدخل في المقام وأوفق بمدارك الأفهام فاعلم أن الألف واللام للتعريف والتعريف هو الظهور وعدم الخفاء ولما كان الحق سبحانه أظهر الأشياء بل لا ظهور إلا ظهوره ولا يرى نور إلا نوره ولا يسمع صوت إلا صوته وهو سبحانه وتعالى لا يظهر بذاته وإنما يظهر بأدلته وآياته كان وجهه ودليله وآيته هي المعرفة التي لا تنكير فيها بوجه من الوجوه فإن النكارة جهة الكثرة ولما كانت الألف اللينة هي آية ظهوره ومثال تجلي نوره في عالم الحروف وكانت صورة لا حركة لها ولا تعين أضافوا إليها وقارنوا بها اللام التي هي مظهر الألف لأن اللام هي الثلاثون ليلة لميقات موسى وهي مراتب القابليات والألف هي الواحدة ومقام الواحد الذي هو رتبة المقبول فبالقابل ظهر المقبول فناسب أن ينضم إلى الألف اللينة اللام وخصوها بها دون غيرها ومن هذه الجهة توهم

________________

1 أمالي الصدوق 354          2 إبراهيم 1 _ 2

3 الإسراء 79

بعض أهل الجفر أن اللام والألف حرف مستقل فجعلوا الحروف تسعة وعشرين حرفا وما دروا أن الألف هي سر الحروف ومحقق حقائقها ومذوت ذواتها وهي أبوها وكل الحروف أولادها ، فصارت الألف واللام هما باجتماعهما حرف التعريف يفيد تعريف مدخولهما وهي للحقيقة والأصل ، إنما هو ذلك لا الاستغراق ولا العهد الذهني ولا الخارجي ، وتوهم أن العهد الخارجي إشارة إلى الثناء الذي يثني الله سبحانه نفسه جهل بذلك الثناء ونسبته مع غيره فأدخلت الألف واللام التعريف على الحمد لبيان أنه صفة الله ووصفه ودليله وتجلي تجليه وأقامه مقامه في سائر عوالمه فدل بالألف واللام على أن الظهورات كلها تنتهي إليه لأنه أول من تجلى بالألف واللام بعد الله الرحمن الرحيم ولذا ورد في الكتاب الكريم بعد { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }1 ولاحظ ما سبق ملوحا في المبدأ والمشتق .

 

       ودل بالجملة الاسمية على أنه خلق ساكن لا يدرك بالسكون وأنه ذات الذوات والذات في الذوات للذات ، ودل بالرفع على أنه مثال الأسماء الحسنى والصفات العليا ولذا ذكره بعد البسملة ومثال الفاعل هو الرفع قال عليه السلام (( كل فاعل مرفوع )) ودل بالابتدائية على أنه ينبوع كل خير ومبدأ كل إحسان بل هو العرش للرحمن ولذا صار في كل الاستعمالات والاطلاقات مختصا بالله سبحانه و راجعا إليه تعالى ، فكان عرش الرحمن ومعدن الامتنان ، ودل بالمصدرية على أنه حدث صار عن محدث مؤثر ومعنى رابط فاصل واصل ما تمحض في الاسمية ولا في الأثرية بل أمر بين الأمرين قال تعالى { لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ }‏2 .

 

       والله اسم للظاهر بالألوهية ، وهي الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية من صفات القدس والإضافة والخلق ، وله هيمنة وتسلط على كل الأسماء والصفات والتعلقات ، ولذا يوصف ولا يوصف به قـال تعالى { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى }‏3، وهـو

___________________

1 الفاتحة 1 _ 2           2 النور 35            3 الإسراء 110

مشتق من أله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى ، فمن قال أن الله علم للذات المقدسة القديمة تقدست وتعالت أخطأ الصواب فإن المسمى أمر خارج عن حقيقة الذات المقدسة مع ما في المسمى والاسم من الاقتران والاتصال والانفصال والنسبة الذاتية ولا أقل من الوضعية ، ومن قال أنه كلي جامع أخطأ لأن الكلية والجزئية من صفات المخلوقين والله منزه عن ذلك ، وذلك يستلزم الكثرة النسبية الإضافية الذاتية وذلك يستلزم التركيب ، ومن قال أنه صفة مشتركة في أصل الوضع وانحصر في الفرد أخطأ لأن الاشتراك يستلزم اتحاد الأصقاع وفي ذلك رفع للواجب والإمكان عن مكانهما         ومرتبتهما ، ومن قال أنه اسم للذات الظاهرة بالألوهية فمن قال أنها هي للذات القديمة من حيث اعتبارها مع الألوهية فقد قارنه بشيء فثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أنكر       أزله ، ومن قال أنها هي الظاهرة بالألوهية بنفسها بها والرحمن اسم للذات الظاهرية بالرحمانية نفسها بها وهي آية ودليل وعلامة ومقام للذات           ( القدسية ) القديمة سبحانه وتعالى حال التوجه والالتفات لا فرق بينها وبينها في التعريف والتعرف والمعرفة إلا أنها خلقها وعبدها فتقها ورتقها بيدها بدؤها منها وعودها إليها ، قـال عليـه السلام (( من عرف نفسه فقد عرف ربـه ))1، وقال عليه السلام أيضا (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع عنها وإليها حاكمها ))2 ، فمعنى الأسماء اللفظية هي الأسماء المعنوية وهي الدوال على مسماها المقارن لها المتصف بها ، والمجموع وجه الله الواحد القهار تلتفت إليه سبحانه من غير التفاتك إلى الاسم والمسمى والدال و     المدلول ، كما أني إذا قلت لك يا قائم فإني ما أعني إلا ذاتك من غير ملاحظة القيام ولا جهة اقترانك به ، وإنما جعلته وجها أتوجه به إليك كالصورة في المرآة لملاحظة المقابل الخارج ، فالأسماء في مقام الواحدية وكذا          مسمياتها ، والذات رتبتها الأحدية ، فمن قال هذا المعنى وأراد هذا المعنى وعرف هذا المعنى فقد أصاب فإن الاسم ليس لصرف الذات بالضرورة ، وإنما

____________________

1 الصراط المستقيم 1/156                 2 شرح النهج 13/44

هو لظهوراتها أي ظهورات الفعل .

 

       والظهور على قسمين عام وخاص ، فالظهور العام لعمومه يخص وهو اسم الله ، والمراد بالعموم سريانه في كل الأسماء والصفات بحيث تكون الأسماء كلها وجه من وجوهه وطور من أطواره ، ولما كانت الألوهية هي المعبودية وهي الاستيلاء التام القائم على كل نفس بما كسبت ، كانت الأسماء كلها جهات ظهوراتها فإن المعبود يجب أن يكون خالقا وما يتعلق به وكاملا وما يتعلق به من الكمال والأحوال ومنزها من جميع الشوائب واللواحق المتعلق بالمخلوقين العابدين ، والأسماء والصفات كلها لا تخلو عن هذه  الثلاثة ، فمنها صفات الخلق كالخالق البارئ المصور الرزاق المحيي المميت المهلك الغافر المنعم وأمثالها ، ومنها صفات الكمال التي يعتبر في مفهومها الإضافة وإن لم يتعلق بالخلق من حيث هو كذلك كالعالم والقادر والسميع والبصير والحي وأمثالها ، ومنها صفات القدس وهي صفات التنزيه كالقدوس والسبحان والعزيز وأمثالها ، وكل هذه من ظهورات الألوهية التي هي المعبودية ولذا لا يضاف العبد إلا إلى الله كما في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }1‏  .

 

       وأما الاسم الخاص فقد يكون إضافيا وأنحاء الاضافيات تختلف ، والعام الكلي بعد اسم الله هو الرحمن وهو الجامع للقسمين من الصفات أعني الإضافة والخلق ، فإن الرحمن اسم للذات الظاهرة بالرحمة الواسعة مقام الاستواء على العرش فلا يعتبر فيه إلا الإضافة وليس له مقام التنزيه الصرف وليس من أركانه الأحدية كما في اسم الله قال تعالى{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }2 فالظاهر بالرحمة الواسعة أنزل من الظاهر بالألوهية بمرتبة واحدة ويشتركان في كل الأحوال قال تعالى { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } 3 وتفصيل المقال في هذه الأحوال يطلب في تفسيرنا على آية الكرسي وكتابنا اللوامع الحسينية .

_____________________

1 الفاتحة 5                  2 الإخلاص

3 الإسراء 110

       اعلم أن هنا كلمات وأسرار عجيبة غريبة طويت أكثرها ورمزت بعضها فإن شافهتني ربما تحظى بعض ذلك ، فإن إيراد كل ما يخطر بالبال يؤدي إلى تكثير المقال فإن لبيان هذه الخطبة الشريفة مقامين ، الأول : شرح العبارات والفقرات المذكورات ، وحل العبارات واستخراج المراد من غامض الإشارات ، والثاني : خصوصيات التعبير وجهات التقدير وسر التقديم والتأخير ، وكل واحد خصوصا الثاني يحتاج بيانه إلى تمهيد مقدمات غريبة ليفهم السامع المراد ، ولا يمكن إيراد كل ذلك نعم نشير إنشاء الله إلى المجموع إشارة ليقف الجاهل ويعرف الحق من سبقت له من الله الحسنى .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام : فتق الأجواء

 

       اعلم أن الفتق هو ضد الرتق وهو الحركة بعد السكون والانفصال بعد الاتصال والإظهار بعد الخفاء ، والاشتقاق عند وجود المبدأ وعند الذكر في المبدأ ، والتكون في الأكوان بعد ما كان مستجنا في الإمكان ، والجو هو سماء الاعتدال ومرتبة الوصال ومقام الاتصال وصلوح الانفصال ، وهوالإشارة إلى قوله عز وجل { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }1، وجمع الجو لبيان تعدد الأصقاع وتكثر الأجناس والأنواع وهو قوله عز وجل { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }‏2 والخزائن أعم من أن تكون في السلسلة الطولية وحدها أوالطولية والعرضية معا ، وأعم من أن يكون كون الشيء من حيث هو أوكونه من حيث تجلي مبدؤه فيه ، والتجلي أعم من أن يكون تجلي الوحدانية أوتجلي الوجوه والمبادئ المتوسطة الحاملة ، وتجلي الوحدانية أعم من أن يكون تجلي الأحدية أوتجلي الواحدية ، وتجلي الواحدية أعم من يكون تجلي الهوية أوتجلي الألوهية والرحمانية أوتجلي سائر الأسماء والصفات وجهات التعلقات ، وكون الشيء من حيث هو أعم من أن يكون من حيث نظره إلى وجه مبدئـه أي

_________________

1 الأنبياء 30

2 الحجر 21

 

 

 

 

 

 

 

عمله بمقتضى إجابته لتكليف ربه حيث خاطبه بلسان نفسه { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }1إجابة لسؤاله لما أجاب سؤالهم بأن كلفهم ، أو يكون من حيث نظره إلى نفسه من حيث مخالفة مبدئه من حيث دورانه على خلاف            التوالي ، وللكل أصقاع وأجواء كانت رتقا فجرى الفتق فيها على نظم واحد محكم متقن ، كذلك الله ربنا لا إله إلا هو له الحكم وإليه  ترجعون .

 

       فالجو الأول جو الظهور والكلام في هذا المقام وإن لم يحسن ، إلا أنّا نشير إشارة ما إلى نبذة يسيرة قليلة لتنبيه المستوضح المسترشد ، ومرتوقية هذا الجو ومفتوقيته يتصور على أنحاء منها الظهور المطلق للخلق ، بقول مطلق مما أحاط به اسم العالم الكرة الواحدة المستديرة الدائرة على قطب واحد من غير محور ، وهذا الظهور كان رتقا كما هو الآن في نظر أبناء الزمان من إنكارهم الوسائط ونسبة الكل إلى الله الخالق وهو حق وصواب لكنهم أخطئوا الصواب ، ففتق هذا الرتق بامتياز الظهور في عالم السرور وصقع النور فتشعبت إلى الظهور الجمادي والنباتي والحيواني والجني والملكي والإنساني والنبوي والولوي والظهور الإطلاقي وهذه تسعة أفلاك في عالم الظهور الإلهي بالآيات قال تعالى { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا }2 فإذا تحققت الأفلاك في عالم الظهور فاعلم أن الظهور في كل مقام أيضا كان رتقا ففتق إلى الظهور المطلق الذي ليس هناك إلا ذكر المظاهر والظهور المتوجه إلى التعلق والظهور المتعلق ، فالأول هوالأفلاك والثاني هو العناصر والثالث هو المتولدات .

 

       وأما بيان كيفية تربيع العناصر وتثليث المتولدات في الجو الأول فاعلم أن الظهور المتوجه إلى التعلق على أربعة أقسام ، الأول الظهور المتعلق بمظهر الخلق والإيجاد وهو طبع النار ، والثاني الظهور المتعلق بمظهر الحياة وهو طبع الهواء ، والثالث الظهور المتعلق بمظهر الرزق وهو طبع الماء ، والرابع الظهور المـتعلق بمظهر الموت وهو طبع الأرض ، فلما دارت أفلاك الظهور الصرف

_____________________

1 الأعراف 172                    2 الأنبياء 30

على هذه الظهورات وامتزج بعضها في بعض وحصل التعلق فاختلف بين ما تعلق بالقشر واللب ولب اللب ، فالأول هو الجماد ، والثاني هو النبات ,  والثالث هو الحيوان ، فدارت الأفلاك على العناصر فتولد منها الأسماء والصفات ولا نهاية لهذا الدوران فلا نهاية ولا غاية لهذا التوليد ، وإنما صار كذلك لأن أول مقامات الظهور وهو الواحد كان رتقا ففتق منه الثلاثة بنظره إلى الأحد وإلى الأعيان الثابتة وإلى رتبة مقامه ، وهذه الثلاثة كانت رتقا ففتقت منها التسعة بتجذيرها بالتفاتها إلى مراتب نفسها فدارت تسعة ، وهذه هي الأصول والعلل فلما لوحظ الأحد مع الواحد الذي هو الثلاثة كانت أربعة وهذه هي العناصر فدارت الأفلاك على هذه العناصر فتولدت منها الأسماء الإلهية الفعلية الحقيقية اللاتناهية ، فأول الأفلاك المفتوقة من الظهور المرتوق هو اسم الله وهو الفلك الأعظم الكلي المحيط المسخر لكل الأفلاك الأسمائيـة ، والفلك الثاني هو اسم الرحمن { أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى }1 ، وأما الأفلاك السبعة المستمدة من هذين الفلكين الأعظمين فالسابع منها الذي هو الرابع هو اسم الله البديع فإنه مطرح ظهور الاسمين الأعلين فيستمد من باطن اسم الله ويمد الفلك السابع الذي هو الرب ومن ظاهره فيمد الفلك التاسع الذي هو المبين ، ويستمد من ظهور باطن الرحمن ويمد الفلك السادس الذي هو الباعث أوالعليم ومن ظاهره إلى الفلك الثامن الذي هو المحصي { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }‏2 ويستمد من باطن قران الاسمين من حيث النظر والالتفات ويمد الفلك الخامس الذي هو القاهر ، ومن ظاهر القران والامتزاج يمد الفلك السابع الذي هو المصور .

 

       وأما العناصر فعنصر النار وهو اسم الله القابض ، وعنصر الهواء وهو اسم الله الحي ، وعنصر الماء هو اسم الله المحيي ، وعنصر التراب وهو اسم الله المميت ، وروح هذه الأفلاك ومقوم وجودها هو الاسم الأعظم وهو هو لأنه باطن الله ، وروح هو هو هُـ من غير إشباع ، وظاهر هذه الأسماء الشريفة وجامعها ومقدرها وحاملها ومجليها هو اسم الله العلي وقد قال مولانا الرضا

_________________

1 الإسراء 110                  2 يس 12

عليه السلام (( إن أول الأسماء هو العلي العظيم لأنه أعلى كل شيء ومعناه الله ))1وقد علمت أن معنى الله هو هو ومعنى هو هو هـُ ، فكان هـ قطبا لهو وهو قطبا لله واسم الله قطبا لعلي ، وهو الكرة المحيطة بكل الأسماء وقد قال عز وجل { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}2 وذلك من غير الإشباع وصف بالحكمة { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا }‏3 ، وقال مع الإشباع { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }4 ، فوصف بالعظمة فكان ذكرا للركوع قال تعالى { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }‏5 قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( اجعلوها في ركوعكم ))6 ، كما كان العلي الأعلى في السجود قال تعالى { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى }7 قال صلى الله عليه وآله وسلم (( اجعلوها في سجودكم ))8 ، وفي الدعاء (( وباسمك الأعظم ، وذكرك الأعلى )) .

 

       وعلى هذا يصح أن تقول أن الفلك الأول الأعظم هو اسم العلي ، والفلك الثاني هو العظيم ، لأن الإحاطة والاستدارة الإمدادية لا تكون إلا عند التنزل إلى عالم الظهور ، فلما تنزل هو إلى الرتبة الثانية التي هي مقام الظهور وظهر العلي العظيم حال الاستنطاق فكان علي حال الظهور هو هو

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية المذكورة وإنما وقفنا على ما يقرب منها في المعنى وهي ما رواه في البحار 4/88 ح 26 (( فأول ما اختار الله لنفسه العلي العظيم لأنه أعلى الأسماء كلها فمعناه الله ))

2 الزخرف 4            3 البقرة 169              4 البقرة 255

5 الواقعة 74            6 علل الشرائع 333

7 الأعلى 1             8 البحار 90/135 ح 4

 

 

 

 

حال البطون قال تعالى { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ }1‏ سواء قرأت بالإضافة أورفع الصراط ليكون خبر إن والمعنى في كلا الحالين واحد .

 

       والدليل على أن الأفلاك تعتبر في الأسماء زيادة على ما قدمنا قول سيدنا ومولانا الحسين عليه السلام في دعاء عرفة (( يا من استوى برحمانيته على العرش فصار العرش غيبا في ذاته ( كما صارت العوالم غيبا في عرشه ) محقت الآثار بالآثار ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار ))2 فافهم الإشارة لئلا تضل وتشقى .

 

       ثم إن الظهور في كل مرتبة من هذه المراتب التسعة كان رتقا ففتق سبحانه إياه فتقتين ظهور كلي وظهور جزئي ، والظهور الجزئي كان رتقا ففتقه إلى الظهورات وأطوار التعينات ، والظهور الكل كان رتقا ففتقه إلى قسمين فالقسم الأول منه هو الله أي الظاهر بالألوهية ، والقسم الثاني منه هو الرحمن أي الظاهر بالرحمة الواسعة ، والظهور بالألوهية كان رتقا ففتقه إلى الأحدية والواحدية ، وهنا مقامات للرتق والفتق ينقطع دونها الكلام .

 

       والجو الثاني جو الوجود المطلق كان رتقا ففتقه إلى الحال          والمحل ، والحال هو النقطة الجوهرية الإلهية الثابتة في العالم السرمدي ، كانت رتقا ففتق منه الألف النفس الرحماني الأولى والرياح المثيرة للسحاب على شجر البحر ، وهو كان رتقا ففتق منه الحروف العاليات وهي السحاب المزجى ، ثم اجتمعت الحروف وتراكمت السحب فتحققت الكلمة التامة ، والسحاب المتراكم والمحل كـان رتقـا ففتقه إلى الإمكان الراجح والوجود

__________________

1 الحجر 41

2 الإقبال 350

 

 

 

 

الراجح قـال تعـالى { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَـوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ }1‏، والوجود الراجح كان رتقا ففتقه إلى قسمين أي إلى الإجمال والتفصيل والفضل والنور والرحمة ، والقسم الثاني كان رتقا ففتقه إلى خمسة أشباح وهو أبو الخمس الذي في الدعاء ، والقسم الرابع كان رتقا ففتقه إلى ثمانية أشباح أخر فلما تمت الأشباح الأربعة عشر التي هي قصبة الياقوت وحجاب اللاهوت فاستقرت الكلمة عليها وظهرت فيها فكانت محلا لها ، فلما تمت الكلمة بتمام محلها ظهرت دلالتها وتم السحاب بوجود الأرض الجرز البلد الطيب التي هي من تمام قابلية ظهور آثاره الذي هو الماء فترى الودق يخرج من خلاله ، أوتم السراج الوهاج بتعلق نار الشجرة الإلهية على الزيت الذي يكاد يضيء ولولم  تمسسه نار ظهر النور ، وهذا النور والماء والدلالة  هو .

 

       الجو الثالث وكان رتقا ففتقه الله تعالى إلى سبع طبقات متطابقات بالعلو والسفل ، وكل طبقة كانت رتقا إلى الأفلاك التسعة والفلك الكرسي في كل من السبعة كان رتقا ففتقه إلى الكواكب والبروج والمنازل ففتقه أفلاك تداوير لكل كوكب ، وسائر الأفلاك السبعة كانت رتقا ففتقها إلى الأفلاك الجزئية بين الاثنين والثلاثة والأربعة فتحققت سبعة أجواء ، وكل جو كان رتقا وفتقه إلى تسعة أفلاك ، والجو الجسماني المفتوق إلى الأفلاك الجسمانية آخر الأجواء ، وقد أشار الإمام عليه السلام إلى جميع ما ذكر لمن عرف على ما رواه في مجمع البحرين قال عليه السلام (( كان عرشه على الماء ، والماء على الهواء والهواء لا يحد ولم يكن حينئذ خلق غيرهما ، والماء يومئذ عذب فرات ، فلما أراد أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربت الماء حتى صار موجا ، ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجعله في موضع البيت ، ثم جعله جبلا ثم زبد ، ثم دحى الأرض من تحته ثم مكث الرب تعالى ما شاء الله ، فلما أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتى أزبدت فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار فخلق منـه السمـاء وجعل فيها البروج

____________________

1 النور 35

والنجوم ومنازل الشمس والقمر وأجراها في الفلك ، وكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر وكانت الأرض غبراء على لون الماء العذب وكانتا مرتـوقتين ليس لهما أبواب ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات وذلك قوله تعـالى { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ))1ويأتي لهذا الحديث الشريف بيان إنشاء الله فيما بعد عند بيان خلق السموات والأرض . 

 

       وقوله عليه السلام (( فتق الأجواء )) براعة استهلال لما يريد أن يبين في هذه الخطبة الشريفة ، وقد قال علي عليه السلام على ما رواه في مجمع البحرين (( إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الفاتق الراتق ))1ويؤيده قوله عليه السلام في خطبة يوم الغدير في وصف محمد صلى الله عليه وآله وسلم (( أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ))2 ولذا اشتق اسمه من اسمه وهو المحمود وحبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأعلى ووليه علي عليه السلام .

 

       وقد قال مولانا الصادق عليه السلام على ما رواه المفضل (( إن القديم هو هو بلا كيفية ، ولما شاء أن يظهر حجاب ذاته اخترع نورا من نوره لا بائن عنه مفتوقا ولا ملتصق به مرتوقا ، فأقامه في نفسه مخترعا له شعاع يتوقد فقال له اعرفني في ذاتك ولا تكن لي حاجبا ، فنطق النور بالتقديس وقال : أنت لا شبيه لك أقمتني من مشيئتك بقدرتك ظاهري من نورك وباطني نفسك )) ، قوله عليه السلام (( حجاب ذاته )) هذا الحجاب مخلوق وإلا لم يكن حجابا قال عليه السلام في الزيارة (( وعلى أوصيائه الحجب ))3 ، وكذا الذات المحتجبة بالحجاب فإنها مرتبطة ، والارتباط حركة والحركة افتقار مع إضافة الذات إلى الضمير فإنها تفيد التمليك والاختصاص فهي ذات شريفة

_________________

1 مجمع البحرين 5/224

2 الإقبال 461

3 الإقبال 631

خلقها الله سبحانـه ونسبها إلى نفسه كقولـه تعالى { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }1 ، والكعبة بيتي .

 

       وقوله عليه السلام  (( اخترع نورا من نوره )) يعني من تلك الذات المخلوقة وقد يعبر عنها بالحق المخلوق به .

 

       وقوله عليه السلام (( لا بائن عنه .. إلخ )) يريد معنى قول جده أمير المؤمنين عليه السلام (( ليس بينه وبين خلقه بينونة عزلة بل بينونة صفة )) .

 

وقوله عليه السلام (( فـأقامه في نفسه )) هو من معنى قولـه عليه السـلام (( أقامه مقامه في سائر عالمه )) .

 

       وقوله عليه السلام (( وباطني نفسك )) يريد بها النفس المخلوقة التي معرفتها عين معرفة الرب ولا فرق بينه وبينها إلا أنه عبده وخلقه قال عليه السلام (( من عرف نفسه فقد عرف ربه )) أو النفس التي لا يعلم ما فيها عيسى على نبينا وآله وعليه السلام وكما حكى الله سبحانه عنه { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }2 .

 

       فإذا عرفت هذه الإشارات عرفت أن ما  نذكره فيما بعد في هذه الخطبة الشريفة شرح وبيان لفاتق الأجواء وفالق الإصباح ، وقد قلت لك سابقا أن الفاتق ليس صرف الذات لارتباطه إلى الفتق فلا يكون إلا في رتبة الفتق بتنزله إليه بظهوره ، والمتنزل ليس هو الذات وإنما هو الظهور المرتوق المفتوق بالأسماء والصفات وأنحاء التجليات .

______________________

1 الحجر 29

2 المائدة 116

 

 

 

قوله عليه السلام  وخرق الهواء 

 

       يريد بيان توليد المتولدات وشرح استخراج النبات بالمياه النازلة من السحاب ، فخرق سبحانه الهواء بتصعيد الأبخرة والأدخنة بشمس اسم الله القابض ، ثم تقطيع هذه الأبخرة وتجزئتها في الهواء باسم الله الباسط والباعث ، ثم مزج كل قسم بربعه من اليبوسة الهبائية باسم الله الرحمن والحي ، ثم تعفين هذه الأجزاء لتميل اليبوسة إلى السيلان والرطوبة إلى الانجماد والانعقاد باسم الله الرب المؤلف ، ثم الانعقاد التام ثم التأليف والتراكم في الهواء ثم إخراج الماء من خلاله وإحياء الأشياء المتولدة كلها به ، وهذه الفقرة متممة للفقرة الأولى المشار بها إلى الآية وهي قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، وإشارة إلى الآية التي بعدها وهي قوله تعالى  { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }1من المتولدات من الجماد إلى أن يصير معدنا ، ومنه إلى أن يصير نباتا ، ومنه إلى أن يصيرا حيوانا ، ومنه إلى أن يصير إنسانا ، وحياة هذه المراتب كلها بالماء الذي هو المتقاطر من السحاب الحاصل من خرق الهواء في كل عالم بحسبه ، في عالم الأنوار والأسرار والأرواح والأظلة والأشباح والأجسام في الأفلاك والعناصر والمتولدات ، إلا أن التصعيد والتعفين في كل عالم بحسبه ، ففي الأنوار نورانيان ، وفي الأسرار سريان ، وفي الأرواح روحانيان وهكذا .

 

       والهواء هو الرابط والفاصل بين الفاعل والقابل ، فهو السائر والمتحرك إليهما وهو الباب وحامل الخطاب يتلقى من الفاعل الفيض والتأثير ويحمل إلى القابل بعد تمكينه القابلية بالطبخ والنضج والتعفين ولذا كان طبعه الحار والرطب ، أما حرارته فلارتباطه بالفاعل الذي ليس هوإلا الظهور والحركة الكونية أي التكوينية الإمدادية والكلمة العليا الصدورية والحركة لا تقتضي إلا الحرارة ، وأما يبوسة الفاعل من جهة أنه الاسم الذي استقر في ظله فلا يخرج منه إلى غيره ، والباب والفأصل البرزخ من جهة مجاورته للجهة العليا اقتضى

___________________

1 الأنبياء 30

الحرارة ، ومن جهة ميله إلى القابل وارتباطه به مترجما لوحي الفاعل للقابل اقتضى الرطوبة ، فوقع في الصقع مجاورا لصقع الفاعل فلما كان دائم الاستمداد للمجاورة كان طبع الحياة واسم الله المدبر له هو الحي فلا يتحقق موجود مكوَّن بفتح الواو إلا بتوسطه سواء كان في الشرع الوجودي أو الوجود التشريعي وسواء كان في الصفات وصفات الصفات وصفات صفات الصفات وهكذا ، أو في الألفاظ والحروف ، أو في الإعراب والحركات ، فكان به قوام كل متحرك وساكن وظاعن وقاطن وهو معنى قول الإمام عليه السلام (( إن الله لا يخلي الأرض من حجة وإلا لساخت بأهلها ))1وذلك لعدم حامل الفيض وباب الخطاب وطبع الحياة .

 

       ولما كان الباب والحجاب هو النسبة المستدعية للطرفين ، طرف القابل وطرف الفاعل كان لا يظهر إلا بظهور القابل المتقوم المتأصل بوجوده ، ولما كان القابل ليس شيئا إلا بفعل الفاعل وتأثيره فلا يتحقق إلا بمقابلته واتصاله بفعل الفاعل ، وكان فعل الفاعل لا ينزل إلى رتبة القابل لكمال المباينة والمنافاة (( وطبيعتك من خلاف كينونتي ))2وجب وجود القابل بذاته للمقابلة ونزول الفاعل بأثره للمواصلة ، ومجمع الوصال وباب الاتصال ومحل اللقاء هو الهواء ، فيخرق الهواء بتصعيد لطائف القابلية إليه ونضجه إياها وتعديله لها بإيصال تأثير أثر الفاعل إليها وتمكينه إياها به القبول حتى يتم الشيء ويظهر مشروح العلل مبين الأسباب ، ولذا لا تجد شيئا من الأشياء في كل أحواله وأطواره وأوطاره يتم ويكمل إلا إذا نضج في الحرارة والرطوبة ويعفن في حمام مارية ، وكلما كان فيه الحرارة والرطوبة المعتدلتان الغير المشوبتين بالأعراض والغرائب أقوى كان قوتـه ونشاطـه وبقاؤه ودوامـه

____________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يشابهها من الروايات منها ما رواه في البصائر ص 488 (( لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت )) وفي ص 489 (( لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها )) .

2 علل الشرائع 10

 

وحركته أقوى وأشد ، ولذا حكموا على أن الذهب حار رطب لطول بقائه وعدم اضمحلاله وفنائه .

 

       وخرق الهواء وإن كان في الهواء الأول الذي كان قبل خلق الخلق ، وكان أول المخلوقات والموجودات كما دلت عليه الأخبار الكثيرة كان خرقه عبارة عن أمرين وكلاهما مرادان .

 

       الأول : خرق ذلك الأمر الواحد بذكر الكثرات والنسب والإضفافت وصلوح القرانات ، أي تهيؤه لانشعابه بالشعب الكثيرة وهذا أول الخرق في هذا المقام يراه أهل الظاهر والإحساس شيئـا واحدا غير منخرق بل هو مرتوق ، ويراه أهل الحقيقة العارفون منخرقا خرقا فعليا واقعيا لا يصلح لجريان أحكام الوحدة المحضة أصلا كما يتوهمه بعض الناس .

 

       والثاني : خرقه بلحوق المشخصات وإضافة المعينات وتمايزه بالجهات والاعتبارات ، وهذا الخرق على قسمين كلي وجزئي ، وكل منهما حقيقي وإضافي في تلك الرتبة ، وإن كان المراد بالهواء هو ما قال الإمام عليه السلام لما سئـل عن الله أيـن كان قبل خلق السموات والأرض قال عليه السلام (( كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ))1، والعماء هو السحاب الرقيق ، وخرق ذلك الهواء عبارة عن إيجاد ذلك السحاب فيه به منه عنه ، فإن الهواء في الحديث عبارة عن الإمكان الراجح أول التعين عالم فأحببت أن أعرف أول مقام الظهور وليس بعده إلا المجهول المطلق ، وأين سؤال عن ظهور الله سبحانه كما هو الآن في السموات والأرض ، أي هل كان لله سبحانه ظهور في صقع من الأصقاع قبل خلق السموات والأرض أم لم يظهر إلا بعـد خلق السموات والأرض أوحين خلقهما وهما الخلـق الذي عنـاه

_________________

1 عوالي اللآلي 1/54

 

 

سبحانه بقوله الحق في الحديث القدسي (( فخلقت الخلق لكي أعرف ))1، فأجاب عليه السلام بأن هذا الخلق الذي يصير سببا ودليلا للمعرفة لا ينحصر في خلق السموات والأرض بل ذلك الخلق هو بحر الإمكان الذي هذه الأمور الموجودة من السماء والأرض قطرة من ذلك بل رشحة من رشحات قطرة من قطراته ، وهو بحر لا يساحل وطمطام لا يحاول ، بحر أسود مظلم كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان يعلو مرة ويسفل أخرى ، في قعره شمس تضيء لا يطلع عليها إلا الواحد الفرد ، فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في ملكه ونازعه في سلطانه وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، لكونه الظهور المحض الذي تقصر كل الظهورات عنده وتنتهي المظاهر لديه ، فهو يسبق المدارك والمشاعر لأنه أقرب إليها من أنفسها قربا لا يتناهى ، فخفي لشدة ظهوره واستتر لعظم نوره، فلا يطلع عليها إلا الواحد الفرد ، فهو أول خرق وقع في الهواء فقبض من رطوبة الرحمة المتصاعدة من أرض الوجود المطلق الإمكان الراجح بنفس تلك الرحمة ، فأقامها في الهواء الذي هو نفس تلك الأجزاء فخلطها بالهباء المنبث في ذلك الهواء الذي هو عين           الهواء ، فعفنها وقدرهما فيه به منه فتحقق العماء فيما لا نهاية له في الأكوار والأدوار فحكى مثال ظهور الله الواحد القهار ، فكان هو المثل الأعلى والآية  العظمى ، أو هيكل التوحيد ومثال التنزيه والتفريد ، فالسحاب الذي هو العماء هو سحاب المعرفة أولا والماء النازل منه ماء المحبة والمعرفة يحكي وجه ذلك السحاب ، فجرى في أرض القابليات فسالت أودية بقدرها من المعرفة بتقدير الكم والكيف والجهة والوقت والمكان والوضع ، وذلك الماء النازل من السحاب المنخرق في الهواء وإن كان ليس فيه تكييف وتحديد إلا أنه من عالم

__________________

1 البحار 87/99

 

 

 

 

اللانهاية ووصف اللاكيفية وعين معرفة الحق (( اعرفوا الله بالله ))1(( يا من دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته ))2 ، إلا أنه يظهر على حسب ذلك التقدير من غير التفات إليه كالصورة الظاهرة في المرآة الحاكية للمقابل على ما في المرآة وما لمرآة عليه مع قطع النظر عن خصوصية المرآة وتقاديرها ، فالخرق الواقع في هذا الهواء على ضربين الأول خرق ينفتح وينفجر منه ماء المعرفة وشراب المحبة في مقام بينونة الصفة في عالم الإمكان وأشار إلى هذا المعنى في قوله العزيز { كهيعص }3 فالكاف هو الكاف المستديرة على نفسها والكلمة التي انزجر لها العمق الأكبر وقول كن هو مظهر الهوية والشمس المضيئة والعماء الذي فوقه هواء وتحته هواء في الأزلية الثانية ، فانفجر من هذه العين ماءان وتشعب منه طتنجان الماء الأول والطتنج الأول مقام الظهور الإلهي والبيان الحالي والتجلي الوصفي فـأشار إليـه بالهاء التي تكون بعد

____________________

1 التوحيد 285

2 دعاء الصباح المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام

3 مريم 1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإشباع هو قال تعالى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }1 وإنما لم يأت بالواو إشارة إلى أن مقام الظهور المطلق لا يلتفت إلى الإشباع وهو في عالم النسبة وهذا في مقام قطع النسبة ولذا يقال لسورة التوحيد نسبة الرب ، واختار الهاء لأنها إشارة إلى تثبيت الثابت وأن التوحيد ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره ، ظاهره موصوف لا يرى وباطنه موجود لا يخفى ، لأن صورة ظاهر الهاء عين صورة باطنها ، ولأن ذلك التجلي الذي هو خرق الهواء إنما ظهر في خمس مقامات وهي المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه وبينها إلا أنها عباده وخلقه ، ولتوضيح هذا الشان وتشييد هذا البنيان قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام (( إن قلت هو هو فالهاء والواو كلامه صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له , وإن قلت الهواء صفته فالهواء من صنعه رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله ، الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته )) .

 

       ولعمري إن الهواء هو هو وإنما زيد فيه الألف والهمزة اللتان هما من أغيب الغيوب لمبيالغة الغيبة الذاتية والشهود الفعلي المشار إليه بالوأو التي هي من حروف الشهادة ، فالهواء أثبت في الغيبة من هو وهو جزء منه ظهور له انفصل منه وانخرق عنه ولذا يشار به إلى الإمكان الراجح والجائز أيضا في بعض المقامات لعدم وجود الإمكان وظهوره في الأكوان والأعيان حتى سموه عدما وليساً ، والعدم المتصور والعدم المخلوق المدرك المميز المعبر عنه ليس إلا الإمكان وكل الأشياء مما كان أوما يكون من الذوات والصفات والتوصيفات والامدادات الوجودية والعدمية والأكوان الشرعية والشريعة الكونية كلها قد انخرقت من هذا الهواء إلا أن أول ما خرق منه كان هو العماء الذي كان الله سبحانه ظاهرا ومتجليا فيه ، وأول ما ظهر من ذلك العماء هو الهاء لنفسه ولغيره ، والماء الثاني والطبخ الآخر هو ماء الوجود ، والمداد الأول والدواة الأولى والـنفس الرحماني الثانوي مادة المواد وهيـولى الهيـولات واسطقس

___________________

1 الإخلاص 1

الاسطقسات وقد يطلق الهواء على هذا الماء أيضا لذكر الماهيات وصلوح الإنيات وظهور النشأة وقد خرق منه ما شاء من خلقه بالمشية الكونية كما ذكرنا سابقا، وروى الصدوق رضوان الله عليه في التوحيد عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال (( إن الله عز وجل خلق العرش أرباعا لم يخلق قبله إلا ثلاثة أشياء الهواء والقلم والنور، ثم خلقه من أنوار مختلفة ))1 يريدعليه السلام بالهواء هو العمق الأكبر على الوجه الحقيقي لا المجازي فإن المجاز لا يسبق الحقيقة بل يستلزمه ولو سلم عدم الاستلزام فلا بد من تقدم الوضع ويقبح من الحكيم أن يمنع المستحق أولا من عطيته ثم يجعله فرعا وتابعا في الاسم لفرعه وتابعه في الذات تعالى تعالى ربي عن ذلك علوا كبيرا ، ويريد بالقلم الماء الذي به حياة كل شيء وقد يطلق عليه المداد أيضا ، ويريد بالنور هو أرض الجرز والبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه ، هكذا قال شيخنا أطال الله بقاه وجعلني من كل محذور فداه .

 

       أقول : ويجوز أن يراد بالهواء هو السحاب المزجى ، وبالقلم هو السحاب المتراكم لأنه القلم الأعلى يمده سبحانه من طمطام يم الوحدانية وسماء فلك القيومية أنحاء الامدادات وأنواع الفيوضات والتجليات المكنونة المخزونة في حقيقة ذلك السحاب بقيومية نفسه بظهوره عليه وهو أول غصن أخذ من شجرة الخلد على أعلى المعاني ، لأن شجرة الخلد حقيقة هي الشجرة الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية لكونها مغروسة على سواء الجبل من أرض الإمكان الراجح ، وهو البيت الذي من دخله كان آمنا من العدم والفناء، وما دخله إلا أناس مخصوصون فحيوا بحياة الأبد وداموا بدوام السرمد

_________________

1 التوحيد 325 _ 326

 

 

 

 

فتشرفوا بمقام الوجهية وفازوا بمقام البابية { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }1 لانقطاع ارتباط حقائقهم وانفصام روابط ذواتهم وإنياتهم في أصل التذوت في التكوين والتشريع عن غير المبدأ فما استدعوا شرطا ولازما ومقوما غير بارئهم وخالقهم ، فما احتاجوا إلى مقوم إلا في الصدور خاصة ، وجل جناب الباري جل اسمه أن يطرد من أناخ ببابه ولاذ بجنابه وانقطع عن غيره ، فذلك البيت بيت الأمان وتلك الدار دار الخلد وتلك الشجرة شجرة الخلد فليس من أهل الخلود حقيقة واقعيا إلا من كان واقفا مقام الرجحان في عالم الوجود والإمكان ، وأما في مقام الوجود المقيد الذي هو إلامكان الجائز فهو وإن كان أيضا مقام الخلود لكنه البيود والفناء والتغير والاضمحلال والانقطاع والانفصال وعدم الاستمرار والكسر والصوغ بخلاف الوجود المطلق إذ لا يجري عليه شيء من هذه الأحوال لأنه لا يجري عليه ما هو أجراه ، فشجرة الخلد هي شجرة الوجود المطلق وأول غصن منها هو المشيئة وهي القلم الأعلى والحجاب الأدنى ، هذا بناء على أن ما فوق العقل من المراتب كلها من الوجود المطلق ، وأما إذا حصر الوجود المطلق بالمشيئة وأجري على المراتب الأخر حكم البرزخ فيكون هو المشيئة وأولادها من المشيئات الجزئية فتكون المشيئة الكلية أول غصن منها وباقي الأغصان كلها كليها وجزئيها غصن لهذا الغصن الكلي .

__________________

1 القصص 88

 

 

 

 

 

 

 

 

       فإذا ظهر المراد من قوله عليه السلام (( أول ما خلق الله القلم ))1من غير تكلف الحمل على الأولية الإضافية ، ويراد بالنور هو الوجود المقيد أي الوجود الصالح للتقييد لأنه النور الذي استضاء منه كل نور ونورت به الأنوار في الإعلان والإسرار ، فإذا أريد بالهواء العمق الأكبر فمعنى خرقه هو ما ذكرنا لك سابقا ، وإن أريد به السحاب المزجى كما ذكرنا فخرقه عبارة عن انقسامه إلى أحد عشر قسما من غير زيادة ولا نقصان كل ذلك من الألف الذي هو النفس الرحماني الأولي قد نشأت منه وعادت إليه وكلها مجتمعة في

_________________

1 تفسير القمي 2/189

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السحاب المتراكم وإليه يشير تأويل قوله تعالى { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }1 روى القمي بإسناده عن أحدهم عليهم السلام أنه قال عليه السلام (( { حم } هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ }‏ هو أمير المؤمنين عليه السلام ، والليلة المباركة فاطمة الزهراء عليها السلام { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }2 أي إمام حكيم بعد إمام حكيم ))3 . ‏

 

       فلما دلت الأخبار وصحيح الاعتبار أنهم كلمة الله العليا والمثل الأعلى والكلمة الطيبة كان مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النقطة ومقام علي عليه السلام هو إلالف والنفس ومقام الأئمة عليهم السلام مقام الحروف العاليـات وهو مقام السحاب المزجى في قولـه تعالى { وَهُوَ الَّذِي

____________________

1 الدخان 1 _ 3                      2 الدخان 4

3 لم نقف على هذه الرواية بالنص ولكن وقفنا على ما يقرب منها ففي الكافي 1/479 ح 4 , وفي تفسير الصافي 4/404 أن رجلا نصرانيا سأل الإمام الكاظم عليـه السلام عن تأويل هذه الآيات فقال عليه السلام (( أما ( حم ) فهو محمد صلى الله عليه وآله وهو في كتاب هو الذي أنزل عليه وهو منقوص الحروف , وأما الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علي عليه السلام , وأما الليلة ففاطمة عليها السلام , وأما قوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) يقول يخرج منها خير كثير , فرجل حكيم ورجل حكيم ورجل حكيم , فقال الرجل : صف الأول والآخر من هؤلاء الرجال , فقال : إن الصفات تشتبه , ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله وإنه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم إن لم تغيروا وتحرفوا وتكفروا وقديما ما فعلتم )) .

 

 

 

 

 

يُرْسِلُ الرِّيَاحَ } وهو علي عليه السلام { بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ }1والرحمة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام هو دليل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيته واسمه ونوره ويرجع في الكرة الثانية بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال في الآية الأخرى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا }2 وهذا السحاب إنما أثير من الرياح لقوله تعالى { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا }2 وهذا السحاب المزجى هو إلائمة المعصومون عليهم السلام الأحد عشر من أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا هو الهواء المنخرق إلى هذا المقدار والعدد المعين { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا }‏4 وإنما عبر عنهم عليهم السلام حيث كونهم مجتمعين في صقع واحد هواء لأنه عليه السلام أبو تراب ومقام الحجاب ووجه الباب ، ورسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم هو النقطة الجوهرية الإلهية وهي النار المشرقة عن شمس الأزل ، وهي الحديدة المحمية بالنار في ثاني المقام إذ ليس ذاته إلا حركة الظهور بالبطون فهو صلى الله عليه وآله وسلم دائم الحركة حاكي لصرف الوحدة ، وليس في ذاته مقام سكون ووقوف ، بل ذاته مجرى الإفاضة وفوارة القدر بل نفس القدر الذي يفور بل ظهور المقدر بالتقدير كما سنشرح لك إنشاء الله فيما بعد .

 

       وأما علي عليه السلام فهو حامل الخطاب وطارق الباب بل هو الباب وحقيقة الخطاب ولذا كني بأبي تراب ، وأما الهواء في ذلك الصقع والفضاء ليس إلا الأئمة الهداة عليهم السلام لأنهم الروابط والنسب والفاصلة بين البحرين بحر النبوة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم والولاية العلوية عليه السلام الخارجون من الدرة الفاطمية صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها كالهواء الفأصل والرابط بين النار والماء والتراب ، وكرة التراب في عالم الأنوار مقدم على الهواء والماء وفي عالم الأكدار مؤخر لسر يطول بذكره الكلام ، ولذا ترى البرج الترابي واقعا بين الناري وقبل الهوائي فنقول الحمل ناري والثور ترابي والجوزاء هوائي والسرطان مائي فافهم .

_________________

1 الأعراف 57             2 , 4 النور 43            3 الروم 48

وأما فاطمة عليها السلام فهي مزاج القابلية وطبع الحاملية ومقام الصورة وهو طبع الماء فتمت العناصر الأربعة في عالم السرمد ورتبة الأبد ، فخرق الهواء لإظهار الاسم الأعظم هو فهو منخرق من الهواء لفظا ومعنى كما أشرنا إليه ، وإنما كان هو منخرقا عن هذا الهواء لظهور كل أركان التوحيد مشروحا مبينا في الأحد عشر هيكل التوحيد لظهور التوحيد والنبوة والولاية وأحكام ليلة القدر كلها فيهم بخلاف ما عداهم عليهم السلام ، لأن في عالم التفصيل يظهر ما كان مخفيا متفرقا في عالم الإجمال ولذا ما ظهر اسم هو في { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }1 إلا في هذه الهياكل وراثة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وفاطمة عليها السلام قال عليه السلام (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أ0ن لا إله إلا أنت ))2 وهذا المعنى هو المراد من قوله عليه السلام (( خرق  الهواء )) لمن ويفهم ويعقل .

 

       ثم أنك عرفت مما سبق أن الهواء هو محل الاعتدال ومقام النضج ورتبة الطبخ ، وأنت لو كان لك بصر حديد عرفت أن النضج والطبخ والتعفين في التشريع والتكوين والتمكين والتمرين والإطلاق والتعيين والإبهام والتبيين إنما صار في هذا الهواء وليس بعده إلا التقطير والتصفية وأخذ الصافي ورمي الثفل التراب ، ولذا ورد (( إذا خرج الحسين ابن علي عليه السلام يطهر الأرض عن كل رجس ودنس ونجس ، حتى الحيوانات التي لا تؤكل لحومها )) ، هذا معنى قولهم ( خذ الثفل وارم الرماد ) ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو معرف المادة الإكسيرية ومميز نوعها ، قـال تعالى { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ }‏3 { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ }‏4 وعلي صلى الله عليه وعلى أولاده مفصل المادة إلى الماء والثفل إلى النار والماء ، والأئمة الأحد عشر المعصومون عليهم السلام معفنوا المادة أحد عشر مرة ، مرتان لتحصيل النطفتين ، وتسع مرات لتكون إكسيرا فعالا يحيي العظام وهي رميم ، فلما كان التعفين أحد عشر

_________________

1 الإخلاص 1

2 دعاء مولانا صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه في شهر رجب

3 الرعد 7                    4 النور 54

مرة ليصفي المادة الإكسيرية عن كل الغرائب والأعراض ويحصل له مقام        (( أطعني أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون ))1، وقد عرفت أن التعفين لا يكون إلا في الهواء مادة الحرارة والرطوبة اقتضى التقدير من العليم الخبير أن يكون الهواء المتصل المرتوق منفتقا ومنخرقا إلى أحد عشر قسما لا إله إلا هو العلي الكبير ، وشرح هذا الرمز وبيانه مما يطول به الكلام ولست بصدده وإنما أتيت بالإشارة لأن لا أكون ظالما لأهل الحكمة ، وإظهارا للمرادات المخفية من كلامه عليه السلام وشاهدا على قولهم عليهم السلام (( إن حديثنا صعب مستصعب خشن       مخشوش ، فانبذوا إلى الناس نبذا فمن عرفه فزيدوه ومن أنكر فأمسكوا ))2.

 

       ثم اعلم أن قوله عليه السلام (( فتق الأجواء )) لبيان خلق السموات والأفلاك ، (( وخرق الهواء )) لبيان خلق كائنات الجو والحوادث الواقعة في الأرض وهما إشارتان إلى قوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }‏3 ، وأراد عليه السلام أن يبين مبدأ هذا الماء ومنشأه قال عليه السلام (( خرق الهواء )) لبيان أن الماء الذي به كل شيء حي إنما حدث وحصل بخرق الهواء ، لكنه عليه السلام ذكر كلاما عاما من بعض أفراده وجزئياته تكوّن الماء الذي به كل شيء حي ، إذ بخرق الهواء تتحقق الرياح بأقسامها من الشمال والجنوب والدبور والصبا ، والرياح المظلمة المهلكة كالريح العقيم وريح صرصر عاتية وريح السموم وأمثالها ، والرياح المنجية النافعة وهي معروفة ، وتتحقق أيضا الشهب والنيازك والكواكب ذوات الأذناب والسحب والرعد والبرق والمطر    والطل ، ويتصاعد البخار والدخان والهباء ، ويحصل من تصاعدها قرانات وأوضاع وعجائـب كقوس الله المشهور عند العامـة بقوس قزح ، وشرج

___________________

1 لم نقف على نص الرواية كما هو هنا وإنما وجدنا ما يقرب منها في إرشاد القلوب وهو قول تعالى (( يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون )) .

2 بصائر الدرجات 21                     3 الأنبياء 30

السماء المعروف عندهم بكهكشان ، والحمرة والشفق والصبح         الكاذب ، واختلاف ألوان الكواكب ومقادير عظمها بحسب الحجم وبحسب القلة والكثرة في العدد بحسب الإحساس ، وخضرة السماء ، وتحقق الهالة التي أحاطت بالقمر ، ووقوع الأمراض والأسقام العامة البلوى كالوباء      وأمثالها ، وهبوب الرياح السوداء والصفراء والحمراء ، وأمثالها من الأمور والأحوال وكل ذلك إنما هو بخرق الهواء لانبعاث الماء لإحياء الأرض ، ويأتي مجمل شرح هذه الجملة في خلال الكلام بعون الله سبحانه ، وقد قال مولانا الرضا عليـه السلام (( قد علم أولوا الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما ههنا ))1وقد قال جده الصادق الأمين عليه السلام (( العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد في ( من ) العبوديـة وجد في الربوبيـة ، وما خفي

________________

1 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ولكن وجدنا ما يقرب منها ففي عيون أخبار الرضا 1/175 قال عليه السلام (( قد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على هناك لا يكون إلا بما ههنا )) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( عن ) في الربوبية أصيب في العبودية ))1، قال الله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }2 ، فإذا وجدت شيئا في هذا العالم الجسماني فأجره على العوالم على طبقه الأشرف فالأشرف على النهج الأشرف إلا أنه في السافل مفصل مشروح بخلاف العالي فإن فيه مخفي مجمل ، فكلما رأيت بحاستك قد حصل بخرق الهواء في عالم العناصر فاعلم أن مبادئ كل ذلك في عالم المثال موجود على طبق عالم النفوس على طبق عالم العقول على طبق عالم الحقائق الأولية في الخلق الأول على طبق الفعل على طبق نفس الفعل حين حدث وانفعل بالوجود عن المبدأ ولو أردنا أن نشرح كل ذلك ما تسع الدفاتر وأما التلويح فقد لوحنا إلى نوع المسألة فيما تقدم آنفا ، وأما الإشارة فتطول بها العبارة وليس لي الآن إقبال ذلك ، لكن الإشارة المجملة أن الهواء كما ذكرنا هو الواقف بين الطتنجين والبرزخ بين العالمين بل ملتقى البحرين بحر الفاعل الظاهر بأثره وبحر القابل فيتوجه القابل ويصعد إلى جهة الفاعل إلى حد الهواء إذ لو تقدم لاحترق لخرق الحجاب وفي الحديـث (( إن لله سبعين ألف حجاب من نـور وظلمـة لو كشفها

________________

1 مصباح الشريعة 7

2 فصلت 53

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لاحترقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ))1، وينزل العالي بأثره أيضا إلى حد الهواء إذ لو نزل إلى الماء والتراب لذهب تأثيره وبطل تقديره إذ كل شيء له مقام معلوم وحد محدود قـال تعـالى { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }2 ، فلطائف الماء والأرض تصعد خارقة للهواء طالبة لتلقي فيض الإله ، وأشعة الكواكب المضيئات تنزل هابطة إلى مقام الهواء خارقة له بالحرارة الأصلية لتتميم القابلية وتمكين  الماهية ، فهناك يتصل فعل الفاعل بأثره بالمفعول فينفذ هذا التأثير وهذا الأثر في كل أجزاء القابل وأطواره وأوطاره وأحواله وحركاته وسكناته وصفاته وأعراضه وباقي أحكامه فيتم بذلك الشيء ، وهذا هو القول الكلي فاصرفه في كل عالم في كل صقع إلا أنه يختلف في الشرافة والكثافة واللطف والغلظة حسب ما  بينا .

___________________

1 عوالي اللآلي 4/106

2 الصافات 164

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام  علق الأرجاء

 

       إشارة إلى قوله تعالى { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }1 ، والأرجاء هي نهايات الشيء وأطرافه وجوانبه وهو أول عالم النهاية ، شرع في بيانه عليه السلام بعدما فرغ عن بيان عالم اللانهاية فإن الوجود على ثلاثة أقسام ، الأول الوجود الحق وهو الله سبحانه الحي القيوم الأزل الأبد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فلا نهاية له سبحانه ولا بداية ولا أولية ولا آخرية ولا ظاهرية ولا باطنية والطريق إليه مسدود والطلب مردود .

 

       الثاني الوجود المطلق وهو فعله ومشيئته واختراعه وابتداعه ومحل ذلك الفعل وانفعاله الأول الذي هوإلامكان الراجح وهو الجوالأول من الأجواء التي فتقها الله سبحانه كما مر وهو الهواء الذي خرقه إلى أربعة عشر هيكلا وأحد عشر على ما عرفت ، ويمكن أن تجعل لهذا المقام أجواء كل جو فتقه سبحانه بظهوره له به فيه ، كجو النقطة وجوالألف النفس الرحماني وجو الحروف العاليات وجو الكلمة التامة وجو الباطن الظاهر في النقطة وجو الباطن من حيث هو باطن الظاهر في الألف والسر المستسر بالسر ، وجو الظاهر الظاهر في الحروف العاليات وجو الظاهر من حيث هو ظاهر الظاهر في الكلمة الـتامة ، وهذه هي الأجواء التي فتقها سبحانه وتعالى بظهور التوحيد وهيكل التفريد وإظهار النقش الفهواني ولا نهاية لهذا الوجود ولا بداية بل هو متقوم بفاعلية الله سبحانه المتقومة بنفس ذلك الوجود فالنهايات والأطراف والغايات كلها منتفية عنه ولا يلزم من ذلك قدمه لأن القديم سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء وهذا الوجود يحيط به الحق سبحانه وتعالى فيما لا يتناهى بما لا يتناهى ، ولو فرض تناهيه إلى الله يلزم اقتران الأزل وتحديده واتصاله وهذا كفر بالله العظيم وخروج عن الدين القويم ، وليس مرادنا بنفي النهاية والأولية نفيهما

__________________

1 الحاقة 17

مطلقا وإنما المنفي هوالأولية والآخرية والنهايات الموجودة الثابتة في المخلوقات إذ كل ما يصدق عليه الشيئية ما سوى الله سبحانه متحقق بهذا الوجود ومتقوم به وصادر عن الله بـه والشيء إنما كان شيئا لأنه مشاء بالمشيئـة قال أمير المؤمنين عليـه السلام (( ليس كمثلـه شيء إذ كان الشيء من مشيئته ))1فـإذا صح أن الأشياء كلها صادرة عن الله بالمشيئة فـلا يجري عليه ما هو أجراه ، فالنهايـات والجهات والحيثيات المعتبرة في الخلق كلها منفية عن هذا الوجود ولذا سميناه مطلقا لعدم توقفه على شرط سوى خالقه وبارئه ، وفيض الله لا ينقطع وباب الإفاضة لمن لا مانع له من ذاته لاستدعائه الشرائط والأسباب والمعدات وسائر المتممات والمكملات لا تنسد، فخلق سبحانه ذلك الوجود فيما لا نهاية له بما لانهاية له فخرج كعموم قدرة الله سبحانه واسعا كليا بوحدته يسع كل شيء مما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده إلى ما لا نهاية له ، وهو بحر وخزينة لا يشذ عنها شيء ينفق منها

___________________

1 مصباح المتهجد 752 ( من خطبة الغدير ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كيف يشاء ولا نفاد لها‏ { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }1ولما أراد  الحق سبحانه أن يكون الأكوان ويبرز ما كان من غيب الإمكان إلى عالم العيان والأعيان أوجد بفعله أي بذلك الوجود المطلق القسم الثالث من الوجود الذي هو الوجود المقيد ، وهذا الوجود قبل أن يقيد شيء واحد بسيط منبسط يعبر عنه تارة بالماء لأن حياة الشيء وتأصله وتحققه بحقيقته وهو حقيقة الأشياء وذوات الموجودات ، فبه جعل الله سبحانه كل شيء حي ، وأخرى بالهواء لأنه الرابطة والفاصلة بين تأثير المؤثر وقبول المنفعل المتأثر ، فتنزل الفيوضات والامدادات كلها إلى هذا المقام ثم منه تفيض إلى قوابل الأعيان وإنيات الأكوان ، ولما كان هذا الوجود هو أول أثر صدر عن الوجود المطلق ظهر حاكيا لمثاله وواصفا لحاله لأنه جهته ، فلا نهاية لهذا الوجود أيضا لكونه ظهور ما لانهاية له مع قطع النظر عن المظاهر فهو مثاله ودليله والدليل لا يخالف مدلوله والمثال لا يناقض ممثله ، فهذا الوجود مجرد عن كل القيود ومنزه عن كل الحدود لأن الحدود جهة المخالفة والتكثر والمباينة والتعدد ، فلولا هذا الوجود من أين تظهر الوحدة السارية في كل مفقود ومشهود ومعدوم وموجود ، فلما صحت الوحدة لا يجوز أن يكون متأخرا عن الكثرة لأن الكثرة مذمومة فيجب أن يكون متقدما ، ولما كانت الكثرات وأنحاء التمايزات والاختلافات واعتبار الجهات والحيثيات إنما هي بالحدود والتعينات ، وهذا الوجود جهة الوحدة البحت البات لم تكن فيه لذاته شائبة من تلك الحالات والإضافات والأوضاع والقرانات فلا توصف بالأولية المتداولة ولا بالآخرية المتعاكسة بل هو صرف الشيء ووجه الوجود المطلق ، بل ربما جعل من ذلك الصقع فجعله الله بلطيف صنعه مادة الأشياء وخرق هذا الهواء بتعليق الأرجاء التي هي الأطراف وهي الحدود المشخصة والقيود المعينة لتلك الحقيقة المطلقة المقيدة من الكم والكيف والجهة والرتبة والزمان والمكان ، فبتعليق هذه الحدود بتلك الحقيقة ظهرت منها الأشياء على حسب الحدود ومقتضى القيود ، فبتراكم القيود تكاثفت وغلظت حتى

_______________

1 النحل 96

صارت جسما وجسمانيا ، وبرقة الحدود وقلتها تلطفت فصارت روحا وروحانيا وعقلا وعقلانيا ، وكلما تكاملت مرتبة ظهر منها أثر من نوع تلك المرتبة ، وذلك الأثر هو جمالها ولجمالها جمال ولجمال جمالها جمال وهكذا إلى ما لا نهاية له من ترامي سلسلة الإيجاد بقابلية الانوجاد في الأيام الثلاثة أيام الإيلاج أوالاقتران وأيام الغشيان أول التعفين وتمام التمرين وأيام الشأن لتمام التكوين وظهور التمكين ، وكل هذه الكثرات وأنحاء الاختلافات وأحكام الإضافات والقرانات وتكثر الدقائق والساعات بل واقتضاء الآنات عند تصادم الكيفيات إلى أن امتلأ الوجود وظهر سر المعبود باختلاف الركوع والسجود كل ذلك بضم الحدود والقيود التي هي عبارة عن الأرجاء والأطراف وهي الجهات واقتضاء الإنيات ولذا قال عليه السلام (( علق الأرجاء )) بعد (( خرق الهواء )) ، بل تعليق الأرجاء لمن يفهم الكلام بيان وشرح لقوله عليه السلام (( وخرق الهواء )) ومتفرع عليه ومتأصل به .

 

       والملك الذي على الأرجاء هو الملك الذي له رؤوس بعدد رؤوس الخلائق ممن وجد أولم يوجد إلى يوم القيامة ، وهو روح القدس أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش ، ومعنى كونه على الأرجاء أنه حامل لها وهي تنتهي إليه وتنقطع دونه فليس فوقه طرف ولا نهاية ، وذلك الملك واقف أول مقام النهاية ، والعرش هوالأنوار الأربعة وهي النور الأحمر الذي منه احمرت الحمرة ، والنور الأخضر الذي منه اخضرت الخضرة ، والنور الأصفر الذي منه اصفرت الصفرة ، والنور الأبيض الذي منه ابيض البياض ومنه ضوء النهار وهو نور الأنوار ، والثمانية الحاملون أربعة من الأولين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأربعة من الآخرين محمد وعلي والحسن والحسين عليهم سلام الله أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ومعنى حملهم قيامهم بالامدادات المفاضة منهم عليهم سلام الله حين استوى الرحمن برحمانيته عليه ، وتأديتهم إلى من دونهم حسب ما جرى قلم التقدير على لوح التدبير بإذن الله اللطيف الخبير ، والآخرون هم الأولون والأولون هم الآخرون ، يؤدي إليه الكروبيون حينما يؤدي إلى الكروبيين العالون وذلك في الرتبة الثالثة رتبة الأبواب مقام الحجاب ووجه الجناب وقرع الباب ، وأما في المقامات الأخر فلهم عليهم السلام مقام الحديدة المحماة ورتبة الظاهر في المرآة ومقام (( نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا )) فكم من عجائب قد تركتها ولا حول ولا قوة إلا   بالله .

 

       وإن أريد بالملك هو الجنس لا الواحد من قوله تعالى { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا } بدليل ضمير هم في قوله عز وجل { فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }1‏ فالمراد بالسماء مطرح الفيض والإمداد ومهبط الوجود والإيجاد في كل عالم بحسبه من السرمد إلى الدهر  وهو السبع السموات المتطابقات في قوله تعالى { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا }‏2 وهي سماء العقول وسماء الأرواح وسماء النفوس وسماء الطبائع وسماء المواد وسماء الأشباح والمثـال وسماء الأجسام ، والملائكة هم حملة الإفاضة ومظاهر التدبير .

 

       والأرجاء هي النهايات والأطراف المتعلقة على المفاض عليه بواسطة الملك الذي هو على ذلك الرجاء في الأجسام جسمانيون ، وفي الأشباح شبحيون ، وفي المواد ماديون ، وفي الطبائع طبيعيون ، وفي النفوس نفسانيون وفي الأرواح روحانيون ، وفي العقول عقلانيون ، وحملة العرش هم جبرئيل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل ، في العرش العقلي بأجنحتهم العقلانية يحملون الامدادات العقلية إلى متعلقاتها وهكذا إلى آخر المراتب ، فقولـه عليه السلام (( علق الأرجاء )) كلام عام يشمل هذه الراتب كلها .

 

       وتعليق الأرجاء في عالم البيان ظهور الأسماء الكلية والجزئية والمتقابلة والمتآلفة إلى ما لانهاية له ، التي قد تحصر كلياتها من أربعة أسماء ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) إلى اثني عشر عالم إلى ثلاثين إلى ثلاثمائة وستين إلى تسعة وتسعين إلى المائة إلى الألف إلى الألف ألف .

_____________________

1 الحاقة 17

2 الملك 3

 

        وفي عالم المعاني ظهور المفاعيل المطلقة والمصادر السيالة التي هي متعلقات الأسماء في عالم العماء .

 

       وفي عالم الأبواب ظهور الحجب الثمانية من الحجاب الأبيض والأصفر والأخضر والأحمر والكمد والأخضر المائل إلى السواد والأسود والأسود البالغ في السواد .

 

       وفي عالم الأجسام ظهور الشرق والغرب والجنوب والشمال والبروج والمنازل وتعدد الأفلاك الجزئية واختلاف الأنظار الكوكبية والقرانات الجسمية في السماء .

 

       وفي الأرض ظهور الأقاليم السبعة والجهات الستة والرياح الأربعة والبحار والأنهار والجبال والأشجار ، وفي الإنسان في الظاهر الجسمي أعضاء  الوضوء ، والرابطي هي الحواس الظاهرة ، والباطني هي الحواس الخمسة ، واللبي هي تجاويف القلب المعنوي حسب تجاويف القلب الظاهري اللحم الصنوبري ، وظهور العرش الكلي في الكلمة الواحدة من المراتب الأربعة والكلمات الأربعة والأنوار الأربعة ، وكل هذه مقامات تعليق الأرجاء وشرح هذه المقامات قد مضى ويأتي إنشاء الله تعالى .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام  وأضاء الضياء

 

       يريد عليه السلام بالضياء هو البهاء وهو نور الأنوار والنور الذي نورت به الأنوار ، والإشارة إليه في الكلام الكريم بباء بسم الله الرحمن الرحيم قال عليه السلام (( الباء بهاء الله ))1 وهو الذي ابتدأ به في دعاء السحر بقوله عليه السلام (( اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه ))2 ، وهذا الضياء أول ما ظهر من تعليق الأرجاء ، وأول مصباح أوقد مادته من الدهن الذي يكاد يضيء ولولم  تمسسه نار من الزيت المأخوذ من الشجرة الزيتونة لا شرقية ولا غربية بالنار التي هي من الشجرة التي قال سبحانه { الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ }3 قال تعالى { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ }4 وهو بلسان أهل الشرع روح      القدس ، أول ذائق الباكورة في جنان الصاقورة من حدائق آل محمد صلى الله عليهم ، والقلم أول غصن أخذ من شجرة الخلد أي الوجود التكويني (( إنكم خلقتم للآخرة لا للدنيا وللبقاء لا للفناء )) ، وأول خلق من الروحانيين عن يمين العرش المركب من الأنوار الأربعة ، والروح محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنور المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم ، والعقل الكلي الذي استنطقه الله بالمدد النوري والفيض الإلهي وبما جعل عنده من السر الغيبي والظهور المعنوي ، وبما ظهر عليه من الإيجاد الكوني والعيني وكونه مخزنا ومحلا لكل المعاني ثم قال له أدبر فأدبر إدبارا امتثاليا الذي هو إلاقبال حقيقة لا الإدبار موليا كما في الجهل فإن خطاب الإدبار قد ورد عليهما فواحد أدبر امتثالا والثاني أدبر موليا عنادا ، فصار إدبار الأول نورا وضياء لاتصاله إلى الحق سبحانه أظهر الأشياء، وصار إدبار الثاني جهلا وظلمة لانفصاله عن

_______________

1 التوحيد 3                 2 الإقبال 33

3 يس 80                   4 النور 35

القضاء وهو قوله عز وجل { قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }1 ، فأدبر العقل ممتثلا لأمر الله سبحانه وتعالى ومتنزلا بسر اسم الله البديع إلى مقام الروح الرقيقة المعنوية والعلقة الصفراء بسر اسم الله الرحمن وهو أول مقام الحل الثاني في الخلق الأول من عالم الوجود المقيد ، وقد سبقه الخلق الأول بأطواره في عالم الوجود المطلق .

 

       ثم أدبر متنزلا إلى مقام النفس الصورة المجردة عن المادة الجسمية والمثالية والمدة الزمانية والشبحية السفلية عالم الذر الأول أوالثاني أو الثالث ، فتمام الخلق الأول والصوغ الأول وكمال العقل الثاني وتمام ظهور المعاني والمباني .

 

       ثم أدبر متنزلا بسر اسم الله الباعث إلى مقام الطبيعة مقام الكسر الأول للصوغ الثاني حجاب الياقوت .

 

       ثم أدبر متنزلا بسر اسم الله الباطن إلى عالم المواد الجسمانية تمام الكسر والحل وجوهر الهباء .

 

       ثم أدبر متنزلا بسر اسم الله الآخر إلى عالم المثال أول الصوغ الثاني محل الصور المقدارية .

 

       ثم أدبر متنزلا بسر اسم الله الظاهر إلى عالم الأجسام مقام النقش والارتسام .

___________________

1 التوحيد 13 _ 14

 

ثم أدبر متنزلا من الأشرف إلى الأدنى حتى قطع الأفلاك وظهرت العناصر وتولدت المتولدات وكثرت الأنوار وتحققت الأضواء ، فصارت الأفلاك بل العالم كرة واحدة تدور على قطبها ، وهو ذلك الضياء الذي أضاءه الله بنور توحيده ، وانقياد ذلك النور له بالتسليم والرضا والخضوع والخشوع والمسكنة ، ولك أن تجرد هذه الحركة على المحور لتكون حركتها على القطب وحده لا إلى جهة إذا نظرت إلى ذلك النور نظر الظهور كالحديدة المحماة فيكون حينئذ قيام الأشياء به قياما صدوريا وحركتها إليه حركة كينونة سيالة لا بقاء لها إلا بنفس تلك الحركة حين الحركة لا إلى جهة فلا وضع ولا كيف ولا كم ولا أين ، وأشار إلى هذا المعنى في هذا المقام بقوله الحق {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }‏ فهذا النور الذي هو الضياء هو مظهر الألوهية قد ظهرت فيه له ولغيره به ، ويكون هذا القوام حين سير ذلك النور في عالم اللانهاية في صقع اللاهوت حين تمحضه في القرب إلى ربه والبعد عن نفسه ، فرق ولطف إلى أن شابهه في الصفة الفعلية قال الله سبحانه في الحديث القدسي (( أطعني أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون))1 ونعم ما قال :

           رق الزجاج ورقت الخمر          وتشاكلا وتشابه الأمر

           فكأنـما خمر ولا قـدح         وكأنما قدح ولا خمـر

 

       ولذا قال عليه السلام (( لنا مع الله حالات نحن فيها هو ، وهو فيها       نحن ، وهو هو ، ونحن نحن )) .

 

       ولك أن تجعل هذا النور هو المحور لتكون حركة فلك الوجود عليه وذلك حين كونه مترجما للخطاب وحاملا ومؤديا على مقتضى القوابل بتنزله وترقيه، فيكون هذا مقام قوله عز وجل { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ }  

_________________

1 لم نقف على نص الرواية كما هو هنا وإنما وجدنا ما يقرب منها في إرشاد القلوب وهو قول تعالى (( يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون )) .

ولما كان المحور هو الخط الفأصل بين القطبين اللذين أحدهما عين الآخر أشار سبحانه وتعالى إلى بيان هذه الفاصلة والرابطة بقوله الحق { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }1 فدل البيان على أن هذا الضياء هو النور الذي نورت به الأنوار وهو نور كل نور ومظهر اسم البديع ورفيع الدرجات ، ألم تنظر إلى قوله عز وجل { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا }2 والأنوار والأضواء التي في العالم الجسماني في كلها من الشمس وهي قد سقط إليها نور من ذلك النور بقدر سم الإبرة ، وإنما كانت الشمس ضياء مضيئة لهذا العالم لكونها محلا لظهور العلية الفاعلية التي هي الحرارة واليبوسة ، ونسبة الشمس إلى العالم كنسبة الحرارة الغريزية إلى جميع أقطار البدن ، لأنها نور أي نار قد انفعلت الأجزاء الأرضية القلبية التي هي اللحم الصنوبري عنها بالاستضاءة فاستنارت القوى والمشاعر والمدارك والآلات والعروق والأعصاب والغضاريف والأوردة والشرايين والعضلات كلها من الحرارة الغريزية الظاهرة في القلب ، وتلك الحرارة التي يعبر عنها بالدم الأصفر في تجاويف القلب ، والعلقة متعلقة بالريح وهي الدخان والبخار اللطيف في القلب الذي هو الروح في عرف الأطباء ، وتلك متعلقة بالهواء الذي النفس الحيوانية الحسية الفلكية الغيبية ، وتلك النفس متقومة بالنفس القدسية الإنسانية ، وتلك متقومة بالعقل في الجزئي وأما في الكلي فالإنسانية متقومة بالنفس الملكوتية الإلهية وهي متقومة بالعقل ولذا قال أمير المؤمنين عليه السلام في بيان هذه النفس أن (( أصلها العقل منه بدأت وعنه وعت وإليه أشارت ودلت وهي ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة  المأوى )) وهذه الذات والشجرة والسدرة والجنة التي هي صافي الوجود ونور الإله المعبود وثمرة الركوع والسجود والأنوار التي بها ظهر الوجود والموجود كما قـال عليـه السلام (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) كلها ظهور وشئون لذلك الضياء الذي قال عليه السلام (( أصلها

____________________

1 النور 35                   2 يونس 5

العقل .. إلخ )) ، وأول ما خلق الله النور وهو نور الرب في قولـه عز وجل { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا }‏1 والأرض هي أرض النفوس في هذا التفسير في هذا  المقام .

 

       ثم اعلم أن قوله عليه السلام (( أضاء الضياء )) رد على من زعم أن الماهيات ليست بمجعولة ، وأن الله ما جعل المشمش مشمشا بل جعله  موجودا ، فإن قوله عليه السلام معناه أنه سبحانه جعل الضياء ضياء كما في قولـه عليه السلام (( إن الله عز وجل كيّف الكيف فهو بلا كيف وأيّن الأين )) أي جعل الكيف كيفا والأين أينا والمشمش مشمشا ، إذ لا يجوز أن يكون في ملك الله سبحانه شيء يترتب عليه الأثر لم يكن من خلق الله , أو يكون في الوجود لا يكون في ملك الله سبحانه ، فإن لم يكن شيء ولم يترتب عليه شيء لم يكن لقولهم فائدة وإنما هو كذب محض ، وإلا فإما هو خلق الله أو قديم مع الله أو هو الله أوخلق لغير الله أوأحدث نفسه من غير الله أوحدث لقديم غير الله تعالى ، وما عدا الأول كله باطل وذلك ظاهر إنشاء الله ، وليس هذا المقام مقام هذه المسألة ببسطها وشقوقها .

 

       ثم أن قوله عليه السلام (( أضاء الضياء )) استنباط واستخراج مما ظهر مستجنا فيما تقدم من كلماته الشريفة فإن هذا الضياء هو المصباح الذي في الآية الشريفة فأشار بقوله عليه السلام (( فتق الأجواء )) إلى الشجرة الإلهية التي تخرج منها النار فبفتق تلك الأجواء ظهرت تلك الشجرة الكلية ، والمراد بالشجرة هو الإختراع الأول والابتداع الأول قال مولانا الرضا عليه السلام (( إن أول ما خلق الله الإختراع والابتداع ، ثم خلق الحروف فجعلها فعلا منه يقول للشيء كن فيكون )) وتلك الأجواء هي مقامات الإمكان الراجح من الظهورات الفعلية الإلهية ، ومحل المقامات والآيات والعلامات على ما    سبق ، فنبتت تلك الشجرة في تلك الأرض بفتق أجواء أفلاكها وعناصرها ودوران بعضها على بعض ، وليس من متولدات تلك العناصر والأفلاك من

____________________

1 يونس 69

الآباء والأمهات سواها ، فإن جعلتها جماد ذلك العالم أونباته أوحيوانه أو إنسانه صدقت إذ كل ذلك جمع فيها بطور الوحدة إذ في الكـل خاصية الكل ، ألم تسمع أن في الجنة تعمل الأجسام عمل الأرواح من غير توسطها والأرواح تعمل عمل الأجسام من غير توسطها لأن دار الآخرة هي دار الحيوان وحياة دار الآخرة من فاضل فاضل حياة هذه الشجرة ، بل ليست الجنة بقضها وقضيضها إلا ثمرات ثمرات هذه الشجرة فلا تستغرب إذاً مما قـلت  .

 

       وأشار بقوله عليه السلام (( خرق الهواء وعلق الأرجاء )) إلى ظهور نار الشجرة في الهواء لما ذكرنا من أن الهواء مجمع البحرين وملتقى          العالمين ، فيصعد القابل المتلقي إلى المبدأ إلى مقامه ويتنزل العالي بأثره للإمداد إلى مقامه فهو الرابطة والفاصلة ، والمراد بالهواء بلسان الظاهر هو الوجود المقيد قبل التقييد وهو ظهور المشيئة بأثرها وهو أثرها ونسبته إليها نسبة الضرب إلى ضرب كما سيأتي إنشاء الله ، فكان هو مس النار والأرجاء هي الدهن ، وأرض الجرز والبلد الطيب وهي القابلية ، وخرق الهواء إشارة إلى مس النار للدهن أي التعلق المحض ، وتعليق الأرجاء إشارة إلى ميل القوابل إلى مقبولاتها وصعودها إليها بلطائفها وصافيها وهو تكلس الدهن إلى أن يصير أجزاء قريبة الاستحالة إلى الدخان ، إلى أن يصير دخانا ينفعل بمس النار بالإضاءة ، وذلك التكليس هو تمكين القابلية لقبول أثر الفاعل ، فإذا تعلقت النار بالدهن وكلسته إلى أن يصير دخانا تحقق المصباح وأضاء الضياء وهو السراج الوهاج قال تعالى { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا }‏1 فمنه استضاء          العالم , فأشار عليه السلام إلى بدو الوجود وظهور الشهود بما لا مزيد عليه ، ولعمري إنه عليه السلام شرح أحوال المبدأ والخلق الأول بكل أحواله وأطواره وصفاته وشئونه وجهاته وكلياته وجزئياته في هذه الكلمات بين ما صرح تصريحا وما أشار إشارة وما لوح تلويحا بالكلمات والحروف وصفاتها وأعدادها وطبائعها وقراناتها وولاداتها ، قـد انقطع دونها علم العلماء وفهم

___________________

1 النبأ 13

البلغاء ، لا تفنى عجائبها ولا تبيد غرائبها وهي طرية أبدا ، وما طوينا مما عرفنا أكثر مما كتبنا ، وما لم نعرف ولم ندرك ولم نتخيل بل لم نعقل أكثر وأكثر ، أشهد أن كلامهم نور صعب  مستصعب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام

 وأحيى الموتى وأمات الأحياء

 

       اعلم أن الموت قد يطلق على مجرد الفقدان سواء سبقه وجدان أم لا كما في قوله عز وجل { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ }1‏ وهو الأرض المعدة المستأهلة للنبات والإثمار إذا وقع عليها المطر ، فتكون قبل وقوعه عليها ميتا غير موجودة بالعمارة والظهور والشهود وإنما هي ذكر وصلوح قابلية محضة فإذا أتاها المطر الخارج من السحاب ووقع على تلك الأرض انفتقت وحييت بإذن الله تعالى قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }2 فهذا موت قبل الحياة قد أطلق الموت عليه .

 

       وقد يطلق على الكسر بعد الصوغ ، وعلى الوجود بعد العدم ، والغيب بعد الشهود ، والإمكان بعد الأكوان والأعيان ، والظلمة بعد النور ، والخفاء بعد الظهور ، والإطلاقان كلاهما يحتملان في هذا المقام .

 

       ثم اعلم أن الموت بقول مطلق هو قطع العالي نظره عن السافل فينقطع السافل فيبقى ميتا لا حراك له ، وذلك القطع لا يكون إلا بعد إقبال السافل إلى العالي لضعف قابليته وانهدام بنيته وغلبة برودته ويبوسته أو رطوبته مع البرودة المانعة عن ظهور الحرارة التي هي مثال الفاعل العالي ، أولاشتغال العالي ونظره واشتياقه ومحبته إلى أعلى منه أوالمناسب له في الغاية والنهاية فإذا حصل له الشغل الكلي يقطع عن السافل فيقع ميتا ، فظهر لك أن علة القطع أمران .

 

       فإذا عرفت هذا فاعلم أن الموت موتان إقبالي وإدباري ، فالأول هو موت الوفاء والفناء ، والثاني هو موت العناء والشقاء والثاني امتثالي وانفصالي انقطاعي ، فالأول هو الرحمة والثاني هو النقمة .

________________

1 فاطر 9                        2 فصلت 39

       والإشارة إلى بيان هذه الجملة هي أن الله سبحانه لما أحب أن يعرف خلق الخلق لكي يعرف ، فالمحبة الحقيقية للإيجاد هي المعرفة وهي محل المحبة ، والمحب ليس نظره إلا إلى محبوبه ومطلوبه بالمحبة التي هي عين ذلك المحبوب ، فإيجاد تلك المعرفة وتلك المحبة والوجدان الحامل لتلك المحبة والمعرفة لتساوقهما لا شك أنه متقدم ، فأوجد سبحانه العارف المحب المحبوب أولا قبل كل شيء لكونه الغاية في الإيجاد ومحل نظر رب العباد ، فوهبه الحياة والدوام الأبدي والبقاء السرمدي لأنه محل التجلي وظهور المتجلي ، لأن الله سبحانه أحبه به وتجلى له به قال مولانا علي عليه السلام (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع منها ))1فذلك النظر هو علة الحياة وعين الحياة بقاء لا فناء فيه ودوام لا زوال له واستقلال لا اضمحلال له وغنى لا فقر له ، لأنه محل رحمة الله ومنبع فيضه وإحسانه ، وهذا الهواء في قوله عليه السلام المتقدم (( خرق الهواء )) لأن الهواء هو طبع الحياة والاسم المربي له الحي وهو قوله عليه السلام

_________________

1 شرح النهج 13/44

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(( لأن الروح مجانس للريح ))1وقوله عليه السلام (( فإن روحه متعلقة بالريح والريح معلقة بالهواء ))2 وهذا هو الوجود المعبر عنه بنور الله وآيته مبدأ الوجود المقيد ، وأما في عالم الوجود المطلق فهوعالم أحببت أن أعرف ، والمحبة الحقيقية التي هي الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقام الأحدية الظاهرة للمخلوق التي يعرفون الأحد بها ، ثم لما أراد أن يخلق مراتب الخلق لإظهار كبريائه وعظمته وجلاله وجماله وقهره وغلبته أمر ذلك النور الحقيقي والسر الغيبي الخفي الحقيقي الإلهي بالإدبار والنظر إلى القوابل المدلهمة الغاسقة الموجودية المتحققة بعين ذلك النظر ، ولا شك أن القابل طبيعته البرودة واليبوسة التي قد أحاطت بظاهرها الذي هو ظهور الميل إلى المبدأ البرودة والرطوبة وقد قلنا سابقا أن الشيء لا يتم إلا بالمقبول ، والقابل لا يتحقق ولا يقبل إلا بتمكين المقبول أوالفاعل إياه للقبول ، وذلك التمكين ما يمكن إلا بمزج أثر الفاعل وظهوره وكينونته للقابل مع طبيعة المقبول في أرض الجرز والبلد الميت الطيب ، ففي أول ظهور الأثر الذي هو النار والحرارة المصلحة المنضجة لتكوين المكون القابل فالغلب والظهور وجريان الأثر للقابل ببرودته ويبوسته الممزوجة بالرطوبة، وأنت عرفت أن البرد الخالص إذا أصاب الرطوبة التي فيها اليبوسة الجزئية يجمدها ، فالحرارة التي هي أثر الفاعل وهو ذلك لما كانت من عالم الغيب والباطن تبقى في الباطن ولم يظهرها أثر في الظاهر بل ظهور الأثر وجريان الأحكام إنما هو للبرودة واليبوسة اللتان هما طبع الموت فهذا أول موت وقع في الوجود ، ومثاله وآيته في عالم التفصيل فصل الشتاء فإن الحرارة في ذلك الفصل تتوجه إلى الباطن فتنجمد الظواهر بالبرودة والرطوبة المشوبة باليبوسة وتنسد المسام ولم يبق للحرارة حكم ولا أثر ، فيحتاج الخلق حرارة أخرى غير ما في الغرائز والطبائع ، وإنما كثرت الرطوبة في هذا المقام وهذا الفصل لكونه أول مقام القابلية وميل القابل إلى الانفعال للتأثير وذلك يستدعي الرطوبة ، وأما سر انجمادها فلمزجها مع

_________________

1 معاني الأخبار 17 , التوحيد 171

2 علل الشرائع 97

اليبوسة الحافظة الماسكة لذلك التأثير ، وأما سر زيادة البرودة فلبعده عن الحرارة وتأثير الفاعل بالتأثير الخاص أو العام ، وهذا الموت إدباري إلا أنه امتثالي ولذا كان رحمة وفضلا ، فإذا تمكنت الحرارة ورسخت واستقرت في الباطن لتمكين القابلية وتسويتها تؤثر فيها وتنضجها شيئا فشيئا إلى أن يضمحل ذلك البرد الكلي الموجب لانجماد القريحة المانع لذوبانها وميلها إلى مبدئها وبارئها فتذوب تلك اليبوسة والرطوبة المجتمعة الجامدة وتفتح المسام وتؤثر الحرارة في الظاهر فيظهر النبات ، وهنا أول الحياة وأول مقام الاعتدال ومثاله هو فصل الربيع بعد الشتاء ولذا تكثر الأمطار وتقل الثلوج في هذا الفصل وذلك لسر الذوبان ، فبقدر ما تقل البرودة تظهر وتتضاعف الحرارة ويقوى النبات ويظهر طلع الثمار ، فكلما تزيد يوما إما من القمري أو من أيام الشأن تزيد الحرارة والرطوبة ، فإذا زادت الحرارة خففت الرطوبات الفضلية فتزيد اليبوسة إلى آخر فصل الربيع وهو انتهاء غلبة الرطوبة ففي فصل الصيف تكون الغلبة لليبوسة مع الحرارة وهنا مقام نار السبك فتنضج الثمار وتتقوى الأشجار وهذا تمام الحياة بعد الموت ، فالموت الأول في أول الإدبار والنظر إلى القابلية وميله إليها وميلها إليه كما قال سبحانه وتعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ }1‏ وقال عليه السلام في الصحيفة (( يولج كل واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشؤهم عليه ))2 ليصير المجموع شيئا واحدا مخمول الحكم ومعزول الوصف حتى تتم الخلقة في بطن الأم أي الصورة من أحكام التقدير وإجراء التدبير وهذا هو التعفين ، فبعد ذلك ينشئ خلقا آخر من إيلاج الروح المناسب للصورة أي الأم وهو الحياة ، فالحياة بالصورة والقوام بالمادة وعند الانفصال كل منهما ميت { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }‏3 .

 

       فأحيـا الموتى أولهم آدم الأول حين عانق حواه ومات في حبها وهو

________________

1 الحج 61     

2 الصحيفة السجادية الكاملة دعاؤه عليه السلام عند الصباح والمساء 

3 يس 38

عبارة عن تعلق المشيئة الكلية والرحمة الواسعة بأرض الإمكان الراجح وهذا كان موتها لانقطاعها عن النظر إلى نفسها التي هي جهة مبدئها وعلتها     وفاعلها ، وقد قلنا أن الموت هو قطع نظر العالي عن السافل بالوجدان أو الوجود أوبالأمرين ، ولا شك أنها إذا نظرت إلى نفسها من حيث تعلقاتها منقطعة عن النظر إلى نفسها مجردة عنها مع إنه قد ارتفع تمييزها حينئذ أي في حال التعلق فهو موت .

 

       لا يقال أن المشيئة حياة لا موت لها ، لأنا نقول بلى بالنسبة إلى ما عداها كما نقول أنها بسيطة ليس في الإمكان أبسط منها ممكنة ، وكل ممكن زوج تركيبي فافهم ، وحياتها الإضافية ظهورها بالواحدية وتمام الكلمة التامة التي هي كلمة كن ، وإنما قلنا الإضافية لأن هنا مقام ظهور أولادها التي هي وجوهها ورؤوسها ، ومقام ظهور الأسماء الحسنى والصفات العليا ، أو ظهور العلم الإمكاني والأعيان الثابتة الحدوثية .

 

       ولك أن تجعل الموتى هي الإمكانيات والصلاحيات التي لا حياة لها ولا ظهور لها ولا وجود لها في الأكوان حتى أطلق عليها العدم كما قال عز وجل { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا }1وقد ورد في بعض الأخبار أن الله خلق الأشياء من العدم يراد به العدم الإمكاني ، فيصح أن تجعلها موتى حياتها بإيجادها في الأكوان ، فأول حياتها وظهور بعض أحكامها في الهواء كما تقدم ، وثاني ظهورها بفرد من أفرادها الضياء فيكون قوله عليه السلام (( وأحيى الموتى )) بيان أصل من الأصول الكونية ومرتبة من مراتب البدو في الكونين الكون الإطلاقي والتقييدي والإختراعين الأولي والثانوي ، ولما كان قوله عليه السلام (( فتق الأجواء )) إشارة إلى الإختراع الأول و (( أضاء الضياء )) إلى الإختراع الثاني و(( خرق الهواء )) إلى البرزخ المتوسط الجامع لأحكامهما والهواء عبارة عن ماء الوجود وأرض القابليات ، والموتى قد تحققت في الإختراعين أتى عليه السلام بعدهما بحكم المشترك بينهما

____________________

1 مريم 67

لما ذكرنا من تأثير الفاعل العالي المقبل المدبر إلى السافل المفعول بأثره ، فالموت للأثر إذا امتزج مع قابلية المتأثر وغلبت عليه البرودة واليبوسة ، وحياته إذا ظهر الأثر في كينونة القابل المتأثر مشروح الحكم ظاهر التأثير متفردا في الأمر بالعمل ، ولما غاب ذلك النور المعبر عنه بالهواء في أرض الجرز والبلد الميت وتحقق موته بتلك الغيبوبة ، ولما صعد بالأبخرة والأدخنة اللطيفة إلى سماء الصاقورة أي جهة العلة الدائرة على نفسها بنفسها فأصابته برودة الرحمة مبدأ العلة الصورية تحت الكرة الأثيرية مبدأ العلة المادية فانجمدت يبوسة هباء تلك الأرض إلى أن تكون السحاب المزجى جهات الميل إلى القابلية فانعقد سحابا متراكما بتحقق الصورة الشخصية فجرى بإشراق شمس الإيجاد من عالم الأمر عليه بحكم الانوجاد ماء ذائبا صالحا صلوحا نوعيا لكل ما يمكن في حقه ووقع على أرض القابليات الشخصية الجزئية المتقابلة المتمايزة وهو قوله تعالى { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء }‏ أي من سماء الإختراع الابتداع وسماء المتجلي ماء التجلي والإحداث والإيجاد بعد الحل الأول والعقد الأول { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } تلك القوابل { بِقَدَرِهَا }1فإذا أرادوا النبات أخذوا من ذلك الماء الصالح جزءان لمزج القابل مع المقبول فإن النسبة لها طرفان ، وأخذ من تلك الأرض جزء واحدا لئلا تنجمد فلا تتمكن من الصورة المطلوبة الممكنة في حقها المطلوب وجودها بتوفر الأسباب والدواعي واجتماع الشهوات والطلبات ، ولئلا تذوب فلا يصح الانعقاد والمطلوب على الوجه المطلوب فتمت مراتبه ومتممات قابليته ومكملاته فظهر الأثر ومال إلى صقعه فتحرك ذلك الشيء بقابليته إلى جهته ، فإن كان ذلك الأثر من المؤثر بيمينه فيصعد به إلى أعلى عليين وإن كان بشماله فيهبط به إلى أسفل السافلين سواء ، كان في الأصل غرفة من العليين أوالسجين أولا بل باللطخ والخلط كما قرر في محله .

 

       وبالجملة فحياة الشيء بعد مماته ظهور الشيء بتأثير الفاعل مشروح العلل مبين الأسباب فهذا يتصور في كل شيء من الأشياء إلا أن الأشياء في الـظهور والخفاء مختلفة ، فدل العقل بدلالة قول علي عليه السلام أن الحياة

_______________

1 الرعد 17

الأولية التي هي عين لحاظ الرب متقدمة على الموت ، وأما الحياة التركيبية المزجية الحاصلة من الائتلاف فإنها مؤخرة عن الموت ، فإن الإدبار موت وهو الأول والإقبال حياة وهو الثاني ولذا قال عليه السلام (( أحيى الموتى وأمات الأحياء )) وإن قيل أن الواو لا تدل على الترتيب لأن سياق الكلام يقتضي ذلك مع أن في عدم دلالة الواو على الترتيب نظر .

 

       اعلم أن الشيء لما كان لم يتحقق إلا بحلين وعقدين ولما كان العالم كرة واحدة وحقيقة واحدة وشخصا واحدا كان الحلان والعقدان فيه عبارة عن الخلقين في العالمين عالم الغيب والشهادة والخلق الأول والثاني ، فالخلق الأول في عالم الغيب قد انعقد بعدما حل ، فالحل هو الموت والعقد هو           الحياة ، فالحل الأول في ماء الوجود حين مزجه بأرض القابليات وهنا أمات الأحياء ، وأول العقد الأول في العقل ووسطه في الروح وآخره وتمامه في النفس عالم الذر الثالث أو الثاني أو الأول وهنا أحيى الموتى أول الحياة في مقام العقل على جهة البساطة والمعنوية وأول ظهورها في عالم التفصيل جامعة الشئون تامة الاقتضاءات والإضافات والقرانات في مقام الروح الرقيقة الحاجزة بين الإجمال والتفصيل ، وتمام ظهورها وكمالها مجتمعة المراتب حاوية المآرب في النفس ولذا خصوا التكليف في الخلق الأول بهذا المقام مع أن التكليف سار في كل ذرات الوجود بكل أنحائها وأنواعها ، ففي عالم النفس كمال الحياة الممكنة .

 

       ثم إن الله سبحانه كسر هذا المركب ونثر هذا المنظوم في الحل الثاني إرادة للخلق الثاني الذي هو خلق عالم الشهادة والأجسام مقام النقش والارتسام وكان هذا الكسر تحت الحجاب الأحمر عالم الطبيعة فهي أول الحل الثاني وتمامه في المادة الجسمانية جوهر الهباء ، فأمات الأحياء الذين كانوا ذوات الشعور والإدراك والمعرفة والبصيرة المكلفين الطائعين والعاصين بحيث قد اضمحلت إنيتهم واندكت جبلتهم وذهب شعورهم وإحساسهم فبقوا أمواتا فيحييهم الله سبحانه بل أحياهم في الخلق الثاني الذي هو العقد الثاني وهولايكون إلا في عالم الأجسام .

       فأشار الإمام عليه السلام في هذه الفقرات الموجزة تفصيل مراتب الوجود من بدء الإيجاد والانوجاد بتفاصيل أحوالها مجملة إلى تمام الخلق الأول وقد أشرنا إلى بعض منها في هذه الأوراق وقد أعرضنا عن أغلبها وأكثرها .

 

       ثم شرع عليه السلام في بيان كيفية الخلق الثاني أي عالم الأجسام لأن الخلق الأول والثاني عندنا إطلاقان ، قد نطلق ونريد بالخلق الأول عالم الغيب وبالخلق الثاني عالم الشهادة كما هنا ، وقد نطلق ونريد بالخلق الأول في مقام الحل في الماهية الأولى والهيولى الأولى قبل السعادة والشقاوة ولـزوم الحكم عليه ، وبالخلق الثاني العقد الثاني وحله في الماهية الثانية مقام امتياز هيكل التوحيد عن هيكل الكفر والشرك والصورة الإنسانية عن الصورة الإنسانية ، وأما هنا فلا نريد إلا الأول فقال عليه السلام (( أحمده حمدا سطع فارتفع وشعشع فلمع حمدا يتصاعد في السماء إرسالا ويذهب في الجو اعتدلا )) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

             قوله عليه السلام

 أحمده حمدا سطع فارتفع وشعشع فلمع

 

       أقول : ما من عالم من العوالم ومقام من المقامات من العلوية والسفلية والجوهرية والعرضية والحقيقية والمجازية إلا وهو مظهر اسم من الأسماء ومجلى صفة من الصفات ومهبط فيض من الفيوضات ومجلى تجلي من التجليات ومطرح إشراق من الإشراقات ، يحكي بما نقش فيه من الأوصاف والتوصيفات ظهورا من ظهورات خالق الأرضين والسموات قال الله سبحانه  في كتـابه العزيز { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }1‏ وقال عليه السلام في الزيارة الجامعة الصغيرة (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه ))2 ، وقال سبحانه وتعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ }3 .

 

       وقد قلنا أن الحمد هو صفة التجلي والبهاء الدال على جمال المتجلي وجلاله وعظمته وكبريائه من غير ملاحظة ظهوره بالمتجلي له ليشمل الصفات القدسية والأسماء التنزيهية ليكون مقام الحمد مقام الولاية المطلقة الحاملة لجميع الظهورات الإلهية بأنواع التوصيفات فإن الظهور ليس إلا للتوصيف ، والتوصيف أعم من الوحدانية والعظمة والكبرياء , والوحدانية أعم من الواحدية بل يشمل الأحدية وهي هيكل التوحيد المطلق لا من حيث هو هيكل ، فهو سبحانه في كل مقام من المقامات ظاهر بالحمد فيستحقه .

 

       وأما إذا لاحظت المقامات مترتبة فيلاحظ فيها ظهور الصفة وخفاؤها فيحكم عليها بما ظهر من تلك الصفة وإن خفيت فيها الصفات الأخر واشتملت عليها كما تقول في الأمزجة وتحكم بعضها بالصفراوية وبعضها بالدموية وبعضها بالبلغمية وبعضها بالسوداوية مع أن المـزاج لا يتحقق إلا

__________________

1 الإسراء 44                  2 البحار 100/189 ح 12 

3 الأعراف 180

بالمجموع ، ولذا تعددت الأوصاف بحسب الظهور بالمقامات فكانت الكلمات الأربع ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) جامعة لأركان الإسلام والإسلام هو الدين قال تعالى { الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }1 ‏والدين هو الماء الذي كان حاملا للعرش قبل خلق السموات والأرض قال تعالى { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء }2 ، فيكون الإسلام أعم من أن يكون تكوينيا أوتكليفيا تشريعيا فهذه الكلمات جامعة لمقامات المقامين ، فالتسبيح في حجاب العظمة والجبروت ، والتحميد في حجاب القدرة والملكوت إذ الولاية ظهرت في هذا المقام كما قال عليه السلام (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) مع أن الألف مقدم على الباء وهو متقوم به كما قرر في محله ، والتهليل في مقام حجاب الياقوت لظهور القهارية الماحية لكل متكبر ومقام خطاب الملك لله الواحد القهار إذ في مقام حجاب الملكوت ظهر ظاهر الولاية على بعض الإنيات المدبرة فقامت تدعوإلى نفسها مولية عن

__________________

1 الأعراف 19

2 هود 7

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ربها { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }1فقهرهم الله سبحانه وأحرقهم بنار الغضب فخلص التوحيد وظهر التهليل فقبل ذلك ما من مقام إلا مقام التسبيح والتحميد ، والتكبير في حجاب الكبرياء حجاب الزمردة الخضراء لمكان الظهور على القشور .

 

       فاختلفت الصفات في مقام تعدد المقامات على الترتيب مع أن الكل ظاهر في الكل ، وأما مولانا الإمام عليه السلام لما كان في مقام بيان الخلق  الثاني وإن كان هو العالم الجسماني فابتدأ بالحمد لبيان سر { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }‏2 وبيان ظهور الولاية بالتوحيد الذي هو البيان والمعاني في هذا المقام الذي هو الخلق الثاني ، وجعل كل عالم تام الصنعة ظاهر الحكمة وإليه ناظر كلام مولانا الصادق عليه السلام (( كمال التدبير وتمام الصنع )) ، ولذا نقول أن العالم الجسماني من حيث المجموع ما وجد في الزمان وإن كانت أجزاؤه وجدت فيه ، ولا يتحرك إلى جهة وإن كان من حيث ظهوره وتفصيله يتحرك وضعا على المحور وإنما يتحرك حركة الصدورية لا إلى جهة وحركة على القطب الذي هو وجه المبدأ بكل جهة بل بلا جهة ، فلو تحرك على المحور لم يكن كرة وإنما كان دائرة فلم يتمحض في الافتقار فافهم .

 

       لكنه عليه السلام أتى بالحمد بالجملة الفعلية سيما المضارعة لبيان أن هذا العالم الظاهر فيه الحمد زماني متغير متجدد متصرم سيال ، والمدد الذي هو الحمد وإن كان متجددا إلا أن تجدد الإمداد من بحر المداد لا يظهر إلا في هذا العالم الطري الاستعداد ، وهو وإن كان طريا مطلقا إلا أن ظهوره وتفصيله على كمال الاختلاف الظاهري لم يكن إلا في هذا العالم ولذا لم يأت في ذكر العالم الأول في الإختراع الأول بالجملة الفعلية وإنما أتى هناك بالاسمية لبيان أنه خلق ساكن لا يدرك بالسكون وبيان أنه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها بخلاف هذا العالم الثاني الجسماني فإنه زماني متجدد مختـلف والفعل يؤدي هذا المؤدى ،

_________________

1 الجاثية 23                  2 الملك 3

والمضارع إلى التجدد الإني والسيالية الزمانية ، ولك أن تجعل هذا المقام تفاصيل ما أجمل في الكلمات الأول فيكون هذا الحمد وما بعده تفصيلا وشرحا للحمد الأول ، ولذا أتى بالحمد في المقام الأول وحده وأتى به هنا مفصلا و وصفه بما وصف ليطابق التدوين التكوين ويوافق الظاهر الباطن والصورة الكينونة فإن في عالم الكينونة على جهة الإطلاق ما يوجد الشيء إلا مجملا ثم يفصل بمرتبة أخرى ، فالأحدية بالواحدية والواحدية بالألوهية والألوهية بالرحمانية والرحمانية بالملكية وهكذا ، والوجود بالعقل والعقل بالروح والروح بالنفس وهكذا ، والنطفة بالعلقة والعلقة بالمضغة والمضغة بالعظام والعظام باكتساء اللحم وهكذا ، والنقطة بالألف والألف بالباء والباء بالبسملة والبسملة بالحمد والحمد بالكتاب وهكذا ، فلو تأملت وأمعنت في النظر لرأيت كلام الحكيم الذي عرف الحيث والكيف والكم وأشهده الله خلق نفسه وخلق السموات والأرض على هذا الترتيب مطلقا سواء مع العالم أو الجاهل ، إلا أنه للجاهل يأتي بعبارة واضحة لو فصلتها وذيلتها رأيتها بعينها العبـارة التي للعالم فمـا تـرى في خلق الرحمن ومن تفاوت ، لكن { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }1‏ فأعطى كل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }‏2 فافهم هذه القاعدة المطردة .

 

       فعلى هذا يكون كلامه عليه السلام في هذا المقام تفاصيل تلك المجملات وبيان تلك المبهمات ومآل المعنيين اللذين ذكرنا إلى واحد ، فإن نقطة الإيجاد سرت في القوابل الكونية والعينية كلها على طور واحد ، وإنما أتى بصيغة المتكلم الواحد دون الذي معه غيره مع أنه أولى في مقام العظمة لأن الأولوية إنما تتحقق إذا كان الغير معه في صقع واحد في السلسلة العرضية ولا كذلك في هذا المقام بالنسبة إلى هذا المتكلم روحي فداه فإن الأغيار كلها عنده عدم بحت ولا شيء محض فهو وحده، كيف لا وهو ذات الذوات والذوات في الذوات من يد المتناول ، نعم قد يتنزل مع الغير بظهوره في رتبته

________________

1 طه 5                        2 طه 50

في مقام { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }1 ومقام { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ }‏2 ولكن مقام إنشاء هذه الخطبة ليس مقام التنزل إذ لا يشارك أحد معه في هذه الأحكام فيجب التوحد كالواقع .

 

       إن قلت : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام وسائر الأئمة عليهم السلام معه في رتبة واحدة فلو أتى بصيغة المتكلم معه غيره لكان أتم وأولى .

 

       قلت : إن الله سبحانه خلق محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في جلال القدرة فبقي يطوف حول ذلك الجلال ثمانين ألف سنة إلى أن وصل إلى جلال العظمة فخلق الله سبحانه هناك نور علي عليه السلام فبقي نور علي عليه السلام يطوف حول جلال القدرة ونور محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطـوف حول جلال العظمة وهو معنى قـولـه صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي حامله ))3 فعلي عليه السلام هو حامل اللواء وهو الظاهر بالولاية وهو الباء الذي ظهرت الموجودات كلها منه وبه بخلاف الألف الذي استضاء منه الباء كالضوء من الضوء ، ولا يأتي إلى الباء أمر وحكم إلا بالألف إلا أن التفاصيل وإعطاء كل ذي حق حقه ليس مفصلا في الألف كالباء ، فالباء هو المتوحد في هذا المقام أي في الظهور وإن كان غيره

__________________

1 الكهف 110              2 المؤمنون 33

3 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في الفضائل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت ثلاثا وعلي مشاركي فيها , وأعطي علي ثلاثة ولما شاركه فيها , فقيل : يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام , فقال : لواء الحمد لي وعلي حامله , والكوثر لي وعلي ساقيه , والجنة لي وعلي قاسمها , وأما الثلاث التي أعطيت عليا ولما شاركه فيها فإنه أعطي رسول الله صهرا ولما عط مثله , وأعطي زوجته فاطمة الزهراء ولماعط مثلها , وأعطي ولديه الحسن والحسين ولماعط مثلهما )) .

معه في المبدأ ، ولما كانت هذه الخطبة في مقام إظهار الولاية لابيان حقيقتها يختص حكمها به عليه السلام .

 

       وأما أولاده المنتجبون عليهم السلام فهو أمير المؤمنين عليه السلام والمؤمنون هم يميرهم العلم ، لأن مقامه الألف والنفس الرحماني في الكلمة ومقامهم الحروف ، فكل الامدادات الحرفية كلها تأتي من الألف كالألف بالنسبة إلى النقطة ، فلا يصلون أيضا مقامه فهو المتوحد روحي فداه في هذه الخطبة الشريفة وإن كان أولاده الطيبون عليهم السلام يشاركونه في هذا الحكم وشبهه إلا أنه به فيجب التنزل إلى مقامهم والمقام يأبى عن ذلك .

 

       وأما فاطمة عليها السلام فإن { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ }1، فهو عليه السلام المتفرد في هذا المقام .

 

       هذا كلام في مقام الفرق والتفصيل وأما في مقام الجمع فهم شيء واحد وحقيقة واحدة على الحقيقة سيما عند ظهور الولاية إذ في ذلك المقام لا فـرق بينهم عليهم السلام قال عليه السلام (( أولنا محمد وآخرنا محمد

_________________

1 النساء 34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وأوسطنا محمد وكلنا محمد ))1، وفي هذه الخطبة الشريفة (( أنا محمد ومحمد أنا )) فقولهم عليهم السلام واحد وعملهم واحد وحكمهم واحد ونورهم واحد وأمرهم واحد لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون قال عليه السلام (( وأشهد أن أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت وطهرت بعضها من بعض ))2 فافهم .

 

       وإنما أكد الفعل بالمصدر لأن المصدر هو أول ما اشتق عن الفعل وهو أول ظاهر ظهر عن الفعل فلا يظهر الفعل إلا بالمصدر وهو الأثـر الحاصل  منه ، فالمصدر له ثلاثة وجوه الوجه الأول الأعلى إلى الفعل من حيث المبدئية لا من حيث أنه فعل وفي هذا الوجه مثل للمبدأ وحاكي لتجليه له به فيظهر ويستنطق منه الحامد في هذا المثال، فالحامد هو مثال الشخص الظاهري في الحمد ، وإذا قلنا أن الحمد الذي لله رب العالمين هو الولاية التي لله الحق فإذا نسبته إلى الله سبحانه يكون مبدأ لكل الأسماء والصفات التي هي المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان فليس اسم يشذ عنه ، فيكون مظهر اسم الله المستجمع لكل الأسماء والصفات الكمالية إذ المشتقات كلها مادتها المصادر وصورتها ظهور الذات بتلك المصادر ، وقد شرحنا وبينا هذه المسألة في كثير من مباحثاتنا ، فاسم الفاعل حقيقة مركب من المصدر ومن ظهور الفعل ولذا ترى النحاة قد اجتمعوا على أن أسماء الفاعلين كلها مشتقة من الفعل وإن اختلفوا في الفعل بين قائل باشتقاقه من المصدر وقائل باشتقاق المصدر منه ، وأما اشتقاق اسم الفاعل من الفعل فيما لا خلاف فيه فيكون الفاعل مشتقا من الفعل ، ولما كان الاشتقاق فرعا وتابعا فيكون المشتق فرعا وتابعا للمشتق منه وليس هذه التابعية إلا الصدورية ، فالصادر الأول من الفعل وهو الحدث قبل التعلق بمتعلق بالنسبة إلى الفعل المبدأ هو الفاعل في مثال فعل والقائم في مثال قام وضارب في مثال ضرب وهكذا ، فالحامدية لا توجد ولا تظهر إلا في مقام الحمد بل الحامد عين الحمد الذي هو المصدر لكنـه من جهة اضمحلاله في نفسه وفنائه في بقاء مبدئه تسمى باسمه وتحلى

__________________

1 البحار 26/1                  2 الزيارة الجامعة الكبيرة

بحليته كالحديدة المحماة بالنار وبينهما بون بعيد قال عليه السلام (( لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن فيها هو وهو هو ونحن نحن )) وقوله عليه السلام (( هو فيها نحن )) لا يريد به الذات البحت سبحانه وتعالى ولا يريد ارتفاعه عن مقامه ووصوله إلى مقام أعلى فإن ذلك مستحيل عقلا ونقلا ، بل إنما يريد به صرف المصدر مع ملاحظة ظهور المبدأ فيه بنفس ذلك المصدر ولذا أكد الفعل بالمصدر لبيان أن الفعل لا يظهر إلا بالمصدر ، والظهور بالمصدر ليس إلا عين ظهور الفعل الـذي هو عين المصدر الذي هو عين الفعل للمصدر ، والفعل قبل التعلق لم يوجد وبعدما تعلق أظهر نفسه بذلك المتعلق فليس لمتساويه أوأعلى منه سبيل إلى ذلك الفعل إلا بنفس ذلك المصدر ، فلا تظهر الحامدية إلا بنفس الحمد الذي هو تأكيده كقولك حمدتُ حمدت ، فحمدت الذي عند الشخص لا يعرف إلا بمثاله وهو حمدت الذي في نفس الحمد كالصورة في المرآة ، وإنما كررت العبارة لتحظى بغامض الإشارة .

 

       وهنا دقيقة أخرى وهي أن علياعليه السلام ذكره في الذاكرين واسمه في الأسماء ونفسه في النفوس وأثره في الآثار فإذا قال إني أحمد الله فله معنيان .

 

       أحدهما : حمده له سبحانه بذاته وبكينونته الذي هو حمده حقيقة .

       وثانيهما : حمده له سبحانه بآثاره كما يقولون الحمد هو الثناء باللسان فإن هذا هو حمد بالأثر لا بالذات والكينونة .

 

       فحمده عليه السلام بذاته لله سبحانه وتعالى هو ظهور المصدر الذي ظهر الحق سبحانه فيه بفعله الكلي بنفس ذلك الفعل بنفس ذلك المصدر ، فإن ذاته الشريفة هي المحبة التي كانت علة لإيجاد الموجودات لقوله عز وجل     

 

 

 

 

 

 

(( فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف ))1، فذاته المقدسة هي ذلك العالم وتلك المحبة ، وهي أول صادر وأول ناطق له بالثناء ، وتلك المحبة الإلهية هي التي قامت بها كل الأشياء والأسماء ، فإن الأسماء ما ظهرت إلا عند تعلق تلك المحبة بالأشياء ، فالمحبة الكلية هي الثناء الكلي والمدح العلي والحمد الجلي لله سبحانه ، وهي كلمات الله التي { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }2 ، مع أن هذه الكلمة أعلاها وأسناها وأشرفها وأقدمها ، وأين الجزئي من الإحاطة بالكلي ، وتلك المحبة هي المصدر الأول ، فمحبة الله له ومحبته لله إنما كانت بـذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( لأعطين الراية غدا رجلا

___________________

1 البحار 87/99

2 لقمان 27

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار ))1، وهذا الحمد والثناء والمجد لم يلحقه أحد من الخلق إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت ))2 وهذا الحصر حقيقي ليس إضافي ، لأن عليا عليه السلام قد سبق الخلق كلهم وسبق أولاده الطاهرين عليهم السلام بحرف واحد في التوحيد والمعرفة لم يصل إليه أحد أبدا إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه قد سبق عليا عليه السلام بحرف واحد كذلك ، فتوحيده وحمده وثناؤه بكينونته بذاته قد فاق كل شيء وهو أقصى ما يمكن في عالم الإمكان .

 

       وكذلك حمده لله سبحانه بصفات ذاته  كما في عالم عقله الشريف وروحه ونفسه وطبيعته ومادته ومثاله وجسمه لأن علو الحمد وسمو مرتبته إنما يتصور في مقامين .

 

       أحدهما : أن يكون الحامد في مقام المنير وكل ما عداه في مقام النور .

       وثانيهما : خلوص حمده عن كل الشوائب الغيرية وجهات السوى ومرديات الهوى بحيث يكون كمالا صرفا في غاية مرتبة الاستقامة ، ولا يتأتى ذلك إلا له ولأخيه وزوجته وبنيه عليهم السلام لأنهم عليهم السلام المستقيمون في حقائقهم بأن جردوها ونزهوها عن كل ذكر سوى محبوبهم وسيدهم ، فمن شدة الصفاء والضياء والخلوص وعدم وجدان الإنية صاروا بحيث قولهم قول الله وحكمهم حكم الله ومعرفتهم معرفة الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله وجهلهم جهل الله وهكذا كل الأوصاف ، فصاروا في ذلك المقام مقام الله وآيته ودليله وعلامته إلى أن قال الحجة عجل الله فرجه

_______________

1 الكافي 8/351 ح 548

2 تأويل الآيات 145

 

 

 

(( لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك فتقها ورتقها بيدك ))1 .

 

       وهكذا الحكم في عقولهم ونفوسهم حتى صاروا في ذلك المقام هيكل التوحيد والمثل الأعلى والكلمة العليا إلى أجسامهم المطهرة حيث كانت منزهة عن كل نقص ووصمة وعيب من حيث الاعتدال الطبيعي والمزاج الجسمي والصفاء اللبي والنور الكيلوسي والكيموسي لم تدنسهم الكثافات وما خرجوا عن الاستقامة طرفة عين بل ولا أقل ولا أقل عن الأقل ، فهم في كل مقام وكل رتبة حمد الله وآيته ووصفه ودليله ، فروحهم من روح الله وطبيعتهم موافقة كينونة الله سبحانه وتعالى .

 

       وأما حمده العملي والقولي والجناني واللساني والأركاني التي كل منها لسان مستقل في الثناء على الله سبحانه فهو لايخفى على أحد ولا يحتاج إلى بيان ، فصار حمده وثناؤه وتوحيده لله عز وجل أمرا لا يلحقه أحد إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أقوى منه عليه السلام بكل المعاني وعدم اللحوق أيضا بكل المعاني فافهم .

 

       وهذا الذي ذكرنا هو نوع حمده لله سبحانه وتعالى بذاته على المراتب أعم من أن تكون الذات في مقابلة الصفة أوفي مقابلة الغير ليعم جميع ما يستند إليه بلا واسطة من الأحوال والمراتب والأعمال والأقوال وغيرها .

 

       وأما حمده عليه السلام بأثره وهو حقائق الأشياء كلها من أول الوجود إلى آخره إذ كلها خلقت من فاضل نوره من حيث هو نور الله ووصفه ، فصارت كل الكمالات والصفات الحسنة الظاهرة في عالم الخلق بالغة ما بلغت وكائنة ما كانت كلها من الأسماء والصفات وسائر الكمالات منه نشأت وعنه برزت وإليه عادت حين كونه باب الله للخلق ووجهه إليهم ووجههم إليه ، فهو يثني ويحمد الله سبحانه بما أظهر في الخلق من أثر حمده ونـور تجليه وظهوره ، فإذا قـال عليه السلام( أحمده ) يريد به الحمد الأول

____________________

1 دعاء رجب لمولانا الحجة عجل الله فرجه

الذي يحمد الله سبحانه في ذاته ، وإذا أكد بالمصدر الذي هو ( حمدا ) يريد به الحمد لله الذي ظهر في خلقه فإن ما في الخلق ليس هو نفس الفعل وإنما هو نفس الحدث الذي هو المصدر إلا أنه مثال المتجلى له به ، فصار كل ما في الخلق من الكمالات وأنواع الثناء مجد وثناء لعلي عليه السلام ، بل نفس الخلق بمادته وصورته ثناء منه على الله جل ثناؤه ، ألم تر إلى السراج فإنه نفس ثناء النار على النار وثناء نفسه على النار والأشعة ليست إلا ثناء السراج على النار على جميع مراتب الأشعة بكل أحوالها وأوضاعها ، وستعرف إنشاء الله تعالى حقيقة هذا القول .

 

       فإتيانه بالمصدر لبيان الحمد الثاني له فإن المصدر تأكيد تابع وهو ظهور من ظهورات الفعل لا عين ذات الفعل وإلا لم يكن تابعا إذ الشيء لا يتبع نفسه ، فحمد المصدر يشير إلى هذه الدقيقة الشريفة فافهم .

 

       وإنما نسب الحمد إلى نفسه في هذا المقام دون المقام الأول فإنه عليه السلام أثبت الحمد لله من غير الاستناد إلى أحد لما ذكرنا من أن المقام الأول مقام الإجمال فيطوي في ذلك المقام الوسائط ويجري الكلام على ما هو الأعم في النظر، وأما هذا المقام الثاني فهو مقام التفصيل، وفي هذا المقام ينظر إلى الوسائط لا نظر الاستقلال بل نظر المعرفة إثباتا للعظمة وتنبيها للقدرة ، وفي المقام الأول جعل الفعل مصدرا ليكون الفعل عين المصدر والمصدر عين الفعل لا مطلق المصدر بل الذي هو عين الفعل إذا جعلت الفعل حدثا وأثرا فله محدث ومؤثر ، فالحمد الأول هو حقيقة أحمد والحمد الثاني صفة تلك الحقيقة وظهورها ، والمصدر في الثاني صفة الصفة لتتم بسم الله الرحمن الرحيم فـافهم .

 

       والوجه الآخر للإتيان بالمصدر للتأكيد لإثبات الصفة له من حيث هو فإن المصادر على ما قلنا لها ثلاث حالات .

 

       الحالة الأولى : هو ما ذكرنا من أنها أسماء الفاعلين عند ملاحظة تجلي الذات بفعلها فيها .

       والحالة الثانية : ملاحظة أنها آثار صدرت من حيث أنها آثار فهناك تقع عليها الصفات وتجري عليها الأحكام فالمفعول المطلق هو في هذا     المقام ، فالمصدر المفعول المطلـق هو ركن للأسماء ومعان لها ، كالقيام ركن للـقائم ومعنى له ، والضرب ركن للضارب ومعني له وكذا غيرها من أشباهها ، فالمعنى من حيث هو معنى له حكم غير حكم الاسم وهو ظاهر .

 

       والحالة الثالثة : ملاحظة ارتباط هذا المصدر المفعول المطلق بأمر آخر غير جهة الفاعل وهو المفعول به كالمضروب مثلا ، ولذا ترى النحاة يقولون أن المصدر قد يأتي على معنى اسم الأفعال وقد يأتي على معنى اسم المفعول ، ففي الحمد أربعة أمور الحامد والمحمود والمحمود عليه والمحمودية ، والحمد مصدر مادة لهذه الأربعة وهو شيء واحد ، ولا شك أن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون له أصقاع متعددة وإلا لم يكن واحدا وتجاوز الشيء عن مبدئه مستحيل عقلا ونقلا ، فإذا كان كذلك فالحمد إذا اعتبرت فيه جهة المبدأ الذي هو الفعل يتحقق الحامد ، فالحامد اسم معناه الحمد وهو مركب منه ومن ظهور المبدأ فيه به ، وإذا اعتبرت فيه جهة التعلق أي تعلق أثـر فعل الحامد به أولا فيكون محمودا فإن أول ما يتعلق به فعل الفاعل الحامد ليس إلا الحمد ، والحمد المتعلق بغيره إن لوحظ جهة الغير لم يكن للحمد أثر ، إذ ذكر الشيء في الآخر لا يكون إلا إذا كان ذلك الآخر عن مرآة لا تلتفت إليها أصلا ، فإن المظهر لا يحكي الظاهر إلا إذا تمحض في المظهرية ولا يتمحض فيها إلا إذا لم تر له جهة غير جهة الظاهر ليستدل به عليه وإلا لكان محتجبا عنه أما تقرأ  قول علي بن الحسين عليه السلام (( وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الآمال دونك ))1وقول مولانا علي عليه السلام (( بل تجلى لها بها وبها امتنع عنها وإليها حاكمها ))2 إذ الشيء الواحد في حال واحد لا يحكي أمرين متناقضين ، ولذا إذا نظرت في زيد من حيث هو هو احتـجبت عن معرفـة الإنسان ، وإذا نظرت إليه من حيث هو إنسان

_______________

1 دعاء أبي حمزة الثمالي

2 شرح النهج 13/44

اعتبرت الجهة الإنسانية فما عرفت إنسانية زيد إلا بالحصة الإنسانية التي فيه فعرفت الشيء به فافهم هذا الكلام المردد بالفهم المسدد .

 

       فإذا قلت المحمود فإن لاحظت فيه جهة غير جهة الحمد فقد احتجب عن الحمد فلم يكن محمودا ، وإن لاحظته من حيث ظهور الحمد فيه به فليس ذلك إلا الحمد ، فإن المحمود هو الذي تقع عليه الصفة ووقوع الصفة ليس عين الموصوف ولا الصفة الذاتية له وإلا استحال الوقوع ، والمحمود ليس إلا الظاهر بالصفة والمقصود بالحمد وهو ليس إلا ما ظهر لك عندك ، فافهم فإنه دقيق فإن بيناه بواضح البيان لارتاب المبطلون وأنكر المعاندون .

 

       وكذا القول في المحمود عليه والمحمود به ، ومجمل القول في هذا وأشباهه هوما ذكرت لك أن الشيء إذا فرض مجردا عن غيره إن ثبت واستقر لا يكون عين ذلك الغير وإن انتسب إليه إلا أن الانتساب ليس ذاتيا وإلا امتنع ملاحظة الانفكاك ، فإذا صح ذلك فنقول هذا الحمد مادة للحامد والمحمود عليه وبه أم لا ؟ والثاني باطل بحكم العيان ، إلا أن تقول أن إطلاق الحمد على هذه المواد والهيئات على الاشتراك اللفظي ولم يقل به أحد ، فإذا صح المعنوي فالحمد المأخوذ في تلك الهيئات بعد صحة المغايرة وكونه حدثا مصدرا لا يجوز أن يتصل بذات الحامد والمحمود عليه وبه وإلا لتغيرت الذات بحدوث أثرها وتنفعل بفعلها وهو باطل بالبديهة ، فيجب أن يكون الحمد شيئا واحدا اختلف بحسب الانتساب في مكانه وكينونته ، فهو شيء واحد مختلف الجهات والاعتبارات والحيثيات ، ومثال ما ذكرنا أشعة الشمس بالنسبة إلى الشمس والأرض ، والنار في الحديدة بالنسبة إلى النار الأصلية والحديدة ، والصورة في المرآة بالنسبة إلى المرآة والمقابل فافهم التصريح في التلويح , ولولا خوفي أن تقول بهذا تنخرم القواعد ولم يقل به علماؤنا فيكون باطلا لشرحت هذه المعاني وأريتك أن أحاديث أهل البيت عليهم السلام مشحونة بذلك ، وكلمات أهل النحو والصرف كلها جارية على هذا إلا أنهم كما قال الشاعر :

 

         قد يطرب القمري أسماعنا     ونحــن لا نعــرف ألحانه

       وعلى هذا يظهر لك سر التأكيد بالمصدر الذي هو  الحمد .

 

       وأما وصفه بالسطوع والارتفاع والتشعشع واللمعان فلأن الحمد هو إظهار الصفة الكمالية الإلهية بالصفة الكمالية لا بغيرها إلا أن يكون ذلك الغير كالأرض الحاملة لشعاع الشمس أو كالزجاجة الحاملة للمرآة ، ولا شك أن الصفة الكمالية الجمالية والجلالية متكثرة والكل تحت هيمنة الاسم الواحد ، وهو تحت هيمنة الهوية القاهرة لكل الأسماء والصفات والإضافات والقرانات ، وتلك الهوية ظهور الأحدية فهي مرتفعة عن كل الكثرات والتعلقات الأسمائية والصفاتية ، ولا شك أن الكمال كلما كان خالصا عن شوب التعلقات والكثرات كان أعظم وأكمل لأنه حينئذ يغيب في ظهور الذات فيظهر بالهيمنة والسطوع في كل شيء ، وكلما كان بالتعلق أقرب كان من جهة الإطلاق أبعد حتى يكاد يخفى عن الظهور فيظهر في المتعلق ، فإن كان الحامد يحمده في مقام تلك الهوية الجامعة والكمال المطلق ، ويحمد الله سبحانه ويثني عليه في تلك الرتبة حمد الله لنفسه به يكون ذلك الحمد نوره ساطعا مرتفعا عن كل الشوائب والكثرات التي هي عين النقصان ولواحق الإمكان ، فالوصف البالغ هو الوصف المرتفع عن ذكر كل ما عدا الموصوف الكامل ، فالأسماء التعلقية وإن كانت مرتفعة ودالة على الكمال إلا أنه ليس ارتفاعا تاما بحيث لا يدل إلا على الواحد الأحد سبحانه وتعالى .

 

       ولما كان مولانا علي أمير المؤمنين عليه السلام في حمد ذاته بذاته واقفا في ذلك المقام وهو نور صرف وكمال بحت مرتفع عن الخيال والأوهام خالص عن شوب الكثرات والظلام ، فيكون حمده حمدا أي ثناء على كمال مهيمن على كل الكمالات مرتفع عن كل التعلقات ، أو مرتفع على كل حمد على سائر الكمالات ، إذ مراتب الحمد تختلف فحمد على كل الكمالات الخاصة كالقادر العالم القاهر الجميل الجليل الغفار الستار وأمثالها مما نجد في الأدعية والآثار من الصفات الخاصة والأسماء المتعلقة ، وحمد على الكمال الجامع والاسم المطلق جزئيا كان أم كليا كالرحمن والله وهذان الاسمان وإن كانا أعظم الأسماء حسب الإحاطة إضافيا إلا أنهما ما خلصا عن شوب التعلق الذي فيه ذكر للغير ، وحمد على الهوية وهي الظهور المطلق المسمى باسم هو وهذا الاسم وإن كان أعظم فأعظم وأعظم خالصا عن شوب التعلق لكنه ليس خالصا عن ذكر المتعلق الذي فيه ذكر ذكر الغير ، وحمد على الظاهر بالظهور الذي هو عين الظهور من غير ملاحظة الظهور ليكون الحمد عين الحامد وهذا الحمد هو أعلى مراتب الحمد وأقصى مقاماته لأنه بالغ في الثناء على فوق طاقة الإمكان، فهذا الحمد ساطع أي ظاهر في عين خفائه ومرتفع على كل حمد وأعلى عن كل مقام إذ فيه من توصيف الخالق ما لا يطيقه أحد من الخلائق، هذا إذا كان سطع بمعنى ارتفع .

 

       وذكر سطع إما للتأكيد أوللتجريد كما في قوله تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً }1فإن الإسراء هو السير في الليل ، وإن قلت أن التأسيس خير من التأكيد تتعدى الارتفاع بعن فيفيد المعنى الأول بقوله عليه السلام      (( سطع )) ويفيد أيضا تنزه هذا الحمد عن كل شوب تعلق وكثرة كما هو مقام الأحدية التي هي فوق مقامات الموحدين وفوق مقامات التوحيد .

 

       ولك أن تجعل الحمد على الكمال المطلق جزئيا كان أم كليا خاصا كان أم عاما ، بل تقصد كل الكمالات على أنحائها متعلقها أم غير متعلقها وتخص الحمد بالحضرة العلوية روحي فداه ، فيكون حمده مطلقا بالنسبة إلى حمد من دونه من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والشهداء والصديقين والمؤمنين الممتحنين بل الخلق كلهم أجمعون ما عدا محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم ساطعا مرتفعا على المعنيين .

 

       أو تقول أن الحامدين مقاماتهم مختلفة فمن حامد باللسان وحده يقول الحمد لله والشكر لله بلسانه ، وقلبه ملته بالهوى وجوارحه مشتغلة بالدنيا وسره غافل عن ذكر الله ، وهذا حمده وبال عليه وقوله نكال عليه نعوذ بالله من ذلك .

_________________

1 الإسراء 1

             ومن حامد يحمد الله سبحانه بلسانه ويستشعر بقلبه حين قوله لكنه ينكر ذلك بعمله ، فإن عمل المعصية إظهار ولاية الأعداء والإعراض عن الله سبحانه ، وهذا الرجل أحسن حالا من الأول ويرجى له الخير إن كان من أهل الولاية ولا يعصي متهاونا متكبرا جحودا .

 

       ومن حامد يحمد الله سبحانه بلسانه ويستشعر ذلك بقلبه ويعمل على مقتضاه بظاهر عمله في الجوارح إلا أنه ليس مطمئن القلب بارد الفؤاد ، له قلب مضطرب وفؤاد مشوش يدور يمينا وشمالا ، بظاهر أعماله مطيع وبباطنها عاص لاضطراب القلب وتبلبل البال .

 

       ومن حامد يحمد الله سبحانه بلسانه وقلبه وعمله بظاهره وباطنه إلا أنه قد يحصل له بعض الخواطر فينقص ذلك في مقام حمده .

 

       ومن حامد يحمد الله بجميع ما ذكر إلا أن سره غير مصون ودره غير مكنون .

 

       ومن حامد يحمد الله سبحانه بلسانه وقلبه وأركانه وأعماله الظاهرة والباطنة والسرية ويحفظ فؤاده عن ذكر الغير ويكون بحيث لا يسمع إلا صوته ولا يرى نورا إلا نوره ولا يخطر في قلبه إلا حبه وذكره ، فأولئك هم الأولياء والسعداء الفائزون بالدرجات العلا ، وهذا الحمد هو حمد سطع نوره وارتفع على كل حمد الحامدين المذكورين والغير المذكورين ، أوارتفع وتنزه عن حمدهم لأن حمدهم ما كان خالصا لله سبحانه بل كان مشوبا بالظلمات على حسب المقامات .

        ولكـل رأيت منهم مقامــا      شرحه في الكتاب مما يطول

 

       وأما هؤلاء الحامدين فمراتبهم كثيرة ومقاماتهم عديدة حسب ملاحظة التجليات وسلب الإنيـات ومشاهدة جمال خالق الأرضين والسموات ، إلا أن عليا عليه السلام وأخاه وزوجته وبنيه عليهم السلام بلغوا

مقاما في الحمد لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق ولا يفوقهم فائق ولا يطمع في إدراكهم طامع من أول الوجود إلى آخره .

 

       أو يكون المعنى في مقام التنزل أوفي مقام الاضمحلال دعاء وطلب لتلك الرتبة أي يجعل الله سبحانه حمده من ذلك الحمد الساطع نوره والمرتفع عن النقائص وشوائب الإمكان وجهات الإنية وأمثلة ذلك في الأدعية كثيرة .

 

       وأما وصف الحمد بالتشعشع واللمعان فاعلم أن شعاع الشمس في أول ظهورها يرى كالقضبان ويقال له التشعشع ، وأما في هذا المقام فإن الشخص إذا أراد أن يحمد الله سبحانه بالحمد الكامل المرتفع عن كل شوب السوى الذي هوالنور الإلهي وشمس الظهور الأزلي الأبدي ليكون هو نفس الحامد ليتحد مع حمده ويكون حمد الله عز وجل ينظر أولا في عالم التحديد إلى ذلك النور فظهر له من ذلك بقدر سم الإبرة من شعاع ذلك النور ، وإن شئت قلت تلك الشمس وإن شئت قلت ذلك الحمد وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا فيتشعشع ذلك الشعاع ، فإذا استدام النظر وقوي البصر يقوى ظهور النور المشرق من صبح الأزل فيلمع بحيث يغشى الناظر ويحيط بكله في جميع جهاته الست من فوقه ومن تحته وقدامه وخلفه حتى لا ينظر إلى جهة إلا ويرى ذلك النور لامعا في تلك الجهة لا إلى جهة فتستوي الجهات وتتحد الأصقاع ويظهر له جلال العظمة ، فيحمد الله في سره وعلانيته , علانيته في سره وسره في علانيته ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره فلا يتوجه إلى جهة إلا ويرى الله ظاهرا في تلك الجهة { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }1‏ فكان أول ظهوره نورا شعشعانيا لعدم الظهور بالكلية والتمام بل كان في أول مقام خرق حجاب اللانهاية وأول صعوده إلى عالم الحمد اللانهاية فتحصل الخطوط الشعاعية من مزج العالمين والتقاء البحرين ، ثم إذا انخرق الحجاب وفتح ذلك الباب التمع النور وأشرق بحيث أضاء الفضاء وملأ ما بين الأرض والسماء وظهر سر لا إله إلا الله ، فالحمد نقطة من عالم

____________________

1 البقرة 115

اللانهاية قد نظرت إلى عالم النهايات بتعليق الأرجاء فظهرت في كل مقام بنسبته وأعطت كل ذي حق حقه ، وهذه الأنظار والوجوه كلها التفاتات ورؤوس منه قد لحقته بالعرض ، وأما هو من حيث الحقيقة فليس إلا تلك النقطة الغير المنقسمة والغير المتعلقة ، وتلك النقطة ظهرت بالألف وهو مقام حقيقة مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام فالحمد هو النقطة والألف لواؤه فكان علي عليه السلام هو حامل لواء الحمد ، فحمد علي عليه السلام في مقام المسمى نور تشعشع وفي مقام (( أنا الذي لا يقع عليه اسم ولا صفة ظاهري ولاية وباطني غيب لا يدرك )) نور لمع , ولما كان عليه السلام في مقام التعلق بإعطاء كل ذي حق حقه عند إنشاء الخطبة الشريفة بين المدينة والكوفة ناسب تقديم التشعشع على اللمعان ولذا أتى بالفاء التعقيبية فصارت الفقرات مترتبة .

 

       فقوله عليه السلام (( سطع )) أي علا وارتفع على الإطلاق وهذا يقتضي أن يكون مرتفعا عن الأوهام والأفهام وعن حمد كل حامد في كل مقام ، فأتى بفاء التفريع فعقبه بقوله عليه السلام (( فارتفع )) ولما كان هذا الحمد أي النور في بدو ظهوره لأهل عالم النهاية في حجاب رقيق يقتضي التشعشع فذكره بعد الارتفاع من غير الفاء لأن ذلك حال ظهور ذلك النور لا متفرع عليه ، نعم اللمعان متفرع عليه فعقبه به بالفاء .

 

       هذا الذي ذكرنا هو أعلى مقامات الحمد وهذا المعنى يريده عليه السلام من هذا الكلام .

 

        وأما كيفية ظهور حمده في كل ذرات الوجود ، وسريان ذلك النور في كل مفقود ومشهود ، وبيان أن كينونات الأشياء وذوات الموجودات حمده عليه السلام لله عز وجل وثناؤه عليه ، وأن الوجودات الشرعية والتكليفات الإلهية الكونية كلها تأسيس لثنائه على الله عز وجل ، وكون الحمد في كل ذرات الوجود نور سطع فارتفع وشعشع فلمع مما يطول بذكره الكلام ، مع أن بيان أكثرها تستنطق الطبائع المنكرة والغرائز المنتنة بنتن الجهل والإنكار إلا أن فيما ذكرنا كفاية لأهل الدراية ويأتي الكلام إنشاء الله في أثناء الشرح .

قوله عليه السلام

حمدا يتصاعد في السماء إرسالا

 

       أقول : أهل الحقيقة يعرفون من هذه الفقرة تفريعا على الفقرة الأولى ويقصدون من السماء سماء المتجلي الظاهر بالتجلي الذي هو الحمد , ومن التصاعد التصاعد في مقام أعلى من مقام أدنى من مقامات التجلي إثباتا لقوله عز وجل في الحديث القدسي (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))1فإن الواصلين إلى مقام الحمد أعلى مقامات الظهور على ما وصفت لك لا يزالون في السير والانتباه كلما ظهر لهم الجبار في الصحو والمحو يظهر لهم مقام أعلى من المقام الأول فيصعدون إلى جانب تلك السماء ولا غاية لصعودهم وتجدد ظهور التجلي لهم ولا غاية للسماء أيضا فلا يصلون ودائما يصعدون وفي الدعاء (( تدلج بين يدي المدلج من خلقك ))2 فهم في هذا المقام في أعلى مقامات جنة الرضوان في صحو دائم ومحو قائم ظهور بعد ظهور ونور بعد نور وإشراق بعد إشراق وتجلي بعد تجلي ، وفي كل صعود يظهر لهم مقام في التوحيد الحمد لم يكن عندهم قبل ذلك بحيث يجدونه الشرك الجلي لا الخفي ، ولذا كرر الحمد المصدر مرة  أخرى بعد توصيفه أولا بالسطوع والارتفاع والتشعشع واللمعان فإن الأول بيان إثبات هذا الحمد وتحققه والثاني تجدد ظهوراته وبروزاته فيما لا نهاية له وهو من السر في الإتيان بالجملة الفعلية ، وإليه يشير قوله عليه السلام        (( إرسالا )) أي أفواجا وفرقا متقطعة يتبع بعضها بعضا بلا انقطاع ، إذ الانقطاع إنما يتصور عند النظر إلى الحدود والإنية وكلها قد ارتفعت واضمحلت بل وفنيت وعدمت ، فهناك انتباه لا سنة بعده ولا نوم فضلا عن الموت ، فهو إذاً مقابل لفوارة النور من غير مانع ولا نهاية لفوران تلك الفوارة ولا غاية لمقابلته ، فحمد يتصاعد في سماء التجلي بالتجلي إرسالا أفواجا يتبع

_________________

1 إرشاد القلوب 199

2 مفتاح الفلاح 293

بعضها بعضا وهو قوله عز وجل { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ }‏ أي قول لا إله إلا الله { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }‏1 والعمل الصالح هو الخالص عن شوب السوى ودعوى إني أنا الله ، ولا يكون ذلك إلا بوصوله مقام الحمد وتحميد الله سبحانه بلسان المجد فهو سبب لرفع الحمد وتصاعده في السماء إرسالا أفواجا ، ومثال هذه الفقرة بالنسبة إلى الفقرة الأولى زيادة السقي للمركب بعد إتمامه إكسيرا ثم سقية لزيادة الفعل ، وكلما يزداد سقيا يزداد بهاء وفعلا إلى أن يبلغ القيراط في الطرح إلى القنطار ، فلا يقصر الحكيم إن كان له ماء زائد ولم تقصر  قابلية المركب أيضا للقبول لصفائه من الأعراض والغرائب المانعة .

_________________

1 فاطر 10

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

            قوله عليه السلام

ويذهب في الجو اعتدالا

 

       يريد بالجو هو الجو المفتوق في قوله عليه السلام (( فتق الأجواء )) والسموات إنما فتقت منه على جميع المعاني المتقدمة على النهج المقرر المذكور فراجع ، والاعتدال هو إلاستقامة واستقامة كل شيء في كل مرتبة بحسبها وهي صفة الحمد بل عين ماهيته ، وإنما أتى عليه السلام بوصف الاستقامة فإن حمد الحامدين على أنحاء قد ذكرنا بعضا منها من الأقوال والأفعال والأحوال والأطوار والأوطار والمعتقدات والسرائر والضمائر من الشرعيات الوجودية والوجودات الشرعية ، وتختلف فيها جهات الاستقامة في كل مقام        بنسبته ، والواقف على مقام الاستقامة على الحقيقة الواقعية هو الحامد حقيقة وهو الذي قد أُمر بها في قوله تعالى { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }1وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( شيبتني هذه الآية )) فإن هذه الاستقامة هي لواء الحمد الذي له سبعون ألف شقة .

 

       ومجمل القول أن الحمد له مقام ما وصل إليه على الحقيقة الأصلية بالأصالة إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيتـه الطاهرين عليهم السلام ، وكلما عداهم فما وصلوا إلا إلى عالم المجاز إلا أن يكون قد انقطعت أنفسهم فوقفوا وثبتوا في مقام المجاز لمشابهتهم مع الحقيقة لتصحيح العلاقة المجازية وهو قول أمير المؤمنين عليـه السلام لمن يفهم في وصف الملأ الأعلى (( صور عارية عن المواد عالية عن القوة والاستعداد تجلى لها فأشرقت وطالعها فتلألأت وألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله ، وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكاها بالعلم ( والعمل ) فقد شابهت جواهر أوائل عللها ،

______________________

1 هود 1

 

وإذا اعتـدل مزاجها وفـارقت الأضـداد فقد شارك بهـا السبـع الـشداد ))1والسبع الشداد هي ظاهر السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهم أوائل جواهر العلل ، ومشاهدتك إياهم وصولك إلى الورقة الخاصة بك من شجرتهم التي غرسوها في جنان الصاقورة ، فإن وصلت إلى مقام تلك الورقة فأنت حينئذ مجاز مشابه للحقيقة ، فأنت إذاً مثل المثل ويكفيك في هذا المقام ما قال الله سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }2 ، فالحمد يخص بالله سبحانه

__________________

1 المناقب 2/49

2 الصافات 180 _ 182

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أي الظاهر بالألوهية وهو رب العـزة والسبحان ، فالحمد الحقيقي هو مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }1وهذا ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الحمد الحقي فهو الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )) وثناء الله على نفسه هو مقام فوق مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ‏، وهو مقام أوأدنى وفوق مقام الهوية المطلقة لا الظاهرة ، فهم من فهم .‏

___________________

1 الفاتحة 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام

خلق السموات بلا دعائم وأقامها بغير قوائم وزينها                           بالكواكب المضيئات ، وحبس في الجو سحائب مكفهرات

 

       أقول : لما فصل عليه السلام الحمد المعنون في أول الكلام مجملا مطلقا بما فصل ووصفه بما وصف وأبان عن مقامه وحقيقته وماهيته ومائيته ومراتبه ودرجاته وصافيه وكدره بما شرح وأوضح أراد أن يفصل فتق الأجواء المأتي به بعد الحمد لله ، وإنه عليه السلام لما فرغ من الثناء على الله عز وجل بظهوره وسطوع نوره على ما يقتضي المقام في الخلق الثاني أراد أن يبين تفاصيل مبادئ هذا الخلق وربط علله بمعلولاته وأسبابه بمسبباته ليظهر بذلك عظمة الله سبحانه المستغرقة لكل شيء المحيطة بكل شيء ، وأن الأكوان والأعيان والأزمان وما أحاط بها من الممكن والإمكان متحركة إليه دائمة الحركة مستديرة السير بحيث لا بقاء لها إلا حين صدورها ، ووجودها عين صدورها وصدورها عين وجودها ، فلم تزل صادرة طرية إلى ما لا نهاية فيفنى الخلق عند بقاء الخالق وينفخ في الصور ليوم النشور وينادي المنادي { لِّمَنِ الْمُلْكُ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْيَوْمَ }‏ ويجيب المجيب { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }‏1 بحيث يسمعه الآن من له أذنان ويعرفه ويراه من له عينان .

 

       فقال عليه السلام (( خلق السموات )) والمراد بخلق أعلم من أراد وقدر وقضى وأمضى فإن هذه الكلمات منها افتراق عند الاجتماع كما إذا قيل خلق أو شاء وأراد فقدر وقضى وأمضى وعند الافتراق اجتماع كما          هنا ، والدليل على المراد بخلق أعم بعد العقل بأن الشيء لا يمكن كونه إلا بهذه الأمور الأربعة أوالخمسة أو السبعة ، من النقل ما رواه في الكافي عن مولانا الصادق عليه السلام (( لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وأجل وكتاب، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر ))2 ، وفي رواية عن الكاظم عليـه السلام هذه السبعة بتقديم وتأخير في الجملة إلا أنه فقد أشرك3 ، وقد قـال الله عز وجل { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ }4 .

 

       وبالجملة فالله عز وجل خلق السموات بموادها وبرء كينوناتها وقدر هيئاتها وصفاتها وأعراضها وأعراض أعراضها ومقادير أشعتها ومدة بقائها ودوامها واستمرارها وفعلها ومقدار حركاتها وتقلب أوضاعها وحدودها من كمها من المقادير النورية والأجسام التعليمية ، وكيفها من الهيئات والألوان والصفات والحالات والاستدارت والمتممات والجوزهرات والممثلات وخوارج المراكز ، ووقتها من الأزمان والمدد النورية الفلكية الذاتية لا المنتزعة من الحركة فإن تلك تعريفات لا أوقات حقيقية ، وجهتها في الجهات الست __________________

1 غافر 16             2 الكافي 1/149 ح 1

3 وهي قوله عليه السلام (( لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بسبع بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله أورد على الله )) الكافي 1/149/2 .

4 الانفطار 7 _ 8

من الجهات الست الحاصلة من الحركة على المحور أولا إلى جهة إذا كانت الاستدارة على القطب ، ورتبتها ونسبتها إلى مبدئها ومنتهاها ونفسها وظهورها في مقامها وإذنها وأجلها وكتابها وسائر قراناتها وإضافاتها ونسبها وأحوالها وأفعالها ، وضبط مقادير حركاتها التسخيرية والتقديرية والممثلية والخارجية والحركات التقويمية ، والحركات المستقيمة والمقيمة والراجعة وأمثالها من الأحوال والأطوار والأوطار مما يجري عن فوارة القدر بحكم مستقر ، وقضى ما قدر وألزم ما فصل وركب ما فرق وفصل ما أجمل وأظهر          ما ذكر ، وربط المعلولات بالعلل والأسباب بالمسببات ، واستنطق عجم الأكوان بفصيح البيان ، وأفاض على المسئول مأموله وبلغ الطالب      مطلوبه ، ثم أمضى ما قضى وأذن له بالإظهار مشروح العلل مبين الأسباب ، فأظهر منها آثار التوحيد والعظمة والجلال والجمال والعزة والقدرة والكمال كما قال سبحانه إبانة عن هذا الشرح بقوله الحق { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }1فأبان عن العلة الفاعلية بقوله عز وجـل { رَبَّنَا } وعن العلة المادية والصورية بقوله تعالى { مَا خَلَقْتَ هَذا } وعن العلة الغائية بقوله { بَاطِلاً } وعن الحركتين الساريتين في الحركات السماوية اللتين بهما تذوت كل متحرك وساكن وتوصلان الخلائق إلى مقاماتها ومراتبها التي خلقت لها وأتت منها وتعود إليها كما قال عز وجل  { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }2 بقوله الحق { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، فأشار إلى أسباب الوقاية وهي نون الوقاية أوهاءها التي هي عين نونها من الأحكام التشريعية والوقايات التكوينية بالتضمن ، وهذا معنى قولنا مشروح العلل مبين الأسباب إذ كل مقامات العارفين ودرجات الموحدين ومراتب المتكلمين وسائـر العلماء من الروحانيين والجسمانيين كلها مطوية في مضمون الآيـة

_________________

1 آل عمران 190 _ 191                 2 الأعراف 29

 

الشريفة ، قال مولانا سيد الشهداء عليه السلام إشارة إلى هذا الشرح والبيان بقوله عليه السلام (( إلهي أمرتني بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار ، حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر من النظر إليها ومرفوع الهمة من الاعتماد عليها إنك على كل شيء قدير ))1 فالخلق دليل الخالق والخلائق والمبادئ الواسطة ، والحركات الكونية الصدورية والإصدارية والوجودية والعروضية والتكليفية الشرعية الباطنية والتكليفية الشرعية الكونية الظاهرية وأمثالها من الأحوال وسنذكر في خلال الكلام على حسب المقام بعون الله الملك العلام .

 

       فقوله عليه السلام (( خلق السموات )) يريد به هذه المراتب كلها من لفظ خلق الحاكي لمعناه الحامل له ، فالخلق متعلق المشيئة وهو المصدر وهو الكون الصادر عن كاف كن وهو الذي إذا لاحظت المبدأ فيه يستنطق منه الهاء وهو كهيعص ، والعين والتسوية متعلق الإرادة وهي العزيمة على ما يـشاء ، وعندما يتم الخلق الأول الجامع بين الحل الأول والعقد الأول وهو مقام ( أدعوك كما أمرتني ) وتحقق المسألة للسائلين الواقفين ببابه الفقراء اللائذين بجنابه من فاضل جوده بيده اليمنى واليسرى وكلتا يديه يمين ، والهندسة والحدود وتقدير البقاء والفناء والأجل والكتاب متعلق القدر وهنا مبدأ الخلق الثاني وهو الحل الثاني مبدأ السعادة والشقاوة وظهور الأحكام الشخصية التفصيلية ، والإلزام والتركيب متعلق القضاء وهو تمام العقد الثاني وهذا الذي لا بداء فيه أي في كون الشيء تاما سويا وإن كان فيه البداء في محوه وتغييره واستمراره ، والإظهار مشروح العلل مبين الأسباب ليظهر جميع الآثار الفعلية الإلهية مفصلة مشروحة متعلق الإمضاء وهو إلاذن ، وإن كان شيء من الأحوال المتقدمة لا يخلو من الإذن إلا أن هذا آخر تمام الشيء وإن كان في أطواره وأوطاره لا يخلـو من الإذن إلى ما لا نهاية له وكذلك الكتاب ، فخلق كف الحكيم وهو إلاشارة إلى المراتب الخمسة المذكورة وهذا الكف له أربعة عشر عقدا وهو يد الله التي ينفق منها كيف يشاء في سبعة

_________________

1 دعاء الحسين عليه السلام في عرفة

أطوار إجمالها وتفصيلها ، فإذا لاحظت المراتب الخمسة في المراتب الأربعة للكلمة التي انزجر لها العمق الأكبر تستنطق الكاف المستديرة على نفسها فجعلت الكاف في أول حرف تلك الكلمة ، ولما كانت المراتب الخمسة متعلقة بالتعلق لا لنفس الكلمة ومتعلقها هي القبضات العشر والليالي العشر فلوحظت هذه المراتب مع مراتب المتعلقات حين التعلق فاستنطقت عنهما نون فجعلت في آخر تلك الكلمة التي انزجر لها العمق الأكبر فقيل ( كن ) ، فالاثنان إشارة إلى حق وخلق والوأوالمحذوفة إشارة إلى الدواة حتى تصلح وتتمكن من قبول المداد حتى يجري في القلم ، وهذه الواو هيالواو المنكوسة في آخر الخاتم الأعظم ، والقيام بين الواوين يدل على الواقف بين الطتنجين فتمت الكلمة التامة من الإشارة بقوله عليه السلام (( خلق )) فجاءت تلك الكلمة شرحا لبسم الله الرحمن الرحيم كما ذكرنا في كثير من رسائلنا ومباحثاتنا فلا نعيد .

 

       ولما كانت هذه الفقرات تفصيلا وشرحا لما أجمله في الكلمات الأولى آثر لفظ خلق بذكر متعلقه وهو السموات تنبيها لجميع مراتب الفعل بجميع أنحائها وأطوارها ، لأن خلق إشارة إلى الإختراع الأول وهو بعد التعلق بالكون يستلزم الابتداع الأول وكلاهما يستلزمان الإختراع الثاني والابتداع الثاني ، وهذه الإختراعات كلها ما ظهرت إلا في السموات على جهة الإطلاق ، فالإختراع الأول الذي هو المشيئة هو القطب المدبر ( المدير ) لتلك السموات في حال استدارتها لا إلى جهة والابتداع الأول الذي هو الإرادة محول لها إن كانت استدارتها إلى جهة معنوية كانت أم صورية أم شبحية أم جسمية فافهم قال الله تعالى { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }1 ، والإختراع الثاني الذي هوإلالف اللينة هو البحر الذي تحصل من ذوبان النقطة التي هي الياقوتة الحمراء لما نظر إليها الله سبحانه بنظر الهيبة والقدرة ، وحمرتها لكونها على طبيعة الفاعل لكونها الحديدة المحماة بنار الشجرة الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية يكاد زيتها

___________________

1 الملك 3

يضيء ولو لم تمسسه نار ، فصار الزيت والنار من تلك الشجرة الإلهية والدوحة الأحدية الثابتة في الجنة الأحمدية بالسقيات العلوية في الأرض الفاطمية صلوات الله عليهم أجمعين فذاق روح القدس منها الباكورة .

 

       والابتداع الثاني هو ظهور الألف اللينة الظاهرة في الألف المتحركة الظاهرة في الألف المبسوطة الظاهرة في الفلك الكرسي الظاهرة بثمانية وعشرين منزلة فتمت عنده الحروف الكونية في الرتبة الاسمائية ، ولما آن أوان ظهور الحروف الكونية في المراتب المفعولية ظهرت الأفلاك السبعة حاملة للأركان الأربعة على حسب مقامها من الظهور والخفاء لنشر العوائد على المستحقين السائلين ، فالملائكة الأربعة الذين هم جبرئيل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل في بعض السموات يتحملون وفي بعضها يؤدون ويلقون على تفصيل ربما ذكرناه فيما بعد بعون الله وتأييده .

 

       فتمت الحروف الكونية بمراتبها الثمانية والعشرين ، ثم انعكست الحروف قهقرى وسارت معكوسة لإتمام عوالم الجهل الكلي بسمواتها وأرضيها على التفصيل المذكور في الأركان الأربعة التي هي العدم والحرمان والموت الأعظم الأكبر نعوذ بالله والإعراض والإدبار عن الله سبحانه ، هذا آخر إدبار الجهل النقطة الإدبارية الياقوتية الحمراء من نار السموم ونار الغضب فذابت من أول الثرى حتى تم كمال الذوبان والانتشار في الطمطام فظهرت في أربعة عشر منزلة ظلمانية وتقسمت إلى الثمانية والعشرين فتمت الحروف المعكوسة والأسماء السوأى الخبيثة في مقابلة الأسماء الحسنى فكانت مظاهر اليد الشمال كما أن الأسماء الحسنى مظاهر اليد اليمنى ، فتمت جميع مراتب الأفعال على حسب المتعلقات وإلا فالفعل من حيث هو ليس له مراتب ، هذا كلام على سبيل الإجمال .

 

       وأما تفصيل الأسماء من حيث كليتها وجزئيتها على جهة التلويح لأهل الإشارة فأشار إلى الاسم الأكبر الأعظم الذي هو الله لكونه بمنزلة الذات بالإضافة إلى سائر الأسماء على ما تقدم بقوله عليه السلام (( خلق )) فإن المتعلق بالخلق من حيث الكينونة لا من حيث هو خلق ليجمع صفات القدس والإضافة والخلق هو الاسم ( الله ) كما قال عز وجل { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }1 فجعل متعلق الخلق هو الله لكن كما ذكرنا بدليل قوله عز وجل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }2 حيث كانت الأحدية تحت الألوهية لأن الألوهية هي الجامعة كما أن الأحدية هي الفارقة فكانت مقاما من مقامات الألوهية ، وإنما قلنا أن الأحدية مقام من مقامات الألوهية لأنها ما ظهرت إلا فيها فتجلى لها بها فافهم ، فاجتمع عند هذا الاسم المبارك كل الأسماء    الحسنى .

 

       ثم أراد تفصيل كليات الأسماء والأصول المتشعبة عنها الصفات العليا ليكون تفصيلا بعد تفصيل وشرحا بعد شرح إذ فيه تفصيل كل شيء { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }3 { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيـْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }4 { وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }5 ، فأشار بالتعلق الخاص أي تعلق الخلق بالسموات على الصفة المخصوصة على ما قال عليه السلام (( خلق السموات بلا دعائم )) إلى الاسم الذي رفعت به السموات بلا عمد وسطحت به الأرض على فوق ماء جمد ، وذلك الاسم هو البديع لقوله تعالى { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ }6 .

 

       ولما كانت السموات خلقت ونشأت في ستة أيام كما سنذكر إنشاء الله، وقد تحقق عندنا أن الأيام جزء لماهية الشيء سواء جعلت أوقات أومراتب ودرجات ، ولا شك أن الدرجات إذا تفاوتت بالقرب والبعد كان ألطف الدرجات وأقربها إلى المبدأ أول ما تعلق به الفعل الظاهر في الاسم على نهج المتعلق بفتح الفاء الذي هو المظهر الذي هو المفعول المطلق الإضافي ، ولا شك أن أقرب المقامات وألطف الدرجات في السموات هوعالم العقول ثم عالم النفوس وهكذا إلى عالم الأجسام ، ثم العرش الذي هو أول السموات ثم الكرسي ثم فلك البروج ثم فلك المنازل ثم فلك الشمس ثم فلك زحل والقمر

____________________

1 الزمر 62            2 الإخلاص 1               3 الأنعام 59

4 يس 12             5 يوسف111               6 الأنعام 101

ثم فلك المشتري وعطارد ثم فلك المريخ والزهرة ، فظهرت الأسماء الكلية خمسة عشر منها وهي البديع والباعث والباطن والآخر والظاهر والحكيم والمحيط والشكور وغني الدهر والمقتدر والرب والعليم والقاهر والنور والمصور والمحصي والمبين ، ثم يذكر عليه السلام باقي المراتب ويشير إلى اسم تلك المرتبة التي هو ربها قال تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا }1  .

 

       ثم اعلم أن الأسماء وإن كانت هي الأمثال والمقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان ، وهي مشتقة من الأفعال المتحققة بها المصادر الحاملة لظهورات الأفعال التي هي عين تلك المشتقات إلا أنها قـد أقيمت مقام الحق جل شأنه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ، فليست فيها إلا وجه الحق وجهته بحيث لا يلتفت الناظر إليها إلا إليه سبحانه إما من حيث هو أومن حيث ظهوره بظهوره لا بذاته في الأسماء الخاصة أو العامة من حيث المتعلق أولا من حيث هو كذلك ، ولذا ترى العوام ما يعرفون من هذه الأسماء إلا الواحد الحق جل وعلا ، ولا يعرفون الذي نذكر وذكرنا من أنها هي الظهور الاسمي والتجلي الخلقي ، ولذا قال الحجة المنتظر عجل الله فرجه وروحي له الفداء (( لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك )) فمن هذه الجهة أن الأسماء المتعلقة قبل التعلق وحين التعلق لها مقامات منها مقام الظهور الصرف وهو مقام لا فرق بينك وبيها وهنا ترد الأسماء كلها إلى الواحد لا من حيث الواحدية بل ولا من حيث الأحدية المقابلة للواحدية , ومجمل القول فيه هو ما أجمله المعصوم عليه السلام بالإجمال الوافي التفصيلي (( لا فرق بينك وبينها )) وهذا يشمل ويوضح كل أحكام هذه المرتبة دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها وكليها وجزئيها ، ويوضح أيضا تعبيري بالأحكام الدقيقة والجليلة بحسب الأطوار ، ويبين أن لا طور هناك وهذا أعظم مقامات الأسماء وهذا هوالاسم الأعظم الأعظم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ، فالداعي بهذا الاسم هو عين

_________________

1 الأعراف 143

هذا الاسم وليس هذا بلفظ إذ ليس مرادنا من الأسماء هي الأسماء اللفظية بل الأسماء الحقيقية إذ اللفظ ما عسى أن يبلغ .

 

       ومنها مقام الظهور الاسمي وهذا هو الحضرة الواحدية وينبوع الأسماء والصفات ومنتهى جميع التعلقات ، إليه تنتهي علوم العلماء ورسوم الحكماء وأفهام العقلاء وتكثر الأسماء ، هذا آخر مواقع الإشارة وأقصى معاني العبارة وآخر درجة الكلام ، ومرادي بالعلم والحكمة والفهم والإدراك هو الذي في علم التوحيد في معرفة أحوال المبدأ جل شأنه ، وإلا فالعلوم الحقيقية كلها دون هذه المرتبة .

 

       ومنها مقام التعلق أي التوجه إلى التعلق ، قبله فلا تعدد أيضا في هذا المقام إلا التعدد الرقائقي يكاد أن يظهر في عالم التعلق بالمفعولات الذي هو مقام بعدها عن أصلها .

 

       ومنها مقام التعلق الفعلي الوجودي الكوني ، وهنا مقام ظهور الكثرات وإراءة الآيات وخلق السموات ، فأول ما ظهر من الأسماء في عالم البيان قال الله سبحانه { خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }1هو الاسم الله فظهر به أي خلق وأوجد العرش الأعظم الأعلى ، وثاني ما ظهر منها هو اسم الرحمن فاستوى به على العرش فأعطى كل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه ، وثالث اسم ظهر هو اسم البديع خلق به قلب السموات ، ثم الباعث خلق به نفس السموات وروحها ، ثم الباطن خلق به طبيعـة السموات ، ثم الآخر خلق به مادة السموات ، ثم الظاهر خلق به صورة السموات وشكلها ومثالها ، ثم الحكيم خلق به جسم السموات ، ثم المحيط خلق به قلب السموات وهذا ظاهر القلب الأول ، ثم الشكور خلق به صدر السموات ، ثم الغني خلق به نور السموات وظهوراتها بالتأثيرات ، ثم المقتدر خلق به القوى التقديرية للسموات تقدر بها فيض الله النازل إليها ثم تؤديها إلى

___________________

1 الرحمن 3 _ 4

 

قوابل السفليات {* إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }1ثم الرب خلق به عقل السموات ، ثم العليم خلق به علم السموات ، ثم القاهر خلق به وهم السموات ، ثم النور خلق به وجود السموات ، ثم المصور خلق به خيال السموات ، ثم المحصي خلق به فكر السموات ، ثم المبين خلق به حياة السموات ، ثم باستدارة هذه الأفلاك المعنوية بعضها مع بعض ظهرت الأسماء الأخر كلها ، فهذه الأسماء هي المبادئ والأصول والأسماء الأخر متولدة منها ومتشعبة عنها ، فبكل اسم ظهر سر من أسرار المعبود بظهور كون من أكوان الوجود فلا نهاية لهذه الأكوان إذ لا غاية لهذه الاستدارة ، فلا حد ولا انتهاء لظهور الأسرار من الملك الجبار وهو قـوله تعالى في حديث الأسرار (( كلما رفعت لهم علما )) بظهور ذلك السر بحقيقة كون ذاته وحروف نفسه عند حلول رمسه عند تساوي غده وأمسه (( وضعت لهم حلما )) بـإظهار نور العظمة والجبروت ونسخ إلقاء الشيطان في أمنية الرحمن بقهر الملك والملكوت (( ليس لمحبتي غاية ولا نهاية )) لأنه سبحانه يحب الإفاضة والإمداد على قوابل العباد بسر الاستمداد بلسان الاستعداد ، فمن توكل عليه حسبه وكفاه ومن انقطع إليه قربه وأدناه ، ومن أراد الاستمداد على مقتضى نفسه وهواه فقد أمده بما هو يهواه , ولذا ترى الصوفيين بلغوا صدر الحديث (( رفعت لهم علما )) لكنهم تكبروا واستقلوا

__________________

1 النساء 58

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

{ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }1 فادعوا إني أنا الله ، فما وضع الله لهم حلما لأنه سبحانه عند ظن كل امرئ فمن طلبه وجده ، فلما لم يضع لهم حلما انقلب علمهم جهلا فافهم .

 

        فشمل قوله عليه السلام (( خلق السموات )) علل كل الذوات ومبادئ جميع الكائنات والأسماء المنتهية إليها جميع التعلقات ، والأسماء التي هي روابط العباد إلى استمدادهم لاستحقاق الفيض من الله سبحانه ووجههم إليه ، وفي تلقيهم المدد الكوني والمدد الشرعي والمدد الذاتي والمدد الصفتي والمدد النسبي والمدد الإضافي والمدد الجمعي والمدد الفرقي والمدد الإجمالي والمدد التفصيلي والمدد العروضي والمدد الظهوري والمدد التحقيقي والعضدي والركني والمدد الصدوري الفعلي والمدد الافتقاري والمدد الاستغنائي والمدد الفعلي والمدد الانفعالي والمدد الشرطي والمدد اللزومي وسائر جهات الإمداد على نهج الاستمداد بالاستعداد عن الله سبحانه ، فلكل شخص أي فرد من أفراد الوجود اسم خاص به يكون ذلك الشيء ثمرة ذلك الاسم ومفتاحا لذلك الطلسم وبابا لإيجاده ومتمما لانوجاده يدعو الله بذلك الاسم ، وذلك الاسم الخاص بالشخص من حيث هو هو كلي وله وجوه ورؤوس كل رأس ووجه اسم خاص بذلك الشيء من حيث ذلك الشأن وذلك الطور وذلك اللحاظ ، ولطوره طور آخر وعلى ذلك الاسم يخص به وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فالذوات من شئونات ذلك الشيء الواحد تستفيد التذوت من ذلك الاسم ، والصفات من صفته ، والتوصيفات وهي النسب والإضافات والقرانات وأنحاء الإلزامات من هيئات ذلك الاسم الشريف ، فالاسم الأعظم هو ذلك الاسم الشريف وما سواه كله رؤوس ووجوه له ، عند المواظبة يظهر له وجه من ذلك الباب الكلي الإلهي ، فمن قرع الباب فتح له على مقدار ما يقرع والمقام الذي هو واقف عليه فالكلي في الكلي والجزئي في الجزئي والعرضي في العرضي والذاتي في الذاتي والكثيف في الكثيف واللطيف في اللطيـف والوضيع في الوضيع والشريف في الشريف ، وهنا مقامات كثيرة

____________________

1 العلق 6 _ 7

يجمع الكل قوله تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ }1وقال الإمام عليه السلام في الزيارة الجامعة الصغيرة      (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه ))2 وهو قوله عز وجل { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }‏3 ، ولو أردنا أن نذكر تفاصيل ما أراد الإمام عليه السلام من بيان الأسماء في قوله عليه السلام (( خلق السموات بلا دعائم )) لأدى إلى تطويل كثير ، وإن كان ذلك أنفع ما يكون لكنه ما يسعني الوقت ولا يساعدني الإقبال والله الموفق ، إلا أن فيما ذكرنا كفاية لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد وعرف نوع الاستنباط .

 

       ثم لما أشار عليه السلام إلى تفاصيل العلل الفاعلية أراد أن يذكر تفاصيل المفاعيل والمعلولات ، وأراد أن يبين أن المفعول به هو عين المفعول المطلق باعتبار فقال عليه السلام (( خلق السموات )) فخلق هو الفعل أي المشيئة والضمير المستتر هو باطنه الظاهر بالأثر الذي هو حكاية وصف عدم استقلاله وافتقاره إلى غيره وفنائه في بقائه بوصفه لأثره ، فالوصف الذي هو إلاثر في رتبة ذاته يصف وصف الفعل له الذي ليس بمستقل ، والفاعل الضمير الذي هو تلك الحكاية ، وذلك المثال ترجمة من الفعل إلى المفعول ، فالضمير يعود إلى مثال نفس الفعل الذي هوجهة عليته كما قال عليه السلام (( خلق المشيئة )) والفعل جسد لذلك ، ومرادي بالفعل هو الظاهر بالمفعول لا الفعل المطلق ، فلما كان ذلك الضمير مثال المستقل في الغير المستقل وحكاية كينونته له تحلى بحليته وتلبس بلباسه فارتفع بالفاعلية لسر قوله تعالى (( يا ابن

_________________

1 الأعراف 80                

2 الزيارة الجامعة الصغيرة

3 الإسراء 44

 

 

 

آدم أطعني أجعلك مثلي ))1والإشارة إلى هذا الضمير من قول أمير المؤمنين عليه السلام (( استخلصه في القدم على سائر الأمم ، أقامه مقامه في سائر عوالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ))2 .

 

       وأما السموات فاختلفت كلمات أهل النحو في ذلك فمن قائل أنه المفعول به وأورد عليهم بأن المفعول به هو الذي وقع عليه فعل الفاعل وهذا يستلزم أن يكون شيئا يقع عليه فعل الفاعل مع أن السموات ما كانت شيئا حتى يتصور الوقوع عليه .

 

       ومن قائل بأنها المفعول المطلق لكنه بدل أي بدل البعض عن الكل ، فتقدير الكلام خلق خلقا منه السموات ، فحذف المفعول المطلق وأقيم بدله مقامه وأعرب بإعرابه ، وأورد عليهم أولا بأن بدل البعض عن الكل إنما يتحقق إذا كان البدل والمبدل منه في صقع واحد ورتبة واحدة ولا شك أن الخلق مصدر حدث اسم معنى ، والسموات ذات اسم عين فلا يكون أحدهما بعضا للآخر .

 

       وثانيا : إن خلق لا شك أنه الفعل المتعدي والفرق بينه وبين اللازم هو نصب المفعول به خاصة لا سائر المفاعيل كالمفعول المطلق والمفعول له وأمثالهما ، فعلى هذا التقدير يلزم أن لا يكون لخلق الذي هو الفعل المتعدي مفعولا به فبطل الفارق أوبطل كونه مفعولا مطلقا ، والأول مستحيل لإجماعهم عليه فثبت الثاني .

 

       أقول : أما قولهم بأنه يجب أن يكون شيء يقع عليه فعل الفاعـل متقدما على الفعل باطل .

___________________

1 في إرشاد القلوب قال تعالى (( يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون )) .

2 الإقبال 461

       أما أولا : فلأن في مثال ضرب زيد عمرواً لا شك أن عمرواً من حيث الحقيقة والماهية والذات ليس مفعولا ، ووصفك عند قولك رأيت عمرواً المفعول ليس وصفا ذاتيا له وإلا لما تخلف لأن الوصف الذاتي دائم بدوام موصوفه الذي هو الذات ومقتضى ذلك أن لا يوصف بضده ما دام وجود الذات لامتناع توارد الضدين والنقيضين على شيء واحد من حيث        هو ، والواقع بخلافه فإن عمرواً يوصف بالفاعلية وزيدا يوصف بالمفعولية وأنك إذا أردت أن تتصور عمروا أوزيدا تصورهما لذاتهما من غير عروض فاعلية ولا مفعولية بخلاف الإنسان فإنك ما تقدر أن تدركه إلا بالأمرين الحيوان والناطق لمكان ذاتيتهما لأن الأعراض تحترق عند ظهور الذات فما بقي مع الذات وما احترقت عند تجليها فاعلم أن ذلك من سنخها إما عينها أوجزؤها وهذا ظاهر معلوم إنشاء الله ، فإذا بطل كون المفعولية صفة ذاتية  لعمرو فليس المفعول هو حقيقة عمرو ، فإذا كان كذلك فتسميتك بأنه مفعول لا تكون إلا عند ذلك الفعل كالمضروب عند الضرب والمكتوب عند الكتابة وهكذا ، فهذه الصفة التي حصلت حين الفعل لا يجوز أن يكون موصوفها الذات فلو كان موصوفها الذات وهذه الصفة إنما لحقت الذات وجب أن لا يوصف بضدها إلا أن تعدم، مع أنها توصف بضدها ولم تعدم تقول عمرو فاعل ومفعول وهذا بديهي لمن فتح الله عين بصيرته .

 

       فإن كان كذلك فمن المفعول ؟

       إن قلت هو الذات لم يصح لما ذكرنا .

       وإن قلت هو ظهور الذات إذ لا ثالث .

       قلت : هل هو الظهور المطلق ؟ أم الظهور المخصوص ؟

       فإن قلت بالأول لم يصح بعين ما ذكرنا إذ الظهور قد يختص بغيره .

       وإن قلت بالثاني ، قلت : ما المراد بالظهور المخصوص ؟ أليس قبول ذلك الضرب إذ ليس أمرا آخر ؟ فإن قلت : بلى ، قلت : من قابل هذا القبول ، إن قلت هو الذات عدنا إلى الكلام من صحة السلب في حقيقة الذات ، وإن قلت بظهور الذات بالقبول ، قلت : هل كان لهذا الظهور قبل الضرب ذكر وكون في مرتبة من المراتب وعين من الأعيان أم لا ؟ ، إن قلت بالأول فقد أتيت بما تشهد الضرورة على بطلانه ، وإن قلت بالثاني فقد أقررت أن المفعول ما تحقق إلا حين وجود الفعل ، فإذن بطل قولهم أن المفعول يجب أن يكون مقدما على الفعل ، كيف ذلك وإن الفعل مأخوذ في حقيقة المفعول مع أن المعروف أن المبدأ مقدم على المشتق لا العكس ولا شك أن المفعول مشتق من الفعل ولا يتحقق إلا بعد تحقق الفعل ذاتا ومعه        زمانا ، وإن الفعل عامل في المفعول والعامل لا يتأخر عن معموله .

 

       لا يقال إن هذه أمور لفظية لا تجري على الحقيقة .

 

       لأنا نقول الألفاظ قوالب المعاني وحكم الألفاظ على مقتضى حكم المعاني وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام (( إن المعنى في اللفظ كالروح في     الجسد )) ولو أن لك بصر حديد وتأملت في كيفية صدور الأفعال لرأيت عيانا أن المفعول غير الذات وأن المضروب غير المنصور وهو غير المرجو وهو غير المطلوب وهو غير المردود وهو غير الموعود وإن كان الجميع ظهورات لشيء واحد ، إلا أن كل ظهور في مقام لا يشتبه مع الآخر ، وكل ذلك أمثال الشخص وأشباهه ومعاني جهاته ومُثُل حيثياته وصور أعماله وكلها منفصلة عنه كل في مكانه وزمانه وحدوده ، ألا ترى أنك إذا رأيت زيدا مضروبا في عصر يوم الجمعة في المكان الفلاني فكلما تلتفت إلى مضروبية زيد ما تراها إلا في ذلك المقام وذلك الوقت على ذلك الشبح بل هو عين الشبح ، فذلك الشبح هو المفعول في مقام المفعول وهو الفاعل في مقام الفاعل ، فإنك ما يمكنك أن ترى مضروبية زيد مثلا إلا بذلك الشبح في ذلك المكان وما يمكن أن تراها في غيرهما ، فدل على أن المفعول ليس إلا ذلك الشبح وهو ظهور من ظهورات زيد قائم به قيام صدور وبظهوره قيام تحقق وبذلك المكان والزمان والهواء والأرض قيام عروض وقيام ظهور ، إلا أن الذات لما كانت غيبت الصفات لا يلتفت الناظر إلى الصفات والمثال فيزعمون أن تلك الأوصاف للذات والذات متعالية عن كل هذه الصفات .

 

       فعلى هذا فالمفعول به مساوق للفعل في الوجود والظهور ، فالفعل الظاهر بالمصدر هو المفعول المطلق وملاحظة للمصدر مع حدوده ومشخصاته من زمانه ومكانه وكمه وكيفه وجهته ورتبته ووضعه وإضافته وقرانه ووصله مع غيره وفصله وجمعه وفرقه وسائر حدوده ، فالشخص جزء العلة الصورية وركن القابلية لا بذاته بل بظهوره وذلك الظهور أيضا ما تحقق إلا بصدور الفعل وقد أقمنا براهين على أن القابلية متأخرة عن وجود المقبول ومتفرعة عليه ، فإن جردت المصدر عن الحدود والقيود فهو المفعول المطلق ، وإن لاحظته مع الحدود والمشخصات فهو المفعول به ، مع أن المعروف عندهم أن المشتقات مأخوذة من المصادر لا من الأفعال فتكون مادة اسم الفاعل واسم المفعول واحدة ولا شك أن الشيء لا يتقوم إلا بالمادة والصورة ، ولا شك أن الأصل والحقيقة هي المادة والصورة عرض وحد تابع ، والمضروب ليس إلا الضرب مع الخصوصية والصورة الخاصة فكيف يعقل أن يكون متقدما على مادته وأصله ، وهل هذا إلا القول بأن الشيء موجود قبل وجود نفسه ويتقدم الشيء على نفسه وهو باطل قطعا ، فإذاً لا يكون المفعول به مقدما على الفعل إنما هو  مساوق له .

 

       إن قلت : إن الاشتقاق بحسب الألفاظ وكون المصدر مادة لاسمي الفاعل والمفعول بحسب اللفظ لا يدل على أنه كذلك بحسب المعنى .

 

       قلت : قد قررنا في مباحثاتنا ورسائلنا أن الألفاظ والمعاني بينهما مناسبة ذاتية فلا يتصرف في المعنى إلا ما كان في اللفظ وكذا العكس ، ولو قلنا بعدم المناسبة كما هو المشهور عندهم نقول قد بينا فيما كتبنا في الأصول أن الألفاظ لا حكم لها ولا شيء يترتب عليها أبدا لأنها مقصود بالعرض وما كان كذلك فهو يتبع المقصود بالذات ، فحكم الألفاظ من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان والإعراب والبناء والعمل وعدمه والاستقلال وعدمه كلها تابعة للمعاني وإلا فلا تفاوت بين هذه الحروف ولا اختصاص ببعضها دون بعض في التأثير والعمل عن غيره وليس ذلك إلا من جهة المعاني والتأثيرات المعنوية وليس هذا المقام موضع استقصاء هذا المرام .

       وبالجملة فلا ينبغي التشكيك في أن المفعول بـه ليس مقدما على الفعل ، بل لولم  ندع تقدم الفعل كما هو الواقع فلا أقل من المساوقة ، فبطل الإيراد الوارد على الأولين حيث حملوا السموات في الإعراب على أنه مفعول به .

 

       وأما إيرادهم على الآخرين باستحالة بـدل البعض لعدم السنخية فغلط ، لأن السموات أعظم في الحدثية وعدم الاستقلال من الخلق الذي يزعمون أنه المصدر الحدث ولا شك أن السموات مخلوق والخلق مادة لها والمادة أشد وأعظم في التأصل من الصورة ، فالخلق مادة واحدة منها سماء ومنها أرض ومنها بحر ومنها بر وهكذا ، بل هذا كمال السنخية بل العينية في السموات والأرض في كل عالم بحسبه ، فكيف يتصور القول بأن السموات ذات والخلق حدث ومعنى ، بل الأمر بالعكس فإن الخلق ذات وإن كان حدثا ولا يمتنع أن يكون الشيء الواحد ذاتا باعتبار وعرضا باعتبار آخر وحدثا باعتبار آخر ولا تنافي بين هذه الأشياء في الوجود بوجه .

 

       وأما إيرادهم الآخر بأن المتعدي ما يتعدى إلى المفعول به فساقط لأن المفعول به حأصل في هذا المقام إلا أن لك لحاظان لحاظ نفس الحدث وهو الخلق ، ولحاظ ربط الحدث ، ففي الصورة الأولى يكون الفعل مفعولا     مطلقا ، وفي الصورة الثانية يكون مفعولا به وهو شيء واحد فيصح أن يكون بدلا ، فهناك متمحض في الأثرية وهو أعلى مقاماته ، ويصح أن يكون مفعولا به لملاحظة الرابطة .

 

       فإن قلت : لو جعلت مطلق الرابطة دليل المفعول به فلا يتحقق إذاً المفعول المطلق النوعي والعددي لصحة الارتباط .

 

       قلت : المراد بالارتباط هو أن يصير المرتبطان بالارتباط شيئا واحدا تغفل عن أحدهما حين تلاحظهما ، كالمركبات مثل ضرب زيد عمروا فإن عمروا يلحظ من حيث وقوع الضرب عليه لا من حيث الضرب ، بل ليس في عمرو الذي هو ظهور الذات ذكر من الضرب إلا بالتحليل العقلي والدليل الوجداني ، ولا كذلك في المفعول المطلق النوعي والعددي ، فإن النوع والعدد صفتان تعرض الحقيقة ، والصفة لا تعارض الموصوف ، فالملحوظ بالذات فيهما هو المصدر والحدث لا المجموع المركب بخلاف المفعول به إذ الملحوظ فيه ذلك فافهم .

 

       ثم اعلم أن الفعل لا يظهر بل لا يوجد إلا بالمفعول , فإذن فما معنى قولهم أن الفعل اللازم لا يتعدى إلى المفعول .

 

       والجواب : إن الفعل لا يتقوم في الظهور إلا بالأثر وهو المصدر ، فمن جهة تلازم المصدر مع الفعل وعدم انفكاكه عنه قالوا أن الفعل مشتق من المصدر فجرى فيهم ما قال مولانا الصادق عليه السلام (( بدت قدرتك يا إلهي ولم تبد هيئة فشبهوك ، جعلوا بعض آياتك أربابا يا إلهي فمن ثم لم يعرفوك ياإلهي ))1فالمصدر أثر للفعل ومحل لظهوره وأول صادر عنه ومتقوم به قيام صدور لوقوعه تأكيدا للفعل والمؤكَّد فرع للمؤكِّد ، ووقوعه معمولا للفعل وعمله بشرائطه لمناسبته للفعل ولا يجوز في الحكمة أن يكون المتبوع بالذات تابع في الصفات إلا أن تختلف الاقتضاءات وهو عند الله مستحيل ، فصح أن المصدر أول ظاهر من الفعل فهو في الحقيقة مفعول ولكن له ثلاث جهات ونظرات .

 

       جهة ونظر إلى المبدأ والعلة والذات وهذا النظر لا يكون إلا بنظر العلة له به فذلك هو الفاعل في الفعل والقائم في القيام والضارب في الضرب وأمثال ذلك وهو بهذا النظر مرفوع لما ذكرنا فلا نعيد ، ولذا يقولون أن العامل في الفاعل هو الفعل يعمل فيه الرفع ، ولا شك أن العامل أقوى من المعمول فيه ، وكذا يقولون أن الاسم الفاعل والاسم المفعول مشتقان من الفعل كالضارب من ضرب بغير واسطة أوبواسطة يضرب ، ومآل الحكمين واحد ، ولا شك أن المشتق منه أقوى من المشتق وأقدم ، لكن المفعول لما نظر إلى جهة الحق سبحانـه ومحا الموهوم وهتك الستر وغلب عليه السر تمحض في الأثـريـة

_________________

1 مصباح المتهجد 115

فتمحض في المظهرية إلى أن صار ظهور الظاهر عين الوصف الحاكي للمبدأ بالوصف الحاكي , فاندكت إنية المفعولية وما بقى إلا النظر الواحد إلى الواحد فحكى مثال الذات وظهرت فيه الفاعلية ، ولذا ترى الفاعل مستتر في الفعل ، والفعل هو الفعل الظاهر في المفعول إما بنفسه في نفسه أو بظهوره في غيره ، فكان ذلك النظر الذي هو المثال فاعلا فارتفع في الصفة والإعراب طبقا للظاهر على الباطن ، ولذا ترى زيدا الواحد يرتفع في ( قام زيد ) بالفاعلية ، وهو ينتصب في ( رأيت زيدا ) بالمفعولية ، ويجر في ( غلام زيد ) بالإضافة ، فظهرت المقامات لمن فهم الإشارات ، والرفع هو أعلى الصفات وأشرف الإعراب وهو صفة القيومية مقام الحديدة المحماة بالنار ، فظهر لك أن فاعل فعل اللازم هو الجهة الأعلى من مفعوله ، ولما قصر نظره إلى تلك الجهة بقي واقفا في مقامه شاهدا جمال مبدئه وجلاله فلا يرتبط بالغير إلا بالقسر لا الواقعي بل المتعارف ، والدليل على مفعوليته معموليته كما ذكرنا ، وأما عمل الفعل اللازم في المفعول المطلق والحال والتمييز والمفعول له والمفعول معه وغيرها فمن جهة بقاء ذلك الارتباط بخلاف المفعول به كما ذكرنا حرفا بحرف في المفعول المطلق النوعي والعددي .

 

       والنظر الثاني نظره إلى نفس المصدر ومن حيث أنه صادر فهناك أمور ثلاثة صادر وصدور ومصدر ، وهذا وإن كان متمحضا في الأثرية لكنه ليس متمحضا في المظهرية حيث ذكر عنده المبدأ ووجده حيث شعر به فلم يبلغ مقام ( هو نحن ونحن هو ) بل في مقام ( هو هو ونحن نحن ) فصار مفعولا مطلقا لعدم انفكاكه عن فاعله وعدم تحقق مقام له لا يكون مبدؤه ظاهرا فيه وكونه مقام (( أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر

 

 

 

 

 

 

لك ))1فنزل في الإعراب كما في المقام فكان إعرابه نصبا لأنه في المقام تحت مقام الرفع وفوق مقام الجر .

 

       والنظر الثالث نظره إلى نفسه الصادرة من حيث حدوده المشخصة كالزمان والمكان والجهة والرتبة والوضع والإضافة والكم والكيف وأمثالها فهناك أمور أربعة ، الصادر والمصدر والصدور والقابلية فتآلف الحدث وقامت زوايا المربع وتمت بالتأليف فخفي المبدأ من هذا التأليف ، فليس متمحضا في الأثرية المقصودة بالأصالة بل فيه ذكر للغير وإن كان بالتبعية وهو قوله عز وجل (( روحك من روحي وطبيعتك من خلاف كينونتي ))2 وقال أيضا خطابا له عليه السلام (( بروحي نطقت وبضعف طبعك تكلفت ما لا علم لك به ))3 ولكن لما كان ذلك الغير ليس مقصودا بالأصالة وإنما هو مقصود بالتبع ما ارتفع ذكر المبدأ بالكلية بل بقي لكنه أقل من المفعول المطلق ، ولذا ترى ما ارتفع المفعول به وإنما انتصب مع أن مقامه أن لا يكون ذلك إذ الجر علامة الشر ودليل خفاء الظهور وفي المفعول به علامة المبدأ وظهوره ، وإن كان قليلا مقام المستدلين على المؤثر بالأثر والواقفين مقام الدليل الإني فلم يناسب الخفض والجر والكسر فناسب النصب والفتح وإن كان أقل مقاما من المفعول المطلق ، لأن المفعول المطلق المتعين بالتعين الارتباطي ، فالمفعول المطلق والمفعول به واحد والفرق ملاحظة الارتباط وعدمه فافهم إن كنت تفهم وإلا فاسلم تسلم فإني أظهرت ما جهله الأكثرون وكتمه العالمون وأشار إليه العارفون ولوحوا إليه في ظواهر أقوالهم الحكماء الإلهيون .

 

    فإن كنت ذا فهم تشاهد ما قلنا        وإن لم يكن فهم فتأخــذه عنا

    فما ثم إلا ما ذكرنا فـاعتمـد        عليه وكن في الحال كما كـنـا

 

       وأهل الإشارة يفهمون من قوله عليه السلام (( بلا دعائم )) تحقيق حقيقة القول في المفعول بـه ، وردوا القول أن المفعول بـه لا يتـقدم على          

____________________

1 دعاء عرفة لمولانا الحسين عليه السلام

2 , 3 علل الشرائع 10

الفعل ، وسبب اشتباه القائلين بالتقدم لأن الخلق هو إحداث المادة وهي لا تحدث إلا لا من شيء إذ لو فرضته من شيء لم يكن مادة صرفة أولية وإنما هو الهيولى الثانية المركبة مع المادة الأولى والصورة الأولى فما تمحضت في     المادية ، فالمادة من حيث هي غير مشوبة بصورة من حيث هي فيكون هذا الخلق الثاني الناشئ الصادر من خلق مادة كما هو المفروض فيكون مادة للسموات ، وليست السموات إلا الخلق الذي هو النور والمادة وأمر الله مع حدود العلو والطبقات والهيئات والحركات والاستدارات فإذا زالت عنها هذه الحدود لم تبق إلا المادة الواحدة وإن شئت سميتها ماء أوهواء أودخانا أوغير ذلك ، فقبل هذا التحديد كان رتقا لم تكن سموات ولا أرضون فبعد الفتق بالتحديد قيل سماء وأرض ، ولا شك أن الحدود إنما هي متأخرة عن المادة والهيئة وعرض لها ، والمفعول به الذي هو السموات مجموع المادة        والصورة ، فتكون السموات المفعول بها متأخرة عن الفعل ولا أقل مساوقة له لا قبله ، والقول بأن هذا هو المفعول المطلق لهذه الشبهة التي دخلت ، وإن كان صحيحا لا لهذه الشبهة إلا أنه كلام قشري ليس بحقيقي لأن بدل البعض لا يخالف كله ولا شك أن جهة السموات من حيث هي غير جهة الخلق من حيث هو ، إذ الأولى جهة البساطة والثانية جهة التركيب وحكم       مجموعي ، فلا يكون الثاني من حيث هو جزء وبعضا للأول من حيث هو وإن كان جزء منه من حيث البساطة والجزء لا يكون إلا عند ملاحظة الحصص في تلك الحقيقة الإلهية الجامعة وتلك الملاحظة لا تكون إلا عند ذكر الحصص وأما في ذاتها فلا .

 

       ثم لما أشارعليه السلام إلى هذه الدقيقة اللطيفة وأراد أن يذكر وينبه سبب اشتباه الذين حكموا بتقديم المفعول به لأنهم سلام الله عليهم يعرفون من نجى بما نجى ومن هلك بما هلك فأشارعليه السلام إلى أنهم نظروا إلى المحل وموقع الظهور ودعامة البروز فتوهموا أن تلك الدعامة والمحل هو المفعول به وما عرفوا أنها سبب لظهوره ، وهو في ذاتها ما يحتاج عند تحققها إلى هذه المحال والمواقع والدعائم كالصورة في المرآة إذ لولا المرآة التي هي الزجاجة لم تظهر الصورة فهي صارت سبب ظهور المرآة الأصلية التي هي الصورة ولا تحكي المقابل إلا وهي لا تتقدم على المقابل بل هي متأخرة عنه ومساوقة لظهوره الخاص بها الذي هو عينها ، وأما الزجاجة فإنها قبل الظهور للإظهار ووجودها كعدمها عند العارفين ، وكذا الأرض لإظهار أشعة الشمس ، وكذا ذات زيد لإظهار المفعولية أوالفاعلية فإنها كالأرض والمرآة ، أي الزجاجة دعامة لظهور ذلك النور أي الشمسي والشخصي والشبحي ، والفاعلية والمفعولية أشباح متقومة بظهورات تلك الذات في مراتب أماكن تلك الأشباح والظهورات وما تحققت إلا بالفعل لا قبله ولا بعده ، فالمحال الجسمية دعائم للظهور ، وهم لما اقتصروا نظرهم على الظواهر وما التفتوا إلى حل الشيء وعقده وبث كل شئوناته ليختص كل شيء بما يناسبه فجعلوا المحل أصلا والفرع ذاتا أوالذات فرعا والأصل محلا ، وقولي بالمحل لا أريد محل كون الشيء الذي هو جزء لماهيته بل أريد محل الظهور ولا بحيث اتحد الظاهر والمظهر والظهور وإنما أريد مثل الزجاجة بالنسبة إلى المرآة والأرض إلى الأشعة فافهم وأبطل هذا التوهم ، تبقى هذه الدعامة في أول المفعولات التي ما كانت له ذاتا إلا نفس كونه مفعولا به الذي استنطقه فقال له أدبر فأدبر فجرى كل الأفعال في كل الأحوال على ذلك المثال .

 

ثم استدل عليه السلام على هذا المطلب من تساوق المفعول به مع الفعل واتحاده مع المفعول المطلق بقوله عز وجل كن فيكون الملوح إليه والمستفاد من قوله عليه السلام (( خلق السموات بلا دعائم )) فإن الخلق كما ذكرنا هو متعلق المشيئة الذكر الأول ، والارتباط بالسموات هوإلارادة وهي العزيمة على ما يشاء وهما تمام الكلمة التي هي كن وهي كلمة خطاب وكلمة أمر ، ويكون إخبار وإعلام بالامتثال وبالوقوع على المخاطب ومن المأمور بالتكون حتى صار فاعلا ، ويرجع ضمير الفاعل في فيكون إليه .

 

       إن قلت : هو ذات الله سبحانه وتعالى ليكون هو الآمر وهو الفاعل وهو القابل وهو المخاطِب بالكسر والمخاطَب بالفتح كما قالوا ، والفاعل بعينه هو القابل والفعل والقبول له يدان ، وهو الفاعل بإحدى يديه والقابل بالأخرى والذات واحدة والكثرة نقوش ، فيصح أنه ما أوجد شيئا إلا نفسه فليس إلا ظهوره ، فهذا لا شك أنه ليس قول المسلمين .

 

       وإن قلت أن المخاطب المأمور هو الخلق المتحقق الموجود فلا شك في بطلانه وقبح هذا الخطاب لاستلزامه تحصيل الحأصل .

 

       وإن قلت أن المخاطب أعيان ثابتة في الأزل معدومة العين صالحة لامتثال أمر كن ، كما قالوا أن الأعيان الثابتة مستجنة في غيب الذات ومندرجة فيها اندراج اللوازم في الملزومات ، وقالوا أيضا أنها مستجنة فيها استجنان الشجرة في النواة ، فهذا أيضا كفر بالله العلي العظيم لما فيه من تعدد القدماء ووقوع التركيب في ذات الله سبحانه ولزوم التغيير والإبادة والفناء تعالى ربنا وتقدس ، حتى قال بعضهم أن هذه الأعيان شئون وذاتيات للحق ، وذاتيات الحق لا تقبل الجعل والتغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، وهذا القول في البطلان بمكان .

 

       فإن قلت أن هذه الكلمة تعبير عن الإيجاب وليست بخطاب ولا أمر فإن ذلك كله في مقام كثرة الألفاظ .

 

       قلت : إذن عبر الحق سبحانه عن خلاف الواقع وخلاف الحقيقة ، أم كان عاجزا عن التعبير بما هو في الواقع ، تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا .

 

       إن قلت أن ذلك من أقسام المجازات وهي في القرآن شائعة وفي كلمات أمناء الرحمن عليهم السلام ذائعة .

 

       قلت : لو سلمنا ذلك نقول أن المجاز خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل قطعي فحيث انتفى الدليل امتنع المصير لانسداد الطريق .

 

       إن قلت : إن الدليل موجود من النقل والعقل ، أما الأول فلقول مولانا الرضا عليه السلام (( فإرادته إحداثه لا غير ، لأنه لا يروي ولا يهم ولا يفكر وهذه صفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون من بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه بلا كيف ))1ولقول أهل اللغة أن الخطاب توجيه الكلام إلى نحو الغير ، والأمر تعلق الخطاب إلى المأمور به وهما يستلزمان وجود الغير والمأمور به حين الخطاب .

 

       وأما العقل ومن المعروف بالوجدان والعيان أن الخطاب والأمر لا يكونان إلا بشخص آخر إذ الوحدة تستلزم تحصيل الحأصل ، وفي الخلق الأول لم يتصور ذلك فوجب حمل الآية على المجاز كناية عن القهر والسلطنة والجبارية والقهارية .

 

       قلت : أما قول مولانا الرضا عليه السلام فالمستفاد منه أن المعبر عنه ليس بلفظ وهذا لا شك فيه ، ولا يستفاد منه أن هذا التعبير على خلاف الواقع والحقيقة ، ولا تلازم بين الخطاب والأمر واللفظ حتى يثبت به المطلوب بل هو مطلوبنا لقوله عليه السلام (( ولا كيف لذلك )) فلو كان هو محض الإيجاد من غير أمر وخطاب وتكليف له كيف يعرفه كل أحد بمثل ما يعرفون من معنى الإيجاد ، وإنما هو خطاب وأمر اختياري بالنسبة إلى المخاطب لكنه لا كيف له ليعرفه أهل التكييف والتحديد .

 

       وأما قول أهل اللغة فمسلم لكنه ليس فيه اشتراط تقديم المأمور على الأمر والمخاطب على الخطاب ، وما فهم بعضهم ذلك من كلامهم ليس بحجة .

 

       وأما العقل فليس بحاصل لأن الوحدة الحقيقية ممتنعة ، وقد تكون وحدة لا تنافي الكثرة وكثرة لا تنافي الوحدة وتحقق هناك الاختيار ولا امتناع لهذا الاحتمال ممكن وإن لم تدركه الأفهام ولم تنله أيدي العوام ، فإذا أخبر به الملك الحكيم العلام وجب القبول والإعراض عن التأويل بسخيف الكلام .

________________

1 عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/119

 

       فاستشهاد الإمام عليه السلام بالآية الشريفة ملوحا استشهاد تام لا يعتريه شك ولا شبهة ، لأن المخاطِب بالكسر هو فعل الله سبحانه ومشيئته واختراعه ، وهو لسان الله المعبر عن كل ظهوراته بكل أطواره وشئونه من أيام الشأن ، والخطاب هو دلالة تلك الكلمة التامة الواقعة على أرض قلب المخاطب ، وهو الغدق المغدق النازل من سحاب الكرم والجود من بحر الصاد من الماء الذي توضأ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج لصلاة الظهر ، وهذا البحر تحت العرش وهو الفعل ، وهذا العرش هو الخطاب الصادر والمخاطَب بالفتح هو نفس هذا الخطاب مع الحدود والمشخصات كما أن اللفظ كذلك فجرى التطابق بين اللفظ والمعنى هنا المجموع وهو فاعل يكون في قوله تعالى { كُنْ فَيَكُونُ }1، فالمفعول به هو فاعل فعل الفاعل فإن التكون عبارة عن فعل الفاعل لكنه ما تحقق وما وجد إلا بالمفعول وهذا المفعول هو ذلك الفعل الظاهر الذي هو الحدث وهو المصدر ، فحقيقة أول الموجود في الحقيقة الأولية هو المفعول المطلق وهو خطابا وأمرا وكونا في قولك خاطبت خطابا وأمرت أمرا وكونت تكوينا وغير ذلك ، وفي الحقيقة الثانية هو المفعول به الذي وقع عليه فعل الفاعل فكانت له جهتان وثبتت له حقيقتان في البدوإلاصلي والظهور الخلقي والنور القدسي الإلهي فما احتاج الخطاب إلى مخاطب مقدم في الوجود ، وكذا الفعل إلى مفعول به كذلك ، نعم في الظهور والبروز الشهودي الحسي في كل عالم يحتاج ، فالمخاطب هو قابلية الخطاب والخطاب هو مادة المخاطب وهو صورة له فإذا اقترنتا ظهر الخطاب على مقتضى الاختيار في الكينونة وإلا فيبقى الخطاب متعلقا بمركزه مشغولا بحمد ربه إلى أن يحصل له متعلق فيظهر في ذلك بعين ما ظهر في غيره ، فالخطاب واحد والمخاطب لا يتناهى من أول الوجود إلى آخره ومن ظاهره إلى باطنه ، فالخطاب الشفاهي أمر مستقر وصوت مستمر ، فقول الله سبحانه ( كن ) حقيقة باقية كان في الخلق الأول التكويني هذه صورتها وفي الخلق الثاني صورة التعبير عنها ( أدبر ) إلى نهاياته ،

____________________

1 يس 82

وفي الخلق الثالث كانت الصورة ( أقبل ) ، وفي الخلق التشريعي صورة التعبير صل وزك وحج وكل من سمع الخطاب نادى ملبيا ومن لم يسمع بقي على وجهه مكبوبا ملويا ، فهو نداء واحد والسامعون متفاوتون في الاستماع لحدة سامعتهم وعدمها فافهم وسنزيد القول إنشاء الله .

 

       وإنما ابتدأ عليه السلام بذكر السموات دون غيرها من المخلوقات لأنها هي المبادئ العالية ، ولتطابق الوصف التدويني واللفظي مع الوصف التكويني والهيئة الوجودية فإن الطفرة في الوجود باطلة ، فأول الموجودات هو جمال الله وجلاله ، والجمال له جمال ولجمال جماله جمال كالجلال وهكذا إلى ما لانهاية   له ، فقدم المبادئ على قول مطلق على غيرها والفواعل على القوابل ، وإنما خصص السموات بالذكر دون سائر المبادئ لبيان قسمي المبدأ وشقيه فإن المبدأ على قسمين ، مبدأ هو علة فاعلية ، ومبدأ هو ترجمان وباب وواسطة الفيض ، فالسموات إنما هي الثاني ومحل لظهور الأول فكانت وصفا جامعا مع اشتمالها لتفاصيل أحكام المبادئ والعلل كلها من ظهور مراتبها في مقام الإجمال والتفصيل وشرح قوله عز وجل { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ }1‏ وقوله عز وجل { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }‏2 وبيان الكمال المطلق الملوح إليه في قـوله عز وجل { وَلَقَدْ آتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }3 وظهور الأركان الأربعة مع تفاصيل نسبها الحاصلة من ملاحظة بعضها مع بعض ، وذكر الاسم الأعظم الأعظم الذي ليس بالحروف مصوت ولا باللفظ منطق ولا بالشخص مجسد وأجزائه الأربعة وأركانه الاثني عشر وأسمائه الثلاثين وصفاته الثلاثمائة والستين ، وكيفية ترتب العلل في الإمداد والإفاضة ، وكيفية الحركات الذاتية والاستدارة العرضية ، وكيفية استمداد السافل عن العالي ، وكيفية حجب السافل عن مشاهدة العالي مع تقومه     به ، وعلة قطع التفات العالي عن السافل ، وكيفية ظهور التجلي وحركة المـتجلي وحدوث الـفاعل وفاعلية القابل وقـدس الألوهية وخزائن الرحمة

_________________

1 المائدة 64                2 الزمر 67

3 الحجر 87

ومفاتح الغيب والسر اللاريب ، وعلل الـترقي وأحواله وسبب التنزل وأطواره ، وسر المحبة السارية والمودة المستجنة في الذرات غير المتناهية ، ودوران الوجود بالميل ، وتمام الستة وأحوالها ، وأقاليم الظهور ، وكشف حجاب النور , وظهور مقام الطور ، بأبي هو وأمي قد أشار لأهل الإشارة في هذا المقام بهذا الكلام إلى أسرار وعجائب وغرائب يقصر عنها النظر ويضل دونها الفكر ، ولو أردنا أن نشرح جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير من ذلك يطوى الزمان ولم يظهر شيء منه ، لا إله إلا الله العلي العظيم   ‏{ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }1 عجبا لقوم يقولون أن هذه الخطبة من وضع الغلاة أنى لهم ذلك ، ونحن نشير بعون الله إلى بعض ما ذكرنا مجملا وتلويحا إذ البيان يقصر عنه اللسان مع ما في طبائع بعض أشباه الإنسان من المعاندة والطغيان .

 

       فنقول اعلم أن النقطة الإلهية السرمدية لما ظهرت استدارت على نفسها فساوت كل أجزائها وأطوارها وشئوناتها وأوليتها وآخريتها وظاهريتها وباطنيتها فنطقت بالواحدية لله الواحد القهار فكان بسم الله الرحمن الرحيم في أول كتاب الله العليم الحكيم في الكتاب الأولي التكويني            الوجودي ، فدارت ثلاث دورات حال النظر إلى ربه وإلى نفسه وإلى        غيره ، ولذا استنطقت عنه الكاف من الحروف المكتوبة، فلما نظرت الثلاثة إلى نفسها الجامعة تمت التسعة وكملت الرتبة ، لأن الشيء في تحققه له ثلاث حالات الأولى حالة الإجمال والثانية حالة التفصيل والثالثة مقام الظهور مشروح العلل مبين الأسباب ، ولكل حالة ثلاث حالات الأولى حال مبدأ التلقي من عالم اللانهاية ، الثانية تمام مقام التلقي في النهاية الإجمالية في العقد الأول بعد الحل الأول ، والثالثة حال ميله ونزوله إلى عالم الغير إما لتحقق بينونة الصفة أو لارتباط الجهة ، فلما دارت تلك الثلاثة على هذه الثلاثة تمت التسعة وهذا الحكم جار في أول مقام المحبة في نفسها لنفسها إلى آخر مقام التفصيل وهي السموات الظاهرة الشهودية إذ في مقامات المحبة ثلاث مراتب .

____________________

1 الأنعام 124

       الأولى : مقام المحب الظاهر بالمحبة المعبر عنه بعنوان كنت فأحببت .

       الثانية : نفس المحبة المتحققة في أحببت أن أعرف وهي الموصلة وباء التعدية والصلة التي هي حجاب بين المحب والمحبوب .

       الثالثة : حقيقة المحبوب ولا حقيقة له إلا عين تلك المحبة التي هي الرابطة بينهما إذ المنافر لا يكون محبوبا (( وطبيعتك من خلاف كينونتي )) فإذا ارتفعت المخالفة بقيت نفس الكينونة وهي قوله تعالى (( روحك من  روحي ))1وهو عين تلك المحبة فافهم .

 

       وهذه الثلاثـة لا تتم ولا تظهر إلا بالتجذير إذ لا غيرها في نظرها هذا ، فمجذورها تمام المبادئ ، فالمبادئ لا تكون إلا تسعة لأنها مجذور أول الأعداد وتمام رتبة الآحاد التي بها تقومت الأعداد وهي المبادئ لها في التكون والإيجاد وإليها ترجع يوم الرجوع والمعاد ، وإنما كان مجذوز أول الأعداد هو المعاني إذ لا مذهب عنها في مقام التفصيل لأن المبدأ هو الواحد وهو الثلاثة والكثرات كلها قد تحققت به لأنها هي أول الأعداد وأول ما برز من    الإيجاد ، فأول المنسوبات إليها في مقام التفصيل هو التسعة ، وحيث كانت أول مراتب التفصيل وأقرب الأحوال إلى البساطة ظهرت العلة التي هي مبدأ المبادئ وعلة العلل بمثالها وظهورها في كل التسعة لأنها صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد تجلى لها فأشرقت وطالعها فتلألأت فألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله ، فظهر في كل التسعة بظهور واحد فهي في رتبة واحدة ومرتبة غير متعددة وخلقت من طينة واحدة لأنها المتحصلة من ملاحظة الشيء من نفسه مع نفسه قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا الشجرة وفاطمة عليها السلام أصلها ، وعلي عليه السلام لقاحها ، والأئمة

___________________

1 علل الشرائع 10

 

 

 

 

عليهم السلام أغصانها ))1ولذا ظهرت الطاء مع كمالها الظهوري والشعوري في اسم مهبط الأنوار الإلهية ومجمع الشئونات الصمدانية والعنوانات الأزلية الثانية والكلمة التامة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر بحكم المناسبة الذاتية بين الاسم والمسمى ، والمرابطة الحقيقية بين اللفظ والمعنى وذلك هو اسم فاطمة عليها السلام ، وكذلك القول في كل المبادئ وأنا قد بينت لك أشدها غموضا وخفاء في العالم الأعلى الأول الذي ليس فيه كثرة ولا تعدد ولا اختلاف .

 

       وأما كيفية خلق هذه الأفلاك والسموات فاعلم أن الله سبحانه خلق ياقوتة حمراء من جزء من صفو النار وجزأين من صفو الماء بيبوسة أرض القابلية فنظر إليها بعين الهيبة فماعت وذابت وصارت ماء رجراجا وبحرا عظيما يضرب أمواجا ، فأشرقت على ذلك البحر شمس اسم الله القابض فظهر اسم الله الحي والرحمن بريح الجنوب ، فتموّج البحر واضطرب بتصفيق الرياح الشديدة فصعدت الأبخرة المختلطة بالأجزاء النارية والترابية المستجنة في زبد البحر فكانت تلك الأبخرة والأدخنة المتصاعدة مادة السموات السبع والأفلاك التسع وبقي الزبد على وجه الماء فجعله سبحانه مادة للأرضين _____________________

1 لم نجد هذه الرواية بعينها فيما لدينا من المراجع ووجدنا ما يقاربها ففي معاني الأخبار ص 93 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا أصلها ( أي الشجرة ) وأمير المؤمنين فرعها , والأئمة من ولده أغصانها , وشيعتهم ورقها وعلمهم ثمرها )) , وفي بصائر الدرجات ص 95 عن عمر بن يـزيـد قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى ( شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) قال : فقال (( رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جذرها وأمير المؤمنين فرعا والأئمة من ذريته أغصانها وعلم الأئمة ثمرها وشيعتهم المؤمنون ورقها , هل ترى فيها فضلا يا أبا جعفر , قال : لا والله , فقال : والله إن المؤمن يولد فيورق ورقة وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقتـه )) .

 

السبع ، فبعدما دحا الأرض واستوت واستقرت في يومين يوم المادة ويوم الصورة استوى الرحمن إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سموات ، فأول ما ظهر منها فلك الشمس فدارت الأفلاك فوقها وتحتها بها بحسب ما فيها من القوى الإلهية لكونها مهبط الأسماء الفعلية والأنوار الأربعة القدسية العرشية ، ثم لما كانت تلك الأدخنة متفاوتة في الغلظة والتصفية رتبت السموات على الترتيب المعروف ، فملأ ذلك البحر الوجود بمائه ودخانه وزبده فاستدار بعضها على بعض وتحقق الليل والنهار ، وظهرت مكنونات خبايا الأسرار هذا الذي ذكرنا كلام جار على الحقيقة بالإجمال .

 

       والإشارة إلى حقيقة الأمر والواقع ، اعلم أن النون أي بحر الصاد أول المداد الماء الذي كان عليه عرش الرحمن والماء الذي منه كل شيء حي وبه قام كل شيء لما كان متمم ظهور الهاء عن الكاف لا كتتميم الهاء المشبع الذي هو هو للأسماء الحسنى وتتميم الأحد للواحد بل كتتميم الصفة لظهور الموصوف وتتميم الفرع لجهات تعريف الأصل ظهر مثالا للظاهر وحاكيا له بذاته فكان حافظا لوجوده في جميع مراتب التربيع والتكعيب فأحكم قوله تعالى { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ }1‏ فظهر حافظا لنفسه في كل الأطوار من الأكوار والأدوار ، فصار به كل شيء حي في الإعلان والإسرار من الأكوان الستة التي عليها المدار.

 

       وأما الكون الأول فنوراني لا غير ، وأما الكون الثاني فجوهري لا    غير ، وأما الكون الثالث فهوائي لا غير ، والكون الرابع فمائي لا غير ، والكون الخامس فناري لا غير ، وأما الكون السادس فأظلّة وذرّ ، ثم سماء مبنية وأرض مدحية ، وإن أردت أن تعرف حقيقة هذا الماء وسبب نشوئه ومادته وصورته ، فاعلم أن التكوين اقتضى الحرارة لأن الحركة بنفسها من الظاهر بالفعل إلى المكوَّن بالفتح و التكوّن اقتضى البرودة لأنه السكون المنتهية إليه الحركة مقام الجمود والوقوف ، ولما كان التكوين هو الفعل الاسم الذي

_________________

1 المجادلة 7

استقر في ظله فلا يخرج منه إلى غيره اقتضى مع الحرارة اليبوسة لثبات الاستقرار وتحقق القرار قال عز وجل { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }1ولما كان التكون هو الحامل لأثر التكوين والماسك له اقتضى مع البرودة اليبوسة وإلا لما استقرّ ولما كان المكون هو المتحقق بالتكوين ، ولايكون ذلك إلا بالارتباط ولايكون ذلك في استقراره في ظله إلا بإلقاء الأثر فيه ، اقتضى أن يكون ذلك الأثر حار لتحقق المثلية وكذا أن يكون رطبا للسيلان إلى التكون والربط إلى المكون ليتحقق الحل الأول المستلزم للعقد الذي هو للاتحاد ولما كان التكون لا يكون إلا بالقبول لأثر التكوين وذلك لا يكون إلا بالإقبال إلى المقبول والارتباط به من جهة القابل اقتضى الرطوبة مع البرودة فتمت العناصر الأربعة ، الأول الحار اليابس وهو النار أي الفاعل ، الثاني الحار الرطب وهو الهواء وهو أثر الفاعل أي الصدر وهو المفعول المطلق وهو الهاضمة وبطن فرس وحمام مارية ، الثالث البارد الرطب وهو الماء وهو جهة القابلية المحضة الفتاة الغربية والنبتة العذراء ، الرابع البارد واليابس وهو الأرض وهو جهة حفظ القابل لفعل الفاعل وإمساكه إياه وهوالأرض المقدسة و الجسد الجديد ، هذا في أصل الكون عند التكوين الأول في ثاني الأزل ، فلما اقترنت هذه العناصر الأربعة واتصلت بهذا الترتيب ووقع أثر الفاعل على القابل واستجنّت الحرارة الفاعليّة في الأجزاء الأرضية القابلة وكانت الحرارة الأصلية الأولية دائمة الإشراق على الأراضي القابلة تهيجت تلك الحرارة المستجنة في الأجزاء الأرضية وأقبلت إلى مبدئها بإعانة الامدادات الفائضة من الإشراق الدائم و صحبت معه الأجزاء المائية اللطيفة المستجنة فيها الأجزاء

__________________

1 الصافات164

 

 

 

 

 

الأرضية اللطيفة بحكم المشابهة والمناسبة الذاتية { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ }‏1 لكن الأجزاء الأرضية مستهلكة مضمحلة تكاد تفنى تتلألأ بخفق، والأجزاء المائية اللطيفة التي هي محض القابلية والاستعداد المقابلة لفوّارة النور بسر الإمداد مضاعفة فأصابه برد التكون بالتكوين ثانيا فانجمد وانعقد تحت سماء التكوين ، فثقل وتقاطر ونزل لحصول النسب والإفاضات المستدعية للنزول عن مقام البساطة الحقيقية فكان ماء رجراجا وبحرا مواجا ، فهذا هو الماء الأول وإن كان المصطلح عليه هو الماء الذي به حياة الموجودات المقيدة التي هي النون والصاد والمزن المذكور آنفا ، ولو كان لك بصر حديد علمت أن هذا القول يجري في كل ما تلاحظ مخلوقيته من السرمد إلى الدهر إلى الزمان ، وبالجملة نحن نحكم حكما كليا فإن قدرت أن تجريه في جميع الجزيئات فعلت ملاحظاً للصدق اللفظي والوصف التأثيري وإلا فعلى مقدار ما استطعت .

 

       ولما تحقق ذلك البحر المواج والماء الرجراج وقابلته نار التكوين صعدت بها الأبخرة وهي اللطائف المستجنة والأرواح المستكنة فتراكمت الأبخرة وتطابقت وظهرت على هيئة اللطافة والبساطة التي هي هيئة الاستدارة وهيئة الفقر والفاقة وهيئة الغنى والإفاضة ، ودارت للاتصال بالمبدأ بحكم المناسبة لوجود المثال الملقى في الهوية وهي الأفلاك مادتها وحقيقتها وأصلها   ومنشؤها ، فلما اختلفت مظاهر ذلك الماء ومراتبها باللطافة والشرافة والكثافة والغلظة والبعد والقرب وبطلت الطفرة جرى الفيض الاختراعي والابتداعي عليها على ذلك الترتيب ، فدارت العلويات على السفليات وأحاطت على الجزئيات فأعطى الله بها كل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه ، وهذا الحكم يجري في كل دور وكور وعالم من العوالم من الألف الألف فيكون ألف ألف أفلاك وألف ألف سموات وألف ألف أرضين فافهم .

_____________________

1 التوبة 11

 

       هذه مبدأ الأفلاك والسموات وأما منتهاها فاعلم أنها لا تنتهي إلى حد في حركتها وسيرها بل هي سائرة دائمة إلى الأبد وإن سكنت وتفككت عند ظهور سلطان الجبار وخلوص الأمر لله الواحد القهار وطي الوسائط ومحو الأغيار بإذهاب الغرائب والأعراض واندكاك جبال الإنية لخلوص التوحيد في الذات والصفات والأفعال والعبادة { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }‏1 ثم تعود إلى ما كانت عليه من الصفاء وتتحرك حركة شوقية إلى خالق الأشياء ولا نهاية لذلك ولا فنـاء إنما خلقتم للبقاء وما خلقتم للفناء وإنما تنتقلون من دار إلى دار ، فإذا ذهبت صفوة الأفلاك والأملاك و بقيت القشور والأعراض فتستدير ذلك دورة عرضية تبعية وتربي سوافلها المحيطة بها من القشر والعرض وهكذا إلى أن تصفو تلك وهكذا إلى ما لا نهاية له سبحان من هو ملكه دائم وسلطانه قديم لا إلـه إلى هو الحي القيوم .

 

       قال مولانا الباقر عليه السلام (( إن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يخلق خلقا آخر من غير فحولة ولاإناث يعبدون الله وهو قوله تعالى { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ))2 وأما العبارة الظاهرة في كشف هذه الأفعال فلا يسعني الآن بيانها لتطويل المقال __________________

1 الزمر 3

2 لم نقف على هذا الحديث كما هو مذكور في هذا الشرح الشريف ووجدنا ما يقاربه في الخصال ص 652 وهذا نصه (( عن جابر بن يزيد قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) فقال يا جابر : تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عز وجل عالما غير هذا العالم وجدد عالما من غير فحوله ولا إناث يعبدونه ويوحدونه , وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم وسماء غير هذه السماء تظلهم لعلك ترى أن الله عز وجل إنما خلق هذا العالم الواحد وترى أن الله عز وجل لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين )) .  

وتبلبل البال و عدم الإقبال ، إلا أن حقيقة الأمر ظهر بما ذكرنا من دليل الحكمة .

 

       وإنما جمع السموات لبيان تعددها وهي إذا أطلقت لا يراد منها في عرف أهل البيت عليهم السلام إلا السموات السبع وقد تطلق في كلماتهم عليهم السلام ويراد منها غيرها كما في قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا }1والمراد منها في هذه الآية الشريفة على ما دلت عليه الأخبار البحر الذي في الجو بين السماء والأرض ، وقوله تعالى { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ }2 ويراد منها هنا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( البحر المكفوف فوق السموات السبع بحيث يكون كلهن ومن فيهن ومن عليهن كحلقة ملقاة في فلاة قي )3وكذا في غيرهما من المواضع في كتاب الله وكلمات آل الله ، ومحصل هذه الإطلاقات أن السماء يراد منها جهة العلو مطلقا وهي من أول الهواء إلى أعلى الهواء في الخلق ، إلا أن السموات على قسمين .

 

       أحدهما : مجردة بمراتبها من العقلانية والروحانية والنفسانية وغيرها ،  والثانية : جسمانية وهي اتفاق العلماء ومساعدة الأدلة العقلية والنقلية تسعة وهيالسموات السبع والعرش والكرسي في اصطلاح أهل الشرع ، والأفلاك التسعة في اصطلاح الحكماء الرياضيين والطبيعيين وغيرهم ، وهم إنما عرّفوها حسب مشاهدة الحركات المقدرة بالأرصاد لأنهم وجدوا تسع حركات مختلفة وأثبتـوا لكل حركة فلك وجوزوا أقل من ذلك أيضا وأما الأكثر فإمكانه لا إشكال عنـدهم لأنهم ما قـالوا إلا ما شاهدوا بـأبصارهم وإحساسهم من

________________

1 ق 9             2 النور 43

3 هذا الحديث مذكور هنا بالمعنى وأما نص الحديث في التوحيد ص 277 فطويل نأخذ منه موضع الحاجة وهو وقوله صلى الله عليه وآله (( وهذه السبع ( يعني السموات ) ومن فيهن ومن عليهن عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة في فلاة قي )) .

الحركات المختلفة ، وقد يكون أفلاك أخر متشابهة الحركة أوبطيئة بطأً لا يحس ، وبالجملة ليسوا على بصيرة في الأمر لا في حصر العدد ولا في كيفية الترتيب وخصوصيته حيث أرادوا أن يأخذوا الحق بعقولهم و يستندوا في معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه بآرائهم وأفهامهم ولم يركنوا في معرفتها إلى أئمة الدين عليهم السلام فصاروا كما ترى غير جازمين بأمر من الأمور وحكم من الأحكام كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، وأما نحن قلنا في هذه المقامات من جهة دليل الحكمة المستنيرة بنور أهل بيت النبوة عليهم السلام كلمات يطول بذكرها الكلام ونشير إلى بعضها في هذا المقام مجملا ليتنبه العارف إلى نوع الاستدلال .

 

       فنقول اعلم أن المبدأ لابد وإن كان عرشا لاستواء الرحمن وخزانة لجميع ما تستحق السوافل من الأركان والأكوان والأعيان وإلا لم يكن واقفا بالباب بل ضرب بينهما ألف حجاب ، ولما كان الباب واقفا مقام ( أطعني أجعلك مثلي و روحك من روحي ) وجب أن يكون كاملا في رتبة البساطة لمكان المشابهة ، على أن الفيض لا يجوز أن يصدر عن المبدأ جزئيا لعدم سعته بل يجب أن يكون كليا معنويا محيطا لكل الأجزاء والجزئيات ، ولما كانت العلويات هي المبادئ وجب أن يكون هنا فلكا كليا محيطا بجميع المراتب السفلية ومهبطا لجميع الأنوار وخزانة لكل الأسرار وذلك هو العرش مستوى الرحمن فهو أول الأفلاك وأعظمها وأشرفها وأرقها وألطفها وتنتهي إليه الحدود الجسمانية وتنقطع عنده الإشارات الحسية ويكون ذلك طبق الفلك الأعظم والعرش الأقدم في عالم التجرد أوعالم الوجود المطلق ، فإن مراتب الإختراع ومقاماتها متطابقة وإن اختلفت بالأولية والثانوية فإن الثاني دليل الأول وحكايته { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }1والعبودية جوهرة كنهها الربوبية فما خفي في الربوبيـة أصيب في العبوديـة قـال الله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَـاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }‏2 فافهم .

_______________________

1 الملك 3                 2 فصلت 53

فكان المبدأ الجسماني طبقا للمبدأ الروحاني والمبدأ الزماني طبقا للمبدأ الدهري كما أن البيت أي الكعبة على طبق البيت المعمور في السماء الرابعة وهو على طبق العرش وهو على طبق الكلمات الأربعة ( سبحان الله والحمد لله ولا إلــه إلا الله والله أكبر ) ، ثم لما كانت الفيوضات المستقرة في الفلك الأعلى أي عرش الرحمن معنوية كلية غيبية مجملة ولا استئهال للسوافل أن تتلقاها ، كذلك مع امتناع ذلك مع أنه لو كان كذلك لما اختلفت الأشياء وما حصلت الجزئيات فلم يظهر مقام العظمة الذي هو مقام العلماء الخائـفين ، وجب أن يكون لتلك الإجمالات مقام تفصيل وتلك المغيبات رتبة ظهور لتمييز الأسماء الإلـهية وتبيين النعم الغير المتناهية ليعلم كل أناس مشربهم  ويصل كل أحد مطلبهم .

 

       ولما كان هذا المقام تحت المقام الأول الذي ظهر بالفلك المحيط وجب أن يكون هذا التفصيل في الرتبة الثانية الجسمية ولا يكون ذلك إلا في الفلك الثاني تحت الأول وهو فلك الكرسي مقام تفصيل العرش ، وكلما كان مخفيا غيبا في العرش قـد ظهر في الكرسي فكان هو بمنزلة الباء للألف والنفس للعقل ، و هذا هو فلك البروج وفلك المنازل وقد يعد كل منها فلكا على حدة لإجراء الأحكام وإلا فهما في الحقيقة شيء واحد ، فظهرت في هذا الفلك القوى الجزئية الاسمية المدبرة للعالم الجسماني أو مطلقا إن كان نظرك مطلقا من الاسم الأكبر الأعظم الكلي المتعلق بالعرش , ومن هنا ظهر سر عدم الكواكب في الفلك الأعلى ووجودها هنا مع كثراتها فتم الفيض الأول مجمله ومفصله ، وهذا هو الحل والعقد الأوليان باعتبار في تكون هذا العالم وهو رتبة المقبول .

 

       ثم لما كانت الإفاضة لا تتم إلا بتمكين القابل وتهيئته للقبول وإلا لم يتحقق الفيض ولم يوجد الشّيء وذلك التمكين يجب أن يكون من جهة المكون المفيض لكن بآلات وأسباب تناسب المفاض عليه وتوافقه ، ولما كانت تلك الآلات هي جهات التدبير والتقدير وجب أن تكون محيطة بكل السفليات لكونها متممات لقوابلها ولا تتم إلا بالمحاذاة بإيقاع الأشعة وهي تستلزم الإحاطة فتكون أفلاكا دائرة على القابليات ومهيئة إياها لقبول الفيض الأول على الوجه الأكمل ووصلة بينهما وبين المفيض ، واقتضى الكون أفلاكا أخر تحت الفلكين المذكورين ، ثم لما كانت الأكوان خرجت مسبعة متمايزة في التسبيع ولايتم الفيض إلا إذا تمت قابلية تلك المراتب ولايتم ذلك إلا أن يكون لكل منها مبدأ متميز فإن الأثر يشابه صفة المؤثر وجهته ، فالمجمل يؤثر المجمل و المفصّل المفصّل وجب أن تكون تلك الأفلاك التي هي روابط إيصال الفيض ومتممات قابليات المفاض عليه سبعة ، فخلق الله سبحانه أولا المبادئ السبعة التي هي السموات السبع فإذا أضفتها إلى الفلكين المذكورين كانت تسعة ، فالسموات السبع لتتميم القابلية وتكوين البنية الظاهرية والفلكان الأعظمان للفيض الباطني و إحداث المقبول وقد وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام بشرح أسماء السموات وقواها وطبائعها وألوانها وثخنها وغلظها فمنها الخبر المشهور عن ابن سلام أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (( فأخبرني ما بال السماء الدنيا خضراء ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا ابن سلام اخضرت من جبل قاف ، قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني مم خلقت قال صلى الله عليه وآله وسلم : خلقت من موج مكفوف ، قال : وما الموج المكفوف ؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا ابن سلام ماء قائم لا اضطراب له وكانت الأصل دخانا ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآلـه وسلم : فأخبرني عن السموات ألها أبواب ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : نعم لها أبواب وهي مغلقة ولها مفاتيح وهي مخزونة ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرني عن أبواب السماء ما هي ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ذهب ، قال : فما أقفالها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : من نور ، قال : فمفاتيحها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله العظيم ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرني عن طول كل سماء وعرضها وكم ارتفاعها وما سكانها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : يا ابن سلام طول كل سماء خمسمائة عام وعرضها كذلك ، وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام وسكان كل سماء جند من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرني عن السماء الثانية مم خلقت ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : من الغمام ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرني عن السماء الثالثة مم خلقت ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : من زبرجدة خضراء ، قال : فالرابعة قال صلى الله عليه وآله وسلم : من ذهب أحمر ، قال : صدقت يا محمد ، فالخامسة : قال صلى الله عليه وآله وسلم : من ياقوتة حمراء ، قال : فالسادسة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : من فضة بيضاء ، قال : فالسابعة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : من ذهب ، قال :  صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرني ما فوق السماء السابعة ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : بحر        الحيوان ، قال : فما فوقه ، قـال صلى الله عليه وآله وسلم : بحر الظلمة ، قال : فما فوقه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : بحر النور ، قـال : فما فوقه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : الحجب ، قال : فما فوقه قال صلى الله عليه وآله وسلم : سدرة المنتهى ، قال : فما فوق سدرة المنتهى ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : جنة المأوى ، قال : فما فوق جنة المأوى ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : حجاب المجد ، قال : فما فوق حجاب           المجد ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : حجاب الحمد ، قال : فما فوق حجاب الحمد ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : حجاب الجبروت ، قال : فما فوق حجاب الجبروت ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : حجاب العزة ، قال : فما فوق حجاب العزة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : حجاب العظمة ، قال : فما فوق حجاب العظمة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: حجاب الكبرياء ، قال : فما فوق حجاب الكبرياء ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: الكرسي ، قال : صدقت يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : قد أوتيت علوم الأولين والآخرين وإنك لتنطق بالحق اليقين ، قال : فما فوق   

 

 

 

 

الكرسي ، قال صلى الله عليه وآله وسلم: العرش ))1، وبيان هذا الحديث الشريف وذكر ما فيه من العجائب والأسرار يؤدي إلى التطويل إلا أني أشير إلى ما هو الأهم والمقصود على سبيل التلويح والإشارة .

 

        فقوله صلى الله عليه وآله وسلم في السماء الدنيا هي آخر السموات والأفلاك وأقربها إلى الأرض وهي مبدأ الصور وعلة البرودة والرطوبة وينسب إليه المد والجزر في البحر وهيكما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( موج في البحر مكفوف )) أي ماء قائم ، فطبعها الحياة وطعمها قال عليه السلام الماء سيد الشراب في الدنيا والآخرة وطعمه طعم الحياة ))2 ، ولا اضطراب لها كما يوجد في هذا الماء الموجود في الأرض لخلوصه عن الغرائب والأعراض ولكونه مبدأ بالنسبة إليه والمبدأ خلق ساكن لا يدرك بالسكون في كل مقام بحسبه .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( وكان في الأصل دخانا )) يشير صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيان عدم تناقض قوله وقول الله عز وجل حيث

___________________

1 البحار 57/228

2 البحار 62/285 ح 72

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ }1تنبيها بأن المادة تنصبغ بصبغ الصورة حين التحديد بل وتجري عليها  أحكامها .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في أبواب السماء أنها من ذهب إشارة إلى التأثير إلى العالم السفلي بإحداث الأشعة فالأشعة أبواب السماء إلى الأرض ينزل الفيض منها إلى الأرض بواسطتها فهي حارة لكونها مثال التأثير الفلكي الحار اليابس ورطبة لحكم السيلان والاقتران والنسب وهي طبع الحياة بناء على أن الذهب حار رطب على ما هو التحقيق ، وهذا لا ينافي كون بعض الأشعة باردة أو يابسة أومختلفة فافهم .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( ومفاتيحها بسم الله العظيم )) يريد بهذا الاسم هو الظاهر المتجلي على الطائف حول جلال العظمة وهو أول أسماء الله عز وجل بعد اسمه العلي قـال مولانا الـرضا عليه السلام (( فأول

____________________

1 الدخان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أسمائه العلي العظيم لأنه  علا على كل شيء قدير ))1انتهى .

 

       والاسم العلي هو الطائف حول جلال القدرة كما أن الاسم العظيم هو الطائف حول جلال العظمة فظهر الاسم في الظاهر بالطواف حول جلال القدرة وبقي على الحقيقة في السجود في ذكره للطائف حول جلال القدرة حقيقة والعظيم للطائف حول جلالة العظمة وهو قول مولانا علي عليه السلام (( أنا الذي كتب اسمي على البرق فلمع وعلى الودق فهمع وعلى الليل فأظلم وعلى النهار فأضاء وتبسم )) فهذا الاسم العظيم هو مفتاح كل برّ وخير ففي الأفلاك والسموات الجسمية بظاهر ظهوره وفي السموات الباطنية الغيبية بباطن ظهوره فافهم .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( طول كل سماء خمسمائة عام )) اعلم أن المراد بهذا العام ليس هو العام المقدّر بالتّقدير اليومي المعروف إذ ما أقصر هذه الأيام عند مدد الأفلاك وأوقاتها فلا تتقدّر بهذا التقدير ، وقد ورد أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج سأل جبريل عن زوال الشمس هل زالت أم لا قال لا نعم ثم قال من مقدار قولي لا سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام .

 

       فإن قلت : إن العام يراد به على حسب الأفلاك .

 

       قلت : إن الأفلاك تختلف فالوصف الجامع في العام هو مبادئ العام من الثلاثمائة والستين درجة فكل درجة يوم من أيّام كل فلك على مقداره في الصغر والكبر ، والمراد من خمسمائة مراتب الأفلاك بعضها مع بعض فإن كل فلك لا يتصل بالفلك الآخر إلا بخمسة أفلاك فاصلة بينهما وهيالممثل والمتممان الحاوي والمحوي في كل فلك من السبعة فتكون خمسة ، فإن السماء

___________________

1 لم نقف على هذه الرواية المذكورة وإنما وقفنا على ما يقرب منها في المعنى وهي ما رواه في البحار 4/88 ح 26 (( فأول ما اختار الله لنفسه العلي العظيم لأنه أعلى الأسماء كلها فمعناه الله )) .

التي عليها المدار والحكم هو الفلك الحامل أي الخارج المركز لا ممثلاتها إذ الممثل حركته حركة فلك البروج فلا تزيد عليها بشيء بل يسير في كل مائة سنة درجة واحدة فالمدار والعمل على الخارج الحامل للكواكب أو التدوير وبه يحصل التدبير المطلوب من الأفلاك لا ممثلاتها فإن ذلك لا ينفع في تكوين العالم السفلي وتدبيره إلا بشيء يسير إذ من العرش التّسخير ومن الأفلاك الأخر التدبير ، فلا يظهر التقدير إلا بعد إتمام التدبير واختلاف المدبر بالهيئات والأوضاع والأحوال ، والدليل على هذا الحمل والتّأويل زائدا على ما قلنا على ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث زينب العطّارة من أن كلّ سماء ومن فيها و من عليها بالنسبة إلى السماء فوقها كحلقة ملقاة في فلاة قي ، وفي هذا الحديث الشريف ساوى بين السموات في الحجم والمقدار والطول والعرض ، وإن جاز أن نقول أن ذلك على نسبة سعة كل فلك وكل سماء إلا أنه كلام ليس من التحقيق ، فصح أن المراد هو الدرجات الفلكية ومدد انتقال الكواكب في كل درجة حيث تطابق درجاتها مع المكوكب ، وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( وعرضها كذلك )) لبيان إثبات أنها كرة مستديرة صحيحة الاستدارة بمعرفة قول أمير المؤمنين عليه السلام (( وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشّداد ))1والجهات أضدادا فافهم ، وهذا أوضح دليل على استدارة السموات السبع لمن يفهم ويعقل .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( وسكان كل سماء جند من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله )) يريد به من جهة الجزئيّات والأشخاص والأعوان والخدام وإلا فرؤساء الملائكة في كل سماء معلومون فالفلك الأول ملكه الكلي إسمعيل ، والفلك الثاني ميخائيل وسيمون وزيتون وشمعون وعطيائيل ، والسماء الثالثة سيديائيل وزهريائيل ، والرابعة صاصائيل وكليائيل وشمائيل ، والخامسة كاكائيل ومزقائيل ، والسادسة سمحائيل ومشوائيل ، والسابعة قرثائيل ورقيائيل ، والثامنة فملائكتها كثيرة وكذلك الرؤساء يجمعهم أنهم

______________________

1 المناقب 2/49

صنفان الأول أسماء الملائكة الكلية هكذا شراحيل عزرائيل إسرائيل نهفائيل شراطيل شهكيل سهراليل صرصائيل سربطائيل شمكائيل مهيكائيل فقبيائيل والثاني بأسمائهم هكذا معائيل بطائيل مهقائيل نهعائيل سمكائيل فقرائيل سعائيل ذوغائيل شرائيل قريتائيل كليائيل خبيائيل غفرائيل دخرائيل دثيائيل ذريائيل فرصائيل عروائيل هلدائيل رشائيل شرهائيل لقبائيل شولبائيل دبليائيل دربائيل عدبائيل حنائيل نودبائيل ، و لهذه الملائكة أسماء أخر وعليها اعتمادي فلا بأس أن نذكرها وهيهمقغائيل وغحائيل الذائيل وكفائيل هكثائيل وعقغائيل أمضيائيل وفخغائيل وعضائيل بكقائيل طمثغائيل ونفائيل أحيذقائيل حكذائيل ولظغائيل وسخائيل وطذائيل وصنائيل طتتائيل طكرائيل ومقغائيل وطخذائيل دكذائيل هلظائيل حكتائيل جفثقائيل لسقغائيل ذنقغائيل ، والسماء التاسعة وهو العرش والفلك الأعظم ومحدد الجهات وله ظاهر وباطن ، فالملائكة الظاهرة أربعة ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وجبرائيل ، والباطنة هم الملائكة العالون الذين ما سجدوا لآدم كما أخبر الحق سبحانه عنهم حين معاتبة إبليس { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }1‏ وهم أربعة أيضا ، روح القدس والروح من أمر الله وذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى والرابع الروح على ملائكة الحجب ، وبيان حقائق هذه الظواهر مما لا تسعه الدفاتر والإجمال يورث الإخلال والله الموفق في كل حال .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في السماء الثانية أنها خلقت من الغمام أشار بأبي هو وأمي بهذا الكلام الموجز إلى كل أحوال الفلك الثاني ، فأشار بالغمام إلى أن طبعها بارد رطب مختلطة باليبـوسة الهبائية الممتزجة بالهواء ، فظاهرها البرودة واليبوسة الذائبة الغير المنجمدة و باطنها الحرارة والرطوبة ، ولما كانت مجاورة للسماء الأولى التي هي البرودة والرطوبة خفيت الحرارة فصار طبعها طبعا سيّالا ينقلب مع كل ذي طبيعة لاجتماعها الطبائع

_______________

1 ص 75

 

 

السيّالة كالغمام قال الشاعر :

         

    عاشر أخا ثقة تحظى بصحبتــه     فالطبع مكتسب من كل مصحوب

    كالـريـح آخــذة مما تمر به      نتـنا من النتن أو طيبا من الطيب

 

       فعلى ما بينا ظهر لك وجه الجمع بين كلمات علماء أهل هذا الشأن فمنهم من قال أنها باردة يابسة ، ومنهم من قال أنها باردة رطبة ، وأهل الحروف ذكروا لها طبيعتان لظاهرها طبيعة التراب ولباطنها طبيعة         الهواء ، وبعض أهل النجوم قال إنها ليست لها طبيعة خاصة فمع كل طبيعة تأخذ طبيعته ، وإن ارتفع التناظر فينظر مقارنتها مع البروج وهم وإن قالوا ذلك في عطارد إلا أنه لا فرق بين الكوكب وفلكه في الطبيعة إلا أن في الكوكب أقوى مما في الفلك ، وقول صلى الله عليه وآله وسلم النبي أتى بيانا جامعا لكل هذه المذاهب وشرحا لحقيقة هذه الكوكب والفلك وإنما سماء الفكر وإنه للكتّاب وأهل أرباب القلم كما نذكر إنشاء الله .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في السماء الثالثة أنها خلقت من زبرجد لأنّ باطنها حار رطب ولونه الصفرة وظاهرها بارد يابس على ما ذهب إليه بعض أهل الحروف ولونه السّواد والزّبرجد يطلق على هذا اللون .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرابعة أنها خلقت من ذهب يريد بالذهب الطبع الذّاتي له أولاّ فإنه إنما يتكون بنظر الشمس حتى قال بعضهم أنّ طبيعته حار يابس لمشابهة الأثر مع مؤثره ، والذي يقول أن طبعه حارّ رطب كما هو التحقيق يقول أنّ ما من الشمس هو الحرارة واليبوسة ، والرطوبة إنما هي من المكان الذي يتولد فيه ، فطبعه الأصلي هو الحرارة واليبوسة المعتدلة كما في الفلك الرّابع ، وأمّا صفرة الذهب فكصفرة نور الشمس لاختلاطه بالأبخرة الرّطبة وكذا لاختلاط الذّهب مع الرّطوبة الأرضية كالمرّة الصفراء ، ومقتضى هذه الأمور كلّها الحمرة كما قرّر في العلم الطّبيعي .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( الخامسة من ياقوتة حمراء )) على مقتضى ظاهر السّماء فإن الفلك الخامس له جهتان بظاهره حارّ يابس لونه أحمر شديد الحمرة نحس أصفر ، وبباطنه بارد رطب كما قرّر في علم الحروف وهو بباطنه سعد وبظاهره نحس ، وبظاهره ياقوتة حمراء وبباطنه درّة بيضاء , ولذا يعّبرون عند الإشارة إلى كوكب المريخ صاحب السّماء الخامس يقولون أنه شيخ كبير قاعد على كرسّي من الدم إذ سنّ الشيخوخة يقتضي تزايد البرودة والرطوبة لتقليل الحرارة الغريزيّة التي في سنّ الشّباب ، وكونه على كرسي الدّم إشارة إلى أن هذه الحرارة إنما هي لاحقة له عارضة عليه وليست ذاتية كما في قوله عزّ وجل { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }1 { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }2 .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( السادسة من فضة بيضاء )) على ظاهره لأن السّماء السادسة هي سماء المشتري وهو بارد رطب إلا أنّ في باطنه أجزاء حارة لتقوية الحياة كالفضة فإن في باطنها جزء من الحرارة ، ولذا إذا أرادوا أن يصنعوا إكسير الفضة يأخذون جزءين من الفتاة الغربيّة ولبنة العذراء وجزء واحدا من الفتى الشّرقي وهو شيء يشبه البرق وجزء من الأنفخة وهو القاضي الذي يشير إليها بالتراضي فينفخون في المجموع بريح الجنوب فينعقد فضة صافية يؤثر فيها ، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم فضة بيضاء يشير إلى حقيقة الأمر في هذه السماء وهذا الفلك لأنهم عليهم السلام يتكلمون عمّا هو الواقع الأوّلي فافهم إن كنت تفهم .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( السابعة من ذهب )) وهو يشير إلى باطن تلك السماء لإظهارها ، فإن ظاهرها بارد يابس طبع الموت وهو النحس الأكبر لأبناء الدّنيا وأما باطنها حارّ رطب كما صرح بذلك علماء الحروف ودلّ عليه العقل والوجدان ، والحارّ الرطب لونه الصفرة كالذهب

_____________________

1 الحديد 13                      2 الإسراء 82

فإنّه حارّ رطب على الأصح مطابق لونه طبعه ولذا شبهه صلى الله عليه وآله وسلم بالذهب مراعاة لباطن الأمر ، لأن السماء السابعة وكوكبها منسوبتان إلى علي عليه السلام هو عليه السلام عذاب على الكافرين وموت لهم وحياة ورحمة على المؤمنين كما في الزيارة (( السلام على نعمة الله على الأبرار ونقمته على الفجّار ))1ولما ظهر طبع الباطن في طبع ظاهره ظهرت الحمرة المائلة إلى السواد في الكوكب وهو النجم الثّاقب ، ومرادي بالباطن والظّاهر ليس هو الغيب والشهادة والجسد والرّوح وإنما المراد بهما الذّاتية الأصلية والعرضّية الفرعية كما قال عزّ وجلّ { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }‏2 { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }‏3 .

 

       وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( فوق السماء السابعة بحر الحيوان إلى آخر الحجب )) بيانه على وجوه كثيرة و ليس لي الآن إقبال لبيان كلّها أو أغلبها أوأدقّها وأعظمها وإنما أذكر وجها واحدا من تلك الوجوه حسب ما يظهر في بادئ النّظر ، فنقول قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( بحر الحيوان )) يريد به البحر المكفوف الذي كل السموات السّبع والأرضين السبع ومن فيهن ومن عليهن عنده كحلقة ملقاة في فلاة ، وذلك البحر هو ينبوع الثلوج والأمطار وفيه جبال البرد وبه فسّر قوله تعالى { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ }4 والقمر إنما يأخذ من ذلك البحر أي من صفته فهو بحر عند استمداد القمر منه بواسطة الشمس وجبل بالنسبة إلى مقامه و هذا معنى مكفوفيّته ولذاورد في القرآن بعنوان الجبل وفي الأخبار بعنوان البحر ، والحياة إنما نسبت إليه لكون القمر الذي هو العلة الصوريـة التي بها الحياة مستّمدا منه .

_____________________

1 الزيارة السادسة لأمير المؤمنين عليه السلام 

2 الحديد 13                 3 البقرة 189

4 النور 43

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( وفوقه بحر الظلمة )) يريد بالظلمة الهواء كما في حديث زينب العطارة ، ويريد بها السماء الثامنة وهي فلك الثوابت والبروج والمنازل من حيث هي ، وعبر عنها بالظلمة لكونها عالم الكثرة وهي تستلزم السواد وهو قـوله عليهم السلام (( عليكم بالسواد الأعظم ))1 والظلّة الخضراء وحجاب الزبرجد وحجاب الزمرد وكل ذلك يريدون عليهم السلام به الكثرة المستلزمة للسواد المختلطة بألوان أخر أو باقية بصرافة سذاجته .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( بحر النور )) يريد به البهاء الجسماني في العالم الظلماني وذلك ليس إلا العرش محدد الجهات الجسمانية الحسية وهو نور لخلوصه من ظلمة كثرات الكواكب وكونه مهبطا للأنوار الإلهية القدسية ومحلا لاستواء الرحمن في العوالم الجسمية و مثالا للعرش الأعظم الأعلى .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( الحجب )) أقول هذه المراتب التي سيذكرها كلّها أنوار متصلة بالأجساد الفلكية ولاشك أن الأنوار مقامها أعلى من الأجساد ، فلما فرغ صلى الله عليه وآله وسلم من بيان مراتب الأجساد أراد أن يبين مراتب الأرواح والأنوار فأشار إلى الأنوار المتعلّقة بالسماء الأولى وهيفي عالمها ووصفها بالحجب لتعدّد المتعلقات حيث أن لها أربعة أفلاك وعلى كل فلك قد تعلق نور من الأنوار وهو واسطة لإيصال الفيض من المبدأ إليه ومنه إلى ما تحته ، فهو الحجب بجميع مراتبه والواسطة بين الممدّ و المستمدّ فإن المبادئ كلها تنتهي إلى السماء الأولى ولذاكانت هي سماء الحياة المتحققة بالصورة الشخصية فالصورة حجاب المادة ، ولما كانت الشمس هي العلة الماديـة وهي جهة الفاعل و المبدأ ، والقمر هو العلة الصورية ، والحجاب إنما هو بالصورة فإنّ بالمادة من غير الارتباط بالصورة وصال واتصال وبالصورة كائنة ما كانت حجاب وفراق وانقطاع ، أو أن الظاهر بالصورة حجاب للحقيقة و هذا الفلك آخر مراتب الصور في المبادئ

_____________________

1 شرح النهج 8/123

العلّيّة العالية ولذايستنطق من الحروف الطاء مع كمالها الشعوري والظهوري إثباتا لمقام { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }1 أي إمام حكيم بعد إمام حكيم والكمال الشعوري للطاء فاء والكمال الظهوري لها ( مه ) فإذا جمعتهما مع الطاء يكون المستنـطق فاطمة عليها السلام فافهم السر الحقيقي وكن به ضنينا .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( سدرة المنتهى )) يريد بها النور المتعلق بالفلك الثاني والسماء الثانية ، وعلى هذا يكون هذا النور المتعلق بهذا الفلك آخر مراتب السدرة ، وأما أعلاها فهو الكرسي الذي يأتي ذكره إنّ شاء الله ، وبينهما من المراتب كلها مراتب أغصانها الكلية والجزئية وأوراقها وأوراق أوراقها وهكذا إلى ما لا نهاية له ، و إنما اختص هذا الفلك بهذه المرتبة لكونه فلك الفكر المتقلب في الأشياء وظهور الكثرة فيها ، ولذا كان التحير الذي هو الإقامة والاستقامة والرجعة فيه أكثر من غيره وله أوجان وحضيضان بخلاف غيره ، وهو مع كل طبيعة يميل إلى طبيعته ، وأمثال ذلك عن التقلبات المتشبعة من أصل واحد كالشجرة مع أنّ هذا الفلك هو كاتب الكرسي فانتهت السدرة إليه فافهم .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( جنة المأوى )) يريد بها النور المتعلق بالسماء الثالثة وهي محل الطرب والعيش والفرح والحسن والجمال والغناء والنغمات المطربة وأمثالها من أنواع النعيم ، وهذه ظاهر الجنة الحقيقية الظاهرة كالسدرة حرفا بحرف .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب المجد ))  يريد به النور المتعلق بالفلك الرابع إذ له العلوّ على كل الأفلاك السبعة ، وهو العرش الثاني في العالم الجسماني ، وهو باب الوجود و منه مواد الموجود وباقي الأفلاك تستمد منه وهو يمدها بأوائل جواهر علله ولذا سماه صلى الله عليه وآله وسلم حجاب المجد ، وإنما سماه حجابـا لكونه ليس إلا حكايـة مثال المبدأ فكان

___________________

1 الدخان 4

حجابه وبابه ، وليس المراد منه ما ذكرنا في الفلك الأول الذي هو التاسع أولا .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب الحمد )) يريد به النور المتعلق بالفلك الخامس من حيث باطنه لكونه من تلك الحيثية رحمة عظيمة على المواد السفلية والرحمة الواسعة هي الحمد كما ذكرنا سابقا مرارا فراجع تفهم إنشاء الله ، لأنّ مرجع الرحمة إلى الولاية وهيلواء الحمد قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي عليه السلام حامله ))1 قال تعالى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا }2 .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب الجبروت )) يريد به النور المتعلق بالفلك السابع فإنه حجاب الجبروت الذي هو النور الأعظم الذي حامله روح القدس ، وهو ملك له رؤوس بعدد رؤوس الخلائق وهذا ظاهر إنشاء الله ، ونسبة هذا الحجاب إلى الجبروت نسبة الدماغ إلى القلب .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب العزّ )) يريد به النور المتعلق ببحر الحيوان وهو جبال البرد كما ذكرنا سابقا و إنما عبر عنه بالعز لأنّ كلما تحته مستمد منه ومستقهر لديه و له هيمنة له فكان عزيزا منيعا غالبا .

___________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في الفضائل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت ثلاثا وعلي مشاركي فيها , وأعطي علي ثلاثة ولما شاركه فيها , فقيل : يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام , فقال : لواء الحمد لي وعلي حامله , والكوثر لي وعلي ساقيه , والجنة لي وعلي قاسمهما , وأما الثلاث التي أعطيت عليا ولما شاركه فيها فإنه أعطي رسول الله صهرا ولماعط مثله , وأعطي زوجته فاطمة الزهراء ولماعط مثلها , وأعطي ولديه الحسن والحسين ولماعط مثلهما )) .

2 الكهف 44 

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب العظمة )) يريد بها النور المتعلق بفلك الثوابت وفلك البروج وفلك المنازل والوجه هنا ظاهر وقد تكرر منا في هذا الشرح ما يدل على ذلك ، فإنّ العظمة مقام ظهور مشروح العلل ومبين الأسباب وتجلي الأسماء الفعلية الإلهية ظاهرة مفصّلة كلية وجزئية نوعية وشخصية كما ظهرت العظمة في باء بسم الله الرحمن الرحيم ولذا شرع التسبيح باسم الله العظيم في الركوع فافهم .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( حجاب الكبر )) يريد به النور المتعلق بمجموع الأفلاك والسموات الجسمانية فإنّ الكبرياء هي الظهور في العالم الأدنى الإضافي ، وحكم المجموع كالشجرة غير حكم كل واحد كالغصن والورقة ، فالكبرياء هي النور المقوم لكل هذه الكرة من حيث هي ، ومثال البحر الحيوان في الإنسان كالحرارة الغريزية الظاهرة بالدم الأصفر المتخللة في تجاويف القلب ، والظلمة هي البخار اللطيف الغير المحسوس في تجاويف القلب الذي يعبر عنها الأطباء بالروح الحيواني ، وبحر النور هو الروح القديمة التي هي عبارة عن الخلق الآخر في قوله عزّ وجلّ { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ }1‏ وهذه الحجب جهات تجليات تلك الروح من حيث كونها حاملة لظهور اسم من أسماء الله تعالى بصفة من صفاته .

 

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( الكرسي )) يريد به صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ سدرة المنتهى وجنة المأوى ونهايات الأشياء ، وهو نور الستر الظاهر بظهوره في الفلك الثامن نفسه لا من حيث البروج والمنازل كما تقدمت إليه الإشارة ، وهو ذات الله العليا والنفس التي لا يعلم ما فيها عيسى عليه السلام وسدرة المنتهى وجنة المأوى من عرفها لم يشق أبدا ومن لم يعرفها ضلّ وغوى ، والإضافة في ذات الله لامية تمليكية يعني ذات مملوكـة لله سبحانه وهي أعلى الذات المملوكة وأشرفها وهي سر بسم الله الرحمن الرحيم وباؤها .

____________________

1 المؤمنون 14

       قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( العرش )) يريد به القطب الأعظم والنور الأقدم وعلم الكيفوفة ومصدر البداء وعلل الأشياء على حسب مراتبه وأركانه وأنواره وأسراره وإمداداته إلى غيرها من الأحوال التي لو تصدينا لشرحها لأدى إلى التطويل فاكتفينا بالإشارة لأهل التلويح .

 

       وهذا الحديث الشريف صلى الله على قائله جمع أصول مراتب المطويّات العلويّات مما يطلق عليه السموات في الظاهر والباطن بطبائعها وألوانها .

 

       وأما أسماء السموات فعن أمير المؤمنين عليه السلام (( اسم السماء الدنيا رفيع وهي من ماء دخان ، واسم السماء الثانية فيدوم وهي على لون  النّحاس ، واسم السماء الثالثة المادوم وهي على لون الشبة ، واسم السماء الرابعة أرقلون وهي على لون الفضة ، و السماء الخامسة اسمها هيعون وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها عروس وهي ياقوتة         خضراء ، والسماء السابعة اسمها عجماء وهي درّة بيضاء ))1 .

 

        وأهل الحروف ذكروا لكل سماء اسماً آخر و قالوا أن السماء السابعة اسمها عجويبا والسماء السادسة اسمها بريقا والخامسة عرتقا والرابعة أفلون والثالثة ماعون والثانية برقيد والأولى برقيقا .

 

       ولا تتوهم أن قول أمير المؤمنين عليه السلام في السماء الثانية أنها على لون النحاس ينافي على ما تقدم من تلويح الحديث وما اتفق عليه أهل الفلك من أن طبعها بارد يابس أو بارد رطب وحار رطب كما عن أهل الحروف ولا يقتضي أحد من هذه الطبائع لون النحاس لأنه حار يابس في الثالثة ، لأنا نقول أن لون النحاس هو الحمرة إلا أنها على ثلاثة أنواع فيه أحدها حمرة تميل إلى البياض وثانيها حمرة تميل إلى الصفرة وثالثها حمرة تميل إلى السواد ، وأنت قـد علمت أن في طبع ذلك الفلك رطوبة سيّالة وهو في باطنها حار رطب

_____________________

1 روضة الواعظين 44

فباطنه يقتضي الصفرة و ظاهره يقتضي البياض أوالسواد فاجتماع البياض والصفرة تحدث عنها الحمرة فإن نظرت إلى ظاهره من جهة السواد بملاحظة البرودة واليبوسة يكون اللون حينئذ حمرة يميل إلى السواد لأن البرودة واليبوسة مختلطة مع البرودة والرطوبة فافهم ، وإن نظرت إلى خفاء الحرارة فيه واستجنانه وعدم ظهوره إلا قليل تكون الحمرة إلى البياض أقرب ، ولك أن تجعل لون النحاس إشارة إلى الخضرة من جهة زنجاره كما ورد التصريح به في بعض الروايات في المولود الفلسفي وزنجار النحاس الأخضر فحين إذن يكون المراد بيان لونه من جهة ذاته ورتبته وفعله فإن آخر مراتب سدرة المنتهى التي تغرد على أغصانها طيور خضر .

 

       وأما بيان قوله عليه السلام في السماء الرابعة أنها على لون الفضة مع أن لونها الحمرة على مقتضى طبيعتها من الحرارة اليبوسة ولم يذكروا لها طبيعة أخرى والفضة لونها البياض على مقتضى طبيعته التي هي البرودة والرطوبة وهذا يقتضي ما هو المعروف من الشمس والإمام عليه السلام ما يقول إلا      الحق ، والمعروف عنهم أيضا حق لدلالة العقل والنقل والوجدان والمشاهدة ، فاعلم أن الشمس التي هي صاحب السماء الرابعة لها أحوال منها حال مبدئيتها وأنها أصل ومنشأ للأفلاك الستة الباقية وهي منها نشأت وعنها  برزت وإليها عادت ، ومنها حال كونها ظاهر العرش المركب من الأنوار الأربعة المعروفة من النور الأبيض والنور الأصفر والنور الأخضر والنور الأحمر ومنها حال كونها مرتبة للمواد ومضيفة على الاستعداد وكل هذه الأحوال ذاتية حقيقية يترتب عليها أحكام ظاهرية وباطنية .

 

       فالحالة الأولى تقتضي البساطة وسلب الإضافة ورتبة القهارية ، فإذا أردنا أن ننسب إليها لوناً في هذه الحالة ما لا يلق لها إلا البياض لأنه أبسط الألوان وأشرفها حتى قالوا أنه ذاتي وليس بلون وهذا هو لون المبدأ وقد ظهر هذا اللون من الشمس ، أوما ترى بياض النهار خصوصا الصبح الكاذب والصادق ولا شك أن بياض نهار الصبح ليس إلا من الشمس وقد صرّح بذلك مولانا علي بن الحسين عليه السلام في حديث ألوان العرش إلى أن قال عليه السلام (( ونور أبيض منه ابيض البياض ( ومنه ضوء النهار ))1فعلى هذا فالمناسب هو لون الفضة التي في الغاية والنهاية في صفاء البياض .

 

       والحالة الثانية حالة الامتزاج وقوة التركيب المستلزم للأعاجيب فإذا أردنا أن ننسب إليها اللون في هذه الحالة تعبر عنها بألوان الطّواويس وهو كما ترى من ضوء الشمس إذا نظرت إليها تحت حجاب أسود فإنك ترى ألواناً مختلفة من الحمرة والصفرة والخضرة .

 

       والحالة الثالثة تقتضي الحرارة واليبوسة للتصعيد والتجفيف ونضج المواد وظهور مثال الفاعل فيه الظاهر يوم الرجعة فإن الناس يرون جسد أمير المؤمنين عليه السلام في عين الشمس فإذا أردنا أن ننسب إليها اللون في هذه الحالة تعبّر عنها بالحمرة أو الذهب أو أمثال ذلك وهذا كما ترى من ظهور الحمرة المشرقية والمغربية عند تكاثف البخار أو تراكم السحاب المزجي قبل أن يتراكم ، فعلى هذا فلا تنافي ولا تعارض بين الأخبار و الروايات وكلمات سادة البريات .

 

       وقوله عليه السلام في السماء السادسة أنها من ياقوتة خضراء يشير به إلى حقيقة الأمر في ذلك فإن السماء السادسة هي سماء العلم وهو النور الأخضر الذي في الحديث المتقدم والنور الأخضر الذي منه خضرّت الخضرة وقوله عليه السلام في السماء السابعة أنها من الدرّة البيضاء وقد قال في الحديث المتقدم أنها من الذهب يشير به أيضاً إلى الواقع لأن السماء السابعة سماء العقل ولا شك أن العقل نور أبيض فصح التعبير بالدرّة .

____________________

1 الكافي 1/129 ح 1 ولكن من غير عبارة ( ومنه ضوء النهار ) .

 

 

 

 

       روى علي بن إبراهيم عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قـال (( قلت له أخبرني عن قول الله عز وجل { وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ }1فقال عليه السلام : هي محبوكة إلى الأرض و شبك بين أصابعه ، فقلت : كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله تعالى يقول { رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } فقال عليه السلام : سبحان الله أليس الله يقول { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }2 ، فقلت : بلى ، فقال عليه السلام : ثَمّ عمد ولكن لا ترونها ، قلت : كيف ذلك جعلني الله فداك ، فبسط كفّه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال عليه السلام هذه أرض الدنيا والسماء الدنيا عليها فوقها قبّة ، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبّة ، والأرض الرباعة فوق السماء الثالثة والسماء الرابعة فوقها قبة ، والأرض الخامسة فوق السماء الرابعة والسماء الخامسة فوقها قبة ، والأرض السادسة فوق السماء الخامسة والسماء السادسة فوقها قبة ، والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمن تبارك الله فوق السماء السابعة وهو قول الله تعالى          ‏____________________

1 الذاريات 7

2 الرعد 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

{ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ }1 فأما صاحب الأمر فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوصي بعد رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم قائم هو على وجهه الأرض فإنما يتنزّل الأمر إليه من فوق السماء من بين السموات والأرضين ، قلت : فما تحتـنا إلا أرض واحدة ، فقال عليه السلام : ما تحتنا إلا أرض واحدة ))2 .

 

       وأما مقدار السموات وسعتها ومركز جرمها ووزنها وسعة دائرتها وأبعادها فهي مذكورة في كتب القوم فليراجع إليها إذ ليس في ذكر ما هنا لنا مزيد فائدة إذ لسنا بصدد ذكر أقوال العلماء فما هو منسوب إليهم موكول إلى كتبهم .

 

       قوله عليه السلام (( خلق السموات بلا دعائم )) يريد به دعامة غير ذاتها عرضية لها كما في دعامته حيث لا يستقر بدونها وهو كذلك ، فإن هذه الحاجة من جهة ضعف البنية وخلطها مع طبيعة غيرها فإذا أرادوا رفعها إلى أحد مرتبة بسائطها لا يمكن إلا بدعامة ارتباطها إلى الجهة الأخرى ، ألا ترى الجماد من المركبات فإنه لا يمكن رفعها وتصعيدها إلا بإسطوانة رابطة بين الجهتين جهة العلو من جهة الهواء والنار وجهة السفل من جهة التراب والماء ، هذا إذا كانت الغلبة لأحد الجهتين ، وأما التساوي من جميع الجهات فالأطباء والحكماء على امتناعه لاستلزام عدم المكان ، وأما نحن فعلى جوازه وإمكانه ووقوعه في الحضرة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم كما وصفه الله سبحانه

___________________

1 الطلاق 12

2 تفسير القمي 2/328

 

 

 

 

 

بذلك حيث قال تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }1‏ ومكانه أيضا في الوسط وهو رتبة القطبيّة ، وخلوص مقام الفقر الذي كان يفتخر به و حدوث الكرة المصمتة الصّحيحة الاستدارة وهذا كمال رتبة العبودية ، ولذا لما أراد الله سبحانه وصف تـلك الحضرة فحكى عنها بلسانها بقوله عزّ وجلّ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }2 وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله ، ولذا كانت تلك الحضرة المقدسة هي الاسم الأعظم الذي ينجذب إليه كل شيء وينفعل له كل شيء لاعتدال المزاج وبلوغه رتبة السراج الوهّاج ، وأما إذا غلبت إحدى الجهتين فالحكم للغالب مكانا وزمانا ووصفا وحكما لكن فيه ملاحظة ارتباط مع الجهة الأخرى ، وأما إذا خلصت عن الأعراض والغرائب وبلغت رتبة البساطة فهي في مركزها تدور ولا تلتفت ولا تميل ولا ترتبط لشيء أبدا في تقوّمها أصلا فلا تحتاج إلى الدعامة لقوله عزّ وجلّ { وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }‏3 فلمّا كانت السموات في كمال بساطتها وشرفها وعلوها وخلوصها عن تدنّس السفليات فهي في مقامها من غير دعامة تسبح الله سبحانه بسبعين ألف لغة كل واحدة لا تشبه الأخرى فأقامها الله سبحانه مقامها وأدارها حول مركزها فهي دائمة الحركة بمدد الله سبحانه إلى جهة إمدادها واستمدادها إلى ما لا نهاية ولها دعائم ذاتيّة وهي أمر الله الذي قام به كل شيء قال سبحانه { وَمِنْ

___________________

1 القلم 4

2 الفاتحة 5

3 الصافات 164

 

 

 

 

 

 

آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }1قال عليه السلام (( كل شيء سواك قام بأمرك ))2 ، و هو العمد التي لا يرونها قال تعالى { رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }‏3 وتلك العمد هي باب فيض الله من المبدأ إليها أي السموات فتقوم بذلك بمادتها وصورها ، وتلك العمد هي العضد والركن ، قال في الدعاء (( أعضاد وأشهاد ))4 وقال عزّ وجلّ { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }5 فدلت الآية بمفهومها على أنّ الله سبحانه اتخذ الهادين عضدا لخلقه والعضد هو الدعامة ، إلا أنّ لهذه الدعامة حكم ذاتي حقيقي لا تدرك بالحواس الظاهرة بل ولا الباطنة أيضا وإنما تدرك بعين الله سبحانه وطرقه الـذي يرى به نفسه وخلقه قـال تعالى { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ }6 وذلك النّور هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ))7 وذلك النور هو نفس الدعامة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم (( إنّ الله خلق المؤمن من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه أبوه النور وأمّه الرحمة ))8 ، وهذه الدعامة هي قول الله سبحانه للشخص ألست بربكم فافهم السرّ .

___________________

1 الروم 27               2 البحار 90/148 ح 10

3 الرعد 3                4 دعاء الإمام الحج عجل الله فرجه

5 الكهف 51            6 الأنعام 122

7 معاني الأخبار 350

8 المحاسن ص 131 ( بزيادة عبارة ( وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ) بعد كلمة في رحمته .

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام : وأقامها بغير قوائم

 

       يريد مقام الإصدار فإنّ قيام الشيء بالشيء له أربع مقامات شرحناها مفصّلا في تفسيرنا على آية الكرسي عند قوله تعالى { الْحَيُّ الْقَيُّومُ }1 وإلاشارة إليه أنّ القيام إما قيام صدوري وهو قيام الأثر بالمؤثر والمعلول بالعلّة كل واحد في رتبة مقام ، أو قيام تحقيقي ركنّي عضدي وهو قيام الشرائط بمشروطاتها واللّوازم بملزوماتها والصّور بموادّها والعروق بأصولها ، أو قيام ظهوريّ كقيام أشعة الشمس بالأرض و قيام الصّور بالمرآة ، أوقيام عروضي كقيام الألوان والأعراض بالأجسام .

 

       فقيام الأشياء بفعل الله سبحانه قيام صدوري ليس بينهما اتصال ولا انفصال ولا تباين ولا تناسب ولا تضادّ ولا توافق ولا اجتماع ولا افتراق ولا غيرهما من الأحوال المتعلقة بالخلق الظاهرة ، لأنّ فعله سبحانه قد سبق هذه الأشياء كلّها فلا يوصف بها ولا يجري عليه ما هو أجراه .

 

       وقيام الأشياء بموّادها و صورها قيام ركني عضدي أي كل واحد منهما عضد و دعامة مستقلة في تكوّنه و إصداره و انصداره ، وهذا القيام يشترط فيه التناسب والتّوافق والاتصال وعدم البينونة الافتراقيّة وقيامها بمظاهرها أي قيام المبادئ والعلل الظاهرة بأركان ظهورها التي هي نفس معلولاتها وعين أثرها قيام ظهور وهو قوله عزّ وجلّ (( فخلقت الخلق لكي

_____________________

1 البقرة 255

 

 

 

 

أعرف ))1وهذا هو السّر في معموليّة الفاعل للفعل في قولك ضرب زيد عمروا فإنّ زيدا مرفوع على الفاعليّة و العامل فيه هو ضرب و هو فعلـه فافهم .

 

       فالموجودات على أقسام وأنحاء منها ما يحتاج إلى الغير ويقوم به في هذه القيامات الأربعة وهو أضعفها كالألوان ، ومنها ما يحتاج إلى المقوم في الثلاثة كالوجود المقيد بأسره فإنّ كل واحد من أجزائه وجزئيّاته متقوم بمادته وصورته قيام تحقق وعضد وركن ، وبعلّته ومصدره وموجوده قيام صدور ، ومادته متقومة بصورته قيام ظهور ، وصورتها متقومة بمادّته قيام تحقق و قيام عروض أيضا على اعتبار ، وهذه الموجودات تختلف أحوالها وأوضاعها في اللّطافة والكثافة بحسب قلّة الافتقار إلى حدود الصّورة وأجزائها ومتمماتها وكثراتها ، وإلى تركب المادة البسيطة أشرف وأعلا من المفتقر إلى المادة  المركّبة , والمركبة بالتركيب الأول أعلا وأشرف من التركيب الثّاني ، وكذا الصّورة وهكذا إلى ما لا نهاية له بحسب الأكوار والأدوار والأطوار والأوطار وهذين القسمين من الموجودات لا رجحان لوجودهما وكونهما لأنهما متوقفان في الكون الوجودي العيني إلى الشرائط الخارجة عن حقيقة ذاتها فإن وجدت الشرائط وجدا وإلا عدما بالعدم الإضافي الإمكاني .

 

       ومنها ما لا يحتاج إلى الواحد وهو المصدر خاصة ولايترتب وجوده على شرط وحكم خارج عن حقيقة ذاتـه كالإمكان الراجح والوجود الراجح ، والله سبحانه لما استوى برحمانيته على العرش فأعطى كل ذي حق حقه فأعطى ذي الأربعة وذي الثلاثة حقهما وظهر بنوره سبحانه وتعالى في ذي الواحدة فتجلى له به و أظهر أمثاله و آيته ودليله فيه فهو فاعليته فيه وفي الأشياء وهو فاعل فعل اللازم الذي لا يتعدى إلى المفعول به إلا بأمر خارج عن حقيقة ذاته ، فالسموات إن كان المراد بها سموات عالم الإطلاق فالقوائم وإلاعضاد كليّاتها بها منتـفية هناك مما ترى وما لا ترى لأن تلك هي أفلاك

___________________

1 البحار 87/99

الأنوار التي تمحى بها الأغيار ، والقوائم أغيار وهي تستلزم الأكدار قال مولانا سيد الشهداء الصديقين روحي فداه (( محقت الآثار بالآثار ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار ))1فتدور تلك السموات دورة متوالية لا إلى نهاية لها بل ليس هنا توالي وعدمها ، وإنما تدور على قطبها لا إلى جهة ولذاكانت الجهات كلها جهاتها قال تعالى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }2 قال الحجة عجل الله فـرجه وجعلني فـداه (( ومقاماتـك التي لا تـعطيل لها في كل

_____________________

1 الإقبال 350 دعاء عرفة للحسين عليه السلام

2 البقرة 115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مكان ..الخ ))1، فلو كان لتلك المقامات جهة ومكان لكان لها تعطيل ، وتلك السموات هي التي سمع أيوب صوت حركة أفلاكها سماعا جزئيا ولم يطق حتى شك وبكى وقال هذا أمر عظيم وخطب جسيم فأوحى الله تعالى إليه ما أوحى وابتلاه الله سبحانه ما ابتلا به كما هو في حديث سلمان ويأتي بيانه إنشاء الله مفصلا مشروحا ، وتلك السموات لا محور لها إذ لا غاية لسيرها ولانهاية لكرّها سبحان من هو ملكه دائم لا يزول .

 

       وإن أريد بها سماوات عالم التقييد على ما هو المحقق عندنا لا على ما يعرفون من معنا الإطلاق والتقييد فتلك السموات لها دعائم ذاتية غير مرئية وهي مواد وجوداتها وذوات أعيانها وأكوانها السائرة لا إلى جهة المسخّرة لها إليها لأن تلك رشح تلك السموات ودليل ذلك العالم البحت البات وصورها وأشباح هياكلها وأمثالها السائرة إلى جهة لكون سيرها إلى المحور وعلى المحور فحدث لها قطبان قطب جنوبي وقطب شمالي فيكون لها مشرقان فهنالك التدبير لحكم التقدير ، ولما كانت تلك الأشباح وإن كانت كما قال الله عز وجل (( وطبيعتك من خلاف كينونتي ))2 لكنها على ما قال سبحانه كما في الحديث القدسي (( إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة الدنيا )) كانت تلك الأشباح حجبا رقيقة وأستارا دقيقة لا تمنع من نفوذ النور من عالم السرور فاستولى عليها حكم ذلك الصقع فخرجت مشابهة له و حاكية عنه فظهرت بهيئة الاستدارة لبيان العبارة ، فاستدارت على نفسها في مركزها من جهة مبدئها و خالقها وما ارتبطت بشيء آخر غيره فأقامها الله سبحانه مقامها وما ربطها بقائمة ودعامة غيرها وتفضل عليها بالتأثير لأنها وصلت مقام ( أجعلك مثلي ) حيث عملت على مقتضى الأولى ( أطعني ) وهذا معنى قولهم أحسن الأشكال شكل المستدير ، فصارت السموات مرتفعة ظاهرا وباطنا بغير قوائم وحيث أن مولانا الإمام الرضا آتيت لها قوائم ودعامة و

_____________________

1 دعاء الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه في رجب

2 علل الشرائع 10

استدل بمفهوم الصفة و أشار إلى حجيته في قوله تعالى { رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }1 فلا بأس أن نشير إلى قوائمها الغير المرئية فنقول أن الدعامة العظمى والقائمة الكبرى لكل السموات وما فيهن وما بينهن وما فوقهن وما تحتهن هو أمر الله سبحانه القائم به كل شيء وهو الجوهرة الإلهية و اللطيفة الإكسيرية السارية في كل أكوان البرية قال أمير المؤمنين وإن من شيء إلا وفيه منه أصل أوفرع وهذا مادة الإكسير ويصلح للتعلق بكل اسم لكل فلز من فلزات العالم والسماء السابعة لها دعامة من تلك الدعامة الكبرى إلا أنها من الدرة البيضاء والسماء السادسة لها دعامة من الزمردة الخضراء والسماء الخامسة لها دعامة من الياقوتة الحمراء والسماء الرابعة لها دعامة من الذهب والسماء الثالثة لها دعامة من العقيق الأصفر والسماء الثانية لها دعامة من الحديد المزعفر والسماء الأولى لها دعامة من الفضة البيضاء الصافية وهذه دعائم الأفلاك وقوائمها إلا أنها ليست مستقيمة وإنما هي مستديرة وكل ذلك صفة العمود الذي من النور عند أهل البيت المعمور لأن الله تعالى يعطي وليّه عمودا من نور يرى به أعمال الخلائق في تكوينهم وتشريعهم وذواتهم وصفاتهم وقراناتهم واعتباراتهم حين التكوين وقبله وبعده وذلك العمود هو أول ظهور النور الأمري وهو دعامة العرش وقائمته فافهم وإلا سلم تسلم ، ثم اعلم أن المتبادر من القوائم هو إلاربعة إذ ذات القوائم هي التي كل أضلاعها تكون قائمة و هذه لم يتحقق إلا في المربع فتعليق الإمام الإقامة بالقوائم إشارة أن الشيء لا يقوم ظاهرا معروف الحكم مشروح الأسباب ومبين العلل إلا بأربعة أضلاع بتمام الوفق المربع فمهما نقص منها ضلع واحد لا يتحقق ولا يتقوّم ولذاكان شكل المثلث شكل الإعدام وإلافناء وإلاهلاك بخلاف المربع فإنه للتأليف و المحبة و المودة ولا تتوهم أن ذلك ينافي ما أطبق عليه علماء الهيئة ودلت عليه التجربة إن نظر التثليث في الكواكب نظر محبة وصداقه وألفه ونظر التربيع نظر العداوة والبغضاء لأن التثليث عندهم هو التربيع والتربيع هو التثليث واختلفوا في الاسم بحسب الظاهر للأمر الظاهري من بعدهما بثلث

_____________________

1 الرعد 3

الفلك أوربعه و ثلث الفلك هو مائة و عشرون درجة و هذا مربع لكونه مخرج الربع بخلاف ربع الفلك لأنه تسعون وهو مخرج الثلث وليس له مخرج الربع أبدا أبدا فيكون مثلثا فنظره عداوة و خسار و لهذا الكلام مرادات كثيرة طويتها للتطويل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام : و زينها بالكواكب المضيئات

 

       اعلم أن الله سبحانه لما خلق نار الشجر الأخضر نظرت إلى نفسها فخمدت وبردت ثم نظر إليها الرب سبحانه وتعالى فذابت وماعت فخلق الله سبحانه من نارها الأفعال التي من صفاتها عند ظهور المثال الفاعل ومن برودتها وخمودها وجمودها المفعول ومن الرطوبة الذاتية السيالة ارتباط الفاعل إلى المفعول وارتباط المفعول إلى الفاعل فإذا تعددت المفاعيل تعددت وجوه تلك النار في ذلك المفعول الذي هو الأرض والماء بنفخ ريح الجنوب فأدام الملك في الملك ورجع من الوصف إلى الوصف فإن كان ذلك في صقع واحد يكون التعدد في الأشخاص وإن كان في صقع مختلف فإن كان على جهة الإنجماد فالفاعلية على حسب تلك الجهة فإن كان في العقول يظهر الفاعل باستوائه على العرش الذي هوالعقل الكلي وبظهوره ووجوهه في العقول الجزئية فكانت فاعلية كل جزء ووجه من العقول هو الوجه الجزئي من العقل الكلي الذي ظهر له به وإن كان في عالم النفوس يظهر باستوائه على العرش الذي هو النفس الكلية وبظهوره ووجوهه في النفوس الجزئية فكانت فاعلية كل جزء ووجه من النفوس هو الوجه الجزئي من النفس الكلية التي ظهر لها بها وهكذا إلى عالم الأجسام ولما كان الفاعل إنما يوجد المفعول في رتبة المفعول لا في رتبة ذاته يكون ظهور الفاعلية على حسب ذلك المفعول فإن كان المفعول غيبا كان الفاعل بظهوره كذلك وإن كان شهوديا كان الفاعل أيضا بظهوره شهوديا وهكذا الحال في كل الأحوال في كل الأطوار إلا أن في كل عالم فظهرت ذلك النار التي هي مثال الفاعل وظهوره على كل ذلك العالم مجملا ثم تظهر بوجوهه ورؤوسه في تفصيل ذلك العالم فلما كان الفاعل محيطا بجميع مراتب المفعول وقد قلنا للفاعل في كل عالم ظهوران إجمالي وتفصيلي فيكونان هذان الظهوران فلكين محيطين بكل مراتب المفعولات ، وفي الفلك الثاني الذي هو مقام التفصيل تظهر شعلات تلك النار متمايزة بالتعلق إلا أن تلك الشعلات في كل عالم بحسبه ، فإن كان في عالم الأرواح فأنوار ، وإن كان في عالم الأجسام فشعلات جسمية نورية حاملة لظهور الفاعل على حسب استعداد القابلين ، وتلك الشعلات التي هي حوامل ظهور الفاعل بالتدبير والتقدير هي الكواكب لينطبق الظاهر بالباطن والمعنى باللفظ ، ولما كان الفلك الأول لا كثرة فيه لكونه مقام الإجمال لم يظهر كوكب فيها لشدة اللطافة ، وأما الفلك الثاني فمن جهة كونه مقام التفصيل ظهرت الكواكب فيه مفصلة مشروحة فكان كل كوكب مظهر فعل من الأفعال الجزئية ومتعلقا بمفعول من المفعولات السفلية ، والفلك بمنزلة جسد الكوكب والكوكب بمنزلة قواه لا يستغني أحدهما عن الآخر بل قوام الفلك بالكوكب كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( إن أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن الكواكب أمان لأهل السماء ))1، فجعل الله سبحانه الكواكب كلها في الفلك الثاني ، فالله سبحانه زين السموات بالكواكب وجعل الكواكب كلها في الثامن وأمد الأفلاك بها و جعل لكل فلك من السبعة كوكبا          واحدا ، والوجه كما ذكرنا لأن الكواكب هي مظاهر التدبير ومحال مشيئة الله المتعلقة بالعوالم الجسمية ومهابط التّجليات الروحانية ومواقع الفيوضات الرحمانية في المقامات التفصيلية ، ولما كان الكرسي هو محل التفصيل ومظهر الأنوار العرشية من الجليل والقليل ظهرت الكواكب التي هي محال تلك الأنوار ومجالي تلك الآثار على التفصيل فيه فليس للكوكب موقع ومحل إلا هناك وإلا لم تكن الكواكب أسباب التأثير أولايكون الكرسي مقام التفصيل وقد دلّ الدليل العقلي والنقلي على الأمرين ، وهو مثال اللوح المحفوظ والنفس الكلية والظاهر طبق الباطن كما أن العرش مثال القلم والعقل ، وأما السبعة فلما كانت أسباب التمكين وآلات التكوين و بدونها لم تتحقق الفيوضات والوجودات في العالم السفلي وقد قـلنا أن المـؤثر في الحقيقـة هو الكوكب والفلك هو محل لذلك وإن كان له أيضا تأثير من نوع تـأثير

___________________

1 لم نقف على هذا الحديث كما ذكره المصنف أعلى الله مقامه ولكن وجدنا ما يقرب منه في علل الشرائع صفحة 123 وهو (( النجوم أمان لأهل السماء كما أن أهل بيتي أمان لأهل الأرض )) .

الكوكب ، ونظيرهما في العالم الصغير هو القوى الأربع بالنسبة إلى كلّ البدن من الجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وجب أن يكون كل فلك من السبعة محلا لكوكب .

 

       وأما وجه انقسام الكرسي من جهة الكواكب إلى البروج والمنازل والدرج واختصاص كواكب البروج والمنازل بأغلب التأثيرات دون غيرها فاعلم أن النفس الرحماني الأولي أوالثانوي لما تعلق بالإيجاد على جهة الابتداء ظهر من كل واحد منها على جهة الترتيب ثمانية وعشرون اسما من أسماء الله سبحانه وبها قوام الأكوان والأعيان والانقلابات التي تقع في الزمان     والمكان ، ولذا جرت الحروف التدوينية التي هي أصول الصفات الحرفية والأشباح المنفصلة من كل التأثيرات والـتركيبات الغير المتناهية على ذلك العدد ، فتلك الأسماء مظاهر ومجالي تظهر في كل عالم بحسبه فظهرت في الصفات الحاكمية التدوينية حروفا وفي العوالم الغيبية حقائق وفي العوالم الشهودية كواكب ، ولذا انقسمت منطقة البروج إلى هذه الأقسام الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر لأنها المبادئ والعلل في الجسمانيات وهو مقام الباء في البسملة ، قال عليه السلام (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) ، وهنا وجه آخر دقيق وهوما قلنا سابقا أن الوجود مع ما فيه من الأحوال والأوضاع إنما هو متقوم بيد الله سبحانه وكل ما في الكون قبضات تقبضة اليد إما باليمين أو بالشمال وإن كانت كلتا يديه يمين فالإشارة إلى الأول قوله عز وجل { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا

 

 

 

 

 

 

 

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1 .

 

       وإلاشارة إلى الثاني قوله عز وجل { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }2 ، والإشارة إلى أن كل الوجود بيد الله سبحانه قوله عز وجل { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء }‏3 واليد قد ظهرت في اليمين والشمال وهما اليدان وكل يد مشتملة على أربعة عشر عقد فالمجموع ثمانية وعشرون وهو عدد المنازل وأربعة عشر منها نورانية أبدا وهي ( صراط علي حق نمسكه ) وأربعة عشر منها ظلمانية أبدا لتمام ظهور اليدين في المقامين .

 

       وأما البروج فاعلم أن الأسماء الكلية التي عليها مدار الكون إثنى عشر اسما وهو قوله عليه السلام (( إنّ الله خلق اسما بالحروف غير مصوّت )) إلى أن قال عليه السلام (( فجعله أربعة أجزاء ليس واحدا منها قبل الآخر وحجب واحدا منها وهو المكنون المخزون وأظهر ثلاثة منها لفاقة الخلق إليها

______________________

1 الزمر 67

2 الأنعام 125 _ 126

3 المائدة 164

 

 

 

 

 

 

ثم جعل لكل واحد أربعة أركان فذلك اثني عشر ركنا ))1وهذه الإثني عشر هي الأصول وعليها يدور الأملاك الأربعة جبرائيل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل وبها قامت أركان العرش ، ثم يفصّل كل ركن أو قل كل اسم إلى ثلاثين اسما أوركنا فيكون التقسيم في الإثنى عشر ثلاث مائة وستين اسما وكل هذه الأسماء مندرجة تحت هيمنة اسم الله والرحمن ، ولما كانت رتبة الألوهية رتبة البساطة والقدّوسية والتنـزيهية وليس فيها تكثر الأسماء والصفات والإضافات إلا ذكرا ومكانا وإجمالا ، والظهور في عالم البروز إلى هذه المراتب والمقامات والأسماء والصفات في رتبة الرحـمانية والعوالم متطابقة والأكوان متناسقة جرت الحكمة في إبداع عالم الشهادة والأجسام على ذلك النهج ، ولما كانت المشابهة والمناسبة بين الأثر وصفة المؤثر مما لا بد منه ليمكن للأثر التلقي والاستفاضة من المؤثر وجب أن تكون لتلك الأسماء مظاهر تتجلى بها في العوالم الشهودية ، وقد أثبتنا أن المبادئ العالية في الكون الجسمي هي الأفلاك لا غير إذ لا ألطف وأشرف منها فوجب أن تكون هي المظاهر ، ولما كانت الألوهية والرحمانية لهما هيمنة وتسلط وإحاطة على كل الأكوان والأسماء ، فكذلك الفلكان الأعظمان لهما إحاطة تـامة لكل الأجسام ، ولما كانت الألوهية مقدمة ومحيطة على الرحمانية كان مظهرها في عالم الأجسام وهو الفلك الأول كذلك ، ولما كانت الألوهية ليس فيها الكثرات الأسمائية إلا بالذكر وجب أن يكون المظهر على هيئة الظاهر فلم يكن في الفلك الأعلى كوكب وكثرة بوجه من الوجوه ، ولما كانت الرحمانية تحت الألوهية وعندما ظهرت الأسماء وفصلت ووجدت المتعلقات والأسماء المتقابلة كان مظهرها تحت مظهر الألوهية ، ولما كان مظهر الألوهية هو الفلك الأول كان مظهر الرحمانية هو الفلك الثاني ، ولما كانت الكواكب على ما عرفت مظاهر التدبير ومواقع الأسماء ظهرت الكواكب كلّها في فلك البروج فظهرت أولا مبادئ الأسماء وأصول مظاهرها وهي الكواكب المركوزة في منطقة البروج المحيطة بكل ذرة من ذرات الوجود فكانت البروج إثنا عشر

____________________

1 الكافي 1/87 _ 88

على طبق الأسماء والأركان الإثني عشر فطابق المظهر الظاهر ذلك تقدير العزيز العليم .

 

       ثم قسّم كل برج ثلاثين قسمة على قياس تقسيم كل من الأسماء الإثني عشر إلى ثلاثين اسما منسوبا إليها فبلغت الأسماء إلى ثلاثمائة وستين كذلك البروج قد قسمت على ذلك النهج فصار تقسيم مجموع الدورة ثلاث مائة وستين درجة وهي تمام الدورة ، وقد علمت أن الكواكب كلها في الكرسي وما سواه من الأفلاك ليس في كل منها إلا كوكب واحد  وأما قوله سبحانه  { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ }1 فالمراد به الدنيا بمعنى الأدون، فإن السماء الحقيقة سماءان سماء عليا وسماء دنيا فالعليا هي العرش وهو الفلك الأعظم ثم من بعدها تكون السماء الدنيا والسماء الدنيا هي الكرسي على هذا الاعتبار والكواكب كلها مركوزة فيه على الواقع ، ويراد من السماء الدنيا آخر الأفلاك كما هو الظاهر المتبادر من إطلاقات كلمات أهل العصمة عليهم السلام ، فحينئذ يكون المراد بتزيينها بالكواكب لكونها أول محط نظر النّاظر فتظهر الكواكب فيها منطبعة كالهواء المنطبع فيها الصور والهيئات والأشكال والمقادير ، وعدم الظهور لا يستلزم عدم الوجود مع أن هذا أمر واضح فإن الكواكب تختلف هيئاتها بحسب النظر لغلظة الهواء ورقته وكثافته ولطافته ألا ترى الشمس في بعض الأيام كبيرة عند الطّلوع فإذا بلغت كبد السماء تصغر وكذا القمر وكذا سائر الكواكب وليس ذلك إلا للانطباع وإلا فذات الشيء الواقعي لم تتغير ولم تتبدل ولم  تزل على حالها والتّغيير دليل الانطباع كصورتك في المرآة ، فعلى هذا كل ذلك من الأفلاك يحكي الكواكب بل كل السوافل إذا كانت صيقلية ألا ترى المرآة والماء وسائر الأجسام كيف تحكي الكواكب بمثالها و شبحها وهي في مكانها  فإذا أريد بيان أمر من الأمور يذكر ما هو الأقرب إلى المبين له فتكون السماء الدنيا أعم من فلك القمر وكرة النار وكرة الهواء و كرة البخار والهباء

________________

1 الصافات 6 _ 7

 

فإنّ السماء تطلق عليها كما في قوله تعالى { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء }1 .

 

       وأما كيفية تركيب الكواكب وخلقتها فاعلم أن الله سبحانه خلقها سبع طبقات من صفو العناصر الأربعة من عالم هورقليا كل كوكب على حسب ما فيه من القوة وتختلف قوى الكواكب وطبائعها ، والدليل على اختلاف طبائعها اختلاف ألوانها وأعمالها وآثارها وأشعتها وتأثيراتها في العالم السفلي ، ولا تسمع إلى ما يقولون من أنّ الأفلاك بسيطة ليست مركبة من الطبائع المختلفة فإن ذلك إنكار للإحساس والوجدان ودليل العقل يأبى عن ذلك ، إذ من المحال أن يجعل الله سبحانه الشيء الواحد في الطبيعة والمزاج والذات مختلف الأحوال والتأثير والألوان وما هكذا جرت عادة الحق سبحانه لأن ذلك يستلزم الجبر وخلاف الحكمة ، بل الكواكب مركبة من الطبائع المختلفة فالشمس من نور النار وصفاء الماء ، والقمر من صفاء الماء ونـور النار ، وزحل من صفو التـراب وخالص الماء ، والزهرة من صفو الهواء وهكذا ، وهذه العناصر ليست من عناصر هذه الدنيا وإنما هي من عناصر أسفل هورقيليا .

 

       وقولي أنها سبع طبقات أريد به وفاقا لأخبار الكمال المطلق فإن صنع الله سبحانه على نظم محكم متقن وخلقه على طور واحد ، والشيء لا يبرز في الوجود إلا جامعا للأصلين أصل راجع إلى المبدأ وأصل راجع إلى      نفسه ، فالأصل الأول مبدأ الفرد لفرديـة المبدأ ، والأصل الثاني مبدأ الزوج

_________________

1 البقرة 22

 

 

 

 

 

 

لزوجية المصنوع { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }1‏ ومبدأ الفرد ليس إلا الثلاثة ، لأن الفرد الظاهر في المفعول والمقترن به ليس إلا الواحد وهو ليس إلا الثلاثة لنظر ذلك الواحد حين الاقتران إلى أعلاه وأسفله ونفسه ، وهذه الثلاثة في عالم الجمع يعبّر عنها بالواحد وفي عالم الفصل والفرق يعبر عنها بالثلاثة ، ومن هذه الثلاثة في عالم النور يعبر عنها بالظاهر والمظهر والظهور ، وفي عالم الخلط والمزج يعبر عنها بالعقل والنفس والجسد وهكذا الأمر في كل شيء فافهم إن شاء الله .

 

       ومبدأ الزوج ليس إلا الأربعة لأن التأليف لا يتحقق إلا بقيام الزاوية ولا يكون كذلك إلا المربع والمثلث القائم الزاوية مربع حقيقة .

 

       ولما كانت كل الأشياء جامعة لهذين الأصلين خرجت كلها في الوجود مسبعة إلا أن هذا التسبيع يختـلف في الخفاء والظهور فكلما هو أقرب إلى النور وإلى المبدأ أظهر في الفعل والتأثير لأنه جامع مملك فيكون واسطة في الإيجاد في المراتب السبعة كلها ولذاترى مبادئ الكون من حيث الكمال إما سبعة أومثنّاها قـال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }2 .

 

       روى علي بن إبراهيم عن الباقر عليه السلام أنه سئل عن الشمس لأي شيء صارت أشد حرارة من القمر فقال عليه السلام (( إن الله خلق الشمس من نور النار وصفوالماء طبقا من هذا وطبقا من هذا حتى إذاصارت سبعة أطباق ألبسها الله لباسا من نار فمن هنالك صارت الشمس أحر القمر ، قيل : فالقمر ، قال عليه السلام : إن الله خلق القمر من ضوء النار وصفو الماء طبقا من هذا و طبقا من هذا حتى إذا صارت سبعة أطباق ألبسها الله لباسا

__________________

1 الذاريات 49

2 الحجر 87

 

 

من ماء فمن هناك صار القمر أبرد من الشمس ))1وشرح كيفية هذه الأطباق وبيان حقيقة المزج يطول به الكلام فاكتفينا بذكر الحديث وما تقدم من الكلام ينبئ عن هذا المرام .

 

       قوله عليه السلام (( الكواكب المضيئات )) أما الشمس فلا شك ولاريب أن ضوئها ذاتي ليس بمكتسب وحديث (( الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ))2 لا يراد منه حكم الجسمي وإنما يراد منه الإمداد الباطني الحقيقي ، وقولي أن ضوءها ذاتي لا يراد به أنها مستقلة في ذلك كلا وحاشا بـل على ما روى الصدوق في التـوحيد بـإسناده عن أبي ذر قال (( كنت آخذا بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتماشى جميعا فما زلنا ننظر إلى الشمس حتى غابت ، فقلت : يا رسول الله أين تغيب فقال صلى الله عليه وآله وسلم : في السماء ثم ترفع من سماء إلى سماء حتى ترفع إلى السماء السابعة العليا حتى تكون تحت العرش فتخر ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكلون بها ، ثم تقول يا رب من أين تأمرني أن أطلع أمن مغربي أم من مطلعي فذلك قوله عز وجل { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }3 ، يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه العليم بخلقه ، قال : فيأتيها جبرائيل بحلة ضوء عن نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف أو قصره في الشتاء أوما بين ذلك في الخريف والربيع ، قال فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه ثم تنطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكأني بها قد حبست مقدار ثلاث

___________________

1 تفسير القمي 2/17

2 التوحيد 108

3 يس 38

 

 

 

ليال ثم لا تكسي ضوء و تؤمر أن تطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ }1‏ ، والقمر كذلك من مطلعه ومـجراه في أفق السماء ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة ويسجد تحت العرش ثم يأتيه جبرائيل بالحلة من نور الكرسي و ذلك قوله تعالى { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا }2 ))3 .

 

       وروى الكليني في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام (( إن للشمس  ثلاثمائة وستين برجا لكل برج منها مثل جزيرة من جزائر العرب فتنـزل كل يوم على برج منها ، فإذا غابت انتهت إلى حد بطنان العرش فلم تزل ساجدة إلى الغد ، ثم ترد إلى موضع مطلعها ومعها ملكان يهتفان معها ، وإنّ وجهها لأهل السماء وقفاها لأهل الأرض ولو كان وجهها لأهل الأرض لاحترقت الأرض ومن عليها من شدة حرّها ، ومعنى سجودها ما قال سبحانه { أَلَمْ تَـرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

___________________

1 التكوير 1 _ 2

2 يونس 5

3 التوحيد 281

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ }1))2 .

 

       فمعنى ذاتيّة ضوء الشمس مع ما ذكر في الحديثين الشريفين أنّ الله سبحانه وهبها النور تفضلا ومناً لما سألت الحق سبحانه عن ذلك لما منّ الله عليها بقوة الطلب فهي دائما تسأل النور والله سبحانه يمدها به من جوده وموهبته ويده فيفيض سبحانه بها على ما سواها، والوجه في ذلك ظاهر ظاهرا وباطنا

 

       أما الأول فلأنّ الشمس إذا غابت تغيب معها الأنوار كلها فلو لم  تكن الأنوار لها أو هي مكتسبة مما هو أقوى منها يجب أن يقوم ذلك النور مقام نورها إذا غابت ولم تحدث الظلمة ، كالقمر إذا غاب يقوم نور الشمس مقام نوره وهو أقوى منه وذلك في محل المحاذات ، مع أنّ الشمس إذا ظهرت تغيب أنوار غيرها من الكواكب ، ولا شك أن القويّ يضمحل عنده الضعيف فلو كان في الكواكب ما هو أقوى منها لما خفي عند ظهورها لأن العالي إذا أشرق يضمحل السافل  كنور السراج عند نور الشمس ، وهذا ظاهر معلوم .

 

       وأما الثاني فاعلم أنّ الشمس مربية للوجود الثاني في السفليات وهي مربية للمواد ، والمواد أصل لوجود الشيء فإن الشيء ليس إلا مادة وصورة ، والصورة ليست إلا الحدود والعوارض والهيئات ، وهي لا قوام لها إلا بالمادة ، ولا شك أن المادة هي جهة الفاعل لعلوها وشرفها ووحدتها وبساطتها ،  والصورة هي جهة القابل لاختلافها وتكثرها وتضادها ، ولما كان الأثر يشابه صفة مؤثره وجب أن يكون مربي المادة أشد وأقوى وأظهر وأتم وأثبت وأنور من مربي الحدود والصّور أوالمجموع من حيث الصورة وإلا لزم عدم دلالة الأثر على المؤثر فإن الأثر القوي يدل على المؤثر كذلك ، ولما كانت الشمس هي مظهر الفاعلية لكونها تربي المادة التي هي جهته وجب أن تكون

_____________________

1 الحج 18                         2 الكافي 8/157 ح 148

 

نيّرة لذاتها من غير الاكتساب لكون الفاعل نيّر بذاته قال تعالى {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }1‏ ، والمظهر لو كان له جهة من غير جهة الظهور لم يكن مظهرا فوجب أن تكون الشمس مضيئة بذاتها أي بأن جعلها الله سبحانه حين خلقها كذلك ، فلما كانت هي مظهر الفاعلية فتكون مستوى الرحمن وقلب الإنسان فتدور الكواكب الأخر التي هي بمنزلة القوى والآلات لها فوقها وتحتها كالقوى الإنسانية بالنسبة إلى قلبه، فظهرت فيها الأنوار وصارت مجمع الأسرار فأمدت الفلك السابع أي كوكبه وهو زحل من ذات النور الأبيض فكان باردا يابسا كما قال الرضا عليه السلام (( ما بعث الله نبيا إلا  صاحب

_______________________

1 النور 35

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مرّة سوداء صافية ))1وحارا ورطبا ليحكي مثال الشمس الظاهر فيه فإنّ النبوة هي الشمس ، وأمدّت السماء الأولى الدنيا أي كوكبها وهو القمر من صفة النور الأبيض التي هي الحياة والتصوير ، وأمدت السماء السادسة أي كوكبها وهو المشتري من ذات النور الأخضر فكان باردا رطبا ، وأمدت عطارد صاحب السماء الثانية من صفته ، وأمدت المريخ من ذات الـنور الأحمر ، وأمدّت الزهرة من صفته ، فكانت الكواكب الستة كلها مستمدة من الشمس ومكتسبة عنها لأنّ حكم الله سبحانه وتعالى في الأكوان واحد كما أنّ الفيض إنما يصل إلى شئون كل شيء وإضافاته وأحواله وأطواره وأوطاره بواسطة الفيض المفاض على مادة ذلك الشيء ، كذلك العلّة المادية المطلقة بالنسبة إلى العلة الصورية وقد بينا أن الشمس هي العلة المادية بمعنى أنّ المواد إنما تربى بنظرها فتكون العلل المتعلقة بشئون المواد مكتسبة عن العلة المتعلقة بأصل المواد وهذا معنى قوله عليه السلام (( وبالمشيئة كانت الإرادة وبالإرادة كان القدر وبالقدر وكان القضاء )) وقوله عليه السلام (( لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وأجل وكـتاب ، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر ، وفي رواية أخرى فقد أشرك ))2 ، ولما كان عالم الوجود المطلق الذي هو عالم الفعل عالم البساطة والوحدة كان اعتبار المقامات السبعة فيه على جهة التعلق والالتفات والتوجه إلى المتعلق ، ولما كانت الكواكب هي مظاهر الأفعال في عالم التفصيل أي عالم الأجسام خرجت تلك السبعة التي لا يكون شيء إلا بها مفصلة مشخصة إذ ما ترى في خلق الرحمن من             تفاوت ، والسافل هو تفصيل وجوه العالي ولما كانت المشيئة في تلك المراتب هي الأصل وسائر المراتب كلها عنها تشعّبت وتأصلت وهي وجوهاتها وأولادها كان الأمر كذلك في عالم التفصيل , فمثال المشيئة التي هي الشمس أصل لمثال المراتب الأخر التي هي الكواكب الأخر ، وإنما كانت الشمس مثالا

___________________

1 تفسير القمي 2/334

2 الكافي 1/149 ح 1

للمشيئة لأنهم فسروا المشيئة بأنها الذكر الأول للشيء والمراتب الأخر حدود لذلك الذكر والذكر الأول للشيء لا يكون إلا إحداث مادة الشيء إذ ليس للشيء قبل مادته ذكر أصلا إلا في الإمكان والصلوح ، ولا شك أن الشمس هي مربية للمواد فتكون مثالا للمشيئة في عالم المواد فتكون أصلا للكواكب الستة الباقية ألا ترى السبع المثاني في قوله عز وجل { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }1إن الأصل فيهم واحد والباقون كلهم متشعبون منه وهو الشجرة والباقون أصلها وفرعها ولقاحها و تلك السبعة هي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجعفر وموسىعليهم السلام (   ااا مح    ااا هـ و  )  فإذا ثنيت تكون أربعة عشر كما ظهر في الخاتم المكرّم سبعة بأربعة عشر حرفا ، ولاشك أنّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الشمس فيهم وهو أفضلهم وسيدهم وهم مستضيئون بضوئه كالضوء من الضوء صلوات الله عليهم أجمعين ، وكذلك الأمر قد جرى في مثال تلك الأمثال العليا الأسماء الحسنى ، وكذلك الأمر في السبعة الإنسانية وهي قلبه اللحم الصنوبري وصدره الذي هو وعاء لقلبه والبطون الخمسة التي هي الدماغ التي هي محل المشاعر الخمسة ، ولا شك أن القلب هو سيدها ومولاها وفخرها وشرفها وكلها تستمد منه وهو محل الحرارة الغريزية التي هي حياة كل البدن بها وتلك الستة رؤوسها وألطف ما في البدن من القوى والآلات فصارت محلا للأرواح ومسكنا لظهور الأشباح ، والقلب هو مثال الشمس لكونها هي الحرارة الغريزية للعالم ، ولذا إذا كورت الشمس تتكدر النجوم فإن كان تكويرا تفكيكيا يخرب العالم ويفسد النظام ، وإن كان إنكسافيا يحصل خلل كلي بقدر الكسف من محاذي المنكسفة عنه فيجبر ذلك بالصلاة كالحرارة الغريزية إذا انطفت في البدن ينطفئ سراج البدن فإن البدن لتلك الحرارة كالدهن للنار وإصلاح البدن وإفساده بحسب قوة الحرارة الغريزية وضعفها وصفائها وكدوراتها كما هو مقرر عند الأطباء ، ولا شك أن القوى كلها مستمدة منها فإذا ثـنّيت هذه السبعـة بـالروح والجسد فـإنّ القلب روح واللحم

___________________

1 الحجر 87

الصنوبري جسده وكذلك الصدر وسائر القوى فيكون المجموع أربعة عشر ، فجسد الشمس وروحها كليّان بالنسبة إلى غيرها كالقلب فافهم .

 

       فدلّ العقل والنقل والآيات الآفاقية والأنفسية على أنّ الشمس هي الأصل في الكواكب السبعة وضوء الكل مكتسب عنها ، وأما الكواكب الأخر المركوزة في الفلك الثامن فضوؤها لظهورها أيضا منها وإن كانت لذاتها من العرش بالكرسي ، أما في عالم الوجود المطلق فالكواكب هناك هي الأعيان الثابتة في العلم الإمكاني في الإمكان الرّاجح ، ولا شك أنّ ذلك غيب لا يظهر في الكون العيني والكوني مشروح العلل مبين الأسباب إلاّ بالمشيئة التي هي مثالها الشمس كما مرّ ، وأما في عالم هياكل التوحيد وقصبة الياقوت فجلال القدرة التي هي الولاية المطلقة لم تظهر إلا عند الطّواف حول جلال العظمة فكان جلال العظمة التي مثالها الشمس سببا لظهورات جلال القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر و كان يطوف حول جلال القدرة فإذا انتهى إلى جلال العظمة ثمانين ألف سنة خلق الله نور علي عليه السلام فكان نور علي عليه السلام يطوف حول جلال القدرة ونوري يطوف حول جلال العظمة )) وظاهر جلال القدرة هي اللّواء الذي يؤتى به في القيامة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الوسيلة وهي المنبر التي لها ألف مرقاة ومن كل مرقاة إلى الأخرى عدوالفرس والجواد ألف سنة ، وعلي عليه السلام تحته بمرقاة وذلك اللّواء له سبعون ألف شقة وكل شقة تسع الخلق أجمعين فتعطى النبي  صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسلمها بيد علي عليه السلام قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي عليه السلام حامله وأعطيت الحوض وعلي عليه السلام ساقيه

 

 

 

 

 

 

وأعطيت الجنة والنار وعلي عليه السلام قسيمها ))1والنبي الطائف حول جلال العظمة هو الشمس والولي الطائف حول جلال القدرة قبل الطائف حول جلال العظمة هو الكرسي ، والولي الطائف حول جلال القدرة بعد الطائف حول جلال العظمة هو القمر فتلك الولاية الأولية الأصلية التي هي ولاية الله في قوله تعالى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }2ظهرت مشروحة مفصلة حين قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ))3 ، حين انتجبه الله في القدم على سائر الأمم وأقامه مقامه في سائر عوالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ، وكان ذلك في شهر رجب من أشهر الحرم وكان الإظهار في عالم الأسرار وعالم الأنوار وعالم الأظلة وعالم الأشباح وعالم الأجسام وعالم الأجساد وعالم الأعراض وعالم الأوضاع والإضافات والقرانات والإلزامات كلها في شهر ذي الحجة من أشهر الحرم فأُمِر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستزادة لقوله عز وجل { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }4 لإظهار تلك النجوم وهو طلب التحيّر فاقتضى التحيّر أن يدور على منطقة ذلك الفلك ولا يتعدّاه لا إلى نهاية ولاإلى جهة وقولي منطقة هو عين قولي القطب في الحقيقة وإن كان باعتبار الفرق في الظاهر و تلك المحاذاة صارت سببا لظهور ما أراد الله سبحانه من

__________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في الفضائل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت ثلاثا وعلي مشاركي فيها , وأعطي علي ثلاثة ولما شاركه فيها , فقيل : يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام , فقال : لواء الحمد لي وعلي حامله , والكوثر لي وعلي ساقيه , والجنة لي وعلي قاسمها , وأما الثلاث التي أعطيت عليا ولما شاركه فيها فإنه أعطي رسول الله صهرا ولماعط مثله , وأعطي زوجته فاطمة الزهراء ولماعط مثلها , وأعطي ولديه الحسن والحسين ولماعط مثلهما )) .

2 الكهف 44                3 أمالي الصدوق 122

4 طه 114

تلك الكواكب.قال تعالى { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }1‏ فعلمه سبحانه في الكرسي الذي وسع كل شيء وقال عز وجل { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }‏2 فالشمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خلقه يفيض عليها من نور العرش الظاهر بالكرسي فهي مظهر لتلك الأنوار وحاوية لتلك الأسرار ، فلولا الشمس ما ظهرت تلك الأنوار ، فيها ظهرت وعنها برزت (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا ))3 و (( أنا عبد من عبيد محمد ))4 و (( أنا من أحمد كالضوء من الضوء ))5 ، والمراد بالكرسي هو بحر القدر الذي هو ( سر من أسرار الله و حرز من حرز الله وستر من ستر الله مختوم بخاتم الله موضوع عن العباد علمه رفعه الله فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الصّمدانيّة ولا بعزة الوحدانية بحر زاخر كثير الحيّات والحيتان يعلو مرة ويسفل أخرى في قعره شمس تضيء لا ينبغي أنّ يطّلع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلّع عليها فقد ضاد الله في ملكه ونازعه

___________________

1 البقرة 255                 2 الجن 26 _ 27

3 تأويل الآيات 182         4 التوحيد 174

5 أمالي الصدوق 513

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في سلطانه و باء بغضب من الله و مأواه جهنّم وبئس المصير )1 .

 

       وتلك الشمس هي مظهر ما في البحر ومضيئة ما فيه من أحكام البداء وعلل الأشياء وكون المحو والإثبات فانتشر العلم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام وفاطمة والطّيبيّن من أولاده صلوات الله عليهم أجمعين كالشمس الظاهرية بالنسبة إلى الكواكب الأخر و ذكر جـميع الأحكام يطول به الكلام فاكتفينا بما ذكرنا، ما أسعدك لو وفقت لفهمه . 

 

       وأما في العالم الإنساني فاعلم أنّ القلب هو مظهر ما في النفس من أحكام الصّنع والإيجاد والتربية والإدراك و كلّ الأحوال المنبثة في الجوارح والأعضاء والامدادات الزوجية الغيبية المجرّدة المتعلقة بالبخار اللطيفة الذي في تجاويف القلب المتعلّق بالدم الأصفر الذي في أسافل تجاويف القلب المسمى في عرف الأطباء بالروح الحيواني ، كلّها إنما تظهر ظاهرة منبثة في الأعضاء والجوارح والعروق والأعصاب والغضاريف والأوردة والعضلات وسائر المخارج والمداخل البدنية وما يتصدّع إلى الدماغ و يصير مبدأ للقوى النّفسانية المسمى في عرفهم بالروح النفساني ، وما يتسافل إلى الكبد ويصير

___________________

1 هذا المعنى اقتبسه المصنف أعلى الله مقامه وأنار في الدارين أعلامه من حديث عن أمير المـؤمنين عليـه السلام ذكر في البحار ج 5/97 هذا نصه (( ألا إن القدر سر من سر الله وحرز من حرز الله مرفوع في حجاب الله مطوي عن خلق الله مختوم بخاتم الله سابق في علم الله , وضع الله عن العباد علمه ورفع فوق شهادتهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا قدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية , لأنه بحر زاخر موج خالص لله عز وجل , عمقه ما بين السماء والأرض عرضة ما بين المشرق والمغرب , أسود كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان تعلو مرة وتسفل أخرى , في قعره شمس تضيء لا ينبغيأن يطلع عليها إلا الواحد الفرد , فمن تطلع فقد ضاد الله تعالى في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )) .

مبدأ للتوليد والتنمية والتغذية المسمى في عرفهم بالروّح الطبيعي ، كل ذلك إنما هي ظهورات الروح الأصلي الظاهر بالبخار اللطيف المتعلق بالحرارة الغريزية التي بها قوام الجسد ، فما ظهرت تلك النجوم الغائبة إلا بالشمس التي

هي الحرارة الغريزية المستجنّة في القلب ولذا كانت الحرارة دائمة النّظر والتعلّق الالتفات بذلك البخار فلا تفارقه أبدا وإلا لاختل الجسد وفسدت البنية ، ولما تطابقت العوالم و صار العالم السّفلي وجها للعالم العلوي اقتضى أن تكون الشمس الظاهرية التي هي أحد الكواكب السّيّارة مظهرة للكواكب المركوزة في الفلك الثامن ، وإن كانت تلك الكواكب أعلى مرتبة منها كما ورد أنّ (( الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ))1 .

 

       ومن ذلك ظهر لك سر كون سير الشمس دائما على منطقة البروج وعدم مفارقتها إيّاها والإمدادات الواردة على العالم السفلي كلّها من قرانات الشمس مع تلك الكواكب وذلك الفلك وهو من الفلك الأعلى وهو من العرش المركب من الأنوار الأربعة النور الأحمر الذي منه احمرت الحمرة والنور الأخضر الذي منه اخضرت الخضرة والنور الأصفر الذي منه اصفرت الصفرة والنور الأبيض الذي منه البياض ومنه ضوء النهار ، وأنت لو نظرت إلى الشمس تحت الحجاب الأسود لرأيت هذه الأنوار كلها ظاهرة فيها متمايزة .

 

       وأما إضاءة الكواكب فهي إشارة إلى إمدادها لأهل السموات ولأهل الأرضين على ما في الحديث (( إن أهـل بيـتي أمان لأهل الأرض كما أن

________________

1 التوحيد 108

 

 

 

 

 

الكواكب أمان لأهل السموات ))1ووجهه الإشارة في قوله عز وجل { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }2 فالعلة مطلقا فاعلية كانت أم مقدمة أم مادية منوِّرة ومضيئة لمعلولاتها ، ولذا أتى عليه السلام بالضوء بصيغة المتعدي للإشارة إلى السر كما في الدعاء (( اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه وكل بهائك بهي ))3 فالإضاءة هي التأثير بالضوء سواء كان كالضوء من الضوء كالعلويات أو كالنور من المنير كما في السفليات ، لأن الإضاءة إشارة إلى اللطيفة الزائدة على ذات الشيء فتلك الزيادة تمد سافلها من الأحكام الوجودية والتكليفية الذاتية والصفتية وأمثالها فقامت السموات والأرض بإضاءة الكواكب ، أما الأرض ومتولداتها من الجماد والمعدن والنبات والحيوان فظاهر ، وأما السموات فالأفلاك محال ومواقع للنجوم وجسد للقوة الفاعلية الطبيعية ولا شك أن المحل متقوم بالحال والحد بالمحدود والجسد بالقوة الطبيعية من المرارة مثلا فلولا المرارة لم تتقوم البنية ، فالحرارة واليبوسة مثلا وإن كانت في كل الجسد إلا أن مجمعها في المرة الصفراء ومنها تستمد باقي الأعضاء وكذا سائر القوى ، فالكوكب يفضل على الفلك كفضل القوة على الجسد ولذاترى الكواكب ولم تر الأفلاك وذلك لقوة التركيب لقوة ظهور النور فيها دون الفلك فإن التركيب والتصوير مستلزم للرؤية لا الكثافة على ما يزعمون من أن الكواكب أجسام كثيفة ترى والأفلاك أجسام لطيفة لا ترى فإن ذلك باطل إذ لو كان كذلك للزم الطفرة لإجماع الكثيف واللطيف في الرتبة الواحدة ويلزم على هذا التقدير أن يكون الهواء ألطف من الكواكب وفي هذا بطلان ، كل شيء يعود إلى مركزه لقول أمير المؤمنين عليه السلام

_________________

1 لم نقف على هذا الحديث كما ذكره المصنف أعلى الله مقامه ولكن وجدنا ما يقرب منه في علل الشرائع صفحة 123 وهو (( النجوم أمان لأهل السماء كما أن أهل بيتي أمان لأهل الأرض ))

2 النور 35      

3 دعاء السحر في ليالي شهر رمضان المبارك

 

(( إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها ))1فيجب أن يكون الهواء على هذا التقدير أعلى رتبة ومكانة من الكواكب ، ويجب أن تقتضي الحكمة كونها تحت كرة الهواء مع أن الواقع خلافه والله سبحانه لا يفضل المفضول على الفاضل إذ كل ما كان أكثف أقرب إلى الأرض وأحوالها فلا يقرب إلى السماء بل يكون عين السماء إلا أن يقولوا بجواز الطفرة وجواز تقديم المفضول على الفاضل كما تقوله المعتزلة فحين إذن ينقطع الكلام .

 

       فصريح القول وصحيحه أن الكواكب أجسام لطيفة عالية صافية والرؤية ليست لأجل الكثافة والثقالة إذ ليست شرطا للرؤية ، ألا ترى الأشباح الظاهرة في المرايا وغيرها من الأجسام الصيقلية مع أن رتبتها فوق محدد الجهات ولطافتها أشد من لطافة محدد الجهات أي محدبه ، وكذا الأرواح المتنزلة إلى مقام البشرية مثل جبرائيل إذا تصور بصورة دحية الكلبي وأمثال ذلك فإن المقادير والهيئات لا وزن لها ولا ثقل ، والماء الصافي إذا حركته يتكدر ويحجب وليس ذلك من جهته عروض كثافة عليه زائدا عما عنده أولا فمقتضى الرؤية وعلتها قوة التركيب وهو لايستلزم الثقل المستلزم للنزول فالكواكب قوى نورانية صيغت بنور قدرة الله تعالى صيغة أشد وأقوى من صوغ الأفلاك فلها تركيب أقوى وأشد من تركيب الأفلاك ، وقد ورد في الأخبار على ما تقدم أن الشمس لها سبع طبقات وكذا القمر ولذا ترى التأثير في الكواكب أكثر وأشد بل لا يحس تأثير الأفلاك بأجرامها إلا قليلا ولذا إذا غربت الشمس يبرد الهواء مع وجود فلك الشمس وكذلك القمر وسائر الكواكب وهذا معلوم ، فالكواكب لها رتبة تساوي فيها جرم الأفلاك وزيادة ولذا لما انشق القمر ما انخرق الفلك ولما نزل إلى الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حصلت في الفلك ثقبة ألا ترى إلى الجسم المطهر النبوي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يرى لم يكن له ظل لشدة نورانيته و صفائه وإنه أعلى من عقول النبيين عليهم السلام وقد صعد بجسمه الشريف المحسوس إلى

_____________________

1 شرح النهج 13/72 , البحار 4/254 ح 8

 

السماء وما حصل منه خرق فدل العقل والنقل أن مدار الأبصار ليس للكثافة كما عرفت وإنما هوالتركيب والتحديد فافهم .

 

       ثم إن الإمام عليه السلام أشار بذكر خلق السموات أولا إلى أن خلق السموات مقدم على خلق الأرض كما هو الواقع وخلق اليوم مقدم على خلق الليل وإن كانت الآيات والأخبار بظاهرها على ما تعرفه العامة مختلفة إذ يستفاد من بعض الآيات تقدم السماء على الأرض كما في قـوله عز وجل { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }1 ومن بعضها العكس كالأخبار كقوله تعالى        { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }‏2 ولا منافاة في الحقيقة لأن الله سبحانه وتعالى لما أجرى عادته على الخلق والإيجاد على مقتضى القابلية استدعى ظهور المقبول بعد وجود القابل وترتب آثار الفاعل الذي وجهه المقبول إنما هو بعد وجود القابل ألا ترى أن اتصاف ظهور زيد بالقائم ما يمكن إلا بعد تحقق القيام فبالقيام يظهر القائم فافهم المثال التقريبي ، ولما كانت السموات مبادئ وعلل والأرض ومن فيها قوابل لم تظهر السموات تامة الحركات صحيحة الطبقات ظاهرة الدلالات إلا بعد إتمام وجود الأرض القابلة لفيضها فمادة السموات موجودة ومتحققة قبل الأرضين وأما تسويتها سبع سماوات وظهور الحركات ما تحققت إلا بعد ذلك ولذا قال عز و جل { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ } فدل على أنها كانت دخانا فإن الله جل وعلا لما خلق الياقوتة الحمراء فنظر إليها بعين الهيبة فماعت وذابت ثم سلط الريح على ذلك الماء فتموج فأزبد وصعد منه دخان فخلق الله سبحانه من الزبد الحاصل بعد الدخان الأرض ثم سوى الدخان سماوات وأخرج الشعلات المستجنة في زبد البحر فزينها بالكواكب المضيئات ، ثم أدار العلويات على السفليات فأخرج ما أراد من الحيوان والنبـات ، كذلك صنع ربنا لا إله إلا هو العزيز الغفار ، وكذلك

__________________

1 النازعات 30                  2 فصلت 9 _ 11

حكم الليل والنهار فإن الله سبحانه لما خلق الدنيا كان طالع الدنيا السرطان والكواكب في أشرافها فكانت الشمس في كبد السماء أول وقت صلاة الظهر فلما تحركت الأفلاك ظهر الليل ثم دار الفلك حتى ظهر النهار فصار مبدأ حساب اليوم من الليل فتقدم الليل على النهار لتقدم الظلمة على النور في قوس الصعود وتقدم القوة على الفعل وإلا فالنور مقدم على الظلمة والنهار على الليل في القوس الأول النزولي ، وتمام الكلام في هذا المرام ربما ذكرناه فيما بعد إنشاء الله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام

وحبس في الجو سحائب مكفهرات

 

       لما فرغ الإمام عليه السلام عن ذكر المبادئ وعلل الكينونات التي هي السموات والكواكب المضيئات في عالم التفصيل ومقام التحويل أراد أن يبين كينونة المعلولات وكيفية تلقيها الفيض عن العلل العاليات فابتدأ بذكر السحائب المكفهرات فهو كلام جامع للمقامات وحاو للأمور الشتات .

 

       والإشارة إلى مجمل بيانه ، اعلم أنا قد ذكرنا أن المبادئ هي الحديدة المحماة بالنار وأنها خلقت من النار ، والمعلول والسافل هو الأرض التي هي مطرح أشعة المبادئ وقابلية فيضها ، ولما أنّ المبادئ فعلها وتأثيرها في المفاعيل ليس في رتبة ذاتها إذن لاحترقت المفاعيل إذ لا تقوى فيجب أن يكون ذلك الفعل والتأثير تحت الحجاب لتتمكن من التلقي من ذلك الـباب بذلك الجناب ، ويجب أيضا أن يكون ذلك الحجاب من رتبة مقام المفعول وإلا لارتفعت فائدة أخذ الحجاب وجعل الجناب والأمر بقرع الباب ، ولما كان نظر الفاعل إلى جميع مفعولاته على حد السواء كان حجابه أيضا كذلك واختلاف الحجب لاقتضاء كينونة المفعول وجب أن يكون ذلك الحجاب هو عين حقيقة المفعول وتجلي الفاعل له به ، ولما قررنا أن السموات هي المبادئ والكواكب وهي لا تؤثر في المفعولات أي المتولّدات بذاتها إذن لتقدّمت وفسدت واختلت ، وإنما هي ذوات مستقلة لا يطرأ عليها الفساد والبيود والدثور بالنسبة إلى سافلها كانت لا تؤثر إلا بمثالها وهو أشعتها وذلك المثال من حيث حكايته لتأثير المبدأ من حيث هو تأثير للبدء ولما ذكرنا وشرحنا ، فظهرت الكرة الناريّة التي هي مجمع أشعة الكواكب من حيث كونها حاملة لنار الشجرة الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية، وكانت شجرة موسى عليه السلام حكاية ومثالا لها .

 

       إن قلت : إنك قررّت سابقا أن الكواكب مختلفة في الطبائع نارية وهوائية ومائية وترابية فكيف تكون الكرة النارية أشعة للكواكب على الإطلاق .

 

       قلت : لا منافاة لأن تلك الطبائع في صقعها ونسبة بعضها مع بعض ، وأما بالنسبة إلى السافل كلها نار بل أشد لكونها حينئذ حاملة للمثال الملقى في هويتها ، كالفتاة الغربية المعبر عنها بالحمامة عند أهل الصناعة ويحكمون عليها بالبرودة والرطوبة مع أنها في الشدّة والحرارة أشد من النار المعروفة ، وكذلك الماء الأول الذي يأخذون عنده تفصيل المادة إلى النطفتين يحكمون عليه بالبرودة والرطوبة مع أنه في الحرارة بحيث لو استشم إنسان بخاره المتصاعد لمات في ساعته وهم إنما قالوا بالإضافة ، فهي الفتاة الغربية بالنسبة إلى الفتى الشرقي والفتى الكرشي وفي الماء الأول بالنسبة إلى الماء الثاني الغليظ الذي هو في قوام العسل ، و كذلك إذا قلنا أنّ القمر بارد رطب وزحل بارد يابس والزهرة حارة رطبة والمريخ حار يابس فافهم .

 

       ولما كانت الأرض التي هي القابلية باردة يابسة لا تقوى على الحرارة النارية الفلكية لاحتراقها وفنائها وعدمها إذ البرودة ما تبقى عند ظهور سلطان الحرارة واليبوسة من سنخها فتعدم الغريب وتجذب إليها القريب فيبطل تركيب ذلك الشيء ، وإليـه الإشارة بقول أمير المؤمنين عليه السلام (( جذب الأحدية لصفة التوحيد )) بعد قوله عليه السلام (( محو الموهوم وصحو المعلوم )) و هذا فناء المعدول وعدمه وهو خلاف ما هو المقصود والمراد وجوده وتحققه وربط الأسباب بالمسببات والعلل بالمعلولات احتاجت إلى وقاية لتحفظ وجودها باستمرار إشراق نار الإيجاد عليها ، وتلك الوقاية هي الرطوبة المعتدلة لأنها تحفظ تأثير النار لعدم الغرابة الكلية وتحفظ اليبوسة أيضا عن الإعدام بالمرة ولذا كانت الوقاية هي النون إذا أرادوا أن يقوا الفعل عن الكسر الـذي هو من خواص الاسم في قـولهم ضربني زيد والنون هي

 

الرطوبة وهي مداد القلم في قوله عز وجل { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }1‏ فافهم ضرب المثل .

 

       ولما كانت هذه الرطوبة ببساطتها تضاد الطرفين أي اليبوسة النارية واليبوسة الأرضية وفي ذلك إعدامها إذ الضدّ لا يقوم مع ضدّ الآخر ، فجعل معها شيئا من طبيعتها لتكون رابطة حافظة فانقسمت إلى قسمين قسم أضيفت إليه الحرارة فلطفت ودقت وصعدت إلى العلو وقسم أضيفت إليه البرودة فثقلت وكثفت و نزلت إلى السفل (( روحك من روحي وطبيعتك

__________________

1 القلم 1 _ 2

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من خلاف كينونتي ))1 سبحان من حكمه متقن وأمره محكم تعالى ربي لا إلـه إلا هو ، فتمت هذه المراتب و صارت أصولا للمبادئ أي لظهوراتها وحقائق وموادا للمفاعيل وخزينة خامسة لا نفاد لها ينفق منها كيف يشاء وهي العناصر الأربعة التي تحت كرة القمر الأول أو الثاني أو الثالث وهكذا إلى أن يتم أربعون أوألف ألف وهكذا إلا ما لا نهاية له من الأكوار والأدوار والأطوار ، ولما كانت النسمات وحقائق الذوات من الملأ الأعلى الذين وصفهم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بأنهم (( صور عارية عن المواد عالية عن القوة والاستعداد تجلي لها فأشرقت وطالعها فتلألأت فألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله ))2 فأبان عليه السلام أنها كالحديدة المحماة لقربها إلى عالم النور وأن فيها مثال الفاعل ، وقد عرفت أن مثال الفاعل ليس إلا النار لأن الله سبحانه خلق الفاعل من نار الشجرة وتلك النسمات ، لما أراد الله عز وجل إظهار القهّارية والجبروت ويعرّفهم توحّده في الملك والملكوت وتقدّسه في عالم اللاهوت أنزلهم من عالم إلى عالم ومن مقام إلى مقام حتى انتهى بهم إلى عالم الأجسام فرمى بهم إلى الكثافات والكدورات لينالوا نصيبهم من الكتاب ويستوفوا حظّهم من الخطاب ويثبته وقوفهم بذلك الباب ولواذهم بذلك الجناب، فأنزلهم إلى الأرض الجسمية فاستجنوا واستكنوا فيها عند نهايات الإدبار ، فلما دعاهم إلى الإقبال وجب فلق الأرض لتظهر منها تلك الحقائق والأنوار لتمكين قابليّتهم للإجابة والفلق على أنحاء ومراتب من الظاهري والباطني ، أما الباطني فقد مضى الكلام في شيء يسير منه عند قولهعليه السلام (( فتق الأجواء )) .

 

       وأما الظاهري فهو على قسمين ، قسم هو الشق المعروف كالينابيع والعيون والبحار ، أو الشق لاستخراج  الكنوز وهذا لا يراد به إلا في المواضع التي يكون المستجن فيها استجنانا ظاهريا وعائيا ، ولا هكذا استجنان الأرواح في الأجسام بـل استجنانها استجنان غيـبـي لابد من حل الأرض

__________________

1 علل الشرائع 10

2 البحار 40/165/ ح 54

وذوبانها لتخلص عن الأعراض المانعة وتحكي تلك الحقائق الإلهية ، والحل لا يكون إلا بالحرارة والرطوبة واليبوسة ، إذ الحرارة تفرّق المجتمع والرطوبة تربط الأجزاء المنحلّة بعضها مع بعض واليبوسة تجمعها قبل التفصيل والذوبان وبعدهما ، واليبوسة إذا كانت يبوسة أرضّية كثيفة غاسقها لا يلينها ولايحلها إلا الرطوبة التي هي من سنخها وجنسها ، وأما الرطوبات اللطيفة فلا تنفع لتليين الكثيف الغاسق لأنك إن زيّدت الحرارة تحترق وإن زيّدتها تحتاج إلى مدّة طويلة يفوت بها المقصود وهذا أمر ظاهر بديهي ما يحتاج إلى البيان ، فثبت أن الرطوبات الهوائية اللطيفة لمجاورة النار ما تؤثر في حل الأجزاء الأرضية الكثيفة فيجب أن تضاف إليها عند الحل الرطوبة المناسبة لمقامها ، وليس ذلك إلا الماء ولما كانت الأنوار المستجنّة من النباتيّة والحيوانية والإنسانيّة أمورا غيبّية يجب أن يكون الحل الواقع مؤثرا في الجهات الغيبّية على حسب مقامه ، ولا شكّ أن الكثيف من هذا الكثيف لو فرض حلّه يبلغ إلى أدنى مرتبة اللطافة وفي ذلك طول العمل من غير طائل ، وكذا الرطوبة التي تحل الأجزاء كلما كانت ألطف وأعلى كانت في النفوذ أشد ، ولما كان الانحلال في غير الكبد ما يتحصّل لحكم الحرارة والرطوبة اللائقة وجب أن  يكون ذلك الانحلال في الهواء فحصلت ثلاثة أشياء ، الأول الأجزاء الأرضية اللطيفة الغير الكثيفة الغير المجاورة للأرض وهذه هي الهباء وإذا أطلقنا الهباء نريد في هذا المقام هذه الأجزاء، الثاني الأجزاء المائية اللطيفة المتصاعدة عن وجه الماء المختلطة بالأجزاء الهوائية وهي البخار ، الثالث الهواء بنفسه في الربع الأخير من حيث كونه حاملا لتأثير النار مترجما له عنها ، ولما وجب ميل السافل إلى العالي وميل العالي إلى السافل في تكون الشيء صعدت الأجزاء الأرضية إلى العلو إلى جهة السماء ونزلت التأثيرات الكوكبية من كرة النار بحاملها إلى الهواء فاجتمعت الأمور الثلاثة كلها في الهواء ، فلما انضمت الرطوبة مع اليبوسة بالحرارة ونفخ عليها بريح الجنوب مالت اليبوسة إلى الانحلال وإلى الرطوبة ومالت الرطوبة إلى الانعقاد وإلى اليبوسة إلى سبعة أيام من أيام الشأن فانعقدت هذه الأربعة انعقادا لطيفا فصارت بالنسبة إلى الذوبان والبساطة كثيفة، فبقيت في الجو وانعقدت فكانت سحابا مكفهرا وهذه هي المادة لكلما يتكون في الجو من الأمطار والثلوج والطّلّ والرعد والبرق والبرد والشهب وغيرها ولو أردنا شرح تفصيل هذه الأمور إن كان كما ذكروا فلا فائدة لذكرنا وإن كان على ما عندنا من دليل الحكمة فيطول به الكلام و ليس لي الآن إقبال ذلك لكن الذي ذكرنا من دليل الحكمة من بيان مادّة السحاب يظهر الباقي لمن له نوع فطانة وذكاوة وأنس بكلماتنا ، وهذا معنى قوله عليه السلام (( وحبس في الجو سحائب مكفهرات )) أي مغلّظات وإنما وصفها عليه السلام بها للإشارة إلى أسرار كثيرة يضيق الصدر بإظهارها ولا يضيق بكتمانها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ }1 .

 

        وهذه الكثافة أمر عرضي ليست بذاتيّة و إنما هي لتحقق الأعراض واستخراج الذوات فجاء سر المتشابهات ، وهذه إنما كانت من المفعول قد حجبت عن الفاعل الذي قوامها به وهو العلويات من الأفلاك والنجوم فقَلَّ النور على وجه الأرض وتكدّرت تغيّرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح ، لكن هذا الحجاب ليس كليا وإنما هو جزئي أسرع ما يكون في الاضمحلال لأنه مجتث وإنما أتي به إتماما لقابلية المفعول واستنطاقا لطبائعهم مع أنه ليس محيطا بكل أقطار الأرض ليحتجب نور الشمس بالكلية وإنما هو محاذي جزء من أجزاء الشمس أو القمر بالنسبة إلى الناظر فإذا تطرّف عند الـناظر يـرى الشمس ظاهرا عيانا من غير حجاب ويشاهد جمال المحبوب

_________________

1 الحجر 75

 

 

 

 

 

 

 

المطلوب من غير نقاب إن في ذلك لآيات لأولي الألباب و إليه الإشارة بقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا }1 ‏ .

 

       وقوله عليه السلام (( وحبس في الجو .. الخ )) جواب عن كل الاعتراضات ورد لكل الشبهات ومتمم لما سبق من الكلمات فإنه عليه السلام أثبت بقوله عليه السلام (( الحمد لله الذي فتق الأجواء )) الولاية المطلقة الظاهرة في جلال القدرة رتبة الواحدية حضرة الأسماء والصفات والإضافات

________________

1 النساء 97 _ 100

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

و مقام { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ }1 ‏وأثبت بقوله عليه السلام (( خلق السموات بلا دعائم … الخ )) مقام حامل اللّواء وقوله تعالى { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }2 و مقام قوله تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }3 .

 

       فلما تمت البراعة وأظهر السر التفت إلى ما ألقى الشيطان في قلوب أوليائه إما بذاته أو باللطخ والخلط من أن الأمر لو كان كذلك فما وجه الضعف وعدم الظهور ، لأن العلة ما تخفى ولا تهان فأجابعليه السلام ونسخ ما ألقى الشيطان بقوله عليه السلام (( وحبس في الجو سحائب مكفهرات )) إشارة إلى أن الخالق هو الحابس والسحاب هو جهة إنية المفعول القابل حيث حجبته من مشاهدة نور الظهور الساطع على الطور ، فلو كشف الحجاب لرأوا الأمر واضحا ظاهرا فهو احتجب بهم فلو تطرفوا عن هذا الحجاب ودخلوا الباب لوجدوا الشمس ظاهرة بارزة تشرق الكون وتمد الخلق من المعنى والعين ، ولذا لما قيل لطلحة وهو يجود بنفسه (( من رماك يا طلحة قال رماني علي بن أبي طالب عليه السلام قيل : إنه لا يرمي بالنبل وإنما يقاتل بالسيف قال : ويحك أما تنظر إليه كيف يصعد إلى السماء ويخرق الأرض ويذهب إلى المشرق والمغرب و يقاتل بالسيف ويرمي بالنبل و يقول مت يا عدوّ الله فيموت في ساعته )) وذلك عند ارتفاع السحاب ، وصرح عليه السلام بالذي فهمنا من التلويح من أن هذا جواب لما يتوهمه المتلونون أو إثبات حقيقة الأمر والواقع ولأبدية الوجود المشوب بالظلمة من ذلك بقوله عليه السلام (( وكأني بضعيفكم يقول ألا تسمعون إلى ما يدعيه ابن أبي طالب في نفسه وبالأمس تكفهر عليه عساكر أهل الشام فلا يخرج إليها وباعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ))  .

____________________

1 المؤمنون 88            

2 الحج 62

3 الزمر 67

       و إنما أتى بلفظ تكفهر للإشارة إلى أن ذلك من تلك السحب ونحن إنشاء الله نكشف عن الواقع و الحقيقة على التصريح إذا بلغنا شرح هذه الكلمات .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قولـه عليه السلام و خلق البحار والجبال

 على تلاطم تيار رقيق رتيق فتق رتاجها فتغطمطت أمواجها

 

       لما فرغ الإمام عليه السلام عن بيان تفاصيل المبادئ والأصول ومظاهر العلل الفاعلية وكيفية ربط الفاعل بالمفعول واتصال المسبب بالسبب ومعنى الإيجاد والإحداث والإختراع والابتداع والأمر الفعلي والمفعولي وبراعة هذه الخطبة الشريفة ، وإلى مظاهر التوحيد وهياكل التنزيه والتفريد إلى غير ذلك من الأمور التي جهلنا أكثرها وأشرنا إلى بعض ما عرفنا ، شرع عليه السلام في بيان العلل المادية ويلزمه بيان العلة الصورية وأن الشيء في مكانه له مكانان مكان ذاتي طبيعي بحسب كينونته الثانية ومكان غير طبيعي في الظاهر المتوقف إلى المعين لا القاسر ، فيتحلى حينئذ بحلية أهل ذلك المكان ويلزمه بيان أن الشيء قد يتعلق به النور فيصعد به إلى أعلى المقامات ومكانه الأصلي في أسفل الدرجات بل الدركات إلا أنه ما يتحلى بحلية أهل ذلك المكان لأن هذا الصعود والبلوغ عرضي يزول حكمه سريعا .

 

       ولا تتوهم أن الذي ذكرنا هو المتحصل من هذه العبارات خاصة بل هذا وغيره وأمور أخر مما لم يحط به علمنا ولم تبلغ إليه سعتنا وقد قالوا عليهم السلام (( إن حديثنا ذكي أي طري أبدا لا تفنى عجائبه ولا تبيد غرائبه )) كلما يتغوص السابح في تلك اللجة يرى البحر أعمق والساحل أبعد كيف لا وهو طمطام بحر الأحدية ولجة يم الوحدانية ولاساحل لذلك وقد قال سبحانه و تعالى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ

 

 

 

 

 

 

 

أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }1وهم تلك الكلمات الأربعة التي بني عليها الإسلام المكررة ثلاث مراتب ، قال مولانا الكاظم عليه السلام (( نحن الكلمات التي لاتدرك فضائلها ولا تستقصى ))2 .

 

       وبالجملة إياك أن تحصر معاني كلماتهم فيما تفهم أو فهم العلماء وإن بلغوا ما بلغوا لأنهم ما أوتوا العلم إلا قليلا وهم سلام الله عليهم أوتوا العلم كله قال تعالى { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }3 { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }4 { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا  * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }‏5 فاحفظ وصيتي والله خليفتي عليك .

_________________

1 لقمان 27               2 المناقب 4/404

3 يس 12                 4 الأنعام 59

5 الجن 26 _ 27

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام : خلق البحار

 

       اعلم أنه لما كانت البينونة بينه تعالى وبين خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة بمعنى أن الخلق صفات له سبحانه صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له سرى سر الوحدة في كل ذرات الوجود في الغيب والشهود فلن تجد شيئا وإن عمّ وكثر إلاشيئا واحدا ، ولذا ترى أن رتبة الأعداد كل رتبة تفرض فيها تفرض أنها واحدا إذ الكسور التسعة لا تترتب إلا على ما يفرض أنه واحد والواحد لا كسر له وكل مرتبة تفرض من مراتب العدد  وإن تبلغ  إلى ما تبلغ ترى الواحد أمامه فكلما تترقى في العدد لا يمكنك الوصول إلى ذلك الواحد وهو أمام كل عدد قال عليه السلام (( تدلج بين يدي المدلج من خلقك ))1فالواحد عادّ العدد ولا ينتهي إلى أمد إلى الأبد ، وذلك الواحد الساري في كل عدد من الأعداد الكونية والذاتيه والصفتية والمقدارية والغير المقدارية من المتصلة والمنفصلة من جهة حدوثه وإمكانه له شؤون وأطوار ودرجات ومقامات وله فيها أوطار، وتلك الشؤون والأطوار لها مقامان مقام ظهور عيني كوني مشروح العلل مبين الأسباب ظاهرا بالكثرات خارجا عن طور الوحدة بكثرة الإضافات والقرانات ، ومقام ظهور غيبي استجناني أي استجنان الاستعداد والصلوح لا الشجرة في النواة ، ظاهرا بالوحدة بتكثر الأسماء والصفات فإن الأسماء والصفات لا ينبئان إلا عن الذات ، وهذا الأمر الواحد الساري في الشؤون والأطوار هو البحر عند أهل الأسرار والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم كما دلت عليه الأخبار وشهد له صحيح   الاعتبار ، وهو بحر حال ذوبانه وجبل حال انجماده ، نور في وحدته و ظلمة في كثرته ، نار في ظهور مبدئه و لحظ حرارة تعينه وماء في كينونته ، وبحر لأمواجه أوللواقف بساحله أو للسابح في لجّه أوللصدف في عقره أولبعده في عمقه وعدم وصول المحاول إليه وغرقه أو لحمله متاع غيره بسفينة ارتباطه

_________________

1 مفتاح الفلاح 293 , البحار 87/187 ح 5

وهكذا من ملاحظة الاطوار والأوطار قال الشاعر :

       أنظر إلى الـعرش إلى مائـه        سفينـة تجــري بـأسمائه

       واعـجب له من مـركب         دائر قد أودع الخلق بأحشائه

       يسبح في لـج بـلا ساحل         في جندل الغيب بظـلمائـه

       وموجـه أحوال عشـاقه           وريحه أنـفـاس أبنـائـه

       فلو تراه بالـورى سائـرا          مـن ألف الخـط إلى بائـه

       ومـرجع العـود إلى بدئه          ولانهـايـات لإبدائــه

       يكور الليـل على صبحه            وصبحـه يـفنى بأسمائـه

 

       وهذا المعنى الجامع هو المحصل من مفاهيم ألفاظ أخبار أهل البيت عليهم السلام وأما في الحقيقة فليس لإطلاقاته في أغلب المواضع حقيقة جامعة فيكون الاشتراك بين تلك المواضع والموارد في اللفظ لا الحقيقة ، ولا تسمع إلى ما يقولون من أن الاشتراك خلاف الأصل فيجب الحمل على الماء الكثير     المالح ، لأن المجاز لا يتصور قبل الوضع والوضع لا يتصور قبل حصول الموضوع له ، ولاشك أن تلك المعاني التي أطلق عليها لفظ البحر والماء قبل خلق السموات والأرض ، فتكون بحار السموات والأرض كلها تابعة لتلك الأبحر وتأبى الحكمة الإلـهية أن يجعل التابع متبوعا في اللفظ فإن الألفاظ صفات الكينونات فيجري على طبقها لئلا تتناقض أحكام الله وتختلف  { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }1

 

       فأوسع البحار وأشملها وأعمها وأكثرها هو العمق الأكبر بحر الإمكان و هذا بحر لا ساحل له ولانهاية له ولا بداية له ، يجري من عين الرحمة   الواسعة إلى ما لا نهاية له ، ثم بعده شمولا وإحاطة بحر الوجود والماء الذي كان العرش عليه والماء الذي عنه كل شيء حي وهو بحر الصاد وأول المداد مجراه في الفؤاد بلا نفاد ، و هكذا في المراتب من البحر الأبيض والبحر الأخضر والماء الأحمر والبحر الكمد والبـحر الأسود والبحـرالأشقر وبحر

________________

1 النساء 82

الظلمة التي تحت الحجب وبحر الحيوان الذي فوق السماء السابعة والبحر الذي بين السماء والأرض والبحر المحيط على الأرض والبحر القلزم والبحر الأخضر المسمى ببحر الفارس ، وهكذا إلى آخر هذه البحور التي ذكرها العلماء في كتبهم في هذا الشأن .

 

       وأشرف البحار وأعظمها وأحسنها بل ولا بحر سواه هو بحر الأحدية وهو بحر الوجوب والأزل الظاهر في الإمكان للممكن ، فالسابح في هذا البحر يسبح إلى ما لا نهاية له ولا سفينة له سواه ولا ساحل له غيره ولا ملاّح سواه ولا شراع غيره ، وذلك البحر هو بحر وسفينة وملاّح وراكب وسائر ومطلوب ومقصود وساحل يسير به إلى ربه في مقامات الإمكان فلا نهاية لهذا السير ولاخروج عن هذا البحر ولا بلوغ إلى الساحل ولا وصول إلى المقصود ولا خروج عن المقصود ، وهو سبيل الله ولا ينقطع السبيل كلما ينقطع مسافة يجد بعدها مسافة أخرى فلا وصول ولا اتصال ولا انفصال ولا اجتماع ولا افتراق { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }1، وهذا البحر ليس هو ذات الله تعالى ربي عن ذلك ، وإنما هو ظهور من ظهوراته لخلقه وهذا البحر هو الذي قـال أمير المؤمنين عليه السلام في الـدعاء (( ربّ أدخلني في لجة بحرأحديّتك ))2 ولا موج لهذا البحر ولا اضطراب ولا اغتشاش ولا حركة ولاخوف ولا سارق ولا التنين ولا الحيتان ولا شيء ، وإنما هو صرف التجلي وماء الظهور الخالص الصفي ، وهذا بحر المحبة محل الشفقة ومقام إيثار المحبوب على ما سواه ومقام الغرق والفناء ومقام البقاء والبهاء ومقام سكر المعرفة ، فلا يرى السابح في هذه اللجة بحرا أبدا ولا يتوهم وإنما هو شموله وإحاطته و سعته بفنى كل بحر قال عليه السلام (( جذب الاحدية لصفة التوحيد )) .

_______________

1 الصافات 180 _ 182

2 دعاء السيفي الصغير

       ثم بعد هذا البحر في الشرف والبهاء والفخر بحر الوحدانية ، وهو بحر الواحدية قال أمير المؤمنين عليه السلام (( وطمطام يم وحدانيتك )) وهذا البحر قد تموج بموج الأسماء وظهرت فيه سفن النجاة وشرعت بشراع المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان ، ويسير السائر الرّاكب في تلك السفن إلى أنحاء التّجليات وساحل الظهورات ولا نهاية لذلك ، وهذا أول العدد وصاحب الأبد بلا أمد مع أنه قد صح أن الواحد ليس من العدد .

 

       ثم بحر القدر هو ( بحر زاخر مظلم كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان يعلو مرة و يسفل أخرى في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلع عليها فقد ضادّ الله في ملكه ونازعه في سلطانه وباء بغضب من الله و مأواه جهنّم و بئس المصير )1وهذا البحر مادته نهر يجري من تحت جبل الأزل إلى ما لا نهاية له ، ولايسبح في هذا البحر بالأصالة أحد إلا محمد وأهل بيته الطيبون صلوات الله عليهم أجمعين عليهم السلام وليس معنى سباحتهم إحاطتهم { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ

_________________

1 هذا المعنى اقـتبسه المصنف أعلى الله مقامه وأنار في الداريـن أعلامه من حديث عن أمير المـؤمنين عليـه السلام ذكر في البحار ج 5/97 هذا نصه (( ألا إن القدر سر من سر الله وحرز من حرز الله مرفوع في حجاب الله مطوي عن خلق الله مختوم بخاتم الله سابق في علم الله , وضع الله عن العباد علمه ورفع فوق شهاداتهم لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ولا قدرة الصمدانية ولا بعظمة النورانية ولا بعزة الوحدانية , لأنه بحر زاخر موج خالص لله عز وجل , عمقه ما بين السماء والأرض عرضه ما بين المشرق والمغرب , أسود كالليل الدامس كثير الحيات والحيتان تعلو مرة وتسفل أخرى , في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد , فمن تطلع فقد ضاد الله تعالى في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )) .

 

 

إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }1بل لزيادة التحير في عظمة الله سبحانه لشدة فوران هذا البحر وغليانه فافهم ، وهذا هو اللجج الغامرة التي لا يسبح ولا يسير فيها إلا السفن الغامرة قال عليه السلام (( اللهم صلي على محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها و يغرق من تركها ))2 .

 

       ثم البحور الإثنا عشر التي تغوّص فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العالم الأول حين استخلصه الله في القدم على سائر الأمم أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولاتحيط به خواطر الأفكار ، وتلك هي النجوم الاثنا عشر والبرازخ الاثنا عشر والشهور الاثنا عشر وحروف ( لا إلـه إلا الله ) المنبسطة في أقطار الكون وهم الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام وكل واحد منهم عليهم السلام بحر قد أحاط بشأنه كل الوجودات ، ولذا نقول أن كل واحد منهم علّة مستقلة كلية في الإيجاد بالله

__________________

1 البقرة 255

2 الصلوات الواردة في شهر شعبان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سبحانه وتعالى { وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ }1 { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ** وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }2 .

 

       ومعنى سباحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأبحر ظهوره  فيهم كالعرش الظاهر في الكرسي في البروج الاثني عشر و المنازل الأربعة عشر النورية ثم البحور الاثنى عشرأو العشرين التي هي وجوه وظهور هذه الاثني عشر عند الإمداد والإفاضة وتلك الأبحر إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (( إن الله خلق من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرين بحرا من نور في كل بحر علوم لا يعلمها إلا الله سبحانه ثم قال لنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم انزل في  بحر العز فنزل ثم في بحر الصبر ثم في بحر الخشوع ثم في بحر التواضع ثم في بحر الرضا ثم في بحر الوفاء ثم في بحر الحلم ثم في بحر التقى ثم في بحر الخشية ثم في بحر الإنابة ثم في بحر العمل ثم في بحر المزيد ثم في بحر الهدى ثم في بحر الصيانة ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا ))3 و هذه الأبحر هي جهات العبودية المشار إليها بقوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }4 إذ العبد المخلص له في كل مقاماته انكسار وانفعال وتسبيح لله عز و جل وذلك هو البحر الذي يسبح فيه في ذلك المقام ، فإذا تم الانكسار والانفعال في كل المراتب والمقامات والحالات فتصفو طويتـه عن كل الرذائـل والسيئات فتبلغ مرتبة الإكسيرية

____________________

1 البروج 20                  2 الأنبياء 26 _ 29

3 البحار 15/29 ح 48

4 الفاتحة 5

 

 

 

 

فتـدعوا الله باسمه الحي القيـوم ويخاطب بخطاب { وَإِنَّـكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }1 .

 

       ولما كان الإنسان قد خلق من عشر قبضات في الظاهر والباطن والغيب والشهادة فيكون له عشرون مقاما ، ولما كان في كل مقام له حال ذل ومسكنة بالنسبة إليه فتظهر جهة الحق فيه فيتسع المقام بظهور القادرالعلام فيكون بحرا واسعا وطمطاما بالغا فيؤثر في غيره ويصفي بفاضل نوره ولذا قال عليه السلام (( فلما خرج من آخر الأبحر قال الله تعالى يا حبيبي ويا سيد رسلي ويا أول مخلوقاتي ويا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر فخر النور ساجدا ثم قام فقطرت عنه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة فخلق الله من كل قطرة من نوره نبيا من الأنبياء فلما تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يطوف الحجاج حول بيت الله ))2 .

 

       ثم البحور السبعة التي أشار إليها الحق سبحانـه في كتابـه المجيد مثل { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا

______________________

1 القلم 4

2 البحار 15/29 ح 48

 

 

 

 

 

 

 

 

نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }1‏ وهذه الأبحر هي التي يسبح الخلق فيها على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم على اختلاف مراتبها ومقاماتها وفي كل بحر للسابحين تسبيح .

 

       فالبحر الأول هو البحر الأبيض والماء الأبيض الذي في قرب الجزيرة الخضراء بلاد القائم عجل الله فرجه في المغرب وفي هذا البحر تسبيح الله سبحانه بقوله ( سبوح قدوس ربنا ورب الملائكة والروح وسبحان الله ذي العزة والجبروت ) .

 

       والبحر الثاني بحر الرقائق والماء الأصفر الذي لونه يسر الناظرين وفي هذا البحر يسبّح الله سبحانه بقوله ( سبحان ذي العظمة والجلال ) .

 

       والبحر الثالث البحر المحيط والقلزم المواج الذي يصعد باللآلئ إلى تحته ويلقي في أطرافه ، بحر كثير الموج وشديد الزلزال قد غرقت فيه سفن كثيرة وله جزيرتان أحدهما في المغرب وهي الجزيرة الخضراء التي فيها أولاد القائم عجل الله فرجه ، والأخرى في المشرق المكان الذي أغرق الله فيه فرعون وجنوده ومراكبه وهو من الخاسرين وفي هذا البحر يسبح الله بقوله ( سبحان ذي القدرة والملكوت ) .

 

       والبحر الرابع بحر القوة والاستعداد ومقام الرجوع إلى الطين وهو بحر شديد الحمرة وفي هذا البحر يسبح الله تعالى بقوله ( سبحان ذي الغلبة والقهر لا إله إلا هو له الملك وإليه ترجعون ) .

 

       والبحر الخامس بحر الهيولى و لجّة الهباء والماء الكمد وكل لآليه إليه زبرجد وفي هذا البحر يسبح الله تعالى بقوله ( سبحان ذي القوة     والسلطان ) .

__________________

1 لقمان 27

       والبحر السادس البحر الأخضر المائل إلى السواد وفي هذا البحر يسبح الله تعالى بقوله ( سبحان من خلق فسوى وقدر فهدى ) .

 

       والبحر السابع البحر الأسود كالليل الدامس وهو القلزم الأعظم وفي هذا البحر يسبح الله تعالى بقوله ( سبحان من خلق وبرأ وقدر وقضى وأمضى سبحان ذي الملك و الملكوت ) وهذا البحر بين السماء والأرض بل هو البحر الذي كان رتقا ففتق الله سبحانه منه السموات والأرض بدخانه وزبده ، ومن هذا البحر تشعبت بحور كثيرة كبحر الحيوان وبحر الظلمة والبحر الذي بين السماء والأرض وبحار الأرض كالمحيط وغيره مما تشعبت عنه كما هو مذكور في كتب القوم ، ثم البحور السبعة التي أشار إليها مولانا الكاظم عليه السلام في تفسير قوله تعالى كما تقدم أنها (( عين الكبريت و عين اليمين وعين برهوت وعين الطبرية وجمة ماسيدان وجمة باجوران ( وفي نسخة بلعوران ) وعين إفريقية ))1، وهذه الأبحر هي الروابط والوحدة الرابطية ، كما أن الأصول تنقسم إلى سبعة لظهور الكمال كذلك الروابط والمناسبات والحدود الشخصية المجتمعة .

 

       وبيان ذلك مجملا الوجود في نفسه واحد ينقسم باعتبار قربه من الفيض وبعده وباعتبار قابلياته إلى أقسام سبعة إشارة إلى كماله في نفس انقسامه إلى العدد الكامل ، وهذه الخمسة العيون والجمّتان مختلفات ، فطيب بارد كعين اليمين ، وخبيث منتن أسود حار كعين برهوت ، ومختلط بين الحار والبارد فإذا أخذ كان الجميع باردا كعين الطبرية ، وبين الجاري كالعيون والراكد كالجمتين ، وفي المركبات الجسمية كعين الكبريت وغيرها ، وكل ذلك إشارة إلى أقسام الوجود وانقسامه ، يعني أن الوجود المقيد ثقيله وخفيفه كثيفه ولطيفه لو كان مدادا للكلمات وحصر فضائلها لنفدت قبل أن تنفد الكلمات عليهم السلام ، هكذا ذكره شيخنا الأستاذ أطال الله ظلاله

____________________

1 المناقب 4/400 , الاحتجاج 454 , البحار 4/151 ح 3 ( وما بين القوسين لم نعثر عليه ) .

على رؤوس العباد ، وهو كما قال سلمه الله .

 

       وأما معرفة تفاصيل هذه الأبحر فيحتاج إلى معرفة تلك البلدان وطبائعها وأحوالها والكواكب المربية لها ، ومعرفة عرضها وطولها وحرها وبردها ومقتضيات خواصها وقرانات أوضاعها وطبائع أحوالها      وأشخاصها ، ولم  يحضرني الآن تلك الأحوال وعلى الله قصد السبيل .

 

       ثم الأبحر الأربعة وهي الأنهار الأربعة كما ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز ، الأول الماء الغير الآسن وهو الجاري من ميم بسم وهذا الماء يجري تحت الحجاب الأبيض الأعلى في عالم الوجود المطلق النازل بظهوره الذي هو أثره في أول رتبة الوجود المقيد، النازل بظهوره إلى ريح الصبا المستكن المستجن في الركن اليماني وعنده مجمع الرياح .

 

       الثاني : اللبن الذي لم يتغير طعمه وهو الحجاب الأصفر والنور  الأصفر المشرق من صبح الأزل عند ظهور الصبح وإسفاره وتبين الحمرة وهو النازل بظهوره في ثاني رتبة الوجود المقيد رتبة البراق مركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عروجه إلى عالم القدس ومقام الأنس الآخذ بزمامه إسرافيل النازل بظهوره إلى ريح الجنوب المستكن المستجن في الركن العراقي من الكعبة شرّفها الله تعالى .

 

       الثالث : الخمر الذي هو لذة للشاربين وهو الجاري من ميم الرحمن تحت الحجاب الأخضر في عالم الوجود المطلق مقام القدر والهندسة الإيجادية النازل بظهوره وأثره إلى النور الأخضر المشرق من صبح الأزل الذي هو القدر من عالم الأمر وهو اللوح المنشور بين يدي عزرائيل النازل بظهوره إلى ريح الشمال المستجن في الركن الثاني من الكعبة عظمها الله تعالى ظاهرا وباطنا .

 

       الرابع : العسل المصفى وهو النابع الجاري من ميم الرحيم تحت الحجاب الأحمر في عالم الوجود المطلق مقام القضاء والتركيب والإلزام النازل بظهوره إلى رابع رتبة الوجود المقيد وهو النور الأحمر المشرق من صبح الأزل الذي هو نفس الوجود المطلق النازل بظهوره إلى ريح الدّبور المستكن المستجن في الركن الغربي والواقف عليه جبرائيل رسول الله إلى أنبيائه .

 

       وهذا معنى قوله عز وجل { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ }1وإنما أشير إلى الأول بالماء الغير الآسن لأنه بحر الحياة وهو الرحمة قال تعالى { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }2 وهو الماء الذي به كل شيء حي ، وإلى الثاني باللبن لأنه مادة الحياة وطارد الممات وهو البقرة الصفراء التي فاقع لونها تسر الناظرين قـال الله عز وجل { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }3 واللبن أسرع الأشياء إلى الاستحالة بالنطفة والظاهر طبق الباطن والصورة مثال الحقيقة فافهم .

_____________________

1 محمد 15

2 الروم 50

3 البقرة 73

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      وإلى الثالث بالخمر لأنه مقام السكر وحالة الاضطجاع والكسالة قال تعالى‏{ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }1 وقال تعالى‏{ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى }2 وهنالك مقام الكثرة الحاجبة عن الوحدة ومشاهدة جمالها وجلالها فيظهر مقتضاها إن عمل فيها بمقتضاها في دار الآخرة من غير ما يترتب عليها مقتضياتها الدنيوية فأشار بالظاهر إلى الباطن فافهم .

 

       وإلى الرابع بالعسل لأنه حار يابس طبع النار نار الطبيعة المهيّجة للأشواق الساكنة قال تعالى فيه بألطف إشارة للمؤمن الممتحن { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }3‏ .

 

       والأبحر الثلاثة ، الأول بحر النور وهو عالم السرور عالم الجبروت وحجاب اللاهوت وخزانة الحي الذي لا يموت وهو أول العدد وصاحب الأبد روحه نسخة الأحدية في اللاهوت وصورته معاني الملك والملكوت وقلبه خزانة الحي الذي لا يموت طاووس الكبرياء و حمامة الجبروت جسده كما قال أمير المؤمنين عليه السلام .

__________________

1 النساء 43

2 التوبة 54

3 النحل 68 _ 69

 

 

 

 

 

       الثاني بحر الظلمة وهو ظاهر اسم ذلك البحر واب ذلك السور قال تعالى { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }1 { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }2 { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }3 وفي الزيارة (( السلام على رحمة الله على الأبرار ونقمته على الفجار ))4 ألا ترى كوكب زحل فإنهم حكموا له بالسواد المائل بالحمرة وهو كذلك وقالوا أنه نحس أكبر ودلت أخبارنا بأنه كوكب أمير المؤمنين عليه السلام وهو النجم الثاقب يأمر بالورع والتزهد ولبس الخشن .

 

       الثالث بحر النار وهو مهيّج الأشواق وداعي الأذواق ومملي الآفاق بالإشراق ولا يخاف في الله لومة لائم لشدة حرارة المحبة الغريزية والنائرة الطبيعية ولذا ظهر بالحمرة عند وفاته عليه السلام وظهرت له الحمرة في آفاق السماء وأعناق الهواء فأحرق بتلك النار الرطوبات واليبوسات الفضلية العارضية وهيج حرارة الشوق في الرطوبة الذاتية السليمة المعتدلة فأخذت تلك بالنضج وتلك بالإحراق إلى أن يتم النضج وتحترق الأكدار فهناك تظهر شمسا مضيئة تستأهل أراضي القلوب لإشراقها ولا تطلب احتجابها بالسحب والليل فينادي منادي الحق إن الحق مع علي عليه السلام وأصحابه من دون النداء الثاني لاحتراق النداء والمنادي قال عليه السلام على ما رواه علي بن مهزيار

________________

1 الحديد 13

2 المائدة 54

3 الإسراء 82

4 الزيارة السادسة لأمير المؤمنين عليه السلام

 

 

 

 

في تفسير قوله تعالى { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْـفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْـرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }1 قال عليه السلام (( إنه هو القائم عجل الله فرجه ) وهو الغاشية في قوله عز وجل { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ }2 .

 

       والتفسير الآخر لهذه البحور الثلاثة ، فاعلم أن بحر النور هو الحق لأنه من بحر الصاد والنون والمزن وهذا الماء نور في القلوب وشفاء للصدور .

 

       وبحر الظلمة هو الباطل لأنه عكسه وضده وخلافه قال عليه السلام          (( الرشد في خلافهم )) ، وبحر النار هو البحران المتضادان المتعاكسان أحدهما النار التي بها تنضج ثمار الجنة وهي نار الشجرة في قوله تعالى { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } وثانيهما { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ }4 والبحـران قال تعالى {* وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ

_____________________

1 المعارج 1 _ 7

2 الغاشية 1

3 النور 35

4 الهمزة 6 _ 9

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا }1 وقال أيضا سبحانه { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ }2 الأول البحر العذب وهو ماء الوجود لأنه نور الله سبحانه قال عليه السلام (( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، قال الصادق عليه السلام في تفسيره : أي من نوره الذي خلق منه ))3 وهو الوجود لأن الله عز وجل خلق الأشياء منه وهو نور الله لأنه متعلق الجعل الذاتي وهوكالحديدة            المحماة ، وهو بحر حقيقة لذوبانه وسريانه في كل أمواجه وحدود تعيناته .

 

       والثاني بحر الماهية وهو بحر الإنية مقام الصورة وهو ملح أجاج لأنه في السجن بل تحته وهو الطمطام ، فلا يسوغ شربه ، وهذان البحران مختلطان في غاية الاختلاط بحيث يصدق على المجموع اسم واحد لكن بينهما برزخ وحاجز من قدرة الله سبحانه يمنعهما عن استهلاك أحدهما في الآخر ، بل هما باقيان بفعلهما وتأثيرهما ومقتضياتهما خواصهما وأحوالهما كما كانا قبل الاختلاط ، وهذا كمال القدرة وبالغ الحكمة ، أما ترى الرجل فإنه مرة يعصي والأخرى يطيع فلوكان البحران فيه ممزوجين مختلطين وجب أن يصدر عنه أمر ثالث لا طاعة ولا معصية كسائر المركبات ، ولو لم  يكونا مختلطين ممزوجين وجب أن لا يصدق عليهما في حال التركيب اسم واحد فصحّ المزج والاختلاط من غير استهلاك وامتزاج وهذا شأن البرزخ ، وكل الوجود يدور

____________________

1 الفرقان 53                   2 الرحمن 19 _ 20

3 لم نجد هذه الرواية كما هي في هذا الشرح الشريف وإنما وجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في البحار 67/73 ح 1 وهو عن سليمـان الجعفري قال (( كنت عند أبي الحسن عليه السلام قال : يا سلمان اتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله , فسكت حتى أصبحت خلوة , فقلت : جعلت فداك سمعتك تقول اتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله , قال : نعم يا سلمان , إن الله خلق المؤمن من نوره وصبغهم في رحمته وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة , وإنما ينظر بذلك النور الذي خلق منه  )) . 

على هذين البحرين ولم  يخرج منهما شيء وهما الزوجان في قوله تعالى عز وجل { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }1 وقولهم كلّ ممكن زوج تركيبي فمن خرج عنهما فنى ولحق بالبحر الأعظم ، وهناك أيضا رائحة منهما وقال تعالى في سورة الرحمن { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}2 وفسر في الأخبار أن البحران الملتقيين هما علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام والبرزخ بينهما هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واللؤلؤ والمرجان الخارجان من هذين البحرين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة سلام الله عليهما ، فعلي عليه السلام بحر الولاية وفاطمة عليها السلام بحر وعاء الحكمة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحر النبوة قد ظهرت المراتب كلها في الحسن والحسين سلام الله عليهما ، كما يشهد عليهما اسمهما الشريف كما نذكره إنشاء الله فيما بعد .

 

       ثم البحر الواحد وهو بحر الصاد وأول المداد وهو الذي توضأ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة عرج فيها إلى السماء وصلى صلاة الظهر ، وهودليل على أن هذا البحر هو مبدأ الوجود وعلة الموجود وهو الماء

__________________

1 الذاريات 49

2 الرحمن 19 _ 22

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الذي كان عرش الرحمن عليه قال تعالى { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء }1 وهو الماء الذي يسقى به جنان الصاقورة وقد سئل أمير المؤمنين عليه السلام كم بقي العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض قال عليه السلام (( أتحسن أن تحسب ، قال : بلى ، قـال عليه السلام : أخاف أن لا تحسن ، قال : بلى ، قال عليه السلام : لو صبّ خردل بحيث ملأ الفضاء وسد ما بين الأرض والسماء ثم لو أمرت مع ضعفك أن تنقل حبة حبة من المشرق إلى المغرب لكان ذلك أقل من جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير مما بقي العرش على الماء وأستغفر الله عن التحديد بالقليل ))2فكان الوجود بأسره قد تشعب عن ذلك البحر ، وهو أمر الله الذي قام به كل شيء ، فكل البحار خلجان من هذا البحر الواحد وهو ماء يجري من تحت جبل الأزل إلى

_________________

1 هود 7

2 لم نعثر على هذه الرواية بهذا النص ولكن وجدنا ما يقرب منها وهي ما ذكر في إرشاد القلوب 277 ( قال الرجل : فكم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء , قال علي عليه السلام : أتحسن أن تحسب , قال نعم , قال للرجل : لعلك لا تحسن أن تحسب , قال : بلى إني لأحسن أن أحسب , قال علي عليه السلام : أرأيت إن صب خردل في الأرض حتى سد الهواء وما بين الأرض والسماء ثم أذن لك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من مقدار المشرق والمغرب وفي مد عمرك وأعطيت القوة على ذلك حتى تنقله وأحصيته لكان ذلك أيسر من أن أحصي عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء , وإنما وصفت منقصة عشر عشر لعشر من جزء من مائـة ألف جزء , وأستغفر الله عن الـتقليل والتحديد )) .

 

 

 

 

ما لا نهاية له قال تعالى (( ليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية ))1 .

 

       واعلم أن إطلاقات البحر في أخبار الأئمة الأطهار عليهم السلام وكذا في كلام الله تعالى كثيرة ويريدون بها ما أشرنا إليه بالنوع بإلاجمال ، ولو أردنا شرح ذلك كله لضاقت الدفاتر إلا أن الذي له أدنى تأمّل يعرف النوع مما ذكرنا ويحمل عليه ما لم نذكر ، وإطلاق البحر على المراتب المذكورة والمقامات المسطورة ليس على سبيل المجاز كما يتوهمون وإنما  هو على سبيل الحقيقة إلا أن في بعض الموارد كإطلاق الكل على أفراده من حيث أنه كلي وفي المواضع الأخر على سبيل الحقيقة بعد الحقيقة وقد أشرنا في أول الكلام إلى ذلك فراجع تفهم ، ولكن الذين ما أنسوا بالعوالم الأخر وما سمعوا منها رسما واسما ولا خبرا ما يتبادر عندهم البحر الأعلى مجمع المياه الكثيرة كما هو المعروف عندهم حتى حملوا قوله عليه السلام أن البحر الذي بين السماء والأرض على مثل هذا البحر الماء الجسم الثقيل السيّال ، ولعمري لو كان الأمر كما يقولون لوجب أن لا يستقر ذلك البحر هناك ويلزم بذلك الطفرة إذ كل ثقيل يميل إلى مركزه وهو الأرض وقد وقع النص عن مولانا الصادق عليه السلام بذلك في جوابه لأسئلة ذلك الزنديق على ما في الاحتجاج ، ولما كان الأمر كذلك أحببت أن أورد حقيقة هذه البحار الموجودة في الأرض من المحيط وغيره وأصل منشئها ومبدئها ووجه كون مياهها مالحة وحقيقة المد والجزر على جهة الإجمال والاختصار .

 

       فأقول : اعلم أن الشيء له جهتان وحالتان وهما رسم جميع  المخلوقات ، حالة وجهة ينظر بها إلى مبدئـه ، والجهة الثانية ينظر بها إلى قابليته ، وله مقامان مقام بساطة ومقام تركيب ، والتركيب مرتان الأولى لذكر المركب وصلوحه والثانية لتمام التركيب والتشخيص والتعيين ، والأولى تحتاج إلى رطوبة تامة زائدة مع البرودة واليبوسة والثانية إلى نصف الأولى كما هو مبرهن في العلم الطبيعي وأشرنا إليه أيضا فيما تقدم ، وقد علمت مما

________________

1 البحار 77/21 ح 6 , إرشاد القلوب 199

ذكرنا سابقا أن الحل يحتاج إلى أجزاء يابسة لطيفة في غاية اللطافة وتكون صاعدة إلى جهة المبدأ لتحقق المقابلة وكذلك ، وإلى أجزاء رطبة لطيفة وتكون صاعدة أيضا وإلا فلا يتكون ذلك الشيء كما قال مولانا علي بن الحسين عليه السلام (( وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الآمال دونك ))1فوجب قطع الآمال لتحصيل المقابلة ويرتفع الحجاب وهو معنى الصعود في كل عالم بحسبه ، فإن الآمال إذا ارتفعت خفّت جهة الإنية والخفة تقتضي الصعود إلى العلو ، وقد قلنا سابقا أن هذه الكرات الأربعة أعني النار والهواء والماء والتراب أجزاء وجود الشيء وبسائط مركباته ، وأن الأرض هي اليبوسة الحافظة الماسكة لأثر الفاعل ، وأن الماء هو الرطوبة المائلة القابلة ، وأن الهواء هو الرطوبة الهابطة الواقفة ، والنار هي الحرارة الهابطة الحافظة لتأثير الفاعل ، فباجتماع هذه الأربعة يتكون الشيء ولا شك أن الاجتماع لا يكون إلا بالمناسبة ، فوجب أن يكون للنار رابطة ثقل وللأرض رابطة خفة وللماء رابطة حرارة وللهواء رابطة يبوسة ، فلوكان كل شيء في مكانه لم تتحقق الرابطة لأنها لا تحصل إلا بالسير والسفر والميل إلى الآخر فوجب أن يكون للأرض صعود لتلحق الحرارة في تكون شيء لتمام قابليته لا لتمكين القابلية فإن الحرارة تقع عليها أولا حتى تمكنها من قبول أثرها لحصول المناسبة بينهما والفرق في المقامين ظاهر إنشاء الله ، ولا شك أن هذه العناصر لترتبها في الوجود مترتبة الوجود فيكون العالي محيطا بالسافل إحاطة حقيقية فيكون سطح محـدب كل منها مماسا بسطح مقعر الأعلى على مقتضى الكون والإيجاد ، لكن لو كان الأمر كذلك كليا لم يحصل النظام كليا من جهة الأسباب وحكم الله على الأشياء كذلك وإلا فهو القادر على ما يشاء كما يشاء بما يشاء لما يشاء مما يشاء على ما يشاء لا يسأل عن فعله ولاينازع في ملكه ولايضاد في حكمه لا إله إلا هو العلي الكبير .

___________________

1 دعاء أبي حمزة الثمالي

 

       ولما أجرى سبحانه عادته أن يجري الأشياء على نهج الأسباب ليتم كمال الصنع ويظهر تمام الحكمة قلنا أن ذلك لا يكون لأن الماء لوكان محيطا على الأرض بكلها لم يصعد من الأرض شيء لأن الماء بنفسه ثقيل لا يميل إلا إلى السفل وكذا الأرض وإنما هي أثقل من الماء فلو كانت تحت الأرض ما أمكن لها الصعود لأن الصعود لا يكون إلا بمعين خارجي فإن طبعه الظاهري يقتضي النزول وذلك المعين لا يجوز أن يكون ماء لما هو المعلوم ولا هواء لمكان رطوبة المناسبة لرطوبتها والمقوية لهما فلا تقاوم الحرارة وحدها ، فوجب أن يكون هو النار ولما كانت هذه العناصر أجساما والتأثير الجسمي لا يكون إلا بالمحاذاة والمقابلة ، فإذا كانت تحت الماء المانع المخالف بطبعه لطبع النار لا تحصل المقابلة وصعود الأبخرة المائية من دون الأجزاء اليابسة ما ينفع إذ العقد لا يكون إلا باليبوسة ، ولا تنعقد اليبوسة إلا إذا مازجتها الحرارة والرطوبة ولاتمازجها إلا إذا قابلتها ، فاقتضت الحكمة الإلهية والولاية الربانية أن يكون جزء من الأرض بارزا ظاهرا لتقع عليها أشعة الشمس والقمر فترطبها أشعة القمر وتيبسها أشعة الشمس ثم تلطفها بكر الليل والنهار حتى تخف عنها الكثافات والعوارض فنا سبت المبادئ العالية فانجذبت إليها وصعدت لديها ، فتنعقد في الجو سحابا مكفهرا باختلاطها مع الأجزاء البخارية الباردة الرطبة مع اختلاطها بالأجزاء الهوائية الحارة الرطبة مع تكور وقوع الشعلات النارية عليها ، فإذا وجب بروز الأرض على خلاف مقتضى الطبيعة الأولية ووفاق مقتضى الطبيعة الإيجادية لا يجوز أن يكون البروز كليا لأن الضرورات إنما تتقدر بقديرها ، ولأنه يستلزم تكثر اليبوسة وهو مناف للانعقاد والانحلال كما بينا في مباحثاتنا ، فوجب أن يكون جزء يسيرا من الأرض فيكون الماء محيطا على الأرض بكلها إلى المقدار الظاهر منها  وهو البحر المحيط ، ثم لما كانت القابلية تحتاج إلى رطوبة زائدة لتكثر الحل والربط والميل في الصورة التي هي القابلة اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون القمر بفلكه الجوزهر آخر الأفلاك وأقربها إلى الأرض والقوابل السافلة لكونه مدبرا للحياة فيفيض عليها البرودة والرطوبة جبرا لكسر ما ظهر من الأرض من اليبوسة فإن الاحتياج إلى اليبوسة في الحل الأول إنما هو قليل ، فلانت الأرض اليابسة بتكرر الرطوبات النازلة من صفة الرحمن الظاهرة في القمر ونعمت وصلحت وتخللت فيها بإعانة ذوبان الشمس فأحاطت بظاهرها وباطنها ، ولما كانت الحاجة إلى الرطوبة أكثر والقمر دائما يؤثر بأمر الله بالملائكة الموكلين به برئيسهم الذي هو إسماعيل الرطوبة في الأرض بالشمس التي هي أمر الله سبحانه لتليين الأرض وإصلاحها ولزيادة الرطوبة عند الحل الأول والثاني  وعند تحقق صورة التركيب ومن جهة اتصال تلك الرطوبات بالأجزاء الأرضية انعقدت المياه وتفجرت العيون إذا تحللت الأبخرة في الأرض وأصابها برد هناك وكانت مسام الأرض مفتوحة، فلما كان القمر دائم الفيضان كثرت المياه الظاهرة من جهة الاختلاط ولما كان ذلك يستلزم اجتماع المياه على وجه الأرض لكثرة الرطوبات وذلك يبطل فائدة إبراز الأرض ولم  تكن الأرض مهادا خلق الله سبحانه الرياح وجعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لينحدر الماء عن وجه الأرض ويجعلها جهة في الجهات وطرف من الأطراف على حسب اقتضاء الحكمة التي لوشرحنا بعض ما ظهر لنا يطول به الكلام , فاجتمعت المياه كلها أو أكثرها في جهة دون الأخر ى وتراكمت وتكاثفت وتزايدت باتصال العيون والأنهار وتكثر البخار من الأعلى والأسفل وإعانة الأمطار والثلوج والسيول وأشباه ذلك مع الرطوبة النازلة الدائمة القمرية ، ومجمع تلك المياه هو البحر الجسماني المائي وقد قال مولانا وإمامنا الصادق عليه السلام (( ومن تدبير الحكيم جل وعلا في خلقه الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عز وجل كذلك إلا لتنحدر المياه على  وجه الأرض فتسقيها وترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها ولولا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها ويقطع الطرق والمسالك ))1فلما انعقدت البحار فاختلفت بالقلة والكثرة والعظم والصغر فاختلفت باتصالها بالمحيط وعدمه ، ولما كان صنع الحكيم

______________________

1 توحيد المفضل 145

تعالى شأنه لا يخلومن فائدة وحكمة إذ كلما تفرض أنه شيء وجبت فيه المصلحة وهي تامة في مقامها ورتبتها وإن تفاوتت بعضها بالنسبة إلى الآخر جعل الله سبحانه قطعة من الجبل الذي اندك لتجلي الرب على موسى عليه السلام على ذلك الجبل وجعل هباء منبثا فامتزج بماء البحر حاملا لحرارة إشراق شمس التجلي الظاهر بهذه الشمس الظاهرة واستجنت تلك الحرارة في تلك الأجزاء واختلطت وامتزجت بالبحر وهو الماء الخالص ، فغلبت الرطوبة على ظاهرها فحدثت في الماء الملوحة ولذا كان ماء البحر مالحا ولذا كان الملح أبيض في الصورة والظاهر ولاينعقد إلا في الأراضي الرطبة ويذوب إذا أصابته الرطوبة ويجمد إذا أصابته الحرارة ، ولما كان الماء قد غلب على تلك الأجزاء اليابسة والحرارة النارية من الشمس الأصلية والفرعية بقي طعم الملح لا جرمه ، وخاصيته على مقدارها لا حقيقته فتكون بذلك بأمر الله سبحانه بالملائكة الموكلين على البحار الحيوانات البحرية بأنواعها وأقسامها ، فعرض عليهم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الطيبين الطاهرين عليهم السلام وفاطمة الصديقة الطاهرة عليها وعليهم سلام الله ما دامت الدنيا والآخر ة فصارت تلك الحيوانات بقبولهم لها وعدمه مختلفي المراتب والمقامات في الحلية والحرمة والمنفعة والمضرة والحسن والقبح وحسن الصورة وقبحها وطيب الخلقة ورديها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( ما اختلف في الله ولا في وإنما الاختلاف فيك يا علي )) ولا تستغرب عن تكليف حيوانات البحر لطاعتهم فإنه قد ورد عنهم بما لا يسع لأحد إنكاره أن الأعراض مكلفة بطاعتهم وقصة الحسين عليـه السلام مع الحمى حيث خاطبها وقال (( يا كباسة فسمع الحاضرون الصوت ولم يروا الشخص يقول لبيك قال عليه السلام ألم يأمرك أمير المؤمنين أن لا تقربي إلا عدوا أومذنبا لتكوني كفارة

 

 

 

 

 

لذنوبـه فما بال هذا الرجل ))1مشهور ويأتي تحقيق هذا الكلام إنشاء الرحمن .

 

       وبالجملة لهذا السر اختلفت مراتب الحيوانات البحرية في الطبيعة أيضا وكذلك اللآلئ المتكونة في الأصداف والمرجان النابت في قعر البحر وسائر المعادن مما غلبت عليه الرطوبة قال تعالى { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا }2 .

 

       إن قلت : أن الأجزاء الهبائية الحاملة لحرارة الشمس لا شك أنها في العيون والأنهار موجودة والغلبة للماء ظاهرة فلم لم يكن طعمها مالحا ؟

 

       قلت : إني قد قلت لك أن تلك الأجزاء من أجزاء الجبل المندك كما عن أمير المؤمنين عليه السلام حين سأله ابنه محمد بن الحنفية عن الغبار الظاهر في الكوة والرواشن إذا أشرقت عليها الشمس قال عليه السلام ما معناه ( إن الجبل الذي اندك عند تجلي الرب صار أربع قطع الأولى انبثت في الجو فصارت ما ترى من الهباء , والثانية وقعت في البحر فصارت غذاء للحيوانات    البحرية ، والثالثة ساخت إلى الأرض وهي تهوي ، والرابعة بقيت على وجه

___________________

1 لم نجد هذه الرواية كما هي في هذا الشرح وإنما وجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في البحار 44/183 ح 8 عن زرارة بن أعين قال (( سمعت أبـا عبد الله عليه السلام يحدث عن آبائه عليهم السلام أن مريضا شديد الحمى عاده الحسين عليه السلام فلما دخل من باب الدار طارت الحمى عن الرجل فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقا حقا والحمى تهرب عنكم , فقال له الحسين عليه السلام : والله ما خلق الله شيئا إلا وقد أمره بالطاعة لنا , قال فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول لبيك , قال : أليس أمير المؤمنين عليه السلام أمرك أن لا تقربي إلا عدوا أو مذنبا لكي تكوني كفارة لذنوبه فما بال هذا , فكان المريض عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي )) 

2 فاطر 12

 

الأرض ) بأبي هو وأمي قد جمع في هذه الكلمات كل الحكم والإشارات وجعل لشيعته المفر والتخلص في كل الشبهات فللّه الحمد وله الشكر على هدايتنا لدنيه والتوفيق للتمسك بحبله والاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها .

 

       فإن أبيت إلا الكلام الظاهري في الجواب قلت إن الأجزاء المختلطة بالعيون والأنهار إذا لم تجر على الأرض السبخة أوأرض الكبريت قليلا سيما إذا كانت جارية متجددة دائمة فإن الجريان والسير والسفر يلطف البنية ويذهب الكثافة ويقرب الأشياء إلى أصولها ومبادئها مع ما تحققت تلك الأجزاء من البرودة الهوائية العرضية والمائية والأرضية الجوهريتان ، وأما البحر فهو راكد واقف فالمزج فيه أكثر ، ألا ترى الماء إذا كان راكدا في حوض أو غير ذلك كيف يغلظ بعد كم يوم سيما إذا كان مكشوف الرأس وإن لم يتفاوت الحال إلا أنه في تلك الحالة تقع الأجزاء الهبائية فيه أكثر ، لأن تلك الأجزاء أرضية إنما صعدت بتلطيف الشمس بتجفيفها فإذا حاذت الماء والبخار اللطيف المتصاعد من وجهه تتصل تلك الأجزاء بذلك البخار وتتثاقل وتميل إلى المركز فتقع على الماء ، فكلما كان الماء أكثر كان الوقوع أكثر فإن كان الماء جاريا تتنزل تلك الأجزاء إلى الأرض وتلحق بالمركز ويبقى وجه الماء صافيا وإن كان واقفا تختلط به فتغلظ فتتعفن ويحصل منها رائحة منتنة لكونها في ذلك الحين ميتـة مسترخية لانقطاع روح الحياة التي هي الحرارة عنها ، وأما إذا كان الماء متحركا متموجا في مكانه يصعد بما في قعره إلى وجهه وينزل بما في وجهه إلى قعره فحينئذ تعود الروح الحيوانية لتلك الأجزاء وهي الحرارة الحاصلة من شدة الحركة ، فلا يزال يشتد في الحركة والتموج وتقع الأجزاء الهبائية وتشرق عليها الشمس والكواكب الأخر كالمريخ والزهرة وزحل بباطنه ، والبروج النارية والقرانات الحارة وكل الأشعة إنما هي تستجن في الماء عند محاذاته لها ومقابلته إياها مع الحركة الباعثة للحرارة مع الأجزاء الهبائية اللطيفة الحاملة للحرارة ومع الجزاء الأرضية الأخر ى التي يصعد بها من قعر البحر حين الحركة فتستجن الحرارة في تلك الأجزاء الهبائيه لأنها هي الرابطة والأنفحة والقاضي فتناسب النار بيبوستها وتناسب الماء ببرودتها فتقوى تلك الحرارة المستجنة وتغلب الرطوبة الظاهرة فتذهب العفونة وتنعقد ملحا ذائبا ، فلواستعمله الإنسان وباشره بجسده فإذا يبس يجد آثار الملوحة فيه كما جربنا مرارا .

 

       وأما سر الحركة فباستجنان تلك الأجزاء الحارة بإعانة الهواء المناسب لتلك الأجزاء ، ولذا ترى حيتان البحر المالح أحلى وألذ وأقوى وأسمن من الحيتان التي تصطاد من الماء العذب .

 

        وأما سر نتن بعض البحار كبحر الفارس الذي هو البحر الأخضر فهو من جهة تموجه وتحركه كما في البحر القلزم المواج المتحرك فليس فيه إلا الملوحة ولا نتن فيه كما جربنا ، ولما كانت الحيوانات المتولدة من البحر إنما هو مددها بعد وجودها من استنشاق الماء كانت لا تعيش في البر لعدم المدد الذي به قوام أجسادهم وأرواحهم ، كالحيوانات البرية فإنها لا تعيش في الماء لكون مددهم من الهواء ومن التراب فدائما يستنشقون من الهواء الممتزج بالهباء فلو كانوا في الماء لماتوا من جهة عدم المدد { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }1كذلك صنع الله ربنا لا إله إلا هو ، ولكل من الحيوانات البحرية خواص ينتفع بها الإنسان كما هي مذكورة في كتب الأطباء في باب مفرداتها ومركباتها وفي كتاب خواص الحيوان وسائر الكتب فلا نطول الكلام  بذكرها .

 

       وأما سر المد والجزر فإن ملكا من الملائكة موكلا بالبحار فإذا وضع قدميه فيها يحصل المد وإذا رفعهما يكون جزرا ، وسبب وضع الملك هو محاذاة القمر فإنه يحدث الرطوبات فتكثر الأبخرة فتتخلخل في ماء البحر فيكون المد فإذا انحرف عن المحاذاة عاد إلى ما كان ، ثم لما كان الله سبحانه تفضلا على عباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ويريد الله أن يخفف عنهم وخلق الإنسان ضعيفا فقصر بهم المسافة ورفع عنهم المؤنة وجعل لهم مراكب في البحر تحمل الثقيل من الأمور التي لوكانت على ظهر الدواب

__________________

1 المائدة 48

تعسر حملها بل ربما تعذر وجعل لهم رياحا تسير بالمراكب حسب ما قدر لهم من السرعة والبطؤ والشدة والراحة { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }1‏ قال مولانا الصادق (ع) في حيث المفضل (( فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار وقلت ما إلارب فيه ، فاعلم أنه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودواب البحر ومعدن اللؤلؤ والياقوت والعنبر وأصناف شتى تستخرج من البحر ، وفي سواحله منابت العود واليلنجوج وضروب من الطيب والعقاقير، ثم هو بعد مركب الناس ومحمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى العراق فإن هذه التجارات لولم  يكن لها محمل إلا على الظهر لبادت وبقيت في بلدانها ))2 .

 

       ثم اعلم أن ما وضعنا لك من أحوال البحر وأوضاعه كل ذلك أمثال ضربها الله سبحانه لقوم يعقلون وإشارات لقوم يسمعون ، وإن جميع ما ذكرنا دلالات على أحوال وأوضاع غريبة في عالم الغيب وفيما ذكرنا كفاية لمن كان له قلب أوألقى السمع وهوشهيد بشرط أن ينظر أيضا فيما ذكرنا من المعاني الحقيقية التي في البحر تغوص في هذا البحر تستخرج اللآلئ التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والله خليفتي عليك .

 

       واعلم أن مادة كل عالم من العوالم السبعة بحر يتموج بالحدود  والصور ، والموج هو شئونات تلك المادة وظهوراتها وصورها وأطوارها وأحوالها وانفصالها واتصالها وتفرقها وبينونتها وكلها متقومة بتلك المادة تقوم الموج بالبحر فإذا سكنت غابت الحدود وخفيت عند ظهورها وانمحت وانعدمت انعدام الجزء في الكل والفرع في الأصل .

__________________

1 هود 22

2 توحيد المفضل 144 , البحار 3/122 ح 1

 

 

 

قوله عليه السلام وروحي له الفداء والجبال

 

       اعلم أن الشيء الحادث له حالتان حالة ذوبان وانتشار وحالة انجماد وانعقاد ، والحالة الأولى لها مقامان مقام انتشار للاضمحلال والانعدام والفناء على الدوام ، ومقام انتشار وارتباط للإيجاد والأحكام واتفاق الصنع على التمام ، فـالأول مقام { قَـالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى }1ومقام (( ألق نفسك وتعال إلي )) ومقام جذب الهوية أي الأحدية لصفة التوحيد إذ الذوبان الاضحلالي الانعدامي لا يتصور إلا عند ظهور العالي على مراتبه إلى أن يخفى الظهور ويسطع النور في الديجور ويدخل المدينة على حين غفلة من أهلها فهذا الذوبان للاحتراق ، وذلك عند قرع الباب ورفع الحجاب وظهور اللباب وخلوص التراب وهدم القباب وكشف النقاب قال عليه السلام (( إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لوكشفها

_________________

1 طه 19 _ 20

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لاحترقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ))1والخلق إنما خلقوا للبقاء لا للفناء إنما ينتقلون من دار إلى دار فافهم .

 

       فالشيء في حالة الذوبان والانتشار بحر راكد وجار ، ففي الحالة الأولى هو بحر الأحدية وطمطام يم الوحدانية ، وفي الحالة الثانية هي الأبحر المتقدمة كبحر القدر وبحر الصاد وبحر النور وبحر الظلمة وبحر الحيوان وأمثالها مما  قدمنا .

 

       وحالة الانجماد والانعقاد لها مقامان كحالة الذوبان ، فالأولى مقام ظهور المثال وكون الفاعل وظهور الأسماء الحسنى والأمثال العليا والكبرياء والآلاء ومقام الخطاب وعلامة المخاطب ومقام ( لا زلت أكرر هذه الكلمة حتى سمعتها من قائلها ) ومقام ظهور الأحدية والهوية والألوهية والرحمانية والرحيمية والملائكية والشارعية والديانية ، ومجمل القول هو مقام ( تجلى لها بها ) ، وهومقام الفاعل في قولك ضرب زيد عمرواً ، فالفاعل هو زيد الضارب أي نفس الضارب لا زيد من حيث هو ، والضارب لا شك له أنه مشتق من ضرب مع أنه معمول له والفعل هو العامل فيه فيكون تحت الفعل لأن المعمول متأخر عن عامله والمشتق متأخر عن المشتق منه ، مع أن الناس ما يعنون بالفاعل والضارب إلا زيدا فصح ما ذكرنا وتبين ما قلنا ، فإن ضرب المفعول المطلق لما صدر عن ضرب انتشر وذاب وفنى في بقاء الذات وألقى ملاحظة الغير فاستعلى وطوى الوسائط فصار مرفوعا على أنه فاعل وهو كالحديدة المحماة وهو العقد لهذا الحل والانجماد لهذا الانتشار والسكون لهذه الحركة فافهم ما ألقيت عليك من الإكسير الأحمر .

 

       والثانية مقام العقد الحاصل من الميلين وصيرورة المجموع شيئا واحدا مقاما من المقامات الخلقية ومرتبة من المراتب الكونية من الفعل والمفعول المطلق والمفعول به والمفعول له والمفعول معه والحال والتمييز والمفعول فيه وأمثال ذلك ، والشيء في حال الانجماد والانعقـاد جبل راسي وهو وتـد

___________________

1 عوالي اللآلي 4/106

للأرض أرض القابلية وقد كانت على الماء ماء الوجود لأنها زائدة الحاصل عنه المتولد منه ، وكانت مضطربة لعدم الإلزام التام والسكون العام فأثبتها الله سبحانه بالجبال وهي أطوار الانجماد والانعقاد وتمام الشيء وكماله ، فهناك تكون ثابتة غير مضطربة فللشيء حالات .

 

       الأولى : حالة ظهور المبدأ له به بأطواره وأكواره وأدواره وأوطاره وهو السماء إذ بها يفيض الحق سبحانه وتعالى عليه مدده وجوده من فاضل مدده وجوده النازل من بحر الكينونة ، وتلك الحالة والجهة هي الدخان المتصاعد من البحر بحر المادة وصعد إلى الجو ففتقه الله سبحانه سبع سماوات والعرش والكرسي وجعلها باباً للمواد السفلية والأطوار الجسمية .

 

       والثانية : حالة قبول وانفعال وانكسار وهي أرض الجرز وأرض القابلية الرطبة المهيئة المستعدة لقبول الآثار الإلهية والظواهر الرحمانية قال تعالى { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }1‏ .

 

       والثالثة : حالة الانجماد والتمام والكمال الذي يستحق به اسما ويستوجب به حكما ويقتضي به أمرا من الأمور ومتمم للأمرين الأولين وهو في هذه الحالة جبل .

 

       وقد وقع التصريح في كلام الله سبحانه لأهل التلويح بهذه المراتب الثلاثة بقوله عز وجل { وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ }2 فجمع بين السماء والجبال والأرض إشارة إلى هذه الدقيقة اللطيفة ، ولما كان المبدأ الذي هو ظل الكينونية في حال وجوده الأولي إنما تثلث بهذه الأطوار الثلاثة جرى هذا الحكم في كل الأطـوار والأحوال الكينـونية مخـتلطة بإلاجمال والتفصيل 

__________________

1 الحج 5

2 الغاشية 18 _ 20

والكمون والبروز ، فكل مرتبة سافلة أكثر جهة وأغلظ طويّة عن المرتبة الأولى ، بل الرتبة الثانية تفصيل جهات الرتبة الأولى كما ترى في العدد فإن الواحد هو الأصل والاثنان تفصيله وتكريره والثلاثة تفصيل الاثنين والتسعة تفصيل الثلاثة والمائة تفصيل العشرة والألف تفصيل المائة وهكذا ، ففي كل مرتبة ثانية تشرح جهات الرتبة الأولى ، ولما كانت السماء والجبال والأرض مذكورة موجودة في مبدأ الوجود جرت في كل أطواره ، ولما كانت رتبة الأجسام أدنى المراتب وأسفلها وليس دونها مقام ظهرت المقامات الثلاثة مفصلة ظاهرة متمايزة ، ولما كانت هي أعظم أحوال الشيء ظهرت في هذه الرتبة الجسمية على أعظم مقام وأعظم حال بحيث لا يستقيم الكون الجسمي إلا بهذه الثلاثة .

 

       أما السماء فظاهرة لأنها مظهر العلّة الفاعلية ، وأما الأرض فكذلك .

 

       وأما الجبال فلما قال عز وجل { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }‏1فالصلابة والانجماد وترتب الأحكام والأحوال والاقتضاءات لا يكون إلا بها كما  ذكرنا ، فالذي لم يرد على حوض أمير المؤمنين عليه السلام ولم  يشرب من الماء المعين يستشكل في كون الجبال أوتادا للأرض ، لما صحّ عند الحكماء أن كل شيء له مقام طبيعي فالأرض لا شك أن لها مكانا طبيعيا وهي في مكانها لا تحتاج إلى وتد إذ الشيء في المكان الطبيعي لا يحتاج إلى معين خارجي غير ذاته كما نذكر إنشاء الله فيما بعد ونجيب عنه مفصلا على مقتضى فهم أهل المجادلة ، وأما الذكر الذي ذكرنا فهو على مذاق أهل الحكمة ومعرفتها حظ المؤمنين الممتحنين .

 

       فإذا علمت أن كل شيء سماء من جهة وأرض من جهة وجبل من جهة وبر من جهة وبحر من جهة ، فاعلم أن الله سبحانه لما حكم أن يحكم على الخلق بما هم عليه فعرض عليهم النور عرض تكليف واختبار ، فاختلفت المـوجودات حسب قبولهـا لذلك الـنور فاختلفت هذه الجهات في الشدة

____________________

1 النبأ 7

والضعف والزيادة والنقصان والقلة والكثرة ، وإلا فما من شيء إلا وهو حاو للأشياء كلها إذ كل شيء يحكي صنع الحكيم وفعله وأثره وظهر أثره حاكيا لعموم قدرته ، ففي الأشياء من فيه جهة السماء أظهر كالعقول وكالأفلاك وكالملائكة والأنبياء وخيار المؤمنين ، وفيها من فيه جهة الأرض أظهر كالنفوس والأرض المعروفة والنساء وأهل التقليد والجهّال وأمثالهم ، وفيها من فيه جهة الجبل أظهر كالأجسام والأشباح والجبال المعروفة ، ولكل من هذه الثلاثة جهات وشئونات تختلف الأشياء بالاتصاف بها في القوة والضعف والخفاء والظهور وأمثالها مما لا يسعني الآن بيانها لكثرتها وتشعبها ، فإذا قيل السماء فالمطلوب منها العلو فكلما كان أعلى وظهور العلوفيه أكثر كان هو المطلوب إلى أن ينتهي إلى آخر المقامات ، وإذا قيل الأرض فالمطلوب منها الماهية القابلية لظهور النور معتدلة في الظهور كما وصفها مولانا وسيدنا الحسن العسكري عليه السلام في قـوله تعالى { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً }‏1 قال عليه السلام (( جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمدكم ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ولاشديدة النتن فتعطبكم ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ولا جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم

____________________

1 البقرة 22

 

 

 

 

 

 

 

وكثير من منافعكم فكذلك جعل الأرض فراشا لكم ))1وكلامه عليه السلام وعلى آبائه وولده الخلف على بركة الله الحق عجل الله فرجه وفرجهم شرح وتفسير لقوله عز وجل { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }2 وهذا الاعتدال والاستعداد والتهيؤ هو المطلوب من الأرض ، فالأعدل أقوم وهكذا إلى آخر المراتب .

 

       وإذا قيل الجبال فالمطلوب منها حسن الانعقاد والانجماد وعدم التفكك وعدم الاضطراب وكونها حافظة وكونها مرتفعة عن الوصول إليها أي إلى قلتها ، وكونها مرتفعة إلى العلوأي إلى جهة المبدأ للتجلي وهكذا من أحوالها الخاصة بها ، فكلما أولى بهذه الصفات أولى بهذا الإطلاق ، وهذا الاسم والإطلاق على ما مرّ في البحار من أنه ليس على سبيل المجاز وإنما هو حقيقة بعد حقيقة ، فأعظم الجبال وأكبرها وأعلاها الذي لا يصل إلى ذروته إلا قليل وما نال قلته إلا يسير هو جبل المعرفة جبل الظهور قال عليه السلام (( وإذا انجلى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبة فاستأنس في ظلال المحبوب

____________________

1 الاحتجاج 456 , البحار 3/35 ح 10

2 الحج 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وآثر المحبوب على ما سواه وباشر أوامره واجتنب نواهيه ))1وهذا جبل الإكسير ولا لون لهذا الجبل ولايشبه معدن من المعادن بل كل المعادن منه تستمد وإليه تنتهي يناسب كل طبيعة وهولا طبيعة له سبحان من خلقه عظيم وملكه قديم لا إلـه إلا هو .

 

       ثم بعده في السعة والثبات والصلابة جبل اليقين والاطمئنان والاستقرار قال عليه السلام ما معناه ( إن اليقين أقل ما قسم الله بين العباد )2 وهذا  الجبل هو أعظم أوتاد الأرض وأكبرها وأعلاها ورسخ في جميع عروق الأرض وهو معدن الذهب على الحقيقة ، وفي بعض الأحوال معدن الدر والأرض كما قال عز وجل { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا }3قال عليه السلام (( يعني بموت العلماء ))4 هو نهاية الأرض وأعلى مقاماتها وهو متقوم باليقين قال إمامنا وسيدنا الصادق عليه السلام (( وإذا أشرق نور

___________________

1 مصباح الشريعة 119

2 ذكر المصنف أعلى الله مقامه هذه الرواية بالمعنى ونحن نذكرها بالنص لتعم الفائدة فقد روي هذا الحديث في تحف العقول صفحة 358 هكذا (( الإسلام درجة , والإيمان على الإسلام درجة , واليقين على الإيمان درجة , وما أوتي الناي أقل من اليقين )) .

3 الرعد 41                4 البحار 70/340

 

 

 

 

 

 

 

 

اليقين في القلب وجده حلاوة الرجاء ))1 .

 

       ثم بعده جبل العلم { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }2‏ وهو معدن الفضّة وقد يتولد منه العقيق الأصفر والأحمر وظاهر معدن الحديد قال تعالى { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ }3 والناظر على هذا الجبل المريخ وهو شيخ كبير قاعد على كرسي من الدم فقد يتولد من هذا الجبل الياقوت الأحمر وهذا  الجبل هو معدن الزّمرد وهو جبل قاف المحيط بالكاف المتولد عنه اللام ، وخضرة السماء من هذا الجبل .

 

       وهذه الجبال الثلاثة قد حوت كل أقطار الأرض لـكن لهذه الجبال الرّواسي مقومات وأوتاد أخر لا تستقر بدونها ولا تثبت بغيرها وهي ما قال الله عز وجل في كتابه العزيز { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

_________________

1 وجدنا هذا الحديث في البحار 70/22 ح 22 باختلاف يسير وهو (( إذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل وإذا تمكن من رؤية الفضل رجا وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب )) .

2 فاطر 28

3 الحديد 25

 

 

 

 

 

 

 

 

سُطِحَتْ }1وقال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }‏2 ولما حصلت السماء والأرض والجبال علمنا أنه سبحانه يريد بالجبال هي الأوتاد لا مطلق الجبال لأنها تختلف وإن كانت من حيث هي جبال تشترك في الوتديّة ، إلا أن بعضها إلى الأرضية أقرب من الجبلية فتحتاج إلى الوتد ، فيكون الجبل المقوم للكل وتد الوتد وهوالعمد التي لا ترونها وهوالجبال المذكورة في الآية الشريفة المتقدمة ، وتلك الجبال أربعة عشر جبلا تقوم الجبال والأرضون كلها وأشار الحق سبحانه إليها بالحروف المقطعة في أوائل السور ويجمعها قولك ( صراط علي حق نمسكه ) ، وهذه الجبال هي مظاهر اسم الله الجواد والوهاب ، وهي وجه الله سبحانه لكل متوجه إلى ذلك الجناب بذلك الباب ، وهي يد الله سبحانه المبسوطة بالإعطاء           والإنفاق ، وهي نور الله الذي قد ملأ به الآفاق ، وهي السبع المثاني وهي ركن البيان والمعاني ، وهي القلب الإنساني وهي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن والخلف الصالح المهدي سلام الله عليهم أقطاب الولاية ومراكز النهاية والبداية والأولية والآخر ية والظاهرية والباطنية والنهاية واللانهاية ، وسر الله الأكبر ونور الله الأزهر ، ونقطة دائرة الأكوار والأدوار والأطوار والأوطار ، وطور تجلي الله القاهر الجبار ، وجبل التجلي في كل الأطوار ، وهذه الجبال وتد الأتد وعمد العمد وأرباب الأبد وآحاد الأحد وأصحاب السرمد ينفجر من تحتها عيون الجلال والجمال ، ويتكون فيها معادن الفضل والإفضال ، لا يصل إلى قلتها أحد ولا يعدها عدد ولا ينالها غير الله ولا يحيط بكنوزها ما سوى الله ، جبال فيها من صلابة العبودية ومهابة القهارية المغنية كلما سوى الله أعلاها ، ومن رفعة المجد والشرف والولاية أقصاها ، ومن أطوار التجلي أعظمها وأسناها ، وهي جبال الأحدية وأطوار الواحدية ومظاهر الرحمانية لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له .

_____________________

1 الغاشية 17 _ 20

2 النبأ 6 _ 7

       ثم الجبال العشرة وهي جبال إبراهيم على نبينا وآله عليه السلام قد وضع عليها الطيور الأربعة أعلاها وألطفها وأشرفها وأبقاها قلب المؤمن ومحدد الجهات والصاقورة العليا ومركب العلل وعلوم الكيف واللم وعرش الاستواء الرحماني والنظر الأعلى .

 

       الجبل الثاني صدر العلم قال تعالى { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }1والكرسي الواسع للسماوات والأرض والكتاب المسطور .

 

       والثالث سماء الأمان وسلم الإيمان وبرج كيوان وجبل ظهور النور والاستعلان ومطيع الرحمن وطريق الجنان .

 

       والرابع خزانة الحلم ووعاء الحكم ومظهر العلم وحجاب الزبرجد وفلك الكوكب الأسعد .

 

       والخامس جبل السطوة ومظهر القهر لعزرائيل والحجاب الأحمر .

 

       والسادس جبل الهيولى الثانية ومنبع الوجود الفيّاض والعرش الثاني  الجسماني النوراني والباب الإلـهي .

 

       والسابع جبل الأكوان الملكوتية المحفوظة في الخزائن الإلهية ومعدن العقيق الأصفر .

 

       والثامن جبل الهياكل الرقمية المنزلة بالقدر المعلوم وينبوع القرار ومقام الاستقرار واختلاف الأطوار  والأنظار .

 

       والتاسع جبل الحياة الذي حييت بظله الحيوانات .

 

       والعاشر جبل الطور والقاف المذكور .

_______________________

1 العنكبوت 49

       وهذه الجبال العشر عاشرها حاملها وتاسعها مثل العاشر ، والعاشر على ظهر التاسع وهما سواء ، والثامن والسابع يجمعهما في الظاهر مقدار واحد ، والستة الباقية يجمعها مقدار واحد في الظاهر إلا أن لكل واحد من هذه العشرة حكما ويكون له وبه طبع غير الآخر ، والعاشر يجمعها ويضمّها إليه ذلك معنى قولهم أن واحدا سيغلب تسعا من بنات البطارق ، ولاريب أن جبل القاف محيط بالدنيا كلها على ما نذكره إنشاء الله .

 

       وهذه الجبال العشرة لها مقامان ، المقام الأول مقام القشر وهي في هذا المقام ظواهر جبال إبراهيم للطيور الأربعة الإلهية المأمور بذبحها ومزجها ووضع المختلط الممزوج عليها ، وهذه الجبال أسباب لقابلية إظهار تلك  الجبال .

 

       فالجبل الأول حجر صلد أسود معدن القار ومحل القرار ومقام الاستقرار ، أول منزل المولود الصالح الصفي المكرّم ، كثير المخاوف عظيم المنافع ، إذا وصل المولود المكرم هذا المنزل سلم من الأخطار فيسجد لله الواحد القهار .

 

       ثم الجبل الثاني جبل الزبرجد ومحل نظر الكوكب الأسعد ، وأول ظهور النور وأول اضمحلال الديجور ، جبل عظيم راسي يبقى المولود المكرّم على هذا الجبل عشرين يوما لأخذ الأهبة والاستعداد لبلوغ المراد .

 

       الثالث جبل الفيروزج وثاني ظهور النّور وبسط مقام الظهور .

 

       والرابع جبل الدرّ الأبيض كمد اللون مكدّر .

 

       والخامس جبل الذهب ومقام الطرب .

 

       والسادس جبل الأسرب وعليه سرير القاضي العاقد على الزوج والزوجة ومحل الأنفحة وإكليل الغلبة وتربة المولود وركن المسعود .

       والسابع جبل فيه معدن القلع والتصدير .

 

       والثامن جبل الزّمرد ومحل التجرد ورتبة التفرد .

 

       والتاسع جبل الياقوت وباب الملكوت .

 

       والعاشر جبل الفضة ومقام النّعمة وظهور النقمة ومهبط جبرائيل ومظهر ميكائيل .

 

       فلما تمت هذه الجبال العشرة وسير المولود الكريم في هذه الجبال ظهرت ستة جبال أخر .

 

       الأول : جبل الحديد محلّ نظر المريخ ظاهره ذهب وباطنه فضة وهو ذو الوجهين كوكب أمير المؤمنين عليه السلام .

 

       الثاني : جبل يجري تحته معدن الزئبق على ذلك الجبل الفتاة الغربية وعليه استقر هرمس الحكيم ، وإليه ينظر القمر في فلكه الجوزهر وهناك مقام يوشع بن نون الدّاخل على القوم الجبارين وقال يا قوم { ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }1 .

 

       الثالث جبل العقيق الأصفر وعليه استقرّ الشاب الجميل صاحب القباء الأصفر الماشي على الأرض بالتبختر .

 

       الرابع جبل الياقوت الأحمر وعليه مقرّ الفتى الكرشي وعنده التسلط الجبرائيلي .

 

       الخامس جبل معدن الذهب ومطرح أشعة الشمس وطور موسى ومنزل عيسى وتابوت هارون وبئر دانيال ومقام الإقبال .

__________________

1 المائدة 23

       السادس جبل الأسرب ظاهره الحديد وباطنه الذهب وهو جبل وعر مشتمل على الأحجار ولا يثبت لواقفه قرار .

 

       فلما تم سير المولود المكرّم والشّاب الموفّق المعظّم في هذه الجبال الستة ظهرت جبال إبراهيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي الجبال العشرة ، وخلف كل جبل واحد مستقرّ عن يمينه وواحد مصلح عن يساره فعند الصعود على كل جبـل أزال مفسدا فطهرت الأرض من التسعة المفسدة فافهم .

 

       قال الله سبحانه { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }1 فمن الجبال جبل القاف وهو جبل محيط بالدنيا كلّها وهو من زمردة خضراء ، وخضرة السماء منه وعليه استقرت أطراف السماء ، وليس في الأرض جبل إلا وله عرق فيه كما ورد عنهم عليهم السلام وهذا الجبل هو الوتد الأعظم الأعلى للأرض كما نذكره إنشاء الله .

 

       وإنما كان أخضر لأنه مجمع الأجزاء النارية المختلطة بالأجزاء الهوائية المختلطة بالأجزاء الأرضية ، فيستدعي الخلط الأول الصّفرة والثاني الخضرة ، وصرف الأول الحمرة وصرف الثاني الصّفرة وصرف الثالث السّواد ، وإنما كان من زمردة لأنه معدن التأمت أجزاؤه من لطائف الأرض بإشراق الأنوار الشمسية عليها وإنما قـال عليه السلام (( إن خضرة السماء منـه )) يريد

__________________

1 النحل 68

 

 

 

 

 

 

بالسماء الجو كما في قوله تعالى { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا }1فإنها من البحر الذي بين السماء والأرض ، وإلا فالسماء الحقيقية على ألوان مختلفة كما سبق من أن لون سماء الدنيا لون الفضة وهكذا ، وهذه الخضرة المرئية في الجو إنما حصلت من الأجزاء اللطيفة الأرضية المصوغة المنفصلة من ذلك الجبل ومزجها بالبخار وإشراق الشمس عليها ، وإنما  كانت أطراف السماء عليه لأنه محيط دائرة الأفق في اليوم الذي كان طالع الدنيا سرطان وكانت الكواكب في أشرافها ووجبت صلاة الظهر ، فذلك الجبل المحيط بالأرض كلها في الأفق الواحد الغير المتعدد هو القاف ، ولذا كانت كل الجبال لها عرق فيه ولذا عبر عنه بالزمردة الخضراء ، وأما بعد ما تحركت الأفلاك واختلفت الآفاق فأهل كل بلدة وأفق ما يصلون إلا إلى عرق واحد منه إلا لمن وصل ذلك الأفق الأعظم فيحيط بذلك الجبل فيرى الملك الموكل به كما فعل ذوالقرنين في الحديث المشهور المذكور في باب الزلزلة ، وهذا حكم الظاهر في الكون الجسمي في الإنسان الكبير الكلي .

 

        وأما في الإنسان الصغير فهو الجسد والجسم المحيطان الحاويان لكل ما في الإنسان من الأركان الغيبية والشهودية وعليه دائرة الأفق الأعظم فينصف الإنسان إلى علوي وسفلي ، وهو زمردي اللون وإن ظهر بالبياض في بعض وبالسواد في الآخر ين ، وهو لما قلنا من اختلاف الآفاق وميلها من وقوع أشعة الإشراق ومزجه بخلاف جنسه فقبل إما طبيعة المازج ولونه أو طبيعة ثالثة بينهما ، وليس المقام لبسط الكلام فيه ، وخضرة سماء عالم هورقليا بالاقتران به والميل إليه وهي عالمه في الرؤيا .

 

       وأما في الباطن الإضافي فكل عالم الأجسام سماواته وأرضوه وبحاره وأنهاره وأشجاره ظهر عليها عالم الغيب بشؤونه وأطواره وأسراره      وأنواره ، ولما كان عالم الغيب يختلف في الغيبة والشهود بحسبه فيصرف هذا الجبل في كل مقام بحسبه ، وهذا الصرف والإطلاق حقيقي لا مجازي على ما

____________________

1 الفرقان 48

قال عليه السلام (( إنما سميت كعبة لأنها مربعة وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع وصار البيت المعمور مربعا لأنه بحذاء العرش وهو مربع وصار العرش مربعا لأن الكلمات التي بني عليه الإسلام أربع وهي سبحان الله والحمد لله ولا إلـه إلا الله والله أكبر ))1وهذا الجبل هو عالم الظاهر والصورة كما قال تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـاثًـا

___________________

1 الفقيه 2/190 ح 2110

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }1‏ في كل عالم بحسبه وكل مقام برتبته فافهم .

 

       وهذا الجبل هوعلم الحقيقة ولب الطريقة وباطن الشريعة وقال عليه السلام في حمعسق أن ( حم هومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلم علي عليه السلام كله في عسق ) فالعين عبودية والسين سناء المجد وبهاء الشرف اللاّزم للعبودية ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى الأكوان والأعيان والأطوار والأوطار والذوات والصفات واللّوازم والقرانات وأمثالها ، والقاف قرب ووصال ونعيم واتصال ، فظهر مقام الحجب وصلى الله على محمد المنتجب وعلى أوصيائه الحجب ، ومقام الظاهرية (( فنحن معانيه ومظاهره فيكم اخترعنا من نور ذاته وفوّض إلينا أمور عباده ))2 (( إن إلينا إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم ))3 وهذا الجبل معدن الحقائق والأسرار وينبوع الحقائق والأنوار مفتاح الجنان وعرش الرحمن ووعاء الأسماء وظهور المسمى فافهم الإشارة ولاتحمل على العبارة .

 

       ومنها جبل النور وهو جبل حرم مكة شرفها الله ، وهو جبل شامخ من حضيضه إلا أعلاه أربعة فراسخ وذلك لسر العبودية في التوحيد لكونه حرم الله الواحد القهّار ، والتوحيد لا يتم إلا في أربعة مقامات ولتربيع أركان البيت جريا بحكم المطابقة بالأنوار الأربعة والأسرار الأربعة والأطوار الأربعة والأوطار الأربعة والأكوار الأربعة والأدوار الأربعة، فلله في كل عالم حرم

____________________

1 النحل 80

2 البحار 26/14 ح 2

3 تفسير فرات 551 , البحار 7/202 ح 88

 

 

 

 

وبيت وجباله أربعة فراسخ في ثلاثة أطوار ألم تسمع قول الله تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }  على قراءة يسبح بالبناء للمفعول والوقف على الآصال رجال أي تلك البيوت  ‏{ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ }1 ، والبيت إنما واقع بين الجبلين كما ترى في الظاهر وهو يشير إلى أن ظهور الحق سبحانه للخلق ما يمكن إلا بين جبل النبوة والولاية قـال تعالى { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }2 وفي الدعاء (( فبهم ملأت سمائك وأرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا أنت ))3 وهذان الجبلان في الظاهر أسودان لم ينبت عليهما شيء محترقان لشدة حرارة الشمس ، والوجه في ذلك ذل العبودية وكونهما مظهري التكليف ومصدري المشتقات الجسمانية المخالفة للطبيعة الظاهرية    الجسدية وقد قال عز وجل { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }4 وقال عز وجل { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن

_____________________

1 النور 36 _ 37

2 الرعد 7

3 دعاء رجب لمولانا الحجة عجل الله فرجه

4 البقرة 45

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ }1‏ ، وقد ظهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والولي عليه السلام ما شبعا من خبز الشعير وهذا هوالسر في احتراق الأراضي الطيبة وملوحة مائـها وقلتها وقلة أثمارها وأشجارها وشقاوة أغلب أهلها وإفسادهم ، فإذا رجعت الأشياء إلى مبادئها وأصولها رجعت تلك الأراضي الطيبة إلى الحسن الذّاتي فتفجر أنهارها وتنضج ثمارها وتكثر أزهارها ويعتدل هواؤها ويستصلح أهلها ، لأنهما هي الأرض المقدسة والجسد الحديد ، فقبل إزالة الريش هو غراب وأرض منتنة فإذا أزيلت فيكون عقابا وأرضا مقدسة مطهرة وتكون مادة الإكسير الأحمر والأبيض  .

 

       ومنها جبل أحد الواقع بقرب المدينة الذي استشهد عندها حمزة سيد الشهداء عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا  الجبل أعظم الجبال وأعلاها ولذا يقع التشبيه للأمور العظيمة الكبيرة الداهية به وهو في أخبارنا كثيرة مع أنه في الصورة الظاهرية صغير ليس له ارتفاع تامّ كجبل أبي قبيس الذي هو في مكة ، وعظمته إنما هو لأصله لأنه ثابت وراسخ إلى التخوم ولا كذلك سائر الجبال وإنما هي على ظهر الأرض ، فيكون هذا الجبل من أعظم أوتاد الأرض في كل عالم بحسبه ، وإنما كان هذا الجبل مختصا بهذا الحكم لكونه في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظهر مثالا للنبوة على الأطوار المختلقة منها كسر العبودية واندكاك جبل الإنية وإعدام نفسه عند بقاء ربه فثبت واستقر واستعلى باطنا وصار به قرار الأرض فلم يرتفع ظاهرا للفرق بينه وبين جبل مكة كالفرق بين حرم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والفرق بين القيام والركوع ، وإنما صار جبل أحد راسخا ثابتا إلى التخوم دون أبي قبيس لسر أن التوحيد لا يتم إلا بالنبوة ولذا كان مقام الركوع أعلى من مقام القيام ، ولأنه مقام جلال العظمة ولذا اختص الركوع بذكر العظمة سبحان ربي العظيم وبحمده .

__________________

1 الزخرف 33

 

ومنها جبل النجف الأشرف وهو أعظم من جبال الدنيا وهو الجبل الذي أوى إليه ابن نوح عليه السلام عند الطوفان لارتفاعه وعظمته وعلوه كما قال مولانا الصادق عليه السلام على ما في البحار عن أبي بصير أنه عليه السلام قال (( إن النجف كان جبلا وهو الذي قال ابن نوح { سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء }1ولم  يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه فأوحى الله عز وجل إليه يا جبل أيعتصم بك مني فتقطع قطعا قطعا إلى بلاد الشام وصار رملا دقيقا وصار بعد ذلك بحرا عظيما وكان يسمى ذلك البحر بحر نيّ ثم جفّ بعد ذلك فقيل نيّ جفّ فسمي بنيجف ثم صار بعد ذلك يسمونه نجف لأنه كان أخف على ألسنتهم ))2 وإنما  تقطع هذا الجبل إلى بلاد الشام لأنها هي الأرض المقدسة وصار رملا دقيقا لظهور نور التجلي حتى تخلل بالاستيلاء والغلبة على كل جزء من أجزائه إلى أن عجز عن التماسك فإن التماسك لا يكون إلا بالأجزاء الأرضية المستجنة فيها الأجزاء الرطبة المائية والهوائية المشرق على ظواهرها النار ، وأما إذا تخللت النار في كل جزء جزء واستولت وغلبت تفككت الأجزاء وتفرقت وذابت لعظمة الله سبحانه إلى أن صارت بحرا ، وإنما  كان اسم ذلك البحر ( ني ) لأنه اسم للسين الذي هو

___________________

1 هود 43

2 البحار 11/321 ح 29 , علل الشرائع 31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في  قوله تعالى { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }1ولما كان كل حرف له اسم يخص به كان اسم السين هو الياء والنون وهما بيّناته فإن البينات اسم للزبر على ما فصّل في علم الحروف ، وقد اتفق في هذا الحرف خاصة تطابق الاسم والمسمى والزبر والبينات في القوة والعدد ، ولما كان علي عليه السلام هو آية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودليله وعصا عزّه وتاج فخره كان اسما له لأن الوسم وهو الدليل والآية ، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه السين كأسماء الله سبحانه بذلك فيكون بينات اسمه هو علي عليه السلام قال الله تعالى { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ }2 ، ولاشك أن البينات مطوية ومخفية عند الزبر ، كذلك علي عليه السلام صامت عند ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما كانت المدينة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنجف إلى علي عليه السلام فجرت المناسبة في الظاهر كما كانت جارية في الباطن فسمي ذلك البحر ( ني ) تسمية للنور باسم المنير ، ووجه التقطيع لما ذكرنا من وجه ارتفاع جبل أبي قبيس على جبل أحد وانخفاض جبل أحد فاقتضى الحكم أن ينقطع هذا الجبل لأنه مقام السجود بالنسبة إلى الركوع في الصلاة وهو مقام جلال القدرة ، ولذا اختص السجود بذكر سبحان ربي الأعلى وبحمده ، وأما جفاف البحر لإظهار النور وإبراز السرور وكونها أرض النشور ودار السلام ودار الحبور صلى الله على محمد وعلي وآلهما الطيبين الطاهرين .

_________________

1 يس 1 _ 2

2 العنكبوت 49

 

 

 

 

       وهذا الجبل هوالربوة التي في القرآن في قوله تعالى { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }1فهناك وضع عيسى عليه السلام قال عليه السلام (( الربوة الكوفة والقرار المسجد والمعين الفرات ))2 وعنه عليه السلام مصرحاً بالأمر (( إن الربوة نجف الكوفة والمعين الفرات ))3 ولذا اشتهر بين الخلق أن أرض النجف أعلى الأراضي كلها بكل معنى .

 

       ومنها جبل طور سيناء وهو ربوة النجف ظاهراً وباطناً وما قيل أنه في الشام وهي الأرض المقدسة فالمراد به قطعة من جبل النجف الذي تقطع وصار قطعاً قطعاً إلى أرض الشام ، وأما في الحقيقة فهوهذه البقعة المباركة قال عليه السلام (( الغري قطعة من الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليماً وقدس عليه عيسى عليه السلام تقديساً واتخذ عليه إبراهيم خليلا واتخذ عليه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حبيبا وجعله للنبيين مسكنا ))4 والوجه في الكل ظاهر لأنهم تبع فلا يخالف التابع المتبوع من حيث أنه تابع أبدا في المقامات كلها وجودا كان أم ظهورا , ولما كان الأنبياء متمحضين في الولاء مخلصين في ولاية سيد الأنبياء والأولياء ظهر لهم الحق سبحانه في محل ظهوره صفوة الأصفياء علي أمين الله في الأرض والسماء عليه سلام الله إلى ما لا نهاية له ولا وراء كرفع قائم في قولك جاءني زيد القائم ونصبه في قولك رأيت زيدا القائم وجرّه في قولك مررت بزيد القائم ، والقائم تابع لزيد في كل أحواله فكذلك الأنبياء تبعوا أمير المؤمنين عليه السلام في كل مظاهره وأحواله الظاهرة والصفات اللازمة ، وأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن

_____________________

1 المؤمنون 50                2 معاني الأخبار 373

3 المزار 16                   4 المزار 21

 

 

 

 

جهة أنه نفسه قال تعالى { وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ }1قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( يا علي أنت نفسي التي بين جنبي )) ولكونه عليه السلام طائفا حول جلال القدرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفا حول جلال العظمة وهذا الظهور عام كلّي في كل مقام بحسبه ورتبته ولا نفصل لما أشرنا سابقا لأهلها وهذا الكلام في مقام الجمع .

 

       أما في مقام التفصيل فنقول مجملا قال شيخنا أطال الله بقاءه ( أما الجبل الذي كلّم الله موسى عليه السلام تكليما هوجبل طور سيناء وجبل حوريث ، وأما الجبل الذي قدّس الله عليه عيسى عليه السلام تقديسا فهو جبل ساعير على المعاني كلها وقيل ساعير جبل في الحجاز يدعى جبل الشراء كان عيسى عليه السلام يناجي الله تعالى عليه ) ، أقول إنما كان بالحجاز لأنه حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم , قال سلّمه الله ( وعنده إجابة الدعاء وقيل ساعير قبّة كانت مع موسى عليه السلام كالتخت للملك ، وأما الجبل الذي اتخذ الله عليه إبراهيم عليه السلام خليلا يعني الذي ظهر له عليه فهو الربوة من منى في مسجد الخيف أو في إيليا وهي مدينة القدس أو في جبل فلسطين عند بئر شيع وهو البئر الذي حفره وبناه عنده مسجدا ، وأما الجبل الذي ظهر فيه لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جبل فاران من جبال مكة بينه وبين مكة يوم كذا في الخبر عن الرضا عليه السلام ظهر فيه بربوات المقدسين فوق إحساس الكروبيين ) انتهى كلامه أطال الله بقاءه ، فوق غمام النور وفوق هذا الجبل كان ينبوع علم الجفر الأحمر والأبيض البقرة التي أتى بها جبرائيل من الجنة فذبحها علي عليه السلام وسلخ جلدها فأملا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكتب ذلك العلم على جلد تلك البقرة التي اسمها الجفر ، وهذه هي البقرة الصفراء فاقع لونها تسر الناظرين فجعلها عليه السلام ثمانية وعشرين جزء في ثمانية وعشرين ورقة في صفحتين في ثمانية وعشرين سطرا في ثمانية وعشرين بيتا في أربعة أحرف ، وتلك البقرة ظاهر البراق الذي صعد بـه رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم إلى عالم

___________________

1 آل عمران 61 

القدس وبلغ مقام قاب قوسين ، وبين هذا الجبل ومكة التي هي حرم الله سبحانه يوم جرى الظاهر طبق الباطن فإن قلب المؤمن هوعرش الرحمن وهذه البقرة المذبوحة على جبل فاران مقام الروح عالم الظلال على شكل الورق الآس وبينه وبين القلب مرتبة واحدة ، وهذه الثمانية والعشرون تطورات الوجود وضبط نسبه وأوضاعه وأحواله وصفاته وإضافاته وقراناته كما هو معلوم عند أهله ، وهذه الجبال المفصلة كلها جبل واحد كما قال مولانا الصادق عليه السلام أنها (( هي نجف الكوفة )) إذ مرجع جميع التجليات الكونية والعينية بل الإمكانية والأزلية الوصفية الظاهرة في الرتبة الإمكانية كلها إلى الولاية قال تعالى { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ }1 ، وما ظهر بالولاية العامة المطلقة الكلية إلا مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وراثة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون محل ظهوره الخاص وموقفه محل جميع الأنبياء والمرسلين وهذا معنى ما ورد أن جبرائيل ما كان يأتي رسول الله إلا بإذن علي عليه السلام فافهم فإني كررت العبارة لتحظى بالإشارة .

 

       فإذا عرفت هذا القدر من الكلام فاعلم أني أحب أن أذكر في هذا المقام منشأ تكون الجبال وأسباب وجودها وعلّة تحققها على جهة الإجمال فإن بعض المموّهين من أهل الضلال من النصارى قد أورد نقوضا على القرآن لإبطال أمر الله وإطفاء نور الله وأبى الله إلا أن يتم نوره ويحكم أمره ، وكان مما قال خذله الله في النقض على قوله عز وجل { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا *

__________________

1 هود 123

 

 

 

 

 

 

وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }1أن الأجسام من البسائط والمركبات لا شك أن لها مكانا طبيعيا إذا خليت وطبعها ما تطلب إلا إياه فلا تحتاج في طلب المكان الطبيعي إلى قاسر ومعين فإذا كان كذلك فلا معنى لقوله { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } فإن الأرض في مكانها الطبيعي لا تحتاج إلى الوتد , وهذا الكلام لوتأمّلته وجدته أن صاحب هذا القول ما ذاق من المعرفة شيئا ليس بناؤه إلا التمويه ، لأنا نقول له إن الشيء في المكان الطبيعي لا يحتاج إلى معين أو إلى قاسر لوصحّ لكنّك أثبت أوّلا هل الأرض في مكانها الطبيعي أم لا ، فإن قلت أنها في مكانها الطبيعي قلت لماذا أخرجت قطعة منها عن الماء دون باقيها مع أن كل سافل مركز للعالي ، ألا ترى الأفلاك فإنها محيطة على كرة النار في كل جوانبها والنار محيطة على الهواء كذلك وإلا لم تكونا في مكانيهما الطبيعيين بتقدير الله سبحانه ، فيجب أن يكون الماء أيضاً محيطاً بالأرض في جميع جوانبها وإلا لاختل النظام الطبيعي ، ومع أن الأمر ليس كذلك فإن الأرض قطعة منها بارزة عن الماء ليست في إحاطة الماء للبرهان الذوقي والسر الإلهي الذي ذكرنا سابقا في البحار ، فخرجت الأرض عن مكانها الطبيعي بتسخير الله سبحانه الذي خضع له كل شيء وذل له كل شيء ، ولما أن الله سبحانه أبى أن يجري الأشياء إلا على أسبابها لأنه هو مقتضى الحكمة وإظهار الأسماء الجلالية والجمالية وباقي الأسماء المتقابلة جعل لتلك القطعة أسبابا يمنعها عن الغوص في الماء وإلا فهي بمقتضى ذاتها وطويتها وضعف اختيارها لبرودة القابلية وانحطاطها عن رتبة الصعود إلى الفاعل والمقبول فصارت تهوي إلى مركز سفلها إلا أن يمنعها مانع من إشراقات أنوار الفاعل وروابط آثاره المقتضية للصعود ، وأنت قد علمت ما ذكرنا سابقا أن النار هي ظهور الفاعل ومثاله في العالم الجسمي والهواء ظهور المقبول ومثاله في ذلك العالم ، فالفاعل بذاته يقتضي الرفع والصعود لأنه مركز الخفة وكذا المقبول لأنه جهته فصار مثاله أيضا كذلك فإذا ألقى الفاعل مثاله الذي هو النار بواسطة المقبول الذي هو الهواء الرطوبة الذاتية المعتدلة في هوية القابل المفعول فإن كان ذلك المثال

________________

1 النبأ 6 _ 7

بالظهور أقوى من ماهية المفعول وإنيته فيظهر فعل الفاعل الظاهر من المثال من حقيقة المفعول كالحديدة المحماة بالنار , وإن كانت الإنية والماهية أقوى فيتبع ذلك المثال مقهورا مضمحلا فانيا فيجري على المفعول مقتضى الماهية المجتثة الهابطة إلى أسفل السافلين قال سبحانه وتعالى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ }1 .

 

       فإذا عرفت ذلك فاعلم أن الله سبحانه لما خلق العالم كان طالع الدنيا السرطان وكانت الكواكب في أشرافها ، فكانت الشمس في التاسع عشر درجة من الحمل وأول وقت الزوال وقت فريضة الظهر ، والشمس قبل أن تغيبها السحب والموانع وأول ظهور المبدأ كانت في كمال القوة من الظهور سيما إذا كانت في بيت شرفها ، فإن الكواكب في بيت الشرف أقوى تأثيرا مما إذا كانت في غيره سيما إذا كان بيت الشمس الحمل أول برج من البروج النارية الفاعلية ليس برج في البروج أقوى وأشد تأثيرا منه لأن الحرف المقابل له الألف وهو من الحروف النارية في مقام الرتبة ، فظهر الفاعل بكمال التأثير في بدء التدبير فمكن القابل من المقبول لحكم التسخير فاحترقت المياه التي كانت على الأرض القابلية المانعة من قبولها لتأثير الفاعل مما يحاذي منطقة البروج إذ الشمس إنما يكون سيرها عليها فوقعت أشعة الشمس وكواكب البروج النارية وسائر الكواكب لأنا قد قلنا سابقا أن الكواكب شعلات نارية كانت مستجنة في زبد البحر ، والأرض الظاهرة عن الماء المقابلة للكواكب في بدء ظهورها وفقدان الموانع المانعة كانت مهيأة للقبول ومستعدة له وهي الأرض الجرز وهي التي قال الله عز وجل { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا

___________________

1 التين 4 _ 5

 

 

 

 

 

عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }1‏ فلما وقعت أشعة الشمس الشعلات النارية الخارجة من قدح زناد مقابلة الشمس للأرض على الأرض حفظها الهواء برطوبتها ، وإلا فالشمس حارة يابسة والأرض باردة يابسة كانت تحترق ولم  يبق لها قرار فاحتاجت إلى ملين من جهة النار وملين من جهة الأرض لتحفظ تلك الأشعة عن اللحوق بالمركز وتظهر الأفاعيل حسب ما اقتضت المصلحة ، إلا أن الفاعل في البدء لما كان قوي الظهور فيكون ظهوره وبروز آثاره وأفعاله أقوى من غيره فظهرت الحرارة في الأرض واستجنت فيها وتلطفت الأرض بالتليين المائي من الأجزاء البخارية والهوائية وغلبت عليها الحرارة أي على الوجه المقابل للشمس والكواكب فلطفت وتخللت الحرارة في جميع الأجزاء الظاهرة المقابلة فتفككت ، فبعضها صعدت إلى الجو وهي اللطائف التي ذهبت إنيتها فشابهت أوائل عالمها فلحقت بمركزها بمقدار قوة المشابهة وضعفها وقلتها وكثرتها ، وبعضها بقيت على الأرض فهي في حال تفرقها لم يظهر لها تأثير تام بحيث يمنع الأرض عن اللحوق بمركزها فأرسل الله سبحانه ريح الدبور فحركت تلك الأجزاء المستجنة فيها الشعلات النارية وجعلها إلى ناحية من النواحي بأسباب يطول بذكرها الكلام ، فأرسل ريح الصبا فهبت عليها وأحدثت الرطوبة فيها فلانت الأجزاء ومالت بعضها إلى بعض، فأرسل الله سبحانه ريح الجنوب الموكل به أعوان من جنود إسرافيل فمزجت بين تلك الأجزاء مزجا تاما بقوة الحرارة والرطوبة ، فأرسل الله سبحانه ريح الشمال الموكل به أعوان من جنود عزرائيل فعقدت تلك الأجزاء إلى أن انجمدت ، وعلى هذا القياس تراكمت الأجزاء الأرضية وانعقدت بإعانة الله سبحانه بتسبيب هذه الملائكة الأربعة الموكلة بالرياح الأربعة فتكونت الجبال ، فهي بذاتها باستجنان تلك الأشعة النارية التي تقتضي الصعود إلى العلو وغلبة الأجزاء الأرضية عليها تقتضي الهبوط إلى السفل ، فالأجزاء النارية القوية تمنعها عن الهبوط والأجزاء المتراكمة الأرضية تمنعها عن الصعود فبقيت في مكانها في غاية الاعتدال ، ولما

_________________

1 الحج 5

كانت القطعة الخارجة عن الماء متصلة بهذه الجبال ومرتبطة بها مع ما ظهر عليها أيضا من أنواع التستخينات بحفظ الجبال إياها لها ما هبطت فبقيت على الحال التي نرى فكانت أوتادا للأرض وأعمدة لتقومها فوق الماء ، وهذا  الذي ذكرناه هو معنى ما قال أمير المؤمنين عليه السلام إن الجبال خلقت من الأمواج والسماء خلقت من الدخان والأرض من الزبد كما روى الصدوق بإسناده عنه عليه السلام في حديث طويل إلى أن قال (( قال : فمم خلق السموات قال أمير المؤمنين عليه السلام من بخار الماء قال : فمم خلق الأرض قال عليه السلام : من زبد الماء ، قال : فمم خلقت الجبال قال عليه السلام : من الأمواج ))1، يريد عليه السلام بالماء هو المادة الجسمانية ، ويريد من بخارها لطائفها وصافيها كما هو الواقع ، ويريد بالزبد غلظتها وكثافتها وعدم ثبوتها وكونها على وجه الماء ، ويريد بالأمواج هي الشعلات المستجنة في المادة الجسمانية بواسطة أشعة الكواكب مع الأجزاء الكثيفة ، ولذا ترى أن المعادن كلها مادتها الكبريت والزئبق واختلاف أنواعها باختلاف وقوع أشعة الكواكب عليها وتصفيتها وعدمها واعتدالها وعدمه وغلبة بعض الطبائع وأمثال ذلك ، وهذه الأحجار الصلبة الحمراء والصفراء والسوداء وسائر أقسامها ما تنعقد إلا بحرارة قوية من أشعة الكواكب وشرحها وتفصيلها مذكور في كتب القوم في المعادن ومرادنا هنا الاقتصار بما لم يذكروا .

 

       وبدن الإنسان أيضا كذلك كالشجرة فإن الروح تصعد به إلى العلو والأجزاء الأرضية تهبط به فبقي واقفا مائلا إلى العلو متصلا بالسفل، والإنسان استعلى رأسه ورقبته وصدره لقوة الحرارة فكلما فيه الحرارة أكثر هو أعلى إلى الرجل المتصل بالأرض لمناسبة البرودة ، فلولا الروح لوقع ملقى على الأرض ما يتحرك كما نشاهد عند نزع الروح عنه ، ولولا الجسد كان فوق الأفلاك بأربعة آلاف فرسخ ، فبالأمرين تم خلق الإنسان والحيوان في أحسن تقويم فالجسد جبل للطينة الحيوانية والإنسانية وهكذا ، والتربة التي يأتي بها الملك

_________________

1 علل الشرائع 593

 

فيمزجها بين النطفتين جبل ووتد لنطفة المرأة ولولاها لاحترقت بحرارة نطفة الرجل أو انجمدت حرارة نطفة الرجل ببرودة نطفة المرأة ذلك تقدير العزيز العليم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام على تلاطم تيار

 

       بيان لحقيقة الجبال ومادة تكونها ، وبيان لتطورات البحار بالأطوار  وشرح لما ذكرنا من الأنوار من أن الشيء من حيث الذوبان بحر ومن حيث الانجماد جبل ، والانجماد لا يكون إلا بالذوبان فيكون الجبل موجاً من أمواج البحر إلا أن موج كل بحر على حسبه ، فالجسم جسماني والروح روحاني والنفس نفساني والعقل عقلاني والجامد منجمد والسيال جار            وذائب ، وأنت قد علمت سابقاً أن البحر يطلق على الحقيقة على الشيء الواحد الصالح للشئون والأطوار الكثيرة كما دلت أخبار أهل العصمة عليهم السلام كبحر النار وبحر الظلمة وأمثال ذلك ، والبحر له ثلاث مقامات .

 

       الأول : مقام ما يتصاعد منه من الأبخرة وهذا ليس فيه موج محسوس وإن كان فيه موج بحسب مقامه ، وإنما هوأجزاء لطيفة شريفة يخرج عن مركز السفل إلى مركز العلووالخفة .

 

       والثاني  : مقام سكونه واطمئنانه ومقام ذاته من حيث هو .

 

       والثالث : مقام الموج والاضطراب والحركة والميل والأحوال .

 

       فالمقام الأول فليس مما نحن فيه لأنها أمور تخرج عن البحر وتدخل في البحر الآخر فإن كان فيها حرارة إنما هي مكتسبة من أمور أخر .

 

       المقام الثاني هو مقام التكون وهو على قسمين .

 

       أحدهما : سكون ليس فيه حركة أصلا بوجه من الوجوه ، وهذا  السكون ليس ضدا للحركة إذ ليس فيه ذكر للحركة وأحد الضدين مذكور عند الآخر فلا يخرج من هذا البحر في هذا المقام شيء ولا يدخله شيء .

 

       وثانيهما : مقام سكون عن الحركة أو عن صلوحها ، فإن الواحد وإن قيل أنه غير متكثر ولا متحرك ولكن فيه حركات ذكريه قلبية غير ظاهرة في الجوارح وعالم الحس في كل عالم بحسبه ، والبحر في هذا المقام مادة للأمواج وما يخرج منه إلى الأعلى فله في المقام الأول حركات شديدة واضطرابات عنيفة وميولات سريعة  لكنها غير ظاهرة { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ }1 .

 

       وفي المقام الثاني حركات ظاهرة لأهل الإشارة يعرفها الملاحون وأهل السفينة العالمون بأحوال البحر واقتضاءاته فلا يتصور موج في المقامين إلا باعتبارات قريبة بعيدة { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }‏2 .

 

       والمقام الثالث مقام ظهور الحرارة لاستدعائها الحركة فلما تتزايد الحركة تتزايد الحرارة وكلما تتزايد الحرارة تتلطف الأمواج ، ولذا إذا نظرت إلى البحر الموّاج في الليل ترى الأمواج كأنها نيران اشتعلت على وجه الماء ، وتلك الحرارة هي المستجنة في البحر أظهرها داعي الحركة من العواصف أو الأدخنة أو غير ذلك ، فالأمواج محل النيران ومظهرها والنيران محلها الأفلاك فتميل إليها لكن لحقها ثاء الثقيل فبقيت في مكانها فكانت الجبال أوتادا على ما بينا سابقا وآنفا .

 

        وأما الأمواج بالنسبة إلى البحار فاعلم أن أمواج بحر الأحدية هي هياكل التوحيد وسكان عرش الله المجيد وجبال التنزيه والتفريد ، وأمواج بحر الواحدية هي الأسماء والصفات ومواقع التجليات ومظاهر التعلقات وظهورالأسماء المتقابلة والصفات المتضادة المتباينة (( يسبح الله بأسمائه جميع

____________________

1 النمل 88

2 المعارج 6 _ 7

 

 

 

خلقه ))1كم غرّقت هذه الأمواج سفنـا كثيرة وكم كسرّت مقامات عديدة ، ما يسير في هذا البحر عند التلاطم والتيار إلا أهل الجزيرة الخضراء المخضرة من نور الزمردة الخضراء كتاب الأبرار ، لكنه في كون الكينونة لا كون البينونة وكون الإطلاق لا كون التقييد وكون النار ولو لم  تمسسه نار لا كون الهواء يكاد زيتها يضيء فهم من فهم .

 

       وأمواج بحر اللاهوت هي سطوات الجبروت واعتبار ظهورات قصبة الياقوت ومبدأ الكينونة الثانوية في الرحموت .

 

       وأمواج بحر الجبروت ذرات الملكوت وأمواج بحر الملكوت هي الشئونات الشبحية والمقدارية .

 

       وأمواج البحر الأبيض قريب الجزيرة الخضراء هي عالم الملك ، وأمواج هذا العالم على أنحاء كثيرة وأطوار غريبة عجيبة ، طور هي الأفلاك ، وطور هي العناصر ، وطور هي المتولدات ، وطور هي الجبال ، وطور هي المعادن ، وطـور هي النبات ، وطور هي الحيوان ، لا إله إلا الله ذو الملك القديم والمن الجسيم لـه الكبرياء والقدس والعظمة سبحانه وتعالى عما يصفون .

__________________

1 الزيارة الجامعة الصغيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام

رقيق رتيق فتق رتاجها فتغطمطت أمواجها

 

       قال في مجمع البحرين ( الرق في بالكسر من الملك وهو العبودية وهو مصدر رق الشيء من باب ضرب ومنه الدعاء (( سجدت لك يا رب تعبدا ورقا )) والرقيق يطلق على الذكر والأنثى والجمع أرقاء مثل شحيح وأشحاء وقد يطلق على الجمع أيضا فيقال ليس في الرقيق صدقه أي في عبيد الخدمة والرقيق خلاف الثخين والغليظ ومنه الثياب الرقاق وخبز رقاق بالضم أي رقيق الواحد رقاقة والرقة بالكسر ضد القوة والشدة والرقة بمعنى الرحمة من رق لهم رحمهم ومنه الحديث (( إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذه السلطان فرق لهم ))1  .

 

       ( والرتق هو ضد الفتق وهو الالتئام )2 .

_____________________

1 مجمع البحرين 5/172

2 مجمع البحرين 5/166

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

       والفتق الشق والفتح ( وفتقت الشيء فتقا شققته الفتق شق عصى الجماعة ووقوع الحرب بينهم وفتقت الثوب من باب قتل نقضت خياطته حتى فصلت بعضه من بعض فانفتق وفتقت بالتشديد مبالغة وتكثير )1 .

 

       الرتج في المجمع ( في الحديث السماء تفتح فلا ترتج أي لا تغلق من أرتجت الباب أغلقته ، ومنه أمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإرتاج الباب أي بإغلاقه وارتج على القارئ إذا لم يقدر على القراءة ، وفي حديث فاطمة بنت أسد وقد سألت من إمامها فارتج عليها فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنك ابنك يعني استغلق عليها معرفته ، والارتتاج بتاءين مثناتين فوقانيتين بمعنى الانغلاق ، والرتاج بالكسر الباب العظيم )2 .

 

       وفي المنتخب غطمطم وغطم بحر عظيم .

 

       أقول : إذا أخذنا الرقيق بمعنى الرقة ضد الثخين والغلظة يجوز أن يكون صفة للتلاطم والتيار وأن يكون صفة للجبال والبحار بالقول بتساوي المذكر والمؤنث في الفعيل بمعنى المفعول كقولك رجل جريح وامرأة جريح فيصح التوصيف ، أو بأن يجعل الصفة معنوية ليكون المراد من البحار هو البحر الواحد الحقيقة الجامعة لكل الأبحر والجبال هوالجبل الواحد الشامل لكل الجبال ليكون المراد بالبحار هو بحر الأحدية لأنه جامع بين الكثرة والوحدة فهو الكل في وحدته على اعتبارين ، والجبال هو جبل قاف ومظهر الكاف وسر العين وحقيقة اللام ولطيفة الميم ومثل هذا الاستعمال كثير في الكلام

_________________

1 مجمع البحرين 5/242

2 مجمع البحرين 2/302

 

 

 

 

 

الكريم كما في قوله عز وجل { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ }‏1 حيث ذكر السماء وهي في الظاهر مؤنث غير ذات الشعور فالمناسب إرجاع الضمير المؤنث اليها مع أنه أتى بالجمع المذكر وكقوله عز وجل { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}2 وقوله تعالى { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }3 ، وأمثال ذلك في القرآن والأخبار كثير جدا فيجوز أن يأتي بالموصوف في الظاهر بصورة الجمع والصفة بصورة المفرد للإشارة إلى سر .

 

       ولا يقال إن ذلك يستلزم عدم تطابق الموصوف مع الصفة المجمع على بطلانه ، لأنا نقول إن الموصوف في الحقيقة مفرد وليس بجمع وإنما أتى بالجمع من باب الحكاية والمظهرية لا بالاستقلال ولوأتي كذلك أيضا فلا يضر لأنه لا يوصف به وإنما  الموصوف هو الحقيقة السارية في كل الأفراد ولا ضير في ذلك بل هذا هوالواقع الحقيقي والمطابقة الحقيقية موجودة لفظا ومعنى .

 

       فعلى هذا الوجه يكون المعنى أن الله سبحانه خلق البحار والجبال وهي في أصل مبدئها وفطرتها في مقام الحل الأول والثاني في الحركة الأولى الطبيعية الذاتيه أو الثانية قبل انتشارها في الحركة العرضية الظهورية .

 

       رقيق مشابهة للمبدأ شباهة القشر مع اللب أو الأثر مع المؤثر اضمحلت عندها جهات الكثرة ورقت حجب الإنية وظهرت في مقام الوحدة لا الوحدة الحقيقية بل على حسب مقامها فكانت رتقا، فالبحار بحر واحد والجبال جبل واحد فرتق الله سبحانه ذلك البحر بالبخار على ما فصل سابقا لكن مرجعها كلها إلى ذلك البحر ، وكذا الجبال وهو الجبل الذي عنده عروق كل جبال الأرض من الدنيا والآخرة فالبحار أمواج ذلك البحر الواحد وخلجان منه ، وكل موج بحر له أمواج متلاطمة متغطمطة كما قال

_________________

1 البقرة 31

2 يوسف 4

3 النحل 48

عليه السلام قال ابن أبي الحديد :

       يا فلك نوح حيث كل بسيط      بحر يبور وكل بحر جـدول .

فافهم .

 

       فكان بحر الأحدية أوموجه رقيقا رتيقا فتق الله سبحانه رتاجه أي بابه وجهات ظهوراته فتموج ببحر الأحدية بسر الهوية ولب الألوهية ، وذلك الموج بحر تموج بالأسرار والأنوار والأطوار والأوطار والأكدار والأخيار والأشرار إلى ما لا نهاية له من الأكوار والأدوار ، ومن أسرار هذا البحر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستزادة حيث قال سبحانه { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }1 وهو صلى الله عليه وآله وسلم استزاد التحير وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( اللهم زدني فيك تحيرا )) وكل البحار الموجودة في كل السموات والأرض أمواج من هذا البحر ، وكل موج بحر يحكي هذا البحر بعينه لسر المشابهة فلا نهاية لأمواجه وأمواج أمواجه وأمواج أمواج أمواجه وهكذا الكلام في كل موج من الأمواج إلى ما لا نهاية له ، ولو كان لك بصر حديد لرأيت بالعيان والمشاهدة فتق رتاجها وتغطمط أمواجها واضطراب ما لها وسرعة حركاتها ، ولرأيتها قبل الفتق حين الرتق وبعد الفتق ولرأيت أنها لا تزال مفتوقة مرتوقة ولا نفاد لهذا الفتق والرتق واضطراب الموج ، وموج الأجسام جبال وكل جبل معدن كنز ومفتاح باب غيب قال تعالى {* وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ

__________________

1 طه 114

 

 

 

 

 

 

 

إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }1وشرح حقيقة هذه الأحوال لا يسعه المجال .

 

       وإذا جعلت رقيقا وبعده صفة للتلاطم والتيار فالمعنى كما ذكرنا إلا أنه في المقام الثاني من المقام الثاني للبحر كما مر من أن البحر له ثلاث مقامات فراجع ، إذ في ذلك المقام موج رقيق وتلاطم رقيق لا يحس ولا يدرك لكونه مقام السر المقنع بالسر والسر المستسر وإلا فالبحر مطلقاً لم يزل في الحركة والتموج لاستجنان الحرارة الباعثة للشوق إلى التحرك نحو المبدأ في الأجزاء الهبائية المختلطة بالأجزاء المائية وكمون الأدخنة ووقوف الماء ، فالحرارة جاذبة ومحركة إلى العلو والوقوف والركود كما ذكرنا بجميع الشعلات النارية بكثرة وقوع الأدخنة والغبار فيميل إليها بالطبع والوصف واللون وتميل تلك الأجزاء إليه كذلك ولولا ذلك لم يبق ماء للاحتراق ، ولذا ترى إذا كان الماء قليلا تعدمه الحرارة في زمان قليل فتميل النار إلى الماء بتوسط الدخان والهباء بقي الماء على حاله في السيلان ، ويميل الماء إلى النار بتوسط تلك الأجزاء وجدت الحيوانات المائية والحركات الذاتية ودوام التموج إلا إذا غلبت جهة المائية ولم  يمنعها مانع أقوى ، وظهور اشتداد التموج إنما هو بالأمور المؤيدة وزيادة الحرارة أو هبوب الريح العاصف من الرياح الأربعة وأمثالها ، وبهذه الأمور وأمثالها يفتق رتاج البحر حتى ظهر بالأمواج والتلاطم العظيم والحرارة ، وإن كانت جاذبة إلى العلو إلا أنها لما علقتها ثاء الثقيل فتحرك البحر وتموج وهو في مكانه ورتبته ، بخلاف الأجزاء البخارية فإنها قد صعد بها لكمال المشابهة وهذا الحكم كلي في كل عالم بحسبه .

 

       والعبارة الواقعية في سبب الأمواج فاعلم أن الله سبحانه لما حكم أن يظهر آيات صنعه وعلامات قدرته في البر والبحر والسهل والجبل ليتبين للخلق أنه الحق خلقا في الكل ، خلقاً مختلف الصور ومختلف الهيئات والأشباح والهياكل والطبائع ليستدل بهذا الاختلاف والكثرة بالواحد القاهر للكثرات

__________________

1 الأنعام 59

والعاد للأعداد ، ولما كان حكمه تعالى واحد والإيجاد لا يمكن إلا بحركتين حركة وجه المبدأ إلى المفعول وحركته إلى وجه المبدأ فوجب مزج آثار تينك الحركتين واختلاطهما حتى صار معترك المرجين ومصلصل الخلطين منشأ خلق آخر { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }‏1 ولما كان المزج في الحيوانات البحرية والمعادن ما لا يكون إلا بالبحر والمزج والتعفين لابد له من الحرارة والماء بطبعه مضاد لها والأجزاء الهبائية بحرارتها لا تقاوم برودة الماء فيأمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بزجر البحر حتى يتحرك ويتموج حتى يحصل كمال المزج والنضج بضم بعض الأجزاء بقوة حرارة الحركة المعينة للحرارة المستجنة في الأجزاء الهبائية ، ولما كانت هذه الحركة مخالفة لطبيعة البحر من حيث أنه ماء وإنما هو بزجر الملك يسمع منه تلك الضجة والصوت الهائل ، وهذا الصوت ضجيج البحر وأنينه من شدة زجر ذلك الملك وخوفه منه لله سبحانه ، أو قل أن الله سبحانه يأمر الملك أن يلقي في البحر شعلات نارية موقدة من نوائر الكواكب السيارة والثابتة لتمام الخلقة قال تعالى { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا }2 أو قل أن الأشياء كلها خاضعة لله وخاشعة له منكسرة ذليلة عنده فانية لعظمته سبحانه إلا أن الأشياء لما اختلفت مراتبها في الشدة والضعف واللطافة والغلظة والجمود والذوبان اختلفت مقامات تذللهم وانكسارهم لبارئهم وصانعهم ، فكلما إلى اللطافة أقرب خضوعه لله أكثر قال علي بن الحسين عليه السلام (( أعلمهم بك

___________________

1 المؤمنون 14

2 فاطر 12

 

 

 

 

 

وأفضل خلقك بك علما أخوفهم لك ))1في الصحيفة ، ولذا ترى الطائفة الشريفة الإنسانية أشد الأشياء خضوعا لله سبحانه في كل أحوالها وشرحها يؤدي إلى التطويل ، ثم الحيوانات على مراتبها ، ثم النباتات على مراتبها ، وذلك عند التفاتها إلى ربها والتفاتها إلى نفسها وذلك إذا يبست أغصانها واصفرت أوراقها وغار ماؤها وانقطعت أثمارها فهنالك استشعرت عظمة الله سبحانه المذلل لها كل شيء ، ثم الجماد وهو على اختلاف مراتبه في الذوبان والانجماد فالجدار إذا انشق قيل لأبي عبد الله كيف تسبيح الجدار قال عليه السلام (( أما تراه يتشقق )) والتجارات إذا كسدت ، والعيون إذا غارت ، والنيران إذا خمدت ، والأبدان إذا مرضت ، والبحار إذا تـلاطمت وتغطمطت ، ولا يكون ذلك الا إذا أتاها الملك وأخبرها بها فهنالك تتلاطم وتضطرب وتـرتعد فرائصه وتتغلغل أحشاؤه وجوارحه خوفا لله الواحد القهار ، فإخبار الملك هو فتق رتاجها فافهم .

 

       أو قل تلاطم البحار وتغطمطها عند ذكر مصائب سيد الشهداء سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن أمير المؤمنين عليه السلام وابن فاطمة الزهراء عليها السلام وأخ الحسن الزكي عليه السلام وأب الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين وذلك أن مصيبته عليه السلام كدرت صافي العيش لكل مخلوق من مخلوقات الله بقدر لطيفة وجوده ، فلم يذكره أحد إلا وقد انكسر قلبه وتغير حاله في كل مرتبة من مراتب التكوين والتكليف ، فالبحار إذا ذكرت تلك اضطربت وارتعدت من خشية الله فلولا أن الله سبحانه يمسكها بقدرته لأغرق العالم من شدة هيجان ذاتها لأنها أثرت في الذوات لا الصفات ، ومصيبته عليه السلام ذاتية للخلق ولذا لا تنقطع وينقطع كل شيء ، وكذلك الهوائية إذا ذكرها يتحرك ويكون ريحا عاصفا فلولا إمساك الله إياها لأهلك العالم رقّة على الحسين عليه السلام ، سبحانك يا حليم عمّا يعمل الظالمون ترى عظيم الجرم من عبادك فلا تعجل عليهم تعاليت عما يعمل الظالمون علوا كبيرا .

_____________________

1 دعاء الإمام عليه السلام في يوم الأربعاء

       ولا يقال أن البحار كانت متلاطمة قبل قتل الحسين عليه السلام ، لأنا نقول قد بكى عليه عليه السلام كلّ نبي وكل وصي وكل الخلق وكل الملائكة قبل أن يخلق الله الخلق ، وبكى عليه كل شيء مما هو في الوجود المقيد ويأتي شرح هذا وبيانه إنشاء الله .

 

       واعلم أني لم أرد من الصفة من قولي أن رقيقا ورتيقا صفة البحار والجبال الصفة المصطلحة عند النحويين بل ما هو يعمّها وخبر المبتدأ فإن الخبر صفة للمبتدأ ، وأما إذا كان مشتقا وجبت مطابقته مع المبتدأ فإذا قرأتها بالرفع يكون خبر مبتدأ وهو الضمير وهو يصلح لأن يرجع إلى البحار أو الجبال أو التيار والتلاطم ، وإذا قرأتهما بالجر تتعين الصفة .

 

       ثم إعلم أن قوله روحي فداه هذا بشارة لأهل الإشارة من المؤمن الممتحن لما تكدر صافي العيش بغامض العبارة في قوله عليه السلام المتقدم         (( وحبس في الجوسحائب مكفهرات )) فأشار عليه السلام بهذه الفقرات إلى قوله تعالى { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ }1‏ وأشار بقوله (( رقيق .. الخ )) ألا أن نصر الله قريب .

 

       وأشار بالأول إلى قوله عز وجل { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }2 وأشار بالثاني إلى قوله عز وجل { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَـرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا }3  وأشار

______________________

1 البقرة 214                  2 الإسراء 4 _ 7

3 الإسراء 7 _ 8

بالأول إلى قوله تعالى { قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }1وأشار بالثاني إلى قوله عز وجل { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ }2 وأشار بالأول إلى مقام الحجاب (( إن شيعتنا يؤذوننا يزعمون أنا نعلم الغيب فوالله لقد هممت بضرب جارية مني فانحادت ولم أدر في أي زاوية من البيت هي ))3 وأشار بالثاني إلى كشف النقاب وفتح الباب (( فالكليم البس حلة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة وشيعتنا الفئة الناجية والفرقة الزاكية وصاروا لنا رداء وصونا وعلى الظلمة البا وعونا، وسينفجر لهم ينابيع الحيوان بعد لظى النيران تمام الم وطه والطواسين ))4 .

 

       والإشارةإلى بيان ظاهر العبارة بلطيف الإشارة اعلم أن السحب لما اكفهرت وانعقدت وارتتقت وبلغت مبلغها ونالت من الكتاب نصيبها أذابتها حرارة شمس العناية وأشعة اسم الله النور القابض الباسط فأفتقت فانعقدت من افتتاقها وجريانها وخضوعها لله سبحانه بارئها ومنشئها البحار ولذا ورد أن مياه الأرض كلها من السماء ، ولما أن الله سبحانه فتق أبواب السماء بماء منهمر يوم الطوفان وأمطر من غير كيل ووزن مقدر وفجر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ، ولما حصل المقصود وبلغ الكتاب أجله أوحى

__________________

1 الأعراف 150                2 القصص 5 _ 6

3 لم نقف على هذه الرواية المذكورة في هذا الشرح الشريف , ولكن وقفنا على ما يقرب منها ففي الكافي 1/257 ح 3 قوله عليه السلام (( يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل , لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت في أي بيوت الدار هي )) والرواية طويلة أخذنا منها مقدار الحاجة .

4 البحار 26/264 ح 50

الله سبحانه { يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء }1فلما أن الأرض لم تؤمر ببلع المياه السماوية لأنها فوقها ضمتها ولا تقدر على بلعها وما أمرت السماء بتصعيد مياهها فبقيت على وجه الأرض فكانت مياه الأرض كلها من بحارها وأنهارها وعيونها وآبارها من انفتاق السحاب المكفهر المحتبس في جوالسماء قال سبحانه { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }2 وكذلك الجبال إنما انعقدت من افتتـاق السحاب لأنها موج البحار على ما فصلنا سابقا ، فالبحار والجبال وإن انعقدتا وتمتا لكن السحاب المانع من إيصال الحرارة الإلهية النورية ومن هيجان الرياح العاصفة المهيجة للماء للتلاطم والتيار والماهية للجبال للمعادن والأنوار ، ففتق الله رتاجها عند طلوع الصبح

____________________

1 هود 44

2 النحل 10 _ 11

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

{ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }1 { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }2 فتغطمطت أمواجها عند الظهر يوم الجمعة يوم عاشوراء يوم النوروز ، فأول موجة ظهرت انهدمت بها سفينة الظلم والجور الجاري على ماء زمزم ، وذلك البحر المواج هو بحر النار { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }3 وذلك هو الغاشية في قوله عز وجل { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ }4 وهو العذاب الواقع { لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ }‏5 وكلما ترتفع السحاب تشتد الأمواج وتغرق السفن العشقية المندرسة الضائعة وتقوى السفن الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها ، ثم ظهر بحر العزة بأمواجه المتلاطمة المتعاظمة المتغطمطة ثم بحر القدرة كذلك ، إلا أنه ما  تمايزت أمواجه واختلطت بأمواج بحر العزة ، ثم البحور الأخر ظهرت بأمواجها وحيواناتها كبحر العظمة وبحر الهيبة وبحر الجبروت وبحر الرحمة وبحر القدس وبحر الكرامة وبحر المنزلة وبحر الرفعة وبحر

_________________

1 هود 81                    2 الإسراء 78

3 المرسلات 32 _ 34

4 الغاشية 1

5 المعارج 2 _ 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السعادة وبحر الشفاعة ، ثم يظهر تأويل قوله تعالى { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا }1فاتصل الأول بالآخر والظاهر بالباطن قال تعالى { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ }2 وظهر قوله تعالى { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا }‏3 وظهر سر الباء في بسم الله الرحمن الرحيم وانجلت الهاء من الكاف فظهرت الباء وبالمجموع ظهرت النون وبالجميع ظهرت العين فأثرت في الصاد بظهور المداد وبلوغ المراد فأشار إلى الأمرين في كلامه المجيـد بقوله العزيـز { كهيعص }4 فأشار إلى الأول مولانا القائم عليه السلام بأن الكاف إشارة إلى كربلاء والهاء هلاك العترة الطاهرة والياء إلى يزيد والعين إلى عطش أهل بيت النبوة والرسالة والصاد صبرهم على ذلك ، وهذا  هو المراد من قوله عليه السلام (( وحبس في الجوسحائب مكفهرات )) .

 

       وأشار إلى الثاني بباطن هذه الكلمة الشريفة من أن الكاف هي الكاف المستديرة على نفسها ، والهاء هي حرف ليلة القدر والمقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان ، والياء لأول ظهور الرتبة الثانية ، والنون ارتباط الهاء مع الياء ، والعين تمام كلمة كن ، والصاد هو البحر الذي تحت العرش توضأ منه صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج لصلاة الظهر مع جميع الأنبياء والمرسلين أو وحده مع أخيه ووصيه أمير المؤمنين عليه السلام وهذا هو المراد من قوله عليه السلام (( فتق رتاجها فتغطمطت أمواجها )) وجددت الأرض ابتهاجها وزينت السماء أبراجها وهنا إشارات غريبة يطول الكلام بذكرها .

__________________

1 الفرقان 25

2 الأعراف 29 _ 30

3 الإسراء 7

4 مريم 1

 

 

 

 

قال عليه السلام وروحي فداه

أحمده وله الحمد وأشهد أن لا إلـه إلا هو

 

       ابتدأ عليه السلام بالحمد واختتم به لسر ما قدم في الخطبة الشريفة وافتتح الكلام بـه تبعا لكلام الله سبحانه وتـعالى حيث قـال عليه السلام (( الحمد لله )) فأتى بلام الاختصاص وهو يستلزم عدم ألان فكاك والانفصال وقد أوضح هذا السر وكشف في قوله الكريم { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }1 وقال تعالى { قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }2 فالذي له سبحانه عنده ، فإذا كان الله سبحانه أيضا عند الذي له هناك يتم { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }‏ 3  فالحمد لله وعنده والله عند الحمد لأنه ليس إلا صفته وظهوره والموصوف عند الصفة ظاهر بها وحاضر لديها بها ، ولما كان الله سبحانه أحاط بكل شيء وهو في مكانه سبق الأولية والآخرية والقبلية والبعدية فلا يوصف بالقبلية إلا بعين البعدية والعكس بالعكس كان صفته مثال تجلي فعله فلو سبقته الأولية ولحقته الآخر ية لم يكن صفة له سبحانه وإنما هو صفة الممكن الفقير المحتاج وهذا خلف فلم يكن الله عنده بل ولم يكن عند الله وهذا خلف ، فوجب أن يكون الحمد قد سبق النهاية والبداية والأولية والآخر ية والقبلية والبعدية والظاهرية والباطنية ، فإذا سبقها فهي تنتهي دونها فالأول عنده هو عين الآخر والقبل عين البعد كما هوحال كل عالي بالنسبة إلى السافل ، فالحمد إذن سبق النهايات والحدود فأحاط بالأشياء لم تجد شيئا إلا وتراه حاكيا لمثاله وظاهرا بنوره (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه )) سبحان الله ذي الملك         والملكوت ، فالحمد إما عين كينونة الشيء من حيث ربه أو سابق عليه وتلك

___________________

1 الأنبياء 19 _ 20                 2 الرعد 43

3 الأنبياء 20

الكينونة قبل الشيء ومع الشيء وبعد الشيء لأنه صفة كمال الله سبحانه وهي لا تظهر إلا في جهة الله ، ولا شك أن تلك الجهة متقدمة على كل الجهات كتقدم فعل الله على كل الأفعال والتأثيرات فتكون الجهات كلها منحطة عن مقام الحمد كما كانت منحطة عن فعل الله سبحانه وتعالى ، لكن أهل الكثرة المتنزلين عن مقام النقطة الواقفين مقام الشئون المتمايزة المتضادة لا يرون الاتحاد وسريان ذلك الواحد في الآحاد فيجعلون الحمد أولا ثم يبتدأون بالمراد ، وأما السالكون مسالك الوحدة والقاطعون مسافة الكثرة والواصلون مقام النقطة لا يرون شيئا إلا ويرونه شعبة من شعب الحمد ولمعة من أنواره فيبتدأون بالحمد ويختتمون به ويتوسطون به ، ولما كانت هذه الخطبة الشريفة شرح حال للخواص وبيان مقام للخصيص ولا حظ للعوام في ذلك وهؤلاء  هم أهل النقطة على مراتبهم المتفاوتة في معرفة تلك النقطة الإلهية فأجرى الكلام عليه السلام على مقتضى مقامهم لأنه يعطي كل ذي حق حقه ويسوق إلى كل مخلوق رزقه من الأرزاق الظاهرية والباطنية والغيبية والشهودية والحقية والحقيقية فابتدأ بالحمد لأنه المبدأ الأول السابق على كل لاحق ، لأنه ظهور الله المطلق ونور الله الحق وقوام الخلق وطور النور وعين السرور وينبوع المعرفة وطمطام المحبة ، ثم أبان عليه السلام عن مقامات الإطلاق وأشعة شموس الإشراق ، ومبادئ الظهورات الأولية وحقائق الماهيّات المجعولة الابتدائية ، والأكوان المطلقة المجملة الغير المفصلة إلا بالذكر         والصلوح ، وهي في الحقيقة أبواب يفتح منها ألف ألف باب من أحوال المبدأ والمآب .

 

       فلما فرغ عن بيان هذا الطور وأجرى كلامه عليه السلام كما أجرى الحق سبحانه قلمه المتخذ من قصبة الياقوت عليه وأراد التفصيل  وشرح حقيقة الحال وإظهار الوجوه المطوية في خلال المقال ابتدأ بالحمد لأنه مقام لواء الحمد الذي علي عليه السلام حامله بخلاف الأول فإن حامل اللواء الأول هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا أتى بالجملة الآسمية وأطلق الحمد معرفا بلام الحقيقة في المقام الأول وفي المقام الثاني نسبة إلى نفسه الشريفة فقال عليه السلام (( أحمده حمدا .. إلخ )) ، ثم وصف بما وصفه لكونه مقام التفصيل  وهو مقام قـوله تعالى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }1، وقد ظهرت في ولي الله سبحانـه { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ }2 وقال { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }3 وقال { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }4 فعلي عليه السلام هو ولي الله بذاته وهو لواء الحمد وهو مجمع الشئون المتمايزة والأسماء المتقابلة المظهرة لكمال من الكمالات وصفة من الصفات كما كان المقام الثاني  مقتضيا لذلك .

 

       فلما فرغ عليه السلام عن بيان هذا المقام على أكمل ما ينبغي على التفصيل التّام والبيان العام اختتم الجهة العليا والمرتبة القصوى بالحمد والتوحيد وقدم الحمد على التوحيد ، ملاحظا لمقام الصعود فإن الحمد مقام الكثرة الآسمائية والصفاتية والجلالية والجمالية والقدسية والإضافية ، والتوحيد هو نهاية المقصود والمأمور فرجع الأمر آخرا كما كان أولا ولهذا قال سيد الشهداء عليه السلام (( إلـهي أمرتني بالرجوع إلى الآثار فأرجعني إليك بكسوة إلانوار وهداية الآستبصار حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها ومرفوع الهمة عن إلاعتماد عليها إنك على

_________________

1 الكهف 44

2 البقرة 256

3 البقرة 257

4 الحج 62

 

 

 

 

 

 

 

 

كل شيء  قدير ))1وإنما  خصّ الحمد عليه السلام بنفسه وأتى بالجملة الفعلية لما تقدم ولبيان سر (( من عرف نفسه فقد عرف ربه ))2 فكشف عند ذلك بقوله عليه السلام (( وله الحمد )) فإن ذلك اللواء لله سبحانه أعطاه إيّاه وحمله له { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }3 إلى الأكوان الوجودية والشرعية في الدنيا والآخرة ، فالحمد هو لله سبحانه وهو أاكمال المطلق الظاهر في النقطة الواحدية الظاهرية الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم الظاهرة بالتفصيل الألفي في الرتبة العلوية عليها السلام ، فذواتهم حقائق القدس وحظائر الأنس وصفاتهم مظاهر التفصيل ومراتب التعليل فعندهم الكثير والقليل ولديهم الحقير والجليل ، فذواتهم ذوات فكانت حمدا لله رب العزة لا لسواه { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }4 وصارت فاعل فعل اللازم واتصلت وتخلّقت بالأخلاق السرمدية الأزلية الثانية ، فصارت ينبوع الكمالات ومعدن الحقائق والصفات ومخزن التجليّات والظاهر بالظهورات والشئونات لأنها له سبحانه فاتخذها أعضادا لخلقه وأشهادا عليهم وحفظة لهم وأبوابا لفيوضاتهم وإمداداتهم ، فأول ذلك ظهور الكينونات الأزلية الظاهرة في العوالم الإمكانية ، وثانيه ظهور الكمالات المنبئة عن الحمد بل هي نفس الحمد فكلما أظهر من أطوار الحمد وأحواله وجزئياته المتشعّبة في كل الخلق المنبثّة في كل الوجود فكلّها لتلك الحقائق الشريفة إذ عنها صدرت ومنها بدأت فإليها تعود إذا رجعت وتـلك الحقائق لله سبحانـه ، فالحمد كان له

_____________________

1 دعاء عرفة للحسين عليه السلام

2 شرح النهج 20/96

3 الأنعام 124

4 طه 41

 

 

 

بحقيقته وماهيّته وأفراده وأجزائه وجزيئاته وجميع إضافاته { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }1، وإنما قلنا الحقائق لبيان تشعّب الظهورات وإلا فما هي إلا الأمر الواحد كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (( نور أشرق من صبح إلازل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره )) وتلك الحقائق والهياكل أربعة عشر كما يشهد عليه لفظ الحمد ، وإثنا عشر كما تشهد عليه حروف لا إله إلا الله في الرقوم المسطرات وهذا معنى قوله تعالى { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } لأن هذا هو قول سبحان الله الذي هو أول دعواهم كما قال عز وجل { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }‏2 وأشار إلى مجموع التسبيح والتحميد قوله الحق سبحانه { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }3 .

 

       قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمعلى ما أخبرني به شيخي وثقتي أطال الله بقاءه (( لا ينبغي أن أصغر ما عظّمه الله من قدري أوحى الله

_______________

1 البقرة 156

2 يونس 10

3 الصافات 180 _ 182

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عز وجل إلي يا محمد فضلك على الأنبياء كفضلي وأنا رب العزة على كل الخلق ))1وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي عليه السلام حامله ))2اجمع بين هذه الكلمات ولاحظ هذه الإشارات لتفهم منها ما لا تسعه العبارات ولا تحد بالإشارات .

 

       واعلم بأن المراد من قوله عليه السلام (( أحمده وله الحمد )) إني أؤمن بالله سبحانه وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما لا نهاية له في الأكوار والأدوار قبل اختلاف الليل والنهار وبعده في الإعلان والإسرار والأطوار والأوطار ، والحمد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أول نقطة ظهور الكائنات ، والحمد ليس إلا ظهور الصفات بل نفس الكمالات لأنه الثناء البالغ وما تم ذلك الثناء إلا في تلك الحقيقة المقدّسة على ما قال سبحانه (( لم

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية بالنص فيما لدينا من المصادر ولكن وجدنا ما يقرب منها في البحار 9/308 ح 10 وهو قوله صلى الله عليه وآله (( ما كنت لأصغر ما قد عظمه الله تعالى من قدري , بل قال ربي يا محمد إن فضلك على جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين كفضلي وأنا رب العزة على سائر الخلق أجمعين )) .

2 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في الفضائل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أعطيت ثلاثا وعلي مشاركي فيها , وأعطي علي ثلاثة ولماشاركه فيها , فقيل : يا رسول الله وما الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام , فقال : لواء الحمد لي وعلي حامله , والكوثر لي وعلي ساقيه , والجنة لي وعلي قاسمها , وأما الثلاث التي أعطيت عليا ولماشاركه فيها فإنه أعطي رسول الله صهرا ولماعط مثله , وأعطي زوجته فاطمة الزهراء ولماعط مثلها , وأعطي ولديه الحسن والحسين ولم أعط مثلهما )) .

 

 

 

يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))1وهو الذي استخلصه الله في القدم على سائر الأمم أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء ، فهو نفس الثناء ومُظهر الثناء ومَظهر الثناء وعلّة الثناء وحقيقة الأسماء ، فالكمال البالغ والظهور المطلق والتجلي الحق إنما ظهر عنـه ومنه وفيه وله وبه ، فالحمد حقيقة حقيقته ولذا اشتق له اسم من مادّة الحمد محمد وأحمد على ما فصّلنا سابقا ، فلا يحمد الله سبحانه أحد إلا بالتمسك بطور من أطوار ظهوراته صلى الله عليه وآله وسلم في جميع المراتب والأكوان من التكوينية والتدوينية والتشريعية فمن ولّى الدبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم كان بقدر إدباره ذمّا (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه )) ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الاسم الأعظم الأعظم الأعظم الأجل الأكرم الذي يحبه الله ويهواه ويرضى به عمن دعاه ، فهو ثناء الله على نفسه لخلقه في خلقه ولا ثناء أعظم من ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ))2 لأن ثناء الله على نفسه هو حقيقته فهو صلى الله عليه وآله وسلم في مقام حقيقته ثناء الله بلسان الله وفي مقام تعيّنه وعبادتـه مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }‏3 مقر بالعجز عن ذلك المقام وهو كذلك ، وأما مقام الذات فانقطع الكلام ، وعلي عليه السلام أول من آمن به وأقر بنبوّته في عالم اللانهاية واستغرق في ذاته وصفاته حتى صار مثله وحامل لوائه عليه السلام ، ولما كانت هذه الأولية هي عين الآخرية ظهرت تلك الشجرة الكلية الإلهية التي ليست شرقية ولا غربية في كل ذرّة من الذرات ، وشاهدت كل الذوات والصفات وتعدت عنها وفنيت الأشياء عندها ، فكانت آخرا بعين كونها أولا وظاهرا بعين كونها باطنا فصارت تدلج بين يدي المدلج من خلق الله في جميع الأحوال ، وكانت أقرب إليها من أنفسها بلا نهاية بمقدار بعدها عنها بلا نهاية ، فأحاطت بالأشياء أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، ولا تستغرب هذا الذي سمعت في قدرة الله ولا تصغّر عظمة الله فإن الله سبحانه

___________________

1 البحار 58/39 ح 61           2 شرح النهج 1/95

3 الفاتحة 5

وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فوالله ظهور مشيئة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مشيئة الله بقدر البعوضة تطير في هذا العالم ومشيئة علي عليه السلام في مشيئة الله بقدر الذبابة تطير في هذا العالم وأقل من ذلك بل لا شيء ولا نسبة سبحان الله العظيم وبحمده .

 

       ولما كان ظهور ولاية محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان بعلي عليه السلام خاصة وبالطّيبين من أولاده سلام الله عليهم به عليه السلام أدى التحميد بالجملة الفعلية وصيغة المتكلّم الواحد على الفعل المضارع ، فدل بالواحد على أنه هو الواحد الذي يظهر الحمد ويعلنه في كل العوالم من الألف ألف ، وبالجملة الفعلية على التجدد ، وبالمضارع على الاستمرار بمعنى أن هذا الإظهار ليس له حد القرار بل لا يزال متجدّدا وثابتا كلما تطول المداء تظهر طراوته وتجدده وفي القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ويظهر من ولاية الله الظاهرة في القطب الأحمدي صلى الله عليه وآله وسلم بالإمدادات النعيمية الوجودية لأهل الجنة والتبعيدات الأليمية لأهل النار فوق الإحساس والإدراك ، وسيما في كل جمعة إذا أتوا أهل الجنة لزيارة الرب فيتجلى عليهم الرب ويفيض عليهم من تلك الولاية من التجليّات وأنواع التنعمات والتلذذات من جهة القرب والمشاهدة من العلوم والمعاينة أو من المأكل والملابس الطيبة العالية ما لا يدخل تحت النهاية من أول وقوف أهل الجنة على الباب وأكلهم من كبد الحوت ثم من كبد الثور ثم من عين الحيوان ثم من عين السلسبيل إلى أن يأتوا مقام الكثيب الأحمر ثم مقام الرفرف ثم مقام أرض الزعفران ثم مقام الأعراف ثم مقام الرضوان ثم إلى ما لا نهاية له من الأطوار ، وكل ذلك إنما هو من آثار الحمد الظاهر في هذا الحامد الذي خص نفسه الشريفة فقال عليه السلام (( أحمده وله الحمد )) ، وهذه الإمدادات دائمة التجدد أبدية الفوران { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }1، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ، فإني قد أسمعتك تغريد الورقاء على أغصان سدرة المنتهى والله الموفق والمؤيد والمسدد .

___________________

1 ق 15

 

قوله عليه السلام

                             وأشهد أن لا إلـه إلا هو

 

       هذه الشهادة شهادة عزم وثبات في الذات والصفات والاعتقاد والكينونات والقرانات والإضافات والأقوال والأعمال والعبارات والإشارات وأنحاء الظهورات والتجليات ، وهذه الشهادة هي الصراط المستقيم في كل العوالم ووجه الله في كل الأقاليم ، ففي عالم المحبة مقام أحببت أن أعرف بالفناء في البقاء ومحو السوى والقطع عن كل ما سوى الله شهود التوحيد بطرف الواحد الأحد وذلك الطرف لا يرى سواه قال الشاعر :

       أعارته طرفا رآهــا بـــه       فكان البصير بها طرفها

 

       وذلك مقام شهود الموحِّد بكسر الحاء ظهور الموحَّد بالفتح بظهوره وشهود الموحَّد بالفتح له بذلك الظهور ، فأحبه به وأحبه به فاجتمعت المحبتان والمشاهدتان في شيء واحد وليس هذا اجتماع اتحاد حاشاه عن ذلك بل اجتماع وحدة واتصال بل ولا اتصال بل ولا انفصال بل وصل بل ولا وصل بل فصل بل ولا فصل ولا وصل ، قال مولانا الصادق عليه السلام (( من عرف الفصل من الوصل والحركة من السكون فقد بلغ القرار في التوحيد )) قال الشاعر وأجاد :

         رأت قمر السماء فذكرتني          ليالي وصلنا بالرقمتين    

          كـلانا ناظر قـمرا ولكن         رأيت بعينها ورأت بعيني

 

       وهذه الرؤية هي شهادة الله سبحانه له بأن لا إلـه إلا الله وبها يناديه إني أنا الله لا إلـه إلا أنا وهو يحكي عن الله بلسانه ، فهذه الشهادة نفي الإضافات وسلب الصفات وقطع الإنيات وملاحظة الوحدة البحت البات ، فشهادة الله سبحانه له عليه الصلاة والسلام في هذا المقام في مقام السر المستسر بالسر كما كانت شهادته تعالى لأخيه الطيب الطاهر عليه السلام في مقام السر المقنع بالسر ، وهذه الشهادة في مقامات السر المقنع بالسر ، وهذه الشهادة في مقامات هومن حيث المدلول والدال لا من حيث المطلوب والمقصود فإن ذلك في العماء الذي فوقه هواء وتحته هواء وقد سئل مولانا الصادق عليه السلام أين كان الله قبل خلق السموات والأرض قال عليه السلام (( كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ))1 والعماء هو السحاب الرقيق وهوالسحاب المزجى قبل أن يتراكم ، ويأتي زيادة شرح لهذا الكلام في ما يأتي إنشاء الله .

 

       وفي عالم الجبروت محو الأغيار وصافي العيار والصافي عن الأكدار ومشاهدة نور الجمال والجلال وحذف القيل والقال والوقوف على ظهور الحي اللايزال في أول مقاماته ، مقام ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله معه وفي أعلى مقاماته مقام ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وإليه يشير كلام مولانا الحسين عليه السلام في الدعاء (( أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكوم الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك ولاتزال عليها رقيبا

_________________

1 عوالي اللآلي 1/54

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وخسرت صفقة عبد لم تجعل من حبك له نصيبا ))1وكلام مولانا علي بن الحسين عليه السلام (( أنت المعبود الذي ليس من لدن عرشك إلى قرار أرضك معبود يعبد سواك إلا باطل مضمحل غير وجهك الكريم ))2 وتوحيد أهل هذه المرتبة هو التوحيد الشهودي هذا في الاعتقاد العلمي ، أما التوحيد العملي فمشاهدة النقطة السارية في كل الأكوان والأعيان ومستجنات سرائر الإنسان من الأناسي الثلاثة أي الكبير والوسيط والصغير وملاحظة أن العلم نقطة كثرها الجاهلون ومعرفة ما خاطبهم الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله تعالى { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } أي الأجسام أو ألظواهر مطلقا في كل عالم بحسبه من العوالم الألف ألف { بُيُوتًا }‏ أي قواعد وكليات وهي مشاهدة الوحدة في الكثرة والمجمل في المفصل والواحد

________________

1 دعاء عرفة لمولانا الحسين عليه السلام

2 التهذيب 3/143 ح 1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في الأعداد والمادة في قوابل الاستعداد { وَمِنَ الشَّجَرِ } أي النفوس المتطورة بالأطوار المختلفة والمتشئنة بالشئونات المتباينة الراجعة إلى أصل واحد أو مطلق الغيب الذي هذا صفته وحاله { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }1 من أحوال الروابط الغيبية والشهودية والظاهرية والباطنية { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }2 وهو صرف تلك النقطة والوحدة في أطوار الكثرات من الصفات والذوات وسائر الشئون والإضافات بحيث لا يخفى عليه شيء من أحوالها وأوضاعها فيجعل كل شيء في محله، وعلامة هذا الموحِّد وهذا التوحيد أن لا يجد في كتاب الله ولا في أحاديث آل الله تناقض ولا تعارض ولا اختلاف ولا بينونة وإنما يجد كلام الله الحق المبين وكلام ساداته الميامين عليهم سلام الله أجمعين إلى يوم الدين كلاما واحدا ساريا في العبارات المختلفة والوجوه المخفية الغائبة سريان الماء في النباتات من الأشجار والبقولات وأمثال ذلك ، فلو قصر عن تحصيل هذه المرتبة فهو ليس بموحد في هذا المقام وغير واصل إلى المقام الأول وإن كان موحدا في المقامات الأخر والمراتب الأخر وإلا لجرى عليهم تأويل قوله تعالى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }3 وكذلك من توحيد هذه الطائفة أن لا يلتفتوا إلى الرأس المنكوس إلى أسفل السافلين علما وعملا قلبا ولسانا قولا وفعلا ، وجامع هذه العبارات أن لا يجد راجحا إلا أن يفعله وإلا

_______________

1 النحل 68

2 النحل 69

3 يوسف 106

 

 

 

 

 

 

 

لجرى عليه تأويل قوله تعالى { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }1 .

 

       وفي عالم الملكوت توحيد الله سبحانه في المراتب الأربع توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة ومعرفة الصفات الثبوتية والسلبية والقدسية والإضافية والخلقية والعدل والنبوة والإمامة والرجعة والمعاد والقيامة الصغرى والكبرى والميزان والصراط وغيرها مما جرت عليه الشريعة الحقّة على الصادع بها آلاف الثناء والتحية ، ومعرفة كل ذلك بالأدلة القاطعة والبراهين السادّة لجميع حجج الخصم وأقاويله وأباطيله على جهة المجادلة بالتي هي أحسن بأن لا يكون فيه إنكار حق واستدلال بباطل على الحق ولا بحق على باطل على جهة التمويـه وإلا فالحق لا يستدل به على الباطل ولا العكس ، وكذلك من التوحيد أعمال الصالحات وترك المحرمات والاجتناب عن المكروهات وعقد القلب وثبات العزم وحسن السريرة وصفاء القلب عن الأكدار الشيطانية والوساوس النفسانية ، وعدم التصورات الباطلة الفاسدة والخطورات الغير المرضية ، وعدم الجدل وتصور الشبهات وإيراد الشكوك والتمويهات وإن كان لا يعتقدها ، وعدم البلادة والجربزة وعدم الميولات الغير الشرعية وعدم الالتذاذ بالصور الحسنة ليؤول أمره إلى العشق الذي يلهيه عن الله سبحانه ، ومراقبة النظر في ملكوت السموات والأرض وتصور العظمة والقهارية لبارئ السموات والأرض ومالك الرقاب ومسبب الأسباب والخوف منه ، وعلامة الخوف الهرب وعلامة الهرب أن لا ينكر حقا ولا يقول بما لا يعلم ولا ينكر ما لم يحط به علما ولايتوقف إذا ظهر له الحق لقاعدة عنده أو لأنسه بطائفة تخالف الذي ظهر له أو للعناد والعياذ بالله ، ولا يتكلف ما ليس له إليه سبيل ولا يستحقر طاعة ولا معصية وأمثال هذه من أنواع الاستقامات كلها أجزاء وحدود لكلمة لا إلـه إلا الله في هذه المرتبة ،

________________

1 الصافات 35

 

 

 

فإن خالف شيئا مما ذكرنا دخل في قوله تعالى { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }1.

 

       وفي عالم الملك وعالم الشهادة عدم اتخاذه مع الله شريكا آخر قال تعالى { لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ }‏2 وعدم عبادة الأصنام وعدم إنكار ما علم من الدين ضرورة وترك المحرمات البدنية كالزنا واللواط والسرقة والغيبة وأمثالها ، وعدم التقوّل على الله ورسوله ، وفعل الواجبات كالصلاة والزكاة والحج والجهاد وأمثالها ، وكذلك  فعل المستحبات في كمال التوحيد وعدم المخاصمة والمجادلة والمنازعة والمراء ، وكونه على أكمل الاستقامة في الخلقة بأن لا يكون معوج الخلقة ولا قبيح الصورة ولا طويلا مفرطا ولا قصيرا كذلك ولا مختلف الأعضاء في الاستقامة ولا زائدا لعضو ولا ناقصا ولا صفراويا بالإفراط ولا سوداويا كذلك ولا دمويا ولا بلغميا بل يكون معتدل الطبائع ، أما الاعتدال التام كما كان فيهم عليهم السلام حتى

___________________

1 الصافات 35

2 النحل 51

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خوطبـوا بلسان الوحي { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }1‏ { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }2 أو الإضافي بأن يأخذ جزء من السوداء وجزء من الصفراء والدم وجزءان من البلغم فيطبخ تسع طبخات حتى يكمل توحيده ويستقيم تنزيهه ويتم إيمانه ، ولا يكون ولد الزنا ولا ولد الحيض ولا ولد الحرام ولا ولد الشبهة ولا ما جعل صداق أمه من الحرام ولا أسود ولا أحمر ولا أبيض شديد البياض وإن كان الأخيران ممدوحين في بعض الأحوال ، بل يكون معتدل الوجه معتدل القامة معتدل الطبيعة معتدل اليدين والرجلين على أكمل وجه يتصور هذا في شهادة الإنسان ، وأما الحيوان فبأن يكون طيب اللحم غير مؤذ ولا نجس ولا حرام ولا كدر ومستوي الخلقة والطبيعة وتكون إلى البرودة والرطوبة والرطوبة والحرارة أقرب منهما إلى البرودة واليبوسة واليبوسة والحرارة ، وأما النبات فبأن تكون أشجارا طيبة معتدلة مستقيمة مونعة أثمارها بينة أزهارها حلوة لطيفة طيبة لا حامضة ولا مرة ولا غليظة ولا كثيفة ولا كدرة ولا مدوّدة ولا يابسة ضائعة وأمثال ذلك ، وأما الجماد فبأن تكون كلها معادن والمعادن كلها ذهبا والذهب كله إكسيرا وهنا نهاية الرتبة لأنه هنا مثال الفاعل وبلاغ مقام ( أطعني أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون ) ، وما بلغ إلى ذلك إلا بكمال العبادة والعمل ، والعمل لا ينمو أو لا يطيب إلا بالإخلاص والإخلاص لا يتحقق إلا بكمال التوحيد والتوحيد لا يتيسر إلا بقطع الالتفات وإزالة الإنيات وقد جمع الكل في الإكسير ولذا سماه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (( أخت النبوة وعصمة

_______________

1 القلم 4

2 ص 86

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المروّة ))1والقوم سمّوه عبد الواسع عبد الكريم وإنما سميته تبعا لسيدي ومولاي أمير المؤمنين عليه السلام بعبد الله لكمال بلوغه في مقام التوحيد الجمادي ، لأن العبد هو العالم بالله البائن عمّا سوى الله الداني إلى الله بلا كيف ولا إشارة ، وهذا الذي ذكرنا مجمل مقامات توحيد عالم الملك وظهور شهادة أن لا إلـه إلا الله في هذا العالم ، فإن خالف أمرا من الذي ذكرت نوعه فيكون مصداق قـوله عز وجـل { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }2 .

 

       وأما ظهور شهادة لا إلـه إلا الله في مقام القرانات والإضافات فهوالصلاة عند قرانه الحلم وعدمها عند قرانه الجنون وفعلها قاعدا عند قرانه المرض وقائما عند برئه منه وعلى الهيئات المتشتتة عند قرانه الخوف ولقاء العدو وعلى الهيئة المستقيمة مع التوجه إلى جهة الكعبة عند عدمه وشبهه ، والزكاة عند قران ما له النصاب ، والحج عند وجود الاستطاعة ، والجهاد عند الإمام عليه السلام وتمرد أهل الطغيان وقس على ما ذكرنا سائر العقود والإيقاعات والإلزامات مما هي مشروحة في محالها وكلها حدود لا إلـه إلا الله في ذلك العالم وأجزاؤها ومنها وجوب الكذب إذا توقف عليه نجاة المؤمن وحدّ الشهداء على الزنا إذا نقصوا عن أربعة وتنزيه المقذوف به عن ذلك قال

____________________

1 المناقب 2/52

2 الصافات 35

 

 

 

 

 

 

 

 

تعالى { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ }1 وأمثال  ذلك ، ومنها التّقية لحفظ الدين والبدن والنفس من الظاهرية والباطنية إن توقفت عليها ، والعمل بالظّن والعمل بمختلف الآراء وإمساك العلم عن الجهلاء قال تعالى { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا }2 ، ومنها سكوت الرئيس المطلق عند منازعة المنافق وتحمله وصبره على الأذى ومتابعته ومشاهدته لخلاف الحق ومزاوجة الكافرة ومباعدة المؤمنة وذكر الكلمات المتشابهة مع الاقتدار على إزالة الكل وتعسكر العساكر للجهاد مع الملحد الكافر وتحمل الأذى من عساكره مع اقتداره بانفراده على دفع ما أراد دفعه بالعساكر والسكوت إذا لم يجد وليّا ناصرا مع أنه بنفسه يغني عن الكل والرضا بالقتل وسبي العيال ونهب الأثقال مع عدم الناصر وإن كان استخلاصه بقوة شوكته من غير تقية أو معها بالتسليم والمداراة كما فعل الأوائل وسكوت بعض الرؤساء حتى عن الكلام ونطق البعض الآخر بالكلام والبيان الواضح الصريح أو المخفي أوالمرموز الملوح بالإشارة أو بالمنطوق أو المفهوم أو لحن الخطاب أو دليل الخطاب أو بالتقرير أو بالفعل أو بالترك أو بالسكوت أو بالإعراض أو بالإجمال أو بالكتمان أو بالإعلان أو بقول إياك أعني واسمعي يا جارة ولم يأت بصريح العبارة مع اقتداره عليها من غير وصول سوء إليه وكذلك حكم الغائب الخائف المترقب عجل الله فرجه وسهل مخرجه ، وإمساك الكون وأهله في ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم ونومهم ويقظتهم وعلومهم ومعارفهم وكلّها لهم وبهم ومنهم وإليهم وعنهم ولديهم وعليهم وعندهم بنوره وفاضل ظهوره

________________

1 النور 13

2 النساء 5

 

 

 

على مقتضى قوله الحق { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }1 وجعل بعضهم في مقام الظّن والآخرون في مقام الشك وطائفة في مقام الوهم وطائفة في مقام الترديد وطائفة في مقام الإنكار وطائفة في مقام الجهل البسيط وطائفة في مقام الجهل المركب وطائفة متردد بين الصافي والكدر وطائفة مضطرب الأمر مشوّش الحال إما بلسانه وقلبه أو قلبه دون لسانه أو بأعماله أو بشئون تطورات أحواله وطائفة في مقام صافي العلم وطائفة في مورد اليقين وطائفة في شريع المصافاة والمحبة والمعرفة ، أما صافي هذه الثلاثة في الأحوال كلها أوفي بعضها دون بعض في بعض الأحوال فيوصل أهل الوصول إما بالقرائن والأحوال أوبالكشوف والإقبال بدواعي مقتضيات الأعمال فيرى معاينة أنها منقوشة في ألواح المحو والإثبات أي في اللوح المحفوظ الثابت الدائم الباقي  فيما لا يزال أو بالمكاشفات النومية والمشاهدات الطيفية والمعاينات الحقيقية في عالم الرؤيا أو بتصفية القلب وتزكية اللب وتطهير السر فيقذف النور في قلبه قذفا من دون المراجعة إلى حال من الأحوال أو غير ذلك من الأحوال كلها من حدود لا إلـه إلا الله وأركانها وأجزائها ، فلوحاد منها أي مما أشرنا إلى نوعه لجرى قوله عز وجل 

________________

1 الكهف 18

 

 

 

 

 

 

 

 

{ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }1ولو أردنا بيان هذه الأحوال ووجه كونها حدود لا إلـه إلا الله يطول علينا الكلام والإشارة كافية لأهلها والعبارة قاصرة عنها إنا لله وإنا إليه راجعون .

 

       وأما ظهور لا إلـه إلا الله في الأكوان الوجودية في الذّوات فاقتضاء الأكوار الأربعة كل كور وكل دور أشرف ما يقتضي ذلك الكور في تلك المرتبة فإذا نقصت عن ذلك كان استكبارا في قوله لا إلـه إلا الله على مراتبه من القولي والعملي والاعتقادي وأمثالها ولما كان علي أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الأحد عشر الطيبون الطاهرون قد ظهروا بالمراتب كلّها مما ذكرنا وما لم نذكر سواء كان ذلك الظهور لذواتهم أولغيرهم فكملت شهادتهم في كل تلك المقامات سيّما علي عليه السلام فإنه أمير المؤمنين عليه السلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه (( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت ))2 فكانت شهادته هي الشهادة الصادقة التي لا اعوجاج فيها أبدا بوجه من الوجوه لأن الاستقامة التي أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بها هي ولايته والصراط المستقيم هي ولايته والصراط الممدود بين الجنة والنار هي ولايته عليه السلام فأفرد صيغة الشهادة إما لكون الأربعة عشر قصبة واحدة شهادة أحدهم عين شهادة الآخر كما قال عليه السلام (( كلنا محمد أولنا محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد وكلنا محمد )) صلوات الله عليهم أجمعين ، وأما لأن ظهور الشهادة التفصيلية ما تحقق بكمالها وحقيقتها إلا فيه عليه السلام وشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت أبلغ إلا أنها ما ظهرت في مقام الظهور مثل ما ظهر عنه عليه السلام حتى قالوا بألوهيته وربوبيته وتفضيله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكونه عليه السلام طائفا حول جلال القدرة وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائفا حول جلال العظمة ولبيان أن شهادته عليه السلام هي الشهادة الكاملة البالغة وهي التي أرادها الله سبحانه وتعالى

______________________

1 الصافات 35

2 تأويل الآيات

من خلقه حين خلقه كما قال عز وجل (( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف )) وتلك المعرفة المستلزمة للشهادة ما كملت وما تمت وما اعتدلت إلا في حقيقته عليه السلام وكل المعارف بعده والشهادات دون شهادته عليه السلام ما تبلغ تلك المعرفة وتلك الشهادة لأن كلمة التوحيد حقائقهم وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله الحق { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }1وهي كلمات التوحيد إن شئت عبّرت عنها بكلمة واحدة لها اثنا عشر حرفا وإن شئت عبرت عنها باثني عشر كلمة وكل الخلق في كل أحوالهم وأطوارهم ومقاماتهم ومشاعرهم وفيما يعرفون به معبودهم يقصرون عن معرفة تلك الكلم الطيب فلا تزيد معرفة الخلق على تلك المعرفة بل تبلغ جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير من تلك المعرفة ، فليست الشهادة إلا من شهادتـه قـال تعالى { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ }2 فشاهدته عليه السلام هي عين شهادة الله لخلقه قال مولانا الصادق عليه السلام (( إن كنت تريد الله الذي ليس كمثله شيء فذلك لا يعلمه إلا نحن كما قال تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }3 )) ، لأن شهادة الله لخلقه ما تظهر إلا بولاية الله وولاية الله لم تظهر ولن تظهر إلا فيهم صلوات الله عليهم فحقيقتهم شهادة الله بالوحدانية لنفسه لخلقه لأنهم نفس الله وعين الله قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام‏ { تَـعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }4 ، وقال تعالى { وَاصْبِرْ

___________________

1 لقمان 27

2 آل عمران 18

3 الجن 26 _ 27

4 المائدة 116

 

 

 

لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }‏ وهم علم الله قال عز وجل { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ }1 { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }2 { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }3 { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ }‏4 وهم ذات الله الظاهرة للخلق بالإحداث والإيجاد قال عليه السلام في النفس الملكوتية الإلهية أنها (( هي ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى من عرفها لم يشق أبدا ومن جهلها ظل وغوى ))

 

       وبالجملة هم ظاهر الله في خلقه وخليفة الله وبقية الله في بريته قال مولانا الباقر عليه السلام (( فنحن معانيه ومظاهره فيكم اخترعنا من نور ذاته وفـوّض إلينا أمور عباده ))5 (( إن إلينا إيـاب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم ))6 فإذا كان كذلك فتكون شهادة الله لخلقه هي شهادة أمير المؤمنين عليه السلام لأنه عليه السلامصاحب التفصيل  ومحل التأويل .

 

       أو نقول أنه عليه السلام لما أفرد الشهادة لبيان أن كل الشهادة التي صدرت عن كل الخلق من مبدأ الوجود المقيد إلى نهاياته ونهايات نهاياته إلى ما لا نهاية له كلّها شهادته عليه السلام لربه بالوحدانية فإن الخلق كلهم من عكوسات أنواره وأشعة آثاره ومظاهر أسراره وكلها تسبيحه وتقديسه وتنـزيهه عليه السلام لله كما أن الضوء المنتشر في البيت هوبعينه نور السراج وإنارة السراج الظاهرة ليست إلا نفس الأشعة ، فهو عليه السلام يسبح الله بأطواره كما أنك تسبحه بلسانك أوبجنانك أوبأركانك وأفعالك وأعمالك وحركاتك وسكناتك وآثارك وسائر أطوارك وكلها خارجة عن ذاتك وإنما  هي شئونات لها وتسبيحك في عالم الظهور ليس إلا بها وتسبيحها ليس إلا تسبيحك لله بها ، وكذلك الحكم في الشهادة فإن شهادة كل أحد لله سبحانه هي شهادة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بلسانه أو بجنانه أو بأركانه فافهم فإني كشفت سرّا معمّى ورمزا منمنما فاشرب عذبا صافيا والله خليفتي

_______________

1 طه 52         2 يس 12          3 الأنعام 59         4 الحج 70           5 البحار 26/14 ح 2       6 تفسير فرات 551 , البحار 7/202 ح 88

عليك ، ولذا قال روحي فداه (( أشهد أن لا إلـه إلا هو )) وهذه الشهادة قد ثبتت وكملت ورسخت وأزالت الأغيار وصفّت الأكدار إلى أن ظهرت في هذه الدار فصار شهيدا عليه السلام فهو شاهد ومشهود ، وتلك الشهادة العليا والدرجة القصوى والرتبة الأسنى وإن ظهرت فيه عليه السلام إلا أنها قد ظهرت كمال الظهور بعظم النور مشروحة العلل ومبينة الأسباب في قرّة عينه وفلذة كبده وبهجته ومهجته سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأرواحنا له الفداء فإن شهادته عليه السلام من تلك الشهادة أي شهادة أن لا إلـه إلا الله وقد أقرّ الله سبحانه له بذلك حيث قال في كتابه الكريم { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }1 { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا }‏2 ونشير إنشاء الله تعالى في ما بعد إلى تفصيل هذه الأحوال ونكشف بعون الله تعالى حجاب الإشكال .

 

       ولاإلـه إلا الله هي الكلمة الطيبة التي كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وتلك الكلمة قد التأمت من اثني عشر حرفا وهي إشارة إلى ظهور عين التوحيد بتوسط النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اثني عشر مقاما وهومجمع الكون ومعدن العين وقد أشار سبحانه إليه في الباطن في  قوله عز وجل { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }‏3 وتلك العيون منبعها من عين واحدة قال أيضا سبحانه وتعالى { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا }4 { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ }5 ،

_________________

1 الإسراء 78           2 الإسراء 33              3 الأعراف 160

4 الأعراف 159 _ 160        5 الأنبياء 73

 

 

 

وقال أيضا سبحانه وتعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ }1وهذه الاثنا هي مثنى الستة العدد التام الذي تم خلق السموات والأرض وخلق كل شيء فيها ومثنّاها تكرارها في عالم الغيب والشهادة وكل هذه المراتب عن منبع التوحيد لقد ظهر فيها على حسب ذلك المقام وتلك المرتبة ، وأشار إلى سر ما ذكرنا مولانا الجواد التقي عليه السلام في زيارة أبيه علي عليه السلام على إقبال الدنيا وسعودها ومن سئل عن كلمة التوحيد فقال أنا والله من شروطها (( السلام على شهور الحول وعدد السّاعات وحروف لا إلـه إلا الله في الرقوم المسطرات ))2 وقد قال مولانا الحجة المنتظر عجل الله فرجه (( فبهم ملأت سمائك وأرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا الله ))3 فهم اثنا عشر هيكل التوحيد قد حصلت وصدرت عن منبع واحد، فهم واحد في عين التكثر ووحدتهم حقيقة منبئة عن كمال التوحيد المستدعي لسلب الجهات ومحو الكثرات وإزالة الإنيات وقطع عالم الصفات وذل جبل الإنيات ، وذلك التوحيد ما يمكن بروزه وظهوره وانتشاره إلا في هذه الهياكل المقدسة المطهرة المنورة لما ذكرنا من سر المراتب ، وإنما  خصّ الاثنا عشر من الحروف النورانية دون الأربعة عشر لأن ذلك مقام التمام والأربعة عشر مقام الكمال ، ومقام التوحيد الظاهر مقام الولاية الظاهرة على جهة التكليف ومظهر هذه الولاية ما يمكن إلا باثني عشر دون الأربعة عشر لأن ذلك على نظم اقتضاء الكون الوجودي والتشريعي  والحقيقي والصفتي والذاتي والإضافي ، لكن هنا شيء وهوأنه عليه السلامما أتى بلا إلـه إلا الله ليكون ذلك تمام اثني عشر وإنما أتى بلا إلـه إلا هو وهو تمام العشرة الكاملة

__________________

1 التوبة 36

2 البحار 102/54 ح 11

3 دعاء مولانا الحجة عجل الله فرجه في رجب

 

 

ويريد بذلك بيان سر تمام ميقات موسى في قوله عز وجل {* وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }‏1 وقوله عز وجل { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ }‏2 ويريد بهذه العشر مجموع مراتب الأكوان التي ظهرت فيها تلك الهياكل الاثنا عشر التي تم بها التوحيد وكملت أركان العرش المجيد ، ووجه الإشارة أن هو يشمل على اسم الله وزيادة هذه الدقة لأنّ هو روح الله وقـوام ذلك الاسم ولذا قـال سبحانـه { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }3 فقدم الهويّة على الألوهية فقوام الألوهية بالهوية فشمل على ما شمل به الله حين قولك لا إلـه إلاالله وزاد على ذلك بعشر لأن هو عدده أحد عشر وواحد يزاد على عدد الله في الحروف المقطعة ليتم إلى الاثني عشر وتبقى العشرة بعد ذلك إشارة إلى ظهور الاثني عشر في العشر ليكون تفصيلا لقول مولانا الحجة عجل الله فرجه (( فبهم ملأت سمائك وأرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا أنت )) ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( الذي ملأ الدهر

__________________

1 الأعراف 143

2 الفجر 1 _ 2

3 الإخلاص 1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قدسه ))1وهذا  الذي ذكر عليه السلام بيان لكيفية الامتلاء وسريان نور التوحيد السّاطع عنهم عليهم السلام في كل ذرّات السماء والأرض إلى ما لا نهاية له لأنها لا تخلوعن هذه العشرة وهي القبضات العشر من الأفلاك التسعة والأرض وما يتعلق بهما من القرانات والمزاجات وكل شيء يتصوره المتصور أو يدركه المدرك لا يتقوم إلا بهذه العشرة ، فتمّ الوجود بسريان نور التوحيد من هياكل التوحيد الاثني عشر وهو المستفاد من كلامه عليه السلام وروحي له الفداء .

 

       ثم أنه عليه السلام أراد بذكر هو الإشارة إلى سر آخر وهو بيان أصناف الموحدين وكل من ينطق في التوحيد من المحقّين والمبطلين ويجمع الكل بمراتبهم المتباينة المختلفة أحد عشر صنفا خمسة منهم من الضالين المضلين وهم الذين نظروا إلى أنفسهم فعرفوا ربهم بما وجدوا في أنفسهم من حيث هي .

 

       فمنهم من قال أنه جسم من الشعب المختلفة .

       ومنهم من قال أنه سبحانه صورة ومثال .

       ومنهم من قال أنه  مادة وهيولى لكل الوجود أي الموجودات من العوالم .

       ومنهم من قال أنه طبيعة العالم .

       ومنهم من قال أنه نفس العالم وروحه .

       ومنهم من قال أنه معنى، فهذا إن أشار إلى جهة المعنوية فهوكغيرهم من الهالكين الضالين المضليّن، وإلا فهي أدنى مقام التوحيد .

       والخمسة الأخر درجات الفائزين ومقامات المقربين .

       فالأول مقام الواقف في مقام الظـاهر والحق والسر وهذا أدنى المقامات .

       والثاني  مقام الواقف في مقام سرّ السر وباطن الظاهر وحق الحق مقام الكلمة التّامة .

_________________

1 اليقين 347

       والثالث مقام الواقف في مقام السر المستسر بالسر وباطن الباطن وحق الحق مقام الحروف العاليات .

       والرابع مقام الواقف مقام السر المقنع بالسر وباطن باطن الباطن وحق الحق مقام الألف والنفس الرحماني الأولي .

       والخامس مقام الواقف مقام السر المجلل بالسر وباطن باطن باطن الباطن وحق الحق وحق الحق وهو مقام النقطة ، وهي النقطة الإلهية وقطب الدوائر الكونية والإمكانية ومقام الوحدة المطلقة التي تنتهي إليها النهايات والبدايات وتدور عليها اللاّنهايات واللابدايات وهو السر المكنون المخزون .

 

       فالألف يدور على النقطة دوران تعلّم وإرشاد وعطية واستمداد ، والنقطة تدور عليه دوران إفاضة وإمداد وتفصيل وانبساط وظهور وانجماد ، وكذلك الألف بالنسبة إلى الحروف وهي بالنسبة إلى الكلمة التامة وهي بالنسبة إلى الدّلالة التي هي آخر المراتب والمقامات وعليها تدور رحى الكائنات وهذه الخمسة هي الهاء المتولدة من الكاف المستديرة على نفسها المتولدة من البسملة المتولدة من الباء المتولدة من النقطة فافهم وسأشرح لك إنشاء الله تعالى .

 

       فقوله عليه السلام (( لا إلـه إلا هو )) إثبات وقوفه في مقامات الهاء التي هي إشارة إلى تثبيت الثابت وتنـزيه الحق سبحانه عن دركات الواو فيكون الأصل في مقامه عليه السلام هو الهاء ، والواو في هذا المقام إنما حصلت بإشباع ضمة الهاء لكونها في محل الرفع ومقام الضم ، فالواو ظهور الهاء وإن شئت قلت أنها ابنته المتولدة منها فلا تلاحظ معها ولا ترتبط بها ، فالهاء هو روح هاء الله وهذه  الهاء مثال لها وتلك الهاء سار في كل أطوار اسم الله ولذا تراها تحفظ نفسها في جميع مراتب التكعيب والتربيع والتجذير وصورة ظاهرها عين صورة باطنها وهي من حروف ليلة القدر وهي الليلة المباركة التي أخبر الله سبحانه بها في كتابه الكريم وقال { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

 

حَكِيمٍ }1 قال عليه السلام (( حـم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب المبين هو علي عليه السلام والليلة المباركة هي فاطمة عليها السلام وفيها يفـرق كل أمر حكيم أي كل إمام حكيم بعـد إمـام حكيـم ))2وإنما  أشير بها إلى فاطمة عليها السلام لأنها خمسة وهي عليها السلام خامسة أهل الكساء وخامسة النقباء النجباء بحسب الفضل والرتبة والمقام والشرف وإن كان بحسب القوس النزولي الحسين عليه السلام هو الخامس إلا أن المعتبر هو ترتيب الإيجاد على نظم الانوجاد بقابلية الآستعداد ، فالهاء هو السر القيّومي في الخلق الكوني والعيني  .

 

       ثمّ أنه عليه السلام بذكر هو أشار إلى سر آخر وهو أن هوهوأعظم الأسماء ومتمم لها فإذا أضفته إلى التسعة والتسعين الاسم فإن لاحظته واحدا يظهر القاف الجبل المحيط بالدنيا على ما سبق وهو حـم عسق قال عليه السلام (( حـم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلم علي عليه السلامكله في عسق )) فإن لاحظته بعدد بسائط حروفه مع الأسماء الحسنى يظهر عدد الاسم الأعظم الأعظم الأعظم الذي يحبه الله ويهواه ، فإضافة سائر الأسماء إليه إضافة المتقوّم بالمقوم ، وتلك الأسماء ليست إلا ظهورات هو

__________________

1 الدخان 1 _ 4

2 لم نقف على هذه الرواية بالنص ولكن وقفنا على ما يقرب منها ففي الكافي 1/479 ح 4 , وفي تفسير الصافي 4/404 أن رجلا نصرانيا سأل الإمام الكاظم عليه السلام عن تـأويل هذه الآيات فقال عليه السلام (( أما ( حم ) فهو محمد صلى الله عليه وآله وهو في كتاب هو الذي أنزل عليه وهو منقوص الحروف , واما الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علي عليه السلام , وأما الليلة ففاطمة عليها السلام , وأما قوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) يقول يخرج منها خير كثير , فرجل حكيم ورجل حكيم ورجل حكيم , فقال الرجل : صف الأول والاخر من هؤلاء الرجال , فقال : إن الصفات تشتبه , ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله وإنه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم إن لم تغيروا وتحرفوا وتكفروا وقديما ما فعلتم )) 

والدليل عليه أنه بنفسه من غير ملاحظة الأسماء مستقل في هذه الإفادة لأنك إذا نزلته في المرتبة الثانية يكون الاسم العلي العظيم قال الله عز وجل { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }1‏ فإن الهاء إذا أشبعتها يتولد منها الواو فيكون المجموع حرفان إشارة إلى جلال القدرة وجلال العظمة وإلى الطائف حول جلال القدرة والطائف حول جلال العظمة ومرتبة الولاية الكليّة ومرتبة النبوة الكليّة ومرتبة القدس والتنـزيه ومرتبة الإضافة ومرتبة الأحدية الظاهرة ومرتبة الواحدية ومرتبة الألوهية ومرتبة الرحمانية قال الله تعالى { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى }‏2 ثم العدد أحد عشر ، فإذا لاحظته في المرتبة الثانية تكون العشرة تظهر في مائة لأنها النسبة الثانية للعشرة التي هي النسبة الثانية للثلاثة التي هي النسبة الثانية للواحد الذي هو النسبة الثانية للأحد فرجعت الإضافات إلى نفسها وفنيت وبقي الدوام والبقاء الأبد للأحد وهوالوجه الباقي بعد فناء كل شيء فإذا لاحظت نسبة العددين في المقام الثاني تكون مائة وعشرة وهو عدد علي عليه السلام

___________________

1 الزخرف 4

2 الإسراء 110

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولذا قال تعالى { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }1 { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }2 { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }3 فرجعت تلك الإثنينية التي كانت في هو إلى الواحد فغاب المجمل في المفصّل والباطن في الظاهر والعرش في الكرسي وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( فلما وصلت إلى جلال العظمة خلق الله نور علي عليه السلام فكان نوري يطوف حول جلال العظمة ونور علي يطوف حول جلال القدرة )) وقال الله تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }‏4 فافهم الإشارة في التنـزيه ، واليمين هو علي عليه السلام لأنه مائة وعشرة فالاسم العلي هو الاسم الأعظم لأنه هو في مقام المسمى وعلي عليه السلام في مقام الأسماء فجمعت الأسماء الحسنى كلها مع المسمى فما شذّ عنه ظهور من الظهورات في أقاليم الأسماء والمسميات ومقامات الأسماء والصفات فذكر هو أعظم من ذكر الاسم الله فإن الاسم الله وإن كان يؤدي هذا المؤدى لكنه في مقام الظاهر على ما يعرفه العوام لدلالة ذلك الاسم المكرم ببيّناته على محمد وعلي عليها السلام لبيان أنهما عليهما السلام اسمان لله سبحانه فإنّ البينات اسم للزبر ، وأما هو فقد أشار به إلى ما هو الأعظم ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام (( فأول ما اختاره لنفسه العلي

_________________

1 البقرة 257

2 الزخرف 4

3 الحج 62

4 الزمر 67

 

 

 

 

 

العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها فمعناه الله ))1فافهم راشدا موفقا واعرف حدود لا إلـه إلا الله واعلم أن الأمر كمـا قـال أمير المؤمنين عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))2 على المعاني الثلاثة كلّها أي بدلالتنا أو بترجمتنا ووساطتنا أو بمعرفتنا وهو قول مولانا الجواد عليـه السلام المـتقدم (( وحروف لا إلـه إلا الله في الرقوم المسطرات ))3 .

 

       ثم اعلم أن حروف لا إلـه إلا الله كلها بين ثلاثة أحرف والاثنان في أغلب المقامات واحد لأنهما معا حرف تعريف وهما الألف واللام وحرف التعريف هو الألف وحده إلا أن اللام إنما أتي بها إتماما لقابلية ظهور الألف وإنما خصّوا اللام لأنها جامعة لمراتب القابليات فأشار بحرف التعريف إلى قول علي عليه السلام المتقدم آنفا (( نحن الأعراف الذي .. إلخ )) ، وقوله عليه السلام في الزيارة (( من أراد الله بدأ بكم ))4 وذلك لأن الله سبحانه هوالمعروف الذي لا جهالة فيه والظاهر الذي لا خفاء فيه، والوحدة جهة المعرفة والكثرة علّة النكرة ولما كانوا عليهم السلاممحال معرفة الله فظهرت المعرفة والمعروفية والظهور المطلق فيهم عليهم السلام فهم عليهم السلام حقيقة الأعراف ومعروفية كل المعارف بفاضل معروفيتهم عليهم السلام ولذا أحاطوا علما بكل الوجود علم إحاطة لا علم إخبار وعيان وقد أشار الله سبحانه إلى هذه الدقيقة اللطيفة والقيومية المطلقة والمعروفية الإلهية بقوله الحق

_________________

1 معاني الأخبار 2

2 الكافي 1/184 ح 9

3 البحار 102/54 ح 11

4 الزيارة الجامعة الكبيرة

 

 

 

 

في سورة الأعراف { وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ }1 وهؤلاء الرجال هم البيوت التي { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }‏2 وأول البيوت { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }3 ولما كان مقام التوحيد مقام المعرفة لا مقام النكرة أتى بحروف المعرفة في اللفظ الدال عليه فجرى الظاهر اللفظي على طبق الباطن المعنوي ، لكنه ما أتى تلك الحروف على هيئة التعريف وجعلوا أولها مقام النفي لبيان أن هذه المعلومية عين المجهولية وهذا الظهور الذي بفاضل ظهوره ظهرت الأكوان والأعيان ومستجنّات غيوب الإمكان هوعين الخفاء لشدة الظهور لأنه تجاوز عن مقام مدارك الخلق ومشاعرهم بما لا نهاية له فلذا وضع لفظ النفي من مادة حرف التعريف إلا أنهم قدموا اللام على الألف في النفي لبيان ما قال علي بن الحسين عليه السلام (( وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم

________________

1 الأعراف 48

2 النور 36

3 الأعراف 96 _ 97

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إلامال دونك ))1واللام هي مقام الكثرة اللازمة للماهية التي ما شمّت رائحة الوجود فهي نفي وعدم ، ولما أن الكثرة ليست بشيء ولومجتثا وعدما إلا بالوحدة فأتوا بالألف بعد اللام لبيان أن النفي شيء لأن فيه من آثار الوجود وهو قول مولانا الصادق عليه السلام (( إن النفي شيء مخلوق ))2 ولما كانت جهة الوجود فيه ضعيفة تأخرت الألف ، وإنما أتى بالحرفين لبيان أن كل ممكن زوج تركيبي وإن العدم ماهية الوجود كما فصلنا في كتابنا اللوامع الحسينية عليه السلامفطابق اللفظ المعنى والاسم المسمى .

 

       وأما إلالـه فلما كان وضع الألفاظ على الحقائق الحقة الإلهية الأولية وجرت في الدعاوى المجتثة الباطلة الإفكية روعيت فيه جهة المناسبة الحقة فقدم الألف على اللام ، وأما الألف فلبيان الإثبات والتعيين والتعريف ، وأما اللام فلبيان ظهور ذلك التعريف في عالم الخلق من أحوال الكثرات وجهات الإنيات وبيان اكتسابها التعريف إذا جعلوا الألف الذي هو مثال الوحدة تاجا لهم ومشوا على طريقة رشده وهدايته ظاهرا وباطنا وبينات الألف هو ظاهر علي عليه السلام لأنها مائة وعشرة وزبره هو باطنه الذي سره عين علانيته كما يأتي ، واللام أيضا ظهوره عليه السلام محلا لاستواء الرحمن ومؤديا إلى كل ذي حق حقه من بحر الجود والامتنان ، ومثال ذلك القمر الظاهر في فلكه الجوزهر المسبح لله باسمه المبين وهو صاحب التفصيل والعدد والحساب ومميز الصور ومستنطق الطبائع ومستظهر مستجنّات السرائر ومنشأ الاختلاف وداعي رسم الإيمان والكفر والطيب والخبيث والمستقيم والمعتدل والحلو والحامض والمرّ والتفة وأمثالها ، ولا يحصل الكل إلا في القمر والقمر يقطع الدورة ثلاثين يوما لحكم مستقر وأمر مقدر يطول بذكره الكلام ، والقمر هو مثال علي عليه السلام في الظاهر لأنه صاحب التفصيل وعلة الاختلاف قال

_________________

1 دعاء أبي حمزة الثمالي

2 البحار 4/322 ح 1

 

 

سبحانـه { عَمَّ يَتَـسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَـإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيـهِ مُخْتَلِفُونَ }1وقال { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }2 وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( ما اختلف في الله ولافيّ وإنما  الاختلاف فيك يا علي )) وقال عليه السلام (( ما لله آية هي أكبر مني وما لله نبأ هو أعظم مني ))3 فكانت اللام اسما له عليه السلام ولذا جعلت في اسمه الشريف إشارة إلى أنه الثلاثون ليلة لميقات موسى والياء بعد اللام إشارة إلى إتمام العشرة وهو أولاده الطيبون سوى الحسين عليه السلام وروحي له الفداء لكونه الفجر لا الليل قال تعالى { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ }‏4 ومجموع اللام والياء هو الميم فصار في أول اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم زادوا الهاء في الإلـه بعد الألف واللام للإشارة إلى التوحيد كما كانت الألف واللام إشارتين إلى التعريف على الطريق المعلوم لأن الهاء خمسة إشارة إلى المقامات والعلامات الخمسة التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرف الله بها من عرفه لا فرق بينه وبينها إلا أنهم عباده وخلقه ، وتلك الخمسة في عالم ظهور الوحدة عين الوحدة ظاهرها في باطنها وباطنها في ظاهرها قال رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم (( الـتوحيد ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره ،

__________________

1 النبأ 1 _ 3

2 ص 67 _ 68

3 تأويل الآيات 733

4 الفجر 1 _ 2

 

 

 

 

 

 

 

ظاهره موصوف لا يرى وباطنه موجود لا يخفى ))1والهاء مثال لذلك لكون ظاهرها عين باطنها في الصورة الرقمية وسرّها عين علانيّتها واسمها عين مسماها وظهورها عين خفائها وأوليّتها عين آخريتها وقبليّتها عين بعديّتها ، وقد ظهرت هذه الصفات كلها في علي عليه السلام وروحي له الفداء كما قدمنا يسيرا منها في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقـال عليه السلام (( أنا باطن السين )) والسين من الحروف التي ظاهرها عين باطنها واسمها عين مسماها لا في الصورة الرقميـة بل لقد طابقت زبرها بيّناتها ولفظها معناها ، والهاء إشارة إلى تثبيت الثابت وما ظهر هذا الثبات والإثبات البحت البات إلا في مولانا علي عليه السلام ولذا لما ظهر للخضر من قشور ذلك الثبات الحامل للثابت الذات قال في حقه عليه السلام (( كنت كالجبل لا تحركه العواصف ))2 والمشبه عين المشبه به عندنا في القرآن والأخبار ، والجبل هو جبل الأحدية الظاهرية على جبل الواحدية مع ما تقدم سابقا فتم اسم الإلـه طبقا لمسماه وظهر العبد دالا على مولاه فإذا أطلق على ما سواه فليس من باب الوضع الأول ولا المجاز بل هو وضع محتثي ظلي من باب تناسب التضاد .

 

       وأما الاستثناء فلما كان حصرا واختصاصا وذلك لا يكون إلا بنفي السوى أوتي لها بأل لدلالة الثبات والتعيين والتخصيص ، ولا الدّالة على النفي لسلب الأغيار وتصفية الأكدار فأدغمت من جهة قران المثلين فكسرت الهمزة للمبالغة في التعيين والاختصار أو لئلا يشتبه بأن لا المدغمة لقران المتجانسين ، ولم يعكسوا لئلا يشتبه بأن لا الشرطية ، فالنفي تنزيه والإثبات توصيف والنفي فناء والإثبات بقاء والإثبات إشارة والنفي سلبها ولذا لا يتحقق إلا في مقام ذكر إثبات المخالف وإثبات المخالف مخالف للإثبات البحت ، وهذا  الذكر في مقام الواحدية وما بعدها وما تحقق إلا بالولايـة وما يمحى إلا بالولاية ، فحقيقة الاستثناء هي الولاية والولي المطلق فإن ظاهره التعلق

_________________

1 معاني الأخبار 10

2 أمالي الصدوق 241 , كمال الدين 387

والارتباط وباطنه وهوأل ، وباطنه التقديس والتنزيه الصرف وهو لا ، فلما كان هذا الظاهر والباطن في الشيء الواحد جرى الإدغام لخفاء أحدهما عند ظهور الآخر قال عليه السلام (( ظاهري إمامة وباطني غيب لا يدرك )) فالاستثناء حكم البرزخية بين الثابت البحت والنفي البحت فهو يثبت الحق وينفي الباطل { وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }1 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( علي مع الحق والحق مع علي  يدور معه حيثما دار ))2 ومن هنا يظهر أن الأصل في الاستثناء الاتصال .

 

       وأما الله فهو الاسم الجامع للاسمين الأعلين لأنه مركب في اللفظ من الألف واللامين والهاء ومن بينات المجموع يستنطق اسم علي عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن بينات الألف يستنطق اسم علي عليه السلام ومن الباقي اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أنهما اسمان لله سبحانه وتعالى فقدم اسم علي عليه السلام وكان بينات الألف لكونه عليه السلام ظهر بالولاية ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ظهر بالنبوة والنبوة ظاهر الولاية وعلي عليه السلام ظاهر الولاية الظاهرة بالنبوة ولذا كان جبرائيل عليه السلام إذا أراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يأتيه إلا بأمر علي عليه السلام وإذنه وما عند علي عليه السلام وراثة عما عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فافهم .

 

       فلا إلـه إلا الله مقام النبوة ولاإلـه إلا هو مقام الولاية ، ولما كان أمير المؤمنين عليه السلام حامل اللواء اختار اسم هو على الله فقال عليه السلام (( أشهد أن لا إلـه إلا هو )) .

 

       ثم اعلم أن ما يتعلق بهذه الكلمة الطيبة في ظاهرها وباطنها من مراتب التوحيد التي هي مائـة وستون وأحوالها وأحكامها وأصحابها وعلاماتها وظهوراتها ومقاماتها وسر اختـلاف مراتب الـتوحيد مع وحدة الموحد وما

______________

1 الإسراء 81

2 الفصول المختارة 135

يتعلق بكلمة هو من الأسرار والمعارف والمراتب والكرات والدوائر قد ذكرناها في تفسيرنا على آية الكرسي فلا نطول الكلام هنا بذكرها والذي ذكرنا هنا ذكرناها في مقام آخر من الأمور المتعلقة بهذه الخطبة الشريفة من أسرار أهل البيت عليهم السلام وإلا فكم من أمور مما يتعلق بالتأويلات وأنحاء البواطن والأسرار قد تركتها هنالك وهنا خوفا للتطويل وتقية من أصحاب القال والقيل قال الشاعر وأجاد :

       أخاف عليك من غيري ومني       ومنك ومن زمانك والمكان

        فلوأني جعــلتك في عيوني        إلى يوم القيامة ما كــفاني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      قال عليه السلام وروحي له الفداء

   وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

انتجبه من البحبوحة العليا وأرسله في العرب العرباء

 

       لما أظهر عليه السلام التوحيد بما لا عليه مزيد وأحكم مقامات التنزيه والتفريد وسد أبواب الشبهات وأزال أوساخ التوهمات ، وأبان عن مقام الجمال والجلال والعظمة والقدرة والقهارية والرحمانية والألوهية والواحدية والأحدية والقيومية ، وتفرده بالأحداث والإيجاد وعدم تحقق شيء في عالم الكون والفساد ، وأن كل شيء سواه من عالم الكون والفساد وسريان نور التوحيد في أفراد الكائنات وظهور الحق للخلق بأنحاء التجليات وظهور التجليات في مرايا الأسماء والصفات وتقابل الأسماء والصفات مجالي التعلقات وظهر بيان قول سيد الشهداء عليه السلام (( حتى أرجع إليك منها كما دخلت إليك منها ))1وما قال هو عليه السلام (( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله الطريق مسدود )) ، ولما ظهر لنا من وصف كينونة الأزل الظاهر لنا بنا الذي هوحكاية الفاعل عدم استقلال نفسه للمفعول بالمفعول أن الذات الأزلية القديمة تعالى شأنه وتقدس في مقام قدسها وكينونة تنزهها منزهة عن الاتصال والاقتران وعن الظهور وعدمه فتكون تلك الظهورات إما بالإيجاد والإحداث أوبالصفات والأسماء أو بالقدرة والعظمة والكبرياء أو بغير ذلك ليست من حقيقة الذات البحت البات وإنما  هي بظهور كينونـات الصفات وتـلك الصفات هي المتجليـة في المخلوقات

_________________

1 دعا عرفة للحسين عليه السلام

 

 

 

 

 

بالمخلوقات كما قال عليه السلام (( أقام الأشياء بأظلتها ))1وقال عليه السلام (( كل شيء سواك قام بأمرك ))2ولما كانت تلك الظهورات كلها متقومة بظهور واحد وتلك الشئونات متحصلة من شأن واحد والأوامر راجعة إلى أمر واحد والخلائق آئلة إلى مبدأ واحد وذلك هوالذي يبقى عند إزالة الشئون ويظهر عند سلب الاقترانات والإضافات حتى لا يبقى غيره سوى ربه ويعدم الكل عند ظهور نفسه لمشاهدة جمال ربه ، والجزئيات مثال للكلي والوحدة الظاهرة في الجزئيات شئون كثيرة للكلي ولما كان في الجزئي يبقى الواحد عند سلب الشئون وجب أن يكون في الكلي أيضا كذلك ، فرجعت الجزئيات إلى الكليّات والكليّات الإضافية إلى الكلي الحقيقي الذي سدّ دونه الأبواب وانقطع عنده الخطاب وهو الواحد الأحد الذي جمع لوحدته كل الشئون وظهر بصفته الكاف والنون ، وذلك هو الظهور المطلق والوجود المطلق والمثل الأعلى والكلمة العليا ومبدأ الأسماء الحسنى ورتبة البرزخية الكبرى ومقام إلى ربك المنتهى ومنه نشأت الفيوضات وعنه تشعبت التعلّقات وبه أفيضت الإمدادات وبفاضل ظهوره ظهرت الصاد وبنور تجليه تحقق المداد ، وبإشراق نوره وجد القلم ، وببسط ظهوره انبسط اللوح ، وبشئون كينونته جرى القلم بالمداد في اللوح ، فلا انقطاع ولا جفاف إلى ما لا نهاية له من أحوال الذوات والصفات وسائر الاتصالات والقرانات والمفارقات ، ولما كان ذلك الأمر الذي قام به كل شيء وظهرت منه الظهورات وتجلت فيه الأسماء والصفات محتجبا بحجب الغيوب ومقنّعا بالسر المستسر بالسر في غيب الغيوب أراد الإمام عليه السلام أن يظهر في هذه الخطبة الموضوعة لكشف الأسرار ذلك السر ويبين ذلك الأمر ويشرح هذا المعمى ويكشف ذلك العماء برفع الغطاء ويستخرج الكنز من هذا الطلسم

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية بالنص ولكن وقفنا على ما يقرب منها ففي التوحيد صفحة 57 قوله (( وهو يمسك الأشياء بأظلتها ))

2 البحار 90/148 ح 10

 

ويصرّح بحقيقة الاسم والرسم فقال عليه السلام (( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )) وهو ذلك الأمر والشان وبحر الامتنان ، والشجرة المباركة الزيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولم تمسسه نار ، وتلك الشجرة في عالم اللا يتناهى اسمه المثل الأعلى وحامل لواء إني أنا الله وهيكل التوحيد وحقيقة التجريد وصبح الأزل ومبدأ ظهور كن والكاف الظاهر عنها الهاء في كهيعص والنقطة العليا والكلمة الكبرى ، فلما نظر إلى مقام التناهي في مقام اللاّنهاية فذكرت النهايات من حيث المبادئ لديه وحضرت من حيث الذكر الإلـهي عنده بملاحظة المتعلِّق بالكسر وقطع النظر عن المتعلق والتعلق فهناك مادة الأسماء ومعنى المسمى ، واسمه حينئذ حَمْدٌ ومجد وقدس وتنزيه قال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة يوم الغدير عند نصب علي عليـه السلام للخلافة (( الذي ملأ الدهر قدسه ))1وهو حينئذ البهاء وأبهاه والجمال وأجمله والجلال وأجله والعظمة وأعظمها والكمال وأكمله والأسماء وأكبرها والمشيئة وأمضاها والعلم وأنفذه والرحمة وأوسعها والقدرة التي استطال الله بها على كل شيء إلى غير ذلك من الأركان المتقومة بها الأسماء ، ولما لوحظ فيه جهة التعين والظهور وتغشيه بجلباب النور من حيث المتعلَّق بالفتح دون المتعلِّق بالكسر إلا ضمنا وتلويحا وإرادة كان اسمه الماء الذي كان العرش عليه ، والهواء الذي خلقه الله قبل الخلق حين استوى الرحمن عليه ، والصاد الذي توضأ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج لصلاة الظهر ، والمداد الذي امتد به القلم ، والنون وبحر المزن وبرزخ الوجود المطلق والمقيد وبحر النور ومعدن السرور وجنة الصاقورة والألف اللينة ونور الكينونة وهيولى الهيوليات واسطقسّ الاسطقسّات وذات الذوات وبحر الإمدادات وخزانة الكائنات وثاني الغيب وأمر الله اللاريب وحجاب الله المحتجب بحجب الغيب ومقام المصدر وحقيقة التأكيد والحقيقة المطلقة وجوهر الجواهر ومنقطع الإضافات ومسلوب الرباطات والمنتهي إليه جميع التعلقات ، ومقام المعاني وعلة الأكوان والمباني والنفس الرحماني الثاني إلى غير ذلك من الأسماء في هذا

________________

1 الاحتجاج 57

المقام ، ولما لبس لباس التّعيّن وتردى برداء العز والوقار وتسربل بسربال المجد والاقتدار وتقمص بقميص العظمة والفخار وقام بالعبودية بين يدي الملك الجبار وتنطق بإيّاك نعبد بالذل والانكسار ناداه الله سبحانه بلسان الاقتدار أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال الله عز وجل فوعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك ولا أكملتك إلا في من أحب ، فاسمه الشريف في هذا المقام المنيف حبيب ومحبوب ومحبة وعقل وقلم وروح وروح القدس الذي ذاق من حدائق آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين الباكورة قال مولانا الحسن العسكري عليه السلام (( قد صعدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوة والولاية )) إلى أن قال (( فالكليم ألبس حلة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة ))1 وقال عليه السلام (( أول ما خلق الله القلم ))2 والقلم أول غصن أخذ من شجر الخلد  وقال عليه السلام (( إن الله جل ثناؤه خلق العقل ( من الماء العذب الفرات نورانيا ) وهو أول خلق خلقه من الروحانيين عن يمين العرش ))3 وقال عليه السلام (( المحبة حجاب بين المحب والمحبوب )) وهو الملك الذي له رؤوس بعدد رؤوس الخلائق ممن وجد ولم يوجد وسيوجد إلى يوم القيامة وهو النور الأبيض المشرق من صبح الأزل الذي منه البياض ومنه ضوء النهار وهو العرش الثالث وهو مخزن المعاني وهو ينبوع المباني وأول العالمين ونور الله الذي أشرقت به السموات والأرض واليمين الذي كانت السموات مطويات به والقبضة التي كانت الأرض جميعا فيها وبها هكذا إلى غير ذلك من الإطلاقات المعصومية في هذا المقام ، ولما ظهر في عالم الشهود واستضاء به ثاني الوجود وظهر بصورة المظاهر وجمع المناقب والمفاخر ، وتكثرت الشئون وظهرت بكمال الظهور الكاف والنون كان اسمه محمد وأحمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ اسمه من مادة الحمد ليعلم أن هذا الآخر هو عين الحمد الأول إلا __________________

1 البحار 26/264 ح 50             2 تفسير القمي 2/198

3 الخصال 589 وما بين الأقواس لا يوجد في الرواية فلعله شرح وبيان من المصنف أعلى الله مقامه .

أنـه كرر الحمد في اسمه الثاني كما كررت الشئون والإضافات في العالم الثاني ، وفي الثاني الذي هو الوسط كان اسمه الباء في بسم الله الرحمن الرحيم إشارة إلى الحمد فإن الباء إذا كررت تستنطق منه الدال والدال إذا كررت تستنطق منه الحاء والحاء إذا كررت خمس مرات تستنطق منه الميم  فبالإجماع تحقق الحمد والميم كررت مرتـان فجعلت إحداهما في الأول والثانية في الوسط ، فلما اجتمع المثلان جاء الإدغام فصار محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فدل اسمه على شخصه وأن المسمى بحكم المناسبة الذاتية بين الاسم والمسمى نزل متكررا في ذاته تكرر الواحد في الأعداد وفي آثاره تكرر الشمس بظهورها في مقامات الأشعة ، وأحمد إشارة إلى مقامه الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم لظهور الأصل فقد ظهرت الألف في العالم الأول للإشارة إلى ظهوره في العالم الأول كما نشير إليه فيما بعد إنشاء الله ، فتكرر في الباء فأشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم في العالم الثاني في البسملة ، فتكرر في الحمد إشارة إلى ظهورات الألف حاملة لكمال النقطة الأحدية في العوالم الثلاثة وهي الجبروت والملكوت والملك فالحاء إشارة إلى العالم الأول وهو وإن كان فيه وحدة إلا أن الحاء من الحروف الغيبية وفيها إشارة إلى حملة العرش الأعظم ، والدال إشارة إلى العالم الثاني لظهورالتربيع تاما مفصلا ممتاز الحكم مشروح العلل فيه ، والميم إشارة إلى العالم الثالث لكونه مقام الكثرة وهي من حروف عالم الشهادة كما كانت الدال من عالم الوسط المناسب للمشار إليه ولكونه مقام الاجتماع ومحل قران الأسباب بالمسببات وربط العلل بالمعلولات ولذا كان يومه يوم الجمعة ، ولما كان المراد من الحروف الثلاثة حكاية الظهور في العوالم الثلاثة من حيث هو ظهور لا من حيث العالم كان الظهور في الكل متّحدا وإن اختلف من حيث العوالم ، ألا ترى الأجسام فإنها تتحرك إلى جهة على جهة الإطلاق بساطتها ومركباتها حتى الأفلاك التي ليس فوقها رتبة في الأجسام فتلك الحركات تكون زمانية جسمانية ولها حركات صدورية دائرة مستديرة على قطب مركزها وهو وجه مبدئها لا إلى جهة وتلك الحركة سريعة غير زمانية بل ولا دهرية وإنما هي حركات سرمدية استمدادية متساوية متحدة ، وكذلك حكم ظهور الحمد الذي هو النقطة الكمالية الأسمائية والصفاتية من حيث هي في العوالم الثلاثة فالظاهر في الأول هو بعينه الظاهر في الثاني ، والظاهر في الثاني هو بعينه الظاهر في الثالث ، فالألف هو بعينه الباء وهي بعينها الدال وهي بعينها الحاء وهي بعينها الميم ، فالحمد هو بعينه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحمد هو بعينه حمْد وأحمد ومحمود قـال تعـالى (( شققت لك من اسمي اسما فأنـا المحمود وأنـت محمد ))1وهذا الاسم المشتق منه لا شك أنه حادث ولا شك أنه موجود وليس لله ذكر وظهور محدث إلا عنده صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أن الأسماء مختلفة حسب الظهورات والانتسابات وتختلف الأحكام بالنسبة إليها ،  ألا ترى أن الذي يخرب الكعبة والعياذ بالله يكفر ويجب قتله والذي يخرب بيتا من بيوت سائر الناس لم يكفر مع أنهما متساويان في أصل المادة والصقع في الظاهر إذ الاثنان من الجص والحجارة وليس هذا التفاوت العظيم إلا من جهة الانتساب قال مولانا الصادق عليه السلام (( من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ))2 فافهم فقد أطلعتك على سر غريب ، فالمحمود هو مشتق من الحمد وأحمد مشتق من الحمد ومحمد مشتق منه وحامد مشتق منه ، فالمحمود هو الحمد والحمد هو محمد ومحمد هو أحمد وأحمد هو الحامد والمجموع شيء واحد تدور الأحوال عليها وترجع الأحكام إليها وتختلف الآثار لديها كلها بالإضافات الخارجية والقرانات الإضافية ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم محمود في المقام الأعلى في العالم الأول ، ومحمد في المقام الثاني عند التنـزل إلى السبع المثاني كما أن عليا عليه السلام هو اسم الله هو في المقام الأعلى في العالم الأول في الأزل الثاني وعلي في مقام التنـزل إلى المرتبة الـثانية مقام الأسماء والكثـرات والإضافات قـال الله تعالى { وَهُوَ الْعَلِيُّ

________________

1 كفاية الأثر 152

2 عيون أخبار الرضا 1/304 , البحار 26/239 ح 1

 

 

الْعَظِيمُ }1 { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }2 على تفسير ظاهر الظاهر ، فالاسم أحمد إشارة إلى عالم فوق عالم الحمد لدلالة الألف القائم الذي حصل الحمد من تكرره مضاعفا فدل على الأصل ، والاسم الحقيقي هو الأول والباقي مواقع ظهوره فنسبة الحرف الأول إلى باقي حروف الاسم كنسبة المرّة الصفراء والسوداء والبلغم والدم إلى باقي البدن وكنسبة البدن وكنسبة الكواكب إلى كل أجزاء الفلك وقد قال الشاعر في وصف الروح :

     حتى إذا اتصلت بهاء هبـوطها        من ميم مركزها بذات الأجرع

     علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت        بين المعالم والـطلوع الخـضّع

 

       ولذا ترى أهل الحروف يجعلون الزبر مسمى والبينات اسما له ، فدل ما ذكرنا أن أحمد في مقام فوق مقام الحمد إلا أنه ناظر إليه وهو حينئذ مشتق من اسم الله الأحد زادوا الميم لظهوره في مراتب الوجود كلها وهي تمام ميقات موسى قال الله تعالى {* وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }‏3 وهو الميم ، وأما محمد في مقام تحت مقام الحمد فهو حينئذ مشتق من الحمد وزادوا الميم أيضا للدلالة على ظهور الحمد الذي هو ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم في جميع مراتب الوجود ، ولما كان ذلك مقام التنـزل تمايزت الكثرات فظهر مقام الغيب والشهادة فاستدعى تكرر الميم فإن الوجود في كل مرتبة أربعون كما حقق في محله ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولاعجب في ذلك فإن هو الذي إذا تنزّل يكون عليا هو الأول والآخر  والظاهر والباطن لأنّ الهاء من عالم الغيب والواو من عالم الشهادة والهاء أول الحروف وأعلاها مخرجا ومقاما والواو أدنى الحروف مخرجا ومقاما فالـهُو هو الأول والآخر ، والاسم على طبق المسمى واللفظ على وفق المعنى والمتنزل إليه على حسب المبدأ لأن التنزل تفصيل بعد الإجمال ، ألا ترى أن الآحاد إذا تنزّلت إلى العشرات تظهر الكسور التسعة على التفصيل منطقة وهي كانت في

______________________

1 البقرة 257                2 الزخرف 4

3 الأعراف 143

الآحاد لكنها ما كانت منطقة فظهر هنا ، فلما كان هو هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان علي عليه السلام كذلك وقد أظهرت الشمس هذا السر لكونها عارفة بحقه عليه السلام لكونها مثاله آيته ودليله حيث سلمت على علي عليه السلام في الحديث المشهور وقالت (( السلام عليك يا أول ويا آخر ويا ظاهر ويا باطن ))1وكان علي عليه السلام في محضر جمع من الأصحاب وكان الثاني معهم فأنكر هذا المعنى وأتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال إن الشمس سلمت على علي عليه السلام بما لا يصلح إلا لله وقالت السلام عليك يا أول يا آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم إنها تريد بقولها يا أول أن عليا عليه السلام أول من آمن بي وهو آخر الأوصياء وهذا  الجواب جواب واقعي حقيقي إلا أن الحمير ما فهم منـه إلا الظاهر عند العوام ، انظر إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم أول من آمن بي وصدق بنبوتي وذلك كان اليوم الذي استخلصه الله في البحبوحة العليا كما يأتي إنشاء الله ، فعلي عليه السلام إنما كان ظهور هو لكونه حامل اللواء وقد علمت أن اللواء لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فعلي عليه السلام إنما تشرف بشرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعلى بتعليته وتقوى بقوته واستعلى باسمه ، وعلي عليه السلام في الحقيقة اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ألا ترى في السجود المنسوب إليه عليه السلام تذكر الله باسمه الأعلى وتقول سبحان ربي الأعلى وبحمده وهو مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي

_____________________

1 تأويل الآيات 633

 

 

 

 

 

 

الدعاء (( اللهم إني أسألك بمعاقد العزّ من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم الأعظم الأعظم وجدك الأعلى الأعلى الأعلى وبكلماتك التامّات ))1الدعاء ، ويريد بالذكر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى { قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا }‏2 والاسم هو علي عليه السلام وأشار الحق إلى الجميع بألطف إشارة بقوله الحق { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ

______________________

1 الإقبال 327

2 الطلاق 10 _ 11

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بُكْرَةً وَأَصِيلًا }1‏ فجعل الأعلى منسوبا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو صلى الله عليه وآله وسلم وهب ذلك الاسم عليا عليه السلام كما أنه حمله اللواء فأعطاه اسمه أيضا .

 

       وبالجملة فإذا كان علي عليه السلام هو الأول والآخر والظاهر والبـاطن فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطريق الأولى على النهج الأعلى ، لأن عليا عليه السلام حسنة من حسنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو حمد الله والحمد منسوب إلى الله ولاينتسب إلى غيره أبدا فهو وجه الله فلا يبلى ولا يفنى ، فالوجه لا يتناهى لكونه وجها ودليلا لما لا يتناهى ، ولا يعرف المدلول إلا بالدليل  فلو تناهى الوجه فيلزم منه تناهي ذو الوجه أو لم يكن وجها تعالى ربي عن ذلك علوا كبيرا ، فحمد الله هو الأول والآخر وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكون وجوده الأقدس سبق كل وجود وموجود ومفقود ومشهود فكلما يفرض نفرض كل أحد بمقدار وجوده ، ومعرفته وإدراكه بمقدار شهوده ووجوده ، إذ الشيء لا يتجاوز ما وراء مبدئه ولا يقرأ إلا حروف نفسه فكلما يفرض الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية والقبلية والبعدية والخفاء والظهور والغيبة والحضور كلّ ذلك من حدود نفسه فلا يلحق نفسه التي من عرفها فقد عرف الله وتلك النفس لمعة من لمعات أشعة أنوار آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم عليهم السلام سرج وأضواء استنارت واستضاءت من السراج الوهاج وعين المحبة والابتهاج محمد صلى الله عليه وآله وسلم صاحب المعراج وهو الذي أراد الله من قوله عز وجل { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ

___________________

1 الإنسان 25

 

 

 

 

هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ }1فتأمل بصافي طويتك وخالص فطرتك إلى ما ذكرنا تجد مقاما أعلى مما ذكرنا وأرفع ممّا بيّنّا وأسنى مما قلنا ولا تنكر ما ذكرنا فإنه إنكار قدرة الله لأنهم عباد وخلق أقدرهم الله تعالى بقدرته وهم بعد بيده {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }2 ولا أنكر لله قدرة ولا أزعم إلا ما شاء الله سبحان الله ذي الملك والملكوت يسبّح الله بأسمائه جميع خلقه .

 

       وهذا الذي وصفنا وقلنا أنه الأول والآخر والظاهر والباطن والقبل والبعد والمخفي والظاهر والآية والعلامة التي لا تعطيل لها في كل مكان والذات المتقوّمة بها كل ما في الأكوان والأعيان ومستجنّات غيوب الإمكان ومظاهر قدرة الله الملك الديّان والمالئ بنوره المكان والزمان المدعو في السماء  بأحمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الأرض بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند الله بحبيب ومحبوب وفي السرمد بظل ممدود وماء مسكوب وفي العرش الصاقورة العليا بالشاهد والمشهود هو عبد الله وملك له وخلق له ورقّه في ملكه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، لكنه استقام في العبودية وأخلص له الطاعة وأقر له بالربوبية والألوهية  مخلصا صادقا في كل أحواله وأقواله وأعماله وأفعاله وذواته وصفاته وكينونات أشباحه وظهوراته في إيجاده وانوجاده حال الوحدة والانفراد وحال الكثرة والاتصال وحال الإضافة والاقتران وحالة المشاهدة والعيان ، وقد أشرنا إلى نوع تفاصيل بعض ذلك في لا إله إلا الله ، فالعبد في الحقيقة هواسم خالص له

___________________

1 غافر 15 _ 16

2 الأنبياء 29

 

 

 

 

 

ولذا خصّه إلى نفسه وقال عز من قائل { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }1وقال أيضا { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }2 وقال مولانا الصادق عليه السلام وروحي له الفداء (( العبد ثلاثة أحرف فالعين علمه بالله والباء بونه من الخلق والدال دنوّه من الله تعالى ))3 ، والأصل في ذلك أن الشيء إذا وجد وحين وجد لحقته نقائص الإمكان من حدود الزمان والمكان والجهة والرتبة والوضع والإضافة والاقتران والكم والكيف والأين ومتى وإذ ومذ وقد ومن وإلى وعلى وحتى ومهما وإذ ما وكيفما وإلا وأمثالها من شئون الكثرات وجهات الإنيّات فلا يوجد الشيء إلا مصاحبا لهذه الأمور ولا يمكن انفكاكها عنه لأنها حدود القابلية والانوجاد ، فحينئذ يحصل له ثلاثة أنظار نظر إلى نفسه ونظر إلى الإضافات الخارجة من اللازمة والزائلة المفارقة ونظر إلى ربه ومبدأ وجوده وعلّة كونه وعينه ، ولا شك أنه في الجهات الثلاث فقير محتاج إلى مدد ومقوّم فهو بمسألة فقره دائما لائذا بباب الفناء ، فإن كان ملحدا في الأسماء والتفت إلى الإضافات والقرانات ونظر إلى الكثرات وجهات الإنيات في ما يحتاج إليه من شئونات فقره فهو الفقر الذي هو سواد الوجه في الدارين ومنكس الرأس في النشأتين والله سبحانه عند ظنّ كل امرئ أي يمدّه بحسب ظّنه من المعائش المكدّرة والأحوال الضائعة المنغصة

____________________

1 طه 41

2 البقرة 23

3 مصباح الشريعة 8

 

 

 

 

 

 

قال تعالى { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا }1‏ ولا تتوهّم أن الضيق والضّنك منحصر في قلّة الأكل وألشرب واللباس وأمثالها بل هذه عند أهل الله ليس ضنكا وإنما هي سعة وفرحة وقال الله عز وجل لموسىعليه السلام (( إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين ))2 بل الضنك والضيق هو ضيق القلب واحتصاره بإيراد الشكوك والشبهات والظلمات والتمويهات وهو دائما في الاحتصار وهذا الشخص لو كان عنده سلطنة العالم ما يلتذّ بها بوجه أبدا قال تعالى إشارة إلى هذه اللطيفة { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الـرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }3 وقـال تعالى { بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }4 وهذا هو العيش المنغص والشرّب المكدّر فلا يرى الخير أبدا فهذا هو الـظالم لنفسه على الحقيقة والواقع وهو الظـالم الذي يعض على يديـه

__________________

1 طه 124

2 شرح النهج 13/266

3 الأنعام 125

4 النساء 155

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويقول { يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْـلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }1 .

 

       وإن كان الناظر ينظر إلى نفسه من حيث الشئون المختلفة والكثرات المتباينة ويرى كل شيء له سبب يسدّ فقره وخلّته ويعلم أنها كلها من الله خالقه فقد يلتفت إلى الله وقد يلتفت إلى نفسه ، وهذا هو الفقرالذي كاد أن يكون كفرا لأن الالتفات إلى النفس يؤدي إلى الانقطاع عن الله سبحانه بالمكيلة لأن الطبيعة إلى الباطل أميل منها إلى الحق لمناسبتها مع الأول أشد من مناسبتها مع الثاني وقد أشار الحق سبحانه إلى هؤلاء بقوله الحق { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }2 وهؤلاء الذين تمسّكوا بظاهر الأخبار والآيات وما التفتوا إلى البواطن والآيات البيّنات فحمدوا ووقفوا وترجوا من الله الفرج والمخرج وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر .

 

       فالاثنان المتقدّمان ظاهرهما يخالف باطنهما وأعمالهما تخالف كينوناتهما وفعلهما يخالف قولهما وإن ادعيا في ظاهر الأمر العبودية فإنهما بالفعل يدّعيان الاستقلال والربوبية ، فإن العبد لا يخالف سيّده فإن خالف فحين المخالفة لا يرى نفسه عبدا وإن كان هو عبدا في الواقع ونفس       الأمر ، فإن كان الناظر ينظر إلى ربه وينقطع إليه ويقطع عن كل ما عداه ويتبرّأ عن كل ما سواه ويلتفت دائما إلى ربه عالما بأنه ليس شيء في الوجود مستقلا ثابتا غنيّا غير مفتقر وغير مستند إلى أحد سواه سبحانه فعلمه يدعوه إلى أن يبين عن الخلق ويدنو عن الخالق ، وهذه البينونة والدّنولا يكون إلا بكثرة الالتفات والمراقبة بالأعمال والتوجه الخالص فكلما خلص عن الغرائب

__________________

1 الفرقان 27 _ 28                2 محمد 25 _ 28

قرب إلى ظهور المبدأ المطلق ، إلى أن خلص كلّيا في جميع الأحوال فهناك يحكي المثال ظاهرا في مرآة الجلال والعظمة والكبرياء وهو مقام ( كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ) وأخر هذا المقام مقام  ( أطعني أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون وأنا حي لا أموت أجعلك حيّا لا تموت ) ، قال عليه السلام (( المؤمن حيّ في الدارين )) ، ثم إن خلص عن هذا الشوب الذي هو مشاهدة الأغيار المستلزم للأكدار وإن كانت هذه الأغيار من أعظم حسنات الأبرار لكن فيها ذكر للسوي وإن كان على وجه الاضمحلال والفناء لكنها من أعظم المعاصي عند آل الله فإنهم يرون أعمالهم سيئات قال عليه السلام (( وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم إلامال دونك ))1لأن ذكر السوى حاجبة عن ذكر الله فهو بمقدار ما يذكر الغير غير مقابل لنور الجمال الأزلي الظاهر للخلق بالخلق فيتوجه إليه قول الإدبار وأنا أقرأ عليك دعاء علي بن الحسين عليه السلام في السجدة بعد الثامنة من صلاة الليل على ما رواه البهائي في مفتاح الفلاح فاعرف منه ما لا يمكن بيانه بالعبارة أكثر مما عبّر وفعل عليه السلام حيث قال (( إلهي وعزّتك وجلالك وعظمتك لوأني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد إلابد بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ أداء شكر خفي حق نعمة من نعمك عليّ ولوأني كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي وحرثت أراضيها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السموات وإلارضين دما وصديدا لكان ذلك قليلا من كثير ما يجب من حقك علي ولوأنك إلهي عذّبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين وعظمت للنار خلقي وجسمي وملأت طبقات جهنم منّي حتى لا يكون في النار معذّب غيري ولا يكون لجهنم حطب سواي لكان ذلك بعدلك علي قليلا في كثير ما أستوجبه من عقوبتك ))2 ، تأمل في حدود هذه الكلمات تجد ما لا تسعه

_____________________

1 دعاء أبي حمزة الثمالي

2 مفتاح الفلاح 315 _ 316

العبارة ، فالعبودية الكاملة هي أن لا يجد نفسه عند جلال عظمة ربه فيفنى في بقائه ويمحوفي صحوجماله الذي هو عين جلاله ، فهناك عين المثال ويظهر ما قال في الإنجيل ( يا بن آدم اعرف نفسك تعرف ربك ظاهرك للفناء وباطنك أنا ) وهو قولهم عليه السلام (( لنا مع الله حالات هوفيها نحن ونحن فيها هو إلا أنه هوهو ونحن نحن )) فإذا بلغ هذا المقام يظهرله مقام الفاعل والخالق والرازق ومقام الآمر والناهي ، وهذا الفاعل هو الذي اشتق من الفعل كالضارب من ضرب فإن كان المفعول الخاص والعبد الجزئي تظهر الفاعلية الجزئية الخاصة كالضارب مثلا في ضرب والقائل في قال والناصر في نصر والمتكلم في تكلم وأمثال ذلك ، وإن كان المفعول المطلق العام الكلي يظهر الفاعل الذي هو جامع كل الشئون والظهورات على جهة الإطلاق والعموم فيحيط بكل الشئون قال تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }1وهذا معنى قوله عز وجل (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))2 إذ لا شك أنه تعالى ما يريد بقوله ( لم يسعني ) أي ذاتي وحقيقتي فإنّ ذلك مستحيل بضرورة المسلمين ، فالمراد به الظهور ، ولاشك أنه تعالى ما يريد به الظهور الجزئي فإن كل أحد بل كل شيء من الأشياء وإن صغر وضعف حامل ظهور من الظهورات الإلهية والشئونات الربانية فلا فخر للعبد المؤمن ، فيجب أن يكون هذا الظهور كليّا ، ولما أن الحكم تعلق بالوصف المشتق علم أن المبدأ هو علة هذا الحكم فإيمان العبد هو الذي صار علة لهذه الوسعة والمؤمن كل المؤمن هو الذي امتثل أمر الله سبحانه والمخالف ليس بمؤمن على

___________________

1 الرحمن 29

2 البحار 58/39 ح 61

 

 

 

 

 

حسب المخالفة ولما قال الله عز وجل { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }1وقال { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }‏2 وقال { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }‏3 علمنا أن الإيمان التام لم يتحقق إلا بالتزام مضمون تلك الآيات ، ولما كان غير المعصوم كلهم عصاة لم يثبت وصف الإيمان لهم دائما أبدا ولما كان أئمتنا سلام الله عليهم أشرف الأنبياء وذلك لا يكون إلا بقوة الإيمان والمعرفة فيكون إيمانهم بالله سبحانه أقوى من إيمان الأنبياء أجمعين ، ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو فخرهم وشرفهم وسيدهم علمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت في تلك بمعنى الكلام فالمؤمن الحقيقي الأوليّ الأصلي لا يكون إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال الله سبحانه إشارة إلى إيمانه الكامل { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }4 والإيمان هو تفاصيل إقرار العبودية فلما أقرّ صلى الله عليه وآله وسلم لله سبحانه بالعبودية المحضة الخالصة المنزّهة عن جميع شوب السوى بكينونته وذاته وأعماله وصفته في مقام إدباره وإقباله وسع قلبه الشريف جميع الشئون الربوبية على الإطلاق لكونه مقتضى العبودية ، لأن الله سبحانه يتجلّى بفعله فلما كانت مرآة عبوديّته وزيت قابليته صلى الله عليه وآله وسلم صافية بالغة كاملة معتدلة منزّهة عن شوب كدورة وغيرية وظلمة إنية حكت المرآة المثال على أكمل ما يكون في الإمكان واستنار بمسّ النار المهيجة من شمس الأزل ، فسبق السابقون وفاق الفائقون فلم يلحقه الأولون والآخرون والعاملون المتهجدون المجتهدون ، فبفاضل عبوديّته ظهرت العبادة والخضوع ، وبفاضل تذلـله لله سبحانه ظهر الانكسار ، فهو صلى الله عليه وآله وسلم أخضع الخلق لله وأخشعهم له وأخوفهم منه وأعبدهم له فتمت فيه مقامات العبودية وهي الاستقامة في دار المقامة التي أمر الله سبحانه إيّاه صلى الله عليه وآله وسلم بها

_____________________

1 هود 112                 2 الحجر 65

3 البقرة 152               4 الأعراف 158

 

في قوله {‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }1 .

 

       ومجمل القول أن النور الإلهي والكينونة الأحدية الوصفية المخلوقة ما تظهر ولاتستقر في الوجود الكوني إلا بصورة وحدود هي تكون محلها ومظهرها ، فإن كان صرف تلك الحدود اللاّزمة لها الغير المنفكة عنها الغير المشوبة لما يضادها وينادها من الحدود المقابلة فتلك هي حدود العبودية وصور الاستقامة التي هي الصورة الإنسانية ، وتلك هي القيام بأوامر الله ونواهيه وعزم الانقياد في السريرة بصافي الطوية على البقاء على تلك الحالة وعدم قصد ما يضّادها وصفا وذاتا وقولا وعملا ، والانزجار لفعله والانكسار والخضوع له فيما يطيع به ربه والتذلل له وإعدام نفسه وإفناء شخصه ومشاهدة حلول رمسه وهو قوله عليه السلام في الدعاء (( إلـهي كيف أدعوك وإنا أنا وكيف لا أدعوك وأنت أنت ))2 وهو قوله تعالى { وَلاَ

______________________

1 هود 112

2 مصباح المتهجد 348

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }1وقوله تعالى { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }‏2 وهذا  الذكر وهذا الالتفات هو الاستقامة المأمور بها ، وتلك الاستقامة هي كمال المقابلة لفوّارة النور ، فلما حصلت المقابلة الكلية فينطبق على الفوّارة فيجمع الأنوار ويحتوي الأسرار فيسع قلبه كلّ الأوامر والفيوضات والإمدادات اللاّهوتية والجبروتية والملكوتية والملكية والذاتية الوصفية والأصلية والوضعية والحقيقية والمجازية والخلقية والأمرية لأن المقابلة الكلية تستدعي أولية التلبية حين نادى الحق خلقه بلسانه النّاطق فيهم بهم ألست بربكم وكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول من لبى ذلك الخطاب ودخل ذلك الباب وشاهد المطلوب بلا حجاب فكان حجابا أعظما احتجب الله سبحانه به عن خلقه ، ولم تتحقق الحجابية إلا إذا استقرت واستقامت في العبودية وهذا أحد معاني قوله صلى الله عليه وآله وسلم عند قوله تعالى { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }‏3 ( شيّبتني هذه الآية ) ، والشيبة مقام الكمال وبلوغ الوصال والاستقرار على سرير الإقبال ، وهذه الشيبة عين الشباب وذلك المبدأ عين المآب وذلك الماء عين التراب حيث قال عز وجل في محكم الخطاب { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا }‏4   وذلك البشر هو أبو تراب ، فلما تم مقام العبودية وظهرت فيه ظهورات الربوبيـة قـال مولانـا الصادق عليه السلام (( العبودية جوهرة كنهها

__________________

1 الحجر 65

2 البقرة 152

3 هود 112

4 الفرقان 54

 

 

 

 

الربوبية ))1وصار قلبه الشريف على جميع معانيه عرشا للرحمن أي النفس الرحماني الأولي وذلك في ظهورات النقطة قبل الألف واستدارتها على نفسها وحركتها حول مركزها لبيان ( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله ) ، فاستجنّ في هذا العرش الكلي الأعظم على أعلى المقامات , أو الماء الذي كان العرش عليه قبل خلق السموات على أحد الإطلاقات جميع ما ظهر ويظهر ويمكن من بديع السموات ذي العرش من علوم الكيفوفية وعلم البداء وعلل الأشياء وسر المحو والإثبات ومصدر الإصدار ومنبع الإيجاد ومعدن الحقائق وحقائق لطائف الخلائق وسر اللاهوت ونور الحي الذي لا يموت ، ودارت نقطة العبودية على نفسها فاستوت جميع نسبها ببارئها فصارت في كمال الاعتدال في الطوية والسريرة واللطيفة والكثيفة من الأحوال البشرية كما قـال عز وجل { وَإِنَّـكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }‏2 { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }3 فهناك اقتضت الرسالة المطلقة الكلية والاستعانة الشاملة العامة في قوله تعالى { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بعد قوله تعالى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهذه الاستعانة استعانة استمدادية إلهية في جميع ما يمكن في الأكوان الخلقية من شرائط الإمداد والاستمداد ومتممات القابلية ومكملات الاستعداد فكان بذلك صلى الله عليه وآله وسلم رسولا مطلقا إلى جميع الكائنات والموجودات

_________________

1 مصباح الشريعة 7

2 القلم 4

3 ص 86

 

 

 

 

 

 

 

وهو قوله عز وجل { أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }1 فبالعبودية بلغ مقام الرسالة وبالرسالة ظهرت العبودية المطلقة كما قال تعالى في حديث الأسرار (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))2 إذ الشيء كلما يخلص عن شئون نفسه تخف بنيته وكلما تخف بنيته يسرع سيره وكلما أسرع سيره بلغ مقام السبق وكلّما بلغ مقام السبق سطع عليه نور العناية والقرب وكلما سطع عليه نور العناية والقرب استنار واستشرق وكلما طالت الاستنارة والاستشراق وخفّت البنية وصفت الإنية وطابت الكينونة ظهر المثال وشهد ظهور الحال بصفة الإقبال ، وكلما ظهر المثال تجلى الممثل الموصوف بالوصف والمثال ، وكلما تجلى الممثل غاب المثال واضمحلت الصفة ، وكلما غاب المثـال صفى ذكر الممثل إلى أن أتى مقام ( هوفيها نحن ونحن فيها هو ) ومقام ( لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك ) فقام مقامه في الأداء في كل العوالم وهو قوله عليه السلام (( فبهم ملأت سمائك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت )) فافهم وإلا فاسلم تسلم وهذا  معنى قوله عليه السلام (( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )) .

____________________

1 الأنعام 124

2 إرشاد القلوب 199

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

       والشهادة كينونية وذاتية وصفتية وظهورية وعملية وقولية ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المحمدية البيضاء في مقام الحجـاب الأبيض الأعلى ، والعبودية هي المطلقة الكاملة مقتضى الفقر الذي افتقر به إلى الله سبحانه وافتخر به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( الفقر فخري وبه أفتخر ))1، والرسالة هي الرسالة الواسعة العامة الشاملة لكل من ذرء وبرأ في تمام مقتضيات أحوالهم كما نذكر إنشاء الله .

_____________________

1 البحار 72/30 ح 26

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام (( انتجبه من البحبوحة  العليا ))

 

       البحبوحة هي الـوسط واللب والصفـو والأصل قـال الله عز جل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }1‏ وقال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث كميل في بيان أحوال النفس (( والعقل وسط الكل ))2 وقال أيضا عليه السلام على ما في الخطبة الشقشقية (( لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهويعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ))3 فالبحبوحة هي القطب والقطب هو الوسط وهو الأصل في الشيء يدور ذلك الشيء بجميع شئونه وأحواله وإضافاته وجهاته وحيثيّاته واعتباراته عليه وهو المدبر لها والمسخر لها والمقدر لأقواتها والمتمم لقابلياتها وهو في كل شيء من الأشيـاء ، فلكل نفس قطب تدور عليه أحوالها ، فتعددت الأقطاب بعدد نفوس الخلائق ولما كان القطب جهة الحق للخلق كان بذلك ظهوره لهم وهو معنى قوله عليه السلام (( الطرق إلى الله

__________________

1 البقرة 143

2 البحار 61/85

3 شرح النهج 1/151

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بعدد أنفاس الخلائق ))1ويأتي تحقيق ذلك فيما بعد إنشاء الله فنقتصر على موضع الحاجة ونقول .

 

       إن الأقطاب كلّها على قسمين ، أحدهما أن يكون نقطة واحدة قد انبسطت فتكثرت وتعددت كالنقطة فإنها قطب للألف والألف قطب للألف القائم وهو قطب للألف المبسوطة الذي هو الباء ، والباء قطب للدال ، والألف والباء معا قطب للجيم ، والباء والدال معا قطب للهاء ، وهكذا إلى آخر الحروف الكونية والحرفية ومرجع الكل إلى الواحد ، وذلك وجه استمداد الشيء بلواذ فقره وفاقته بباب استغناء الغني المطلق ، فالوجه السفلي للقطب وجه استمداد الشيء السافل والوجه الأعلى باب استغناء الغني فهو سبحانه يمده منه به إليه إلى انتهاء الوجود ، وهذا الوجه الذي هو القطب يجب أن يكون وسطا ليتساوى نسبة الكرة إليه وإلا لم تكن الحركة مستديرة واختلفت نسبة العالي مع السافل وهو مستحيل , ولاشك أن القطب هو وجه العالي فيجري عليه حكمه وهذا ظاهر .

 

       وثانيهما أن تكون الأقطاب متعددة لا بالعدد فلا يجمعها عدد إلا باعتبار المفهوم اللفظي ، وأما في الحقيقة فأحدهما عدم بحت وفناء صرف بالنسبة إلى الأخرى بحيث لا ذكر للأخير عند الأول ولو إجمالا إلا بالذكر الصلوحي التعلقي ، وهذه المراتب إنما تكون في السلسلة الطولية بمعنى أن المراتب السافلة معلولات للمراتب الأولى ، فالقطب في المرتبة الثانية شعاع المرتبة الأولى وأثرها وفعلها ، والكرات الدائرة عليه أحوال ذلك وشئوناته وظهوراته وقراناته ، فهي بما هي عليه متقومة بذلك القطب تقوم ركن وعضد وذلك القطب متقوم بالكرة الأولى تقوم صدور وحدوث ، فهو مثال للكرة الأولية من حيث الأحوال والشئون لا القطب الذي لتك الكرة ، فمثال الأول هو النار الظاهرة في السرج الكثيرة والظهور الواحد الظاهر في المرايا والنور

____________________

1 البحار 67/137 ح 7

 

المنبسط في الشعاع والكلي المتعين في الجزئيات والأفراد ، والمطلق الظاهر في المقيدات وأمثال ذلك .

 

       ومثال الثاني هو السراج الظاهر في الشعاع والنار الظاهرة في الحديدة والسراج والشاخص المقابل الظاهر في المرآة وأمثال ذلك فانحصرت مراتب الوجود بهذين القسمين ، ولما كانت السلسلة الطولية مما لا تنكر في الوجود والسلسلة العرضية من الضروريات والبديهيات ولا شك أن الطفرة في الوجود ضروري البطلان فيكون الأعلى والأشرف هو الأصل والقطب ، ولما دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الأنبياء أشرف وأكرم على الله سبحانه من كل المخلوقات من الجن والإنس والملائكة وغير هم ثبتت لهم رتبة القطبية ، ولما كان أئمتنا المعصومون عليهم السلام قد بلغ الله بهم أشرف محل المكرمين وأعلى منازل المقربين وأشرف درجات المرسلين حيث لا يلحقهم لاحق ولا يسبقهم سابق ولا يطمع في إدراك مقامهم طامع حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولاشهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دني ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق في ما بين ذلك شهيد إلا عرفهم جلالة أمرهم وعظم خطرهم وكبر شأنهم وجلالة قدرهم كانوا بذلك قطب الأقطاب فصار يدور عليهم  عليهم السلام كلما كان ويكون وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعدها في الجنة والنار أبد الآبدين ودهر الداهرين فوق النهاية واللانهاية ، ولما كان السافل لا يصل إلى ذات العالي وإنما حظه ظهوره بكينونته في كينونته قال تعالى (( روحك من روحي وطبيعتك من خلاف كينونتي ))1كان ظهورهم عليهم السلام في كل المراتب بتلك المراتب ، ألا ترى السراج فإنه لا يظهر في مقام الشعاع إلا بنفس الشعاع فالقطب للأشعة هو نفس النور الواحد الساري المنبسط في كل أقطار الأشعة وهو مثال السراج وآيته ودليله وأثره كما أن السراج مثال النار وآيتها ودليلها وظهورها ولكن الظهور لا فرق بينه وبين الظاهر فيه إلا أنه عبده وخلقه ، فكذلك ظهورهم عليهم السلام بالقطبية في العوالم كلها من

_____________________

1 علل الشرائع 10 , البحار 5/266 ح 5

عالم اللاهوت وعالم الأسرار وعالم الأنوار وعالم الأرواح وعالم الأشباح وعالم الطبائع وعالم المواد وعالم الأظلة وعالم الأجسام ، ولما كانت العوالم كلها في حركاتها المستديرة لها حركتان حركة ذاتية أولية إلهية وحركة ثانوية ذاتية تبعية , ولما كانت الأولى هي الحركة الجوهرية الحقيقية كان سيرها على القطب الحقيقي ، ففي عالم اللاهوت ظهور حقائقهم قطب لذلك العالم ، وفي عالم الأسرار ظهور عقولهم قطب له ، وفي عالم الأنوار ظهور أرواحهم النور الأصفر ، وفي عالم الأرواح ظهور نفوسهم الشريفة النور الأخضر ، وفي عالم الطبائع ظهور طبيعتهم الكلية النور الأحمر ، وفي عالم المواد ظهور موادهم الجسمية ، وفي عالم الأظلة ظهور ظلهم من فاضل شعاع نورهم ، وفي عالم الأجسام ظهور أجسادهم الطيبة بفاضل تشعشع لمعان أنوارهم وهذا هو الحكم الكلي المجمل ، وفي عالم التفصيل ظهور وظهور ظهور وظهور ظهور ظهور وهكذا إلى آخر المراتب والأحكام منتهى المقام ، ولذا تسيخ الأرض بأهلها إذا فقد جسد الإمام عليه السلام عن عالم الأجسام كما دلت الأخبار ووقع إجماع الفرقة الناجية عليه ، إلا أن هذه الظهورات شبحية ولايسعني إلان بيان تفصيل الكلام وتبيان المرام بمقتضى المقام لئلا يرتاب المبطلون وإلا هنا لطائف وإشارات عجيبة .

 

       وبالجملة فالبحبوحة التي هي الوسط والقطب كثيرة مختلفة متفاوتة المراتب بالعلو والسفل وهم عليهم السلام البحبوحة العليا والقطب الأعظم والعماد الأقوم وإليهم الإشارة بقوله عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

 

 

 

 

 

 

 

 

لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ }1 والشاهد على الناس لا يكون إلا المحيط بأعلاهم وأسفلهم وأوسطهم والناس أعمّ من الإنسان والأنبياء عليهم السلام والملائكة والجن وسائر المخلوقات كلهم لأن ما عدا الإنسان كلهم على هيئته وصورته كما قرر في محله ، ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول من أجاب الحق سبحانه بظاهره وباطنه وسره وعلانيّته من بينهم سلام الله عليه فكان صلى الله عليه وآله وسلم منتجبا منهم ومصطفى فيهم فصار نبيهم وسيدهم وفخرهم ، وذلك الانتجاب إنما كان بتحمله صلى الله عليه وآله وسلم حرفا واحدا دونهم من أحوال المبدأ الحق سبحانه وتعالى خاصة في معرفة التوحيد وهو علة الانتجاب وسر الانتجاب فلم يبلغ أحد منهم عليهم السلام ذلك الحرف وهذا سر أولية الإجابة بقابلية الاستفاضة وطواف الأسبوع حول جلال القدرة في ثمانين ألف سنة من سني السرمد وهو القدم الذي استخلصه الله سبحانه فيه كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة يوم الغدير في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( استخلصه في القدم على سائر الأمم على علم منه بأنه انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس وانتجبه آمرا وناهيا عنه أقامه في سائر عوالمه في الأداء مقامه إذ كان لا تدركه الأبصار ولاتحويه خواطر الأفكار ))2 وهذا القدم هو البحبوحة العليا وهي الأزلية الثانية والقدم الثاني ، وهو صاحب الأزلية الأولية على الحقيقة الواقعيـة وأشار إلى هذا الانتجاب بقوله الحق جل وعلا { وَاصْطَنَعْتُكَ

_____________________

1 البقرة 143

2 الإقبال 461

 

 

 

 

 

 

لِنَفْسِي }1لسر الاصطفاء ، فلما اصطنعه سبحانه لنفسه واصطنع الأشياء كلها له صار هو صلى الله عليه وآله وسلم علّة للموجودات كلها ومجلى ظهور الواحدية والوحدانية والأحدية والصمدية ، فالنفس علة وقطب له وهو علة وقطب الكائنات ، فالبحبوحة العليا كالقلب الذي هو القطب للقوى والمشاعر والمدارك والآلات والأعصاب والعضلات ، وكالشمس للكواكب والأفلاك السبعة وفيما سواها كالشمس للأشعة والمقابل للصورة المنطبعة في       المرآة ، وقطبه صلى الله عليه وآله وسلم هو النفس الذي اصطنع لها وهذا النفس هو المتجلي بالأحدية كما قال عليه السلام (( من عرف نفسه فقد عرف ربه ))2 ، ولما كان المتجلي إنما يظهر بالتجلي فيكون التجلي إنما يدور على المتجلي وهو النفس فكان هذا التجلي هو الكاف المستديرة على نفسها والنفس هي نفس الله والكاف هي كلمة الله والاستدارة إمداد واستمداد وإفاضة واستفاضة وهذا هو حقيقة الانتجاب ومعنى قيامه مقام الله سبحانه في الانتساب ، ولما كانت تلك النفس هي جلال القدرة التي كان يطوف حولها قبل خلق علي عليه السلام فلما خلق علي عليه السلام بقي يطوف حول جلال القدرة وهو صلى الله عليه وآله وسلم يطوف حول جلال العظمة ظهرت تلك النفس في علي عليه السلام فكان هو نفس الله ونفس رسوله وذات الله وذات رسوله كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله حكاية عن

_____________________

1 طه 43

2 شرح النهج 20/292

 

 

 

 

 

 

عيسى عليه السلام { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }1، ولا شك أن هذه النفس ليست ذات الله سبحانه إذ ليس فيها شيء لأنها صمد فتكون هي النفس المخلوقة ، وقد صرّح مولانا الصادق عليه السلام بذلك في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام برواية صفوان (( السلام على نفس الله القائمة فيه بالسنن ))2 وأما نفس رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكما قال سبحانه وتعالى { وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ }3 ولا نزاع بيننا وبين مخالفينا أن المراد من النفس في هذه الآية الشريفة هو علي عليه السلام فهوعليه السلام نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما ذات الله فكما في قوله عليه السلام في النفس الملكوتية الإلهية هي (( ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى من عرفها لم يشق أبدا ومن جهلها ضلّ وغوى )) ، وأما ذات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبقولـه عليه السلام (( أنا محمد ومحمد أنا )) ، وقد أشار مولانا الباقر عليه السلام إلى هذه الذات بقوله روحي فداه (( اخترعنا من نور ذاته وفوّض إلينا أمور عباده ))4 (( إن إلينا إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم ))5 وهذه الذات هي أمير المؤمنين فإن أنوارهم عليهم السلام إنما اخترعت من نوره عليه السلام كاختراع الحروف من الألف وهو سر عدم جواز تسميتهم بأمير المؤمنين ، وتلك الذات وتلك النفس إنما كانت خاصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأصل والمستقل فيهما وإنما ظهرتا في علي عليه السلام لكونه حامل اللواء ومكلم موسى عليه السلام في الشجرة إني أنا الله أي الظاهر لموسى بموسى بنوره عليه السلام وهو رجل من الكرّوبيين فتجلى علي عليه السلام لموسى عليه السلام في الشجرة عين تجلي الله له فيها لأن تجلي الله الأولي هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام هو نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومظهر آثاره وحامل لوائه وذلك الرجل الذي هو واحد من الكروبيين هو عين تجلي علي عليـه

________________________

1 المائدة 116           2 البحار 100/330 ح 29

3 آل عمران 61        4 البحار 26/14 ح 2

5 تفسير فرات 551 , البحار 7/202 ح 88

السلام لموسى وذلك الكروبي هو نفس موسى عليه السلام لقوله عليه السلام (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها ))1 فافهم فإني أظهرت السر ولا تقل أنه غلا بل ولعمري ذلك عين التقصير أما سمعت ما قال مولانا الصادق عليه السلام لما سئل عن الكروبيين قال عليه السلام (( قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لوقسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ، ثم قال : أن موسى لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا ))2 وإذا علمت أن التجلي للشيء يمتنع إلا أن يكون بنفس ذلك الشيء يظهر لك صدق ما ذكرنا فافهم راشدا مهديا موفقا ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المنتجب من البحبوحة العليا وهي الأسماء الحسنى والأمثال العليا والكبرياء والآلاء والعزة والقدرة والملك والسلطان فإن الأشياء من الأكوان والأعيان ومستجنات غيوب الإمكان إنما تحققت بها وهي جهات الظهور المطلق كما قال سيد الساجدين (ع)  (( اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان الممتنع بغير جنود ولا أعوان والعز الباقي على مر الدهور وخوالي الأعوام ومواضي  الأزمان والأيام عزّ سلطانك عزا لا حد له بأولية ولا منتهى له بآخرية واستعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده ولا يبلغ أدنى ما

____________________

1 شرح النهج 13/44

2 بصائر الدرجات 69

 

 

 

 

 

 

 

استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين ))1وذلك للقيومية المطلقة والقطبية العامة الشاملة والمنتجب من تلك الآلاء والأمثال والأسماء هو أكرم الأسماء إلى الله وأحبها إليه وأقربها منه وسيلة وأشرفها عنده منزلة وأجزلها لديه ثوابا وأسرعها في الأمور إجابة وهوالاسم الأعظم الأعظم الأعظم ، والمنتجب  من هذا الاسم هو الاسم المكنون المخزون الأعظم الأعز الأجل الأكرم الذي يحبه ويهواه وهو الذكر الأجل الأعلى الأعلى الأعلى ، وهو مقام ذكر السجود في الصلاة وهذا هو الاسم المكنون المخزون الذي استقر في ظله فلا يخرج منه إلى غيره فهو المنتجب من البحبوحة العليا ، أو أن البحبوحة العليا هي الكلمة التامة التي انزجر لها العمق الأكبر وخضعت لها السموات والأرض وركدت لها البحار وجرت بها الأنهار ورست بها الجبال وتمت بها الغدو والآصال , وهي الكلمات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر ، وهي الكلمات التي تلقاها آدم من ربـه وهي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم فأتمّهن فصار إماما ، وهي الكلمات التي لو كان ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ، وهي الكلم الطيب الذي يصعد إلى الله سبحانه لا سواها ، وهي الكلمة الطيبة هي كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها ، وهي كلمة الله العليا ، وهي كلمة واحدة مشتملة على حروف كلّها كلمة مستقلّة ، فالجمع باعتبار جعل كل حرف كلمة على حدة ، والأفراد باعتبار جعل المجموع كلمة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا

___________________

1 مصباح الكفعمي 55 , مصباح المتهجد 188

 

 

 

 

 

الشجرة وعليّ أصلها وفاطمة فرعها والأئمة أغصانها ))1ففاطمة عليها السلام هي تمام الكلمة ولذا كان اسمها الشريف ( الطاء ) مع كماليها الظهوري الشعوري فالأول يستنطق ( مه ) والثاني ( فا ) فعند الاجتماع  صارت فاطمة عليها السلام ، و (الطاء ) مجمع مراتب الآحاد ومظهر تمام المبادئ في الأعداد من الكونية والحرفية وكذلك هي صلوات الله عليها وقد صرّح الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه العزيز بقوله { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

___________________

1 لم نقف على هذه الرواية ووجدنا ما يقرب منها وهو ما ذكر في إرشاد القلوب ص 145 (( أنا الشجرة وفاطمة فرعها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا أغصانها ))

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حَكِيمٍ }1 وفسّره الإمام عليه السلام بالأئمة الطاهرين الأربعة  عشر المعصومين عليهم السلام فقال عليه السلام (( إن حم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكتاب المبين هو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام إنا أنزلناه يعني عليا عليه السلام في ليلة مباركة وهي فاطمة عليها السلام ))2لكون الليل منسوبا إلى القمر وهو مربي الصور والهيئات والحدود والتعينات والحياة التي هي الأم مع أنه بارد رطب كطبع المرأة وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وحرفها ( الهاء ) وقد ظهرت في آخر اسمها فيها يفرّق كل أمر حكيم أي في فاطمة عليها السلام يمتاز كل أمام حكيم بعد إمام حكيم ، وباقي الأئمة عليهم السلام حروف الكلمة على تفاوت مراتبها فإن الحروف تختلف بالشدة والضعف والجهر والهمس والإطباق والانفتاح والاستعلاء والتّسفّل وتختلف في المراتب والدرج والدقائق والثواني والثوالث والروابع والخوامس ، وهكذا اختلاف مراتب تلك الحروف العاليات عليهم السلام وعليّ أمير المؤمنين عليه السلام وهو الألف والنفس الرحماني الأولي والثانوي والثالثي والرابعي وهكذا ، فتشعّبت تلك الحروف منه عليه السلام كتشعّب ___________________

1 الدخان 1 _ 4

2 لم نقف على هذه الرواية بالنص ولكن وقفنا على ما يقرب منها ففي الكافي 1/479 ح 4 , وفي تفسير الصافي 4/404 أن رجلا نصرانيا سأل الإمام الكاظم عليه السلام عن تـأويل هذه الآيات فقال عليه السلام (( أما ( حم ) فهو محمد صلى الله عليه وآله وهو في كتاب هو الذي أنزل عليه وهو منقوص الحروف , وأما الكتاب المبين فهو أمير المؤمنين علي عليه السلام , وأما الليلة ففاطمة عليها السلام , وأما قوله ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) يقول يخرج منها خير كثير , فرجل حكيم ورجل حكيم ورجل حكيم , فقال الرجل : صف الأول والآخر من هؤلاء الرجال , فقال : إن الصفات تشتبه , ولكن الثالث من القوم أصف لك ما يخرج من نسله وإنه عندكم لفي الكتب التي نزلت عليكم إن لم تغيروا وتحرفوا وتكفروا وقديما ما فعلتم )) . 

 

الأغصان من الشجرة فهو أميرهم وسيدهم ومولاهم وفخرهم وشرفهم عليهم السلام ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النقطة الحقيقية الدائرة عليها تلك الرحى وقد قال الشاعر :

       قد طاشت النقطة في الدائرة          ولم تـزل في ذاتـها حائـر          

      محجوبـة الإدراك عنها بها            منها لهـا جارحـة نـاظرة

      سمت على الأسماء حتى لقد           فـوضت الدنيا مع الآخر ة

 

       وتلك النقطة هي حجاب الله الأعظم المنتجبة المختارة المصطفاة من الألف المختار المرتضى من الحروف المختارة من الكلمة المختارة عن كل ما عداها ، بل لا يقال للكلمة بالنسبة إلى الدلالة وما سواها من آثارها وأفعالها وشئونها اختيار وانتجاب لأن الوجود لا ينتجب من العدم فافهم ، ولذا خصّ الإمام عليه السلام الانتجاب في البحبوحة العليا إذ ليس لتلك البحبوحة  بعضها مع البعض الآخر تأثير وفعل وانفعال وإنما هو كالضوء من الضوء ، فالانتجاب يتحقق فيما إذا كان في صقع واحد ومقام غير متعدد لا في أصقاع مختلفة بحيث كل صقع يعدم عند الآخر ، وهذا الانتجاب إنما صار علّة دوران رحى الكائنات عليه ولذا لقّب صلى الله عليه وآله وسلم بالمصطفى فإذا أطلق لا يراد به سواه كما لقّب عليّ عليه السلام بالمرتضى فإذا أطلق لا يراد به سواه تفسيرا لقوله عز وجل { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }1 والمرتضى من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا علي عليه السلام وهذا الغيب الذي أظهره عليه عليه السلام هو الرسول الذي هو المصطفى وهو المنتجب في حجاب الغيب ، وهذا الاصطفاء إنما نشأ من المحبة فالمحبوب هو المصطفى للحب لا غير والمحبّة الكاملة المطلقة سّيما المحبة الإلهية المستدعية للاصطفاء لا تكون إلا بميل المحبة غراما ومحبة وصبابة وشغفا إلى جهة المحبوب فلا يكون المحبوب محبوبا مطلقا إلا إذا كان محبا مطلقا ولا يكون المحب محبا صادقا إلا إذا كان محبوبا فصار الأمر دوريا ، ولا تتم المحبّة الكاملة إلا إذا تخلل المحب في كل جزئياته وأجزائه وقواه ومشاعره ويخلص

______________________

1 الجن 26 _ 27

عن كل ما سوى المحبوب ، فإن بلغ مقاما لا يستدعي في قوام كونه ووجوده كما كان في وجدانه وشهوده سوى ذكر المحبوب فهو منتهى المقام في المحبة وغاية المنى في المعرفة فهو لم يزل مع المحبوب مؤثرا كلما سواه عليه في وجدانه ووجوده وإحساسه وشهوده ، فإن كان المحبوب باقيا ببقاء الأبد فكذلك محبه لأنه مصطفاه ومجتباه ، ولما كانت المحبة هي علّة الخلق والإيجاد كما دلّ عليه (( فأحببت أن أعرف )) كانت المحبة أول ما ظهر ووجد ، ولو كانت المحبة الإلهية ليست ذاتية وإنما هي خلقية كانت محبّته عين محبوبه وذلك أول ذكر الشيء وكونه والمحبوب الثابت له المحبة لا يكون كذلك إلا إذا بلغ مقام المحبّة ولا تصفو له المحبة إلا إذا بلغ مقام تلك النقطة فهناك يكون محبوبا ومحبا ومحبة فاتحدت الأمور في عين الاختلاف واختلفت في عين الائتلاف فيبلغ حينئذ مقام (( فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق )) الخاص بذلك الخلق المحب لله سبحانه ، ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مبدأ الإيجاد وعلّة الانوجاد وتخللت في كله محبة الله سبحانه بحيث استغرق في بحر مشاهدة جمال المحبوب وجودا ووجدانا ولذا قلنا أنه من الوجود المطلق كما قال سبحانه       ‏{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }1 فلا يستدعي شيئا سوى فعل الحق سبحانه في كينونة ذاته ووجوده فبلغ مقام المحبة بل ما نزل عن مقامها مذ خلق صلى الله عليه وآله وسلم فأحبه الله سبحانه فهو صلى الله عليه وآله وسلم محب ومحبوب ومحبوب ومحب وهو مقام (( فأحببت أن أعرف )) فلما بلغ نهاية المرتبة في المحبة وتعدى فيها مقام النهاية وبلغ إلى اللانهاية كما قال عز وجل (( ليس لمحبتي غاية ولا نهاية ))2 سمي صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو اسم المبالغة في الفاعل والمفعول والأمران مرادان حقيقة ، والمبالغة لبيان تعديها طور النهاية ولذا ترانا نعد من أسماء الوجود الوجود المطلق الاختراع والابتداع وعالم فأحببت أن أعرف والحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يراد إذا أطلق الحبيب إلا هو صلى الله عليه وآله وسلم فهوالحبيب على الإطلاق بكل وجه وبكل معنى مما سطرنا

___________________

1 النور 35                  2 إرشاد القلوب 199

وما لم نسطر ومما علمنا ومما لم نعلم ، فلما صفت المحبة بحقائقها وكل مراتبها على جهة الكمال له صلى الله عليه وآله وسلم اختص بالعقل الفعّال كما يأتي إنشاء الله في قوله تعالى (( ولا أكملتك إلا فيمن أحببت ))1واختص أيضا بالاصطفاء والصفوة فكل مصطفى وصفيّ فإنما هو بفاضل اصطفائه وصفائه وبقدر قربه منه ، وهو وأهل بيته صلوات الله عليهم عباد الله الذين اصطفى في قوله عز وجل { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى }‏2 ، وأما قوله عز وجل {* إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }3 فإن أريد به آدم الأول ونوح الأول وإبراهيم الأول موسى الأول وعيسى الأول والأولية الإجمالية أوالتفصيلية فصفى الأمر ، ومرادي بالإجمال والتفصيل هو المبدأ والمشتق فإن الملائكة الكروبيين الذين قد تقدم ذكرهم من أنهم قوم من شيعة أل محمد عليهم السلام عددهم عدد الأنبياء وأسماؤهم أسماء الأنبياء فإن ذلك الرجل الذي تجلى لموسى فخرّ موسى صعقا اسمه موسى وأظن أني رأيت خبرا خاصا ناصا بما ذكرت من التسمية وأما العمومات فكثيرة وهذا  هو مقام التفصيل فيكون ذلك الرجل آدم الأول والآخر نوح الأول وهكذا وهؤلاء هم الصفوة الحقيقية لأنهم مثال المصطفى الحقيقي الغير المشوب بشيء من التعين والغيرية بل هونفس المثال مع قطع النظر من الحدود والأعراض ، والمثال ليس إلا حكاية الممثل ووصفه وآيته وليس إلا بيانه ودليله فهوعين الصفوة والاصطفاء ، وأما مقام الإجمال فسيأتي إنشاء الله شرح حقيقة الحال في قولهعليه السلام في هذه الخطبة المباركة (( أنا موسى وأنا عيسى )) وأمثال  ذلك فترقب .

 

       وإن أريد به الأنبياء المعروفون عليهم السلام فإنما اصطفاهم الله سبحانه لكونهم حملوا نوره وأدوا أمانته وثبتوا على المحبة والمودة وعزموا على العهد المأخوذ عليهم بالولاية وفرض الطاعة فجرى فيهم ما قال سبحانه في

_________________

1 كنز الفوائد 1/57                 2 النمل 59

3 آل عمران 33 _ 34

الحديث القدسي (( يا بن آدم أطعني أجعلك مثلي ))1 فافهم .

 

       وأما آدم عليه السلام فهو وإن لم يعزم { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }2 لكنه لحمل ذلك النور الشعشعاني الذي اقتضى سجود الملائكة له بلغ مقام الاصطفاء بالتبعية .

 

       وبالجملة فهو صلى الله عليه وآله وسلم المصطفى والمنتجب لكونه حبيبا ولا يصح إطلاق الاصطفاء والانتجاب والحبيبية على الحقيقة والإطلاق إلا عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الـذي ذكرنا وجه من وجوه البواطن .

 

       وأما مقتضى تلك البواطن من الظواهر فاعلم أنه عليه السلام وجعلني الله فداه أراد أن يبين شرائط الرسالة والنبوة والخلافة وصفاتها وأحوالها وأن كلها على كمال ما ينبغي بل أشرف من ذلك وأتم وأكمل موجودة و ثابتة في نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك لأن النبوة والرسالة هي خلافة الله والقيام مقام الله سبحانه في التبليغ والأداء إذ على الله البيان والإيضاح بالحجة والبرهان على جهة الفضل والامتنان لأنه خلق الخلق رحمة وتفضلا فلم يجعلهم في الحيرة والضلالة لينقص ما خلق ويضيع ما أوجد سبحانه سبحانه بل له الملك الكامل والفعل التام الشامل ، ولما كان الحق سبحانه في الأزل منزّها عن الاقتران والحدوث والتنزّل إلى المقام الأدنى وورود الأحوال بالأعمال والأقوال ، وشرط الأداء والتبليغ أن يكون في مقام المبلَّغ إليه وإلا لامتنع التبليغ والتأدية وجب أن يختص بذلك من عباده في عالم الإمكان من يصلح للظهورات المختلفة والبروز بالتطورات المتشتتة والتقلب في الصور العديدة حيث ما اقتضت المصلحة من أحوال الكينونة البشرية لأن حكم الله سبحانه على خلقه على مقتضى صفاتهم الكلية والجزئية وإلا فالذات من ____________________

1 في إرشاد القلوب قال تعالى (( يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون )) .

2 طه 115

حيث هي هي لا حكم لها إلا حكم الإذعان والإقرار بالأحدية المطلقة ولم  يتغير هذا  الحكم ولم يتبدل ، وأما الصفات والأطوار فمن جهة أنها مقتضى الحدود والصور فتختلف أحكامها كما قال الله سبحانه { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }1‏ والمبلّغ لو لم يظهر بتلك الصفة لما يصح التبليغ وامتنع التأدية ، فوجب أن يكون ذلك التبليغ ذاتيا في ذاته غير منجمد على صفة من الصفات واعتبار من الاعتبارات وحيثية من الحيثيات وإلا لاختص بتلك الصفة ولأجرى عليه حكما فإن كانت حسنة كاملة ولطيفتها زائدة يختص فيما فضل من تلك اللطيفة بالتبليغ والتأدية إلى المناسب لتك الصفة حسب عمومها وخصوصها في مرتبة مقامها فيكون مبلغا جزئيا لا كليا حقيقيا وإلا فيختص بنفسه ولايعم غيره ، وأما المبلغ الكلي فيجب أن يظهر في الوجود كعموم قدرة الله سبحانه ويكون متساوي النسبة مع كل الرعية في طبائعها وصفاتها وأحوالها ليعطي كل ذي حق حقه مما أودع الله سبحانه في سره من مكنون علمه ، ولا تتساوى هذه النسبة إلا إذا كان في ذاته معتدل الطبيعة ومستقيم البنية في الباطن والظاهر بحيث لا تزيد طبيعة على أخرى لتغلب ويجري عليه حكم الطبيعة الغالبة كما في سائر الخلق بل تكون العناصر فيه متساوية النسبة وتكون له طبيعة خامسة غير الطبائع الأربع ليجري حكم كل طبيعة عند اقتضاء المصلحة لذلك بالعوارض الخارجة ، ولا تتساوى نسبة الطبائع إلا إذا خلص وصفى ورقّ ولايكون هذا الخلوص والتصفية إلا إذا كان نظره مقصورا في عالم غير عالم الطبائع والمزج  والتركيب ، إذ لوكان النظر مقصورا عليه ولا شك أنه عالم التضاد والاختلاف وعدم الائتلاف فلا بد من استيلاء أحدها على الآخر وإتيان حكم الغلبة لتحصيل المزاج ، ولذا ترى الأطباء أحالوا تساوي الطبائع في المركب لقصر نظرهم إلى عالم الكون والفساد وعالم التركيب والتضاد ، وأما الذي نظره قاصر إلى عالم البساطة ومقام اللانهاية ولم يزل مع الملك القهار الجبار المتكبر المؤلف بين المتعاديات والمفرق بين المتآلفات فيستولي عليه نور

__________________

1 الرعد 11

البهاء والكبرياء والعظمة فتتألف الطبائع والعناصر والقوى المتضادة بحيث لا تغالب لبعضها على بعض ولا تضاد في إظهار الأثر فيستوي الذئب والغنم في المرعى وهو قـوله عز وجل { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ }1 ‏، وهما الضدان الماء العذب الفرات والماء المالح الأجاج فاختلطا فالحاجز من قدرة الله سبحانه منع أحدهما على الغلب والبغي على الآخر  والآخر عليه ليحصل من المجموع طبيعة أخرى وطعم ولون آخر أو تغلب إحدى الطبيعتين ، ومثاله فيك موجود فإنك تعصي وتطيع وإنك مركب من نور وظلمة لكن ما غلب النور على الظلمة في أصل التركيب لئلا يمكن أن يصدر منه الطاعة في الوجود العيني ولاالعكس لئلا يمكن العكس ، كما أن العسل ما يبرد أبدا وإن كان فيه من الطبيعة المائية لكنها مغلوبة ، والكافور ما يسخن أبدا وإن كان فيه من الطبيعة النارية ، وكذا ما امتزج النور والظلمة بحيث يحدث عن اجتماعهما أمر ثالث كتركيب الخل والعسل فيحصل من تركيبهما أمر ثالث يخالف طبيعته وفعله وقوّته الجزأين لأنه يقطع الصفراء بخلاف العسل فإنه يزيد مع ولو كان كذلك لوجب أن لا يصدر من الإنسان إلا الطاعة المشوبة بالمعصية والمعصية المشوبة بالطاعة بل لا تكون طاعة لأنها من اقتضاء النور ولا تكون معصية لأنها من اقتضاء الظلمة بل يكون أمرا ثالثا لا طاعة ولا معصية وهو ممتنع في حق الإنسان بل كل شيء هذا صنع الله ، فإذا بلغت القدرة إلى أن يبقى مع المزج والتركيب قوة الأجزاء على ما هي عليه قبل التركيب ويتم التركيب بذلك بحيث يصدق على المجموع اسم واحد ويجري عليه كل أحكام الوحدة مع بقاء صرافة حكم الكثرات على ما هي عليه من الاقتضاءات فبأن يركب من الأجزاء المتساوية في الطبيعة والوزن والتقدير الطبيعي أخرى والقدرة تتعلق عليه بالطريق الأولى ، فلا معنى لإنكار الأطباء ذلك نعم لما لم ينظروا إلى جهة الربوبية والسلطنة الكاملة العامة عظم في نظرهم ذلك فصغروا عظمة الله سبحانه .، فعلى ما قررنا وجب أن يكون المبلغ الكلي في أكمل مقام اعتدال الطبيعة في كل المراتب من الاعتدال

_________________

1 الرحمن 19 _ 20

الحقيقي لا الاضافي وقد قلنا أن ذلك لا يكون إلا إذا سطع عليه نور العظمة والجلال والبهاء ويكون صاعدا مقام الأسماء الجزئية والكلية فيتجلى عليه نور البساطة والوحدة إلى أن تفنى مقام الكثرة الوجودية والوجدانية فيستولي عليه نور الجمال والجلال كما قال الشاعر :

      رقّ الزجاج ورقّت الخمـر       فتشابها وتشاكل الأمـر

      فكأنمـا خمـر ولا قـدح        وكأنما قـدح ولاخمـر

 

       ويسبح في لجة بحر الأحدية وطمطام يمّ الوحدانية فيحكي المثال فعند ذلك تكون الطبائع أحدها عين الأخرى تقول نار وماء وهواء وتراب لكن كل واحد منها عين الآخر فالتراب هو الماء والماء هو الهواء والهواء هو النار والتعدد تعبيري لظهور آثارها في المراتب الكونية أي المبلغ إليها وهذا كمال مقتضى العبودية فيتجلى عليها أحكام الربوبية فلا يقال بشر لظهور أحكام الربوبية فيه ولايقال رب تعالى عن ذلك لأنه عبد مخلوق ونور مرزوق وقد قال الشاعر:

         إن قلت ذا بشر فالعقل يمنعني    وأختشي الله من قولي هـو الله

              

       وهذا  معنى قـوله تعالى في وصف الشجرة المبـاركـة الزيتـونـة { لَّا شَرْقِيَّةٍ }‏ أي ليست بقديمة لأنها حادثة مخلوقة مقترنة منظورة بالأطوار بل شجرة متفرعة على الغصون والأصول والأوراق والأثمار وليس هذا صفة القديم تعالى شأنه { وَلَا غَرْبِيَّةٍ }‏ أي ولاحادثة لأن الحادث مختلف متكثر متعددة جهاته وروابطه فان هنالك مضمحل وليست هذه المذكورات صفة تلك الشجرة لأنها وجه الله الذي لا يهلك ويد الله التي لا تغلّ ولا تفنى ونور الله الذي لا يطفى وعين الله الشاهدة على الورى { يَكَادُ زَيْتُهَا } أي قابليتها للوجود { يُضِيءُ }‏ أي يظهر في عالم الكون لكمال الخلوص والصفاء وعدم اقـتضائها شرطا ومتمما ومكملا غير مصدره وموجده { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ

 

 

 

نَارٌ }1الإيجاد والنارمن تلك الشجرة والزيت أيضا من تلك الشجرة كما نص عليه الحق سبحانه في كلامه العزيز ، وهذا هو مقام البرزخية الكبرى وهو مقام فاعل الفعل اللازم مع أن الفاعل معمول للفعل والفعل عامل فيه والعامل أشرف من المعمول كما بينا فراجع ونبين إنشاء الله فترقب .

 

       فلما استوت قابليته واعتدلت طبيعته على ما وصفنا لك ظهر في البحبوحة الكبرى العليا وانتجبه الله منها وهذا الظهور في هذا المقام ما تحقق إلا بكمال العبودية والعبودية المطلقة تنافي الغفلة ولو يسيرة ، لأنه في مقام الغفلة لا يرى لنفسه عبودية فضلا عن المخالفة فوجب أن يكون معصوما مطهرا من الذنوب مبرأ من العيوب من الظاهرية والباطنية والسرية والجهرية وتمت شهادة الله سبحانه له بذلك حيث قال { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ }‏2 وقوله تعالى        { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ** وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1 والأصل في ذلك هو اعتدال الطبيعة وتصفية السريرة .

 

       ففي المقام الأول الذي هو مقام النقطة الحقيقية المستديرة على نفسها لا كلام خوفا من فرعون وملئه ، وأما حال التنزل إلى مقامات الإرسال ولما كانت المادة الإلهية الأصلية في كمال النورانية والصفاء فوق مقام الحد والانتهاء ما غيرتها الحدود والتعينات والظهورات واستولت عليها آثارها فظهرت في كل عالم وكل مقام طيبة طاهرة حتى انتقلت إلى الأصلاب والأرحام فحفظت بفاضل نورانيته الآباء والأمهات عن مخالفة الحق سبحانه لأنه نور يطرد الظلمة بفاضل ظهوره ، وإن كان ظهوره بالظهور وإشراقه بالنور فكانت الطائفة المنسوبة إليه في كل زمان وأوان أشرف الطوائف

__________________

1 النور 35                   2 الأنبياء 19

3 الأنبياء 26 _ 29

لسريان ذلك النور إليها من جهة الانتساب فكان آباءه في عالم البشرية لاختلاص الصفوة البشرية المنسوبة إلى النور المشرق من صبح الأزل كلّهم طيبين طاهرين منزهين عن كل دنس ورجس ومن أهل التوحيد والتسليم لله سبحانه لبقاء ذلك النور في الأصلاب أكثر وأشد وتخلله في كل أجزاءه وقواه ومشاعره وفي الهضمات الأربعة  فأثرت نورانية الجسد في الجسد والروح المتعلق به في الروح ، وأما أمهاته صلى الله عليه وآله وسلم فبقدر حملهن إياه صلى الله عليه وآله وسلم فهنّ معصومات بمقدار ذلك الزمان لإشراق النور الإلـهي عليهن وهو معنى قوله عليه السلام في الزيارة (( أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم  تلبسك من مدلهمات ثيابها ))1حتى انتهت مراتب الآباء والأمهات الظاهرية إلى أشرف الطوائف وأحسن القبائل اتفاقا وإجماعا من الناس ، فإن العرب لم يزل أشرف من العجم من جهة النوع كما نبين إنشاء الله ، وأشرف طوائف العرب قريش كما هو الظاهر ولم تزل تفتخر قريش على غيرها من الطوائف وهم لا ينكرون ذلك حتى أن ابن أبي قحافة إنما احتجّ عليهم وتقمص بالخلافة على أنه من قريش فلا يترأس عليها أحد ، وأشرف طوائف قريش بنوا هاشم وعبد الله وأبو طالب من سادة بني عبد المطلب كما هو المعلوم المذكور في كتب السير والتواريخ ، فهذه هي البحبوحة الكبرى العليا ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام في وصف الإمام عليه السلام (( لا يسبقهم أحد في نسب ولايدانيهم في حسب البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرضا من الله عز وجل شرف الأشراف والفرع

________________

1 زيارة وارث

 

 

 

 

من بني عبد مناف ))1فلما انتجب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطائفة الشريفة في عالم البشرية الظاهرية قطع حجة كل محتج وظهر بالحجة البالغة إذ لم يقدروا على إنكاره بالحسب ولا بالنسب ولا بالشرافة ولا بالسيادة ولا بالطهارة لم يعرفوا كمالا إلا وقد وجدوا عنده صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه وأسناه ولم يتخيلوا مقاما إلا وقد وجدوا عنده أقصاه ، فعرفوا أنه خليفة الله فلم يبقى لهم إلا الإقرار به أو الإنكار له بعد المعرفة والجحود بعد العلم قال الله تعالى { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ

__________________

1 البحار 102/187 ح 6

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْكَافِرُونَ }1وقال { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }2 بخلاف ما إذا كان يعصي أولا يكون من الذروة الأعلى بل يكون من اللئام الأراذل فإنه حينئذ يكون الحجة عليه للعارف والجاهل ، أما الجاهل فإنه إذا وجد أنه من اللئام وليس من الطائفة الكرام تشمئز نفسه وتنبو طبيعته عن الإقرار به والانقياد له والاعتراف بالرقية والعبودية والطاعة له ويشقّ عليه انقياد ما هو في الحسب والنسب أشرف منه وهذا  يبعده في أول الأمر عن الانقياد ، وكذلك إذا رآه يعصي في صغره أو كبره قبل نبوته أو بعد نبوته لم تطمئن نفسه عليه ولم  يركن لقبول قوله والاعتقاد بما يخبر عن ربه وسكون القلب عند أقواله وأفعاله إذ له مناسبة مع الشيطان فلم يأمن من أن يتسلط عليه ويفسد عليه أمره ودينه وإيمانه { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث }3 ، ذلك وله أن يقول لو أن الله سبحانه جعل النبوة والرسالة في طائفة شريفة طيبة طاهرة معروفة بالخير والصلاح والسّؤدد والشرف وفي رجل طيب طاهر معصوم منزه عن القبائح والفواحش ما ظهر منها وما بطن كان أحسن وأوفق بالقبول وأحرى بالصواب والسداد , ولا شك أن ذلك أمر ممكن والله سبحانه قادر عليه فلا يعدل عما هو الأحسن إلى الحسن لو فرضنا ذلك حتى لا يقال لو كان كذا لكان أحسن وكان في الواقع أحسن ولو لم يكن هنا مانع أقوى إلا العاجز تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فدل على أن الذي يدعي النبوة أو الولاية أو الخلافة وهو يعصي أو كان كذلك أو يكون من أرذل الطوائف وأخسها كاذب في دعواه مفتر في مدعاه ليس مبعوث من الإلـه الحي القيوم المنزه عن كل نقص ووصمة وعيب ، ورسوله وجهه وجهته ودليله فلوكان ناقصا ولو كان بوجه من الوجوه لدل على نقصان ذي الوجه سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا ، وأما العارف

___________________

1 النحل 83               2 النمل 14

3 الأعراف 175 _ 176

الناظر بنور الله المستدل بدليل الحكمة فيقطع بأن الرئيس في التبليغ هو الرئيس في التكوين والإيجاد وهو كان مبلغا ومترجما للوحي الوجودي في العالم الأول إلى أن ظهرت الصفات وتكثرت الشئون والإضافات فاقتضى كمال الصنع والإيجاد التكليف والتبليغ الوصفي والظاهر عنوان الباطن والصورة مثال الحقيقة { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }1 فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك المبلغ في كمال مرتبة النورانية وتكون نسبته إلى رعيته نسبة السراج إلى الأشعة فهومنزه عن كل النقائص والرذائل والكدورات التي في الرعية بل عين كمالات الرعية ونورانيتهم هو بلوغهم مقام النور الإلهي الظاهر فيهم المشرق من إنية الأنبياء فأين توصف الأنبياء بالنقائص الموجودة في رتبتهم ، وذلك النبي إذا تنزل بنوره وظهوره في المراتب النازلة لتتميم الرعية وتكميلهم وتبليغهم إلى غايـاتهم ونهايات كمالهم فهوفي كمال النورانية ، فيطهر آباءه وأمهاته وقبيلته وطوائفه وكل من ينتسب إليه في الجنس والنوع عن الرذائل والدناءات والكدورات والكثافات بفاضل نورانيته كما عرفت آنفا ، ومثل النبي الوصي لأنّ حكمهما واحد وأمرهما واحد ومقتضاهما واحد فإذا وجد أحدهما أو كلاهما من الطائفة الغير المعروفة أو اللئيمة والدنيئة أو أنهما أو أحداهما يعصي مثل سائر رعاياه في مقام البشرية بما هو معصية للرعية يقطع بأنه كاذب لئيم ومفتر خبيث لأن الأثر يدل على المؤثر وإليه أشار ابن أبي الحديد في قصيدته إلى أن قال :

       فتى لم يعرّق فيه تيم بن مـرة        ولاعبد اللات الخبيثة أعصــر 

وما كان معزولا غداة بـراءة        ولاعن صلاة أمّ فيهــا فاخرا

وما كان يوم الغار يهفو جنانه        حذارا ولا يوم العريش تسـترا

______________________

1 الملك 3

 

     

     

      

قوله عليه السلام وأرسله في العرب العرباء

 

فأتى بعد الانتجاب المنتج من العبودية بذكر الإرسال لبيان قوله أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء ، وهذه  الرسالة كلية عامة مطلقة شاملة لكل من ذرأه الله وبرأه من الأعراض والجواهر والماديات والمجردات والصفات والذوات وكينونة الاقتضاءات ، ولهذه الرسالة مقامات كثيرة ومراتب عديدة يضيق بذكرها الدفاتر إلا أني أذكر في هذا المقام إشارة إلى ذلك المرام ما ذكره شيخي ومولاي ومعتمدي وأستاذي أطال الله بقاءه وجعلني في كل محذور فداه في شرحه الشريف على الزيارة الجامعة الكبيرة عند قوله عليه السلام (( وموضع الرسالة )) فإن ما ذكره أطال الله بقاه وافية كافية لمن فهم الكلام وأنا أنقل كلامه الشريف بلفظه وهو وإن عمم الحكم ليشمل الأئمة الطاهرين عليهم السلام لكن الحكم واحد فإن الوصي بدل للنبي في كل الأحكام فالتبعية بدلية .

 

فقال سلمه الله تعالى ( ولهم في محل الرسالة أربعة مقامات .

 

المقام الأول : مقام السر المقنع بالسر ، والثاني مقام المعاني وهو مقام سر السر ولثالث مقام الأبواب وهو مقام السر والسفارة والوساطة والترجمة والرابع مقام الإمامة وقد أشار الصادق عليه السلام إلى هذه المواضع الشريفة والمقامات المنيفة كم رواه محمد بن الحسن الصفار في بصائر الدرجات عنه عليه السلام (( إن أمرنا هو الحق وحق الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر

 

 

 

 

 

 

 

وباطن الباطن وهو السر وسر السر وسر المستسر وسر مقنع بالسر ))1فأشار إلى المقام الأول بقوله عليه السلام (( وسر المستسر وسر مقنع بالسر )) وإلى المقام الثاني بقوله عليه السلام (( وباطن الباطن وسر السر )) وإلى المقام الثالث بقوله عليه السلام (( وباطن الظاهر وهو السر )) وإلى المقام الرابع بقوله عليه السلام (( وهو الظاهر )) وإلى إلاخيرين بقوله عليه السلام (( وهو الحق )) وإلى إلاولين بقوله عليه السلام (( وحق الحق )) وعنه عليه السلام (( إن أمرنا سر في سر وسر مستسر وسر لا يفيد إلا سر وسر على سر وسر مقنع بسر ))2 )3 .

 

       إلى أن قال سلمه الله ( وفي رواية جابر الإشارة إلى الأولين ، روي عن جابر بن عبد الله عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال (( يا جابر عليك بالبيان والمعاني ، قال فقلت : وما البيان والمعاني ، قال : قال علي عليه السلام أما البيان فهو أن تعرف الله سبحانه ليس كمثله شيء فتعبده ولا تشرك به شيئا ، وأما المعاني فنحن معانيه ونحن جنبه ويده ولسانه وأمره وحكمه وعلمه وحقه إذا شئنا شاء الله ويريد الله ما نريده فنحن المثاني الذي أعطانا الله نبينا ونحن وجه الله الذي يتقلب في الأرض بين أظهركم فمن عرفنا فإمامه اليقين ومن جهلنا فإمامه السجين ولو شئنا خرقنا الأرض وصعدنا السماء وإن إلينا

____________________

1 بصائر الدرجات 29

2 بصائر الدرجات 28

3 شرح الزيارة الجامعة الكبيرة 1/20

 

 

 

 

 

 

 

إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم )1 .

 

       إلى أن قال سلمه الله ( وذكر الإمام سيد الساجدين عليه السلام الإشارة إلى الكل على ما روي في كتابه أنيس السمراء وسمير الجلساء قال حدثني أحمد ابن عبد الله قال حدثني سليمان بن أحمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا إبراهيم بن محمد الموصلي قال أخبرني أبي عن خالد عن القاسم عن جابر ابن يزيد الجعفي عن علي بن الحسين عليهما السلام في حديث طويل (( ثم تلى قوله تعالى { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }2 وهي والله آياتنا وهذه إحداها وهي والله ولايتنا يا جابر إلى أن قال عليه السلام : يا جابر أو تدري ما المعرفة ، المعرفة إثبات التوحيد أولا ثم معرفة المعاني ثانيا ثم معرفة الأبواب ثالثا ثم معرفة الإمام رابعا ثم معرفة الأركان خامسا ثم معرفة النقباء سادسا ثم معرفة النجباء سابعا وهو قوله عز وجل { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }3 ‏وتلى أيضا { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }4 يا جابر إثبات التوحيد ومعرفة المعاني ، أما إثبات التوحيد فمعرفة الله القديم الغاية الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وهو غيب باطن كما سنذكره كما وصف به نفسه ،  وأما المعاني فنحن معانيه وظاهره فيكم اخترعنا من نور ذاته وفوّض إلينا أمور عباده )) الحديث ، وإنما ذكرته بطوله لما فيه من الأسرار وسنشير إلى بيان بعضها في ما بعد . 

 

       فأما المقام الأول المسمى بإثبات التوحيد وبالسر المقنع بالسر وحق الحق فالإشارة إلى بيانه من إلاحاديث المروية عنهم عليهم السلام كثيرة فمنها ما قـال علي عليه السلام (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع

_________________

1 شرح الزيارة الجامعة الكبيرة 1/21              2 الأعراف 51

3 الكهف 109              4 لقمان 27

منها )) وقال  عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))1، أقول الذي يشير إلى هذا المقام من الحديث الثاني هو الوجه الثالث منه والمراد من هذا المقام الذي هو إثبات التوحيد هو معرفة الله بصفته التي وصف بها نفسه لعباده الذين أراد أن يعرفوه بها وهي صفة محدثة لا تشبه صفة شيء من المخلوقات وهي مقاماته وعلاماته التي لا تعطيل لها في كل مكان أي في غيبتك وحضرتك من عرفها فقد عرف الله لأنها أمثاله وليس كمثله شيء وفي دعاء كل يوم من شهر رجب عن الحجة عجل الله فرجـه (( فجعلتهم معادن لكلماتك وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك فتقها ورتقها بيدك بدؤها منك وعودها إليك )) الدعاء ، فبين عليه السلام أنهم معادن لكلماته يعني أنهم أعضاد لخلقه لأن العلة المادية لجميع الخلق هو شعاع أنوارهم فقد اتخذهم الله سبحانه أعضادا لخلقه يعني يخلق خلقه من شعاع أنوارهم والخلائق من الأسباب والمسببات كلمات الله

_____________________

1 الكافي 1/184 ح 9

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كما قال تعالى { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }1 فهم عليهم السلام معادن لكلماته وجعلهم سبحانه أركانا لتوحيده لأن المقام الذي لا فرق بينهم وبين الله سبحانه إلا أنه عبده هو ظهوره للعبد بالعبد وهم عليهم السلام تلك المظاهر كما يأتي في التمثيل بالقائم فإنه لا فرق بينه وبين زيد إلا أنه ظهور زيد بالقيام فهو محدث به وركنه القيام فحقيقتهم عليهم السلام كالقيام وظهوره على تلك الحقيقة بها كالقائم والقائم هو المقام الذي يعرف زيدا به من عرف زيدا أي لا يعرف زيدا إلا به ، والمراد أن الله سبحانه لا يعرف إلا بتلك المقامات وهي لا تتحقق إلا بهم وفيهم كما أن القائم لا يتحقق إلا بالقيام هذا معنى قول علي عليه السلام (( لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا )) فهم أركان توحيده وآياته كذلك ومقاماته وكونها لا تعطيل لها لأنها وجه الله قال تعالى { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ }2 وكون الإثبات لا يكون إلا بالخلق لأن ذاته تجل عن إدراك العقول وتوهم الأوهام لأن العقول والأوهام إنما تدرك أنفسها وتشير إلى نظائرها وما ذكرنا من المعرفة هي سبيل معرفتهم التي لا يعرف الله إلا بها ومثال المقام الذي هو رتبة التوحيد القائم كما مر قبل هذا فإنك إذا قلت القائم فهو صفة زيد وهو ظهور زيد بالقيام وليس هو زيد ولم  يستتر ضميره فيه وإنما استتر فيه جهة فاعلية قيامه وتلك الجهة قائمة بزيد قيام صدور وقائمة في غيب قائم قيام ظهور وقائم قائم بها قيام تحقق لأنها لا تظهر إلا في قائم وقائم لا يتحقق إلا بها لأنها مبدأ وجود قائم وهي حركة أحدثها زيد بنفسها وليست زيدا وإنما هي حركته فالقائم مثال زيد وظهوره بفعله فإذا أردت أن تعرف زيدا فإنما تعرفه بما أحدث لك من أمثاله ووصفه كالقائم والقاعد والمتكلم وهذا أي المشار إليه والمسمى بزيد وما أشبه ذلك من أمثاله وصفاته وتوصيفاته فتعرفه بما وصف به نفسه وهو ما ظهر لك به من هذه الأفعال والصفات وكلّها غيره وهي وإن كانت مثله بحيث يكون بينهما في جهة التعريف والمعرفة مساواة لرجوع ذلك كله إلى الصفات ، والذات عن ذلك كله بمعزل إلا أنها محدثة به صادرة عنه لا منه

_________________

1 آل عمران 45                    2 البقرة 115

وهو قوله عليه السلام في الدعاء المتقدم (( لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك )) فافـهم ، فقول علي ابن الحسين عليه السلام في الحديث المتقدم (( وهي والله آياتنا وهذه إحداها )) وذلك في بيانه لقوله تعالى { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }1يشير إلى ما ذكرنا وإنهم ذووا الآيات التي جحد بها الكافرون والمشركون وهم الذين نسوهم كما نسوا لقاء يومهم يوم القيامة وهذا المقام كله وهو مقام وإليه يرجع الأمر كله أحد الآيات وهي تلك الفعلة التي فعل بهم حين حرك الخيط الأصفر وهي ولايتهم إلا أن هذا أعلاها لأنه ليس له شبه كما قال عليه السلام (( أما البيان فهو أن تعرف الله سبحانه واحد ليس كمثله شيء فتعبده ولاتشرك به شيئا )) أما أن ذلك ليس كمثله شيء فلأنه وصف الحق سبحانه نفسه للعباد فلا يشابه شيئا من الخلق ، وأما أنك تعبده فلأنك تعبد الله الظاهر لك به حتى أنه غيّبه عن نفسه وعن المخلوقات فلا يتوجه العابد إلا إلى الذات مع أنه أبدا لا يجدها حيث لا يفقدها ولايفقدها حيث لا يجدها أبدا فهذا مقام السر المقنع بالسر وحق الحق وهو البيان والتوحيد وهذا المقام لهم حيث لم يجدون أنفسهم شيئا ووجدوا الله ظاهرا في كل شيء قد جعله دكا ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها كان وحده ولا يسمع فيها صوت إلا صوته وهذا المقام لا يكون موضع الرسالة لأنه مصدر الإرسال فكيف يكون موضع الرسالة إلا باعتبار فرض المغايرة ولهذا اعتبرناه وجعلناه الأول .

 

       والمقام الثاني مقام المعاني وباطن الباطن وهو السر وسر السر وسر على السر وحق الحق وهوكونهم عليهم السلام معانيه تعالى يعني علمه وحكمه وأمره .. إلخ ، يعني علمه الذي وسع السموات والأرض وحكمه على كل الخلق ونعمه على جميع خلقه وخيره الذي منّ به على جميع الخلائق وجنبه الذي لا يضام من التجأ إليه وذمامه الذي لا يطاول ولا يحاول ودرعه الحصينة وحصنه المنيعة ورحمته الواسعة وقدرته الجامعة وأياديه الجميلة وعطاياه الجزيلة ومواهبه العظيمة ويده العالية وعضده القوية ولسانه الناطق وأذنه

_____________________

1 فصلت 15

السميعة وحقه الواجب وهذا مثل قولك قيام زيد وقعوده وحركته وسكونه وتسلطه وأياديه وامتنانه ومعاقبته وأمثال ذلك فهذه معاني زيد ، فقولهم عليهم السلام (( نحن معانيه )) كما تقدم في حديث جابر يراد منه نحو ما أشرنا إليه لأن هذه المعاني بالنسبة إلى الذات ليست شيئا إلا بالذات فلا تحقق لها إلا بالذات ، وأما تذوتها بالنسبة إلى آثارها وأعراضها فهي بالنسبة إلى الذات أسماء معان بهذا المعنى وبالنسبة إلى آثارها أعيان وذوات قائمة على آثارها وأعراضها بما قبلت من إمداداتها ولا معنى بالذات والعين إلا هذا ، فهم عليهم السلام في هذا المقام أعلى مقامات موضع الرسالة إلا على الاعتبار الأول لأنه مطارح إرسالات مواد الحياة الوجودية من الماء الإلهي والنفس الرحماني الثانوي في إيجاد الشرعيات الوجودية وإيجاد الوجودات الشرعية وهذا  هو الدواة الأولى وهو ن والقلم وما يسطرون والماء الذي جعل منه كل شيء حي والكتاب الأول ومفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهوأرض الجرز والزيت الذي يكاد يضيء ولم  تمسسه نار .

 

       والمقام الثالث مقام الأبواب وباطن الظاهر وسر لا يفيده إلا سرّ والسّفارة إلى الله وترجمة وحي الله ، وبيانه أنه إذا وقع الماء الأول على أرض الجرز والبلد الميت ، وبعبارة أخرى إذا استضاء الزيت من النار ، وبعبارة أخرى إذا وقعت الدلالة من الكلمة التي انزجر لها العمق الأكبر على المعنى الميت في قلب العبد المؤمن ، ظهر على العبارة الأولى الزرع والنبات الطيب وعلى الثانية المصباح وعلى الثالثة المعنى ، والمراد من الزرع والنبات والمصباح والمعنى شيء واحد وهو الاسم الذي أشرقت به السموات والأرضون وهو المعبر عنه عند أهل الإشراق بالعقل الكلي وعند أهل الشرع بالقلم والعقل المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم وقد يطلق عليه الروح من الروح المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما استوى عليه الرحمن أودع فيه غيوب الأشياء وهي معاني جميع الخلق فهو باب الله إلى خلقه ولما أمر العقل فقال له أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل أخرج منه رقائقها وصورها إلى قوابلها فيما لا يزال فهو باب الله إلى خلقه ، ولما تهيأت القوابل لقبول حياتها وجميع ما لها من ربها وقبلت كان ذلك القبول بواسطته فهو باب الخلق إلى الله فلما أمرهم الله بطاعته وامتثلوا أمره قبل أعمالهم بواسطته والتوجه به إلى الله فرفع به أعمالهم فهو باب الخلق إلى الله وهذه الواسطة والترجمة والسّفارة عامة في جميع الوجودات الشرعية والشرعيات الوجودية ، فهم عليهم السلام في هذا المقام موضع الرسالة بالنسبة إلى المقام الأول وهم محل وحيه ومهبط نوره ومسقط نجومه وهكذا بالنسبة إلى المقام الثاني هم حفظة شريعته وموضع رسالته الثاني  من الأول ليترجموا لمن دونهم إلامدادات ممن هو فوقهم .

 

       والمقام الرابع مقام الإمامة وهو الحق وهو الظاهر وهو السر المستسر وهو مقام حجة الله على خلقه وخليفته في أرضه افترض طاعته على جميع خلقه جعله الله قيّماً على العباد وحفيظا وشاهدا وداعيا إلى الله وهاديا إلى سبيله ووجهه الذي يتقلب في الأرض وعينه الناظرة في عباده ، فكّاك الأزمات المعضلة وفاتح الحصون المقفلة والقصر المشيد والبئر المعطّلة ، ملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين وأمن الخائفين وعون المؤمنين ، فالإمام في مقام الإمامة هذا هو موضع الرسالة )1انتهى كلامه أعلى الله مقامه ورفع شأنه وأعلى كلمته إنما ذكرته بطوله لما فيه من الأسرار مما أردنا بيانه وقد ذكر أطال الله بقاه جميع أنواع الرسالة وفيما ذكره كفاية لأولي الفهم والدّراية .

 

       ثم اعلم أن حكم الله سبحانه في الإيجاد على جهة الإطلاق لما كان على نهج التكليف وهو يستلزم الرسول ينقسم التكليف والرسول على قسمين تكويني وتشريعي والشريعة والكتاب أيضا كذلك والمجموع إلى قسمين عام وخاص ، والعام إلى قسمين إضافي وحقيقي فأجر هذه المذكورات فيما ذكره شيخنا أطال الله بقاه من المراتب المذكورة ينتج لك المطلوب وتطلع على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر وتفهم أن محمدا صلى الله

_____________________

1 شرح الزيارة الجامعة 1/22 _ 27 , ولعل ما بين الأقواس شرح وبيان من المصنف أعلى الله مقامه لأنا لم نجد هذه العبارات في شرح الزيارة .

عليه وآله وسلم في كل مقام وكل رتبة تفرض سيد السابقين وإمام الفائقين ولا يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق ولا يطمع في إدراك مقامه طامع .

 

       والإشارة إليه أكثر مما بين سلّمه الله تعالى وبينا فصح بالحكمة قوله عليه السلام (( في العرب العرباء )) ، العرب هو الفصيح الكامل البالغ في الفصاحة الواصل كمال درجة التوحيد المحدود بحدود الإيمان المصوّر بصورة الإنسان البعيد عن جهة الطغيان ومقتضيات الشيطان ، ولذا نزل القرآن باللغة العربية ولذا كانت لغة أهل الجنة العربية وقد قال الإمام الصادق عليه السلام (( إن شيعتنا العرب وعدونا العجم ))1قال الله تعالى { قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }2 ، وفي الحديث على ما رواه في المجمع أن (( من ولد في الإسلام فهو عربي )) وفيه (( الناس ثلاثة عربي وموالي وأعلج فأما العرب فنحن وأما الموالي فمن وإلانا وأما العلج فمن تبرأ منّا وناصبنا )) وفي حديث آخر (( نحن قريش وشيعتنا العرب وعدوّنا العجم ))3 وقد سمعت عن بعض المشايخ أنه قال أنّ أمرؤ القيس لما حضرته الوفاة كان يتكلم بالفارسية ويؤيده ما رواه في البحار عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه عليه السلام أخرج رجلا من قبره بعد موتـه حيّا وكان يتكلم بالفارسية فسأله عليه السلام عن ذلك مع أنه مات عربيا قـال لما مت على غير موالاتك انـقلب لساني إلى ما

__________________

1 معاني الأخبار 403

2 الزمر 28

3 مجمع البحرين 2/118

 

 

 

 

 

 

ترى ))1وقد ورد عنه عليه السلام على ما في العيون أن أهل النار يتكلمون باللغة المجوسية .

 

       وبالجملة فالعرب هو الصفوة والمختار في كل عالم وهو المؤمن الحقيقي الطيب الطاهر المحدود بالصورة الإنسانية في كل مقام بحسبه ، ففي النباتات الأشجار الطيبة ، وفي المعادن معادن الجواهر واليواقيت ، وفي الحيوانات هي النافعة الطاهرة الغير المؤذية بأنواعها ، وفي الإنسان هو الباقي على أحسن التقويم ، وفي العالم الكلي هي السموات ، وفي المجرّدات العقول والملائكة وهكذا مؤمنوا الجن ، وكل عالم على هذا الترتيب ، والعجم أضداد ذلك كله والأصل في ذلك أن الله سبحانه لما أقام الخلق في العوالم الأول في الذرات وكلفهم ألست بربكم فمنهم من قال بلى ومنهم من قال نعم ، فـالأولون هم الأول والآخر ون هم الثاني ، أما الأول فمن جهة اللفظ والمعنى .

 

       أما الأول فلأن العرب هو الظهور والفصاحة والمعرفة وهذا شأن __________________

1 لعل المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه ذكر هذه الرواية عن البحار بالمعنى ونحن نذكرها هنا بالنص ففي البحار 41/216 ح 29 روي أنه عليه السلام كان يطلب قوما من الخوارج فلما بلغ الموضع المعروف اليوم بساباط أتاه رجل من شيعته وقال : يا أمير المؤمنين أنا من شيعتك وكان لي أخ وكنت شفيقا عليه فبعثه عمر في جنود سعد بن أبي وقاص إلى قتال أهل المدائن فقتل هنالك فأرني قبره ومقتله , فأراه إياه فمد الرمح وهو راكب بغلته الشهباء فركز القبر بأسفل الرمح فخرج رجل أسمر طويل يتكلم العجمية , فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : لم تتكلم بالعجمية وأنت رجل من العرب , قال : إني كنت أبغضك وأوالي أعداءك فانقلب لساني في النار , فقال : يا أمير المؤمنين رده إلى حيث جاء فلا حاجة لنا فيه , فقال له أمير المؤمنين عليه السلام , ارجع فرجع إلى القبر , فانطبق عليه )) .

 

 المقربين ، لأن الله سبحانه هو الظاهر المعروف الذي لا خفاء فيه ولا نكارة بوجه من الوجوه ، فكل من تخلق بأخلاقه وسلك سبيله ذللا أجرى عليه حكمه كما قال (( أطعني أجعلك مثلي )) ، ولما كانت الألفاظ بينها وبين معانيها مناسبة ذاتية وجب أن يكون الموسومون بهذا الاسم كذلك ، والعجم عدم الفصاحة والبكم في مقابلته فيجب فيه في المعنى أيضا حكم المقابلة .

                          

       وأما الثاني فلما ذكرنا من الأخبار الدّالة على أن المؤمن هو العرب وأن أهل الجنة يتكلمون باللغة العربية ولما سنذكر إنشاء الله ، فلما أجابوا في العالم الأول فأمد الله سبحانه المقرّين المطيعين بالطينة العلّييّن ومن الماء النازل من شجرة المزن المغروسة تحت بحر الصاد ، وأمد المنكرين الكافرين بطينة السجين ومن الدخان المتصاعد من شجرة الزقوم طلعها كأنه رؤوس الشياطين المغروسة فوق بحر الطمطام قعر السجين أسفل السافلين نعوذ بالله من ذلك ، ثم كسرهم الله سبحانه تحت الحجاب الأحمر ورجعهم إلى الطين ومزج بين الطينتين وأنزلهم إلى هذا العالم الجسماني حصل لطخ وخلط فيهما فصارت طينة سجين اختلطت لطخا لا أصلا بطينة علّيّين وبالعكس فظهر مقتضى ذلك اللّطخ والخلط في الطينتين على مقدارهما في اللطخ فمن طيّب في الذات طاهر في الطوية والجبلة ظهرت عليه باللطخ آثار العجمية كالمعاصي والشرور والسيئات في الأعمال التشريعية والتكوينية ، فظهر في التكوين على صور معوجّة وهيئة منقلبة غير مستقيمة ومن ذلك اللسان واللغة الغير العربية فإنها منبئة عن اعوجاج الفطرة إما ذاتا أو لطخا وخلطا ، لكن الغالب في الغالب آثار العربية كإلايمان والصلاح والتقوى وأمثال ذلك ، ومن خبيث في الذات وباطل في الطوية والجبلة قد ظهر فيه مقتضى اللطخ الطيب الطاهر وهي الآثار العربية من الصورة الإنسانية واستقامتها وحسنها وجودة تركيبها وكونه على اللغة العربية فإنها منبئة عن حسن الفطرة والطويّة إما باللطخ أو بالذات فتبقى أحكام هذا اللطخ على مقدار قوته وضعفه ، إلى أن تصفوالطّين بفتح الياء إما بالموت الظاهري أو الباطني فيرجع كلّ إلى أصله من العربية والعجمية ، فرجوع العرب إلى الجنة ورجوع العجم في النار فلا يفتخر إذاً الذي عنده اللغة العربية أو نسبه إليها على الذي عنده اللغة العجمية إذ قد يكونان عرضيين في الاثنين ، فالفخر في الفقر إلى الله والتوكل عليه وملازمة التقوى والبذل على الفقراء والجود والسخاء فهذه هي الصفات العربية ومقابلها الصفات العجمية ، وأما اللسان فإنه ينقلب إذا حان حينه وبلغ الكتاب أجله،  وأما النسبة { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}1 أما سمعت قوله تعالى { يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }‏2 أما سمعت ما قال مولانا الكاظم عليه السلام في علي بن يقطين إنه ولدي مع أن بني أمية من ورد عليهم اللعن قاطبة خصوصا يقطين قد لعنه الصادق عليه

____________________

1 المؤمنون 101

2 هود 46

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السلام وما تولد منه وقد أجمل الله تعالى القول في كتابه فقال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }1 .

 

       فإذ قد علمت شرافة العرب بالنوع وأنهم بيت الشرف والسؤدد وبيت الحمية والمروّة وبيت الوفاء والسخاوة وبيت الاستغناء وعدم الدّناءة ، فاعلم أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ظهروا في الكينونية العليا وفازوا بالنصيب الأوفى والحظ الأعلى وبقوا في كل مقام صفة الله إلا أنهم في مقام ارتفعوا بالفاعلية وفي الآخر انتصبوا بالمفعولية  وأما الكسرة فما اتصفوا بها لأنهم ما انخفضوا وما ولوا إلا لأفعال التي لا تعمل إلا الرفع والنصب وأما الجر فلا تعمله إلا بحرف الجر إما مذكورا أو مقدرا ، فهم عليهم السلام ما ولوا الحروف الجارة أبدا فما انخفضوا وما انكسروا ولم تزل ألوية ضمهم بالله { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ }‏2 ، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك على العالمين مرفوعة وأعلام نصرهم وفتحهم على جبال الهدى منصوبة ، فهم عليهم السلام وصف الله وصفة الله ودليل الله ونصر الله ولسان الله في كل مقام من المقامات ، فظهروا في كل مقام حاكيا لظهور الربوبية المستدعية للخلافة والولاية الكلية ، ولما كان ما ينسب إلى الحق سبحانه في كل عالم يجب أن يكون أشرف ما في ذلك العالم بحيث لا يتصور أشرف منه وكانوا سلام الله عليهم نسبة الرب وصفته والمنسوبين إليه سبحانه وجب أن يظهروا في كل عالم وفي كل مقام أشرف ما في ذلك العالم ، فظهروا سلام الله عليهم في العالم الجسماني في أشرف الصور في الصورة الإنسانية وفي أشرف البيوت بيت العرب وفي أشرف طوائفها قريش وفي أشرف طوائف قريش بني هاشم في أشرف أولاد عبد المطلب عبدالله وأبي طالب ، فهم عليهم السلام العرب العرباء أي الخالص عن الشوائب العجمية بجميع أنحائها ومراتبها دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها وهذا  الخلوص ما تمحض فيه أحد

___________________

1 الحجرات 13

2 النساء 80

 

سواء عليهم السلامكما شهد لهم الحق بذلك وقال { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }1 وقال تعالى { وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }2 وهذا  الفتور حكم عام يشمل التكوين والتشريع والذوات والصفات والأفعال وسائر الأدوات وهم الذين صرفوا ما خلق الله لأجل ما خلق الله وما فتروا فكانوا بذلك صفوة المرسلين في ظاهر البشرية تكوينا وتشريعا علما وعملا ظاهرا وباطنا سرا وعلانية وهذا معنى كلام أهل الصناعة الفلسفية إن العرب لا تحمل الصخور وهي الغرائب والأعراض المضادة للطبيعة التي يجب على الإنسان أن يدفعها ويرفعها كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام (( فإذا فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد )) .

 

       فالعرب العرباء عندهم هي المياه الخمسة التي هي الماء الأبيض الرقيق ذو الوجهين وذو جسدين كوكب عطارد أو زحل أو مريخ والماء الأبيض الغليظ ظهر أشبه الأشياء بالزئبق وهي هرمس الحكيم والشيخ العليم والوصي الكريم والماء الأصفر البراق المتلألئ اللامع فاقع لونها تسر الناظرين وذلك عند ظهور الحرارة المشوبة بالأجزاء المائية والماء الأحمر الصافي الحار الذي يغلي وهو الفتى الكرشي وظاهر المريخ والماء الأحمر الصبغ الشمسي الذي عليه مدار رحى العمل وهذا هو الأصل والحاكم الرئيس على المياه كلها والمتولي لدائرتها ، فالماء الأبيض الأول إشارة إلى الليلة المباركة إنما كانت ماء لسرعة قبولها إلى طاعة ربها وأن بها الحياة التي من الماء الذي به كل شيء حي وعندها

________________

1 الأنبياء 26 _ 29

2 الأنبياء 19 _ 20

 

 

 

 

 

التفصيل والتقدير قال تعالى { كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }1هي فاطمة الزهراء عليها السلام على أبيها وبعلها وبنيها وعليها آلاف التحية والثناء ، ولذا أتى سبحانه وتعالى بالقمر والليل والصبح القريب بهما في الحكم والتأثير ولذا أشير إليها بالماء الأبيض لأن البياض من البرودة والرطوبة وهي طبيعة القابلية وهي عليها السلام علّتها ومنها نشأت ، وإنما  كان الماء ذا الوجهين وجه إلى الشمس ووجه إلى القمر لأنها عليها السلام كذلك لها وجه إلى النبوة وهي الشمس البازغة ووجه إلى الولاية وهي القمر المنير فهي فلذة كبد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقرّة عين الولي منه خلقت وعلى هيئته استقامت وعلى طبيعته وطويته نشأت واستولت عليها السلام . 

 

       والماء الأبيض الغليظ إشارة إلى الولي وإلى الكتاب المبين وإلى الإمام المبين ولذا يعبرون عنه بيوشع بن نون ، وإنما  كان ماء لنفوذه وسريانه في جميع أقطار الوجود في الغيبة والشهود والرطوبة الحاملة لأثر نار الإرادة الناضجة للقوابل والأكوان لقبولها فيوضات الإحسان وإمدادات الامتنان ، ولما كان لإصلاح القابلية فالمناسب لإصلاحها الماء البارد الرطب كما تقدم ، فظهر الولي بصفة الماء في فلك القمر على فلكه الجوزهر وأشار بغلظة الماء إلى الحرارة الكامنة المحفوظة فيه التي بها قوام الأكوان والأعيان وقد أشار إليه مولانا الباقر عليه السلام بقوله (( أن القمر له سبع طبقات طبقة من نور النار والأخرى من صفاء الماء )) فالطبقة الظاهرة منه المقابلة للعالم من صفاء الماء ولذاظهرت البرودة بواسطته في العالم  وأما هو في الباطن ففيه من نور النار بعكس الشمس وهذا سر غلظة الماء الزئبقي .

____________________

1 المدثر 32 _ 37

 

 

       والماء الأصفر هو إشارة إلى سيدنا ومولانا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فإنه عليه السلام ظهر بأحكام النور الأصفر حيث حقن دماء المسلمين وأحياهم بفاضل نوره ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا ولأنه عليه السلام تجرع مرارات الغصص حيث غلبت في دولته وخلافته الظلمة فكان يرى حكم الله مبدلا وكتابه منبوذا وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متروكة وشرائعه محرّفة ويمنع عن منع الظلم وسد الثلم وإصلاح الفاسد وكسر المعاند وإحياء السنن حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو شهيد وهو السر في أن لونه الشريف عند وفاته عليه السلام مال إلى الخضرة وقصره عليه السلام في الجنة من زمردة خضراء لأن النور الأصفر له جهتان جهة إلى النور الأبيض والأخر ى إلى النور الأخضر ولذا كني عليه السلام بأبي محمد إشارة إلى النور الأبيض  فإنه ورث سؤدد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتمكين والوقـار المنبئين عن قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ }1 ليظهر أمره عليه السلام لظهور الأمر في زمان جده صلى الله عليه وآله وسلم من حكم الاغتشاش والاختلاط وكني علي عليه السلام بأبي الحسن إشارة إلى النور الأخضر فإن عليا عليه السلام هو أبو تراب فعند انتساب النور الأصفر إليه يتحقق النور الأخضر وهذه التكنية لبيان قعوده عليه السلام عن الحرب أولا كالحسن عليه السلام ثانيا أي بعد القيام فقعد علي عليه السلام عن الحرب لكونه أبا الحسن فذو القعدة منسوب إلى مولانا الحسن عليه السلام ، وقام عليه السلام بالأمر ظاهرا لأنه له الحجة البالغة والولاية الكاملة لكونه أبا تراب وشهره ذو الحجة فاستشهد عليه السلام لا في معركة القتال بل على الخديعة والاحتيال لكونه أبا الحسين عليه السلام وتحمّل الأذى في جنب الله وتجرع مرارات الغصص لكونه أبا الحسنين عليهم السلام وأنشد هذه الخطبة وأمثالها مما يشابهها ويشاكلها لكونه أخا لرسول الله وابن عمه صلى الله عليه وآله وسلم فافهم ما أشرنا عليك من السر والحق والكبريت الأحمر ، فأجر

__________________

1 النساء 77

كل هذه المراتب في الباطن لأن ظاهرهم طبق باطنهم وسرهم عين علانيتهم ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاف كثيرا .

 

       والماء الأحمر إشارة إلى مولانا سيد الشهداء وسند الأصفياء جعلني الله فداه عليه آلاف التحية والثناء من الله الرب الأعلى وهو عليه السلام مهيج نوائر الأشواق وباعث دواعي الأذواق ومستنطق سرائر الفساق والمالي بنور بركة ظهوره كل الآفاق والمقرب للشمس الحقيقية إلى أفق الظهور لظهوره على الدين كله بإلاشراق وهو الصبح المشهود الظاهر بحمرة الشفق قال الله تعالى ‏{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا }1 وقال مولانا الصادق عليه السلام ما معناه أن سورة الفجر سورة الحسين عليه السلام من واظب عليها في فرائضه أو نوافله حشره الله تعالى مع الحسين عليه السلام وقد دلت أحاديثنا وكلام  مخالفينا كالشافعي وأمثاله أن الحمرة الظاهرة في الأفق لم تكن قبل قتل الحسين لعن الله قاتله فهو عليه السلام النور الأحمر الذي منه احمرّت الحمرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( حسين مني وأنا من حسين )) وهو عليه السلام الشمس كما نبين إنشاء الله والغالب عليها الحرارة واليبوسة لأنها مرتبة للمواد ومفلحة لأراضي الاستعداد وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى بألطف إشارة (( إني أعطيت الحسين غيرتي وشجاعتي )) والشجاعة هي القوة الحرارة الغريزية في الإنسان في غاية الاعتدال وحسن الحال ، والحرارة الغريزية هي وجه فاعلية الله سبحانه الظاهرة في في الكواكب الظاهرة بها في القلب الظاهر في الحرارة الغريزية والفاعلية طبعها ولونها طبع

___________________

1 الإسراء 78

 

 

 

 

 

 

النار ولونها قال الله تعالى { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }1‏ فافهم الإشارة ، والصبغ الأحمر إشارة إلى المشمس المشرقة والنار المحرقة والأزلية الثانية وهي الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ }‏2 والشجرة هي الشجرة المباركة التي على سواء جبل طور سيناء ولذا ليست بشرقية ولاغربية تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وهي صبغة الله التي في القرآن { صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }3 وهومادة الإكسير الأحمر وكل تلك المياه إنما هي متفرعة عنه ومأخوذة منه فلما أخذت تلك المياه المطهرة يبقى الثفل الذي هو الأرض المقدسة منتنة كثيفة نجسة ملوثة بدرن معاصي القوم الجبارين وهي الصخور التي لا يقدر أن يحملها العرب فوجب تطهير تلك الأرض لأن تستقر تلك المياه فيها ليظهر مقام الفاعلية وتظهر أخت النبوة وعصمة المروة فيعالجون في تطهيرها بإرسال الأبيض الغربي إليها مرآة عديدة إلى أن تطهر وتصير كسحالة الذهب فهناك تسقى بالمياه ليظهر القمر ثم إلى أن تطلع الشمس ، وكذلك الأمر في باطن الصنع لما سُلّت تلك الصفوة الطاهرة من طين العليين النازلة من قطرات شجر المزن عن الأرض ، ففي عالم الأجساد هذه الأرض المعروفة ، وفي عالم الأجسام أرض النفوس ، وفي عالم العقول البلد الميت ، وفي عالم الإمكان الأرض الجرز وأرض الإمكان الراجح ومقامات الوجود المطلق ، وتلك الأرض المقدسة التي سُلّت منها تلك الأنوار الطيبة والمياه الطاهرة المطهرة الجارية من بحر الصاد أي جنان الصاقورة تحت العرش الواردة على تلك الأرض المقدسة وهي وإن كانت واحدة إلا أنها ظهرت في خمس أماكن أرض مكة وأرض المدينة وأرض الكوفة وحائر سيدنا الحسين عليه السلام وأرض بيت المقدس التي هي أرض الشام ، وهذه الأراضي الطيبة كالقطب السائر في جميع الأراضي وكلها منوطة بها ومتفرّعة عليها ، وهذه  الخمسة هي كفّ الحبيب ويد الله العليم وأرض العرب ، لكنه

__________________

1 النور 35                  2 المؤمنون 20

3 البقرة 138

لما سُلّت منها تلك الأنوار الطيبة ظهرت نتن إنيّتها التي كانت مستهلكة زائلة مضمحلة عند استجنان تلك الأنوار والمياه الطاهرة والقوى الفعالة فصارت أنتن الأراضي وأقلها نفعا ومسكنا للقوم الجبارين ، ولذا ترى ما في تلك الأراضي الطيبة إما غور المياه ويبس الأشجار وعدم نضج الأثمار وملوحة الماء وسباخة الأرض وحرارة المحل وقساوة الأهل وخباثة الوالي ، وقد ظهرت شناعة أهل الشام ورذالتهم ودناءتهم وخباثتهم وكفرهم بالله وإيذائهم لآل الله وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما ملأ الأصقاع وخرق الأسماع وليس لأحد من أهل الحق والباطل في ذلك نكير ، ومع ذلك كله ورد عن مولانا الصادق عليه السلام في حديث وجدته في نسخة قديمة عتيقة من مؤلفات بعض أصحابنا وأنا أشهد بحقيقته لما ظهر لي من قرائن الصدق فيه أن أهل الشام أحسن من أهل مكة ، وأهل مكة أحسن من أهل المدينة وأهل مكة يكفرون بالله في كل يوم سبعين مرة وأهل الشام ولم أذكر الآن لفظ الحديث ، ويكفي أهل الكوفة ذمّا وخسرانا ما قال فيهم أمير المؤمنين عليه السلام (( لوددت والله أن معاوية صارفني بكم الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم ))1ولا ذمّ أزيد من ذلك ، وأما أهل حائر الحسين عليه السلام فأسوأ حالا وأشنع أعمالا وأقبح أقوالا وهؤلاء هم القوم الجبارون وهم ريش الغراب في قولهم أزل ريش الغراب ليكون عقابا ، ولما كان موسى عند محاربة القوم الجبارين بعث وصيه يوشع بن نون إليهم ، وكذلك الصبغ الأحمر بعث وصيه وهو مادة الصبغ الأبيض الماء الأبيض الغليظ البرّاق الشفاف اللامع المتلألئ إلى تلك الأرض مسكن الأوساخ والكدورات التي هي القوم الجبارون لتطهيرها وتصفيتها وإصلاحها وذلك أيضا عبارة عن قوم موسى عشرة أيام تتميما لأربعين يوما ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر عليا عليه السلام والطيبين من أولاده بالإمساك وتطهير تلك الأرض المتوقفة عليها كل الأراضي في عالم الإمكان بالهون والـبرودة والـرطوبة أو الحرارة والـرطوبة لا النار التي هي الحرارة

__________________

1 شرح النهج 7/70

واليبوسة وإلا لاحترقت وذابت وانعدمت وهوقوله تعالى حكاية عن هارون { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }1‏ وهذا معنى أخذ موسى بلحية هارون وجره إليه وقوله له { ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء }‏2 فافهم الإشارة فإن الكلام في هذا المقام عجيب قال الشاعر:  

               ضاع الكلام فلا      سكوت معجب

 

       فهؤلاء الصفوة عليهم السلام هم العرب العرباء بكل معنى في كل عالم مما أشرنا إليه وما لم نشر إليه ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول إلى الخلق فيهم ومن بينهم لما فيه من السر المعنوي والحرف الغيبي الذي لم يطلع عليه بسرائرهم وضمائرهم بصافي طويتهم وجبلّتهم { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }‏3 وهو صلى الله عليه وآله وسلم المنتجب منهم فهو صلى الله عليه وآله وسلم صفوة صفوة الصفوة وبهذا حاز مقام السبق وتفرد في الوسيلة على المرقاة الأعلى الأعلى الأعلى ووقف علي عليه السلام تحته بمرقاة صلى الله عليه وآله وسلم .

___________________

1 طه 94

2 الأعراف 150

3 الأنعام 124

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام وروحي له الفداء ابتعثه هاديا مهديا حلاحلا طلسميا ، فأقام الدلائل وختم الرسائل

نصر به المسلمين وأظهر به الدين

صلى الله عليه وآله الطاهرين

 

       قوله عليه السلام (( ابتعثه )) إشارةإ لى قوله عليه السلام في الحديث            (( فاستنطقه )) وقد أشار إلى هذا الاستنطاق والانبعاث مما من الله ومما منه عليه السلام أشار إلى بيانه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام على ما في كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري أستاذ الشهيـد الثاني عنـه عليه السلام أنه قال (( كان الله ولا شيء معه فأول ما خلق نور حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسموات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء بأربعة وعشرين وأربع مائة ألف عام ، فلما خلق الله تعالى نور نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقي ألف عام بين يدي الله عز وجل واقفا يسبحه ويحمده والحق تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول يا عبدي أنت المراد والمريد وأنت خيرتي من خلقي وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت آلاف لاك من أحبك أحببته ومن أبغضك أبغضته فتلألا نوره وارتفع شعاعه فخلق الله  منه اثني عشر حجابا أولها حجاب القدرة ثم حجاب العظمة ثمّ حجاب العزة ثم حجاب الهيبة ثم حجاب الجبروت ثم حجاب الرحمة ثم حجاب النبوة ثم حجاب الكبرياء ثم حجاب المنزلة ثم حجاب الرفعة ثم حجاب السعادة ثم حجاب الشفاعة ، ثم إن الله تعالى أمر نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل في حجاب القدرة فدخل وهو يقول سبحان العلي الأعلى وبقي على ذلك اثني عشر ألف عام ثم أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل وهو يقول سبحان عالم السر وأخفى أحد عشر ألف عام ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول سبحان الملك المنان عشرة آلاف عام ثم دخل في حجاب الهيبة وهو يقول سبحان من هوغني لا يفتقر تسعة آلاف  عام ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام ثم دخل في حجاب الرحمة وهو يقول سبحان رب العرش العظيم سبعة آلاف عام ثم دخل في حجاب النبوة وهو يقول سبحان ربك رب العزة عما يصفون ستة آلاف عام ثم دخل في حجاب الكبرياء وهو يقول سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول سبحان العليم الكريم أربعة آلاف عام ثم دخل في حجاب الرفعة وهو يقول سبحان ذي الملك والملكوت ثلاثة آلاف عام ثم دخل في حجاب السعادة وهو يقول سبحان من يزيل الأشياء ولا يزول ألفي عام ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ألف عام ، قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إن الله تعالى خلق من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشرين بحرا من نور في كل بحر علوم لا يعلمها إلا الله تعالى ثم قال لنور محمد صلى الله عليه وآله وسلم انزل في بحر العز فنول ثم في بحر الصبر ثم في بحر الخشوع ثم في بحر التواضع ثم في بحر الرضا ثم في بحر الوفاء ثم في بحر الحلم ثم في بحر التقى ثم في بحر الخشية ثم في بحر الإنابة ثم في بحر العمل ثم في بحر المزيد ثم في بحر الهدى ثم في بحر الصيانة ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا فلما خرج من آخر الأبحر قال الله تعالى يا حبيبي ويا سيد رسلي يا أول مخلوقاتي ويا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر فخرّ النور ساجدا ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الأنبياء ، فلما تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يطوف الحجاج حول بيت الله الحرام وهم يسبحون الله ويحمدونه ويقولون سبحان من هو عالم لا يجهل سبحان من هو حليم لا يعجل سبحان من هو غني لا يفتقر فناداهم الله تعالى تعرفون من أنا فسبق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الأنوار ونادى أنت الله الذي لا إلـه إلا أنت وحدك لا شريك لك رب الأرباب وملك الملوك فإذا بالنداء من قبل الحق أنت صفي وأنت حبيبي وخير خلقي أمتك خير أمة أخرجت للناس ، ثم خلق من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم جوهرة وقسّمها قسمين فنظر إلى القسم الأول بعين الهيبة فصار ماء عذبا ونظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء فخلق الكرسي من نور العرش وخلق من نور الكرسي اللوح وخلق من نور اللوح القلم وقال له اكتب توحيدي فبقي القلم ألف عام سكران من كلام الله تعالى فلما أفاق قال اكتب قال يا رب وما اكتب قال اكتب لا إله إلا الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله فلما سمع القلم اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم خرّ ساجدا وقال سبحان الواحد القهار سبحان العظيم الأعظم ثم رفع رأسه من السجود وكتب لا إله إلا الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله ، ثم قال يا رب ومن محمد الذي قرنت اسمه باسمك وذكره بذكرك ، قال الله تعالى له : يا قلم فلولاه ما خلقتك ولاخلقت خلقي إلا لأجله فهو بشير ونذير وسراج منير وشفيع وحبيب فعند ذلك انشق القلم من حلاوة ذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال القلم : السلام عليك يا رسول الله فقال الله تعالى : وعليك السلام منّي ورحمة الله وبركاته ، فلأجل هذا صار السلام سنة والرد فريضة ، ثم قال الله تعالى اكتب قضائي وقدري وما أنا خالقه إلى يوم القيامة ، ثم خلق الله ملائكة يصلّون على محمد وآل محمد ويستغفرون لأمته إلى يوم القيامة ، ثم خلق الله تعالى من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة وزيّنها بأربعة أشياء التعظيم والجلالة والسخاء والأمانة وجعلها لأوليائه وأهل طاعته ، ثم نظر إلى باقي الجوهرة بعين الهيبة فذابت فخلق من دخانها السموات ومن زبدها الأرضين ، فلما خلق الله تبارك وتعالى الأرض صارت تموج بأهلها كالسفينة ، فخلق الله الجبال فأرساها بها ثم خلق ملكا من أعظم ما يكون في القوة فدخل تحت الأرض ثم لم يكن لقدمي الملك قرار فخلق الله صخرة عظيمة وجعلها تحت قدمي الملك ثم لم يكن للصخرة قرار فخلق الله له ثورا عظيما لم يقدر أحد ينظر إليه لعظم خلقته وبريق عيونه حتى لو وضعت البحار كلها في إحدى منخريه ما كانت إلا كخردلة ملقاة في أرض فلاة فدخل الثور تحت الصخرة وحملها على ظهره وقرونه واسم ذلك الثور لهوتا ثم لم يكن لذلك الثور قرار فخلق الله له حوتا عظيما واسم ذلك الحوت بهموت فدخل الحوت تحت قدمي الثور فاستقر الثور على ظهر الحوت فالأرض كلها على كاهل الملك والملك على الصخرة والصخرة على الثور والثور على الحوت والحوت على الماء والماء على الهواء والهواء على الظلمة ثم انقطع علم الخلائق عن الذي تحت الظلمة ، ثم خلق الله تعالى العرش من ضياءين أحدهما العدل والثاني الفضل ، ثم أمر الله تعالى تلك الضياءين فانقسما قسمين فخلق منها أربعة أشياء العقل والعلم والحلم والسخاء ، ثم خلق الله تعالى من العقل الخوف ومن العلم الرضا ومن الحلم المودة ومن السخاء المحبة ، ثم عجنها كلها بطينة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام والمؤمنون ثم خلق الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار  والضياء والظلام وسائر الملائكة من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما تكاملت إلانوار سكن نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحت العرش ثلاثة وسبعين ألف عالم ثم انتقل نوره إلى الجنة فبقي سبعين ألف عام ثم انتقل إلى سدرة المنتهى فبقي سبعين ألف عام ثم انتقل نوره إلى السماء السابعة ثم إلى السماء السادسة ثم إلى السماء الخامسة ثم إلى السماء الرابعة ثم إلى السماء الثالثة ثم إلى السماء الثانية ثم إلى السماء الدنيا فبقي نوره في السماء الدنيا إلى أن أراد الله تعالى أن يخلق آدم عليه السلام ))1الحديث .

 

       وما ذكره عليه السلام هو مجمل كيفية الابتعاث في المجمع ( بعثه وابتعثه بمعنى أرسله )2 وأشار الإمام عليه السلام بذكر الابتعاث بعد ذكر الإرسال لبيان المقام الثالث من مقامات الرسالة كما ذكرنا نقلا عن كلام الأستاذ أطال الله بقاءه ، وفي هذا الحديث المذكور قد شرح عليه السلام جميع مقامات ومراتب هذه الرسالة في التكوين فلما استنطقه فقال له أدبر فأدبر فابتعثه إلى الحقائق الكونية ليبلغهم عن الله سبحانه ألست بربكم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيكم وعلي أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة من ولده الأحد عشر الطيبون الطاهرون عليهم السلام أولياؤكم ، فأول ما نزل رسولا في التكوين وقف في الحجاب الأبيض الأعلى مقام القلم فبلغ إلى القلم من أسرار المعاني الكونية الحقيقية الجوهرية من مداد النون وعلمه القيام بأمر الله

____________________

1 الأنوار في مولد النبي 5 _ 10 , البحار 15/28 _ 31

2 مجمع البحرين 2/236

ونهيه والوقوف بين يديه سبحانه منتصبا قائما خاضعا خاشعا ذليلا وقرأ عليهم القرآن وعلمهم بواطن أسرار الملك الديان ودعاهم وهداهم إلى سبيل الله وهو ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام كما قال مولانا الباقر عليه السلام في قوله تعالى { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }1 قال عليه السلام (( سبيل الله هو علي عليه السلام والقتل في سبيل الله هو القتل في سبيل علي عليه السلام ))2 .

 

       أقول والحشر إلى الله هو الحشر في زمرة علي عليه السلام لأنه وجه الله الذي يتقلب في الأرض والسماء ولا تعطيل له في كل مكان ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى سبيل علي عليه السلام وعلي عليه السلام يوصل إلى صراط محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }3قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا المنذر وعلي الهادي ))4 ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبحانه يهدي بعلي عليه السلام فهو عليه السلام هداية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى { وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }5 فالله هو الهادي ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الهادي وعلي عليه السلام هو الهادي والهداية واحدة ، والله الهادي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهـو صلى الله عليه وآله وسلم هاد بـعلي عليه

____________________

1 آل عمران 157

2 لم نقف على هذه الرواية بعينها ولكننا وجدنا ما يقرب منها في معاني إلاخبار ص 167 في باب معنى سبيل الله عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن هذه الآية في قول الله عز وجل ( ولئن قتلتم في سبيل الله أومتم ) قال , فقال : أتدري ما سبيل الله , قال قلت : لا والله إلا أن أسمعه منك , قال : سبيل الله هو علي عليه السلام وذريته , وسبيل الله من قتل في ولايته قتل في سبيل الله , ومن مات في ولايته ما في سبيل الله )) .

3 الرعد 7                            4 المناقب 3/84

5 الشورى 52

السلام فيرجع حقيقة الهداية إلى علي عليه السلام ، والمثال التقريبي قولك أنا ضربت ضربا فأنا مثال هداية الله وضربت مثال هداية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وضربا مثال هداية علي عليه السلام ، فالهادي حقيقة أي ما يستند إليه الفعل أولا هو علي عليه السلام كما تقول إن الضارب هو عين الضرب وتسند إلى زيد الضاربية التي في الضرب فالضرب هو ضاربية زيد فافهم ضرب المثل ولذا قال عز وجل { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }1 على أحد المعاني .

 

       والهداية هي إيصال السالكين والمسافرين إلى منزلهم الحقيقي ومسكنهم الواقعي الذي حبه من الإيمان وبغضه من الكفر وهو الإيصال إلى اللانهاية وقطع مسافة النهاية ، أو الإيصال إلى المنازل المقدرة للمسافر حين يخرج من بيته بتيسير الأعمال والأقوال والاعتقادات الكونية والوجودية وإيصال مقتضى الأسباب أي المسببات بها وإيصال المعلولات إلى عللها والعلل إلى المعلولات والملزومات إلى اللوازم والشرائط إلى المشروطات وبالعكس ، وسائر المشخصات والروابط والقرانات وهي إيصال الأعالي إلى الأسافل والأسافل إلى الأعالي في ملتقى البحرين ومجمع العالمين ، وإيصال الكفار إلى الأليم المقيم والمؤمنين إلى النعيم المقيم وهكذا من أحكام المشيئة الحتمية .

 

       أو الهداية هي إراءة الجمال الذي هو عين الجلال لأهل الكمال وإراءة نور الجمال لطالبي الكمال ، ففي الأول تجلى له بنفسه وفي الثاني تجلى له بنور نفسه وهويته التي هي عين اللاهوتية التي هي مرتبة اللاهوتية ، فيعبر عن الأول بالتوحيد الحقيقي والثاني بالشهودي ، أو إراءة الألواح الجزئية أو الكلية ، ____________________

1 الرعد 7

 

 

 

 

والثانية بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام في مقامي الثالث والرابع بمقاميهم الأول والثاني ، والأولى بالنسبة إلى ما عداهم إلا أنها تختلف بالإضافية وعدمها وتلك الألواح هي الطين بفتح الياء والكينـونـات بأشباحها أو بحقائقها منتقشة في الكتاب المبين الذي هو أم

الكتاب في اللوحين المحفوظين أحدهما لوح العليين وهو كتاب الأبرار قال تعالى { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ }1، وثانيهما لوح السجين وهو كتاب الفجار لفي سجين قال تعالى { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }2 وهو معنى قوله عز وجـل { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا }‏3 وهذه الإراءة والهداية عبارة عن التكليف وظهور نور التكليف ، وذلك النور هو اللطيفة الإلهية السارية في كينونات الخلائق سريان الروح في الجسد حتى ظهر ذلك النـور بالنور اللفظي كقوله تعالى { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ

_________________

1 المطففين 18

2 البلد 10

3 الإنسان 2 _ 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ }1وهذا النور سار في عمل المكلف من موافقته وقبوله تحدث الصورة الإنسانية وهي الإيصال إلى المطلوب وبإنكاره تحدث الصورة الشيطانية ، فذلك النور في الصورة الإنسانية يزيد بهاء وشرفا ونورانية وفي الصورة الشيطانية بعكس ذلك 

       كقطر الماء في الأصداف درّ       وفي بطن الأفاعي صار سما

 

       وذلك النور هو هداية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي وليكم والأئمة من ولده أولياؤكم يعني هذه عبارة ذلك وقوام الموجوادت كلها بذلك النور وهو أمر الله الذي قام به كل شيء قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }2 قال مولانا الصادق عليه السلام (( كل شيء سواك قام بأمرك ))3 وذلك الأمر هو التكليف والخطاب وهو القدر الذي قال مولانا علي بن الحسين عليه السلام (( القدر في الأفعال كالروح في الجسد )) ، ولما كان المشبه والمشبه به في القرآن والأخبار هو عين الآخر أي أحدهما عين الآخر كان القدر هو الروح حقيقة والعمل جسده والروح يجري في الجسد على حسب الجسد لا على حسب الروح ولـذا تختـلف أحوال الإنسان بالصحة والمرض والانقباض

____________________

1 البقرة 43

2 الروم 25

3 البحار 90/148 ح 10

 

 

 

 

 

 

 

والانبساط والـفرح والحزن بالأدويـة والعقاقير وقـد قـال الله عز وجل { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }1‏ وقد علمت أن بالأمر قد قامت السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما وذلك هو الروح وذلك الروح هو الأمر والأمر هو التكليف والتكليف هو ألست بربكم ، والهداية ليست إلا البيان الذي هو عين التكليف أو الإيصال الذي هو عين وقوع المكلف به على المكلف بالتكليف ، وقد قلنا لك سابقا أن المصدر واسم الفاعل واسم المفعول أحدهما عين الآخر  فيكون الإيصال هو عين البيان وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام (( أنا الروح من أمر ربي )) وقد قلنا أن ذلك الروح هو الأمر الذي هو النور الذي هو التكليف الذي هو الهداية فيكون علي  عليه السلام هو هداية الله في مقامات أنفسهم بذاته وفي مقامات غيرهم بنوره ، فالسموات والأرض إنما قامتا بنور الأمر الأول ولما كان المصدر هو اسم الفاعل كان هو الهادي لكل قوم وكل شيء فعلى هذا فافهم ما سبق منا إن الله هو الهادي ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الهادي وعلي عليه السلام هو الهادي فقوله عليه السلام (( ابتعثه هاديا )) كقولك أعطيته قائما يعني انبعث وأرسل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتهاء سيره إلى جلال العظمة وخلق مولانا علي عليه السلام وسيره وطوفه حول جلال القدرة وطوف نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول جلال العظمة فالسائر الطائف حول جلال العظمة يكون هاديا بالطائف حول جلال القدرة فمادة الهداية وأصلها ومنشؤها من محمد عليه السلام وظهورها وصورتها وبروزها مشروحة مفصلة من علي عليه السلام فبهما معا تحققت الهداية ، ولما كانت الأسماء تدور مدار الصور وعلي عليه السلام مبدأ العلّة الصورية كانت الهداية منتسبة إليه ومتحققة ، فالهادي هو الرحمن وعلي عليه السلام حامل هذا الاسم والخالق هو الله ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم مظهر هذا الاسم وحامل له ، فأرسله الله سبحانه في التكوين هاديا إلى سبيله فهدى العقل الأول إلى الله سبحانه بواسطة اسم الله البديع والنفس إليه سبحانه بواسطة

____________________

1 الإسراء 85

اسمه الباعث والطبيعة الكلية إليه سبحانه باسمه تعالى الباطن وهدى المادة إليه سبحانه بواسطة اسمه الآخر وهدى الصورة إليه سبحانه باسمه الظاهر وهدى الجسم الكل إليه سبحانه باسمه الحكيم وهدى العرش محدد الجهات إليه سبحانه باسمه المحيط وهدى الكرسي إليه سبحانه باسمه الشكور وهدى فلك البروج إليه سبحانه باسمه الغني وغني الدهر وهدى فلك المنازل إليه سبحانه باسمه المقدر وهدى فلك زحل إليه سبحانه باسمه الرب وهدى فلك المشتري إلى سبيله سبحانه إليه باسمه العليم وهدى فلك المريخ إلى سبيله باسمه القاهر وهدى فلك الشمس إلى سبيله باسمه النور وهدى فلك الزهرة إلى سبيله باسمه المصور وهدى فلك عطارد إلى سبيله باسمه المحصي وهدى فلك القمر إلى سبيله باسمه المبين وهدى كرة النار إلى سبيله باسمه القابض وهدى كرة الهواء إلى سبيله باسمه المحيي وهدى كرة التراب إلى سبيله باسمه المميت وهدى الجماد أول المركب من العناصر الأربعة إلى سبيل ربه باسمه العزيز وهدى النبات إلى سبيل ربه باسمه الرزاق وهدى الحيوان إلى سبيل ربه باسمه المذل وهدى الجن إلى سبيل ربه باسمه اللطيف وهدى الملك إلى سبيل ربه باسمه القوي وهدى الإنسان إلى سبيل ربه باسمه الجامع وهدى الجامع إلى سبيله باسمه رفيع الدرجات وهو قوله تعالى { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }1‏ وهذه الأسماء كلها جهات اسم الرحمن إذ الكثرة الاسمية التعلقية ليست في اسم الله وإنما هي في الرحمن وهذه الأسماء كلها أسماء للرحمن وصفات له والرحمن اسم وصفة لله ، وقولي هدى العقل باسمه البديع وهكذا إلى آخر الأسماء أريد به أن ذلك الاسم هو ترجمان الهداية وهو هداية الله سبحانه له بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم به ، وإذا كان هو الهداية الإلهية فالله سبحانه ورسوله إنما يهديه بذلك الاسم فذلك الاسم هو ظهور الله وظهور رسوله وظهور مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وظهور نفس ذلك الاسم في مقام الأنبياء وذلك الظهور هو الكروبيون الذين هم أربـاب الأنبياء بالله سبحانه كما قال تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }‏2 ،

__________________

1 غافر 15                     2 الأعراف 43

وهو رجل من أولئك على ما روي عن مولانا الصادق عليه السلام في بصائر الدرجات ، وتحت مقام الأنبياء يتربع الظهور والرابع هو ظهور الكروبيين وهذا معنى قـول مولانا الكاظم عليه السلام لمن يعقل ويفهم لذلك الراهب (( إن الاسم الأعظم هو أربعة أحرف الأول لا إلـه إلا الله والثاني  محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموالثالث نحن والرابع شيعتنا )) ولما كان السؤال إنما وقع من الاسم الأعظم الظاهر في تلك الطبقة أجابه كما سمعت ،  ويريد بالشيعة شيعتهم من الخلق الأول الذين جعلهم الله سبحانه خلف العرش بحيث لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ولما سأل موسى ربه ما سأل أمر رجل منهم فتجلى له بقدر سم الإبرة فدكّ الجبل وخر موسى صعقا فافهم .

 

       فالهداية هي أول مذكورية الشيء عند ربه في مقام الخلق وليس ثمة اختلاف قال تعالى { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ }1‏ وتلك معرفة النقطة التي كثرها الجاهلون ، ولما كانت معرفة النقطة إنما هي بها لا غيرها فإن الشيء لا يعرف إلا بما هو عليه لا بغيره هو عليه ليتحد العلم والمعلوم والإراءة ، والإيصال لا يكون إلا بذلك الشيء فإن الشمس لا توصل الأشعة إلى غاياتها ونهاياتها إلا بنفسها لا بذاتها كانت تلك النقطة هي عين الهداية وتلك الهداية كما ذكرنا هي قول ألست بربكم وهي أول ما ذكر الشيء ولذا ترى في أم الكتاب التي هي فاتحة الكتاب جعل الله سبحانه أول مقام الخلق وأول ذكرهم الهداية فإنه ذكر سبحانه أولا مقام الربوبية إذ مربوب بقوله الحق { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }‏ ثم ذكر مقام البرزخية الكبرى ورتبة الشجرة الزيتونة التي ليست بشرقية ولا غربية بقوله الحق { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }‏ ثم ابتدأ بذكر

__________________

1 البقرة 213

 

 

 

الخلق فجعل أول ذلك دعاءهم وطلبهم الهداية بقوله الحق { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }1 ولما كانت الهداية هي جهة الله سبحانه والدعاء والسؤال جهة الخلق كانت الهداية مقدمة على كل ذكر الخلق لأنّ ما من الله متقدم على ما من الخلق ، ولما كان ما من الله ليس فيه كثرة واختلاف وتعدد ونقص وشوب باطل كانت الهداية على جهة الوحدة والبساطة وهي تلك النقطة فهي مادة كل الخلق ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المعنى هاد بالأصالة والذات لأن مواد الموجودات كلها كائنة ما كانت وبالغة ما بلغت منه صلى الله عليه وآله وسلم لأنه حامل لواء الألوهية  ولذا قال صلى الله عليـه وآله وسلم (( ما اختلف في الله ولا فيّ وإنما الاختلاف فيك يا علي )) ، ولما ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم بعدما كانت مطوية مذكورة في الألف القائم كانت أنواع الهدايات ومراتبها ومقاماتها إنما ظهرت مختلفة الآثار والأحكام بعلي عليه السلام لأن صور موجودات كما مرّ كائنة ما كانت منه عليه الصلاة والسلام لأنه حامل لواء الرحمانية قال تعالى { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }2  قال

_________________

1 الفاتحة 1 _ 6

2 النبأ 1 _ 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عليه السلام (( ما لله آية هي أكبر مني وما لله نبأ هو أعظم مني ))1وإذا أتقنت النظر ودققت البصر علمت أن جميع مراتب الموجودات ما اختلفت في الذوات والصفات والاقتضاءات إلا بهداية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى الإراءة في الخلق الأول المعبر عنه بالحل الأول وهداية علي عليه السلام بمعنى الإيصال في الخلق الثاني  المعبر عنه بالحل الثاني والعقد الثاني  والمجموع نقطة واحدة ترجع تلك الشئون إليها لأن عليا عليه السلام هو الرجل الذي سلم لرجل فليس فيه اختلاف وإنما هو على الصراط المستقيم على ما قال عز وجل { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا }2 وهذا الصراط إنما ظهر في علي عليه السلامبل هو نفسه عليه السلام كما قال تعالى { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ }‏3 وقال تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }4 وهذا الصراط وإن تكثرت شئونـه وظهوره إلا أنها كلها ترجع إلى أمر واحد كما قال تعالى { وَالَّذِينَ

__________________

1 تأويل الآيات 733

2 الأنعام 125 _ 126

3 الحجر 41

4 الأنعام 153

 

 

 

 

 

 

 

 

جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }1وهذا الجمع هو تفاصيل ذلك المفرد فلا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل ألا إلى الله تصير الأمور .

 

       وأما بيان سر سريان هذه النقطة باقتضاء هيكل التوحيد إلى المراتب العالية والنازلة والنورانية والظلمانية والفلكية والعنصرية في التكوينية والتشريعية فمما يطول به الكلام مع ما في بيانه من فصيح الحكمة وريبة الجهال واستنطاق سرائر أهل العناد وقالوا عليهم السلام (( لا تتكلم بما تسارع العقول إلى إنكاره وإن كان عندك اعتذاره , وليس كل ما تسمعه نكرا أوسعته عذرا ))2  .

 

       وقد أشار عليه السلام بقوله عليه السلام (( هاديا )) إلى تمام رتبة النزول على ما فصل في الحديث المتقدم وهو قوس أدبر فأدبر وإن كان في الصعود التكويني فإنه صلى الله عليه وآله وسلم هاد في الصعودي والنزولي ولما كانت الهداية المتعلقة بالغير مستلزمة للارتباط فهي نزول للهادي ، وإن كانت صعودا للمهدي لحكم الارتباط والنسبة المستلزمة للأغيار المستلزم للأكدار ، وأما سلب هذه النسب والشئونات فهو مقام الصعود ولا يكون ذلك إلا بمراقبة النظر ومداومته في عالم الربوبية وهو مقام كونه مهديا فأول هذا النظر في عالم الأسماء والصفات وأول النظر فيها إلى اسم رفيع الدرجات ذوالعرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ، ثم إلى الجامع ثم إلى اللطيف ثم إلى القوي ثم إلى المذل ثم إلى الرزاق ثم إلى العزيز ثم إلى المميت ثم إلى المحيي ثم إلى الحي ثم إلى القابض ثم إلى المبين ثم إلى المحصي ثم إلى المصور ثم إلى النور ثم إلى القاهر ثم إلى العليم ثم إلى الرب ثم إلى المقدر ثم إلى الغني ثم إلى الشكور ثم إلى المحيط ثم إلى الحكيم ثم إلى الظاهر ثم إلى الآخر  ثم إلى الباطن ثم إلى

_________________

1 العنكبوت 69

2 لم نجد الرواية كما هي في هذا الشرح المبارك , ووجدنا هذه الروايـة (( إياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره , فليس كل من تسمعه نكرا يمكنك لأن توسعه عذرا )) البحار 71/229 ح 6 .

الباعث ثم إلى البديع ثم إلى الرحمن ثم إلى القيوم ثم إلى الواحد ثم إلى الله ثم إلى الاسم الله ثم إلى الاسم هو ثم إلى الهاء منتزعة عن الواو ثم إلى آخر مقامات الهاء وهي الظهور أي الدلالة ، ثم إلى الظاهر من حيث هو ظاهر ، ثم إلى الباطن من حيث هو باطن ، ثم إلى الباطن ، ثم إلى نقطة ظهور الكينونة ، ثم إلى غيب الهوية ، ثم إلى ظهور اللاهوية فانقطع الكلام وانعدم المقام فلا حس ولا محسوس رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك وانتهى المخلوق إلى نفسه وألجأه الطلب إلى شكله الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته ، فطابق وجوده صلى الله عليه وآله وسلم وجدانه فهو مهدي في الوجدان والوجود دون سائر الخلق من الأولين والآخرين والماضين والغابرين فإن وجدانهم يخالف وجودهم وروابط إنياتهم ، فهم يسلبون الإنية وجدانا لا وجودا وأما هو صلى الله عليه وآله وسلم فمن الوجود المطلق الذي قال الله عز وجل في حقه { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }1فلا يفتقر إلا إلى موجده ومصدره خاصة من دون ارتباط واشتراط آخر غير حقيقة ذاته وبهذا الفقر يفتخر صلى الله عليه وآله وسلم ، ولذا تمحض في الوجهية وحيا بحياة الله وبقى ببقائه { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }‏2 وقد قال مولانا علي بـن الحسين عليـه السلام في دعاء الحريق (( وأن كل معبود مما دون عرشك إلى قرار أرضك السابعة السفلى باطل مضمحل ما خلا وجهك الكريم فإنه أعز وأكرم وأجل وأعظم من أن يصف الواصفون كنه جلاله أوتهتدي القلوب إلى كنه عظمته ))3 وهو صلى الله عليه وآله وسلم الوجه وهو الجلال وهو العظمة وهو المطيع لله الذي قام مقامه وحكى مثاله قال تعالى ( أطعني أجعلك مثلي ) فهو مهدي تكوينا وتشريعا ذاتا وصفة هداه الله سبحانه إلى توحيده ومعرفة أسمائه وصفاته وتجليات ظهوراته فأثبت الإمام عليه السلام بقوله (( ابتعثه هاديا )) مقام النزول وقوس أدبر فأدبر وبقوله عليه السلام (( مهديّا )) قوس الصعود ومقام أقبل فأقبل ، فإن وقفت على سر باطن الباطن وتأمّلت بصافي النظر علمت أن

_________________

1 النور 35                  2 القصص 88

3 مصباح المتهجد 220

هذا إشارة إلى مقام واحد فالهادي هو المهدي وقد علمت أن الهادي هو علي عليه السلام في قوله عز وجل { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }1 فهو الهادي على الإطلاق ولذا أنزل الله عز وجل يوم إظهار وجوب إطاعته وولايته يوم الغدير في عالم الأجساد وهو اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام وعالم الأشباح وهو ذلك اليوم فيه وعالم الأظلة وعالم الرقائق وعالم العقول وعالم أرض القابليات وما بينهما من المراتب والعوالم أنزل الله في كل عالم على طوره { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }2 وهذا الإكمال لمن رضي به إماما وسيدا وسندا وكهفا وذخرا فهو الهادي عليه السلام وتلك الهداية ظهرت في المهدي عليه السلام    لأنه عليه السلام صاحب الفتح وناشر راية الهدى وإليه يشير قوله تعالى { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا }‏3 فجمع عليه السلام جميع أوصياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين الكلمتين بذكر مبدئهما ومنتهاهما فهو الهادي بعلي أمير المؤمنين عليه السلام وروحي له الفداء ومهدي بمولانا القائم الحجة بن الحسن عليه السلام وهو قوله عليه السلام (( ابتعثه هاديا مهديا )) بأوصيائه وخلفائه فلولا ذلك لبطلت النبوة وفي ذلك بطلان النظام وفناء الأحكام ولذا قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وآله وسلم (( لولاك لما خلقت الأفلاك ولولا علي لما خلقتك )) فلما أشار إلى الأول والآخر  تثبت الباقي إذ لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .

 

       وأما سر باطن الباطن فبأن تقول إن الهادي هو عين المهدي والصفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث نفسه لا بالإضافة إلى أوليائه وخلفائه الراشدين عليهم السلام وحينئذ يكون الهادي هو عين المهدي فإن الله

___________________

1 الرعد 7               2 المائدة 3

3 النصر 1 _ 2

سبحانه وتعالى هداه به كما قال عليه السلام (( بل تجلى لها بها ))1، فكون الله سبحانه هاديا إنما ظهر بالمهدي ولولاه لم يظهر ، ولما كان الهادي ظهور الحق سبحانه بالهداية وهذا الظهور إنما ظهر وقام بالمظهر والمظهر لوكان له جهة غير جهة الظاهر لكان بتلك الجهة حاجبا لا مظهرا ، فتحقق أن الظاهر هو عين الظهور الذي هو عين المظهر , وأما الذات البحت فمنزّهة عن كل ذلك سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون .

 

       فعلى هذا فالهادي هو النار والمهدي هو الشجرة أي زيتها ، وأنت قد علمت أن النار أيضا إنما ظهرت من الشجرة كالزيت في النار كمثل قولك حين تقرأ القرآن { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }2 وكقوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ }‏3 ، والزيت كقولك لبيك وسعديك يا رب في الآية الثانية وبلى يا رب أنت الله لا إلـه إلا أنت في الآية الأولى فافهم المثال واعتبر بالمثال ودع عنك القيل والقال فإن العلم نقطة كثرها الجاهلون وهو قول علي المفضال عليه سلام الله الملك المتعال (( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته )) هذا على القول بأن المهدي اسم المفعول كما هومقتضى صيغته، وأما إذا اعتبرناه بمعنى اسم الفاعل فالمعنى كما  ذكرنا، واعتبار اسم الفاعل لكثرة المباني الدالة على كثرة المعاني والمبالغة فيه إلا أنك لاحظ ما ذكرنا ينكشف لك الحال .

__________________

1 شرح النهج 13/44

2 طه 14

3 النساء 1

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام  حلاحلا طلسميا

 

       والحلاحل بالضّم هو الرئيس والكبير في القوم كما في منتخب اللغة وقد أشار الحق سبحانه إلى ذلك بقوله الحق { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }1 وقال أيضا سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ }2 وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }3 وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الرئاسة المطلقة بقوله عليه السلام في خطبته يوم الغدير ويوم الجمعة (( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله انتجبه آمرا وناهيا عنه أقامه في سائر عالمه في إلاداء 

____________________

1 النور 62 _ 63

2 الحجرات 1

3 الحجرات 2

 

 

 

 

 

 

مقامه إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ))1والأصل في ذلك أنه المعني في قوله عز وجل { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }2 فإذا كان هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الاسم الأعلى المذكور في السجود آخذا بناصية كل دابة مما يدب في الأرض أرض القابليات والاستعداد فيكون هو الرئيس الحاكم على الكل وهو وجه الله الذي لا تعطيل له في كل مكان والخلق بأسره إما شئون ذاته أوآثاره وأفعاله وأثار آثاره وشئون شئوناته صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا ، وإليه أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله (( أنا الذات وأنا ذات الذوات أنا الذات في الذوات للذات )) وهذا إنشاء الله ظاهر مما قدمنا ونذكر إنشاء الله .

 

       وأما الطلسم فالمشهور في معناه على ما نقل أقوال ثلاثة .

       الأول : الظل بمعنى الأثر فالمعنى أثر اسم .

       الثاني  : لفظ يوناني ومعناه عقد لا ينحل .

       الثالث : أنه كناية عن مقلوبه يعني مسلط .

 

       وهذه المعاني الثلاثة كلها في المقام صحيحة بل مرادة سواء قلنا إن في أحدها حقيقة والباقي مجاز أو حقيقة في المجموع فإن استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد يجوز ، وكذا استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي بإرادتين فيهما لا إرادة واحدة والمسألة مذكورة في علم الأصول .

 

       أما المعنى الأول فلأنه صلى الله عليه وآله وسلم أثر الاسم المكنون المخزون الذي استقر في ظله فلا يخرج منه إلى غيره ، وذلك هو الاسم الأعظم الذي تفرد به الله جل شأنه دون خلقه من الأسماء العظمى الثلاثة والسبعين ، وذلك الاسم هو البحر المواج المظلم كالليل الدامس كثير الحيتان يعلو مرة ويسفل أخرى في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطّلع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في ملكه ونازعه في سلطانه وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، فهو صلى الله عليه وآله وسلم

_________________

1 الإقبال 461                  2 هود 51

مستمد من هذا الاسم الأكبر ومتوجه إلى الله عز وجل به ، وإنما قال أنه أثر لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بقي على ظهور ذلك الاسم وحكى مثاله وظهر بظهوره فيما لا نهاية له وهو في كل مقام من مقامات عالم الكثرة ما ألهته التجارة والبيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فلم يغير خلقة الله وبقي صلى الله عليه وآله وسلم على الكينونة العليا من اليوم الذي خلقه الله على ما خلقه الله ، ولذا كان على خلق عظيم وكان لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى ذو مرة ، هذا على تقدير الإضافة اللاّمية في أثر الاسم ، وأما إذا جعلناها بيانية فيكون هو الاسم المكنون المخزون الطهر الطاهر المطهر وهو اسم الله الأكبر ونور الله الأزهر يضيء بنوره السموات العلا والأرضون السابعة السفلى وهو الاسم الذي قام به كل شيء وخضع له كل شيء وذلّ له كل شيء ، قال عليه السلام في الزيارة الجامعة الصغيرة (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه )) قال الصادق عليه السلام (( نحن والله الأسماء الحسنى الذين لا يقبل من أحد إلا بمعرفتنا قال : فادعوه بها ))1وهو صلى الله عليه وآله وسلم الأكبر الأجل الأعظم على ما ذكرنا فراجع وما نذكره إنشاء الله فترقب .

 

       وأما المعنى الثاني فلأنه صلى الله عليه وآله وسلم عقد لا ينحل لا تهتدي العقول إلى كنه عظمته ويعجز الواصفون عن بيان صفات ظهوراته وآثاره وشئوناته وهو السر وسر السر وسر المستسر بالسر والسر المقنع بالسر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم (( ولا عرفني إلا الله وأنت ))2 وذلك لأنه عليه السلام نفسه وهما من حقيقة واحدة وطينة واحدة طابت وطهرت بعضها من بعض ، ومع ذلك كله فلا يصل عليه السلام إلى الحرف الواحد الذي كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سر التقديم وظهور الواحد في النقطة الحقيقية الغير المفصلة ، ونسبة الحسن والحسين عليهما السلام إلى أبيهما عليه السلام كنسبته عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ أباهما خير منهما ونسبـة القائم عجل الله فـرجه إليهما عليهما

_____________________

1 تفسير العياشي 2/42                2 تأويل الايات 145

السلام كنسبتهما إلى أبيهما عليهم السلام ونسبة سائر الأئمة الثمانية عليهم السلام إليه كنسبته إليهما وإليهم ونسبة فاطمة عليها السلام إليهم كنسبتهم عليهم السلام إلى القائم عجل الله فرجه وكل واحد منهم عليهم السلام يفضل على الآخر بحرف واحد فكلهم لا يحيطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علما ولا ينالون كنه إنيّته ومائيته لأنه صلى الله عليه وآله وسلم في مقام النقطة وهم في مقام الألف والحروف وإن كان الجميع في صقع واحد وحقيقة واحدة وطبيعة واحدة ، فإذا كان علي عليه السلام الذي هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحيط به علما وكذلك الطيبون من أولاده وأحفاده فما ظنك بسائر الخلق الذين هم أشعة من عكوسات أنوارهم وظهور من بروق لمعات إشراقات أسرارهم وقد قال الله تعالى فيهم { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }1، قال الكاظم عليه السلام (( نحن الكلمات التي لاتدرك فضائلها ولا تستقصى ))2 ، والأشجار هي الزروع والثمرات والنباتات الحاصلة من وقع الورق على الأرض الجرز قال الله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ }3 وقال تعالى { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }4 وكان أول من ذاق تلك الثمار روح القدس وهو العقل الكلي ، فأول الأشجار هو العقل الكلي وآخرها آخر الوجوات المقيدة إلى ما لا نهاية له وكلها ناطقة بالثناء على محمد وأل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ومظهرة لفضلهم ومعلنة لمجدهم وعلو مقدارهم ولم تبلغ من ذلك جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير مما هم عليه من الفضيلة والمنزلة الجليلة

_________________

1 لقمان 27                 2 المناقب 4/404

3 السجدة 27               4 الأعراف 57

 

 

والوسيلة وقد قال عز وجل { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }1والإمام عليه السلام هو نعمة الله تعالى قال تعالى { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }‏2 أي من العلم بمحمد وآله عليهم السلام وقال تعالى { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء }3 والعلم هو آل محمد عليهم السلام لقول الباقر عليه السلام (( وأما المعاني فنحن معانيه ونحن علمه ونحن حقه )) على ما تقدم ، وما شاء الله من ذلك العلم هو لطيفة وجودات كل ذي علم إلى ما لا نهاية له كما قال عز وجل { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }‏4 قال تعالى { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ }‏5 أي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن حامل ظهور اسم الله الحي هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أن حامل ظهور اسم الله القيوم علي عليه السلام ، وقولي حامل مجاراة ومداراة بل اسم الله الحي هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاسم القيوم هو علي عليه السلام ولذا دلّت الأخبار الكثيرة على أن الاسم الأعظم هو الحي القيوم ، والاسم لا تذوّت له إلا بالمسمى والاسم غير المسمى ( فمن عبد الاسم دون المسمى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمسمى فقد

___________________

1 إبراهيم 34

2 الإسراء 85

3 البقرة 255

4 يوسف 76

5 طه 110 _ 111

 

 

 

 

 

 

 

أشرك ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه فذاك التوحيد )1 .

 

       وبالجملة فهم عليهم السلام عقد لا ينحل وإليه الإشارة بقول الحجة عجل الله فرجه في دعاء شهر رجب (( والبهم الصافين )) إذ ليس لأحد طريق ولا لقاصد سبيل إلى حقيقتهم كما هم عليه وإنما عرفوا من رشحات أنوارهم ما ظهرت في حقائقهم أي الخلق من المثال ومثال المثال وحكاية الحال في المبدأ والمآل ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الطلسم الأعظم وعقد لا ينحل ولا يحتال فيه بوجه من الوجوه صلى الله عليه وآله وسلم .

 

       وأما المعنى الثالث فلأنه صلى الله عليه وآله وسلم له هيمنة وتسلط على كل من اكتسى حلة الوجود وذاق ثمرة الشهود وتوجه إلى المعبود بالركوع والسجود لأنه الاسم الأعلى في السجود أما سمعت ما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( لا ينبغي أن أصغر ما عظمه الله من قدري ولقد أوحى الله

____________________

1 6 اقتبس المصنف أعلى الله مقامه هذا المعنى من قول مولانا الصادق عليه السلام على ما في التوحيد 220 والبحار 4/165 ح 7 أنه قال عليه السلام (( من عبد الله بالتوهم فقد كفر , ومن عبد الاسم ولم يعبد المعنى فقد كفر , ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك , ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائر أمره وعلانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام , وفي حديث آخر أولئك هم المؤمنون حقا )) .

 

 

 

 

 

 

إلي أن فضلك على الأنبياء كفضلي وأنا رب العزة على كل الخلق ))1لأنه الاسم الذي خضع له كل شيء وذل له كل شيء ، وفي الزيارة (( طأطأ كل شريف لشرفكم وبخع كل متكبر لطاعتكم وخضع كل جبار لفضلكم وذلّ كـل شيء لكم وأشرقت الأرض بنوركم وفـاز الفائـزون بولايتكم )) و (( بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبكم ينفس الهمّ وبكم يكشف الضّرّ ))2 الزيارة .

 

       وذلك لأنهم أبواب رحمته ومفاتيح خزائنه ومقاليد رضوانه ، فالواقف على الباب مادته نور الباب وإلا لم يكن بابا بل كان أصلا وذلك النور هو ألست بربكم على ما مرت الإشارةإليه ، فالباب هو المنير ونوره عضد للواقفين اللائذين به أي مادة لهم ، والمادة لها هيمنة وتسلط على الشيء بحيث لا يقوم الشيء بحال من الأحوال إلا بها ، وهم عليهم السلام العلل المادية للأشياء كلها بأشعة أنوارهم لا بحقائقهم وذواتهم والشعاع لا شيء عند المنير والمنير مسلّط عليه ومهيمن عليه ، أو لأنهم عليهم السلام مقامات الله وعلاماته لا تعطيل لها في كل مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه وبينها إلا أنهم عباده وخلقه فتقها ورتقها بيده بدؤها منه وعودها إليه أعضاد وأشهاد ومناة وأذواد وبهم يملأ الله سماواته وأرضه حتى ظهر أن لا إلـه إلا الله هو وهو معنى قوله تعالى خطابا له صلى الله عليه وآله وسلم (( فضلك على الأنبياء كفضلي وأنا رب العزّة على جميع الخلق )) لأنهم عليهم السلام ولاية الله وهم سلطان الله وهم ملك الله وهم عظمة الله وهم جلال الله وهم قدرة الله وهم سطوة الله ومظهر قهاريته ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرهم وسيدهم ورئيسهم والواسطة بينهم وبين ربهم فيكون محمد صلى الله

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها وإنما وقفنا على ما يقرب منها وهذه هي : قال صلى الله عليه وآله وسلم (( قال ربي يـا محمد إن فضلك على جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين كفضلي وأنـا رب العزة على سائر الخلق أجمعين )) البحار 9/309 ح 10

2 الزيارة الجامعة الكبيرة

عليه وآله وسلم هو السلطان المسلط المهيمن على كل من ذرأه الله وبـرأه وأوجده وأحدثه نواصي الكل بيده وهو المعني بقوله عز وجل { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ }1‏ وهو صلى الله عليه وآله وسلم حامل ظهورات الإلهية على ما قال عز وجل  (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))2 وهو صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الله واسم المهيمن المسلط على كل شيء قال تعالى { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى }3  وقال عز وجل { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }‏4 ألم تر كيف افتتح الله سبحانه كتابه الكريم بالآسم الأعظم بسم الله الرحمن الرحيم وقدم الآسم الله على الرحمن والرحيم فافهم و ثبّت فهو صلى الله عليه وآله وسلم المهيمن المسلط والسلطان المتفرد في المقامات كلها أي البيان والمعاني والأبواب ومقام { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ

________________

1 المؤمنون 88

2 البحار 58/39 ح 61

3 الإسراء 110

4 الزمر 67

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }1 وإليه يشير قول مولانا سيد الساجدين زين العابدين عليه السلام في الصحيفة (( عزّ سلطانك عزا لاحد له بأولية ولا منتهى له بآخرية واستعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين ))2 .

 

       فظهر أنـه صلى الله عليه وآله وسلم الطلسم الأعظم على المعاني كلها ، فأثبت بالمعنى الأول عصمته وطهارته وأنه نبي الله ودليله وآيته لأنه أثر الاسم والأثر بما هو كذلك لم يزل يدل على المؤثر ، وبالمعنى الثاني أنه الاسم المكنون والمخزون في خزائن الغيوب لم يطلع عليه أحد إلا الله وإثبات أنه العلّة الأولى لإيجاد الأرض والسماء على المعاني كلها ، وبالمعنى الثالث أثبت ولايته وظهور قيومية الحق فيه وكونه صاحب اللواء ومكلم موسى في الشجرة عن الله إني أنا الله لا إلـه إلا أنا فاعبدني قال تعالى { مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ }3 قال مولانا وإمامنا الصادق عليه السلام (( شاطئ الواد الأيمن الذي ذكره الله تعالى جل جلاله في كتابه هوالفرات والبقعة المباركة هي كربـلاء والشجرة هي محمد صلى الله عليه وآلـه وسلم ))4 وورد في قوله تعالى { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا }5( أن من في النار هو علي عليه السلام ومن حولها موسى ) فافهم الإشارةبلطيف العبارة .

_____________________

1 الكهف 110

2 الصحيفة السجادية في دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلاة الليل

3 القصص 30

4 المزار 15

5 النمل 8

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام فأقام الدلائل

 

       إنما جمعها عليه السلام لأن الدليل ثلاثة كما قال الله عز وجل مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وحبيبه { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }1 أما دليل الحكمة فهو المشاهدة والمعاينة والمعرفة الذوقية الوجدانية ، وملاحظة الأمور عن مبادئها العالية الكلية والجزئية ، ومعاينة ظهور النقطة الأحديـة في كل المراتب الكونية ، والوقوف على ما حده الله سبحانه له في الألواح والكتب المحفوظة في العوالم العلوية والسفلية من الآفاقية والأنفسية والظاهرية والباطنية ووجدان مآخذ الأسرار الباطنية والتأويلية في مراتبها السبعة أو السبعين والاستدلال بالدليل اللمي في المطالب كلها والدليل الإني على ما قال مولانا الصادق عليه السلام (( العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد من العبودية وجد في الربوبية وما خفي عن الربوبية أصيب في العبودية قال الله تعالى { سَنُرِيهِمْ

_________________

1 النحل 125

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }1))2 وهذا وإن كان إنيّا إلا أنه بوجه آخر لمي وهذا الدليل  معرفة أسباب الشيء وعلله ومعداته وشرائطه ومقومات وجوده ومكملات ظهوره ومتممات قابليته على اقتضاء كينونته وطلب ماهيته على نهج متسق ونظام مضبوط لم يجد فيه اختلافا ولا انتقاضا بل يرى الأشياء بعضها يشرح الآخر  ويبينه ويفصله ليظهر للمستدل قوله تعالى { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ }3  { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }4 ويكون نظره إلى قوله تعالى { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }‏5 ويرجع كل انقلابات العالم واضطراباته وتغيراته كلها عنده إلى شيء واحد فيعرف مأخذها وعلتها ووجهها وعللها وسببب رفعها ورجوع الأمر إلى الوحدة ويظهر هناك معنى قول الصادق عليه السلام في الاستدلال على وحدة الصانع (( اتصال التدبير وتمام الصنع )) ، وبالجمله هذا الدليل للخصيصين وأصحاب باطن الباطن وأهل المشاهدة والمعاينة وليس هنا جهل وشك وارتياب ووسوسة وحديث النفس والاحتمالات الباطلة أو المرجوحة بل كلها معرفة وإنكار قال تعالى { يَعْرِفُونَ

___________________

1 فصلت 53

2 مصباح الشريعة 7

3 القمر 50

4 النساء 82

5 الملك 3

 

 

 

 

 

 

 

نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }1وهذا الدليل يبطل عنده القياسات الاقترانية والاستثنائية والنقيض وعكسه والمستوي ودليل الخلف ودليل الافتراض وأمثال ذلك من الأمور والأوضاع ، إذ ليس هنا إلا معاينة الواقع فما من فرض ولا خلف ولهذا الدليل شرط ومستند ، والشرط على قسمين ، قسم لتحقق هذا الدليل  والقسم الآخر  لميزان حقيته وبطلانه فإن المنكرين المعاندين الذين يلبسون الحق بالباطل كثيرون كالصوفية وأتباعهم من سائر الملاحدة فلا بد من ميزان حق يعرف المحق من المبطل ويتميز بين الصادق والكاذب وهذا أحد قسمي المستند، والقسم الآخر منه الآلة والقوة التي بها يدرك الإنسان ذلك الدليل ويستدل على المطلوب وهي الفؤاد وهو حقيقة الإنسان وذاته من غير نظر إلى شيء من الأشياء وهو وجهه من ربه وهو مقام بساطته وهو عين تدرك الواحد والأحد والعلل والوسائط والشرائط من غير كيف ولا إضافة ولا وضع بل ينقطع دونها الكيف والكم والزمان والمكان والجهة والرتبة والشخص حينئذ يسير في العوالم السرمدية سيرا حثيثا ولا غاية لذلك ، وهناك يستخرج  اللآلئ والكنوز والدفائن في صدور المؤمنين الممتحنين ، وهناك محل معرفة الأمر بين الأمرين ومعرفة البداء والنسخ وكيفية إيجاد العالم وأمثال ذلك من الأمور المشكلة والأخبار المعضلة وهذا

_________________

1 النحل 83

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المستدل من المرحومين بقوله تعالى { إِلَّا مَن رَّحِمَ }1‏ وهو وأمثاله المرحومون بفضل الله سبحانه وهوالمراد من قوله عز وجل { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِـإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }‏2 وإلى هذا الدليل أشار الحق سبحانه بقوله { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }3 والكتاب المنير هو هذا الدليل ، وهو الكتاب الذي كتبه الله بيده والهيكل الذي بناه بحكمته ومجمع صور العالمين والمختصر من اللوح المحفوظ والصراط المستقيم والصراط الممدود بين الجنة والنار والشاهد على كل غائب والحجة على كل جاحد ، وذلك الكتاب هو ملكوت السموات والأرض التي أمر الله سبحانه بالنظر إليها والتأمل فيها كما قال { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ }‏4 وهي التي أراها الله سبحانـه خليله إبراهيم ليكون من الموقنين كما قال { وَكَذَلِكَ نُرِي

________________

1 الدخان 42

2 البقرة 213

3 الحج 8

4 الأعراف 185

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ }1، ولهذا الدليل  مقامات وللمستدلّين به في كل مقام مواقف قد شرحنا قليلا من كثيرها في شرح بعض كلمات الأستاذ أمدّ الله ظلاله على رؤوس العباد في أول رسالته الفوائد ولا نطوّل الكلام هنا بذكرها .

 

       وأما دليل الموعضة الحسنة فهوالوقوف على حد اليقين والاحتراز من الشبهات والاحتمالات والشكوك والأوهام قـال مولانا الكاظم عليه السلام (( فما ثبت لك برهانه أثبته وما خفي لك بيانه نفيته ))2 وهو أخذ طريق السلامة وطريق النجاة الذي ليس معه هلاك كما استدل مولانا وإمامنا الصادق عليه السلام لعبد الكريم بن أبي العوجاء (( إن كان الحق كما يقولون وهو كما يقولون فقد نجوا وهلكتم وإن كان الأمر كما تقولون وليس كما تقولون فأنتم وهم سواء فأنتم إن اتبعتم المسلمون ناجون على القطع واليقين سواء كان الحق معهم أو معكم وإلا ففيه احتمال أن يكون الحق معهم فهناك ينجون وأنتم تهلكون فمتابعتهم طريق السلامة على كل حال )) ومن هذا القبيل قول مؤمن آل فرعون كما أخبر الله سبحانه عنه { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ } فأشار إلى الدليلين الحكمة والمجادلة ثم قـال { وَإِن يَـكُ كَاذِبًـا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي

______________________

1 النعام 75

2 لم نقف على هذه الرواية بعينها ولكن وجدنا ما يقرب منها في المعنى وهو ما روي في الاختصاص ص 85 وهو قوله عليه السلام (( ما ثبت لك برهانه اصطفيته , وما غمض عليك صوابه نفيته )) .

 

 

 

 

 

 

يَعِدُكُمْ }‏1 فأشار إلى الموعظة الحسنة لأنكم إن أطعتموه فأنتم على رآستكم وملككم وسلطنتكم لا ينقص من دنياكم شيء سواء كان صادقا أو كاذبا وإلا ففي صورة احتمال صدقة يصبكم التوعيد الذي يوعدكم به وإن لم يصب الكل لحكم المحو والإثبات فلا أقل من البعض لأنه القدر المعين لأن الله سبحانه لا يدحض حجّته ولا يخصم برهانه ، وشرط هذا الدليل إنصاف العقل بمعنى أن لا يظلمه فيما يستحقّه .

 

       وأما دليل المجادلة بالتي هي أحسن فهو ما هو مذكور في كتب العلماء في الكتب المنطقيّة والأصولية وما يتكلّمون ويتعاطون من بحث الألفاظ والمفاهيم والقياسات والبراهين المستخرجة من الصغرى والكبرى  المستخرجتين من الكليات والجزئيّات على ما هو المعروف المشهور عندهم بل لا تكاد تجد غيره بل لا يعرفون الدليلين الأولين ولا يرونهما دليلا ولا يدرون وجه الاستدلال بهما وإذا أوردت عليهم شيئا من غير المجادلة يقولون إن هذا قول بلا دليل ، وهذا الدليل  للعوام خاصّة .

 

       ولكل من هذين الدليلين مواقف ومقامات وللسائلين الواقفين بباب الحق اللائذين بجنابه في تلك المقامات مقامات خصوصا أهل المجادلة فإن لهم عشرين مقاما كلّيا تختلف جهات الاستدلال فيها وفي كل مقام ثلاثة مقامات مقام القشر وقشر القشر وقشر قشر القشر ، فالأول مقام الوبر والثاني مقام الصوف والثالث مقام الشعر قال تعالى { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا

__________________

1 غافر 28

 

 

 

 

 

 

أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }1 , وهذه المراتب كلها مراتب ظاهر الجلد إلا أنها تختلف باللطافة والكثافة ، وهكذا أحوال المستدلين بدليل المجادلة أعلى مقاماتهم الصور المجردة وأسفل دركاتهم الترب الموصدة وبينهما متوسطات فالأقرب الأقرب والأبعد الأبعد ، فدليل المجادلة للعوام والموعظة الحسنة للخواص والحكمة البالغة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا للخصيص ، والأول للظاهر وأهله والثاني للباطن وأهله والثالث لباطن الباطن وما وراءه وأهله ، وتنحصر مراتب الكائنات في السلسلة العرضية إلى هذه الثلاثة .

 

       وأما في السلسلة الطولية تنحصر في ثمانية أولاها وأعلاها وأشرفها وأسناها الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم ، و ثانيها الملائكة الكروبيون ، وثالثها الملائكة المقربون ، ورابعها الملائكة الصافون الحافون حول العرش الكريم حوامل التدبير من الذاريات والحاملات والجاريات والمعقبات والنازعات والمرسلات والصافات وأمثالها من المدبرات أمرا ، وخامسها الملائكة الناريون المخلوقون من مارج من نار ، وسادسها الملائكة الخاضعون الذليلون الخاشعون المنقادون لأمره العاملون بإرادته لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وسابعها الملائكة القائمون بعبادة الله سبحانه الواقفون بباب إرادته المنتظرون لأمره ، وثامنها الملائكة الساجدون لله سبحانه المعدمون أنفسهم عند ظهور معبودهم وسيدهم ، وتحت هذه المراتب سبعة أخرى وإن كانت ثمانية إلا أن الأولى الأعلى لجلِّها عن البيان والتبيان أحدهما الأنبياء المرسلون أو غيرهم ، والثانيـة رتبة الإنسان من الرعايا المؤمنين المأمومين ، والثالثة رتبة ظهورات العقل الكلي في مراتب تشأن تطوراته للرتبة الإنسانية ، والرابعة مقام الجان المخلوقة من مارج من نار ، والخامسة رتبة الحيوانات من البهائم والحشرات ، والسادسة رتبة النباتات ، والسابعة مقام الجمادات ، وتحت هذه المراتب ثمانية أخرى سفلية الأولى الجهل الكلي الظاهر في ظل ذي ثلاث شعب ، الثانية الشياطين المتعلقة بالكفار والمنافقين والأشرار الـذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويـفسدون في الأرض أولئـك هم

____________________

1 النحل 80

الفاسقون ، الثالثة الشياطين المتعلقة بعصاة الشيعة وفرقة المؤمنين الممتحنين ، الرابعة هي الشياطين الذين هم تطورات الجهل الكلي في مقامات تدابير العوالم الظلمانية قال تعالى { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }1 وهذه العوالم إنما تدبر بتلك الشياطين وهم من أظلة الكروبيين وهم الجنود الخمسة والسبعون التي للجهل على ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام ، الخامسة هم الشياطين المتعلقة بالجان المغوون لهم عن الإيمان وقد تبعوهم كفارهم واقتفوا آثارهم وهؤلاء الشياطين سيئة من سيئات الأوَّلَين ، السادسة الشياطين الذين تبعتهم الكلاب والخنازير والقردة وسائر أنواع البهائم المؤذية التي قد حرمت لحومهم ، السابعة الشياطين الذين يمنعون الأشجار وسائر أقسام النباتات عن ذكر الله فيبطل تركيبهم أو تتقبح هيئاتها وصورها أو تمرّ أثمارها أوغير ذلك من المفاسد الظاهرة في الأثمار المعلولة لغفلتهم عن ذكر الله الواحد القهار المعلولة بإلقاء الشياطين وخصماء رب العالمين فافهم ، الثامنة الشياطين المانعين للأحجار أن تنعقد معتدلة صافية بإلقاء الغرائب والأعراض المعلولة عن الغفلة عليها فيخرجها عما هي عليها ويكدر صافيها ويغير خلقة الله تعالى كما قال تعالى حكاية عن إبليس { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ } 2، ثم في كل مقام من هذه المقامات سبع مقامات أخر وهي الأيام الستة الكلية التي خلق الله فيها السموات والأرضين ، ويوم السبت الذي هو يوم كمالها وظهورها مشروحة العلل مبينة الأسباب تامة التأثير كاملة الفعل والتدبير ، وفي كل مقام من هذه المقامات السبع سبع سماوات وسبع أرضين ونجوم وبروج وكواكب وأقطاب وبيوت وأشراف وثوابت وسيّارات والعرش والكرسي إلى آخر ما ترى في العالم الجسماني آخر العوالم ، وفي كل سماء وأرض من خلق الله ما لا يعلمه إلا الله وإني أجمل لك الكلام بما أجمله الإمام الهمام محمد بن علي الباقر عليه السلام حيث قـال (( لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف

____________________

1 النور 40                   2 النساء 119

آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين ))1على ما رواه الصدوق في الخصال في آخره ، وفي كل عالم من خلق الله ما لا يعلمه إلا الله .

 

       ولما كان خلق العالم ليس عبثا وهباء وإنما هو لأجل إيصال النفع إليهم ولا يكون ذلك إلا بالتكليف وإلا لكان عبثا ووضعا للشيء في غير موضعه أو يكون جبرا واضطرارا لا يتعقل ولا يتصور إلا في محض التلفظ وجب التكليف ، فإذا وجب التكليف تحققت أمور وهي المكلف والداعي والمدعو والدعوة والدليل ، لأن التكليف لا يكون إلا بالمكلَّف وهولا يكون إلا بالمكلِّف وكلاهما لا يكونان إلا بالداعي وهو لا يكون إلا بالدعوة فها هنا خمسة أمور ، الأول المكلِّف وهو الفاعـل والآمر وهو ظهور الذات بالفعل وهو مقام البيـان لأهل المعـاني وهو الـبيـان في { خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ

_________________

1 الخصال 652

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْبَيَانَ }1قال أمير المؤمنين عليه السلام (( أما البيان فهوأن تعرف أن الله واحد ليس كمثله شيء فتعبده ولا تشرك به شيئا )) فافهم الإشارة ولا تحجبك العبارة ، والثاني الداعي وهو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سبحانه إلى خلقه وترجمان وحيه من الوجودي والتشريعي في كل مقام بحسبه لأن الخلق لا يمكنهم أن يأخذوا من الحق سبحانه من غير واسطة وسفير وذلك هو الرسول ، والثالث المدعو وهو المكلف بفتح اللام والقابلية الموجودة حين الوجود السائلة المجيبة ، والرابع المدعو إليه وهو السبيل قال تعالى { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ }‏2 وهو جهة الحق سبحانه في الشرعيات الطاعات والعبادات الموصلة إلى الحق وفي الوجوديات لها مراتب ومقامات حسب مقامات المكلفين والقول الجامع هو الذي ذكرناه في الشرعيات ، والخامس المدعو به وهو الدليل لأن الداعي لو لم يكن له دليل لم يقبل منه وذلك لعدم تمكين القابلية فالدليل من تمكين القابلية والإيجاد التكليفي والتكليف الإيجادي متوقفان عليه ، وهذه المراتب الخمسة في كل موجود في كل مقام من المقامات المذكورة والغير المذكورة يجب أن تكون موجودة وإلا لاختل النظام  وما استـوى على العرش الـرحمن إذ الخلـق في كل أحوالهم وأطوارهم هم

السائلون الواقفون بباب الحق الكريم والفقراء اللائذون بجنابه يقرعون باب رحمته ويستمدون من فضله وعطائه ولهم مقامات وسؤالات وإجابات وتكليفات ودلائل وفيها لهم درجات ومواقف .

 

       الموقف الأول في الحجاب الأبيض الأعلى ومقام السر المقنع بالسر ومقام الظاهر من حيث الظهور بالظهور ، السائلين الواقفين ببابه الفقراء اللائذين بجنابه في هذا الموقف والمقام مراتب ومواقف ومقامات .

 

       المقام الأول في المقام الأول أول المقامات والعلامات وهو الباطن الظاهر بأول الظهور الذي هو نفس الظاهر الـذي هو نـفس الظهور وهو الصبح الصادق الطالع بعـد كشف ظلمة العماء عن شمس الأزل في عالم

___________________

1 الرحمن 3 _ 4                     2 النحل 125

الظهور الإمكاني .

 

       المقام الثاني في المقام الثاني ثاني المقامات والعلامات التي لا تعطيل لها في كل مكان وهو الباطن من حيث الظهور لكونه تأكيدا للباطن من حيث البطون .

 

       والمقام الثالث هو ثالث المقامات والآيات هو الظاهر وهو العماء وهو باطن الظاهر وحق الحق .

 

       والمقام الرابع في المقام الرابع رابع المقامات وهو الظاهر من حيث هو ظاهر والحق والسر المقنع بالسر .

 

       وفي هذه المواقف والمقامات كلف الله سبحانه واقفيها ومقيميها بأنفسها ففيها المكلَّف والمكلِّف والداعي والمدعو به والمدعو إليه واحد بإلاجمال ، أما في المقام الأول فواحد بلا فرض تعدد واعتبار مغايرة ، وفي المراتب الأخر كل واحد بالآخر ، والتفصيل والبيان لا يحسن أزيد مما ذكرنا إلا أن المجموع من طينة واحدة ونور واحد وسنخ واحد والأول نبي عليهم ورسول من الله إليهم بأمرهم ويبين لهم الوحي بيان المعلم للمتعلم لا بيان السراج للأشعة ويستدل عليه بدليل الحكمة .

 

       الموقف الثاني في المداد الأول وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب السائلين الواقفين ببابه والفقراء اللائذين بجنابه في ذلك أي يدعوهم إلى سبيل ربهم بالحكمة ، فالمكلِّف والآمر هو الله سبحانه بظهوره في المظاهر والمقامات ، والداعي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والمدعو هم الواقفون في ذلك المقام وهو المداد والوجود المقيد وبحر الصاد وشجر المزن ، والمدعو إليه الذي هو السبيل هو نفسه لأن الفاعل إنما ظهر له به فهو سبيل ربه إليه وسبيل نفسه إلى الله (( بل تجلى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها ))1وهذا الموقف من الموقف الأول ، ودليلهما واحد

_________________

1 شرح النهج 13/44 , البحار 4/261 ح 9

وهو دليل الحكمة الذي هو أعلى الدرجات وأقوى الدلالات لكن الثاني  طور وراء طور الأول يعرفه من كان سنخيا وسائر الناس به جاهل .

 

       الموقف الثالث في الدرة البيضاء والحجاب الأبيض الثاني والكون الجوهري والطور والقلم وأول غصن أخذ من شجر الخلد وأول من ذاق الباكورة في جنان الصاقورة ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب السائلين الواقفين ببابه والفقراء اللائذين بجنابه في ذلك يعني يدعوهم إلى سبيل ربهم بدليل الموعظة الحسنة وأقام لهم الدليل الحق بلسانهم بلباس الموعظة الحسنة لأن أهل هذا البلد لا يعرفون لغة البلد الأعلى لأنه عالم البساطة وهذا عالم التركيب فيجب أن يترجم لهم تلك اللغة بلغتهم { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }1 وهو صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث على كافة من ذرء الله وبرأه فالمكلِّف والآمر هو الله الظاهر في الخلق بالخلق في المقامات والعلامات كما تقدم ، والداعي  هو نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والطيبون من أولاده عليهم السلام ، والمدعو أهالي ذلك المقام وهم رجال لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعليهم ثياب بيض كلهم قائمون بطاعة الله سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وكيفية دعائه وإقامة الدليل صلى الله عليه وآله وسلم لهم إلى سبيل ربهم هوما قال مولانا العسكري عليه السلام (( وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة ))2 فافهم ، والمدعو الذي هو السبيل المداد وهوالوجود الصادر عن المشيئة والماء النازل من السحاب المتراكم الذي به كل شيء حي وهو أمر الله الذي به قامت السموات والأرض وهو الذي

___________________

1 إبراهيم 4

2 البحار 26/264 ح 50

 

 

 

قدر الله السير في منازله ومقاماته بقوله الحق { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ }1  قـال الباقر عليه السلام (( نحن القرى التي بارك الله فينا والقرى الظاهرة شيعتنا ))2 ، قال مولانا علي عليه السلام (( أنا الذات أنا ذات الذوات أنا الذات في الذوات للذات )) وقال عليه السلام (( فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا ))3 وأنت إن أتقنت النظر فيما تقدم من بيان موضع الرسالة ينكشف لك المراد هنا وعلمت الفرق بين المقامات قال مولانا الصادق عليه السلام (( من عرف الفصل من الوصل والحركة من السكون فقد بلغ القرار في التوحيد )) فافهم إنشاء الله وإلا فأسلم تسلم.

 

       الموقف الرابع في الحجاب الأصفر وعالم الأظلة وورق الآس وقد أمر الله سبحانه أن يجيب السائلين الواقفين في هذا المقام ببابه والفقراء اللائذين بجنابه وأن يقيم لهم الدليل ويدعوهم إلى سبيل ربهم بالدليلين لأن أهل هذا البلد صنفان صنف لهم ربط إلى البلد الأعلى ومجانسة ومشابهة معهم فيعرفون لغتهم ويفهمون لسانهم وصنف مالوا إلى البلد الأسفل الذي هو الموقف الخامس على ما سيجيء فلا يفهمون لغات البلد الأعلى ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعى الصنف الأول وأقام لهم الدليل بدليل الموعظة الحسنة التي هي لغة أهل البلد الأول ودعى الصنف الثاني وأقام لهم الدليل بلغة أهل البلد الخامس ، فالآمر هو الله والداعي ومقيم الدليل هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمدعو ما ذكرنا والمدعو إليه الذي هو السبيل هو القلم الأول ____________________

1 سبأ 18

2 لم نقف على هذه الرواية بعينها ولكن وجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في الاحتجاج 327 حيث قال عليه السلام (( فنحن القرى التي بارك الله فيها وذلك قول الله عز وجل , فمن أقر بفضلنا حيث بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة , والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا )) .

3 شرح النهج 11/113

الموقف الخامس في الحجاب الأخضر والزمردة الخضراء والذر الأول أو الثاني أو الثالث واللوح المحفوظ والكتاب المسطور وظهور النقطة في باء بسم الله الرحمن الرحيم مقام ظهور الكثرة (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) على ما رواه ابن جمهور الإحسائي في المجلي ، وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب السائلين الواقفين ببابه الفقراء اللائذين بجنابه في هذا المقام مقام النقش والارتسام يعني يدعوهم إلى سبيل ربهم ويقيم لهم الدليل دليل المجادلة بالتي هي أحسن لأن أهل ذلك المقام أدنى وأسفل مرتبة من أهالي المقام الأول فيجب أن يدعوهم بلغتهم ويترجم لهم تلك اللغة بلسانهم ليعرفوا المراد ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة ، فالآمر هو الله سبحانه والداعي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمدعو أهل تلك البلدة والمدعو به دليل المجادلة بالتي هي أحسن والمدعو إليه الذي هو السبيل القلم يفيض إلى اللوح وإلى ما سواه وهو العرش الثالث الذي استوى عليه الرحمن برحمانيته فأعطى كل ذي حق حقه وساق إلى كل مخلوق رزقه وهو إشارة إلى تنزلات العقل إلى المراتب السفلية إلى آخر المراتب التي هي مرتبة الجماد ثم أخذ يصعد بتوفيق الله ومدده إلى المراتب العالية إلى آخر درجات العلو في التكوين إلى أن انتهى إلى رتبة الجامع عليه السلام ثم أخذ في الصعود إلى الأسماء من رفيع الدرجات إلى اسم الله البديع فتمّ العرش ودارت الدائرة فهو قطب لها تستمد منه وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام (( أنا قطب رحى الإسلام )) وقوله عليه السلام (( أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ))1 وقوله عليه السلام (( سر القرآن في الحمد وسر الحمد في البسملة وسر البسملة في الباء وسر الباء في النقطة وأنا النقطة تحت الباء )) فالعقل سبيل الله إلى الخلق في الإيجاد والانوجاد وإيصال المدد إليهم من رب العباد وسبيل الخلق إلى الله في صعود الأعمال والأفعال والاعتقادات إليه تعالى ، وقد أشرنا إلى الأول النازل بأحاديث يتعلق وجهها الأوسط بهذا المقام ، وأما إلى الثاني الصاعد فالإشارة

___________________

1 شرح النهج 1/151

إليه كما في قوله تعالى { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ }1 وقوله عليه السلام (( تدلج بين يدي المدلج من خلقك ))2 وقول مولانا علي عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))3 وقـوله تعالى { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ }‏4 قال الباقر عليه السلام (( سبيل الله هو علي عليه السلام والقتل في سبيل الله هو القتل في سبيل علي عليه السلام )) وليس أحد يؤمن بهذه الآية إلا وله قتلة وميتة وبيان ذلك ما تقدم لك من الكلام وكذلك الكلام في المواقف الأخر من العوالم الألف ألف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام الدلائل من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن في كل مقام في التكوين والتشريع ، أما التكوين فكما عرفت وأنا الآن أذكر مثالا حتى يتبين الأمر واضحا .

 

       فأقول إن النار لما تعلقت بالدهن وأثرت فيه بمسها له وجدت الشعلة التي هي السراج ، ولما وجدت الشعلة ظهرت الأشعة ، فالمؤثر هو النار الظاهرة فيها والقابلية هي الدهن والمقبول مس النار للدهن أي الأثر الحاصل من التعلق ، والشعلة هي الشيء المركب منها ، والأشعة هي آثار ذلك المركب وظهوراته وتطوراته ، وهذه المراتب كلها متقومة بالنار ومستمدة عنها وهي دائما تمدها بالتكليف والدليل وتدعوها إلى السبيل وسبيل النار إلى المس نفسه وسبيله إلى الأشعة المس وسبيلها إلى الأشعة الشعلة ، فالنار تدعو المس إلى سبيلها بدليل الحكمة وتدعو الشعلة إلى سبيلها بالموعظة الحسنة وتدعو الأشعة إلى سبيلها بدليل المجادلة بالتي هي أحسن ، ولك أن تجري هذه الأدلة في كل مقام فلنمثل بالأشعة لأنها أظهر لأن السراج يدعو النار الواحد المنبسط على جميع أعيان الأشعة وأقطارها بالحكمة ، ويدعو ذلك النور من حيث ارتباطه بالأشعة وبقاء وحدته الواحدية في تلك الارتباطات والكثرات إلى سبيل النار بدليل الموعظة الحسنة ، ويدعو ذلك النـور أيضا من حيث

_______________________

1 سبأ 18                  2 البحار 87/189 ح 5

3 الكافي 1/184          4 آل عمران 157

صيرورته أشعة مختلفة متكثرة محتجبة عن مشاهدة ذلك النور الواحد إلى سبيل النار بدليل المجادلة بالتي هي أحسن .

 

       وأما التشريع فاعلم أن عليا عليه السلام هو السبيل الأعظم للخلق إلى الله ولله إلى خلقه ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى ولاية علي عليه السلام الذي هو حامل لولاية محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو حقيقة ولاية الله فأقام الدلائل على الولاية ودعاهم إليها ، فقد دعى أهل الحكمة إلى سبيل ربهم الذي هو ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بأن يفنوا في ذاتهم وحقائقهم التي هي مثال ربّهم ويوحّدوا الحق سبحانه بالتوحيد الحقيقي وينسوا أنفسهم وجهة إنيّتهم ولا يروا لهم تذوّتا وتحققا على ما يناسب مقامهم ونهاهم عن الالتفات إلى الغير وإثبات السوى وملاحظة شيء سوى الله حتى الملاحظة وقطع الـنظر وحتى المحبة قال مولانا الصادق عليه السلام (( المحبة حجاب بين المحب والمحبوب )) قال أمير المؤمنين عليه السلام الحقيقة (( كشف سبحات الجلال من غير إشارة )) ، فأهل الحقيقة هم الكاشفون لسبحات الجلال من غير إشارة فإن ارتكبوا ما نهوا عنه فقد عصوا وتردّدوا وشكوا في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وخالفوا الدليل فإنه فؤادهم وحقيقتهم والنور الظاهر فيهم من نور ربّهم سبحانه الذي ظهر هناك من غير حيث وكيف ، واستغفارهم هو المتلقّي بالكلمات والتسليم له بإمرة المؤمنين ألم تسمع قول أمير المؤمنين عليه السلام في سبب شكّ أيوب عليه السلام قال عليه السلام (( لما كان عند الانبعاث عند المنطق شكّ وأيوب وبكى في ملكي فقال هذا خطب جليل وأمر جسيم فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب أتشكّ في صورة أنا أقمته إني ابتليت آدم بالبلاء فوهبت له وصفحت عنه بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين فأنت تقول خطب جليل وأمر جسيم فوعزتي لأذيقنّك من عذابي أو تتوب إليّ بالطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام، قال عليه السلام ثم أدركته السعادة بي ))1وهذه التوبة والاستغفار والطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام هو الـرجوع إلى مقامهم الحقيقي ومنزلهم الواقعي وأهـل هذا المقام

_________________

1 تأويل الآيات ص 494 _ 495

يستغفرون من هذه الجهة لأنه التقصير العظيم الذي لا يتصوّر فوقه قال الشاعر :

       لقد قلت ما أذنبت قالت مجيبة      وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

 

       ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الموعظة الحسنة إلى سبيل ربهم بفعل جميع المستحبات والواجبات وأن لا يلاحظوا إلى الشيء لا من حيث الأثرية ويقفوا مقام ( ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله أو معه ) وأن يوحدوا الحق سبحانه بالتوحيد الشهودي كما قال مولانا الحسين عليه السلام (( أيـكون لغيرك من الظهور ما ليـس لك حتى يكون هو المظهر لك ))1، ونهاهم عن جميع المكروهات والمحرمات وملاحظة الأسباب وعما ينافي التوحيد الشهودي من الاستدلال بالدليل الإنيّ لأن مقامهم ( إن الله أجل أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون به ) فإذا ارتكبوا المكروه فضلا عن الحرام ولم يفعلوا المستحب فضلا عن الواجب فقد عصوا وشكوا وترددوا في ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، واستغفارهم هو التلقي بالكلمات التي تلقى بها آدم من ربه وهي (( اللهم إني أسألك بحق محمد وأنت المحمود )) إلى آخر الدعاء والتسليم له عليه السلام بإمرة المؤمنين ، ومعنى هذا التسليم الرجوع إلى الله والندم على ما سلف من الذنوب بالنسبة إليه ، وإن يونس عليه السلام لما قبل الولاية وأقر بها أخرجه الله من بطن الحوت وكان هذا القبول هو قوله عليه السلام في بطن الحوت كما أخبر الحق سبحانه عنه بقوله تعالى { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَـكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَـبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ

_________________

1 دعاء عرفة لمولانا الحسين عليه السلام

 

 

 

 

 

وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }1 المقرين بولاية أمير المؤمنين عليه السلام .

 

       ودعى رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم أهل المجادلة بالتي هي أحسن إلى سبيل ربهم بفعل جميع الواجبات وأن لا يشركوا مع الله أحدا في الذات والصفات والأفعال والعبادة ، ونهاهم عن المحرمات وعما ينافي التوحيد العوامي من إثبات التعدد والقول بقدم الماهيات والحقائق والتكلم في ذات الله سبحانه أو في إحدى الصفات الذاتية أو كلها كالعلم والقدرة الذاتيتين ، والقول بأن علم الله مستفاد من العلوم ، وأن الله ليس له إن شاء فعل وإن شاء ترك ، وأن مشيته وإرادته عين ذاته سبحانه ، وأن صفات الأفعال مباديها ذاته تعالى ومتعلقاتها حادثة ، وأن شريك الباري يتصور ويتعقل وأمثال ذلك من الأمور التي ورد النهي الصريح في الشرع ويدل عليها العقل السليم ، فإن ارتكبوا ما نهوا عنه وعصوا فقد أنكروا ولاية أمير المؤمنين وشكوا وترددوا        فيها ، واستغفارهم هو أن يقولوا تلك الكلمات بظاهرهم وباطنهم بظاهرها وباطنها ويسلموا له بإمرة المؤمنين على المعنى الذي ذكرنا .

 

       وجعل عليه السلام من إشاراته وتلويحاته وتصريحاته في أقواله وأفعاله وأعماله دليلا عليه في التكوينيات والتشريعيات بحيث لن تجد شيئا إلا وتجد فيه دليلا واضحا وبرهانا لائحا من إرشاداته عليه السلام على حقيته وبطلانه وصحيحه وفاسده وحسنه وقبحه ومخالفته وموافقته يطلع الفقيه العارف على ذلك الدليل القائم على كل شيء في كل شيء في كل أحواله من التوحيد والتمجيد والنبوة والرسالة والإمامة والولاية وسائر أحوال البدء والعود من الشرعيات التكليفية لا يضيق الأمر على الماهر المتتبع العارف الفقيه باللغة العربية الحقية الحقيقية والظاهرية وإن خفي على غيره ، ثم إنه ما يظهر الأمر لأحد من تلك الدلائل التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل شيء سيما في الأحكام التكليفية التشريعية إلا إذا أراد صلى الله عليه وآله وسلم وليس كل من طلب وجد ولذا قالوا عليهم السلام (( ما من شيء إلا

____________________

1 الأنبياء 87 _ 88

وفيه كتاب أو سنة ))1وقالوا عليهم السلام (( إنا لا ندخلكم إلا فيما يصلحكم )) فلا يمكن أن يوجد شيء مهمل الحكم ومهمل البيان ولا يمكن أن لا يذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام ذلك في كلماتهم وإشاراتهم ولا ينصبوا له دليل حق من إرشاداتهم وإلا لم يكونوا حجة بالغة ولم يكمل الدين ، ولا يمكن أن يحتاج إلى شيء أحد من الرعية فمنعوه عنه لأنهم أعضاد للخلق وأركان للبلاد وأدلة رشد للعباد ، ولا يمكن أن لا يقتدروا على التبليغ عند اختفاء أشخاصهم وأبدانهم وهياكلهم البشرية عن أعين الحق للمستحقين لأنهم أيدي الله الباسطة بالإنفاق ونوره المالئ كل الآفاق ، وعلى هذا لجاز لأحد أن يقول إن الله لم يقدر أن يعطي كل ذي حق حقه لاختفائه عن الأبصار تعالى ربي عن ذلك ، وهم عليهم السلام وجه الله لكل ذرة من ذرات الكائنات لا تعطيل لهم في كل مكان كما مر غير مرة فما بقي إلا كما قال عليه السلام (( أقام الدلائل )) على جهة العموم كما يدل عليه الجمع المحلى باللام ، فأقام لكل شيء دليلا على كل شيء بحيث لا يخفى على المتتبع الماهر العارف باللغة ، وهذا الاختلاف في أرباب الملل والأديان أغلبه من جهة إعراضهم عن ذلك الدليل الذي أقامه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الناظرون المتمسكون بالدليل  فأغلبهم ما توقفوا للتمسك

_____________________

1 الكافي 1/59 ح 4

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكلي فلذا {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }1 والمتمسكون على الحقيقة أيضا من جهة مصلحة كينوناتهم لبقاء أشخاصهم وأنواعهم أوقعوا الخلاف بينهم فأخفوا عليهم السلام بعض القرائن عن بعض وأظهروها لآخرين فلو أظهروا للأولين ما ظهر للآخرين لارتفع الخلاف من البين إلا أن ذلك لا يطابق كينونة الوجود في الحكم الثانوي كما قـال لعبيد بن زرارة  (( راعيكم الذي استرعاه الله أمر غنمه أعلم بمصالح غنمه إن شاء فرق بينهما

____________________

1 البقرة 17 _ 19

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لتسلم وإن شاء جمع بينها لتسلم ))1وهذا الاختلاف غيب في هذه السفن الجارية في اللجج الغامرة لئلا يتسلط عليها الملك الذي من ورائهم يأخذ كل سفينة غصبا ، فهذا الاختلاف أيضا منهم نشأ ودليله قام بهم عليهم السلام وأدلتهم عليهم السلام ظاهرة وأعلام حجتهم باهرة وأنوار براهينهم في كل كلي وجزئي ساطعة وشموس بياناتهم على أراضي قلوب شيعتهم مشرقة ما أمسكوا عن بيان شيء وما أبهموا أمرا من الأمور وما أحوجوا رعاياهم إلى غيرهم ، كيف وقد { جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }2وليس من العطف والرحمة والرأفة أن يجعل المنقطعين إليه والقارعين بابه والمنيخين بفنائه في ظلمة بهماء حاشا وكلا بل أدى الرسائل وأقام الدلائل وأتم الحجة وأوضح المحجة إلا أن الأعمى لا ينتفع بمصباح الهدى ولا تنكشف عنه ظلم الدجى قال الشاعر :

       قد تنكر العين ضوء الشمس عن رمد

                                       وينكر الفم طعم الماء من سقم

 

وروى الكليني في روضة الكافي ما معناه ولم أحفظ لفظه أن مولانا الصادق عليه السلام قال لواحد من أصحابه وأظن أنه المفضل (( كيف بكم إذا أتاكم زمان هرج ومرج فبكى الرجل قال عليـه السلام والله إن أمرنـا أبين من

_________________

1 لم نقف على هذه الرواية بعينها فيما عندنا من المصادر ولكن وقفنا على ما يقرب منها وهي ما رواه في البحار 2/246 ح 59 (( راعيكم الذي استرعاه الله خلقه وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها فغن شاء فرق بينها لتسلم ثم يجمع بينها ليأمن من فسادها وخوف عدوها )) .

2 التوبة 128

 

 

 

 

 

الشمس الظاهرة ))1 وهو كما قال عليه السلام ، فلنقبض عنان القلم خوفا من التطويل وصونا من أصحاب القال والقيل قال الشاعر :

 

       وإياك واسم العامريـة إنـني         أخاف عليها من فم المتكـلم

      أخاف عليك من غيري ومني          ومنك ومن مكانـك والزمان

      فلو أني جعلتك في عيـوني            إلى يـوم القـيامـة ما كفاني

____________________

1 ذكر المصنف أعلى الله مقامه هذه الرواية بالمعنى ونحن نذكرها هنا بالنص تيمنا ففي الكافي 1/336 ح 3 عن المفضل بن عمل قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إياكم والتنويه , أما والله ليغيبن إمامكم سنينا من دهركم ولتمحصن حتى يقال مات قتل هلك بأي واد سلك , ولتدمعن عليه عيون المؤمنين , ولتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه , ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى من أي , قال : فبكيت , ثم قلت فكيف نصنع , فنظر إلى شمس داخلة في الصفة , فقال يا أبا عبد الله : ترى هذه الشمس , قـلت : نعم , فقال : والله لأمرنا أبين من هذه الشمس ))

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

قوله عليه السلام وختم الرسائل

 

       الختم إشارة إلى البدء قال الله عز وجل { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }1  وقال أيضا سبحانه وتعالى { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا }‏2 وقال عليه السلام في الدعاء لمحمد وآله (( وأدخلهم مسجدك عودا كما دخلوه أول مرة )) وبيان حقيقة هذا المطلب وسره ومنشئه وأصله يحتاج إلى بحث طويل وفيه أيضا بيان ما لا يحسن بيانه لعدم إتيان أوانه .

 

       ومجمل القول فيه هو أن كل شريف يجب أن يكون في عالم الظهور أخيرا وكل كثيف يجب أن يكون في عالم الظهور أولا ، فكل شريف مقدم في الوجود مؤخر في الظهور وكل كثيف مؤخر في الوجود مقدم في         الظهور ، وذلك لاجتثاث الكثيف والباطل واستقامة الحق و ثباته وإظهار مستجنات السرائر ومطويات الضمائر ، ولما كان الله سبحانه خلق الخلق والسموات والأرض في ستة أيام يوم العقل وهو يوم الأحد ويوم النفس وهو يوم الاثنين ويوم الطبيعة وهو يوم الثلاثاء ويوم المادة وهو يوم الأربعاء ويوم الصورة والمثال وهو يوم الخميس ويوم الجسم وهو يوم الجمعة وفيه جمعت المراتب وخفيت وماتت ، ثم أظهرها في ستة أيام أخر يوم النطفة وهو يوم الأحد ويوم العلقة وهو يوم الاثنين ويوم المضغة وهو يوم الثلاثاء ويوم العظام وهو يوم الأربعاء ويوم اكتساء اللحم وهو يوم الخميس ويوم أنشأناه خلقا آخر وهو يوم الجمعة فهناك اجتمعت المراتب كلها ظاهرة، ويوم السبت يوم كمالها وظهورها مشروحة العلل مبينة الأسباب فتمام الشيء في الستة وكماله في السبعة وهومقام ظهور العقل ، فالعقل أول ما وجد في القوس النزولي فاستنطقه الله ثم قال له أقبل فأقبل ثم قال أدبر فأدبر عن الخلق فأخذ يصعد فأول ما ظهر في النطفة ثم في العلقة ثم في المضغة ثم في العظام ثم في اكتساء اللحم ثم في الروح القديمة وهي النفس الحيوانية الحساسة الفلكية ثم في مقام

________________________

1 الأعراف 29                  2 الإسراء 7

الرضاع ثم في مقام العظم ثم في مقام الصبى ثم في مقام التمرين ثم في مقام المراهقة ثم في مقام البلوغ الذي هو مقام ظهوره في مقامه ثم أخذ يصعد في تمامية الظهور وقوته ونموّه شيئا فشيئا إلى الثلاثين فهناك يتم نموّه ثم يأخذ في الكمال في رتبته ومقامه إلى الأربعين فهنا نهاية الترقي ونهاية الظهور ، وهذا حكم جار في كل مراتب التكوين والتشريع في الكلي والجزئي والذاتي والصفتي والعلوي والسفلي ، ثم يأخذ في النزول فيضعف شيئا فشيئا على ترتيب قوته حتى يناله نصيبه من الكتاب ويبلغ الكتاب أجله فهناك تنهدم البنية وتنكسر الصيغة ثمّ تصاغ جديدا ، فأول صعوده في المحشر أوأول نزوله إلى مقامات صعوده إلى أسفل السافلين أعاذنا الله منه ، ثم في ما إذا سقي من عين الكافور ثم عند سقيه من عين السلسبيل ثم عند أكله كبد الثور ثم عند أكله كبد الحوت ثم عند وقوفه في الكثيب الأحمر ثم عند وقوفه في الرفرف الأخضر ثم عند وقوفه في أرض الزعفران ثم عند وقوفه في مقام الأعراف ثم عند وقوفه في مقام الرضوان وهذا ختم المقام  فيترقى في هذا المقام إلى ما لا نهاية له ، ولما كان العالم الجزئي على مثال العالم الكلي جرت هذه الأحكام كلها في العالم الكلي حرفا بحرف ، ولما كان القلب الذي هو القطب في العالم الجزئي قد تطور في ظهوره مترقيا في ستة أطوار من النطفة والعلقة وغيرهما إلى أن ظهر بالظهور المطلق وكانت تلك الشئون أطوار ظهورات القلب فعند كل طور كان يقتضي حكما من الأحكام إلى أن يظهر في مقام الحياة ، فكذلك العالم الكلي إنما تمّ ظهوره في هذه الأطوار الستة على حسب قواه الكلية ولما كان كل طور يقتضي حكما كليا خلاف ما كان يقتضي الطورالأول لزوال المقتضى عند زوال المقتضي فيقتضي الحكم الكلي الثانوي وزوال الأولي والله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، جعل الله سبحانه لكل طور من هذه الأطوار الستة حكما كليا خاصا به وذلك الحكم هو الشريعة الخاصة بأهل ذلك الوقت وكينونات أحوالهم من الشريعة الوجودية في تلطيف بنيتهم وأبدانهم وعدمه ورقّتهم وغلظتهم واعتدال هوائهم وعدمه وقلّة معرفتهم وكثرتها وأمثال ذلك من الأحوال الجارية عليهم على مقتضى ذواتهم وصفاتهم وأعيانهم وأكوانهم مما جرى في علم الغيب من بدء شأنهم ، ومن الشريعة التكليفية العملية الوصفية من طهاراتهم وصلواتهم وعباداتهم ومعاملاتهم ، ولما كان كل طور من هذه الأطوار قشور مقام أنشأناه خلقا آخر ومعدات سيالة لظهور ذلك المقام كانت أطوارهم وأوطارهم وأحوالهم قشورا وظواهر لمقتضات أطوار ذلك المقام وأوطارهم فكانت شريعتهم قشورا وظواهر للشريعة المختصّة بذلك المقام ، فكانت الأنبياء الحاملون لتلك الشرائع قشورا وأمثال للنبي الحامل لتلك الشريعة إذ السلسلة في القوس الصعودي تترقى من الأسفل إلى الأعلى فلما انقضت مدّة مقتضيات كل طور نسخت الشريعة الخاصة به وأتت الشريعة الخاصة بالآخر  إلى أن أتى الطورالثابت المستقل مثل مقام الحياة فظهرت تلك الشريعة وظهر الأصل الحامل لها ومحيت آثار غيرها لأنها قشور تفنى وتعدم عند ظهور اللب والأصل فرجع الآخر  إلى الأول والأول إلى الآخر ، فلما كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الشريعة السادسة كان صلى الله عليه وآله وسلم هو الخاتم لأنه كان هو الفاتح لأن المقام السادس لا فناء له ولا زوال ولا اضمحلال فتبقى أحواله ومقتضياته ، نعم هو يضعف ويقوى شيئا فشيئا إلى أن يبلغ مقام البلوغ فإن العلقة إذا ظهرت وتحققت بطلت أحوال النطفة وأحكامها ومقتضياتها وكذا المضغة إذا ظهرت وتحققت بطلت آثار العلقة وأحوالها بالكلية وأما الروح إذا ولجت في البدن وحيي البدن فلا تفنى ولا تبطل ، والروح هي القطب المستدير المدبر للبدن كله وتلك المراتب المتقدمة كلها إنما هي لإظهارها ، نعم هي في أول ظهورها وبروزها ضعيفة فتقوى شيئا فشيئا فهنالك تختلف الأغذية التي تغتذي بها ، وكذلك شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأن ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم كالروح المحيية للبدن فحيي العالم بظهوره صلى الله عليه وآله وسلم واستنارت القلوب ومحيت الظلمات ومنعت الشياطين عن استراق السمع وذلك لغلبة النـور المستدعية لنفي المناسبة أو قلّتها ، لكن في أول بعثته وأوان ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم ما أظهر أسرار شريعته واقتصر على القشور والظواهر ثم طرأ على بعض الجزئيات أحكام النسخ ووقع الاختلاف كل ذلك لضعف بنية المكلفين وقلة ثباتهم في اليقين وعدم رسوخهم في الدين وغلبة الظلمة باستيلاء الشياطين عند ظهور النفس الأمارة بالسوء إلى أن يأتي أوان بلوغ العالم الأكبر وهو إذا خرج مولانا القائم عليه السلام وهو إشارة إلى أول ظهور العقل الذي هو القائم في الذات في الجزئي ، ولذا أول ما يظهر العقل في البدن تراه ضعيفا ليس له ناصر والبدن قد تصرفت فيه النفس الأمارة بالسوء ، وكذلك مولانا القائم عليه السلام عجل الله فرجه لا يظهر حتى إذا امتلأ العالم جورا وظلما فيملأه عدلا وقسطا إنشاء الله وهو أول النشاط وغلبة ظهور العقل والأمر الإلـهي يترقى فيأخذ في الصعود والترقي إلى أن يظهر مولانا الحسين عليه السلام ويرجع بعد الوفاة ويظهر الأرض إلى أن يرجع سيدنا ومولانا علي عليه السلام في الكرّة الثانية ويقاتل إبليس فينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقتل إبليس فتبقى الأرض طاهرة مطهرة نقية زكية ، وهذا بلوغه إلى ثلاثين سنة التي هي تمام النشاط والقوة هنالك محل ظهور خاتم الرسالة بالظهور الأولي البدئي وفي الرسالة التكوينية والتشريعية ، ومقام ظهور ليظهره على الدين كله كما كان في البدء كذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذوا وبه في الأحكام الإلهية استندوا وبشريعته عملوا وعلى الكتاب المنزل عليه حكموا فهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَـهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِـأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }1 لأنهم عنده صلى الله عليه وآله وسلم كالشعاع للمنير ، فالمنير يحيط بجميع أحوال الأشعة علما لا يخفى عليه شيء من أحوالهم مما بين أيدهم وما خلفهم لأن الكروبيين الذين إذا ظهروا بقدر سم الإبرة من نورهم لا يطيق أولوا العزم من الرسل التثبت عنده والتحمل لديه فخر مغشيا عليه واحد من رعايا محمد وآله عليهم السلام وشيعتهم خلقوا من شعاع أنوارهم ولذا قال تعالى في باطن بـاطن التـفسير { يَعْلَمُ } أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي الأنبياء { وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } دينه بولاية الولي عليه السلام على المعاني الكثيرة في التكويـن والـتشريع { وَهُم مِّنْ خَشْيَتِـهِ } أي من خشية الله الحاصلة من نور العظمة الظاهرة في محمد صلى الله عليه وآله وسلم

___________________

1 الأنبياء 26 _ 28

والطيبين من آله عليهم السلام { مُشْفِقُونَ } أي حذرون {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } أي الأنبياء { إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ } أي يصل إلي الفيض والمدد أو أني أبلّغ وأبيّن وأترجم للرعايا حكم الله سبحانه من دون توسط محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ منه والتسليم له والإقرار بذل العبودية الرقية لله سبحانه بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم وولاية الطيبين من أولاده وأحفاده عليهم السلام كما رواه محمد بن جرير الطبري من العامّة وأخطب خوارزم منهم في تفسير قوله تعالى { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا }1عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ليلة أسري بي إلى السماء فاجتمعت مع الأنبياء في المسجد الأقصى فأتاني جبرائيل وقال يا محمد : اسأل الأنبياء بماذا بعثتم فسألتهم فقالوا بعثنا بشهادة أن لا إلـه إلا الله وبنبوتك وبولاية علي بـن أبي طالب عليه السلام )) ، { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }‏2 آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقهم والملحدين في أسماء الله .

 

       وبالجملة فلما كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في البدء هو الأصل والقطب لأكوار الوجود وأطواره والشرائع كلها شرائعه والأديان كلها دينه والملل بأسرها ملّته والنواصي كلها بيده ومصادر الأمور عنه ومواردها إليه في العوالم العلوية وفي السفليات أظهروا أطوارهم وأشباحهم المحتجبون بها عن الخلق ، فالعارفون لم يزالوا على يقين في أمر ربهم ونبيهم لا تلهيهم التجارة ولا البيع أي الكثرات الظاهرة والأسباب الواردة عن ذكر الله وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقام الصلاة وهي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والطيبين من أولاده وإيتاء الزكاة وهو التبرّي من أعدائهم ومخالفيهم ، والجاهلون في مقام الفرق والكثرة متحيّرون ، والمعاندون لخبائث بواطنهم

___________________

1 الزخرف 45

2 الأنبياء 29

 

 

وقبائح سرائرهم مظهرون إلى أن ظهر سر { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}1 فتشعشعت الأنوار الأحمدية وظهرت إشراقات شمس الحقيقة المحمدية فاستنارت العوالم وحييت قلوب بني آدم فكانت بتلك الإشراقات بصفي قوابل الاستعدادات وتلطف أراضي القابليات لتصعيدها إلى السماء لإلقاء مثال الكينونة وإظهار جلال الربوبية إلى يوم قتل إبليس لعنه الله فهناك ظهرت الأراضي الكلية والجزئية واستنارت وتلألأت ، تجلى لها النور المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم فأشرقت وطالعها فتلألأت فألقى في هويتها مثاله الجسمي فاستنارت فيكون العود الدنياوي كالبدء الدنياوي من اليوم الذي خلقت السماوات وكان طالع الدنيا سرطان والكواكب في أشرافها وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن الزمان قد استدار فهو  اليوم كهيئة يوم خلق الله السموات والأرضين ))2 ، كان بدء بعثته صلى الله عليه وآله وسلم أول الاستدارة وعند قيام القائم عليه السلام وظهور الاستدارة وعند ظهور مولانا علي عليه السلام في الكرّة الثانية تمام الاستدارة وعند نزوله صلى الله عليه وآله وسلم لسر الخاتمية كمال الاستدارة , ولذا تظهر الجنتان المدهامتان في ظهر الكوفة وما ورائها إلى ما شاء الله ، ثم لما جاء أمر الآخرة وانقضت مدة الدنيا صعد الله سبحانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فيبقى أهـل الأرض في هرج ومرج أربعين يـوما ثم ينفخ إسرافيل نفخة الصعـق { فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ } وهم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاء الله أن لا يصعقوا لأنهم وجه الله الذي لا يهلك

__________________

1 الأعراف 29

2 الخصال 487

 

 

 

 

 

أبدا ولا يفنى سرمدا وهذا موت العالم الأكبر فيبقى ميتا أربعمائة عام { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ }1 وهو بعث العالم الأكبر { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا }‏2 وهو محمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم عادوا كما بدؤوا في الظهور وإلا فهم لم يزالوا في حالتهم وكينونتهم ومقامهم المحمود فأشرقت أرض المحشر بهم وهم نور ربهم ، وجيء بالكتاب والنبيين وهذا بيان لإشراق نور الرب والكتاب هو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وهو الكتاب الذي ينطق بالحق أعمال كل أحد قال تعالى { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم

___________________

1 الزمر 68

2 الزمر 69

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }1‏ ورد أن ذلك هو علي عليه السلام ، وأحاديث عرض أعمال الخلق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام كادت أن تبلغ حد التواتر ، والنبيين هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في تفسير قوله تعالى { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }2 أن المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصديقين هو علي عليه السلام والشهداء هو الحسين عليه السلام وحسن أولئك رفيقا هو القائم عليه السلام .

 

       وبالجملة في المحشر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الوسيلة وهي المعروفة في الأخبار وعلي عليه السلام تحته بمرقاة فيأتى بلواء الحمد ظاهرا كما كان باطنا ويعطى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فيعطي عليا عليه السلام ثم يأتى بمفاتيح الجنة والنار فيؤتى إياه فيعطي عليا عليه السلام ثم يرد إليهما أمر الخلائق في الحساب والميزان والصراط وإليهما عليهما السلام الإشارة في قوله تعالى { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ }‏3 ، فظهر العود كالبـدء كما أن الخلق بهما وجدوا وبنورهما تـأصلوا فرجع في العود

_________________

1 الجاثية 28 _ 29

2 النساء 9

3 ق 24 _ 26

 

 

 

 

 

 

أمرهم إليهما وإلى الطيبين من أولادهما { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }1 فاختتم بهم كما افتتح بهم (( بكم فتح الله وبكم يختم ))2 ، ثم إذا أدخلوا أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وجازوا كل أحد بميزان القسط من أعمالهم كانوا ظهور الحق سبحانه لأهل الجنة وتجليه لهم فهم ملوك الجنة ويأتي أهلها كل يوم جمعة لزيارتهم وهي زيارة الرب التي وردت في الأخبار إذ القديم سبحانه منزه عن أن تنال إليه أيدي الأبصار والعقول تعالى ربي عن ذلك علوا كبيرا ، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الخاتم لأنه هو الفاتح وهو الفاتق لأنه هو الرّاتق وإليـه المرجع لأنه منه البدء وإليه يرجع الأمر كله قال الصادق عليه السلام (( إن الضمير في إليه يرجع إلى الولي عليه السلام فاعبده والضمير فيه يرجع إلى الله سبحانه )) يعني اعبدوا الله بهذا الاعتقاد ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصل الولاية وحقيقتها فهو صلى الله عليه وآله وسلم ختم الرسائل الوجودية والشرعية في المراتب كلها فليست بعده رسالة ولا نبوة إذ المقتضي دائم الاقتضاء والمانع دائم الارتفاع { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }3 .

__________________

1 الأعراف 29

2 الزيارة الجامعة الكبيرة

3 يس 38

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام نصر به المسلمين

 

       أتى بالجمع المحلى باللام ليفيد الاستغراق ، فكل مسلم من أول الإيجاد إلى آخر نهايات الانوجاد في عالم الذرات وخلق النسمات إلى ما لا نهاية له في التكوين والتشريع إنما نصرهم الله سبحانه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والطيبين من آله وأولاده وأحفاده عليهم السلام روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (( لم تجد عند أحد حقا إلا بتعليمي وتعليم علي عليه السلام ))1هذا معنى الحديث .

 

       أما المسلمون في التكوين فكما بينـا سابقا عند قولـه عليه السلام (( أشهد أن لا إله إلا هو )) وقد أشار مولانا الرضا عليه السلام إلى ذلك بقوله (( وفي يوم الغدير عرض الله الولاية على أهل السموات السبع فسبق إليها أهل السماء السابعة فزين بها العرش ثم سبق إليها أهل السماء الرابعة فزينها بالبيت المعمور ثم سبق إليها أهل السماء الدنيا فزينها بالكواكب ثم عرضها على الأرضيين فسبقت إليها مكة فزينها بالكعبة ثم سبقت إليها المدينة فزينها بالمصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم سبقت إليها الكوفة فزينها بأمير المؤمنين عليه السلام وعرضها على الجبال فأول جبل أقرّ بذلك ثلاثة أجبال العقيق وجبل الفيروزج وجبل الياقوت فصارت هذه الجبال جبالهن وأفضل الجواهر وسبقت إليها جبال أخر فصارت معادن الذهب والفضة وما لم يقر بذلك ولم يقبل صارت لا تنبت شيئا ، وعرض في ذلك اليوم على المياه فما قبل منها صار عذبا وما أنكر صار ملحا أجاجا ، وعرضها في ذلك اليوم على النبات فما قبله صار حلوا طيبا وما لم يقبل صار مرّا ، ثم عرضها في

__________________

1 ذكر المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه هذا الحديث بالمعنى , ونحن نورده هنا بالنص تيمنا كما ورد في البحار 26/345 ح 18 (( وكل شيء يسبح لله ويكبره ويهلله بتعليمي وتعليم علي عليه السلام )) والحديث طويل وجليل أخذنا منه موضع الحاجة فمن أراد الزيادة فليراجع .

ذلك اليوم على الطير فما قبلها صار فصيحا مصوتا وما أنكر صار أخرس مثل اللّكن ، ومثل المؤمنين في قبولهم ولاء أمير المؤمنين عليه السلام في يوم غدير خم كمثل الملائكة في سجودهم لآدم ، ومثل من أبى ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الغدير مثل إبليس ، وفي هذا اليـوم أنـزلت هذه الآيـة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }1))2  .

 

       فأشار عليه السلام إلى بعض وجوه نصرة المسلمين من الموجودات العلويّة والسفلية والأصل في ذلك ومجمل القول فيه أنّ نصرة الشّيء بإعطاء مادتة وصورته وتهيئة أسباب قوابله وشرائط ترقياته ومكملاتها ومتمماتها وإيجاد الدّواعي والبواعث والميولات الذّاتية الحقيقيّة إلى الخيرات والكمالات على حسب القابليات ونهج الاستعدادات وتيسير المسبّبات بالأسباب وتمكين القوابل والماهيّات ورفع الموانع والعوارض عن مقابلة فوّارة النور والرجوع إلى عالم السرور ، وهذه الأمور وأمثالها إنما ظهرت وانتشرت ووجدت وتحقّقت في الأشياء كلّها تحت الحجب والسرادقات إلى ما لا يزال بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام فلا يصل إلى مخلوق فيض مادّي أو صوري إضافي أو وضعيّ رابطيّ أو أصليّ إلا بهم ومنهم وعنهم عليهم السلام لأنّهم أبواب الإفاضة والاستفاضة في كل شىء قال مولانا وسيّدنا الصّادق عليه السلام (( إنّ الله خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخ

__________________

1 المائدة 3

2 الإقبال 465 , البحار 27/262 ح 5

 

 

 

 

 

 

المؤمن لأبيه وأمّه أبوه النور وأمّه الرّحمة ))1فالنّور هو مادّتهم والرّحمة هي صورتهم ، لأنّ النّور مدخول من وكلما هو كذلك في مقام الصنع فهو المادة كما تقول صنعت الخاتم من الفضّة وصنعت السرير من الخشب ، والرحمة هي الصّبغ وهي الصّورة ، وهذا النّور هو نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ النّور في قوله تعالى {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ }2‏ هو محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كما دّلت عليه الرّوايات الكثيرة ، وظهر ذلك النّور في العرش الذي هو محدّد الجهات ومنه ظهر في الشمس وهي تربّي المواد أي مواد الأجسام وحقائقها ولذا يرى فيها الأنوار الأربعة إذا نظرت إليها في البلور أو تحت حجاب أسود وهو دليل على أنّها مثال العرش وصفته ودليله ووجهه لأن العرش مركّب من أربعة أنوار كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن علي بن الحسين عليه السلام ، فيقتضي أن تكون الشّمس ظاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ النّبوّة مقام الوحدة والإجمال والبساطة والكلّيّة ولذا يعبّرون عنها بالشّمس ، فظهر أنّ النّور الذي هو مادّة الأشياء من المؤمنين وعكسه وظلّه مادّتها من الكافرين هونور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤيّد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا وعلّي أبوا

___________________

1 بصائر الدرجات 80

2 النور 35

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه الأمّه ))1وهو قوله عليه السلام (( أبوه النّور )) فنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو العلّه المادّيّة للأشياء كلّها ونور علّي عليه السلام هو العلّه الصّوريّة لأنّه عليه السلام هو الرّحمة الواسعة الّتي ظاهرها من قبله العذاب وباطنها الرّحمة المكنونة وهو باب المدينة قال تعالى { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }2 ، فأصل وجود الشّىء متقوّم بمادّته وصورتة وهما قد عرفت أنّهما من فاضل نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلّي عليه السلام وكلّ الأحوال والامدادات والصفات إنّما هي متقوّمه بهما ومتفرّعة عنهما أي المادة والصّورة ، وقد دلّت الآيات والرّوايات على أنّ الله سبحانه وتعالى اتّخذهم أعضادا لخلقه كما يشير إليه مفهوم قوله

____________________

1 علل الشرائع 127

2 الحديد 13

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعالى {* مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }1‏ فأشار إلى أنه سبحانه اتخذ الهادين عضدا وصرّح بهذا المفهوم مولانا الحجة عجّل الله فرجه في دعاء رجب (( أعضاد وأشهاد ومناة وأذواد فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت )) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو العضد القوي للخلق لأنّ مواد كلّ الموجودات من مسلمي أهل التّكوين من نوره ، وذلك النّور الواحد قد تشعّب بالشّعب الكثيرة ظهر بتلك الشّعب جهات الشّيء ومداركه وإحساسه وقواه وحياته فصار الشّخص بذلك سميعا بصيرا كاملا ، لأنّ الله سبحانه خلق من نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ياقوتة حمراء فنظر إليها بنظر الهيبة فذابت وصارت بحرا واحدا فخلق من زبده الأرض ومن بخاره السّموات ، والسموات كانت رتقا ففتقها إلى سبع سموات وعرش وكرسي فجعلها مدارا للموجودات فكلّ موجود من الموجودات لم يظهر في الوجود إلا مصاحبا لقبضة من السموات والأرض والعرش والكرسي ، ولمّا كانت تلك المراتب كلّها في الإنسان ظاهرة مشروحة العلل تقول إنّ فؤاد الإنسان المؤمن قطرة من شجرة المزن الواقعة تحت العرش الأكبر جنان الصاقورة التّي خلقت ووجدت من فاضل فاضل نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وقلبه خلق من العرش الثالث الذي هو من شعاع الملائكة العالين الذين هم خدّام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام وصدره خلق من الكرسي وعقله ودماغه خلق من الفلك السابع وعلمه خلق من الفلك السّادس ووهمه خلق من الفلك الخامس ووجوده أي مادّته الثانويّة خلق من الفلك الرابع وخياله خلق من الفلك الثالث وفكره خلق من الفلك الثاني وحياته خلقت من الفلك الأول وجسده خلق من الأرض فتّمت قوى الشّيء وجهاته واعتباراته بإتمام هذه المراتب وموادّها كلّها من شعاع نور محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما قلنا موادّ الموجودات كلّها من نوره صلى الله عليه وآله وسلم فلا بأس إلى

____________________

1 الكهف 51

 

أن نشير إلى تمايز المواد في كل مرتبة على ما ذكر شيخنا أطال الله بقاءه في شرح الفوائد .

 

       فنقول هي في عالم العقول نور مجرد عن المادة العنصرية والمدّة الزمانية والصورة الجوهرية والمثالية ، وفي الأرواح نور مجرّد عن المادة العنصرية والمدّة الزمانية والصورة النفسية ، وفي النفوس كذلك إلا أنه ليس مجرّد عن أعلى الصورة الجوهرية ، وفي الطبيعة نور أحمر بسيط ذائب مجرّد عن متممات قوابل الأجسام وعن المواد العنصرية ، وفي جوهر الهباء أي المواد المجردة عن الصورة المثالية نور منعقد لم تلزمه الصوّر المثالية ، وفي المثال أبدان نورانية لا أرواح لها أي ليس لها مواد جوهرية ولا جسمانية ، وفي الأجسام والزمان والمكان أنوار منعقدة لزمتها صورها ومدد تصوره مقدرة وفراغات        محدودة ، وفي العناصر طبائع متزاوجة ، وفي المعادن أصول من لطائف العناصر متآلفه ، وفي النباتات لطائف أغذية نامية ، وفي الحيوانات شعلات فلكية حساسة ، وفي الصفات هيئات ذاتية وحركات فعلية وصور ظلية وأمثال ذلك .

 

       هكذا نصر الله سبحانة به المسلمين حيث خلقهم من أعلى عليين وكتب في قلوبهم الإيمان بإملاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابة علي عليه السلام وشرح صدورهم للإسلام بالتمسك بمتابعة  خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم حسن الصورة وصفاء الطوية بقبول التوحيد الواصل إليهم من سيد المرسلين ومنحهم عز الدارين بمتابعته صلى الله عليه وآله وسلم في الدين وشرفهم بالعلم والمعرفة لسلوكهم سبيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باليقين وطيب مولدهم ومسكنهم ومضجعهم لاهتدائهم به إلى الحقّ المبين ، وما بلغ أحد مرتبة ومقاما ودرجة وقربى ومكانة عند الله إلا به من الأولين والآخرين ، فإن الأنبياء والملائكة به صلى الله عليه وآله وسلم وبآله عليهم السلام اهتدوا وهدوا إلى الله سبحانه بحسن اليقين وعنه أخذوا معالم الدين لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان نبياً وآدم بين الماء والطّين ، وأمّا الكفار فهم أيضاً به صلى الله عليه وآله وسلم تأصلوا وبظلّ نوره تذوتوا ، ألا ترى السراج فإنّ النّور والظلّ متـقـوّمان به يمدّ النّور بالنّور ويمدّ الظّلمة بالظّلمة قال تعالى { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا }1 وذلك العطاء وحامل ظهور المعطي هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعليّ عليه السلام ، لأن الله سبحانه لما أراد أن يخلق الكافر خلق فؤاده وحقيقته من الماء المهين من شجرة الزقّوم التي تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنّه رؤوس الشّياطين تنبت في سجّين طينة خبال أرض الجحيم أصلها الأعلى قرار ، فأول نبات ورقها تحت الثّرى الذي لا يعلمه إلا الله وتتم تلك القطرة في الثّرى فتصلصل قطرها في الطمّطام ويتصاعد كالأبخره بين معرك تلك المركّبات الخبيثات فتأخذ في إدبارها صاعدة لتلاطم أمواج بحور تلك المركّبات إلى أن تصل إلى الحوت الذي على البحر فخلق منه قلبه وذلك الحوت ظلالعرش وعكسه وضدّه متقوم به كتقوم الظّلمة بالنّور ثمّ إلىالنور الذي هو ظل الكرسّي ، فخلق الله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام صدره ، ثم إلى الأرض السّابعة القصوى أرض الشقاوة ظّل الفلك السابع فخلق منها دماغة ، ثم إلى الأرض السّادسة أرض الإلحاد فخلق منها علمه أي جهله المركب ، ثم إلى الأرض الخامسة أرض الطغيان فخلق منها وهمه ، ثم إلى الأرض الرّابعة أرض الشّهوه خلق منها وجوده ، ثم إلى الأرض الثّالثة أرض الطّبع خلق منها خياله ، ثم إلى الأرض الثانية أرض العادة خلق منها فكره ، ثمّ إلى الأرض الأولى أرض النفوس وأرض الممات خلق منها جسده ، وخلق من السّماء الدّنيا حياته ، وهذه المراتب كلها متقوّمة بتلك المراتب المتقدّمة وتلك المراتب ومقتضياتها كلّها متقوّمة بمحمد وآله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهت المراتب كلها إليه صلى الله عليه وآله وسلم ، فالعالم والأكوان كلها قد نصرها الله سبحانه به صلى الله عليه وآله وسلم وإنما خصّ عليه السلام المسلمين بها لأنّ النصرة إعانة وإمداد ولا يستحقها الكفار وفيهم تخلية وخذلان ، مع أنه عليه السلام أشار بالكناية فإن خذلان الكفار وتعذيبهم في النار تابع لنصرة الأبرار وتنعيمهم في دار القرار فذكر الأصل

____________________

1 الإسراء 20

المتبوع المقصود لذاته وترك المقصود بالعرض لسر نسوا الله فنسيهم فافهم راشداً موفقا مؤيداً إنشاء الله .

 

       وفي مقامات النّصره وبيانها وكيفيتها ومراتبها ودرجاتها كلمات كثيرة أغلبها لم أعط لها عبارة ، ومنها ما لا يجوز بيانه لأنه يعسر برهانه ومنها ما لا تتحمله العقول فطويتها لقوله عليه السلام (( لا تتكلم بما تسارع العقول إلى إنكاره وإن كـان عندك اعتـذاره ، وليس كل ما تسمعه نكرا أوسعته عذرا ))1، ثم إن ما ذكرنا هنا كلها مستخرجة ومستنبطة من كلام الله وأحاديث أهل البيت عليهم السلام محكماتها فإن وجدت بعض الأخبار تعارض بظاهرها ما ذكرنا فاعلم أنه لا تعارض فيه بوجه وإنّما هو بيان مقاماتهم عليهم السلام حسب ترقياتهم في القوس الصعودي وظهور تنزلاتهم في النزولي كل ذلك حسب أفهام السائلين والمخاطبين وفي كل ذلك إشارة للعارفين إلى ما كتبنا من الحق اليقين فلو أردت أتعرّض لبيان هذه الأمور الجزئّيه لطال علينا الكلام ولا محصّل فيه إلا للعوام وليس وضع هذا الشرح لهم وإنما هو للعارفين البالغين وحظّ العوام في هذا التّسليم والقبول وإلا فقد أنكر قدرة الله في أوليائه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث المعرفه بالنّورانّيه .

____________________

1 لم نجد الروايـة كما هي في هذا الشرح المبـارك , ووجدنا هذه الرواية (( إيـاك أن تتكلم بما يسبـق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره , فليس كل من تسمعه نكرا يمكنـك لأن توسعه عذرا )) البحار 71/229 ح 6

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام وأظهر به الدين

 

       وهو المعرفة وشئوناتها وأحوالها وصفاتها ومقتضياتها في قـوله عزّ وجّـل (( كنت كنـزاً مخفيـاً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف ))1فمحبته سبحانه للإيجاد إظهار دينه المشتمل على ظهور ألوهيته المقتضية لتوجّه الخلق بصدق العبوديه إليه سبحانه وتعالى كما قال عزّ وجّـل { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }2 فالمعرفة والعلم هي العبادة والعبادة هي العلم والمعرفة ، فإن المعرفة عمل الفؤاد واليقين والاعتقاد عمل القلب والعلم عمل الصدر والنفس والصلاة والصوم والحج والجهاد وباقي العبادات هي عمل الجسد ، فمعرفة الجسد والبدن لله سبحانه ليست إلا فعل تلك العبادة ، كما أنّ معرفة القلب ليس إلا ثبوت ذلك الاعتقاد ، ومعرفة الفؤاد ليست إلا الإقبال والتوجّه بغير كيف ، فالعلم عمل والعمل علم والدين هو الجامع هذا العـلم والعمل قـال عزّ وجّـل { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ

_________________

1 البحار 87/344 ح 19

2 الذاريات 56

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإِسْلاَمُ }1 .

 

       والإسلام ينقسم إلى قسمين تكويني وتشريعي ، وكلاهما على قسمين مقتضى المشيئة الحتمية ومقتضى المشيئة العزمية ، ففي مقتضى المشيئة الحتمية لا يقابله الكفر ولايقبل الكفر ولا يتطرق إليه أبدا بوجه من الوجوه وهو قوله عليه السلام (( لا يخالف شيء منها محّبتك ))2 وقوله عليه السلام (( كلهم صائرون إلى حكمك وأمورهم آئلة إلى أمرك ))3 ، وأما مقتضى المشيئة العزمية فيقابله الكفر فحينئذ ينقسم الكفر كالإسلام على قسمين كفر تكويني وكفر تشريعي .

 

       وأما الإسلام فقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في بيانه وتفسيره ونسبته كما في الكافي عنه عليه السلام أنّه قال (( لأنسبّن الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي إلا بمثل ذلك ، إن الإسلام هو التّسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو إالإقرار والإقرار هو العمل والعمل هو الأداء ، إن المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ولكن أتاه من ربه فأخذه ، إن المؤمن يرى يقينه في عمله والكافر يرى إنكاره في عمله فو الذي نفسي بيده ما عرفوا أمرهم فاعتبروا إنكار الكافرين والمنافقين

__________________

1 آل عمران 19

2 مصباح الكفعمي 110

3 مصباح المتهجد 369

 

 

 

 

 

 

والكافرين بأعمالهم الخبيثة ))1 .

 

       وفيه عن أبي عبدالله عليه السلام قال (( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام عريان فلباسه الحياء وزينته الوقار ومروءته العمل الصالح وعماده الورع ، ولكل شيء أساس وأساس الإسلام حبنا أهل البيت عليه السلام ))2 .

 

       وفيه عن عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده عليه السلام قال : قال أميرالمؤمنين عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة وجعل له نورا وجعل له حصنا وجعل له ناصرا ، فأما عرصتة فالقرآن وأمّا نوره فالحكمة وأما حصنه فالمعروف وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا ، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم فأنه لما أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل عليه السلام لأهل السماء استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة فهو عندهم وديعة إلى يوم القيام ، ثم هبط إلى الأرض فنسبني لأهل الأرض فاستودع الله عز وجل حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمتي فمؤمنوا أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة ، ألا فلو أنّ الرجل من أمتي عبد الله عزّوجلّ عمره أيام الدنيا ثم لقى الله عزّ وجلّ مبغضا

___________________

1 الكافي 2/45 ح 1

2 الكافي 2/46 ح 2

 

 

 

 

 

 

لأهل بيتي وشيعتي ما فرّج الله صدره إلا عن النفاق ))1،

 

       وهذا الإسلام وفروعه وشعبه وأحواله واقتضاءاته هو الدين الخالص لله عزّ وجلّ والدين هو الماء الذي كان العرش عليه قبل خلق السموات والأرض كما ورد عنهم عليه السلام ، وهذا الماء هو بحر الصاد الذي ظهر من العين المستنطق من الكاف والهاء والياء ، والعين هو العرش المحمول على الماء وهذا الماء هو بحر المحبة في قوله تعالى (( فأحببت أن أعرف )) ، وهذه المحبة الإلهية أي محبته للخلق ومحبة الخلق له سبحانه لما ظهرت وانبسطت في مرايا القوابل اقتضت أنحاء الشرعيات من الاعتقاديّات والعمليات وكلها عين لحقيقة المحبة ، والدين هو عين الماء الذي هو عين المحبة التي قد تشعبت في كل عالم بطور ونهج والمآل إلى واحد ، وجميع مراتب تلك المحبة بأنواعها وأقسامها ما ظهرت مفصّلة إلا في محمد وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام فهم الصلاة وهم الزكاة وهم حج بيت الله وهم بيت الله وهم صوم شهر رمضان وهم شهر رمضان وهكذا باقي العبادات ، وهذه العبادات المنتشرة بين كافة الخلق من الأنبياء وأممهم إلى هذه الأمة إلى يوم القيامة كلها فروع لتلك العبادات التي هي دين الله ودين الله هو الإسلام والإسلام اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن زبر الإسلام يطابق بينات محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبينات اسم للزبر والزبر هو المسمى ، فحقيقة الإسلام اسم وصفة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أن حقيقة الإيمان اسم وصفة لعلي عليه السلام لأن زبره عين بيّناته عليه السلام ، ولذا نسب الإسلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عليه السلام (( نصر به المسلمين )) ، ولما كان من هذه الصفة يظهر أن كل من أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المسلم وإن لم يقرّ بولاية علي عليه السلام فإنه هناك مؤمن مع أن الإقرارين متساوقان ومتساويان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر رفع الحق سبحانه هذه الشبهه ونسخ هذه الإلقاء من

________________________

1 الكافي 2/46 ح 3

 

 

الشيطان بقوله الحق { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }1‏ وقوله { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }‏2 وقوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }‏3 بعد ما قال عزّ وجلّ { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }‏4 فارتفعت الواهمة فإن الإسلام الخالص الذي هو الدين الخالص لا يكون ولا يتحقق إلا بالإقرار بولاية أمير المؤمنين  عليه السلام ، فالإيمان والإسلام مقترنان متـفقان بل متحدان لا يفارق أحدهما عن الآخر ، نعم قد يجري في الحكم الظاهري إثبات الفرق توسعة للمكلفين ، وإبقاء لهذا السر وجريا على حكم الله في التكوين فإن الله سبحانه قد خلق بعض الكلاب والخنازير والقردة في الباطن على الصورة الإنسانية للإقرار الظاهري الكذب وأما إذا عادت الأشياء إلى مبادئها ترجع الأغلاط والأخلاط كلها إلى أصولها ومبادئها ، ا فالدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإخلاص والإخلاص هو التوحيد والتوحيد إثبات الهويّة ومحو الأغيار ، وكمال التوحيد نفي الصفات ونفي الصفات يستلزم ظهور الهاء في هو بنفي الواو ، وظهور الهاء لا يكون إلا في ذلك الماء الذي كان العرش عليه الذي هو الدين فرجع الأمر دوريا واتصل الأول بالآخر والآخر بالأول والقبل بالبعد والبعد بالقبل فارتفعت الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية والقبلية والبعدية ، وهذا الدين ما ظهر في أكوار الوجود وأدواره وأطواره إلا بمحمد وآله عليهم السلام فكلما في الوجود على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه أخذوا وإليه استندوا في كل مقام من مقاماتهم ومرتبة من مراتبهم ودرجة من درجاتهم في التكوين والتشريع إلى ما لا نهاية له .

 

       إلا أن هذا الدين على قسمين ، قسم على مقتضى الهياكل الإنسانية في كل درجاتها ومقاماتها وترقّياتها وتنزلاتها إلى مقامات أجسامها وأعراضها وقراناتها وأمثالها الغير المشوبة بشيء من مقتضيات الهياكل الشيطانية ، وقسم على مقتضى المزج والشوب بين الهيكلين وعدم بقاء واحدة منهما على

_____________________

1 الزمر 3                    2 غافر 14

3 البينة 5                    4 آل عمران 19

صرافتهما إذ حين الصرافة في الثانية وعدم ذكر الأولى تقتضي إعدام الكون وإفناء الوجود واضمحلال العالم ، لأن العالم لا يدور على الباطل لأنه مجتثّ لا أصل له فلا يصلح للقطبية الدائمة الباقية ، وفي صورة الصرافة في الأولى تنزل السماء بركتها وتخرج الأرض نباتها وعشبها ويستدير الزمان كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض ، وفي صورة المزج لا يصح الإبطال لوجود الحق ولا يصح الإعطاء الكامل لوجود الباطل ، فالشريعة والطريقة والحكم تتغير في الموضوع لأن المراد إبقاء الهياكل الإنسانية عند المزج خاصة ، فإذا توقف هذا الإبقاء على إجراء بعض مقتضيات الهياكل الشيطانية وجب إجراؤه لبقاء تلك الهياكل الطيبة وصونا لها عن التلف المستلزم لخراب الكون والوجود فإن الله سبحانه خلق الخلق ليبقيهم لا ليهلكهم ، ألا ترى تعاقب الليل والنهار وتقدم الليل على النهار وتقدم الظلمة على النور مع أن الظلمة متقومة بالنور والليل متقوم بالنهار والنهار متأصل في الإيجاد والوجود ، ووجود العقاقير المرّة المنـتنة والسموم القاتلة وغيرها والحيوانات المؤذية وغير ذلك كل ذلك لبقاء النوع الإنساني والنور إلالهي ، لأن الله سبحانه أبى أن يجري الأمور إلا بالأسباب وإلا فهو سبحانه فعال لما يشاء لا راد لقضائه ولا مانع لحكمه .

 

       والأصل في ذلك أن الله سبحانه لما خلق العقل من الماء العذب الفرات نورانيا وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش ثم قال له أدبر فأدبر فنزل في إدباره إلى عالم الأجسام مظهر اسم الله المميت فخلق الجهل من الماء المالح الأجاج ظلمانيا ، ثم قال له أدبر فأدبر وأخذ في إدباره صاعدا إلى الطمطام إلى السجين إلى جهنم إلى نار السموم إلى ريح العقيم إلى الماء المالح الأجاج إلى الحوت إلى الثور إلى الأرضين إلى أرض الدنيا التي هي بإزاء سماء الدنيا ، فمزج آثار العقل والجهل في هذه الأرض في نقطة الإلتقاء فصارت أحكام أحدهما سرت وجرت في الآخر فانكسرت سورة نورانية العقل وظلمانية الجهل في هذا العالم فاقتضى الاختلاف وتعاقب الليل والنهار وامتزاج الحلو والمر والسم والترياق واختلفت الأمزجة وخرجت عن  الاعتدال ، فطائفة غلبت عليهم الصفراء والأخرى البلغم والأخرى الدم والأخرى السوداء أو المركب عن أحدهما مع الأخرى ، ولما كانت القوى والمشاعر الروحانية تظهر في الأجسام على مقتضى حكم الأبدان والأجسام فاختلفت الميولات والشهوات والمدارك والأفهام واللاهوية وغير ذلك ، فاقتضت اختلاف الأديان والملل واختلاف الآراء والأهواء في كل ملة واختلاف المذاقات في الرد والقبول والجرح والتعديل ووجوب التقية والكذب على الله ورسوله عند الضرورة والحاجة والقول بغير العلم والعمل بمجرد الظن وفي بعض المواضع لمحض الشك وكل ذلك من دين الله الذي أنزله على رسوله ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيجريها على مقتضى القوابل والاقتضاءات من الإنسانية والشيطانية من أحكام النسخ والبداء وذكر المتشابهات من المجملات والمطلقات والعمومات وغير ذلك من سائر الإضافات والأوضاع والقرانات ، إلى أن تتفرق النقطتان ويتمايز البحران ويبطل المزجان فتذهب النقطة الظلمانية نازلة إلى أسفل السافلين والنقطة النورانية صاعدة إلى أعلى علّيّين ، فتعود الأحكام إلى الصرافة الإلهية ويخلص الدين لله سبحانه لمقتضى الهياكل الإنسانية وتلحق الأحكام الشيطانية بأصلها ومبدئها ، وأول مقام التمايز عند خروج مولانا القائم عجل الله فرجه وسهل مخرجه وجعلني الله فداه وصلى الله عليه وعلى آبائه الهداة ، وكمال التمايز الدنياوي في آخر الرجعات بعد قتل إبليس وطهارة الأرض عن كل رجس نجس وخبث في عالم التشريع وكمال التمايز في العالمين عالم التشريع وعالم التكوين في القيامة ، فينقطع الليل وكل ما لا تهوى الأنفس ويعود العود كالبدء { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }1فدين الله سبحانه وتعالى واحد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحكم الجاري على المخلوقات هو من فروعه وشعاعه يجري في الموضوعات جريان الماء النازل من السماء في عروق النباتات فيتكيّف بكيفية تلك النباتات على حسب تلك الأرض فمنه نبات طيب ومنه نبات مرّ منتن .

         كقطر الماء في الأصداف درّ       وفي بطن الأفاعي صار سما

 

       قـال الله عز وجل { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِـقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }2 فكل

_____________________

1 يس 38                      2 الرعد 11

الأديان دينه وكل الشرائع شريعته وكل الملل ملته وهو واحد يجري فيها كجريان الماء في النبات كما مرّ آنفا ، فحقها من موافقته ومتابعته وباطلها من خذلانه لتقويـة الحق وتسديـده وتأييده كل شيء عنده بمقدار وقد قـال الله { وَتَـحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًـا وَهُمْ رُقُـودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْـيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ }1‏والصيغة إما متكلم معه غيره أو معظم لنفسه وليس مع الله وعنده إلا محمد وأهل بيته عليهم السلام لقوله تعالى { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}2 ، قال مولانا الصادق عليه السلام (( الذين في السموات هم الملائكة والذين في الأرض هم الجن والإنس ونحن الذين عنده )) وقال عليه السلام (( لنا مع الله حالات )) الحديث ، وليست عظمة الله الظاهرة في المخلوقين إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام كما في الدعاء (( وبعظمتك التي ملأت كل شيء ))3 قال الحجة عجل الله فرجه في دعاء رجب (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إلــه إلا أنت )) فعلى كلا التقديرين فالضمير في نقلبهم ذات اليمين وذات الشمال يرجع إليهم كما قالوا عليهم السلام (( إن إلينا إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم ))4 عن الباقر          عليه السلام ، وقـالوا عليهم السلام في قولـه تعالى { وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }‏5 (( هي والله آياتنا وهي والله ولايتنا )) الحديث عن مولانا علي بن الحسين عليه السلام ، فافهم راشدا ما ألقينا عليك من السر الحق  والكبريت الأحمر إذ ما تسمعه من غيرنا إلا إذا ورد ماءنا وأكل زادنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

       بقي هنا شيء وهو قوله عليه السلام (( نصر به المسلمين )) فإن قال قائل كيف نصر الله المسلمين به صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم في ذل شديـد ومحكومون لكفار ويجـري عليهم حكم الأغيار ويتقون من الفجار

___________________

1 الكهف 18                 2 الأنبياء 19

3 دعاء كميل بن زياد         4 تفسير فرات 551

5 فصلت 15

ويصدقون الباطل ويكذبون الحق خوفا من الأشرار مع ما هم عليه من عدم التصفية والتزكية وشيوع المعاصي عندهم وخيانة الأمانات وكسالتهم في الطاعات وقعودهم عن الخيرات واشتغالهم بالشهوات وتوغلهم في الكدورات وليس ذلك إلا لتمكن المخالفين فيهم وإصابتهم من لطخهم .

 

       قلنا : إن جواب ما ذكر يعرف مما ذكرنا لأن ذلك كله إنما هو لبقاء كينونتهم وحفظ ذواتهم وإنيتهم ولو لم تكن معهم نسبة مع الكفار والفجار وهم أهل الغلبة لأخذوا برقابهم ولأهلكوهم عن آخرهم وهذه الأمور كلها نصرة لهم ، كالطبيب الذي يسقي المريض شرابا مرا وليس ذلك إلا لنصرته لا لعداوته وهوكما فعل الخضر عليه السلام من خرق السفينة وقال { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا }1وذلك الملك الجائر المسلط الكافر هو مخالفونا فافهم في الظاهر { أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا }‏2 { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ

____________________

1 الكهف 79

2 الكهف 34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }1‏ قال مولانا الصادق عليه السلام لعبيد بن زرارة حين لعن أباه زرارة قال عليه السلام (( إني أردت بذلك ما أراد الله حكاية عن الخضر { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا }‏2 وإنه لمن أفضل السفن الجارية في اللجج الغامرة )) إلى أن قال عليه السلام (( ولكل ذلك عندنا تصاريف ومعان توافق الحق ولوأذن لنا لعلمتم أن الحق في الذي أمرناكم فردوا إلينا الأمر وسلموا لنا واصبروا لأحكامنا وارضوا بها والذي فرق بينكم فهو راعيكم الذي استرعاه الله خلقه وهو أعرف بمصلحة غنمه في فساد أمرها فإن شاء فرق بينها لتسلم ثم يجمع بينها ليأمن من فسادها وخوف عدوها ))3 وهذا اختلاف الأنظار وتعاقب الليل والنهار وظهور الأشرار والفجار إنما هولنضج بنية المسلمين واستئهالهم لدوام إشراق الحق المبين وتخلصهم عن شوب نسبة الشياطين وكل ذلك نصرة لهم قال عز

___________________

1 آل عمران 178

2 الكهف 79

3 البحار 2/246 ح 59

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجل في الحديث القدسي (( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسد عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسد عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا المرض فلو صححته لأفسد عليه دينه وإن من عبـادي من لايصلحه إلا الصحة فلـو أسقمته لأفسد عليه دينه ))1 فافهم وتفهم .

_____________________

1 لم نقف على هذا الحديث بعينه وإنما وجدنا ما يقرب منه في المعنى ففي البحار 71/140 ح 31 قال تعالى (( إن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفاقة ولو أغنيته لأفسده ذلك , وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أمرضته لأفسده ذلك . . إلخ )) 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      قوله عليه السلام صلى الله عليه آله الطاهرين

 

       لما أبان فضل محمد وآله عليهم السلام بما لا مزيد عليه وذكر فيهم مما لا طاقة للعقول لتثبته وتحمله وأبان أن بيدهم ملكوت السموات والأرض وعندهم مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وكل ما سوى الله مما اكتسى حلة الوجود منهم وبهم وعنهم وإليهم ولهم لا تذوّت لهم إلا بهم وكلهم واقفون ببابهم لائذون بفقرهم بجنابهم وإليهم مردهم وإيابهم وفيه رائحة من التفويض على ظاهر ما يعرفه العوام ، أراد عليه السلام أن يزيل هذه الشبهة ويرفع تلك الواهمة ويثبت الأمر ويحقق الحق ويبين أنهم عليهم السلام لا تذوّت لهم إلا بالله ولا شيئية ولا تأصل ولا حكم لهم إلا بمدده وليسوا شيئا إلا بفيض فضله وظهور أمره بأن دعى لهم وسأل لهم من الله سبحانه المعونة والعطية ليعلم أنهم ليسوا بمستقلين وليسوا أيضا كالوكلاء بأن الله سبحانه أمرهم فهم يعملون ورفع يده عنهم كالسيد إذا أعطى عبده أربعة دنانير بأن يشتري له من السوق الشيء الفلاني فذهب العبد عنه فإن هذا كفر وزندقة وخروج للحق سبحانه من السلطنة ، ولذا ورد النهي عن ذلك وكذّب مولانا الصادق عليه السلام من زعم لهم أنهم فاعلون بأمر الله بل إنما هم كالسراج بالنسبة إلى النار وإلى الأشعه فإن نواصي الأشعة كلها بيد السراج وليست شيئا إلا بالسراج في كل أحوالها متقومة بالسراج ومتحصلة عنه إلا أنه ليس شيئا إلا بالنار فلو قطعت النار مددها عنه لهلك وفنى وبطل فهولا يزال مستمد من النار ومتقوّم بها ومستمد عنها فلا استقلال له بوجه فهو حين ما يفيض إلى الأشعة بيد النار بل السراج يد النار الباسطة بالإنفاق على الأشعه وأذنه الواعية ، والنار هي فعل الله سبحانه وتعالى والسراج مثال العقل الكلي المقبل المدبر والدهن المكلّس البخاري أي الدخاني هوالحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم فحينئذ يتوجه الدعاء لهم عليه السلام والاستمداد لهم من الله سبحانه كما أمر

 

 

 

بذلك بقوله الحق { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }1، فهم دائما أبدا سرمدا في الاستزادة والاستمداد من العلم فإن الوجود علم وما من الله سبحانه معرفة وذلك العلم يتقدر بتقدير  العمل ، فالعلم من الله سبحانه والعمل من العبد بإعانته وتسديده ، بل كل ذرة من الذرات لما كانت على مثال مبادئها وجواهر أوائل عللها جرى فيها حكم الاستزادة الدائمة فلا وقوف للفيض ولا تعطيل للمدد كما قال عز وجل في حديث الأسرار (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))2 .

 

       وإنما اختار في مقام الدعاء الصلاة لأنها الدعاء الكلي لأنها صورة ولايتهم التي هي هيكل التوحيد التي هي عين الفقر إلى الله سبحانه ، فإنه لا ينال مقام ولا مرتبة إلا بالخلوص في الافتقار وكل من تمحض في الفقر ظهر فيه نور الكبرياء بقدر تمحضه فيه والاستغناء عن الخلق والإقبال بفقره وذله إلى

_________________

1 طه 114

2 إرشاد القلوب 199

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخالق قال تعالى (( أنا عند المنكسرة قلوبهم ))1ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( الفقر فخري وبه أفتخر ))2 فأعظم الدعاء في حق المرء أن يشعره الله سبحانه فقره ثم يديمه عليه كما قال تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث }‏3 ، فإذا بقي الفقر واستدام وتخلل في كل أجزائه وجزئياته يكون خليلا فإذا غلب التّخلّل بحيث كان عين الفقر كان حبيبا ، فالصّلاة إما مشتقة من الوصل أو من الصلة أو من الصّلوان .

 

       فعلى الأول يكون المعنى وصل الله حبله بحبلهم كما تقول { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }‏ 4 ونوره بنورهم وحبله بحبلهم وحكمه بحكمهم وقوله بقولهم وولايته بولايتهم بمعنى أن يجعل حبله عين حبلهم كما فعل تعالى كما

_______________

1 منية المريد 123

2 البحار 72/30 ح 26

3 الأعراف 175 _ 176

4 الفاتحة 6

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ }1 وحبل الله هو التمسك بهم وبولايتهم وأقوالهم وأفعالهم فإنه حبل الله وسبيله وطريقه ودليله ، ويجعل نوره عين نورهم لا نور لله سبحانه ظاهرا في الخلق سواهم قال مولانا علي ابن الحسين عليه السلام (( اخترعنا من نور ذاته ))2 أي المخلوقة وقال تعالى       {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ }‏3 فالنور هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الآية لبيان مثل نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو عين نور الله ، ألا ترى أنه ليس للنار نور ظاهر للأشعة إلا السراج ، ويجعل حكمه تعالى عين حكمهم عليهم السلام كما قـال مولانا الباقر عليه السلام (( أما المعاني فنحن معانيه ونحن علمه ونحن حكمه )) قال تعالى { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ }‏4 { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }‏5 ويجعل ولايته عين ولايتهم عليهم السلام كما قـال تعالى { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }‏6 وقال عز وجل { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى }‏7 ، ويجعل معرفته تعالى عين معرفتهم كما أشار إليه مولانا أمير المـؤمنين عليـه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل

____________________

1 آل عمران 103              2 البحار 26/24 ح 2

3 النور 35                      4 النساء 80

5 الفتح 10                     6 الكهف 44

7 الأنفال 17

 

 

 

 

 

 

 

معرفتنا ))1على المعنى الثالث وقال الحجة المنتظر عجل الله فرجه في دعاء رجب (( بمقاماتك وعلاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك فتقها ورتقها بيدك )) إلى أن قال عليه السلام (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا أنت ))2 ، ألم ترى أن لا إلـه إلا الله إثنى عشر حرفا والوجه أربعة عشر حرفا وهكذا سائر أحكام الربوبية ، فدعاؤه عليه السلام لهم بذلك الوصال والاتصال إبقاء ذلك لهم فيما لا يزال من الخلق والصوغ الجديد قال عز وجل { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }‏3 وكل شيء دائم التجدد في الصوغ والكسر ولا غاية لهما على مقتضى الحركة          الجوهرية ، فالدعاء بأن يصيغهم الله سبحانه في كل صوغة هكذا ويستمر لهم مقام الوصال إلى ما لا نهاية له ، فلعمري لقد استجاب الله لهم هذا الدعاء فهم أهل الوصال دائما في الدنيا والآخر ة وفيما لا نهاية له في التكوين والتشريع ، فهم الساكنون وهم المتحركون وهم المحركون وهم المتصلون وهم المنفصلون فصل في عين الوصل ووصل في عين الفصل حركة في عين السكون وسكون في عين الحركة محركون في عين متحركيتهم ومتحركون في عين محركيتهم قال مولانا الصادق عليه السلام (( من عرف الفصل من الوصل والحركه من السكون فقد بلغ القرار في التوحيد )) وقد أشار إلى هذه الدقيقة مولانـا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته كما مرّ غير مرّة (( أقامه في سائر عالمـه في الأداء مقامه إذ كان لا تـدركه الأبصار ولا تحويـه خواطر

_________________

1 الكافي 1/184 ح 9

2 دعاء مولانا صاحب الأمر عجل الله فرجه في رجب

3 ق 15

 

 

 

 

الأفكار ))1وهذا القول إشارة إلى جميع مراتب الوصل فإن هذا الوصل له مراتب كثيرة يضيق صدري لبيانها ولا يضيق لكتمانها .

 

       وعلى الثاني يكون المعنى وهبهم الله تعالى وأعطاهم من كرمه وجوده وفضله ما أغناهم عن كل ما سواه سبحانه من أنحاء الشرائط واللّوازم والمتممات والمكملات الذاتية في التكوين والتشريع ويكونوا بذلك في صقع الـوجود المطلق وصار زيت قابليتهم { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }‏2 فكانوا بذلك نور على نور فيهدي الله لنوره من يشاء ، فأول من هداه إلى ذلك النور بعدما وهبهم وأكملهم الأنبياء ثم الأوصياء ثم الإنسان أي المؤمنين ثم الملائكة ثم الجن ثم البهائم ثم النبات ثم الجماد هذا في التكوين ، وكذلك في هذه المراتب في التشريع لكن لكل مرتبة في مراتب التشريع مقامات كثيرة يطول بذكرها الكلام .

         ولكل رأيت منهم مقاما         شرحه في الكلام مما يطول

 

       وعلى الثالث يكون المعنى كما أشار إليه عليه السلام في الحديث في المعراج إلى أن قال (( يا محمد لقد وطأت موطأ ما وطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل قف فإن ربك يصلي ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : كيف يصلي ، قال : يقول سبّوح قدّوس أنا رب الملائكة والروح )) وهذه الصلاة بمعنى الصلوان فيصل النبوّة بالولاية والولاية بالنبوة .

 

       فلما استجاب الله سبحانه لهم هذا الدعاء بهذه المعاني الثلاثة كانوا أولياء الله من العز ، ولما كان المحدث دائم التجدد والسيلان زمان بقائه هو عين زمان وجوده وجب على كل الخلق أن يدعوا لهم بالصلاة ليستقر الكون وينتظم الوجود وإلا لبطل واختل ، لأن نظام الوجود مقوم بهم من حيث كونهم أولياء الله وظهور المعاني الثلاثة التي للصلاة فيهم وليسوا إلا هذه فلو فقد واحدة من هذه الثلاثة لانعدم الوجود وفسد النظام وبطل القوام ولذا

___________________

1 الإقبال 461

2 النور 35

صلى الله عليهم وأمر الملائكة بالصلوة عليهم وأمر المؤمنين بذلك فقال عز وجل { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }1‏ فإنه سبحانه يعطيهم هذه الثلاثة والملائكة والمؤمنون يسألون الله إياها لهم ولذا خص الصلاة فافهم .

 

       قال شيخنا أطال الله بقاءه ( معنى اللهم صلّ على محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا بأن نسأل الله تعالى لهم أن يرحمهم وأن يرحم بهم وأن يصلهم برحمته وأن يمدهم بمدده الذي استوى بها على عرشه بجميع خلقه بهم من جميع رحمانيته التي غيبت العرش بظهوره لها عليه ، وباطنا بأن يكون يريد من قولنا اللهم صل على محمد وآل محمد هو أن نسالك يا ربنا الصلاة عليهم إجابة لما أخذت علينا من العهد المؤكد لهم بأن نعبدك بحبهم وبالقيام بحدود فروعهم وأوامرهم ونواهيهم التي ندبتهم بها إلينا وندبتنا إلى إجابتهم في دعوتهم إليك في كل ما دلوا عليه كما أشار إليه موسى بن جعفر عليه السلام قال قال الصادق عليه السلام (( من صلى على النبي وآله فمعناه إني أنـا على الميثـاق والوفاء الذي قبلت حين قوله ألست بربكم ، قالوا :

______________________

1 الأحزاب 56

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بلى ))1رواه في مختصر بصائر الدرجات سعد الأشعري .

 

       إلى أن قال ( معنى هذا الباطن تعاهد منا لما أخذ علينا من الميثاق لهم بالقيام بجميع التكاليف التي هي صورة ولايتهم وهياكلها وأداء منا لتلك الأمانة فقولنا اللهم صل على محمد وآل محمد من ذلك ، والطهارة من الحدث الأصغر والأكبر الظاهرين والباطنين من ذلك ، والطهارة الترابية أيضا من ذلك في مواضعها المشروعة ، والصلوة بجميع أصنافها ظاهرة وباطنة من   ذلك ، والزكاة ظاهرة وباطنة من ذلك ، والصيام ظاهرا وباطنا من ذلك ، والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكام الله في جميع أبواب الشريعة من ذلك ، وآداب الله في جميع فرائضه وسننه وما دعى إليه من معرفته بصفاته التي وصف بها نفسه لعباده ومعرفة أنبيائه ورسله وحججه وكتبه وملائكته وآياته وأمثاله والنظر في عجائب مصنوعاته في الآفاق وفي الأنـفس بل جميع ما لله فيـه رضى من اعتقاد واجتهاد وعمل وقول وحال

__________________

1 معاني الأخبار 115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وفعل من أفعال الدنيا والآخر ة من ذلك )1انتهى كلامه أعلى الله شأنه .

 

       والصلاة المعداة بعلى بمعنى الصلاة المعداة باللام فلا يرد الاعتراض المشهور من أن الصلاة بمعنى الدعاء والدعاء إذا عدي بعلى يكون معنى الضرر وهو خلاف المقصود ، والصلاة هي الدعاء وهي هيئة العبادة المطلقة وأول ظهورها في مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }‏  والعبادة ليست إلا الطلب الذي هو العمل الذي هو القابلية ، فكلما في الوجود المطلق في عالم الفرق والوجود المقيد كلها طلب واستدعاء من الله سبحانه وكل هذه الطلبات صور وأوعية للفيوضات والامدادات ، فكل عبادة دعاء حقيقة لا مجاز ا ، ولما كانت العبادات تختلف مراتبها ومقاماتها في الطلب والدعوة كان إطلاق لفظ الصلاة والدعاء عليها من باب التشكيك ، فالصلاة التي هي ذات الأركان دعاء حقيقة والدعاء المعروف صلاة حقيقية وهي ذات الأركان ولكن تحقق الدعاء في الصلاة التي هي صورة الولاية باطن وعام في ذات الأركان ، وتحقق الصلاة في الدعاء المعروف باطن وخاص يعني أن معنى الدعاء في ذات الأركان باطن وعام كمعنى ذات الأركان في الدعاء المعروف إلا أنه خاص ، فكان المعنى من مدلول لفظ الصلاة يوجد في ذات الأركان قويا شاملا لكل خير وكل طلب وفي الدعاء ضعيفا خاصا ببعض الخير والمطلب فلذا كان الوضع فيها من باب التشكيك فافهم فإن هذا الموضع ليس مقام استقصاء ثبوت الحقيقة الشرعية وفيما أشرنا إليه كفاية لأهل الدراية وتعيها إذن واعية .

 

       قوله عليه السلام (( وآله الطاهرين )) أما الآل فمستغن عن الكلام إذ لا كلام بين الفرقة المحقة أنهم الأئمة المعصومون عليهم السلام أي علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن والحجة الخلف القائم المنتظر صلى الله عليهم أجمعين ، إنما ذكرت أسماءهم الشريفة مع أنهم في الظهور كالشمس في رابعة النهار في مقام الإعلان والإظهار تيمنا وتبركا ولما أجد فيـه من الـراحة لأنـه المسك ما كررتـه    

_________________

1 شرح الزيارة الجامعة الكبيرة 2/332 _ 333

يتضوع ، وإنهم طاهرون من كل الأكدار إذ الأكدار من ملاحظة الأغيار وهم لم يزالوا ولا يزالون عند الله ومع الله وعن الله ولله ووجه الله فمن أين تلحقهم الكدورة لا في تكوينهم وذواتهم وصفاتهم وسائر كينوناتهم وهم حقيقة الاستقامة وعلى خلق عظيم وهو معنى قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }1 فإن إرداة الله هي عين فعله وإيجاده لقول الرضا عليه السلام (( فإرادته إحداثه لاغير ذلك لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا

___________________

1 الأحزاب 33

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له ))1وليس عند الله مستقبل وحال وماض إذ ليس لربك زمان فكل إرادته واقعة ، فلما كانت الإراده في الأزل الثاني أي في عالم السرمد كان المراد معها هناك لقوله عليه السلام (( لا تكون الإرادة إلا والمراد معها )) ولما كان المراد ذهاب الرجس لمحض الصلاحية والذكر لا للوجود والكون فكانوا عليهم السلام في ذلك العالم في تلك الطبقة مطهرين ومنزهين بتطهير الله وتقديسه وتنزيهه فكانوا وصف تطهير الله وتنزهه وتقدسه عن جميع الشوائب الإمكانية لأن الله سبحانه إنما أراد تطهيرهم ليتخذهم بابا وعضدا لخلقه ، ولما كان الباب مترجما لا أصلا والظاهر من الترجمان هوالترجمة التي هي صفته ووصفه لكنه حامل لصفة الأصل ودليله الظاهرة في الترجمان الظاهر بالترجمة فحكم الترجمان حين الترجمة حال الأصل المترجم عند لا فرق بينه وبينه إلا أنه وصفه ودليله ولذا كان الفاعل في قام زيد مرفوعا معمولا للفعل مع أنه ما يتوجه به إلا إلى الذات مع قطع النظر عن الفعل ، ولذا اشتهر عند الناس أن الفاعل أصل في الفعل مع أنهم مجمعون أن الأصل في العمل هو الفعل والعامل أشرف من المعمول .

_________________

1 الكافي 1/109 ح 3

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فلطهارتهم عليهم السلام مقامات كثيرة ففي مقام { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }1 مطهرون عن كل المعاصي والسيئات من المحرمات والمكروهات من الظاهرية والباطنية والحقيقية والمجازية في مقام الشريعة ومقام الطريقة ومقام الحقيقة  فلا يلتفتون إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم عاملون بمقتضى قوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }‏2 وقوله عز وجل { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }‏3 وشهد الله لهم بذلك حيث قال { وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }4 ثم مدحهم بذلك         فـقال { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ }‏5 { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ }‏6 والإيمان الحقيقي هو الإقرار والإقرار هو العمل ومما في الكتاب { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } وما أمر هو قوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }‏7 فالذي يعصي ليس بمخلص وليس بمؤمن لقوله عز وجل { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { بِئْسَ الاِسْمُ

__________________

1 الكهف 110                      2 الحجر 65

3 هود 112                          4 الأنبياء 19

5 الأعراف 110                     6 آل عمران 119

7 البينة 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ }1 فجعل الإيمان مقابل الفسق والفسق هو العصيان حقيقة لأن العاصي بأي وجه كان ولو صغيرة يصدق عليه أنه فسق عن أمر ربه فحينئذ ما آمن بالكتاب كله ، فلما طهرهم الله سبحانه وهم تطهروا وشهد لهم بذلك ومدحهم على ذلك ثم ألزم الخلق محبتهم  وولايتهم في قوله تعالى {  قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }‏2 والله سبحانه لا يأمر بمودة العاصي حينما يعصي وفيه وإن كان إشارة إلى الخلافة إلا أنها لا تظهر إلا للخواص فصرح في الأمر في قوله الحق { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }3 وكيف يكون العاصي صادقا مع أنه أخلف الله وعده حين أخذ عليه الميثاق عند قوله { أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }‏4 فأقروا له بالوفاء ، والمعصية ليست من أمر الرب وإنما هي من أمر الشيطان وقال عليه السلام (( من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ))5 فالعاصي حين المعصية يعبد الشيطان فما صدق في قوله بلى يوم ألست بربكم ، فالله سبحانه أمر بالكون مع الصادقين الذين أوجب مودتهم وهم ذوو القربى الذين هم أهل البيت الذين طهرهم الله من الرجس ، وهذه الآية وإن كانت أصرح مما قبلها في إثبات ولايتهم ووجوب متابعتهم لإتيانه سبحانه بلفظ الأمر الدّال على الوجود لكنها ليست ناصّة بقطع حجة الخصم فأوضح الأمر وصرح بوجوب

__________________

1 الحجرات 11                     2 الشورى 23

3 التوبة 119                       4 الأعراف 172

5 عيون أخبار الرضا 1/304

 

 

 

 

 

المتابعة في قـوله عز وجل { أَطِيعُـواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }1والأمر هـو الأمر بالمعـروف والنهي عن المنكر الـذي تقدم في الآيـة { كُنتُمْ }إلى أن قـال { تَـأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْـهَوْنَ عَـنِ الْمُنكَرِ }‏2 فتعين أن أولي الأمر هم الصادقون الطاهرون ثم أبـان الحق سبحانـه عن عدد أولي الأمر في قوله عز وجل { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا }3 وقـال رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( كلما كان في الأمم الماضيـة والـقرون السالفة يكون في هذه الأمّة حذوالنّعل بالنّعل والقذة بالـقذة ))4

_____________________

1 النساء 59                   2 الأعراف 110

3 الأعراف 159

4 لم نقف على هذه الرواية بعينها فيما لدينا من المصادر ولكن وجدنا ما يقرب منها في المعنى ففي البحار 25/134 ح 6 قال رسول الله صلى الله عليه وآله (( يكون في هذه الأمة كلما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة )) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ}1 { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}2 ، فيكون القوم الهادون في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر ويجب أن يكونوا أسباط الأنبياء فانحصر أولوا الأمر في ذوي القربى وهذه الآية وإن كانت صريحة في نفي المخالفين المدعين للقرابة لعدم كونهم أسباطا لكن فيه نوع خفاء يمكن أن يدلسوا على الجهال فأظهر الأمر سبحانه وتعالى لتعيين ذوي القربى لئلا يدعي كل من له نسبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت عرضية فقال سبحانه { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ }3 فهذه الأولوية ليست إلا في الولاية التي أثبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والولاية هي الأولوية في التصرف لقوله { أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فأخرج المهاجرين عن هذه الولاية أجمع وأثبت الأمر في أولي الأرحام فخصص ذوي القربى بهم فبطل الذين كانوا متمسكين بالقرابة السببية من المناكحة والمزاوجة ، ثم أولـوا الأرحام أيضا ما دخلوا كلهم لقوله تعالى { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }‏ والأمر في الحقيقة وإن ظهر في هذا المقام لأن أولي الأرحام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان إلا العباس وأمير             المؤمنين ، والعباس قد عرف الخلق كلهم بعدم استيهاله لهذا الأمر وكذلك باقي بني هاشم ، لكن الله سبحانه تأكيدا للأمر وإتماما للحجة وإكمالا للنعمة صرح بالأمر ونص عليا عليه السلام بهذا الأمر بما لا يحتمل الخلاف بقوله

___________________

1 الانشقاق 19

2 الفتح 23

3 الأحزاب 6

 

 

 

 

 

تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا }1وما اجتمعت الصفتان إلا في علي عليه السلام لأن العباس وغيره من بني هاشم وغيرهم كانوا نسبا ولم يكونوا صهرا وعثمان وإن كان صهرا على ظاهر دعواهم لكنه لم يكن نسبا وليس النسب والصهر إلا مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه فقوله تعالى { فَجَعَلَهُ نَسَبًا } إشارة إلى أنه سبحانه جعله كذلك واختصه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم  فهو نسب واقعي إلهي قد جعله الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وارثا إذ ما كل نسب في الظاهر وأولي رحم هو نسب وأولي رحم في الباطن والحقيقة وأحكام النبوة والولاية والمودة الإلهية للنسب الواقعي الإلهي الأصلي لا الظاهري ألم تر إلى قوله تعالى { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ }‏2 وحكم النجاة ما شمل ابن نوح الشامل لكل أهله لأنه ابنه في الظاهر ولم يكن ابنه في الباطن ، ولما شهد الحق سبحانه لعلي عليه السلام بالقرابة الواقعية والمناسبة الذاتية المجعولة من الله سبحانه ولم يشهد لغيره علمنا أنه لمزية عنده ليست لغيره فيكون هو المناسب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره بأن زوجه الله سبحانه ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فشهد لها بالطهاره وعلو القدر والمقام إذ الله سبحانه ما يختار للنبوة والرسالة أهل الباطل وأهل المعصية مردة الشيطان وفعلة الطغيان والعصيان وإنما يختار الطيب الطاهر لأنه سبحانه هو الطيب الطاهر { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ

_________________

1 الفرقان 54

2 هود 46

 

 

 

 

 

 

 

وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }1 فما ينسب إلى الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون أشرف وأولى وأطهر من كل أحد مما لم ينسب إلى الله سبحانه وتعالى ، فلما اختار محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والنبوة علمنا أن ذلك لجليل شأنه عنده وعظيم خطره لديه وكبر محله وقرب منزلته منه ، فلما اختار من بين المنتسبين إليه واحدا وأثبت له القرابة والنسب دون الآخر ين علمنا أن ذلك ليس لمجرد النسبة الظاهرية وإلا لكان لغوا بل لمناسبة حقيقية ذاتية ليست في غيره خصوصا عند قوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا }‏2 مع أن البشر كلهم خلقوا من التراب قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }‏3 فلو كان المراد الماء الذي جزء العناصر فالكل كانوا مشتركين في هذا الحكم مع أن ذلك لا يصح فإن الحكم على الجزء الغالب لا الجزء المغلوب ولذا شاع وذاع أن الإنسان خلق من التراب والجن من النار والملائكة من النور مع أن هذه الثلاثة في الكل موجودة ولا يقال أن الملائكة خلقوا من النار أو من التراب أو الجن خلقوا من التراب أو من النور أو البشر خلقوا من النور أو من النار أو من الهواء فكذلك من الماء، فتحقق أن الله سبحانه يريد في هذه الآية بيان حقيقة مناسبة هذا الخلق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يشبه غيره من أولي القربى وأهل النسب فإنهم خلقوا من التراب أي من فاضل الجسد البشري وأما هذا الخلقعليه السلام فهو من الماء ، والماء هوالذي به كل شيء حي فهو مادة الحياة والخلق من هذه المادة إشارة إلى وجودها وتحققها فيه وإلا لكان عبثا ، يعني أن حياته الأبدية ذاتية فطرية إلهية ليست كسائر الخلق بالاكتساب والاختلاط الترابي وإنما هو حياة صرف ونور بحت ، والحياة هي العلم والإيمان والتقوى والعمل الصالح والطهارة ولذا كان الماء

_________________

1 النور 26

2 الفرقان 54

3 الروم 20

طهور ا لقوله عز وجل { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ }‏ فجعل الجـاهل والكافـر ميتـا لقوله { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } وهي السواد الذي طبعها بارد يابس الذي هو طبع الموت وقال تعالى { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ }1 .

 

       فإذا أثبت الحق سبحانه أن عليا عليه السلام هو مادة العلم ومنشؤه وحقيقته وفطر على اليقين والتقوى في أصل خلقته لحسن قابليته ، وأن النبوة ليست حكم القالب البدني الترابي وإنما هو حكم القالب البدني المائي الذي هو آثار رحمة الله يحيي بها أراضي القلوب الميتة وعلي عليه السلام مناسبة في هذه الحقيقة فيرد الأمر من المناسب إلى المناسب لا البائن ، ثم لما أراد الله سبحانه إظهار ذوي القربى وحملة النبوة والولاية جعل هذا الطيب الطاهر المخلوق من الماء الذي هونسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صهرا حقيقيا بأن زوّجه ابنته الحقيقية التي لها مناسبة ذاتية مع ذلك البشر المخلوق من الماء فتكون هي أيضا مخلوقة من الماء لحكم المناسبة فهي أيضا عين العلم ومعدنه ومنبعه وما كانت مخلوقة من الجسد البشري وإنما هي مخلوقة من الماء الإلهي الذي به حياة كل شيء حي نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتولدت منه على الواقعي الحقيقي لا الظاهري المحض ، فلما قارن السعدان والتقى البحران أخرج الله سبحانه منهما اللؤلؤ والمرجان وهما الحسنان عليهما السلام فورثا حكم الله واستودعا أمر الله إذ من الطيب والطيبة ابنة الطيب ما يظهر إلا الطيب فالمناسب للمناسب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناسب له ، فذوي القربى ولاة الأمر يجب أن يكونوا من نسل هذين الطيبين الطاهرين وإليه أشار مولانا الحسين عليه السلام في يوم

_________________

1 فاطر 22 _ 23

 

 

كربلاء إلى أن قال عليه السلام :

 

       لا لشيء ان مني قبل ذا      غير فخري بضياء الفرقدين                               بعلي الخير مـن بعـد النبي     والنبـي القـرشـي الوالـديـن

       خيرة الله مـن الخلـق أبي      ثم أمي فـأنـا ابـن الخـيـرتين

       فضة قد خلصت من ذهب      فأنـا الفضة وابـن الـذهـبيـن

       من له جد كجدي في الورى    أو كشيخي فأنا بـن الـقمريـن

       فـاطم الزهراء أمـي وأبي      قاصم الكفر ببـدر وحنـــين

إلى آخر الأبيات .

 

       فكان أئمتنا سلام الله عليهم مأخوذين من تلك الصفوة ومن تلاقي ذين البحرين المخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فهم ليسوا من نسبة هذا التراب البشري المحض وإنما هم من نسبة الماء الذي به كل شيء حي ولما كان المعاند قد يلتبس الأمر على بعض العوام المستضعفين على أن السبط والذرية إنما هي من جهه الأب لا الأم إلا الجزئي على ما قال شاعرهم :

       بنونا بنوا أبنائنا، وبناتنا     بنوهن أبناء الرجال الأباعد

 

       والأئمة سلام الله عليهم منسوبون إلى رسول الله من جهه الأم لا من جهة الأب فلا يقال لهم ابن رسول الله إلا مجازا أبطل هذه الشبهة ورفع هذه الواهمة في سورة الأنعام بإثبات أن عيسى عليه السلام من ذرية نوح عليه السلام ولا ريب أنه من جهه الأم لا من جهه الأب .

 

       وبالجملة براهين طهارتهم واضحة وحجج ولايتهم ظاهرة لا ينكر طهارتهم إلا خبيث المولد خبيث الذات خبيث الصفات خبيث الأفعال المشرك المرتاب ، اللهم صل على محمد وآل محمد وثبتنا على دينك ودين نبيك ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

 

 

       وهذا مقام طهارتهم عليهم السلام في المقامات البشرية ، وأما طهارتهم في مقام الوجهية فمما يقصر الكلام لبيانها ويحسر اللسان لأدائها إذ فيها مقام ارتياب الجهال وفتنة أصحاب القيل والقال إلا أني فيما مثلت لك من أمر الفاعل ومعموليته للفعل واشتقاقه منه وهيمنة الفعل عليه مع نسيان الفعل وعدمه عند وجود ذكر الفاعل يظهر المقصود فيظهر لك أن أقصى مقامات التنزيه وأعلى درجات التقديس بالنسبة إلى الطبقة الإنسانية أدنى درجات تنزيه آل محمد وتقديسهم وإن أقصى مقامات تنزيه الأنبياء وتطهيرهم الحق سبحانه عن كل ما سواه جزء من سبعين ألف جزء من رأس الشعيره من تنزيههم عليهم السلام وهكذا ، وأنا أذكر لك حديثا تعرف منه ماذكرنا ظاهرا وباطنا إن وفقت لذلك ، روى الصدوق رضوان الله عليه بأسانيده عن عبد السلام ابن صالح الهروي عن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني قال علي عليه السلام : فقلت يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني على جميع النبيين والمرسلين والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ، يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم عليه السلام ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه لأن أول ما خلق الله عز وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظمت أمرنا فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وإنه منزه عن صفاتنا فسبحت الملائكه بتسبيحنا ونزهتة عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وإنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه فقالوا لاإله إلا الله، فلما شاهدوا كبر محلنا كبرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظيم المحل إلا به، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة فقلنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله ، فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا الحمد لله لتعلم الملائكة ما يسحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه فقالت الملائكة الحمد لله ، فبنا إهتدوا إلى معرفه توحيد الله عز وجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده ، ثم  إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراما وكان سجودهم لله عز وجل عبودية ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون ))1، تأمل في هذا الذي ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنه تمام الأمر لكنه لوح صلى الله عليه وآله وسلم لأهل التلويح إلى ما ذكرنا فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا (( لا إله إلا الله .. إلى آخره )) هو ما كتبوا في حقائقهم من وصف عدم تذوتهم وهو الفاعل في ضرب زيد عمروا الذي هو معمول الفعل بل لا يكون الفاعل إلا معمول الفعل أبدا فتكون طهارتهم سلام الله عليهم هي طهارة الله وتقديسه وتنزيهه فافهم راشدا موفقا إن شاء الله .

___________________

1 عيون أخبار الرضا 1/262 _ 263