كتاب شرح الخطبة التطنجية

 

 

 

آية الله السيد كاظـم الـحسيني الرشتـي  (الأمجد)

 


الناشر : جامع الإمام الصادق عليه السلام - الكويت
سنة الطبع : 1421 هـ 2001م

 

المجلد الثالث

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقة محمد وآله الطاهرين أما بعد فيقول العبد الفقير الحقير الفاني الجاني محمد كاظم بن محمد قاسم الحسيني الرشتي إن هذا هو الجزء الثاني من شرح الخطبة الشريفة المشهورة بالخطبة التطنجية لمولانا وسيدنا وإمامنا أمير المؤمنين على محمد وعليه وزوجته الصديقة وأبنائه المعصومين صلوات الله عليهم أبد الآبدين ودهر الداهرين ولعنة الله على أعدائهم ومبغضيهم أجمعين من الأولين والآخرين .

 

قال عليه الصلاة والسلام : (ولقد علمت من عجائب خلق الله ما لا يعلمه إلا الله) .

 

لما بيّن عليه السلام وأوضح مقدار ما يحتمله أولوا الأفهام من الخلق والأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والمؤمنين الممتحنين وسائر الموحدين من الناطقين والصامتين من أسرار ولاية الله الظاهرة في تلك الذات المقدسة التي هي ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى من تفاصيل مراتب الموجودات الإمكانية والكونية على جهة الإجمال والتفصيل والإبهام والتبيين والتلويح والتصريح والإشارة والعبارة بما لا يمكن بيان أكمل وأتم من ذلك بحيث قطع حجة كل محتج وأثبت عذر الخلق وأبان عن سبب تحير الخلق مع وضوح الأمر وأثبت التحيّر لأهل الحكمة بإيضاح الصبح الظاهر من شمس الأزل بقوله عليه السلام (( أنا الأمل والمأمول )) ، وأزاح التفكر عن أهل الموعظة الحسنة بما قد يعتبر بهم من السنة المعلولة عن الحدود وإن كانت رقيقة بقوله عليه السلام (( ورأيت الشمس عند غروبها )) ، وقطع عليه السلام حجة المحتج من أهل المجادلة بالتي هي أحسن بقوله عليه السلام (( ولولا اصطكاك )) على ما دل عليه الكتابان ونطق به اللسانان كما هو الظاهر لأهل المشاهدة والعيان والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وجـل { وءاية لهم

 

 

 

الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون }1‏ الأرض هي أرض الجواز وحياتها هي بإشراق نور الرجحان الظاهر من شمس الوجود الراجح      عليها ، والحبّ المخرج منها هو بحر المحبة وهوما ذكرنا من نور الرجحان وهو الوجود المقيّد ومثال الألوهية ومجلى الأسماء الحسنى والأمثال العليا والكبرياء والآلاء ومن ذلك الوجود أكل كل موجود مشهود أم مفقود وبه إمدادهم ومنه استمدادهم وعليه مردّهم ومعادهم { وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون }2 الجنات هي العوالم المتحصّلة من ذلك الحب في قوله عز وجل ( فأحببت أن أعرف ) ، النخيل هي عالم العقول إلى عالم الأرواح وهي إلى عالم النفوس أي الخلق الأول من عالم الغيب ، والأعناب هي عالم الطبائع والمواد إلى عالم الأجسام بجميع مراتبها وأفلاكها وعناصرها وهي الخلق الثاني أي عالم الشهادة ، والعيون المتفجرة هي مواد الإمدادات الواقعة على أراضي الاستعدادات على حسبها كما قال عز وجل  

_____________________

1 يس 31

2 يس 34

 

{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها }1‏ في العالمين من الغيب والشهادة والعوالم التي تحصل من قران العالمين من ميل الغيب إلى الشهادة وميل الشهادة إلى الغيب ، والروابط الحاصلة كلّها من انفجار تلك العيون وهي إنما تحصّلت من ذلك الماء النازل من السماء المستجن في الأرض الظاهرة بمزج الهباء عيونا مختلفة ، فالعين الروحاني لأهل عالم الغيب والعين الجسماني لأهل عالم الشهادة وبينهما مراتب كثيرة وأحوال عجيبة غريبة ، فأشار سبحانه وتعالى إلى الكون الأول من الكونين وهو الواقعي الأولي فلا اختلاف في هذا الكون ولا اضطراب وأشار سبحانه بالضمير المتكلم معه غيره إلى ما قال أمير المؤمنين عليه السلام (( أنا المتولي دائرتها وما أفردوس وما هم فيه إلا كالخاتم في الإصبع )) فأشار سبحانه إلى بدء العوالم بعللها وأسبابها من الفاعلية والمادية والصورية ، ولو أردنا شرح كيفية الإشارة لطال الكلام زائدا عما يقتضيه المقام إلا أنه يظهر مما ذكرنا وما نذكر إنشاء الله .

 

           وهذا العالم المشار إليه وهو الواقعي الأولي هو المعاد يوم الآخرة عند رجوع كل شيء إلى أصله ، ثم أشار سبحانه إلى العالم النفس الأمريّ الثانوي ومكملات العالم الأول بل ومتمّماته ليكون الأوّل مقصودا بالعرض للثّاني فقال عز وجل إنما جعلنا هذه العوالم {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا

_____________

1 الرعد 17

 

يَشْكُرُونَ}1‏ الثمر هو مقتضى الأعمال والميولات إلى ما خلقوا  لأجله إما شراب طهور من الحوض الكوثر وهو الثاني المكمل للعالم الأول البدئي وإمّا طلع الشجر الزقوم الذي طعام الأثيم كأنه رؤوس الشياطين وهذا إن كان في مركزه وفي أصله الذي هو خبال جهنم يكون أيضا كالبدء في الإيجاد إذ كل نور لابد له من ظلمه لمقابله وكل جنة لها نار تضاده إلا أن كلا منهما في رتبته ومقامه ، وأما إذا جاء حكم الاختلاط واللطخ على ما فسر سابقا فيكون تحصل العالم الثانوي والأحكام هي الأحكام النفس الأمرية التي هي الواقعي الثانوي أوالثالثي ، ومن هنا بدء وقوع الاختلاف وظهور النقصان في الوجود من أول ما خرج آدم عليه السلام من الجنة إلى يوم قتل إبليس بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد ذلك يرجع العود كالبدء { كما بدأكم تعودون }2 ، وما عملت الأيدي على أن ما موصوله هي الأسباب المنتسبة إلى القابليات وأنحاء الطلبات ، والثمر هو المسبب والمقتضي اسم المفعول على الحكم الوضعي وإليه الإشارة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام (( ورأيت الشمس عند غروبها .. الخ )) ، ثم إن الله عز وجل أشار إلى العوالم بقسميها من الواقعي والنفس الأمري وإلى مقام البشرية الذي هومقام العزة وظهور الولاية بقوله سبحانـه { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ

_______________

1 يس 35

2 الأعراف 29

 

وَمِنْ أَنفُسِهِمْ }1 والأزواج هي مراتب الإمكان والأكوان كلها لمّا اتفقوا عليه من أنّ كلّ ممكن زوج تركيـبـي , ولأرض هي أرض القابليات ومقام الصور والهياكل والهيئات ، والنفس هي وجه الله ومدد الله وأثره وهو موادّ الأشياء وأقطابها ونقطة دوائرها ، وهما تفاصيل كيفيّة خلق الأزواج وبهما استقرّت الأكوان والأعيان وكلّ التأثيرات منهما وإليهما وهما مجمع الموجودات والخليجان اللّذان كلّ الموجودات جداول وأنهار وشرائع منشعبة منهما كما ذكرنا ونذكر إن شاء الله، فتمّ في هذه الآية الشريفة جميع ما ذكرعليه السلاممن أوّل الخطبة إلى هذا المقام .

 

          ثمّ لمـّا بيّن عليه السلام هذه الأطوار والأوطار في الأكوار والأدوار أراد  عليه السلامأن يشير إلى سرّ وهو أنّ السّافل وإن بلغ ما بلغ ما يصل رتبة ظهور العالي أبدا فكلّ مقام يصل يرى ظهورا ومقاما أعلى وهكذا فلا ينتهي إلى حد وهو في مقامه ، انظر إلى الواحد في الأعداد فإن العدد في كل مقام يبلغ يظهر الواحد فوقه فيصير بانضمامه إليه مرتبة أخرى وهكذا إلى ما لانهاية له ، إذ كلّ رتبة في الحدود ظهور وجه من وجوه العالي فلا يحصره وهومعنى

______________

1 يس 36

 

 

قوله عليه السلام (( تدلج بين يدي المدلج من خلقك ))1 والمخاطب هو الظاهر للخلق في رتبة الخلق أي الذي هو قطب وجودهم ونقطة دائرة تكوينهم لا الذّات البحت سبحانه وتعالى ولا الفعل المطلق ولا المفعول في المراتب الطّوليّة وإنما هو ما تجلى له به كالواحد المدلج بين يدي الأعداد فكلّ مرتبة يصل إليه العدد يكون الواحد بين يديه فلا يلحق السّافل ظهور العالي أبداً وهذا في كلّ مقام في معرفة العالي ومعرفة كينونات الأشياء فإنّ الكاتب الابداع بقلم الصّنع والاختراع من دواة الجود والعلم في لوح الكائنات والمبدعات يكتب فيما لا يزال فلا جفاف لذلك المداد ولا انقطاع في اللّوح من جهة الاستعداد ولا تعب للكاتب لسرّ الإمداد و {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}2 {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}3 {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}4 (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))5 ومع ذلك كلّه فقد جفّ القلم بما هوكائن فالعالي وإن وصف نفسه ووصف غيره للسّافل لكن ذلك الوصف ليس إلاّ ما يقتضي مقام السّافل لا مقام العالي وإلاّ لكان عبثا ، فلمّا وصف عليه السلامالخلق بمراتبه ومقاماته لشيعته أراد أن يبيّن لهم أنّ ذلك قطرة من رشــح  ما طفح منه عليهم ، كما قال عليه السلام لكميل لمـّا قال (( أولست بصاحب سرّك قالعليه السلامبلى ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي )) وهذا الرّشح هو المداد الّذي به يمدّ الخلق من الأنبياء وغيرهم إلاّ أنّهم يختلفون بالرّشح ورشح الرّشح ورشح رشح الرّشح وهكذا فلا يصلون الخلق نهايات هذا الرّشح وإن بلغوا ما بلغوا ، ولمـّا أنّه عليه السلام أشار إلى بعض مقاماته ومراتبه الّتي جعلها الله عزّ وجلّ له لا لغيره وبعض الأحوال المخلوقة المتقوّمة بقيّوميّة الله الظّاهرة فيه عليه السلام أراد أن يبيّن لهم مقامه عليه السلام ومقامهم من أنّ ما ذكرت لكم ليس غاية علمي ومنتهى فهمي ومبلغ إدراكي .

_________________

1 مفتاح الفلاح 293               2 ص 54              3 الرحمن 29

4 المائدة 64            5 إرشاد القلوب 199

 

قوله عليه السلام (( ولقد علمت من عجائب خلق الله ما لا يعلمه إلا الله )) بيانا لقوله عزّ وجلّ {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ }1 فبيّن عليه السلام أنّه يعلم ذلك لأنّ الله سبحانه جعله والمعصومين عليهم السلام أعضادا لخلقه وأشهادا عليهم وحفظة وروّادا وبهم ملأ سماءه وأرضه حتّى ظهرت أن لا إله إلا الله كما قال الحجة المنتظر عجل الله فرجه كما يأتي إنشاء الله لذلك زيادة بيان .

 

        وأمّا قوله عليه السلام (( ولقد علمت )) ، فله معنيان كلاهما مرادان أحدهما أنّ ما يعلمه عليه السلام من عجائب بدائع الخلق وصنوف غرائب أحوالهم لا يعلمه أحد من الخلق سواه عليه السلام وسوى الأئمة الطاهرين من ولده عليه السلام فإنّ المشيئة الكليّة الكونيّة قد تعلّقت بحقيقتهم فهم على طبقها في الأكوان كل واحد مساوق للآخر كالكسر والانكسار وكالحديدة المحماة بالنار ولا أريد بالحديدة هي الحديدة المعروفة وإنما هي قابليّة ظهور النار فيها والمعروفة حاملة لها كالزجاجة للمرآة وإلى سّر ما ذكرنا أشار الحقّ سبحانـه في الحديث القدسي (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قـلب

_________________

1 يس 36

 

 

عبدي المؤمن ))1وذلك العبد هو تلك الحقيقة المقدّسة التي هي قصبة الياقوت لقولهم عليهم السلام (( نحن محالّ مشيئة الله وألسنة إرادتة وترجمان وحيه )) وهذه المشيئة الظاهرة في هذه الحقيقة المقدّسة لها وجوه ورؤوس كثيرة يتعلق كلّ وجه بكلّ فرد من أفراد الموجودات من ذات أو صفة وذلك الرأس هو مشيئة الله الخاصة بذلك الفرد ولهذه المشيئة الخاصة أثر في حقيقة هو قطبها ونقطة دائرة وجودها ومحلّ الإمدادات الواردة عليها بجميع أنحائها وأحوالها في قواها ومشاعرها وذلك القطب هو متقوّم بذلك الرّأس وهو حرف بإضافته إلى الفعل المطلق وهو كلمة كليّة انزجر لها العمق الأكبر جامع لكل تلك الحروف والخلق بجميع أفراده كلمة واحدة وكل فرد منه حرف منها على طبق الفعل لأنه هي الربوبية والمفعول هي العبودية وما خفي في الربوبية أصيب في العبودية ، لكن كل مفعول يحكي الوجه المختص به من الفعل الكلي كالكتابة بالنسبة إلى حركة يد الكاتب ، ولذلك الرأس وجوه كثيرة باعتبار تعدد جهات المفعول باعتبار أسبابه وشـرائطـه ومقوّماته من الوجود والماهيّة والزمان والمكان والجهة والرتبة والكم والكيف والوضع والأجل والكتاب والإذن وغير ذلك ، ونهايات تلك الأشياء المذكورة وأعراضها وأشعّتها إلى انقطاع وجوداته ، كل واحد متعلّق بوجه مختصّ به من ذلك الرأس المختصّ بذلك الفرد من الفعل الكلّي نسبة كلّ فرد وجه إلى ذلك الرأس كنسبة ذلك الرأس إلى الفعل الكلّي ، فهذه حروف لهذه الكلمة والكلمات الجزئيّة حروف للكلمة الكليّة ، ولمـّا كان الشيء لا يتجاوز مبدءه ولا يقرأ إلا حروف نفسه كان كلّ فرد من أفراد الموجودات يحكي مثال ذلك الوجه الخاصّ به على مقتضى هيئة كينونته لا غير في معرفة العالي ، وأمّا معرفة سائر الموجودات وتطوّراتها فبقدر سعته لأنّ مداركه كلها متقوّمة بالمدرك الأعلى وهو ذاته وحامل ظهور ذلك الوجه كالضرب لضرب والقيام لقام والقعود لقعد وهكذا ، ومن نوره تستنير كلّ قواه ومشاعره فكلّها في الإدراك تحت الأعلى ولا شكّ أنّه لا يساوي الكلّ ولا البعض لعدم المـادّة

______________

1 البحار 58/39 ح 61

الكلية والمدد الكلي وإنما هو بقدر الأشياء على ما هو عليه لا على ما هي عليه كما هو الظاهر المعلوم فإنّك إذا قابلت مرايا عديدة فكلّ مرآة إنّما تحكي ظهورك على ما هي عليه لا على ما أنت عليه وكلّ منها لا يدرك ولا يوصف ظهورك أو غيرك من أمثاله من سائر المرايا ولا تعرف الواحدة ما عليه الاثنان من حيث هما كالضّرب فإنّه لا يحكي إلاّ الضّارب والنّصر لا يحكي إلا الناصر والقيام لا يحكي إلا القائم وهكذا كلّ أثر من الوجه الخاصّ من الفعل الكلي لا يحكي إلا ذلك الوجه الخاصّ فلا يحيط كلّ واحد بالمجموع وما عليه من معرفة أوائل جواهر العلل وسائر المعلولات ، وهكذا الحكم بالنسبة إلى صفة الصّفة وشعاع الشعاع فإن الخطب فيه أعظم إذ نسبة ذلك الوجه إلى الشعاع والصفة كنسبة الفعل الكلي إليه، وهكذا إلى قراني سلسلة الموجودات في الشعاعية والوصفية إلى نهاياتها فهنا مقامان .

 

          أحدهما نسبة قوّة ذلك الوجه في المعرفة والإدراك إلى ذلك الفرد وهذه النسبة نسبة الواحد إلى السبعين وهذا الكلام تقريبي لكن هذه عبارة عن الحقيقة لسهولة الحصر والعدّ وإلاّ فلكلّ واحد يرتقي إلى مالا نهاية له لأن الوجه من عالم السّرمد والأثر من عالم الدهر ولو فرضنا سرمديّته لكنه متأخّر عن علّته ألف دهر كما روي عنهم عليهم السلام وكل دهر مائة ألف سنة ، وهكذا في سائر النّسب من قوّة الكمّ والكيف والنّورانيّة والقوّة وغيرها ، والرّتبة الثانية التي هي رتبة الشعاع نسبتها إلى ذلك الوجه ملاحظة جميع تلك النّسب المتقدّمة أي ضربها في نفسها فإن كانت سبعين ضربها في مثلها وإن كانت مائة ألف كذلك في مثلها بل ربما أقول يتضاعف الثانية بالضرب في نفسها سبع مرات فيبلغ إلى أمر عظيم فتكون الثانية واحدة من المجموع وهكذا الرتبة الثالثة فيتضاعف المجموع هناك بالضرب سبع مرات فيكون الثالثة واحدة من المجموع وليس لي الآن إقبال ضبط هذه الأعداد مع أنّه لا فائدة فيه إذ المطلوب هو الإشارة إلى نوع المسألة لا استقصاءها بحدودها فإنه لا يمكن في مثل هذا الشرح، وهذا الذي ذكرنا هوحكم القوّة والضّعف في الشيء الواحد الثابت للوجه وذي الوجه الخاص به في مقام ( العبودية جوهرة

 

كنهها الربوبية ) فإذا قال الإمام عليه السلام زيد قائم وقلت أنت زيد قائم فاعلم أن نسبة قولك إلى قوله عليه السلام في الدّقّة والّلطافة والمعنى المدلول عليه والمفهوم منه والمعني به نسبة الواحد إلى مضروب المائة ألف في نفسها سبع مرات ، ثم كذلك انظر وتأمّل وتدبّر فيه اعرف مقامك ومعرفتك بالنسبة إلى الإمام عليه السلام فسلم له كلّما يقول لأنّ الأنبياء وجوه وأشعّة لهم عليهم السلام والإنسان وجه وشعاع للأنبياء كما ذكر غير مرّة ، ولذا قال عليه السلام (( إني لأتكلّم بكلمة وأريد منها أحد وسبعين وجها لكل منها المخرج ))1وقالوا عليهم السلام (( إن حديث آل محمد صعب مستصعب ثـقيـل مقنع أجرد ذكوان لا يحتمله  إلا ملك مقرّب أو نبي مرسل أو عبد

________________

1 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ووقفنا على ما يقرب منها في بصائر الدرجات ص 329 قوله عليه السلام (( إني لأتكلم بالكلام ينصرف على سبعين وجها كلها لي منها المخرج ))

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

امتحن الله قلبه للإيمان ))1هذا في الرّتبة الجامعة وقال في مقام الفرق (( إن حديثنا صعب مستصعب شريف كريم ذكوان ذكي وعر لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا مؤمن ممتحن ، قلت : فمن يحتمله جعلت فداك ، قال : نحن )) ، وفي رواية (( من شئنا ))2فلا يطمعنّ طامع معرفة كلامهم وتحمّل ظهور المعاني المطويّة فيه إذ كما أنّ لهم عليهم السلام مع شيعتهم وغنمهم مقامات مقام اجتماع مع الإنسان في النّفس النّاطقة القدسيّة ومع الأنبياء فيها أيضاً على الحقيقة الأوّليّة ، ومقام افتراق في النّفس الملكوتيّة الإلهيّة التي هي ذات الله العليا وشجرة طوبى كما مرّ كذلك لكلامهم عليهم السلام فيفهم العوام ظاهر ما ظهر لهم من الأشعار والأصواف والأوبار والخواصّ والخصيص يفهمون بواطنه على حسب مقامهم ومرتبتهم إلى أن ينتهي كونهم وينفد وجودهم ونظروا في معانيه بعين الفؤاد إلى ما لا نهاية له فبكلّ نظر يأتيهم معنى جديد لم يكن وهوقوله عليه السلام ذكّى أي طرىّ أبداً فلا ينتهي إلى حدّ فإذا انتهت أكوان هذه المرتبة وانقطعت وجوداتهم أي مقام الأنبياء عليهم السلام في النّظر فيهم على مراتبهم ومقاماتهم الكثيرة العظيمة في أطوار الظاهر والباطن وباطن الباطن وهكذا إلى المراتب السبعة أوالسبعين فتنقطع وجوداتهم عند ظهور الكرّوبيّين الذين هم رجال من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام ثم يرجع كلامهم عليهم السلام إليهم ما عرف أحد حقيقة المراد منه

___________________

1 البحار 2/191 ح 27

2 بصائر الدرجات 22

 

 

 

 

 

 

وهو قوله تعالى { وبئر معطلة }1فافهم .

 

         ومع ذلك نقول أنّهم عليهم السلام يحيطون بظاهر القرآن وباطنه وباطن باطنه فلا يشذّ عنهم منه شيئاً لأنّ القرآن إنما نزّله روح القدس على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله عز وجل ، وروح القدس في جنان الصّاقورة ذاق من حدائقهم الباكورة وهي أول الثّمرة فالقرآن تجلّي الله عز وجل لهم عليهم السلام في مقام قلبهم وأين قلبهم من فؤادهم الذي هو حقيقتهم ، والقرآن هو تفاصيل مقامات التوحيد وأركانه وشرائطه في العوالم الثلاثة عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الملك ومجمع الكل هو قوله لا إله إلا الله ، فأنزل الله عزّ وجلّ على فؤاده بكلمة لا إله إلا الله وعلى قلبه صلى الله عليه وآله وسلم بروح القدس معاني القرآن وحقائقه المعنوية وعلى صدره بالروح الذي هو من أمر الله هذه الصور والهيئات المعروفة قال تعالى {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}2 وهم الأئمة عليهم السلام   وعلى لسانه صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبرائيل هذه الألفاظ المخصوصة فهو وأمير المؤمنين عليه السلام والطيّبون من أولادهما عليهم السلام يحيطون بحقيقة القرآن وإن تجدّدت الأحكام الكونية والوجوديّة يتجدد

__________________

1 الحج 45

2 العنكبوت 49

 

 

 

 

 

 

 

 

الصنع على مقتضى{ كل يوم هو فى شأن }1 فيه كالمرآة مثلا إذ كلما يحصل مقابل تظهر صورته فيها لكن تلك الأحكام إنما تنشأ منهم وتعود إليهم عليهم السلام كشعاع الشمس بالنسبة إليها وليست للقرآن حقيقة خارجة عن حقيقة ذاتهم وشئوناتها فتصل إليها مداركهم ومشاعرهم ولا كذلك كلماتهم الشريفة بالنسبة إلى غيرهم فإذا تكلّموا بكلام فله حقيقة ومعنى عندهم عليهم السلام يريدونها ثّم ينـزّلونها نور تلك الحقيقة وذلك المعنى وذلك اللفظ أيضا إلى الأنبياء عليهم السلام فيستمعون اللفظ بأسماعهم ويدركون المعاني بقلوبهم وأذهانهم والحقيقة بأفئدتهم وذواتهم ثم ينزّل نور من المراتب الثّلاثة إلى الرتبة الإنسانية فيسمع من أرادوا عليهم السلام ما أرادوا من المعاني والحقائق الظّاهرة لهم بهم ، فإذا قالوا عليهم السلام الماء طاهر والماء إذا بلغ كرّا لم ينجّسه شيء فقد تكلّموا ونطقوا به قبل خلق الخلق مقدار ما بقي العرش على الماء قبل خلق السّماوات والأرض كما ذكرنا سابقا من التحديد القليل الذي حدّده أمير المؤمنين عليه السلام ثّم استغفر الله عن التحديد بالقليل ، وسمع الأنبياء ذلك الصوت قبل خلق الخلق بألف دهر وهو مائة ألف سنة وسمع أهل الرتبة الإنسانية كلّ واحد في زمانه ومكانه ، مثلاً نحن الآن سمعنا ذلك القول الذي قالواعليهم السلامبعينه وأهل زمان حضورهم عليهم السلام سمعوه في ذلك الوقت والذي يأتي بعد ذلك بألف سنة يسمع بعينه في مكانه وزمانه فيدركون معناه قبل خلق السّموات والأرض بسبعمائة سنة ويعرفون حقيقة قبله بما لا نهاية له من المدد لأنّها كلّها منقطعة عندها وتلك الحقيقة قشر قشر قشر القشر بالنسبة إلى ما عرف الأنبياء ومعرفتهم قشر قشر قشر القشر بالنسبة إلى مرادهم عليهم السلام .

 

         وقولي قشر لا أريد به الذي هو قشر اللّبّ لتجمعهما رتبة واحد إلا أنّ اللّبّ أشرف وأقوى إنما المراد به القشر بمعنى الظّاهر الذي هو الأثر والنّور فلا يلحق رتبة المؤثر المنير أبـد الآبديـن ودهر الـدّاهرين وأيـن الثّريا من

______________

1 الرحمن 29

 يد المتناول وقد قال الشاعر وأجاد في مدح النبصلى الله عليه وآله وسلم :               

         إنّما مثّلت صفاتك للناس    كما مثـّل النـجوم الـمــاء

 

          فالذي يريدون من كلامهم عليهم السلام لا يصل إليه أحد من الخلق وإنما يعرفون أي الأنبياء جزء من مائة ألف جزء من ظاهر مرادهم كالنّور من المنير فإنّ مداركهم من عقولهم وحقائقهم بالنسبة إليهم كالنّور للمنير فانظر ماذا ترى ، وهكذا نسبة ما فهمه الشيعة بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام فلا يصل أحد من الخلق غور علومهم ومعاني كلامهم وحقيقة مرادهم وهوقوله عليه السلام في الزيارة الجامعة (( فبلغ الله بكم أشرف محلّ المكرّمين و أعلى منازل المقرّبين وأرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يطمع في إدراكه طامع ))1الزيارة ، وانقطاع الطّمع في كلّ ما ينسب إليهم عليهم السلام من ذواتهم وصفاتهم ومقاماتهم وعلومهم ومعارفهم في كل شيء من الأشياء وكل جزئيّ من الجزئّيات مما وصل إلى الخلق قطرة من بحار رشح علومهم وأسراهم فأدركوا ما لم يدركه أحد وفهموا ما لم يفهمه خلق ، ولا شك أنّ الذي لا يفهمونه بالنسبة إلى ما يفهمونه غريب عجيب عندهم فغرائب علومهم عليهم السلام لا يعلمها إلا الله عز وجل .

 

          وثانيهما نسبة ذلك الوجه إلى الوجه الكلي بالنسبة إلى الفعل المطلق الكلّي وهي نسبة الواحد إلى ما لا نهاية له فإنّ الوجه ظهور منه وذلك الظّهور لا نهاية له في الوجود من البدء والعود ، انظر إلى القيام مثلا بالنسبة إلى جميع

الآثار الصادرة عن الشخص فإنّه لا يدرك شيئا منها سواه وشئوناته فلا يعرف القعود ولا الأكل ولا الشرب ولا الضّرب وغير ذلك وإنما انحصر إدراكه ومعرفته في القيام والقائم خاصّة ، فما أحقر وأقل نسبة قيام زيد إلى الفعل المطلق منه بخلاف قلب زيد فإنه حامل لجميع الظّهورات والآثار والأحكام فلا يـصدر شيء من زيد إلا بالحركة القلبية ثّم الحركة النّفسيـة ثّم الحركة

______________

1 الزيارة الجامعة الكبيرة

الجسدية من العضلات والشّرايين والغضاريف ثّم الظّاهرية من اللّسان واليدين والرّجلين وأمثال ذلك ، فإذا صحّ وثبت أنّ محمداً وأهل بيته صلى الله عليهم أجمعين محال مشيئة الله وألسنة إرادته وتراجمة وحيه فلا يبرز شيء في الوجود إلا بهم ومنهم وعنهم عليهم السلام فهم المحيطون بكل دائرة الأكوان وكلّها عندهم كالنّقطة في الدّائرة وكالدّرهم بين يدي أحدكم ، فالأنبياء عليهم السلام لمّا خلقوا من شعاع أنوارهم كانت علومهم بالنسبة إلى علومهم عليهم السلام نسبة المتناهي إلى الغير المتناهي ولذا ورد في الحديث ما معناه ( أنّ موسى وخضر لمّا اجتمعا وكانا على ساحل البحر إذ نظرا إلى طير على ساحل البحر قد أخذ  بمنقاره قطرة من ماء البحر فرمى بها نحوالمشرق وأخذ قطرة أخرى ورمى بها نحوالمغرب وأخذ قطرة أخرى ورمى بها نحوالسّماء وأخذ قطرة أخرى فرمى بها في البحر فتحيّر موسى وخضر في أمره وما عرفا المراد منه إذ رأيا صيّادا على ساحل البحر فقال لهما ما بالكما متحيّرين قالا عليهما السلام في أمر الطير وما فعله فقال ذلك الصياد إن الطير يريد بذلك أن نبيا يبعث في آخر الزمان له وصي علمكما وعلم من في المشرق وعلم من في المغرب وعلم من في السماء وعلم من في الأرض بالنسبة إلى علمه كنسبة القطرة إلى البحر المحيط )1، وهذا المثال تقريبي وتعبيري إذ لا تمكن العبارة

_____________

1 ذكر المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه هذه الرواية بالمعنى ونحن نذكرها هنا بالنص تيمنا ففي البحار 13/312 ح 52 قال موسى عليه السلام لما سأله أخوه هارون عما رأى من العجائب قال (( بينما أنا والخضر على شاطئ البحر إذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرة ورمى بها نحو المشرق وأخذ ثانية ورماها في المغرب وأخذ ثالثة ورمى بها نحو السماء ورابعة رماها إلى الأرض , ثم أخذ خامسة وعاد ألقاها في البحر فبهتنا لذلك فسألت الخضر عليه السلام عن ذلك فلم يجب , وإذا نحن بصياد يصطاد فنظر إلينا وقال مالي أراكما في فكر وتعجب من الطائر , قلنا هو ذلك , أنا رجل صياد قد علمت وأنتما نبيان ما تعلمان , قلنا ما نعلم إلأا ما علمنا الله , قال هذا الطائر في البحر يسمى مسلم لأنه إذا صاح يقول في صياحه مسلم , فأشار

إلا هكذا وإلا فالأمر أعظم وأعظم وقد قال مولانا الصادق عليه السلام (( لو كنت بين موسى وخضر عليهما السلام لأخبرتهما أني أعلم منهما ))1 والمراد بهذا الحضور هوالحضور الحسي الصوري في اللباس البشري وإلا فما تقوما إلا به لأنه وآباءه وأبناءه عليهم السلام وهذه الأعلمية ليست من باب افعل التفضيل وهذه الأعلمية كما تقول الله أعلم فإنه سبحانه صرح بالأمر في حديث رواه شيخي وأستاذي جعلني الله فداه عن النبيصلى الله عليه وآله وسلمأن يهوديا أتى إليهصلى الله عليه وآله وسلمفقال (( يا محمد بلغ من أمرك إلى أن تقول إني نبي وإني أفضل من موسى وعيسى عليهما السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم يا يهودي أما قولك أني نبي فهوكذلك وأما قولك أني أفضل من موسى وعيسى فلا ينبغي أن أصغر ما عظّمه الله في حقي ولقد أوحى إلي ربي أن فضلك على الأنبيـاء كفضلي وأنا رب العزة على كل

________________

برمي الماء من منقاره إلى السماء والأرض والمشرق والمغرب إلى أنه يـبعث نبي بعدكما كما تملك أمته المشرق والمغرب ويصعد إلى السماء ويدفن في الأرض , وأما رميته الماء في لبحر يقول أن علم العالم عند علمه مثل هذه القطر , وورث علمه وصيه وابن عمه )) .

1 البحار 13/300 ح 20

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخلق ))1فتدبر في هذا الحديث تجد فيه ما لا تسعه الدفاتر ، ونسبة الإنسان إلى الأنبياء في المعرفة والعلم نسبة الأنبياء إليهم عليهم السلام فإذا كان ما عند الأنبياء عليهم السلام وجه من وجوه تجليهم فيهم بهم كالقائم بالنسبة إلى القيام والقاعد بالنسبة إلى القعود وهم عليهم السلام محل مشيئة الله فلا يظهر منها شيء إلا بهم عليهم السلام من كل الوجوه فما ظنك بسائر الخلق ونسبة علومهم وأفهامهم وإدراكاتهم إليهم عليهم السلام فقد علموا من عجائب خلق الله عز وجل وغرائب صنعه وإيجاده ما لا يعلمه إلا الله لأنهم عبيد مربوبون نسبتهم وكل الخلق إليه سبحانه نسبة الكلام إلى المتكلم وما أحقر الكلام بالنسبة إلى المتكلم، فالخلق كلهم من العلل والمعلولات كلمة واحدة تكلم الله عز وجل بها بظهور فعله وحدوث صنعه ولذا قال عليه السلام (( الغلاة الذين صغروا عظمة الله عز وجل ))2فهم سلام الله عليهم مع ما هم عليه من الجلالة والسلطنة والهيمنة في كل حال من الأحوال فقراء محتاجون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولكنهم لما تمحضوا في الفقر والعبودية ولاذوا بباب رب العزة فشرفهم الله وعظمهم ومنحهم ما لم يمنح به أحداً من الأولين والآخرين فقد نالوا بفضل الله ما لم ينله أحد وبلغوا ما لم يبلغ إليه مخلوق وعلموا ما لم يعلمه أحد من الخلق فقد علموا من عجائب خلق الله ما لا يعلمه أحد إلا الله لأن عندهم عليهم السلام الاسم الذي رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام (( قال إن الله تتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت وباللفظ غير منطق وبالشخص غير مجسد وبالتشبيه غير موصوف وباللون غير مصبوغ منفي عنه _________________

1 هذه الرواية كما ترى أورده المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه  بالمعنى ونحن نوردها بالنص تيمنا وزيادة في الفائدة قال صلى الله عليه وآله وسلم (( قال ربي يا محمد إن فضلك على جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين كفضلي وأنا رب العزة على سائر الخلق أجمعين )) البحار 9/309 ح 10

2 البحار 3/294 ح 18

الأقطار مبعد عنه الحدود محجوب عن حس كل متوهم مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معاً ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها وحجب منها واحداً وهوالاسم المكنون المخزون فهذه الأسماء التي ظهرت فالظاهر هو الله تبارك وتعالى وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان فذلك اثنى عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها فهوالرحمن الرحيم الملك القدوس الخالق البارئ المصور الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبار المتكبر العلي العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرزاق المحيي المميت الباعث الوارث فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة وذلك قوله تعالى {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى }2 )) فإذا كانت الأسماء الحسنى كلها ظاهرة مفصلة من ذلك الاسم الواحد كانت المسميات أيضا كذلك لما قدمنا مرارا أن المسمى هوالظاهر بالاسم لا بالذات، ولما كانت الأشياء كلها قائمة بالأسماء في مقام التفصيل والإجمال والأسماء بذلك الاسم الواحد وذلك الاسم عند محمدصلى الله عليه وآله وسلموأهل بيته عليهم السلام كانت الأشياء كلها حاضرة لديهم يرونها ويشاهدونها وكل شيء عند جزء من ذلك العلم فلهم الكل والكلي ولما سواهم الجزء والجزئي وأين الجزئي من الكلي وأين الجزء من الكل، فإذا ثبت وضح لك هذا الأمر الضروري فسلم الأمر لهم تسليما ولا ترد شيئاً مما يرد عليك مما ينسب إليهم من غير دليل إلا لعدم الفهم والمعرفة لأنك ما أوتيت العلم إلا قليلا .

 

          وروى الكليني في الكافي عن أبي بصير قال (( دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت له : جعلت فداك إني أسألك عن مسألة هاهنا أحد

________________

1 الإسراء 110                 2 الكافي 1/87 – 88

يسمع كلامي ، قال : فرفع أبوعبد الله عليه السلام سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ، ثم قال : يا أبا محمد سل عما بدا لك ، قال : قلت : جعلت فداك ، إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم عليا عليه السلام بابا يفتح له منه ألف باب ، قال فقال : يا أبا محمد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام ألف باب يفتح من كل باب ألف باب ، قال : قلت : هذا والله العلم ، قال : فنكت ساعة في الأرض ثم قال عليه السلام : إنه لعلم وما هو بذاك ، قال : ثم قال يا أبا محمد وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة ، قـال : قلت : جعلت فداك وما الجامعة ، قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإملائه من فلق فيه وخط علي بيمينه فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش وضرب بيده  فقال لي تأذن لي يا أبا محمد ، قال : قلت : جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت ، قال : فغمز لي بيده وقال حتى أرش هذا كأنه مغضب ، قال : قلت : هذا والله العلم ، قال : إنه لعلم وليس بذلك ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإن عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر ، قال : قلت : وما الجفر ، قال : وعاء من أدم فيه علم النبيّين والوصيّين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل ، قال : قلت : إن هذا هو العلم ، قال عليه السلام : إنه لعلم وليس بذلك ، ثم سكت ساعة ثم قال : وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما وصحف فاطمة عليها السلام قال : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام قال عليه السلام مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد قال قلت هذا والله العلم قال عليه السلام إنه لعلم وما هو بذاك ثم سكت ساعة ثم قال إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة قال قلت جعلت فداك هذا والله العلم قال إنه لعلم وليس بذاك قال قلت جعلت فداك فأي شيء العلم قـال عليه السلام ما يحدث بالليل والنهار

 

 

 

 

الأمر بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة ))1ويأتي لهذا الحديث بيان إنشاء الله .

 

           في الكافي أيضاً عن سدير قال (( كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزّاز داود بن كثير في مجلس أبي عبد الله عليه السلام إذ خرج إلينا وهو مغضب فلما أخذ مجلسه قال يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت في أيّ بيوت الدار هي ، قال سدير : فلما أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسّر وقلنا له جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنك تعلم علما كثيرا ولا ننسبك إلى علم الغيب ، قال فقال : يا سدير ألم تقرا القرآن ، قلت بلى ، قال فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}2 ، قال : قلت جعلت فداك قد قرأته ، قال : فهل عرفت الرجل وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب ، قال قلت أخبرني        به ، قال عليه السلام : قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب ، قال قلت : جعلت فداك ما أقل هذا ، فقال : يا سدير ما أكثر هذا إن ينسبه الله عز وجل إلى العلم الذي أخبرك به ، يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل أيضا { قل كفى بالله شهيدا بينى

______________________

1 الكافي 1/238 ح 1

2 النمل 40

 

 

 

 

 

وبينكم ومن عنده علم الكتاب }1، قال : قلت قد قـرأته جعلت فداك ، قال : فمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه ، قلت : لا بل من عنده علم الكتاب كله ، قال : فأومأ بيده إلى صدره وقال علم الكتاب والله كله عندنا علم الكتاب والله عندنا ))2 الكتاب في الظاهر هو اللوح المحفوظ وفي الباطن هو علي عليه السلام والذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا وصي سليمان عليه السلام وقد وصف عليه السلام هذا العلم بما وصف من قلته وضعفه بما وصف وذلك العلم هو الاسم الأعظم وذلك هو ظهور ما استودع في سر آصف من نور الولي عليه السلام الذي هو ظهور اسم الله وهو بقدر سمّ الإبرة وقوله عليه السلام (( وعلم الكتاب والله كله عندنا )) لأنه عليه السلام من حقيقة علي عليه السلام لقد ولده عليه السلام في الظاهر والباطن فهم حقيقة واحدة عند كل واحد ما للآخر ، وعلمهم عليهم السلام على أنحاء كثيرة نذكرها إنشاء الله فيما بعد .

 

        وإنما أفرد الضمير عليه السلام و أتى بصيغة المتكلم وحده في قوله عليه السلام (( ولقد علمت )) بناء على أنّ الحصر حقيقي لا إضافي لأنّ الأئمة عليهم السلام كما ذكرنا لهم مقامان مقام تفصيل ومقام إجمال وجمع , ففي المقام الثاني يطلق على المجموع الحقيقة المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله عليه السلام كلنا محمد أولنا محمد وآخرنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإذاً حقيقتهم واحدة وقولهم واحد وحكمهم واحد فالحقيقة الواحدة تخاطب

_____________

1 الرعد 43                2 الكافي 1/257 ح 3

 

 

 

 

 

 

بأربعة عشر لسان كلها تنسب ما تقول إلى نفسه فالظهورات المختلفة لتلك القصبة في أربعة عشر عقدا كظهور النار في أربعة عشر سراجا فالحقيقة واحدة والظهورات مختلفة وعلة الاختلاف في تلك الحقائق المقدسة ضعيفة جدا لا تكون سببا لاختلاف الآثار والأحوال كما في ظهور الإنسان في زيد وعمرو فإنّ علة الاختلاف فيهما قوية فلا يجري على أحدهما حكم الآخر ولا كذلك اختلاف حقائق الأئمة عليهم السلام بل جميع الأحوال الجارية على

أحدهم هي الجارية على الآخر فإذا نسبته إليه صدقت ولذا ورد عنهم أنهم عليهم السلام رخّصوا شيعتهم أن يسندوا الحديث الذي قاله أحدهم عليهم السلام إلى الآخر فتقول ما قال الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال أمير المؤمنين عليه السلام وهكذا بالعكس لأنّ الاختلاف فيهم ضعيف وحكم الاتحاد والوحدة جار عليهم على الحقيقة ، فعلى هذا مفاد الإفراد والجمع واحد فإنّ معنى قوله عليه السلام (( علمت )) هو معنى قوله عليه السلام علمنا فافهم .

 

          والمقام الأول أي مقام التفصيل ملاحظة جهة الاختلاف وإن كانت ضعيفة فإنّ الاختلاف يستلزم القرب والبعد وزيادة التركيب وقلتها وأمثال ذلك فحيث كانوا عليهم السلام كلمة واحدة تكلم بها الحق عز وجل فانزجر وانقاد لها كل شيء وكانت الكلمة متفاوتة الحكم في النقطة والألف والحروف واجتماعها على الهيئة المناسبة للمعنى المطلوب وكان الألف ظاهرا من النقطة ومنبسطا عنها والحروف متقطعة من الألف والكلمة مجتمعة من الحروف كانت مراتبهم عليهم السلام تختلف في عالم التفصيل فيكون رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم هو النقطة التي تدور عليها الكلمة كما قالصلى الله عليه وآله وسلم (( أنا الشجرة وعلي عليه السلام أصلها وفاطمة فرعها

 

 

 

 

والأئمة أغصانها ))1 فهو صلى الله عليه وآله وسلم القطب الذي يدور عليه الرّحى وهو المنتجب من البحبوحة وعلي عليه السلام هوالألف المنبسط من النقطة كما قال عليه السلام (( أنا من أحمد كالضوء من الضوء ))2فهو عليه السلام محل الانبساط والظهور بالشؤون والأطوار وحامل اللواء والحروف المنشعبة منه هم الأئمة عليهم السلام ولذا جرت الحكمة في تولدهم منه عليه السلام فهو أبوهم ظاهرا وباطنا ولذا كان عليه السلام أمير المؤمنين يمير المؤمنين الذين هم الأئمة عليهم السلام العلم والإمامة والولاية ويميرها من الأحكام والأحوال والكلمة الجامعة هي مولاتنا فاطمة عليها السلام لأن الأئمة كلّهم قد اجتمعوا فيها وتفجّروا منها عليها السلام كما في تفسير قوله

________________

1 لم نجد هذه الرواية بعينها فيما لدينا من المراجع ووجدنا ما يقاربها ففي معاني الأخبار ص 93 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( أنـ أصلها ( أي الشجرة ) وأمير المؤمنين فرعها , والأئمة من ولده أغصانها , وشيعتهم ورقها وعلمهم ثمرها )) , وفي بصائر الدرجات ص 95 عن عمر بن زيد قـال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى ( شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء قال : فقال (( رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جذرها وأمير المؤمنين فرعا والأئمة من ذريته أغصانها وعلم الأئمة ثمرها وشيعتهم المؤمنون ورقها , هل ترى فيها فضلا يا أبا جعفر , قال : لا والله , فقال : والله إن المـؤمن يولد فيورق ورقـة وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقته )) .

2 أمالي الصدوق 513 , البحار 21/26

 

 

 

 

 

 

تعالى { * وإذ استسقى موسى } وهو رسول الله { لقـومه }‏ أي لأمتـه { فقلنا اضرب بعصاك الحجر }‏ والعصا هي عليّ عليه السلام والحجر هي فاطمة عليها السلام { فانفجرت منه اثنتا عشرة }1 هم الأئمة عليهم السلام فهم عيون قد تفجّرت من ذلك الحجر فإذا كان كذلك فعليّ عليه السلام هوالمتفرّد بالعلم التفصيلي حقيقة أما سائر الأئمة عليهم السلام وفاطمة عليها السلام فعنه عليه السلام أخذوا وإليه استندوا فهو مولاهم وسيدهم وأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظهرت تفاصيل علومه في عليّ عليه السلام لأنه الطائف حول جلال القدرة ويأتي إنشاء الله بيان هذه المسألة في محلّها، فعليّ عليه السلام هوالمتفرّد بمعرفة عجائب العلوم وغرائبها في المقامات التفصيلية .

 

          وفي قوله عليه السلام (( علمت )) إشعاراً إلى ذلك فإنّ العلم مقام النفس والنّفس الكلّية إنما ظهرت فيه عليه السلام فهو اللوح المحفوظ والكتاب المسطور { وكل شئ أحصيناه فى إمام مبين }2 { وكل شئ أحصيناه كتابـا }3 وقـال تعـالى { أولم يروا أنا نـأتي الأرض ننقصها من أطرافها }4‏ قال عليه السلام (( يعني بموت العلماء )) 5 فافهم .

_________________

1 البقرة 60              2 يس 12                   3 النبأ 29

4 الرعد 41              5 البحار 70/340

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه الصلاة والسّلام وعرفت ما كان وما يكون

وما كان في الذّر الأول مع من تقدّم مع آدم الأول

 

        أقول هذا تتميم لكلامه السّابق وبيان وتفصيل له أو إنّ هذا جامع القول وخلاصة ما تقدّم من ذكر العوالم والأكوار والأدوار، أو أنه بيان للرئاسة الكبرى والسياسة العظمى والدّرجة القصوى وجامع مظاهر الصّفات والأسماء ، أما أن الإمام عليه السلام يعرف ما كان وما يكون فممّا لا إشكال فيه لمن نظر في الأخبار بصحيح الاعتبار واستعمل العقل المستنير بنور الله عز وجل وجانب العناد واللّجاج فمن الأخبار ما في الكافي عن سيف التمار قال (( كنّا مع أبي عبد اللهعليه السلاموجماعة من الشيعة في الحجر فقال عليه السلام علينا عين فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نرى أحدا فقلنا ليس علينا عين فقال عليه السلام وربّ الكعبة وربّ البيت ثلاث مرّات لوكنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما لأن موسى والخضرعليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم السّاعة وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراثة ))1 .

 

        وفيه عن عدّة من أصحابنا منهم عبد الأعلى وأبو عبيدة وعبدالله أبن بشر الخثعمي سمعوا أبا عبد الله عليه السلام يقول (( إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون ، قال ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال عليه السلام : علمت ذلك من كتاب الله عز وجل إن الله عز وجل إن الله عز وجل يقول { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ }2 ))3 .

_____________

1 الكافي 1/260 ح 1                2 النحل 89

3 الكافي 1/261 ح 2

 

          وفيه عن ضريس الكناسي قال (( سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول وعنده أناس من أصحابه عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم فينقصونا حقّنا ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا ، أترون أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفي عنهم أخبار السموات والأرض ويقطع عنهم مواد العلم في ما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم ))1 .

 

           وفيه عن أبي حمزة قال (( سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول لا والله لا يكون عالم جاهلا أبدا عالما بشيء جاهلاً بشيء ثم قال عليه السلام الله أجلّ وأعز وأكرم من أن يفـترض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه ، ثم قال عليه السلاملا يحجب ذلك عنه ))2، وفي الحديث المتقدم عن الصادق عليه السلام أنه قال (( إن عندنا علم ما كان وعلم ما هوكائن إلى أن تقوم الساعة )) ، وفيه عنه عليه السلام في وصف مصحف فاطمة عليها السلام إلى أن قال عليه السلام أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون .

 

         وفي الصّحيفة السجّادية (( يا من خصّ محمّداً وآله بالكرامة وحباهم بالرّسالة ) إلى أن قال عليه السلام (( وعلّمهم علم ما كان وما بقي وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم )) الدعاء .

 

           وفي القرآن المجيد { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول }3 وقال عز وجل { ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء }4  .

________________

1 الكافي 1/261 ح 4              2 الكافي 1/262 ح 6

3 الجن 26 – 27                   4 البقرة 255

 

        وعن الباقر عليه السلام في حديث ليلة القدر على ما في الكافي أن رسول الله عليه السلام (( لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جلّ ذكره علم ما قد كان وما سيكون وكان كثيرا من علمه ذلك جملا يأتي تفسيرها في ليلة القدر وكذلك كان عليّ بن أبي طالبعليه السلامقد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر كما كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )) إلى أن قال قال السائل يا أبا جعفر أرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل كان يأتيه في ليالي القدر شيء لم يكن يعلمه قال عليه السلام لا يحلّ لك أن تسأل عن هذا أما علم ما كان وما سيكون فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه أما هذا العلم الذي تسأل عنه فإن الله عز وجل أبا أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم ))1 الحديث .

 

          وأمثالها من الأخبار كثيرة وهذه الأخبار عامة تدل على أن عندهم عليهم السلام علم ما كان وما يكون وهنا أخبار أخر تدل على أنهم عليهم السلام يزدادون في كل يوم جمعة وفي كل يوم وفي كل آن ودقيقة وقد قال عز وجل { ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء } ولا شكّ أن المراد بالعلم ليس هو الذات البحت عز وجل إذا جعلت المستثنى متّصلا كما هو الأصل فيه وأما إذا جعلته منقطعا فالمعنى أنهم عليهم السلام لا يحيطون بعلمه الذاتي لكنهم يحيطون بما شاء الله من علمه الحادث الفعلي وهو الذي في الكتاب وهذا الكلام له وجهان .

_________________

1 الكافي 1/251 ح 8

 

 

 

 

 

 

         أحدهما أنهم عليهم السلام يحيطون بما شاء الله بالمشيئة الإمكانية والكونية معا ، وثانيهما أنهم عليهم السلام يحيطون بما شاء الله بالمشيئة الكونية ويؤيد الثّاني بل يحقّقه ويرجّحه قوله تعالى { وقل رب زدنى علما }1 فإن الاستزادة عن الذات البحت مستحيلة وعمّا عنده قبيحة فيجب أمر دون الأمرين أي لا يكون ذاته تعالى ولا يكون ما عنده وإنما ما استجن في الإمكان فلا يصحّ إرادة المعنى الأول ، قال (( قلت جعلت فداك وما ذاك الشّان قال عليه السلام يؤذن لأرواح الأنبياء الموتى عليهم السلام وأرواح الأوصياء الموتى وروح الوصي الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتى توافي عرش ربّها فتطوف به أسبوعا وتصلي عند كل قائمة من قوائم العرش ركعتين ثم ترد إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سرورا ويصبح الوصي الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جمّ الغفير ))2 .

 

          وفيه عن المفضل قال (( قال لي أبوعبد الله عليه السلام ذات يوم وكان لا يكنّيني قبل ذلك يا أبا عبد الله ، قال : قلت : لبيك ،  قال : إنّ لنا في كل ليلة جمعة سرورا ،  قلت : زادك الله وما ذاك ، قال عليه السلام إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العرش ووافى الأئمة عليهم السلام معه ووافينا معهم فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا ))3 .

________________

1 طه 114               2 الكافي 1/253 ح 1

3 الكافي 1/254 ح 2

 

 

 

 

 

 

        وفيه أيضا عن يونس أو المفضّل عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور ، قلت كيف ذلك جعلت فداك ، قال إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العرش ووافى الأئمة ووافيت معهم فما أرجع إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندي ))1 .

 

        وفيه عن زرارة قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول (( لولا أنا نزداد لأنفدنا قال قلت تزدادون شيئا لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أما إنه إذا كان ذلك عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر إلينا ))2 .

 

         وفي الحديث المتقدم عن أبي بصير إلى أن قال عليه السلام (( إن عندنا علم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة قال قلت جعلت فداك هذا والله هو العلم قال عليه السلام إنه لعلم وليس بذاك قال قلت جعلت فداك فأي شيء العلم قال عليه السلام ما يحدث بالليل والنهار والأمر بعد الأمر والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة )) .

 

        وفيه عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( إن لله تبارك وتعالى علمين علم أظهر عليه ملائكته وأنبيائه ورسله ، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه ، وعلم استأثر به فإذا بدا لله في شيء منه أعلمنا ذلك وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا ))3 .

_____________

1 الكافي 1/254 ح 3

2 الكافي 1/255 ح 3

3 الكافي 1/255 ح 1

 

 

           وفيه أيضاً عن ضريس قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول (( إن لله عز وجل علمين علم مبذول وعلم مكفوف فأما المبذول فإنه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلا نحن نعلمه وأما المكفوف فهوالذي عند الله عز وجل في أم الكتاب إذا خرج نفد ))1 .

 

            وعن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول }2 قال عليه السلام وكان والله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ممن ارتضى ، وأما قوله تعالى { عالم الغيب } فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقضيه إلى الملائكة فذلك يا حمران علم موقوف عنده إليه فيه المشيئة فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا يمضيه ، فأما العلم الذي يقدّر الله عز وجل ويقضيه ويمضيه فهوالعلم الذي انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمثم إلينا ))3 .

 

      وفيه عن عمّار الساباطي قـال (( سألت أبـا عبد الله عليه السلام عن الإمام يعلم الغـيب فقال لا ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك ))4 .

 

         وعنه عليه السلام (( إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم ))5 .

____________________

1 الكافي 1/255 ح 3                     2 الجن 26 - 27

3 الكافي 1/256 ح 2                     4 الكافي 257 ح 4

5 الكافي 1/258 ح 1

 

 

 

 

 

      والأحاديث في هذه المضامين كثيرة فإذا سمعت بعض الأخبار مما يحضرني الآن فاسمع ما ذكره القرية الظاهرة للسير إلى القرى المباركة أعني شيخنا وأستاذنا أطال الله بقاه وجعلني فداه في شرح الزيارة الجامعة عند قوله عليه السلام وخزّان العلم قال سلّمه الله تعالى ( العلم الذي هم خزّانه العلم الحادث وهو علم موجود بالمعنى المتعارف وهو قوله تعالى { ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء }1 يعني أن ما لم يشأ من علمه أن يعلموه لا يحيطون به وليس المراد بهذا العلم الذي لا يحيطون بشيء منه هو القديم الذي هو الذات ليكون المعنى ولا يحيطون بشيء من ذاته إلا بما شاء أن يحيطوا به منها وهذا معنى باطل بل المراد به شيئان أحدهما أن العلم الحادث الذي هو غير الذات منه ممكن مقدور غير مكوّن ومنه تكوين ومنه مكوّن فالممكن المقدور غير المكوّن هوالممكنات قبل أن تكسى حلّه الوجود في جميع مراتب الوجود فهذه لم تكن مشاءة إلا في إمكانها فهذا لا يحيطون بشيء منه إحاطة وجود ويحيطون به إحاطة إمكان لأنه إذ ذاك مشاء مشيئة إمكان والتكوين الممكن وهذا يحيطون به لأنه مشاء بنفسه وهم محال ذلك والمكوّن قسمان مكوّن مشروط ومكوّن منجّز والمكون المشروط يحيطون به لأنه مشاء ولا يحيطون بالشّرط إلا بعد أن يكون مشاء والمكوّن المنجّز يحيطون به ثم ما كانوا يحيطون به قسمان قسم كان وهم عليهم السلام يحيطون به أنه كان ولا يحيطون به أنه مستمر أومنقطع إلا إحاطة إخبار وقسم لم يكن فهم يحيطون به إحاطة إخبار لا إحاطة عيان فظهر لمن نظر وأبصر من هذا التفصيل أنهم لا يحيطون بشيء من علمه الذي هوغير ذاته إلا بما شاء أن يحيطوا به والذي شاء أن يحيطوا به ما سمعته في هذا التفصيل فافهم.

 

      وثانيهما أن ما أحاطوا به وعلموه لم يكونوا علموا شيئا منه إلا بتعليم الله سبحانه ولم يكن تعليمه لهم أنه أعلمهم ورفع يده عنهم فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى الله ، تعالى الله عن إمكان استغناء شيء عنه علوا كبيرا ،

_______________

1 البقرة 255

بل ما علموه إنما هو بتعليم الله لهم في كل لحظة بمعنى أنهم إذا علموا أن غداً تطلع الشمس إن شاء الله ما ملكوا من هذا العلم شيئا إلا لحظة علمهم بذلك حين علموا لا قبلها ولا بعدها ولم يعلموا بعد تلك اللّحظة ما علموه من أن الشمس تطلع غداً إن شاء الله إلا بتعليم جديد من الله تعالى كما هو حال المحتاج إلى الغني المطلق وذلك التعليم الدائم القائم حين يكون هو ما شاء الله وهو الذي يحيطون به وهوما ملكوه من العلم فافهم فإنه دقيق لطيف رشيق والعلم الذي هم خزّانه هـو هذان الشّيئان من العلم على نحوما ذكرنـا لا غير )1 انتهى كلامه أطال الله عمره وأعلى الله مقامه .

 

         وأنا أجمل لك المقال وأشرح به حقيقة الحال بكلام موجز مختصر فخذه قاعدة كلية فاعرف منها معنى علم الإمام عليه السلام بما كان وما يكون إلى انقضاء الوجود .

 

      فأقول اعلم أنّ الله عز وجل لم يزل متفردا متوحدا ولم يكن معه سبحانه شيء ، والآن كما على ما عليه كان إذ لم يسبق له حال حالا ليكون أولا قبل أن يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا بل أوّليته عين آخريته وظاهريته نفس باطنيته ومشهوديته عين مفقوديته وخفاؤه عين    ظهوره ، ثم خلق محمدا وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام أوّلا قبل كل شيء وأكمل خلقتهم وأتم نورهم عليهم السلام ، ثم هم يعبدون الله عز وجل كما عبدوه بأعمالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم وسائر أحوالهم     وشئونهم، وتلك الأعمال والأفعال والعبادات ليست صادرة عنهم بالاستقلال إذ لا فعل لهم فيها ليستلزم الإجبار وإنما ذلك بسر الأمر بين الأمرين ، كأعمالك وأقوالك وحركاتك وسكناتك مثل قيامك وقعودك وأكلك وشربك وكتابتك وسائر أعمالك فإن كلّها أشياء وجودية قد تقوّت بك وبيدك ناصيتها ، إلا أن الأشخاص تختلف في صدور الأعمال عنهم باختلاف

______________

1 شرح الزيارة الجامعة الكبير 1 ص 47 - 48

 

القدرة من قوتها وضعفها وذلك الاختلاف من جهة اختلاف كينونات العاملين بقابليّاتهم ، ولذا ترى الملائكة تحرّك الجبال والأرض كلّها وتدير الأفلاك بأمر الله وإذنه واقتداره وأنت ما تقدر على ذلك ، وليس أن الملائكة مجبورون في ذلك أو أنت مجبور فيما ذكرنا لأن الجبر قد سبق منّا أنه عبارة مفهوميّة لا حقيقة لها في الواقع وإن كانت لها حقيقة في نفس الأمر .

 

         فإذا أتقنت هذا فاعلم أن الموجودات كلّها بسماواتها وأرضها وعرشها وكرسيها وملائكتها وجنّها وحيوانها ونباتها وجمادها وكل ما يحصل من قراناتها وأوضاعها وجميع ما يرى وما لا يرى ومن ينقلب في الجنة والنار وحقيقتهما وحقيقة الأنبياء وسائر ما خلق الله عز وجل كلّها على العموم الاستغراقي الحقيقي اللغوي لا العزمي مختـارة في صدور الأفاعيل المنسوبة إليها ، وأمّا الأفعال التي صدرت عن الله بها وبواسطتها فليس لها إلا حكم التوسط فلا تنسب إليها على الحقيقة كالخلق والرزق ، وليست هي مختارة في الإيجاد وإنما هي أسباب وأبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها .

 

      ولما ثبت أن محمدا وأهل بيته عليهم السلام هم الباب الأعظم والسبب الأتم ، أوجد الله الموجودات بهم في جميع أحوالهم ، فالإمام عليه السلام هو العلّة والسبب وليس نسبة الخلق إليهم كنسبة أعمالك وحركاتك وسكناتك بل نسبتهم إليه كنسبة الأفعال الإلهية إلى الملك ، فهو عليه السلام حامل اللواء والذات في الذوات للذات فالعالم كله بيته الذي بناه بقدرة الله ، وكلّما في العالم آلات البيت التي أحدثها على حكم المقتضيات والأوضاع أنشأ الله مادّتها باختراعه لا من شيء وصورتها لا لشيء فهو روحي فداه صاحب البيت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخره وسيّده والله عز وجل من ورائهم محيط ، فهم عليهم السلام ليسوا شيئا إلا بالله عز وجل فلا

 

 

 

 

عمل لهم إلا به وبأمره كما قال عز وجل {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}1 {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}2 فظهرت قدرة الله عز وجل فيهم فتحمّلوا أوامره ونواهيه والأحكام الوجوديّة والشرعية كلّها كما قال في الحديث القدسي (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))3 فهم وسعوا جميع الأحكام الربوبية فظهرت بهم أحكامها ، ولما تمحّضوا في العبودية ودكوا جبال الإنيّة بلغوا مقام الحديدة المحمية فصار فعلهم فعل الله وقولهم قول الله وحكمهم حكم الله وأمرهم أمر الله ونهيهم نهي الله كما قال الله عز وجل {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}4 {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}5 .

 

      ولما كان الحق سبحانه هوالثابت المستقل الموجود الدائم الباقي فلا تنسب الأشياء في كل أحوالها إلا إليه فلا يعبد إلا إياه ، ولما كانت الأشياء متقوّمة بهم ومبدئة بهم وصادرة عن الله لهم عليهم السلام وهم عليهم السلام لا ينظر إليهم نظر الاستقلال فصارت التعبيرات تختلف بالنسبة إليهم عليهم السلام ، فمرة يعبر عنهم باليد ومرة بالقدرة ومرة بالعلم ومرة بالتوحيد ومرة بركن التوحيد ومرة بالجلال ومرة بالجمال ومرة بالعظمة ومرة بالرحمة ومرة بالوجه ومرة بالجنب ومرة بالاسم ومرة بالمعنى وهكذا من سائر التعبيرات ، ومرجع كل ذلك إلى ما ذكرنا لك من سر الأمر بين الأمرين فإذا صحّ أن الموجودات كلّها آثار الله الصادرة عن الله بالإمام عليه السلام فوجودها كلها عنده كالنقطة في الدائرة لأنه لها كالقطب بالنسبة إلى المحيط ، ولاشك ولا ريب أن المحيط عالم بجميع جهات المحاط مما أحدثه الله ومما يحدثه فيما بعد وكل ذلك حاضر عنده موجود لديه لأنـه الباب الذي لا يؤتى إلا منه وفي

_____________

1 الأنبياء 27             2 الأنبياء 29            3 البحار 58/39 ح 61

4 النساء 80             5 الفتح 10

الزيارة (( إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم ويصدر من بيوتكم الصادرة لما فصّل من أحكام العباد ))1الزيارة .

 

      فالذوات والحقائق بأسرها صدرت عن الله تعالى بهم فهم باب الفيض في الصدور والورود بالنسبة إلى كل موجود والموجودات كلها أعراض قائمة بهم عليهم السلام ، فهم عليهم السلام بهذا الاعتبار يعلمون علم السموات والأرض وما كان وما يكون إلى يوم القيامة وإلى ما لا نهاية له لأنهم وجه الله الذي لا تعطيل له في كل مكان ويده المبسوطة بالبر والامتنان ورحمته الواسعة وقدرته الشاملة الكاملة  فيعلمون ما يكون حين ما كان قبل أن يكون ، ولما  كان الوجود دائم الفيضان ودائم التجدد والسيلان كانوا عليهم السلام يزدادون في العلم في كل آن من الأمور المتخصّصة في الأكوان المنزلة مطلقة من بحر الإمكان ، فلا يعلمون عليهم السلام إلا ما ظهر مكونا في عالم الأعيان وأما الأكوان فيعلمونه على ما هو عليه من عدم التخصص والتعين ، ولما كان ظهور الحق عز وجل لهم قبل كونهم في عينهم فهو سبحانه أقرب إليهم لا نهاية له في بعده عنهم كذلك فعلّم سبحانه الخلق في أماكنهم ورتبهم قبل خلقهم وقبل وجودهم عليهم السلام بما لا نهاية له ، ولما كان ظهورهم عليهم السلام للخلق كذلك كان تعليم الله سبحانه إياهم حقائق الخلق من المستقبل والماضي والحال قبل كون الخلق وعينهم بما لا نهاية له في رتبة وجودات الخلق لا قبلها ، فنسبتهم عليهم السلام إلى الخلق نسبة واحدة وكل الخلائق عندهم عليهم السلام نقطة واحدة فيرون كل شيء في مكانه ووقته قبل وجوده حين وجوده لأن التقديرات الزمانية والتقدم والتأخر السّيالين الغير المجتمعين مرتفعة عندهم ، فالمستقبل عندهم عليهم السلام عين الماضي والماضي عين الحال ومعنى ذلك رفع الماضي والحال والاستقبال فالوقت الذي عرفوا القيامة الكبرى مثلا هو الوقت الذي عرفوا وجود آدم أبينا عليه السلام لأن زمانهم عليهم السلام سرمد بـالنسبة إلى الأنبيـاء وزمان الأنبياء سرمد

_______________

1 كامل الزيارات 200

بالنسبة إلينا والسرمد انقطعت عنده النهايات والبدايات والجهات الدهرية والدهر انقطعت عنده كل المدد الزمانية وكلها عنده كنقطة واحدة ، فالأشياء كلها في جميع أحوالها من الماضي والاستقبال حاضرة لديهم معلومة لهم ويشاهدونها حين وجودها وصدورها من المبدأ ، ولذا قد مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجميع الأشياء حين خلقه الله عز وجل ودخل الجنـة والنار ، والحسين عليه السلام أرى أمّ سلمه زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقتله ومذبحه ويوم شهادته وحال شهادته وشهادة الشهداء المستشهدين بين يديه وسبي النساء وسائر الأحوال وهو عليه السلام في المدينة ، فالأشياء كلها مما جرى عليه قلم الابداع على حكم الاختراع فما يصح في الحكمة أن يبرز في الوجود كلها قد صار عندهم وتحقق لديهم سلام الله عليهم وثبت في اللوح المحفوظ الذي لم يتغيّر ولم يتبدّل قـال عز وجـل { وأجل مسمى عنده }1 وهذا معنى قولهم عليهم السلام ما معناه (( إن الله عز وجل خلق القلم وأمره أن يكتب في اللوح فكتب ما كان وما يكون ثم جف ولم ينطق أبـدا )) وإلى هذا الذي ذكرنـا من السر المنمنم يشير قـوله عليه السلام (( وعرفت ما كان وما يكون )) فهم عليهم السلام يشاهدون الأشياء بمراتب سياليتها وتدرّج مراتبها ومقاماتها إلى نهايات انقطاع وجوداتها على التفصيل حين وجوداتها قبل أن تخلق بألف ألف دهر وهذا باب غامض يدركه أهل الأفئدة ولذا لما سئل السائل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( هل كان يأتيه في ليالي القدر شيء لم يكن يعلمه قالعليه السلاملا يحلّ لك أن تسأل عن هذا أما علم ما كان وما سيكون فليس يموت نبي ولا وصي إلا والوصي الذي بعده يعلمه أما هذا العلم الذي تسأل

_______________

1 الأنعام 2

 

 

 

 

عنه فإن الله عز وجل أبا أن يطلع الأوصياء عليه إلا أنفسهم ))1الحديث فافهم .

 

        والقلم الذي كتب ما كان وما يكون ثم جف وهو عقلهم عليهم السلام وهو روح القدس الذي يأتي في ليلة القدر عند الإمام عليه السلام وهذا الروح قد قالوا عليهم السلام فيه (( روح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة ))2 وهذا العلم الثاني هو ظهورات العلم الأول في مراتب تنزلاته منسب سيالية الأشياء في مراتبها وحسب مقابلتها لفوّارة القدر فليلة القدر هي ليلة الجمعة التي قد تقدّم في الحديث أنهم عليهم السلام يزدادون فيها وليلة الجمعة هي الآن والآنات التي يزدادون فيها إذ مواد العلم لا تنقطع عنهم عليهم السلام والأيام والأسبوع منقطعة دونهم وفوّارة الفيض الذي هو العلم دائم الفوران عليهم لكنا نحن عندنا الأيام والأسبوع والسنة فيقدّر ذلك النور فيها على حسبها كنداء الملك الذي على نصف النهار ينادي (( قوموا إلى نـيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفؤها بصلاتكم ))3 وهذا هو صوت واحد غير منقطع على دائرة نصف النهار  فأهل كل بلدة يحاذونها سمعوا صوته ووجب عليهم صلاة الظهر وكذلك العصر والمغرب والعشاء والصبح على هذه الأوقات وليست هذه الأوقات عند الملك ولا عند الفلك و إنما هي بالنسبة إلى أهل الأرض، وكذلك ليلة القدر فإنها ليلة إفاضة الفيض عليهم عليهم السلام من فوارة القدر الذي هو بحر مظلم كالليل الدامس كثير الحيتان والحيّات في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلّع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلّع عليها فقد ضاد الله في ملكه ونازعه في سلطانه وباء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير ، ولا انقطاع لفوران تلك الفوّارة أبد الآبدين وذلك الفوران على تلك الأراضي الطيبة والقابليات الراجحة التي كادت أن تضيء ولو لم تمسسها نار التأثير بماء الأثر تسمى مرة بليلة القدر .

_________________

1 الكافي 1/251 ح 8               2 البحار 26/264

3 الفقيه 1/208

        وإنما سمي بالليلة لأن ذلك النور أي الفيض أي العلم الذي هو النقطة قد ظهرت في تلك الهياكل والحدود الطيبة الطاهرة فكانت ليلة ، وإنما سميت بالقدر بمعنى الضيق إشارة إلى تهجّم تلك الأنوار وتطابق ظهور الأسماء واجتماعها كلّها في تلك الحقائق المقدسة الطاهرة والملائكة مظاهر تلك الأسماء .

 

         ويسمى مرة بليلة الجمعة أما الليلة فلما أشرنا إليه سابقا ، وأما الجمعة فلاجتماع القوابل مع المقبولات واتصال الأسماء بالمسميات والأسباب بالمسبّبات ، ويعبر عنه بظهور العلم في كل الآنات في جميع الدقائق والساعات لسريان ذلك النور في جميع المراتب وكل الأطوار في كل    الأحوال .

 

          وإنما عينت ليلة القدر بليلة ثلاثة وعشرين من شهر رمضان ، وأما شهر رمضان فلكونه مبدأ الشهور وأول السنة جرى له حكم المبدئية ولذا وجب احترامه وصيامه ، أما العشر الثالث منه أما على الظاهر فلأن العوالم ثلاثـة عالم الجبروت وهو العشر الأول منه وفيه الفيوضات الواردة على العقول ، وعالم الملكوت وهو العشر الثاني منه وفيه الفيوضات الواردة على النفوس وما بعدها ، وعالم الملك وهو العشر الثالث وفيه الفيوضات الواردة على الأجسام من العلوية والسفلية وعالم الظهور وهو الثالث والمبدأ هو الأوّلان فلا يتحقق إلا بهما و إجراء الأحكام عليهما ، فوجب أن يكون لأهل العالم الثالث الرتبة الثالثة فلذا كان في العشر الثالث .

 

       وأما في الحقيقة ليعمّ الحكم في كل عالم فلأن المبدأ له ثلاث جهات جهة إلى الأعلى والثانية إلى نفسه والثالثـة إلى شئونه وأطواره وظهورات  آثاره ، والفيض في عالم التفصيل والتمييز والظهور الفعلي مشروح العلل مبين الأسباب لا يكون ولا يتم إلا في الرتبة الثالثة فجرى حكم ليلة القدر في العشر الثالث مقترنا ومرتبطا بالثاني ، و إنما ظهرت ليلة القدر في ثلاثة ليال وكملت في الثالث لأن تمام الشيء من البدء لا يكون إلا بعد إيجاد عينه وتقدير حدوده والقضاء أي الحكم عليه بما هو عليه من تلك الحدود ، فالمقام الأول مقام المشيئة وبدأ الإرادة والمقام الثاني مقام القدر أي الهندسة ووضع الحدود والمقام الثالث مقام القضاء ومقام في أي صورة ما شاء ركبك فكان تمام الفيض في هذه المقامات الثلاثة وهي الكليات التي إذا فصّلت ظهرت السبعة أيام الأسبوع قال عليه السلام (( لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وأجل وكتاب ، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر ))1، وفي رواية أخرى (( فقد أشرك ))2 .

 

         وإنما كانت ليلة تسعة عشر الأولى المبدأ لأنها مقام الواحدية وأول ظهور المشيئة قبل التعلق الذي هو عبارة عن إتمامها بالأحدية وتلك الليلة مقام بسم الله الرحمن الرحيم في الكتاب التكويني فظهر الظاهر مطابقاً للباطن فإن المشيئة هي الذكر الأول وهذا مبدأ وجود الشيء لا يترتب عليه حكم ولا يظهر منه أثر إلى بما بعده من المراتب والحدود ، ثم ليلة إحدى وعشرين لأن الواحدية إذا تمت بالأحدية ظهرت الكاف المستديرة على نفسها ثم أثرت في الرتبة الثانية فليلة العشرين مقام ظهور الكاف وليلة أحد وعشرين مقام التأثير في التقدير ، أو قل إن ليلة تسعة عشر بإزاء المشيئة والعشرين في مقام الإرادة وحكمها في الليلة الأخرى وهي رتبة القدر وتقدير الآجال والأرزاق ووفد الحاج وأمثالها ، أو قل إن ليلة إحدى وعشرين أول البدء في العشر الثاني وليلة تسعة عشر لمقام الارتباط والثالث والعشرين لتمام المراتب وظهور شكل المثلث الذي هو أبو الأشكال وهو شكل أبينا آدم عليه السلام فافهم .

_____________

1 الكافي 1/149 ح 1

2وهي قوله عليه السلام (( لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بسبع بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله أورد على الله )) الكافي 1/149/2

 

 

      وإنما ظهرت ليلة الجمعة ويومها في آخر الأسبوع أو في اليوم السادس لظهور التسبيع والتسديس في كل شيء كما قال عز وجل { خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}1 واليوم السادس مقام الاجتماع وتمام الأمر والسابع كماله وظهوره مشروح العلل مبين الأسباب وهذا الحكم يجري في كل شيء من الموجودات العلوية والسفلية ، وأما عالم الأجسام أي العناصر لما كان عالم الزمان الغليظ الكثيف ظهر نور القضاء في ذلك اليوم ولذا كان عيدا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم .

 

        وبالجملة لا تنافي بين ما ذكروا عليهم السلام ( إن عندنا علم ما كان وما يكون ) على مقتضى الأخبار الكثيرة المستفيضة وبين ما قالوا عليهم السلام ( إنا نزداد في كل ليلة الجمعة ) وما قالوا ( إنا نزداد في كل آن ) وما قالوا ( أن الملائكة تأتيهم ليلة القدر بجميع ما يحدث في تلك السنة ) فإن المراد مما يكون من المحتومات لا المشروطات والموقوفات وذلك للدليل القطعي على أنهم عليهم السلام حادثون والحادث لا يستغني من المدد إذ لوجاز أن يستغني آنا  لجاز الاستغناء إلى الأبد كما يأتي مشروحاً إن شاء الله تعالى ، فالمدد الذي يأتيه لوكان هو الذي عنده كان تحصيلاً للحاصل ثم لا يتصور الإتيان وهو المفروض فلو لم يكن عنده كان ممكنا في حقه أن يأتيه إذ لا يصح أن يأتيه شيء من الأزل تعالى عن ذلك علوا كبيرا فيجب أن يكون في الإمكان فيأتيه أشياء ليست عنده ، فإذا ثبت حدوثهم عليهم السلام وأنهم مخلوقون مربوبون فيجب أن تأتيهم أشياء ليست عندهم وهو قوله تعالى { وَقُل رَّبِّ

____________

1 الأعراف 54

 

 

 

 

 

زِدْنِي عِلْمًا}1 وقال صلى الله عليه وآله وسلم عليه السلام (( اللهم زدني فيك تحيرا )) فعلى هذا وجب أن نقول أن عندهم عليهم السلام علم ما كان لأنه لا يكون شيء إلا وأشهدهم الله خلقة فلا يوجد إلا بمشهد منهم عليهم السلام ولا يعمل عبد عملا إلا وقد يعرض عليهم عليهم السلام لأنهم عليهم السلام المناة لأحوال الخلائق والأعضاد الذين بهم قوام الأشياء بموادها وصورها فلا يشذ عنهم شيء موجود قد تعلق به الجعل ، وأما علم ما يكون فإن المحتوم منه الذي لا مرد له يعلمونه بتعليمهم الله عز وجل ، وأما ما سوى ذلك من الأمور الممكنة فإنها تتجدد عليهم دائما يفيض عليهم من بحر الإمكان إلى ساحل الأكوان والأعيان وهم عليهم السلام حملة ذلك الفيض وذلك العلم وعلم في ما قعر بحر الإمكان ليس إلا عند الله عز وجل فيخبرهم ما شاء وأحب من ذلك وذلك هوعلم الغيب كما قال عز وجل {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }2 والمرتضى من محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو علي عليه السلام ولذا سمي بالمرتضى وقـال عز وجل { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن

_________________

1 طه 114

2 الجن 26 - 27

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رُّسُلِهِ مَن يَشَاء}1 وهذا العلم الذي يأتيهم لا غاية له ولا نهاية له نهر يجري من تحت جبل الأزل على أراضي قلوبهم إلى أبد الأبد فيظهر ذلك في العالم الزماني بالمكمم بهذه المقادير المخصوصة بالنسبة إلى أهله ، وأما بالنسبة إليهم عليهم السلام فليلة القدر هي ليلة الجمعة كما ذكرنا ألا ترى أنه من جهة اختلاف الآفاق يكون ليلة في بلدة جمعة وفي أخرى السبت وفي أخرى الأحد وهكذا ، وكذا ليلة القدر أي الليالي الثلاثة تختلف باختلاف البلدان باختلاف الآفاق فدل ذلك على ما ذكرنا من وحدة الأمر النازل في ليلة القدر واختلافه بالقوابل قال تعالى {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ}2 { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}3 فافهم.

 

      وليس الغيب ما توهمه بعض الناس من أنه الإخبار بما في القلوب والضمائر وأمثال ذلك فإن ذلك غيب إضافي لا حقيقي والموجودات دقيقها وجليلها ومجردها وماديها كلها حاضرة لديهم مشهودة لهم فلا تغيب عنهم لأنهم عليهم السلام وجه الله الذي لا تعطيل له في كل مكان والخواطر إنما نزلت إلى الأوهام والأذهان بعد أن نزلوها عليهم السلام من خزائنها المقدرة لها والمستقبلات كلها حاضرة عندهم يرونها ويشاهدونها في أماكنها وأوقاتها فلا يخفى عليهم شيء من أحوالها فلا ينبغي لأحد ممن له تتبع في الأخبار وتعمق نظر واعتبار أن يشك أن عندهم عليهم السلام كلما برز في عالم الكون فإذا سألهم السائل من شيء لا بل إذا أتاهم من قبل السؤال يعلمونه بجميع أحواله وما يريد أن يسأله وما الذي تقتضي المصلحة في حقه وأمثالها لأن ذلك ليس بغيب عندهم عليهم السلام و إنما هو شهادة وعيان ، فلا يشمله ما دل على أنهم لا يعلمون الغيب فإن قلت فما معنى الحديث المتقدم عن أبي عبد الله عليه السلام (( يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما

________________

1 آل عمران 79                   2 القمر 50

3 الملك 3

علمت في أيّ بيوت الدار هي ))1، فإن ذلك مخالف لما قررت من أنهم عليه السلام يعلمون جميع ما تحلى بحلية الكون ويدل أيضا على أن المراد بالغيب الذي لا يعلمونه هوالغائب عن الأبصار من أحوال القلوب والضمائر والخفايا والخبايا .

 

         قلت ليس المراد من الحديث الشريف ظاهره لدلالة عجز الحديث عليه وهو صريح في أنه كان منه عن تقية من الذي كان في مجلسه فإن معنى الحديث إن ضعفاء شيعتنا يؤذوننا أي المخالفون يؤذوننا في ضعفاء الشيعة لتأذيهم منهم فينا ، (( يزعمون )) أي العامة أنا نعلم الغيب يحتمل الغيب أن يكون ضمير المتكلم راجعا إلى العامة المخالفين يعني يزعمون أنفسهم أنهم يعلمون الغيب أي الأسرار والبواطن والأمور الغيبية عن الخلق حتى أنهم يقولون أن أبا بكر وعمر أوتيا علما لم يؤت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأسرار وغوامض العلوم ووصل إليهما العلم من الله عز وجل بدون توسط النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العلوم المكتومة وكما قال أيضا بعضهم لوشئت لأوقرت سبعين جملا من تفسير الحمد لله في مقابلة قول علي عليه السلام (( لوشئت لأوقرت سبعين جملا من تفسير باء بسم الله الرحمن

_______________

1 الكافي 1/257 ح 3

 

 

 

 

 

 

 

 

الرحيم ))1 وأمثال ذلك مما يدعون بمحض الدعوى ، ويحتمل أيضا أن يكون ضمير المتكلم راجعا إليهم عليهم السلام والزعم هو ركوب مطيّة الكذب والخيال الباطل والظن وشبهه يعني أنهم في شك وارتياب في أنا نعلم الغيب وليس كذلك بل يجب اليقين والاعتقاد في ذلك .

 

       وقوله عليه السلام (( لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني )) المراد بالضرب هو النوع وكانت له جارية عامية أراد عليه السلام أن يجعلها من نوع شيعته ومواليه فما قبلت ، وقوله عليه السلام (( فما علمت في أيّ بيوت الدار هي )) يعني ما أبالي في أي طريقة تموت يهودية أو نصرانية هذا هو مراد الإمام عليه السلام ولا تقل أنه بعيد لأنا نقول {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا}2 وأنهم عليهم السلام يتكلمون بالكلمة ويريدون منها أحد وسبعين              وجها ، ومثل هذا الحديث كثيرا ما يقع عنهم عليهم السلام في مورد التقية كما اشتهر عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال (( إن أبا بكر وعمر كانا إمامين عادلين كانا على الحق وماتا على الحق رحمة الله عليهما )) وقالوا أيضا (( من فضل عليا على عمر فقد كفر )) وأمثالها كثير ولا يمكن إرادة ظاهر هذه الأحاديث على ما يفهمه العوام ، فإن المراد من الأول أنهما كانا إمامين

_______________

1 عوالي اللآلي 4/102

2 المعارج 6 - 7

 

 

 

 

 

 

 

 

من الأئمة الذين يدعون إلى النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ}1، عادلين عن الحق والصراط المستقيم ، كانا على الحق الحق هو علي عليه السلام لقوله تعالى {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}2 وعلى للضرر يعني أنهما كانا دائما على ضرر علي عليه السلام وإيصال الأذية إليه عليه السلام وماتا على الحق كالأول ، رحمة الله عليهما يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ضررهما وإهانتهما في الدنيا والآخرة ، والمراد من الحديث الثاني في أن تفضيل شيء على شيء فرع أن يكون في المفضل عليه فضيلة فإثبات التفضيل لأحد على أحد إثبات الفضيلة في الآخر وذلك كفر في ما نحن فيه كما قال الشافعي شعرا :

       يقولون لي فضل عليا عليهما     وكيف أقول الـدر خير من الحصى

       ألم تر أن السيف يزرى بحاله   إذا قيل أن السيف خير من العصـا

 

         فإن قلت أن ارتكاب التقية خلاف الأصل وخلاف الأصل إنما يصح إذا قام الدليل القطعي عليه كما في الحديثين الآخرين وأما فيما إذا لم يقم فلا فيجب حمل الكلام على ظاهره ، قلت بلا لكن في عجز الحديث قرينة صريحة في ذلك حيث قال عليه السلام كل علم الكتاب عندي ، والله سبحانه يقول 

________________

1 القصص 42

2 الحاقة 51

 

 

 

 

 

 

 

{وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}1 وفيه تفصيل كل شيء وتبيان كل شيء {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}2 {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}3 فإذا ثبت أن في الكتاب كل شيء ثبت أنهم عليهم السلام يعلمون كل شيء فإذا ثبت هذا المعنى في آخر الحديث ثبت أن أول الحديث لا يخالف آخره فصحّ ما ذكرنا .

 

         فإن قلت قد تواترت الأخبار عنهم بأنهم عليهم السلام لا يعلمون الغيب وورد اللعن على من ادعى ذلك والتكذيب على من يدعيه فلا ينطبق على ما ذكرت ، قلت نحن نقول بموجبها ونتبرأ ممن ينسب الغيب إليهم عليهم السلام لكن على المعنى الذي ذكرنا من أن المراد بالغيب الذي لم يكن ولم يكتس حلة الكون وهو في الإمكان معدوم العين مشروط الوقوع ، وهذا لا يعلمونه ولا يحيطون به وإلا لساوى علمهم علم الله جل شأنه ولاستغنوا عن المدد وخرجوا عن الإمكان لأن المحيط بكل أحوال الشيء لا يمكن أن يكون معه في رتبته وهو علم خاص بالله سبحانه وهو الاسم الذي اختص به عز وجل من الاسم الأعظم كما ورد أن الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون اسما اثنان وسبعون اسما عندنا وواحد يتفرد به القديم عز وجل وذلك الاسم هو الشمس المضيئة تحت قعر بحر القدر كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن قال عليه السلام (( في قعره شمس تضئ لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلع عليها فقد ضادّ الله في حكمه ونـازعه في سلطانـه

_________________

1 الأنعام 59             2 يس 12                3 النبأ 29

 

 

 

 

 

وكشف عن سره وستره وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ))1 وكلما خرج من هذا العلم إلى الوجود فيصل إليهم عليهم السلام إلا ما كان من المحتومات التي لا يقع فيه البداء كما سبق .

 

        أو نقول أنهم عليهم السلام لا يعلمون شيئا إلا ما علمهم الله عز وجل فلا يعلمون شيئا بدون تعليمه تعالى وهو أحد معاني قوله {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}2 ولا اختصاص له بالغيب بل يدخل فيه العلم بأن السماء فوقنا والأرض تحتنا وأمثاله أيضا ، لكن أبى الله عز وجل إلا أن يعلمهم علمه لأنهم عيبة علمه وحفظة سره ومستودعوحكمته وحملة كتابه كما قال عز وجل {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء}3 كما تـقدم فإن قلت إذن فما معنى قـوله عليه السلام ((إن الله تـفرد بخمسة ))4 وهي ما في الآية الشريفة {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا

______________

1 البحار 5/97           2 البقرة 255            3 آل عمران 179

4 البحار 42/275

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}1 .

 

         قلت معناه أن الله عز وجل تفرد بها مستقلا ، لكنه سبحانه ارتضاهم وعلمهم ذلك أما علم الساعة فإنه علي عليه السلام كما في قوله عز وجل لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( فيك يا علي ستة خصال من الأنبياء )) عليهم السلام وذكر منهم عيسى بن مريم عليه السلام فقال المنافقون (( إنه يحب أن نعبد ابن عمه كما عبدت النصارى المسيح )) فأنزل الله عز وجل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ }2 وهم آل محمد عليهم السلام   {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}3 والضمير لا يخلو إما أن يرجع إلى علي عليه السلام أو إلى عيسى عليه السلام وكلاهما مرادان ، فعلي عليه السلام في الباطن وعيسى عليه السلام في  الظاهر ، ولا شك أن عيسى عليه السلام مثال لعلي عليه السلام فهو إنما صار علم الساعة لظهور النور العلوي

_______________

1 لقمان 34                 2 الزخرف 57 - 59

3 الزخرف 60 - 61

 

 

 

 

 

 

 

 

عليه السلام فيه ، وقوله تعالى {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}1 يعني علي عليه السلام هو الذي عنده كما قال عز وجل {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}2 قال مولانا الصادق عليه السلام (( نحن الذين عنده )) وقوله تعالى {* وعنده مفاتح الغيب }3 والمفاتح هم آل محمد عليهم السلام .

 

           ثم اعلم أن قوله تعالى {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أن أريد بها القيامة الكبرى أوالصغرى أي قيام القائم والرجعة والأحوال الجارية فيها وتفاصيل ما يقع عليها فلا شك أن عليا عليه السلام هو متوليها ومجري أحوالها وبيده لواء الحمد كما قال عليه السلام (( لوكشف الغطاء ما ازددت يقينا ))4 ، وإن أريد بها زمان وقوع الساعة ووقت قيامها فإن ذلك لم يوجد ولم يحتم وهو بعد في عالم الإمكان مشروط متوقف ولذا قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا}5 وقال عز وجل           {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ

_________________

1 الزخرف 85                2 الأنبياء 19           3 الأنعام 59

4 البحار 40/153            5 النازعات 42 - 44

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تَكُونُ قَرِيبًا}1وقد قلنا أنهم عليهم السلام يعلمون ما هو موجود في الأكوان وما سيكون من محتومات الإمكان ، وكذلك القول في باقي الأربعة فإن نزول الغيث ما يمكن إلا بهم عليهم السلام كما في الزيارة (( وبكم ينزل             الغيث ))2 والمبادئ كلها عندهم والمفاتيح بيدهم عليهم السلام فيعلمون أوان نزوله قبل نزوله حين نزوله بتعليم الله عز وجل فافهم .

 

         وأما علم ما في الأرحام ففي الزيارة عن الحجة عجل الله فرجه (( أنا سائلكم وآملكم فيما إليكم التفويض وعليكم التعويض )) إلى أن قال (( وعندكم ما تزداد الأرحام وما تغيض ))3 كيف وإن الولد لا يتكون في بطن الأم إلا بعد إقراره بولاية علي عليه السلام والأئمة أو إنكاره إياهم ليخلق سعيدا أوشقيا لأن الشقي من شقي في بطن أمه والسعـيد من سعد في بطن أمه .

 

        وأما علم المنايا فقد تواترت أخبارهم وشهدت آثارهم عليهم السلام بأن عندهم علم البلايا والمنايا والوقائع لكنهم عليهم السلام في كل هذه العلوم مسبوقون متعلّمون من أمر الله وصنعه {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}4 وكل علومهم في كل أحوالهم متجددة كما قال مولانا علي عليه السلام (( لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو

________________

1 الأحزاب 63            2 الزيارة الجامعة الكبيرة      

3 البحار 99/195       4 البقرة 255

 

 

 

 

 

 

 

كائن إلى يوم القيامة ))1وهذا دليل على أنهم يعلمون الأشياء كلها في مراتبها ومقاماتها لكنهم ليسوا بمستقلين حتى يثبت عليهم بل لله عز وجل المشيئة فيهم وفي الأشياء فلا يحتّم عليهم بشيء كما قال تعالى {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}2 لأن ذلك صفة العبودية فإن قلت إذا كان عندهم عليهم السلام علم ما كان وما يكون وكل الأشياء كانت حاضرة عندهم موجودة لديهم فما معنى ما ورد أن علي بن الحسين عليه السلام أمر ابنه الباقر عليه السلام أن يأتي له بماء يتوضأ وكان ذلك عند موته عليه السلام فأتى الباقر عليه السلام بالماء فقال أبوه عليه السلام أهرقه وأت بغيره فإن الفارة قد ماتت فيه ولا يصلح للوضوء هذا معنى الحديث ولا شك أن موت الفارة كان أمرا وجوديا ، قلت إن لهم عليهم السلام حالات ومقامات     ودرجات ، ففي الحالة البشرية حالة يشغلهم شأن عن شأن فإذا التفتوا وتوجهوا إلى جهة فلا يلتفتون إلى الجهة الأخرى كما أن الإنسان إذا التفت إلى مسألة تغيب عنه المسألة الأخرى حين التفاته إليها وليس هذا بجهل وإنما هو عدم الالتفات والنظر فإذا التفتوا علموا ووجدوا ، وإنما الجهل إنما يتحقق فيما إذا التفتوا لم يجدوا وهو معنى قولهم عليهم السلام (( إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم ))3 كما تقدم ومن هذا المعنى قد يعبرون بغيبة روح القدس عنهم ، فإن قلت فما معنى حديث الطست والإبريق الذين أتى بهما جبرائيل عليه السلام من الجنة لعلي عليه السلام ليتوضّأ حين شك في وضوئه ورجع عليه السلام ليتوضأ سريعا ويرجع إلى المسجد ليدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة والحديث مشهور معروف ، قلت إنّ هذا الحديث ليس على ظاهره إجماعا من الشيعة لأن  الشك لا يصح أن يعتري المعصوم عليه السلام فيجب تأويله فنقول أنهم عليهم السلام قد ينسبون إليهم نقائص شيعتهم كما نسبوا إليهم ذنوب شيعتهم واستغفروا منها فـغفرها الله كما في قـوله تعالى

_______________

1 البحار 4/97              2 الإسراء 86

3 الكافي 1/258 ح 1

 

 {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }1 وهم عليهم السلام ينسبون أعمال شيعتهم إليهم لأنهم منهم  كما قال الحجة عجل الله فرجه (( اللهم إن شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا اللهم اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبنا ))2 ، فكذلك الشك إنما وقع عن بعض شيعته عليه السلام ولم يتدارك فتدارك عليه السلام عنه إظهارا لتلك الفضيلة العظيمة التي خرقت الأسماع وملأت الأصقاع من إتيان الطست والإبريق والماء من الجنة لوضوئهعليه السلامفي عالم البشرية وحالة الإمامة فافهم .

 

         فإن قلت لوكانوا يعلمون كل شيء لعلموا السم حين أكلوه وعلم الحسين عليه السلام أنه يقتل يقينا وتسبى عياله وذلك يستلزم إلقائهم أنفسهم بـأيديهم إلى التهلكة وفي ذلك مخالفه الله عز وجل حيث يقول {وَلاَ تُلْـقُواْ

_______________

1 الفتح 2                   2 البحار 53/302

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}1 إذ يمكن لمولانا الحسين عليه السلام أن لا يخرج ويبايع خوفا كما بايع وصالح أبوه وأخوه عليهم السلام ، وكذا الحسن عليه السلام يمكنه أن لا يشرب من الماء المسموم وكذا علي عليه السلام يمكن أن يمنع ابن ملجم من ضربه وكذا غيرهم عليهم السلامولا شك أن مخالفتهم لله عز وجل باطل لعصمتهم وطهارتهم فلا يبقى إلا القدح في العلم .

 

          قلت جواب هذا من دليل الحكمة واضح بل أهل الحكمة نظرا إلى قواعدهم لا يستشكلون في ذلك بل يوجبونه بالضرورة لكنّا نتكلم على دليل المجادلة بالتي هي أحسن فنقول لا يشك أنهم عليهم السلام كانوا يعلمون جميع ذلك وإن واقعة الحسين عليه السلام قد اطلع عليها كل الأنبياء والأولياء وبكوا عليه وفي الدعاء عن الحجـة عجل الله فرجه في الثـالث من شعبان (( بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولم يطأ لابتيها ))2 وكذلك علي عليه السلام قد أخبر ابن ملجم ذلك الوقت الذي استشهد فيه عليه بما أراد  والذي اختفى تحت عباءته من السيف المسقى بالسم وكذا مولانا الرضا عليه السلام حيث تناول العنب وقبل أن يتناول أخبر خدامه بذلك وهكذا سائر الأئمة عليهم السلام ، ولا ينبغي التشكيك فيه لتوارد الأخبار بل تواترها في ذلك وأما إقدامهم على ذلك فليس من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة وإنما هو طاعة وامتثال لأمر الله عز وجل كما قال الحسين عليه السلام (( شاء الله أن يراني قتيلا وأن يراهن أسارى )) ولله عز وجل في ذلك حكم ومصالح نشير إلى بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى،  وحينئذ فعدم الإقدام كان الإلقاء إلى التهلكة فإن الهلاك في مخالفة الله عز وجل وذلك كالجهاد فإذا أمر الإمام عليه السلام واحدا من رعاياه بأن يقاتل حتى يقتل ولا يـرجع وجب عليـه

________________

1 البقرة 195

2 مصباح المتهجد 826

 

 

الامتثال والطاعة ولا يجوز الاعتذار بالآية الشريفة {وَلاَ تُلْـقُواْ ‏ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}1 وهذا ظاهر .

 

          وبالجملة يجب على المؤمن المخلص أن يعتقد أنهم عليهم السلام يعلمون كل شيء بالإجمال والتفصيل والكلية والجزئية ولا يقول أن الأصل عدم علمهم عليهم السلام لأنه مسبوق بالعدم الأزلي فعدم علمهم قطعي وأما علمهم بالأشياء كلها فمشكوك فيه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، فإن ذلك باطل لأن الأصل علمهم والعدم الأزلي كلام مزخرف فإن العدم إن كان شيئا لا يخلو ، إما أن يكون حادثا أوقديما وإلا فلا يعقل توصيفه بالأزلية فإن الصفة فرع وجود الموصوف وإذ ليس فليس ، وقد دلت الأخبار المتكثرة وشهد صحيح الإعتبار أن الله سبحانه قد خلقهم قبل أن يخلق الخلق بألف دهر وكل دهر مائة ألف سنة أوثمانين ألف سنة أومائة ألف وعشرين ألف سنة ، ولما بطلت الطفرة وعدم اتساق النظام كان جميع الخلق إنما خلقوا بواسطتهم عليهم السلام فهم الشاهدون لأحوالهم حين خلقهم إلى منتهى أمرهم لأن الواسطة لا تخلو إما أن تكون على جهة التـنزل والانجماد كالعقل الذي هو واسطة للنفس في إيصال الإضافات إليها وكالنفس بالنسبة إلى الجسم وهكذا حكم كل لبّ بالنسبة إلى قشره وكل ذائب بالقياس إلى انجماده ، ولا يصح أن تكون وساطتهم عليهم السلام في إيجاد الأشياء على جهة التنزل وإلا لكانت الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم مادة كل الأشياء ومنه يلزم أن تكون الأشياء كلها من سنخ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام ومن سنخ واحد وتكون على اختلافاتها في غاية الشرف وكمال اللطافة لأنها تنزلات أول ما خلق الله وظهوراته في مقام التفصيل ، ومقتضى ذلك أن تكون الأشياء كلها على الصورة الإنسانية لأنها أشرف الكينونات التي يقتضيها المخلوق الأول ويلزم أن يكون الخلق كلهم معصومون حيث كانت المادة الواحدة سارية في الكل وتلك المادة نور باهر يضئ ما جاوره من

________________

1 البقرة 195

الصور والكينونات كما أن الذات وإن تنزلت التنزلات الكثيرة لم تصل إلى رتـبة الصفات ولا الجواهر إلى الأعراض وتلك اللطيفة محفوظة في كل المراتب ، ثم يلزم أن لا تكون الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم سراجا وهاجا وأن لا يكون لذلك النّير الأعظم والشمس المضيئة المشرقة من صبح الأزل نورا وأن لا يكون لجمال الحق جمالا ولجماله جمالا ولجمال جماله       جمالا ولجمال جمال جماله جمالا وأن لا يصدق قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}1 وقد استفاضت الأخبار بل وتواترت معنى عن الأئمة الأطهار عليهم السلام أن مثل نوره يراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذ كان صلى الله عليه وآله وسلم هوالسراج الوهاج فلابد أن يكون له شعاع ونور وإلا لم يكن سراجا ولا ريب أن الشعاع والنور ليس أمرا عدميا وإنما هو أمر وجودي فيكون له تحققا وتأصلا في الوجود ولا شك أن النور والشعاع على هيكل المنير ومثاله وكلما قرب إلى المنير بصفاء القابلية ونورانيتها يكون ظهور المثال هناك أكثر وحكاية القابلية أوضح  وأبين ، ولما امتنع التعدد الوجودي في المخلوق الأول لكمال بساطته للبساطة وفقدان جهات الارتباطات المتكثرة المتضادة وتوجهه إلى المبدأ الحقيقي وعدم الالتفات إلى ما سواه إلا بقدر ما يمسك نفسه من التعين اقتضى أن يكون واحد قد ظهر في أربعة عشر طورا ، فكل ما عداه من أشعة أنواره وأظلة عكوسات آثاره منه بدأت وإليه تعود ولذا قال عليه السلام في الحديث المشهور في خلق النور المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أتم السباحة في الأبحر الاثني عشر (( قطرت منه مائة وأربعة وعشرون ألف قطرة فخلق الله من كل قطرة

_______________

1 النور 35

 

 

روح نبي من الأنبياء ))1عليهم السلام ولوّح بلطيف الإشارة إلى ما ذكرنا فإن القطرة ليست من حقيقة ذاته المقدسة وإنما هي أمر خارج عنها متأصلة بها وعن هذه القطرة قد يعبرون بالشعاع كما قال مولانا الصادق عليه السلام في الكروبيين أنهم (( قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لوقسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ، ثم قال : أن موسى لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا ))2 ، وقد قالوا عليهم السلام (( إنما سموا شيعة لأنهم خلقوا من شعاع نورنا ))3 وقد قال أيضا عليه السلام على ما في الكافي (( إن الله خلقـنـا من طينة مخزونة مكنونـة عنده ولم يكن لأحد في ما خلـقنا منه

______________

1 البحار 25/21                   2 بصائر الدرجات 69

3 البحار 25/23 ح 39

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نصيب ))1، وقـال أمير المؤمنين عليه السلام (( أنا النقطة تحت الباء )) و (( أنا الذات وذات الذوات والذّات في الذّات للذّات )) ، فإذا ثبت أنّ الموجودات كلها من فاضل أنوارهم أو من عكوسات آثارهم أو من أظلة كينونات هيئاتهم كالقيام بالنسبة إلى القائم وكالقائم بالنسبة إلى الذّات كانت كلها بكل أطوارها حاضرة لديهم حاصلة عندهم لا تغيب عنهم في حال من الأحوال وهم ناظرون إليها نظر المقوم إلى المتقوم بل لا شيئية لها إلا بذلك النظر ، فكيف يخفى عليهم حال من حالات المخلوقين الموجودين المربوبين ، أليس الله قد أشهدهم خلق الخلق وأنهى إليهم علمه وجعلهم شهداء عليهم فهم عندهم عليهم السلام كالدرهم بين يدي أحدكم ، فكيف يقال أن الأصل عدم علمهم مع ظهور هذه الأدلة المتقنة المحكمة ، مع أنّا نقول أيضا لولا ما ذكرنا لقلنا أيضا أن الأصل علمهم عليهم السلام بحكم الاستصحاب كما ادّعوا لأنّ الله عز وجل خلق العلم قبل الجهل والعلم مساوق لحقيقة الشيء وذاته بل هوعين ذاته لأنّ الأشرف في الإيجاد متقدم على الأخسّ بالضّرورة ، فالعلم الحقيقي خلق قبل العوارض والغفلات الموجبة للجهل بعد التّنـزل عن العوالم العلوية إلى العوالم السفلية على ما تشهد به الأخبار ودلّ عليه صحيح الاعتبار ، وعلم كل أحد على مقدار سعته وإحاطته في الوجود من الجزئي والكلي ، فالمتنزل إلى المقامات السفلية إن كان معصوما مطهرا تمنع عصمته وطهارة ذيله عن الاشتغال بما سوى الله سبحانه ، والإعراض عن الأعلى وعدم الإقبال إلى الملأ الأعلى فيدخل في عالم الأجسام بالولادة الدنياوية الظاهرية وهو أعلم أهل زمانه لأنه باق على العلم الأصلي حيث فطره الله سبحانه عليه وباق على المعرفة الحقيقية الأصلية ، ولذا ترى عيسى

________________

1 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ولكن وجدنا ما يقرب منها في المعنى ففي الكافي 1/389 عن أبي عبد الله عليه السلام (( إن الله خلقنا من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا )) .

على نبينا وآله وعليه السلام لما تولد تكلم مع أمه بما تكلم وعلمها بما تعيش به وبما تنجو به من قومها وقال للقوم {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ}1 ‏ الآيات ، ولما أنّ مريم عليها السلام أتت به إلى المعلم ليعلمه قال له المعلم قل أبجد قال عليه السلام أتدري ما معناه فعلمه معناه كما هو مذكور في التوحيد وهكذا غيره ، وقد ورد أن المعصوم إذا تولد يقول أشهد أن لا إلــه إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

        وبالجملة هذا أمر معلوم فلا يحتاج المعصومون عليهم السلام إلى الكسب والتعلم والمعالجات للتعليم لأنهم عليهم السلام على الفطرة الأصلية ، وأما غيرهم فيحصل لهم في إدبارهم ونزولهم أنحاء السهو والغفلات فينسون ما كانوا عالمين به في الأول بالعلم اللدني الإلـهي فيحتاجون إلى رفع الحجب والغشاوات لظهور ذلك النور من العلم الأصلي وهو يحصل بأمور .

 

         منها الكسب والتعلم وأمثال ذلك وهم متفاوتون في ذلك ، فمنهم من يظهر له الأمر سريعا في الدنيا بعلاج جزئي لضعف الموانع وقلة العوارض فيه ، ومنهم من يحتاج إلى تعب وعلاج وكسب شديد ليظهر لهم شيء يسير من ذلك العلم في الدنيا , ومنهم من لا يحصل في الدنيا ويصل إليه عند موته وفي البرزخ ، ومنهم من لا يصل إليه إلا في القيامة والجنة ، فإذا كان المعصوم عليه السلام لا يمنعه القوس النزولي عن مشاهدة القوس الأول الصعودي فيكون الأصل علمهم بالأحوال والأوضاع الوجودية الخلقية الثابتة في عالم الأكوان وبما ذكرنا وهو أن ظهور العلم على حسب إحاطة العالم ومقدار كتابته في اللوح المحفوظ على حسب الكليّة والجزئية ، فمن الأشخاص من هو ورقة في شجرة الخلد ومنهم من هو غصن فيها ومنهم من هو نفس الشجرة ، وتـفاوتت علومهم على حسب تفاوتهم في كونهم ورقة وغصنا وشجرة ويظهر علمه على مقدار مادة وجوده اندفع ما عسى أن يـتوهّم تساوي علم

___________________

1 مريم 30 - 31

المعصومين كلهم من الأنبياء والأئمة الطاهرين عليهم السلام على مقتضى ما قلنا من بقائهم على الفطرة وعدم غفلتهم ونسيانهم ما سبق عليهم من العوالم والمقامات ، وهذا الذي ذكرنا كلام ظاهر الحال من جهة المماشاة والمداراة مع أصحاب الجدال وإلا فالأمر أعظم من أن يقال وأن يحيط به المقال ، بل الموجودات الكائنة من الغيبية والشهودية كلها متقومة بتخيلات الإمام عليه السلام وتصوراته إذا سكن عنها انعدم العالم ، فتصورهم عليهم السلام هو علة للكون كما أن تصورك للكتابة والقيام مثلا علة لهما لا يمكن تحققهما بدونه فافهم حقيقة الأمر ولا تنظر إلى خصوص العبارة فإنـها حجاب وغشاوة و إنما هي تنبيه بتلويح وإشارة، فكلما يفعله الإنسان وغيره من ذوي الأرواح بل غيرهم من سائر الأشباح في أعمالهم وأقوالهم وسائر مقتضيات أحوالهم إنما يتحقق في الكون الخارجي بعدما يتنزل من الخزائن العليا أو يتصاعد من الخزائن السفلى بحكم {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}1 وقوام تلك الخزائن المنقسمة إلى تينك الخزانتين بالإمام عليه السلام {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}2 وهذه القيومية بسر الأمر بين الأمرين وأشار إلى هذه الدقيقة اللطيفة بقوله الحق سبحانه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}‏3 فإذاً لا تخفى عليهم خافية وقال عز وجل {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}4 والهاء هو المخفف من الله والبسيط من لفظ الجلالة وإذا أشبعت كانت هو ، لأنّ الضم بالإشباع يـتولد منها الواو ، وهو إذا نزلت في رتـبة الأسماء عن رتبة المسمى كان الاسم المقدس

________________________

1 الحجر 21                   2 الأنعام 59               3 الكهف 18

4 الملك 13 - 14

 

 

 

 

العلي ولذا قال عز وجل إشارة إلى ما ذكرنا من غير الإشباع في قوله {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}1مع الإشباع في قوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}2 فافهم .

 

ولنقبض العنان فللحيطان آذان قال الشـــاعر :

       أخاف عليك من غيري ومنّي       ومنك ومن مكانـك والزمـان

       فلو أنـي جعلتك في عيوني      إلى يوم القيامة ما كـفانــي

 

        فلنكتف بهذا المقدار من الكلام فإن أمر الله لا ينفد وسره لا يتبدد .

_______________

1 الزخرف 4

2 البقرة 255

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام وما كان في الذر الأول

 

         اعلم أن الذر عالم مستقل خلقه الله سبحانه بفيض قدرته وأقام الخلق فيه على مقتضى مشيئته وإرادته وهم حينئذ على هيئة ورق الأس فكلفهم بلسان مشيئته من لسان {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}1 وأخذ عليهم العهد والميثاق بربوبيته وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وولاية علي عليه السلام والأئمة الطاهرين وفاطمة الصديقة المطهرة عليها وعليهم سلام الله أبد الآبدين ، وقد نطق بوجود هذا العالم وهذا التكليف القرآن والأخبار المتظافرة المتكاثرة التي كادت أن تبلغ حد التواتر المعنوي والعقل المستنير بنور الله ، وقد أنكر وجود هذا العالم بعض الأجلاء لـمجرد الاستبعاد من أن الله تعالى كيف يكلف الذر ولا يتصور التكليف في حقه وأنا الآن بعون الله أتلو عليك بعض الأخبار الواردة في هذا الباب ثم أشرح حقيقة الأمر في هذا العالم ومعنى تعدده وكيفية وجوده وظهوره لينكشف المراد ويرتفع الاستبعاد لأهل الاستعداد ومن الله المعونة والإمداد .

 

          في الكافي عن زرارة عن أبي جعفرعليه السلام قال (( لوعلم الناس كيف ابتدأ الخلق ما اختلف اثنان ، إن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق قال كن ماء عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي ، وكن ملحا أجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي ، ثم أمرهما فامتزجا فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن ، ثم أخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا فإذا هم كالذر يدبون فقال لأصحاب اليمين إلى الجنة بسلام وقال لأصحاب الشمال _________________

1 الأنبياء 26 - 27

 

 

 

 

إلى النار ولا أبالي ، ثم أمر نارا فأسعرت فقال لأصحاب الشمال ادخلوها فهابوها وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فقال كوني بردا وسلاما فكانت بردا وسلاما ، فقال أصحاب الشمال يا رب أقلنا فقال قد أقلتكم فادخلوها فذهبوا فهابوا فثم ثبتت الطاعة والمعصية فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ))1 .

 

          وفيه عن زرارة أنّ رجلا سأل أبـا جعفر عـليـه السلام عن قوله عز وجل {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى

_________________

1 الكافي 2/7

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}1 إلى آخر الآية ، فقال عليه السلام وأبوه يسمع عليهما السلام (( حدثني أبي أن الله عز وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم عليه السلام فصب عليها الماء العذب الفرات ثم تركها أربعين صباحا ، ثم صب عليها الماء المالح الأجاج فـتركها أربعين صباحا ، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذر من يمينه وشماله وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم بردا وسلاما وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها ))2 .

 

         وفيه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( إن الله جل وعز لما أراد أن يخلق آدم أرسل الماء على الطين ثم قبض قبضة فعركها ثم فرقها فرقتين بيده ثم ذرأهم فإذا هم يدبون ، ثم رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها ، ثم أمر أهل اليمين أن يدخلوها فدخلوها فأمر الله عز وجل النار فكانت عليهم بردا وسلاما ، فلما رأى ذلك أهل الشمال قالوا ربنا أقلنا فأقالهم ثم قال لهم ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها فأعادهم طينا وخلق منها آدم عليه السلام ، وقال أبو عبد الله عليه السلام فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء قال فيرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول من دخل تلك

__________________

1 الأعراف 172

2 الكافي 2/7

 

 

 

 

 

 

النار فـذلك قوله عز وجـل {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}1 ))2 .

 

         وفيه أيضا عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال (( إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا ، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبّون إلى الجنة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي ، ثم قال {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}3 ثم أخذ الميثاق على النبيين فقال ألست بربكم وأن هذا محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولي وأن هذا علي أمير المؤمنين عليه السلام قالوا بلى فثبتت لهم النبوة ، وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي عليهم السلام وأن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها ، قالوا أقررنا يا رب وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي عليه السلام ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ

_______________

1 الزخرف 81               2 الكافي 2/7

3 الأعراف 172

 

 

 

 

 

 

 

 

وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}1‏ قال إنما هو فترك ، ثم أمر نارا فأحجبت فقال لأصحاب الشمال ادخلوها فهابوها وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما فقال أصحاب الشمال يا رب أقلنا فقال قد أقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها فثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية ))2 .

 

          وفيه أيضا عن حبيب السجساني قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول (( إن الله عز وجل لما أخرج ذريّة آدم عليه السلام من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكل نبي فكان أول من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال الله عز وجل لآدم أنظر ماذا ترى قال فنظر آدم عليه السلام إلى ذريته وهم ذر قد ملئوا السماء قال آدم عليه السلام يا رب ما أكثر ذريّتي ولأمر ما خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ، قال الله عز وجل يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويؤمنون برسلي ويتبعونهم ، قال آدم يا رب فما لي أرى بعض الذر أعظم من بعض وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل وبعضهم ليس له نور فقال الله عز وجل كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم ))3 الحديث.

 

        وفيه أيضا عن عبد الله بن محمد الجعفي وعقبة جميعا عن أبي جعفر عليه السلام قال (( إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض ممن أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة من النار ، ثم بعثهم في الظلال ، فقلت وأي شيء   الظلال ، فقال ألم تر ظلك في الشمس شيئا وليس بشيء ، ثم بعث منهم النبيين فدعاهم إلى الإقرار بالله عز وجل وهو قوله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ

_______________

1 طه 115              2 الكافي 2/8               3 الكافي 2/9

 

 

 

 

خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}1 ثم دعاهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض ثم دعاهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب وأنكرها من أبغض وهو قوله تعالى {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}2 ثم قال أبوجعفر عليه السلام كان التكذيب ثم ))3 .

 

          وفيه أيضا عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله عليه السلام (( أن بعض قريش قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم ، فقال إني كنت أول من آمن بربي وأجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فكنت أنا أول نبي قال بلى فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل ))4 .

 

         وفيه أيضا عن عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام      (( جعلت فداك إني لأرى بعض أصحابنا )) إلى أن قال (( فقال عليه السلام لا تغتم لما رأيت من نزق أصحابك ولما رأيت من حسن سيماء من خالفك إنّ الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق آدم خلق تلك الطينتين ثم فرقهما فرقتين فقال لأصحاب اليمين كونوا خلقا بإذني فكانوا خلقا بمنزلة الذر يسعى وقال لأهل الشمال كونوا خلقا بإذني فكانوا خلقا بمنزلة الذر يدرج ثم رفع لهم نارا فقال ادخلوها بإذني فكان أول من دخلها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم

______________

1 الزخرف 87                 2 يونس 74           3 الكافي 2/10

4 الكافي 2/11

 

 

 

 

 

 

 

اتبعه أولي العزم من الرسل وأوصيائهم وأتباعهم ))1 الحديث .

 

          وفيه أيضا عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام (( كيف أجابوا وهم ذر قال عليه السلام : جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه يعني في الميثاق )) .

 

         وفي ثـواب الأعمال بالإسنـاد عن سهل بن سعد الأنصاري قال (( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله عز وجل {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا}3 قال : كتب الله عز وجل كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس أنبته ، ثم وضعها على العرش ثم نادى يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغـفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا أنا ومحمد عبدي ورسولي

_______________

1 الكافي 2/11              2 الكافي 2/12

3 القصص 46

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أدخلته الجنة برحمتي ))1 .

 

         والأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام كثيرة لا تحصى وهذا الذي ذكرنا جملة مما حضرني حال الكتابة ولا معارض لها بوجه من      الوجوه ، فطرح هذه الأخبار الكثيرة التي لا معارض لها أقوى ولا مساوي لمحض الاستبعاد خارج عن طريق الإنصاف ، ولا كل حديث يدرك معناه ومضمونه فإنّ علم آل محمد عليهم السلام صعب مستصعب لا يحتمله أحد إلاّ الملك المقرب والنبي المرسل والمؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان .

 

          والأصل في المسألة هو أنّ الذّرّ في اصطلاح أهل البيت عليهم السلام على ما أفهم يطلق على الأمر الشائع المشاع في نوعه أو جنسه الغير المتميز بحد من الحدود الصالح لذلك ، وقد يعبرون عنه بجوهر الهباء , ودليل ذلك الذر وآيته الذرات المبثوثة في الجوفإنّ كل جزء منه يصلح للتعين والتميز بالعوارض والحدود والكيفيات مع عدم التمايز المعروف ، ولما أنّ الله عز وجل أراد أن يخلق الخلق قبض قبضة بيمينه من الأرض الطيبة المسقاة بالماء العذب الفرات وقبض قبضة أخرى بشماله من الأرض الخبيثة المسقاة بالماء المالح الأجاج ثم خلط بينهما ومزجهما وعركهما عركا شديدا فصنع منهما هيولي الخلائق وموادها وحقائقها ، فمزج فيهم الميولات والشهوات المتضادّة والشعور وأنحناء الادراكات وأقسام الاختيار ، فتلك الحقائق حصص غير متمايزة فلا يعرف الشقي منهم من السعيد والطيب منهم من الخبيث وصحيح الخلقة من ناقصها والزوجة من زوجها ، وكذلك أنواع البهائم قبل التكليف كانت حصصا غير متمايزة فلا تميز بين الفرس والبقر والغنم والكلب والحية والحوت وغيرها من الحيوانات من الدواب والحشرات والطيور ، وكذلك أنواع النباتات من الأشجار المثمرة وغيرها وذوات الأثمار الطيبة الحلوة والمرّة وسائر البقولات كلها طينـة واحدة غير متمايزة بالشخص والخصوصيات ،

_________________

1 ثواب الأعمال 10

وكذلك الأحجار والمعادن من أنواع الجمادات فلا تمايز بين الياقوت والزمرّد والمرجان والألماس والفيروزج والبلّور وسائر المعادن المتطرفة وغيرها كمعدن النفط والزرنيخ والملح والجص و أمثالها كانت طينة واحدة غير ممتازة ، وإلى هذا الإشارة بقوله عز وجل {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}1 فيطلق الذّرّ بهذا المعنى على كل الموجودات بكل الذرات قبل وقوع التكليف عليها ، فإذا وقع التكليف عليها فاختلفت على حسب القبول على مقتضى أطوار القبول والانكار على مقتضى أطواره فامتاز كل ذر عن الآخر على مقتضى حدوده بقابلية عمله من القبول والإنكار ، فاختلفت الصور الإنسانية على مقتضى اختلافهم في قبول التكليف قوة وضعفا وظاهرا وباطنا وكذلك الذكورية والإناثية ولو أردنا شرح حقيقة الأحوال لطال المقال وليس لي الآن ذلك الإقبال .

 

           فالخلق قبل التكليف كانوا مواداّ غير ممتازة ذرات غير مصورة كل ذرة تصلح للتصور بالصورة التي تصور بها غيرها ، وهذا هو المراد في هذه الأخبار المتقدمة وليس المراد أنّ الخلق كانوا ذرّا على هيئة الذر من النّمل وغيرها كما توهّموه واستغربوه ، مع أنّـا لوقلنا ذلك لا استغراب فيه لأنّـا نقول بتكليف الذرات كالنملة وأشباهها و إرسال الرسل و إنزال الكتب عليها ولكن هذه الهيئة المخصوصة وهذه الصورة المشخصة لا تقتضي الحكمة أن يخلق الخلق عليها في العالم الأول وإلا فهوقادر على ما يشاء يخلق ما يشاء بما يشاء كيف يشاء .

 

         أونقول أنهم عليهم السلام عبّروا عن الخلق في تلك العوالم بالذر كناية عن بعد كل عالم بالنسبة إلى الآخر فإنك إذا نظرت إلى شيء من بعيد تراه صغيرا كالذر بل هو أدنى، وكذلك كل مقام بالنسبة إلى المقام الآخر الذي أقام المكلفين فيه وكلفهم وأخذ عليهم الميثاق بالتوحيد والنبوّة والولاية

_______________

1 البقرة 213

 

من البعد فإنّ المسافة بين العالمين ألف دهر وهو مائة ألف عام فيكون أهل كل عالم بالإضافة إلى العالم الآخر كالذر ، فعلى ما ذكرنا اتجه الكلام وصحّ المقام وبقيت الأحاديث بصرافة صحتها بل بظاهر حقيقتها فلا عقل يأبى ما ذكرنا بل العقول الصحيحة تؤيّده وتقوّيه ولا النقل يعارض ما سطرناه ويبطل ما حررناه فلم يبق إلا القبول .

       فإن كنت ذا فهم تشاهد ما قلنا      وإن لم يكن فهم فتأخذه عنا

       فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمـد     عليه وكن في الحال كما كنا

 

         وأما سرّ تعدد عالم الذر بالأولية والثانوية فاعلم أنّ الله عز وجل لما خلق الخلق أقامهم في عوالم كثيرة ومقامات عديدة بل مراتبهم لا تحصى ، ثم أنزلهم من عالم إلى عالم ومن طور إلى طور ولا يزال ينقلهم من طور إلى طور ومن عالم إلى عالم إلى أن تصفو المراتب وتخلو الضمائر إما إلى الإقبال أو إلى الإدبار ، ثم ينقل المدبرين من عالم إلى أسفل ومن طور إلى أنزل وينقل المقبلين ويصعدهم من عالم إلى أعلى ومن طور إلى أشرف ولا نهاية لهذا النقل والأطوار لأنّ فيضه سبحانه لا ينقطع وظل أمره لا يتبدد ولا ينفصم وإليه الإشارة في قوله عز وجل {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}1 ، فالشيء في أطواره وأوطاره يسير إلى الله عز وجل بلا نهاية وكل طور له مقتضيات وأحكام و آثار فلا تترتب تلك الأحكام والآثار على الشيء إلا بالتكليف لأنّ الله عز وجل أكرم من أن يجبر العباد أويظلم في البلاد بل هوسبحانه باسط الفضل وناشر العدل والفيض كل من قبله وطلبه

_____________

1 الحجر 21

 

 

 

 

 

أخذه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}1 ، فإذا بطل الجبر لم يبق إلا الاختيار فلم يبق إلا أن يعطي الأشياء على حسب ما يريدون من الفيض وهذا لا يكون إلا بالتكليف ، فلولا التكليف لم يتحقق الاختيار ولولا الاختيار لم يحسن الإيجاد لأنّ الله عز وجل أكرم وأشرف من أن يجبر الخلق إلى ما لا يريدون ويعطيهم ما لا يتحملون ويشدد عليهم ما لا يطيقونه أوجعل الاختلاف بينهم وهم لا يشعرون فيكون قد أجرى فعله وخلقه على غير وجه الكمال بل مقتضى النقصان فإنّ الاختلاف مذموم والوحدة هي المحمودة ، ثم على فرض الاختلاف جعل الأشياء المختلفة و اختصاص بعضها بما اختص به دون غيره مع تساوي المجموع في الصلوحية والقابلية لا شك أنه ترجيح من غير مرجح فتنقض بذلك الحكمة ويكون الخلق عبثا وهباء سبحان الله سبحان الله سبحان ربك رب العزة عما يصفون، فصح أنه لولا التكليف لم يحسن الإيجاد فبالتكليف قام الوجود وحصل الشهود وظهر سر المعبود ، ولما كان الخلق له أطوار وأكوار وأدوار وله في كل كور ودور حركات ذاتية جوهرية وطبيعية ووضعية إلى مبدئه والى نفسه وإلى غيره كان له تكليف بحسب ذلك الكور والدور بنسبة مقامه ، والتكليف قسمان تكويني وتشريعي والقسمان مسبوقان بالمادة والصورة النوعيتين المعبر عن كل حصة منهما بالذر فتعدد الذرات إلى ما لا نهاية له، والتكليف واقع عليهم في كل ذر من الذرات وهو واحد من واحد يجري في كل عالم وكل ذر بحسبه فلا نهاية للذرات بحسب العرض وتنقل الأطوار لا من جهة البدو ولا العود ولا الخطاب التكليفي الذي هوقول ألست بربكم خطاب واحد غير منقطع يظهر في كل عالم وكل طور على لسان أهله وكذا الرسول الحامل للخطاب، إنما قلنا أنّ العوالم لا تتناهى لأن ________________

1 فصلت 46

 

 

 

 

فيض الله عز وجل لا يتناهى والله سبحانه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، فلوكان لأول الخلق نهاية زمانية للزم التحديد المستلزم للشرك وحيث ما ظهر الفيض فإنما هوعلى جهة التكليف والاختيار فتعددت الذرات إلى ما لا نهاية له ، لكن بعض الأخبار تشير إلى حصر كلّيّاتها ففي بعضها أنّ تلك العوالم ألف ألف كما في رواية جابر عن الباقر عليه السلام (( لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنتم في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين ))1ولا شك أن كل آدم في كل عالم مكلف ومأخوذ عليهم العهد والميثاق لقوله عز وجل {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}2 ويراد بآدم كل من الآدميين الألف ألف وقال عز وجـل {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ ي

______________________

1 الخصال 652

2 الأعراف 172

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ُيحْشَرُونَ}1 وقال أيضا {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ}2 فأثبت سبحانه أنّ كل أمة مكلف وكل مكلف قبل التكليف هباء وذر .

 

         وفي بعضها أنها ألف كما في قوله عليه السلام (( إن لله عز وجل ألف قنديل معلق بالعرش سماواتكم وأرضيكم في قنديل واحد )) ، وفي بعضها أقل إلى ستة عوالم وهي الأكوان الستة التي أشار إليها الصادق عليه السلام في حديث المفضل الكون الجوهري والكون الهوائي والكون المائي والكون الناري والكون الترابي وكون الأظلة والذر، وترجع الكلّيات كلها إلى ثلاثة عوالم وثلاثة ذرّات .

 

           الأول ذرّ العقول وهوعالم المعاني المجردة عن الصور الشخصية والمدة الملكوتية والزمانية وصورتهم القيام وهم أنوار بيض ، فخاطبهم الله سبحانه بالخطاب التكليفي فآمن من آمن وكفر من كفر ، لكن الإيمان والكفر في العالم الأول معنويّان لا تمايز بينهما إلا بالمعنى وأما في الظاهر فلا تمايز بينهم وكانوا أمة واحدة لا يعرف أحد بإيمان الآخر وكفره .

 

         والثاني عالم النفوس وهذا هو الذر الثاني وهو عالم الصور المجردة عن المادة البرزخية والعنصرية والمدة الفلكية الزمانية أقام الله سبحانه المكلفين في هذا العالم بعد أن كانوا على هيئة ورق الآس وجههم الأعلى إلى عالم التجرد والائتلاف ووجههم الأسفل إلى مقام الكثرة والاختلاف فكلفهم بلسانه وترجم عليهم لغته وخاطبهم على مقتضى مداركهم فآمن من آمن ظاهرا مشهورا وكفر من كفر كذلك ، فهناك عرف الخلق بعضهم مقام الآخر وامتازت صورهم وتباينت هياكلهم وظهرت آثار الهيكلين هيكل الإيمان وهيكل الكفر والنفاق ، وانقسم الموجودات إلى مقر مؤمن عارف مصدق بلسانه وقلبه وإلى مؤمن بلسانه كافر في قلبه وإلى كافر في لسانه وقلبه وإلى

__________________

1 الأنعام 38

2 فاطر 24

كافر بلسانه دون قلبه مثل كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم بن باعورا وأمثالهما , وإلى متحير متوقف المؤمن بلسانه من غير بصيرة ولا معرفة والمنكر بلسانه من غير معرفة المرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب  عليهم ، وفي هذا العالم ظهرت شقاوة الأشقياء وسعادة السعداء و امتاز أهل اليمين من أهل الشمال ودخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، ومقام ظهور الطينتين طينة عليين وطينة سجين ، وقد يطلق على هذا العالم الذر الأول لكونه أول مقام الظهور بعد الخفاء ومقام ظهور الباء كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) لأنه تمام الصوغ الأول في الخلق الأول أي عالم الغيب .

 

         والثالث عالم الأجسام من العرش إلى الثرى وهو الذر الثالث وفي هذا العالم كانت الموجودات قبل أوان بلوغها ذرّات صالحة غير متمايزة بالسعادة والشقاوة والإيمان والكفر الجسمانيين ، فإذا وصلت حد البلوغ بلغت مقام التكليف فقام النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم عند الحجر الأسود في الركن العراقي ولقّنهم شهادة أن لا إلـه إلا الله و أنّ محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الحكاية عن قوله عز وجل ألست بربكم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيكم فلما استكملت هذه الشهادة وظهرت وانتشرت وثبتت ، وأقـامهم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الـزوال بحكم {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}1 في غدير خم وسألهم ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى فقال صلى الله عليه وآله وسلم ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والي من والاه وعاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله ) فكمل هنالك الدين ونزل قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}‏ 2 .

_________________

1 الأعراف 29

2 المائدة 3

 وبين هذه العوالم برازخ ولكل عالم مراتب كثيرة يمكن إحصاء كليّاتها لكنّا أعرضنا عنه لطول المقال وبلبال البال وعدم استقامة الأحوال، هذا مجمل مراتب السلسلة العرضية .

 

          وأما السلسلة الطولية فالذر الأول في الخلق الأول عالم الأمر عالم الوجود المطلق بمراتب ظهوره وبطونه وظهور ظهوره وبطون بطونه وهكذا إلى مقام السر المجلل بالسر ، إذ في كل مقام من هذه المقامات وقعت التكليفات إلا أنّ المراتب الخمسة التي تحصل في التكليف من المكلِّف والمكلَّف والتكليف والسبيل والدليل كلها شيء واحد بالوحدة الحقيقية التي لا تبلغ بساطتها الوحدات التي في الوجود المقيد وعالم الذر قبل عالم التكليف إلا أنه مساوق له موجود معه .

 

         والذر الثاني في الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم أول من أجاب داعي الحق حين قال ألست بربكم وفي تلك الحقيقة سبع مراتب وقع التكليف عليها بالافتراق بعد حكم الاجتماع فتحققت هناك سبع ذرّات ، الأول الحقيقة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم حين ما يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، الذر الثاني الحقيقة العلوية عليه السلام حين وصول النور النبوي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جلال العظمة فهناك وقع التكليف على عليّ عليه السلام فقام ملبيا لداعي الحق وحاملا للّواء المطلق ، الذر الثالث الحقيقة الحسنية عليه السلام حين ظهور الجمال فخرّ عليه السلام ساجدا ملبّيا للسؤال حين قيل له كفّ عن القتال وذلك بعد أربعين ألف سنة من ظهور النور العلوي عليه السلام ، الذر الرابع الحضرة الحسينية عليه السلام حين تشعشعت أنوار الجلال والكبرياء فقام عليه السلام ملبيا للنداء حين قال له إنيأنا الله فأظهر الجلال تحت حجاب الخضوع وأظهر الكبرياء بالذل والخشوع وأظهر التوحيد تحت حجاب الياقوت رتبة الركوع المؤدي إلى السجود ، الذر الخامس الحقيقة المهدية عليه السلام القائم المنتظر عجل الله فرجه حين إشراق  أنـوار القهر والغلبة والاستيـلاء فسمع داعي الحق ولباه

فتحمل قوله عز وجل {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}1 ، الذرّ السادس بقية الأئمة عليهم السلام ، والذرّ السابع الحقيقة الفاطمية الصديقة الطاهرة عليها السلام حين سطوع نور العظمة والبهاء فلبت داعي الحق وصارت له الوعاء فنزل قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}2 ، وهذه سبع مراتب كل مرتبة عالم مستقل جرى عليه التكليف والحكم والأمر وإليها الإشارة في قوله عز وجل   {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}3 والمخاطب عليه السلام من السبعة وكل تكليف مسبوق بعالم الذر كما ذكرنا .

 

          الذر الثالث في السلسلة الطولية مقامات الكرّوبيين ورتبة الأنبياء والمرسلين حين أتمّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم السباحة في الأبحر الاثنى عشر وخرج فقطرت منه صلى الله عليه وآله وسلم قطرة قبل أن ينقسم إلى مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة أوبعد ذلك وقبل أن تتميز هذه القطرات بعضها عن الآخر فإن الانقسام والتمايز إنما هوبالتكليف فتلك الذرات كانت تسبح الله وتقدسه سبحانه ألف دهر إلى أن أتاهم النداء من الرب الأعلى إني أنا الله ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولي وعلي عليه السلام والأئمة من ولده عليهم السلام وفاطمة عليها السلام أوليائي وأحبائي

_____________

1 الصف 9               2 الدخان 3 – 4

3 الحجر 87

 

 

 

 

 

 

 

وهو قوله عز وجل { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا }1 وذلك لما جمعهم في المسجد الأقصى يوم الذي خلقوا لأن العود هو عين البدء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المعراج مرّ على الأشياء كلها يوم خلقها الله عز وجل ولذا أمره الله عز وجل فقال يا محمد ادن من صاد وتوضأ لصلاة الظهر فجمع الأنبياء عليهم السلام وسألهم بماذا بعثتم قالوا بشهادة أن لا إلـه إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ عليا ولي الله رواه محمد بن جرير الطبري وأخطب خوارزم من المخالفين .

 

         الذرّ الرابع الرتبة الإنسانية مقامات الرعية حين وقع الماء الذي به حياة كل شيء على الأرض الميتة وقبل أن تخرج الأرض ثمرها وتنبت عشبها وشجرها ، لأنّ الإنبات تكليف والثمرة تلبية وقبول فمن وصل إليه التكليف وقبل أثمر الثمرة على مقدار قبولها وإنكارها ، فتختلف بالطيب والنتن والحلاوة والمرارة وتختلف مراتب الحلاوة في الشدة والضعف كاختلاف مراتب المرارة ، وهكذا القول في الذر الخامس الذي هو في رتبة الملائكة قبل وقوع التكليف عليهم فإنهم يسبحون الله ويقدسونه بولاية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه )) ، وفي الذر السادس الذي هو في رتبة الجانّ حين ظهور نار الشجر الأخضر ، وفي الذر السابع الذي هو في رتبة البهائم والحشرات من الحيوانات حين وقوع الشعلات الغيبية من غيب الأفلاك والكواكب على غيب الأرض ، والتمايز إنما هو بالتكليف كما مرّ ، وفي الذر الثامن الذي هو في رتبة النباتات حين وقوع أشعة الكواكب والأفلاك على الأرض ، وفي الذر التاسع الذي هو في رتبة الجماد حين اجتماع العناصر ومزج بعضها مع بعض وتحقق الحلين والعقدين بمراتبهما، إلى هنا انتهت الذّرات في السلسلة الطولية وفي كل مرتبة منها مراتب لا تحصى ولا تعد لأنها لا نهاية لها بدوا وعودا .

__________________

1 الزخرف 45

           فقوله عليه السلام (( في الذر الأول )) في الطول يريد به عالم الوجود المطلق وعالم الحقيقة فإنّ هذا العلم هو الذي يختص به عليه السلام دون ما عداه ، أما المشيئة فلأنه عليه السلام محلها ومجمع شئونات ظهوراتها وأطوارها ونسبته عليه السلام إليها كالانكسار إلى الكسر وكالحديدة المحماة بالنار إليها كما قالوا عليهم السلام (( نحن محال مشيئة الله )) وقال الصادق عليه السلام في زيـارة سيـد الشهداء عليه السلام (( إرادة الرب في مقاديـر أموره تهبط إليكم ويصدر من بيوتكم الصادر لما فصل من أحكام العباد ))1، وليس لأحد من العلم بالمشيئة إلى ظهور وجه واحد منها له كالقائم بالقيام الحامل والقعود الحامل لظهور القاعد ، وأما هو عليه السلام فإنه مظهر حامل لكل الظهورات وهو محل كليّ جامع للظهور بكل المقامات كالفعل بالنسبة إلى الفاعل لأنّ كل الخصوصيات وجوه الفعل وكلّ الأسماء وجوه الفاعل ولذا قال عز وجل (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن )) 2، والعبد المؤمن في الحقيقة ليس سواه ولذا ورد في الخطابات القرآنية ليس في كل موضع فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وأن عليّا عليه السلام هو المخاطب به حقيقة ، فقلبه الشريف وسع كل الشئونات الألـوهية والربوبية والرحـمانية وغيرها فهو المظهر الكلي الجامع المملك بيده نواصي الأشياء وعنده أزمّة الخلائق، لأنه سبحانه اختاره وليّا من العز فلا يحيط بأحوال الوجود المطلق وذراته سواه عليه السلام ومن في صقعه عليه السلام .

 

          وأما الحقيقة فهو عليه السلام منها وهي منه لا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل والظهور والخفاء ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت و لا عرفني إلا الله وأنت و لا عرفك إلا الله وأنا ))3 .

________________

1 الكافي 4/577              2 البحار 58/39 ح 61

3 تأويل الآيات 145

          وأما في العرض فيريد عليه السلام بالذر الأول عالم العقل الأول الكلي حين وقوع المداد الأول والنفس الرحماني الثانوي في الدّواة الأولى وأرض الجرز والبلد الميت ، فظهر بوقوع الماء الأول الذي به حياة كل شيء على أرض الحيوان أو أرض الوجود الرّاجح القابلية الأولى الشجرة شجرة الخلد وهي شجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى , والعقل الكلي الذي هو روح القدس الذي هو القلم هو أول غصن أخذ من شجرة الخلد وأوّل من ذاق الباكورة في جنان الصاقورة والقلم الذي يؤدي إلى اللوح وأول الملائكة العالين ، وذرّات الخلائق كلها تحت هذا الذر الكلي حاضرة لديه حضور الأشعة للسراج والآثار للمؤثرات ، فإذا أحاط عليه السلام علما بالذر الأول في العالمين فقد أحاط علما بجميع الذرات الثانوية والثالثية وهكذا بالطريق الأولى لأنّ العالي محيط بالسافل من غير عكس .

 

        وقوله عليه السلام (( وما كان في الذر الأول )) يريد عليه السلام بما كان فيه من أخذ الميثاق والعهد على الولاية فإنّ الإقرار بالربوبية والنبوة من فروع الإقرار بالولاية لأنها الجامعة لهما والولاية ما ظهرت إلا في علي عليه السلام وإن كانت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولذا ورد في الحديث المتقدم في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( إنّ أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر وكان يطوف حول جلال القدرة ثمانين سنة فلما وصل إلى جلال العظمة خلق الله نور علي عليه السلام فكان نوري يطوف حول جلال العظمة ونور علي عليه السلام يطوف حول جلال القدرة )) ، والقدرة هي الولاية المطلقة والسلطنة العظمى والرئاسة الكبرى وهي القدرة إذ لا مقدور في الرتبة الثانية لأنّ هذه القدرة في ثلاث مواضع ، الأول في الذات البحت تبارك وتعالى إذ هناك قدرة فلا مقدور وسمع ولا مسموع وعلم ولا معلوم وأمثال ذلك , ومعنى ذلك نفي الصفات كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (( كمال التوحيد نفي الصفات ))1وتلك القدرة قد انسد باب العلم

______________

1 التوحيد 56

والفهم عنها فلا تحوم حول معرفتها الأفكار ولا تنال ما فيها بكمال دقتها الأنظار تعالى عما يقول الواصفون علوا كبيرا ، والثاني في القدرة الظاهرة في الحقيقة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم فإنها مثال وصفة ودليل و آية للقدرة إذ لا مقدور فالذي عرفنا من هذه رشح من رشحات آثار بحر فيضه صلى الله عليه وآله وسلم فهذا الدليل لا يخالف المدلول وهو عين ذاته صلى الله عليه وآله وسلم ففي هذا المقام لا يصح الطواف ولا يظهر الجلال ولا تتحقق الأشواط ، والثالث القدرة الظاهرة فيه لا من حيث كونه صلى الله عليه وآله وسلم مثالا و آية بل من حيث أنه أقامه الله عز وجل مقامه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار فهناك قد صحّ الطواف وظهر الجلال ، فالقدرة هي الفعل الظاهر بالولاية المطلقة التي قد محيت عنده الآثار واضمحلت لديه الأطوار فهو هناك قدرة إذ لا مقدور كونا وعينا وإن كان مقدور ذكرا من باب صلوح التعلق وتحقيق المقدور ، فطواف الحقيقة على هذه القدرة كطواف الحديده بالنار لما ظهرت النار فيها وطواف الانكسار بالكسر واستدارته عليه فهذا مقام الواحدية ومقام الألف القائم بقي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام مستكملا لرتبتي الوجود من الغيب والشهود بحسب نوع عالمه لتمام ظهور اليمين في محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تمام ثمانين ألف سنة على جهة البساطة والإجمال لا التفصيل ، فلما وصل إلى مقام العظمة أي مقام ظهور الأسماء المتقابلة المتضادة ومقام الكثرة المستلزمة للعظمة المستدعية للنبوة والرسالة خلق الله عز وجل فيه نور علي عليه السلام فانبعث نوره منه عليه السلام انبعاث الضوء من الضوء ، فلما وجد عليه السلام حامل اللواء فبقي يطوف حول جلال القدرة التي كانت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فتحققت له البرزخية الكبرى وظهر بالرئاسة العظمى والسلطنة العليا فأوجب الله سبحانه على كل الذرات مما أحاطته المشيئة الإقرار بولايته والاعتراف بفرض الطاعة له لأن ولاية الله التي انقاد وخضع كل شيء لها إنما ظهرت فيه عليه السلام فلا تجد مرتبة في الوجود من المطلق والمقيد إلا وترى عليا عليه السلام ظاهرا فيها، فأنّى يعدل عنه واللفظ يطابق المعنى وغيب الهوية وسر الألوهية ما ظهر إلا فيه عليه السلام لفظا ومعنى كما ذكرنا مرارا ، ولذا قال مولانا الرضا عليه السلام (( لكن اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف , فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم لأنه أعلى الأشياء كلها فمعناه الله واسمه العلي العظيم هو أول أسمائه لأنه علي علا كل شيء ))1ومعنى هو وهـ هو العلي قال تعالى {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}2 وقال أيضا عز وجل {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}3 وقد فسرت الليلة في روايات أهل البيت بفاطمة عليها السلام وهـ هو الذي أنزله الله فيها وهوعلي عليه السلام لأن الهاء إذا أشبعت تتولد منها الواو كما هو القاعدة في الإشباع في تولد الحرف المناسب للحركة المشبعة فإذا أنزلت الهاء في الرتبة الثانية أي مقام الأسماء يكون خمسين والواو إذا نزلت يكون ستين والمجموع مائة وعشرة وهو الاسم العلي فالعين تمام كلمة كن التي هي عالم الأمر واللام تمام الميقات وتمام عدد القابليات وتمام دورة القمر والياء هي العشرة الكاملة المتممة للميقات كما قـال عز وجل       {* وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّـهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}4 فاللام والياء رتبة الخلق لأنه لا يتم في كل أطواره إلا بالقابل المعبر عنه باللام لسر يطول بذكره الكلام والمقبول المعبر عنه بالياء فيستنطق عن المجموع الميم الذي هو أول ما أظهر من كلمة كن ، ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم طائفا حول جلال العظمة في الظهور بعكس الوجود وجعلت الميم في أول اسمه الشريف ولما كان عليا طائفا حول جلال القدرة جعلت العين التي هي استنطاق كلمة كن في أول اسمه الشريف ، ولما كان مقامه عليه السلام مقام التفصيل فصّل رتبة الخلق بالقابل فجعل بإزائه اللام والمقبول فجعل بإزائه الياء ، ولما كان مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقام الإجمال لا التـفصيل ما فصلت المرتبتان في اسمه صلى الله عليه وآلـه وسلم

_________________

1 التوحيد 191            2 الزخرف 4           3 الدخان 3

4 الأعراف 142

 

 

فجعل في أول اسمه المبارك الميم فإذن فافهم قوله تعالى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}1.

 

      ومستخبر عن سر ليلى أجبتـه       بعمياء من ليلى بلا تعيين

      يـقولون خبرنا فأنت أمينـها     وما أنا إن خبرتهم بأمين

 

           ومن هذه الدقيقة اللطيفة يظهر لك السر في ليلة المعراج أن الله سبحانه خاطب نبيه بلسان علي عليه السلام لأن كل مقامات الفرق والتميز مقام علي عليه السلام وهو الباء وهو النقطة تحت الباء ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو النقطة المطلقة الحقيقية ومقامه مقام البساطة والإجمال لا النقطة تحت الباء فافهم .

 

         فمقامات الوجود المطلق وجهه الأسفل هو مقام نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وإن احترفت فالاسم  لذلك المقام والوجه الأعلى منه هو الأسماء الإلـهية التي قد اشتقت أساميهما منها كما قال عز وجل ( أنا المحمود وأنت محمد شققت لك اسما من اسمي وأنا الأعلى ووصيّك علي شققت له اسما من اسمي وأنا فاطر السموات والأرض و ابنتك فاطمة شققت لها اسما من اسمي وأنا المحسن وسبطك الحسن شققت له اسما من اسمي وأنا قديم الإحسان وسبطك الآخر حسين عليه السلام شققت لـه اسما من

____________

1 الأعراف 54

 

 

 

 

 

 

اسمي )1 نقلت معنى الحديث ، وهذه الأسماء هي المقامات العليا من الوجود المطلق وهي المقام المشتق منه ولنا في بحث الاشتقاق كلام شريف قد أشرنا إلى بعض منه في ما تقدم ولا يجوز فصح السر وإذاعة الأمر والله ولي التوفيق .

 

        فعلى هذا ما ظهر مقام من المقامات الخلقية في الظاهرية والباطنية والشهودية والغيبية والعلوية والسفلية والذاتية والوصفية والصّفاتية إلا وكلف الله عز وجل فيه الخلق بولاية علي عليه السلام فالميثاق المأخوذ والعهد المأخوذ إنما كان في الذر الأول في السلسلتية ، وظهور الموجودات من كتم الإمكان إلى رتبة الأعيان إنما كان بذلك العهد واختلاف الظهور إنما هو باختلاف التعهد بالعهد والقبول للميثاق ، والعهد أيضا يختلف في المقامات ففي بعض المقامات العهد بولاية علي عليه السلام هو صرف التوحيد والتنزيه والتفريد وعدم ملاحظة شيء من السّوى ، وفي بعضها الاعتقاد وفي بعضها الأعمال ، وطرق الاعتقاد والأعمال والأقوال في ولاية علي عليه السلام كثيرة مختلفة جدا يؤدي شرحها إلى تطويل ممل أو إيجاز مخل ولا واسطة في المقامين في هذا المقام .

_________________

1 نقل المصنف أعلى الله مقامه هذا الحديث بالمعنى ونحن نذكره بالنص تيمنا ففي تأويل الآيات ص 52 (( يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرياتي , هذا محمد وأنا الحميد المحمود في أفعالي شققت له اسما من اسمي , وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسما من اسمي , وهذه فاطمة وأنا فاطر السموات والأرض أفاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وأفاطم أوليائي عما يعيرهم ويشينهم وشققت لها اسما من أسمائي , وهذا الحسن والحسين وأنا المحسن المجمل شققت اسمهما من اسمي )) .

 

 

 

 

        فلما خلق الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام في حظيرة القدس وضخضاخ الأنس خاطبهم بلسانه الذي هو حقيقتهم الظاهر في علي عليه السلام ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي والأئمة الطاهرون وفاطمة الصدّيقة أئمتكم ، فأول من لبـى هذا النداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم القائم ثم الأئمة الثمانية ثم الصديقة الطاهرة عليهم السلام ، فلولا قبولهم لهذا التكليف وعملهم على مقتضى الولاية لما كانوا شيئا ولما وصلوا إلى ما وصلوا {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}1‏ وهذا التكليف هو الاستقامة المأمور بها في قوله تعالى {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}2 ولذا لا يمر على الصراط الذي هوظهور من ظهورات الولاية بسهولة سواهم عليهم السلام فافهم الإشارة .

 

         وهذا الذي ذكرنا هو بعض ما كان في الذر الأول وليس علم كله إلا عندهم عليهم السلام لأن الذي ظهر لنا من فضائلهم باب أو بابان من العلم وهذا هو الألف الغير المعطوفة .

 

         وقوله عليه السلام (( في الذر الأول )) يحتمل أن يكون هذا هو الأول الذي لا ثاني له ولا آخر له ، أما الأول الذي لا ثاني له فهو الأول الذي لا يكون معه في صقعه غيره وإلا كان ثانيا له ، أما كونه أولا إذ لم يتقدم عليه في تلك الرتبة شيء وإلا لم يكن أولا ، وأما الأول الذي لا آخر له فهوالذي لا ينقطع وجوده ولا يتصرم شهوده فلا ينتهي إلى حد ليكون ذلك آخرا له فالذي ليس له آخر لعدم الانقطاع لا يكون له أول بمعنى ابتداء بعد انقطاع لأن الذي ليس له آخر لا يخلو إما أن يكون مستمرا بنفسه مستقلا بذاته أو استمراره بالغير ، فإن كان الأول بطل انقطاعه في البدء و إذا لابتداء بعد انقطاع لا يكون من نفسه وإنما يجب أن يكون من غيره فإن كان من غيره بطل تقوّمه بنفسه إذ ما من الغير لا يقوم بنفسه أبدا ، فيجب أن يكون المستقل بنفسه لا أول له وإلا لم يكن كذلك وهذا خلف ، وإن كان الثاني

_______________

1 الأنعام 124                 2 هود 112

فهل المقوم متناه في البدو أم لا فإن كان الأول فهومحتاج إلى قيم آخر لما ذكرنا مع أن المنقطع لا يمكن أن يستمر أبدا لأنّ حكم البدو هو حكم العود قال الله سبحانه {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}1 فإذا انقطع أولا يجب أن ينقطع آخرا لأن الموجودات المستمرة إلى الأبد إما في سلسلة النزول وهو مستحيل إلا أن يكون المبدأ الباري عابثا سفيها تعالى عن ذلك علوا كبيرا فيجب أن يكون في سلسلة الصعود ، والنازل في الصعود يصعد إلى مبدئه وإلى أصل حقيقته فإذا كان مبدؤه منقطعا يجب انقطاعه فاستمراره إلى الأبـد دليل أن البدأ الذي هو ذاته وحقيقته لم يكن منقطعا من الأبد وإلا لم تستمر إلى الأبـد ، ثم إن المقوم القيوم إن كان غير متناه في البدو فلا معنى لتعطيل الفيض إلا إذا كان مستكملا من غيره وهو يستلزم النقصان وهو دليل كونه متناهيا وعدم مبدئيته واستقلاله بنفسه ، وإما أن يكون متناهيا فلا يصلح للمبتدئية كما تقدم ولذا أجمع العقلاء على أن ما سبقه العدم لحقه العدم وما له أول له آخر وما له آخر له أول وما لا أول له لا آخر له ولا إشكال في ذلك، ولما كان فيض الله عز وجل لا يتناهى وهو سبحانه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى كانت أولية الأشياء في ذواتها وحقائقها عين آخريّتها و إن عرضت لها الأولية والآخرية باعتبار الإضافات والقرانات .

 

         وبالجملة فالأول الذي لا آخر له وتسميه بالأول لعدم تقدم شيء عليه لا في مقابلة الآخر هوعالم الوجود المطلق من عالم الأمر ، فإن البدايات والنهايات والأوليّات والآخريات أشياء حدثت من أمره تعالى ( كن ) ، فلو لم يسبقها لكان في رتبتها ولوكان في رتبتها لا يعقل إحداثها به وهذا الذر بحر مملو من فضائل عليعليه السلام ووصف مناقبه وهذا هوالذي كان في هذا الذر .

_________________

1 الأعراف 29

 

 

وأما أول الذي لا ثاني له فهو الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم لأنها ملأت الأكوان ولم يـبق مكان يظهر فيه غيرها هناك على ما قال عليه السلام في الدعـاء (( فبهم ملأت سمائك و أرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا أنت ))1وكذلك حكم الأولية والآخرية في هذا ، فإن الأول فيه هوعين الآخر من غير فرق لأن الأشياء كلها تحت تلك الحقيقة المقدسة فلا يكون الشيء هناك حتى يفصل بين أوله وآخره مع أن الآخر منتفِ والفاصلة غيرها مرتفعه فلا يعقل أن يكون لها آخر غير أوّلها فهي أول ولا تزال باقية على أوليتها و آخر ولا تزال باقية على آخريتها أقامها الله سبحانه بمدد فيضه وأمسكها بهيئة توحيده وأشرق عليها في ما لم يزل وأدامها في ما لا يزال ، فمقامها الأولية الثانية والله سبحانه من ورائهم محيط وهو أزل الآزال ، وإلى هذا المعنى أشار مولانا الصادق عليه السلام في حديث المفضل إلى أن قال عليه السلام (( كنا بكينونيته كائنين غير مكنونين أزليين أبديين منه بدأنا وإليه نعود )) هذا معنى الحديث ، وهذه الكينونة إنما هي كينونة حادثة وهي رتبة الفاعل ومقام الخالق بل سر الهوية ومبدأ الألوهية، وقوله عليه السلام (( غير مكونين )) لأن المكون هو يكون بعد وقوع قول كن عليه الواقف في هذا المقام روح القدس الذي ذاق من جنانهم الباكورة وهم عليهم السلام أما قول كن أوالتكوين وهم كائنان غير منقطعين أزلا وأبدا لكونهما من الوجود الراجح لوجود المقتضي وارتفاع المانع الذي هو أنواع الروابط والشرائط الغيرية وهذا الأزل هو عين الأبد وهما الأزل والأبد الثانيان أي اللاّمتناهي في رتبة الخلق كما قال مولانا سيد الساجدين (( عز سلطانك عزا لا حد له بأولية ولا منتهى له بآخرية و استعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ

________________

1 دعاء رجب لمولانا الحجة عجل الله تعالى فرجه

 

 

 

أمده ولا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت النّاعتين ))1ولا شك أنهم عليهم السلام سلطان الله الظاهر للمخلوقين وهم ملك الله أي تملكه وقـدرته التي سقطت الأشياء دونها ، والذي كان في هذا الذر هو ظهور سلطنة علي عليه السلام واقتداره واستيلاؤه على كل من ذرء وبرء وهو ظاهر معلوم .

 

         ويحتمل أن يكون هذا الأول له ثاني فيكون حينئذ هو العقل الكلي والقلم الأعلى وثانيه الروح ، وثاني الروح النفس وثانيها الطبيعة وثانيها المادة وثانيها المثال وثانيه الجسم وثانيه الأعراض وهذه المرتبة آخر ذلك الأول ونهايته ، وكل هذه الذرّات على طبق الذر الأول ، وفي كلها قد أخذ الله عز وجل العهد والميثاق على ولاية علي عليه السلام وأن يطيعوه ولا يخالفوه كما في حديث الحمى عن الحسين عليه السلام وقد خاطبها وقال لها (( يا كبّاسة ألم يأمرك أمير المؤمنين عليه السلام ألا تقربي إلا عدوا أومذنبا لتكون كفارة لذنوبه فما بال هذا الرجل ))2وكذلك الجمادات والمعادن من الأجسام وقد عرضت عليها الولاية فقبلها بعض وأنكرها بعض آخر وقد قـال عـز وجل

_______________

1 الصحيفة السجادية دعاؤه عليه السلام بعد الفراغ من صلاة الليل

2 لم نجد هذه الرواية كما هي في هذا الشرح وإنما وجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في البحار 44/183 ح 8 عن زرارة بن أعين قال (( سمعت أبا عبدالله عليه السلام يحدث عن آبائه عليهم السلام أن مريضا شديد الحمى عاده الحسين عليه السلام فلما دخل من باب الدار طارت الحمى عن الرجل فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقا حقا والحمى تهرب عنكم , فقال له الحسين عليه السلام : والله ما خلق الله شيئا إلا وقد أمره بالطاعة لنا , قال فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول لبيك , قال : أليس أمير المؤمنين عليه السلام أمرك أن لا تقربي إلا عدوا أو مذنبا لكي تكوني كفاره لذنوبه فما بال هذا , فكان المريض عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي ))

 

 

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}1 .

 

           ومن الذي كان في هذا الذر الأول لأخذ الميثاق على الأنبياء والمرسلين وامتياز أولي العزم من غيرهم كما قـال عز وجـل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا }2 وفي هذا العهد شك آدم عليه السلام وتوقف في القائم عجل الله فرجه وشك يعقوب وتردد يوسف ويونس وشك أيوب وغيرهم من أفاضل الأنبياء وفي ذلك سر عجيب نذكره في ما بعد إنشاء الله في خلال الكلام وربما أشرنا إليه في ما قبل ، ولا تتوهم أن الأنبياء يشكون أويترددون في ولاية علي عليه السلام في أنه ولي أم لا بمعنى عدم استقرارهم الاعتقاد فيها كلا ولو كان الأمر كذلك لكفروا وإنما يراد من الشك معنى غير ما هو المعروف عند العامة لأن أحاديثهم عليهم السلام صعبة مستصعبة والإيمان بها والتسليم لها أصعب {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }3.

__________________

1 الأحزاب 72                     2 الأحزاب 7 – 8

3 البقرة 213

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام مع من تقدم مع آدم الأول

 

          اعلم أن آدم تمام الكمال الظهوري لآخر رتبة الأصل الواحد الأول للمرتبة التفصيلية من الأصل الأول الذي هو الواحد، وبيان ذلك بالإجمال أن الواحد لما ظهر من نقطة الأحد بنفس ظهور الواحدية في رتبة الواحد تثلث إذ نظر إلى الأحد وإلى العدد وإلى رتبة مقامه، لكن التثليث في غاية البساطة الإمكانية بحيث لا تعتبر فيه جهة إلا من حيث التعلق، وهذا التثليث إنما ظهر من الظاهر والظهور والمظهر فلا يتحقق كون من الأكوان الإمكانية والآثار الربانية والظهورات السبحانية إلا مثلنا إذ لا يمكن تكون الممكن بسيطا لعدم إمكان شريك الباري ولا يمكن أن يكون مبدأ الكون زوجا وإلا لم يكن متحققا إذ كل من الثلاثة شرط لوجود الآخر وتحققه على جهة التساوق، فلولا الظاهر امتنع الظهور والمظهر ولولا الظهور امتنع الظاهر والمظهر، لأن الظاهر لم يكن ظاهرا إلا بالظهور كالضارب فإنه لم يكن ضاربا إلا بالضرب وليس الظاهر هو الذات كما ذكرنا مرارا لأن الذات هي الكنز المخفي و إنما هو الصفة وهي لا تتقوم إلا بمعنى من معاني الذات في الآثار الفعلية كالقيام للقائم والضرب للضارب والظهور للظاهر وأمثال ذلك وكذلك لولا المظهر لم يكن الظاهر والظهور فإن المظهر ليس إلا وجههما فافهم .

 

         ولذا كانت الثلاثة أول الأعداد وأول الأفراد إذا الواحد هوالثلاثة لكنه غير متمايزة ، والعدم مقام التمايز والتفصيل لأنه الكم المنفصل ، فالثلاثة في التفصيل هو الواحد في مقام الإجمال لأن في الواحد قد غلب عليه ظهور الأحد في كثرته وأظهر سر وحدته ، والكثرة مضمحلة مطوية كالنار المعروفة المرئية فإنها مركبة من العناصر لكن الجزء الناري قد غلب واستولى فسمي الشيء المركب باسمه وكذلك الماء والهواء والتراب وكذلك الواحد فإنه ثلاثة لكن جهة الوحدة قد غلبت عليه لكونه أول مظاهر الأحدية فلا يعتبر فيه التعدد فافهم وأتقن .

 

            وبالجملة فالثلاثة لما ظهرت جذرت في مقام التفصيل لإظهار مبادئ الوجوه الممكنة في الواحد الذي هو الثلاثة فكانت تسعة فهي تمام الأصل الأول الذي هو الواحد ، فإذا ظهرت كمالها الظهوري يكون خمسة وأربعين وهو تمام الوفق في الشكل المثلث العددي فإذا استنطقت هذا الوفق يكون آدم فهو اسم للأصل الأول ، وإنما استنطق على هذا الترتيب وقدم الألف لبيان أنه الأصل الأول ، ثم الدال لبيان أنه خلق من العناصر الأربع من نار الفاعل وهواء أثر الفعل وماء قبول المفعول لفعل الفاعل وأرض القابيلة الحافظة الممسكة لفيض الفاعل ، ثم الميم لبيان التخمير في أربيعين يوما كما قال عز وجـل في الحديـث القدسي (( خمّرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا ))1 فآدم هو كل أصل قد تشعبت عنه فروع كثيرة غير متناهية وشكله الشكل المثلث وهو أبوالأشكال وأصلها وكل شكل إنما هوفرع منه حتى المستدير فإنه الوجه الأعلى من المثلث لكنه متقوم به كالفاعل المعمول للفعل المتقوم به وإن كان في الدلالة والبيان أقوى وهوالمثلث الناري وحوّاء أحد أضلاعه لأن التسعة إذا كتبتها في المثلث يحصل الوفق في كل ضلع خمسة عشر وهو حوّاء وهي الضلع الأيسر من آدم من المثلث المائي فلا يتم آدم إلا بحوّاء ولا توجد حوّا إلا بآدم فافهم .

 

        وعلى هذا فكل أصل آدم وهذا اللفظ لأجل المناسبة الذاتية إنما وضع له على الحقيقة لا على جهة الاشتراك ولا على التواطي والتشكيك ولا على العام والخاص بل على الحقيقة بعد الحقيقة ، وكل أصل تسعة فإن كان في عالم التميز والتفصيل الجسماني فعددية و إن كانت في غيرها أم لا من جهة التفصيل فمعنوية ، ولذا سميت الصّديقة الطاهر على أبيها وبعلها وبنيها وعليها آلاف السلام بالطاء لأن فاطمة هي الطاء بالكمالين الظهوري والشعوري وما اتفق اجتماع الكمالين في حرف من الحروف إلا في هذا الاسم المبارك لهذا السر لأن رتبة الآحاد التي هي الأصل الواحد تنتهي في عالم الظهور إلى التسعة

_______________

1 عوالي اللآلي 4/98

والطاء جامع لها وهي حاو ووعاء للمراتب الآحادية كلها فالطاء هي أصل الاسم وكمال الظهور هو منه ، لأن الكمال الظهوري لكل حرف أن تزيد عليها الواحد ثم تضربه في نصف ذلك العدد فالحاصل هوالكمال الظهوري كالطاء فإذا زدت عليها واحدا يكون عشرة فإذا ضربت العشرة في نصف التسعة وهو الأربعة والنصف يكون الحاصل خمسة وأربعين فاستنطق فكان منه ، و إنما سمي بالكمال الظهوري لأن هذا كمال ظهورات ذلك العدد في تلك المراتب ، والكمال الشعوري هو مجموع الكمالين الظهوريين اللذين لذلك الحرف والحروف التي قبلها كالحاء التي قبل الطاء وكمالها الظهوري ستة وثلاثين فإذا جمعته مع خمسة و أربعين يكون الحاصل واحدا وثمانين فاستنطق فكان ، فإذا جمع الكمالان اللذان هما ( فا ) و( مه ) مع الطاء كانت فاطمة عليها السلام وهذه التسمية لأنها عليها السلامآخر مراتب الأصل الواحد ، وآدم هو مجموع المراتب ولذا ترى علماء الصرف يقولون أنه يحصل من الأصل الواحد الذي هو المصدر أو الفعل تسعة أصول وهذه التسعة هي تفاصيل ذلك الأصل الواحد، ولو أردنا شرحه مفصلاً يطول الكلام .

 

          والتسعة إذا جعلتها في الشكل المثلث يستخرج آدم ومن ضلعه الأيسر حوّاء فهو أول من ظهرت فيه آثار الألوهية  وشئونات الرحمانية والعرش المستوي للرحمن , وبه ينشأ الفيض وينتشر في أبنائه وفروعه وتوابعه بالبدلية لا بالصفتية ولا بالتأكيد بل على جهة البدل ، وكل آدم ثانٍ مثال وصورة لآدم الأول وتفصيل وتمييز لمراتب الأول التي كانت مستجنّة فيه ومندرجة في غيبه ، فعلى ما ذكرنا تعدد الآدميون بتعدد أصول الخلق وبتعدد الأفلاك التسعة في كل عالم وهذه الأصول على وجهين ، أحدهما أصول كلية جامعة شاملة لما تحتها من الأصول كالغصن الكبير من الشجرة الذي يشتمل على غصون كثيرة مشتملة على أوراق كثيرة ، وثانيهما خصوصيات الغصون المشتملة على الأوراق لا على الغصون ، فعلى الأول يمكن حصرها وتعدادها واختلفت الروايات عن الأئمة السادات عليهم السلام فيه لا بمنطوقها وصريح لفظها و إنما هو بإشاراتها وتلويحاتها لكن ما وقع التصريح فيه منها ما رواه الصدوق في آخر الخصال عن الباقر عليه السلام لجابر إلى أن قال عليه السلام (( لعلك ترى أن الله عز وجل إنما خلق هذا العلم الواحد ، وترى أن الله عز وجل لم يخلق بشرا غيركم ، بل ولله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين ))1 .

 

         وفي رواية أخرى (( ما خلق الله من التراب غير آدم أبينا )) وهذه المراتب الألف ألف مرتبة الأصول وهذه الأصول كلها إنما نشأت من أصل واحد لا من ذاته وإلا لم تتكثّر إذ الذات على صرافة بساطتها في الوحدة لا تنشأ منها الكثرات ، ولذا ترى ضرب الواحد في نفسه أو في غيره لا يؤثر شيئا بل النشء إنما هو من الصفات وقرانات النسب والأوضاع وملاحظة النسب بعضها مع بعض ، فأول ما يؤخذ من ملاحظة النسب من الأصول في الواحد هو الثلاثة وهو العوالم الثلاثة التي هي عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الملك ، وفي كل عالم آدم هو الأصل وله أولاد تشعبوا منه إما من سنخ ذاته أو من أمثاله وأشباحه ، فالآدم في الجبروت العقل الكلي والعقول الجزئية في أشباحه وأمثاله قد ظهرت منه وتعود إليه , وآدم الذي يكون أولاده من سنخ ذاته في الجبروت هو النور الواحد العقلاني المنبعث من العقل الكلي الساري في كل العقول الجزئية فتكون حينئذ أفراد العقول وأشخاصها أولادا لذلك النور الكلي الساري فافهم .

 

         وهو في عالم الملكوت هو النفس الكلية والنفوس الجزئية المتكثرة الظاهرة في أفراد الخلق هي ظهورات تلك الكلية وأمثالها وأشباحها ، والآدم الثاني في هذا العالم كما ذكرنا في الجبروت حرفا بحرف ، وهو في عالم الملك العرش أبو الأجسام في الكلية والوالدان في الجزئية بالمعنى الثاني ، وبالطور الأول فكما ذكرنا في العقل والنفس ، ثم إذا لاحظت نسب هذه الثلاثة بعضها مع بعض إذ لا غيرها تبلغ قراناتها ونسبها في أول اللحاظ تسعة وهي العوالم التسعة عالم القلوب وعالم الصدور وعالم العقول وعالم العلوم وعالم

___________________

1 الخصال 652

الأوهام وعالم الموجودات الثانوية وعالم الخيالات وعالم الأفكار وعالم الحياة ، وفي كل عالم آدم هو أصل ذلك العالم ويكون ما سواه من الأحوال الغير المتناهية كلها من فروعه وشعبه ذاتا أو صفة أو مثالا على المعنى الذي ذكرنا بوجهية ، ثم إذا أضفت إلى هذه التسعة واحدا لتنقلها إلى الرتبة الثانية يكون عشرة وهي العوالم العشرة تلك التسعة المذكورة وعالم الأجساد ، ثم إذا لاحظت نسبة هذه العشرة بعضها مع بعض فأول ما يحصل من ملاحظة هذه النسب مائة عالم وهو ظهور تلك العشرة في عشرة عوالم عالم الوجود المطلق وعالم الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم وعالم الأنبياء وعالم الإنسان وعالم الملك وعالم الجن وعالم البهائم وعالم النباتات وعالم الجمادات وعالم الأعراض ، وكل عالم له آدم متأصل يكون ما عداه عن شعبه وفروعه ، وأما أمثاله وأشباحه أو أبداله وأشباهه على التفصيل الذي ذكرنا بالإجمال ، ثم إذا لاحظت نسبة هذه المائة مع العشرة يكون الحاصل ألفا وهو ظهور كل من هذه المائة في عشرة عوالم عالم المسميات وعالم الأسماء وعالم الأفئدة وعالم العقول وعالم الأرواح وعالم النفوس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام وفي كل عالم من هذه العوالم آدم وهو أصل ذلك العالم وعليه يدور رحى ذلك العالم كما ذكرنا ، ثم إذ لاحظت نسبة هذه الألف بعضها مع بعض يكون الحاصل ألف ألف وهوالمراد من قوله عليه السلام المتقدم من أن الله تعالى خلق ألف ألف عالم والف ألف آدم وهو مجموع نسب الأصول من الأصل الواحد ، وكذلك إذا لاحظت نسب هذا الألف ألف بعضها مع بعض يبلغ تلك الملاحظات إلى ما لا يدخل تحت حصرنا وعدّنا وإنّما هو مختص بالله عز وجل ومن أشهده الله خلـق السموات والأرض وخلق أنفسهم ، وفي كل عالم من هذه العوالم الكثيرة آدم فقوله عليه السلام (( أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين )) يريد به الكون الجسماني أو الأعراضي وهو مركز للعوالم كلها بروابطها وقراناتها فتدور عليه العوالم مستديرة بتنقلات الأطوار واختلاف الأوضاع فيكون كل وضع وكل طور مبدأ حكم من الأحكام الوجودية التكوينية بسيّالية وجودات الأشياء في الأيام

 

من أيام الشأن وهو قوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}1 وكل هؤلاء  الآدميين لهم أولاد قد أخذ عليهم الميثاق بولاية علي عليه السلام ويدخل الجميع في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}‏2 وليس هذا العموم من اللفظ من باب الاشتراك حتى ترد عليهم شبهة عدم الجواز وإنما هوحقيقة بعد الحقيقة فما هذا شأنه لا يجمع المعنيين في صقع واحد فيكون المراد منه دائما معنى واحدا إلا أنه لأهل كل عالم بلسانه واصطلاحه .

 

         فقوله عليه السلام (( مع من تقدم مع آدم الأول )) يريد عليه السلام بالتـقدم التقدم الحقيقي السرمدي لا التقدم الزماني والمكاني والشرفي والطبيعي ، بل التقدم الذي يجمع المتأخر بعين كونه المتقدم الذي انقطع عنده الماضي والحال والاستقبال ويجمع المتفرق ويفرق المجتمع وهو عاد لوجود الموجودات كلها ولا يعده شيء الذي قد سبق وجوده الأحوال والأطوار في الأكوار والأدوار وكلها محبوسة تحت حيطته وسابحة في لجة أحديته وقد انقطعت دونه المدارك وتحيرت عنده المشاعر وسنتكلم عن هذه الأولية إذا آن أوانه وحان وقته عند قوله عليه السلام (( أنا الأول والآخر )) .

 

           وأما آدم الأول فهو المشيئة مبدأ الوجود المطلق ومقام كن وعالم فأحببت أن أعرف والذكر الأول والاختراع والابتداع ، وهو آدم لأنه أول من أقر لربه بالربوبية ولنبيه وإمامه بالطاعة والولاية وأصل واحد قد ظهر منه الأصول الثلاثة والتسعة والخمسة والأربعين والثلاثمائة والستين والألف وألف الألف  وحواؤه أرض الإمكان الراجح فلما تعلق بها وأدلج فيها  نشأت منها

________________

1 الرحمن 29                  2 الأعراف 172

 

 

 

 

الأولاد ذكورا وإناثا وقوله تعالى  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء}1 فالرجال ما تولدوا من الجهة اليمنى أي الوجه لأعلى وهم الأسماء والصفات المتولدة من تعلق الوجود المطلق بأرض الإمكان من جهة العليا ، والنساء هي الوجوه والجهات الفعلية المتعلقة بالمفعولات والمشاءات المتقومة والمنشعبة المتفرعة عن المشيئة الكلية .

 

          وأما آدم الثاني هو الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم وحواؤه أرض الجرز وأول أولاده العقل الكلي ثم الروح الكلية ثم النفس الكلية وهكذا إلى آخر مراتب العرش المركب من الأنوار الأربعة ، وعلى هذا القياس سائر العوالم والآدميين كل آدم له حواء ومن كل منهما في كل العوالم وقع ما أخرجهما من الجنة ثم عادا وتابا فقبل الله توبتهما وأسكنهما أرضه إلى أن يرث الله الأرض  ومن عليها، إلا أن معصية كل آدم على مقتضى مقامه ورتبته مع حفظ حكم حسنات الأبرار سيئات المقربون فتفطن فإن المسلك وعرة يحتاج إلى شرح وبسط وليس لي الآن إقبال ذلك .

 

          والإشارة المجملة إلى شيء يسير منه فاعلم أن أعلى مقامات الجنة هو الرضوان وأعلى مقاماته الرب ومشاهدة جماله بلا حجاب في مقام ذات المشاهد الرائي ومقام السكر الذي لا صحو فيه ورتبة الصحو الذي لا سكر فيها ولا تسع ذلك المقام سنة ولا نوم ، فالمشيئة أعلى مقاماتها هيكل التوحيد وسر التفريد على أعلى المعاني ويعبر عنه ولا عبارة ( بأحببت ) والمحبة التي هي حجاب بين المحب والمحبوب ومقام المحبوب من غير ملاحظة المحبة ، وهذا المقام هو الجنة التي لا أعلى منها بل الجنة إنما هي الظهورات العلوية لهذا المقام فإذا تعلقت بحوائها التي هي أرض الإمكان وتحقق الزواج ونظرت إلى الإمكان ظهرت الكثرات الأسمائية والصفاتية والتعلقات الإمكانية والكونية فتنزلت إلى

_________________

1 النساء 1

أرض الكثرات والإضافات والحجب بعدما كانت في السماء في جنة المشاهدة وصرافة الوحدة وهذا التنزل ما كان سببه إلا أرض الإمكان التي هي حواؤه ، وأكل الشجرة هو النظر إلى مقام الإنية المنظورة بأطوار الكثرة المدعية الساجدة للشمس من دون الله فهم من فهم ، وهكذا الحكم في كل المراتب لقد ملكتك القواعد إن كنت علامة يحصل لك منتهى المطلب والله الموفق .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام ولقد كيّف لي فعرفت وعلمني ربي فتعلمت

ألا فعوا ولا تضجوا ولا ترتجوا فلولا خوفي عليكم أن تقولوا جن أو ارتد لأخبرتكم بما كانوا وما أنتم فيه وما تلقونه

 إلى يوم القيامة علم أوعز إلي فعلمت

 

         اعلم أن العلوم على قسمين علوم لا كيف لها وعلوم لها كيف ، والأولى على قسمين حقيقية وإضافية ، ومرتبة الإضافيات تختلف في البساطة والكثرة فالتي لا كيف لها هي العلوم التي لا تحدها الأدوات والمشاعر من العقل وما تحته و إنما هي خاصة بإدراك الذات والكينونة فيدركها الشخص بذاته ليتحد هناك المدرِك والمدرَك والإدراك وهي العلم بمعرفة الله سبحانه ومعرفة صفاته وأسمائه وأزليته وأبديته  وخفائه وظهوره وأولويته وآخريته ومعرفة علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ونحو إحاطة العلم بالمعلومات قبل المعلومات وبعد المعلومات وكيفية صدور الأشياء من المشيئة وصدورها من الله عز وجل ومعرفة انتفاء الخالقية والفاعلية في الذات الأحدية ومعرفة النفس التي هي معرفة الرب ، ومعنى أن هذه العلوم لا كيف لها هو أن الناظر حين النظر إليها لا يلتفت إلى جهة دون جهة أخرى وإلى حد دون آخر وإلى تميز وإشارة وعبارة وإنما يعرفها بالوجدان من غير أن يرى لها صورة، ثم يعبر عنها في مقام التمييز بعبارة منبهة للمراد على حكم الاستعداد ، ومرادي بالكيفية الكيفية العقلانية والروحانية والنفسانية والمثالية والجسمانية والمقادير العرضية وإلا ففيها ولها كيفية لا تدركها العقول و إنما تدركها الذوات ، ومرادي بالإضافة والحقيقة نفي التمييز والحدود مطلقا  على أي حال في الواقع الأولي ونفيهما في الواقع الثانوي أي في نفس الأمر .

 

         وبيانه بالأجمال أن التجلي في المجلى الأول ليس إلا نفسه فلا يحكي ولا يصف إلا الواحد المحض إذا نظر إلى نور العظمة في مقدار سم الإبرة ، والتجلي في المجلى الثاني إنما هو بالأول فالثاني فيه ظهورات ونفس ظهور نفس الأول الذي هو خلاف كينونة الأول ، كما إذا نظرت إلى المرآة الثانية المقابلة للأولى المقابلة للشاخص فترى في الأولى صورة المقابل وحدها وفي الثانية صورتين ومرآة وفي الثالثة ثلاث صور ومرآتين وهكذا ، ولما كانت الكثرة في كل مرتبة من لوازم ماهية تلك الرتبه فإذا أزال الإنية ارتفعت له الهوية فتـنفي هذه الكثرات وتبطل القرانات ويكون ذلك المقام عنده أعلى مقامات التوحيد ، مع أن هذا المقام هو ظهور إنية العالي فلو وصف الحق بما يصف به السافل لوصفه بغير ما هو عليه ولشبهه بخلقه بخلاف السافل فإن هذا هو حقيقة التوحيد بالنسبة إليه ، فالكيفيات في الرتبه الثانية وإذا ارتفعت فيها لها لكنها باقية عند من هو أعلى منها .

 

          ومن العلوم التي لا كيف لها بالإضافة العلم بمسألة سر الأمر بين الأمرين وسريان نور الاختيار في كل الأقطار بكل الأطوار وتحقق القابلية المقبلة والمدبرة حين الإيجاد والإدبار لا قبله ولا بعده ووقوع الخطاب عليها ليكون المخاطب نفس الخطاب الواقع في الحد المخصوص وتحقق ذلك الحد بذلك الخطاب ، لأن هذه الأمور  إنما حصلت قبل التركيب في التكوين والكون التقييدي ، والعقل أول ما ظهر من المركب فلا يدرك إلا المركب من حيث هو كذلك لأن الأدوات إنما تحد أنفسها والآلات إنما تشير إلى نظائرها ولا شك أن حال التركيب في الاقتضاءات غير حال البساطة وهو ظاهر معلوم لمن يفهم الكلام ، ومجمل القول أسرار باطن الباطن وما فوقه كلها من العلوم التي لا كيف لها من الكيفيات المدركة للعقل .

 

       وأما العلوم التي لها كيف فهي علم الشريعة وعلم الطريقة وما يتعلق بهما في التكوين والتشريع من العلوم الكلية المعنوية والعلوم  الجزئية الصورية والعلوم الشبحية المقدارية والعلوم الجسمانية وجملة ما أحاطت به دائرة الوجود المقيد إذ كل ذلك مما له كيف من أنحاء أحوال الكلام وما يترتب على قرانات الأشياء وإضافاتها وأوضاعها من العلوم التي لا نهاية لها .

 

 

فإذا عرفت هذا فاعلم أنه عليه السلام لما أبان عن سعة علمه الشريف وإحاطة دائرة مقامه المنيف وأنه علم ما كان وما يكون وما كان في الذر الأول من أحوال البدء التي هي تمام أحوال العبودية فإنه عليه السلام في القوس الصعودي وكذلك الخلائق كلهم فكل من أخبر عن حكم من أحكام البدء فإنما قطع مسافة العود ووصل إلى ذلك المقام في البدء فكان عوده عين بدئه ، فإذا أثبت أن العود هو عين البدء وأن المخبر في القوس الصعودي فإنما فصل إلى البدء وعودا كما قال عز وجل {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}‏1 وقد أخبر عليه السلام عما كان في الذر الأول في الكون الإطلاقي في أعلى مراتب الوجود الراجح ، وكان فيه ما ربما يتوهم ما توهمه بعض الغلاة من حكاية الاستقلال وعدم توهم الاضمحلال أشار عليه السلام إلى رفع هذا التوهم وإثبات كمال الرتبة العبودية وشدة الفقر والحاجة فقال عليه السلام (( ولقد كيّف لي )) على بناء المجهول يعني أن هذه العلوم التي ذكرت أني جامع لها ومحيط بها ليست هي مني بالاستقلال وإنما هي أمور قد وصفها الله عز وجل وكيّفها أي أبان كيفها وكشف عن حقيقتها إلى من فضله وكرمه وعلمني بالاسم الأعظم الأعظم الأعظم المكنون المخزون الطهر الطاهر الذي قد جعله عندي فعرفت ذلك بتكييفه تعالى وتوصيفه ثم بتسديده فعرفت ما كيف لي وألقي علي من السر المكنون والدر المصون ، فعرفت ما ألقي علي بصحة القابلية ونور الهداية وبذلك فرّت مقام السبق .

 

           ولما أشار إلى العلوم التي كانت في الذر الأول وإلى الأسرار المطوية المكنونة المستودعة في آدم الأول من حجب الغيب مثل حجاب الدر في السر المقنع في السر في أعلى مراتب آدم الأول ، وحجاب العقيق الأصفر في ثاني مراتبه ، والحجاب الأخضر حجاب الزمرد ، والحجاب الأحمر حجاب الياقوت في المقامات العلوية من آدم الأول إلى ظهور نقطة علمه عليه السلام بما كان وما يكون كل شيء في رتبة وجوده قبل وجوده وشهوده ، وأمثالها

______________

1 الأعراف 29

من العلوم والأسرار التي عرف الوجه السفلي الذي هو جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير من الوجه الواحد السفلي الذي هو كل من الوجه الواحد السفلي يريد عليه السلام العارفون الكاملون بأعلى مشاعرهم الذي هو ذواتهم وحقائقهم التي لا كيف هناك ولا حد ولا وضع ولا إضافة ولا نسبة بل عرفوها بما كل الجهات عنده جهة واحدة وكل الأطوار طور واحد وكل الشؤنات المتكثّرة المتضادة المتخالفة لا تحجبه من ظهور الوحدة السارية في الكل في الوجود ومشاهدة كل شيء في مكانه ، وقد انتفت عنده كل الجهات العقلية والروحية والنفسية والمقدارية والجسمية فلا شك أن تلك العلوم التي لا يدرك ظاهر قشرها إلا بذلك المشعر المنزه عن كل الجهات لا يكون لها جهة ولا كيف أراد أن يبين عليه السلام على أن تلك المراتب والعلوم التي لا كيف لها عند الخلق لصرافة وحدتها وكمال بساطتها كلّها عنده عليه السلام مكيفة محدودة متمايزة متكثرة مختلفة نسبتها إليه عليه السلام نسبة الأمور المشاهدات بالأبصار الجسمية إلى المعارف والأسرار الغيبة والأسماء والصفات الحقيّة الإلـهية ، ولذا قال عليه السلام إنه كيّف لي ما وصفت لكم و إن كان لا كيف له ولذا أتى بصيغة الكيف التي هي أخص من الوصف وإن كان يريد عليه السلام بذلك الوصف لكن خصوصيته للسر الذي قلنا لك أن الغيوب كلها عنده عليه السلام حاضرة مشهودة والسرمديات التي عند الخلق من رتبة الإنسان زمانيّات عند الأنبياء والمرسلين والسرمديّات التي عند الأنبياء عليهم السلام في المعارف اللاّهوتية والأسرار المقنّعة بالسر من أسرار الباطن في مقامات السبعين في مقام الوصف ومقام الذات ومقام التشريع ومقام التكوين كلها بكل طور يفرض زمانيات عنده عليه السلام ومن معه في تلك الأجمة النّابتة فيها قصبة الياقـوت وسر اللاهوت ، وفي تلك السماء التي فيها الشمس المشرقة والنار المحرقة ، لأن حقائق الأنبياء عليهم السلام وذواتهم التي في مقام الكرّوبيين الذين قد تجلى رجل منهم لموسى الذي هو من أولي العزم من الرسل بقدر سم الإبرة فدك الجبل وخرّ موسى صعقا وأولئك الملائكة كلهم شعاع من فاضل أجسامهم عليهم السلام، فإذاً كل الوحدات في كل العوالم بكل الأطوار في كل فرض في مقامه وعالمه عليه السلام كثرات مكيفة محدودة فافهم ما ألقيت لك من السر المكنون .

 

          وخلاصة المقال في هذه الأحوال هي أنه عليه السلام كشف عن أمور مهمة عظيمة ، الأول حكاية الاضمحلال وعدم الاستقلال لنفسه لا نفسهم لأنه عليه السلام جابر الكسر ومتمم النقصان في التكوين والتوصيف في التشريع لأن الولاية الكلية هي النقطة التي عليها المدار في كل الأكوار والأدوار وهي الربوبية إذ مربوب كونا وعينا وذكرا فكل شيء إنما تشيأ بها في جميع مراتب كينونـتها كما قال عليه السلام (( إذا كان الشيء من مشيئته )) وقد سبق منا مراد أن الإمام عليه السلام هو حامل الولاية ومحل المشيئة ، فوجه الأشياء كلها إليه واستمدادها منه فلولا أنه عليه السلام يصف نفسه بالحدوث والفقر والاستمداد من الغير لكان الخلق كلهم ناظرين إليه عليه السلام نظر استقلال ومتوجهين إليه بالعبودية ، فوجب عليه عليه السلام البيان في كل مراتب الأكوان حتى يفرق التاس بين الوجه وذو الوجه واليد وذي اليد ، ولذا لما ظهرت أنواره وأشرقت وتلألأت في عالم الأنوار فظنت الملائكة أنها نور الله عز وجل فسبحوا الله وحمدوه لتعلم الملائكة أنهم عبيد كما رواه الصدوق عن عبدالسلام بن صالح الهروي عن على بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( ما خلق الله خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني قال علي عليه السلام : فقلت يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلني على جميع النبيين والمرسلين والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ، يا علي الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا ، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم عليه السلام ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه لأن أول ما خلق الله عز وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتمجيده ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظمت أمرنا فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون وإنه منزه عن صفاتنا فسبحت الملائكه بتسبيحنا ونزهتة عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وإنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه فقالوا لاإله إلا الله ، فلما شاهدوا كبر محلنا كبرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظيم المحل إلا به ، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة فقلنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لتعلم الملائكة أنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله ، فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا الحمد لله لتعلم الملائكة ما يسحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه فقالت الملائكة الحمد لله ، فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله عز وجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده ))1 الحديث .

 

          وهذا القول والتعليم هو نقش ما في حقائق الملائكة وسائر الخلق من سر التوحيد وأنهم باب الله ووجهه الذي إليه يتوجه الأولياء كما مثلنا سابقا باسم الفاعل المشتق من الفعل المعمول له لكن في اسم الفاعل ليس إلا ذكر المبتدأ دون الفعل ، فلولا تلك اللطيفة المودعة في أسرار الخلق لما اهتدى أحد إلى معرفة الله سبحانه ولقصدوهم بالعبادة والطاعة وهو قـوله عليه السلام (( بنا عرف الله وبنا عبد الله ))2 (( لولانا ما عرف الله ))3 (( ولولانا عبد الله ))4 هذا الحكم التكويني .

 

         وأما الحكم التوصيفي التشريعي فكما في هذه الخطبة وأمثالها من الكلمات مهما أظهر عليه السلام من سر الولاية شيئا قارنه بما يلزم منه العبوديّة والإمكان والحاجة ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيي عن بيّنة ولذا قال عليه السلام (( ولقد كيف لي )) أي وصف لي وحكي لي هذه

___________________

1 عيون أخبار الرضا 1/262 – 263           2 التوحيد 152

3 البحار 25/4                   4 الكافي 1/193

المقامات فالمكيّف هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل ، فكلما يأتي إليه عليه السلام على وجه العموم والإجمال والإبهام واللا كيفيّة يكيّفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكيفية تفصيلية لعلي عليه السلام كالعرش للكرسي فإن الفيوضات أولا ترد على العرش على جهة الإجمال وعدم التميز فيكيف العرش للكرسي بكيفيات مخصوصة وحدود معيّنة في البروج والمنازل والصور والدوائر العظام والصغار ، وكالنقطة للألف وهي للحروف والكلمة فأبان بهذا أن لا استقلال له بذاته في ما يرد عليه من الأحوال وهو المطلوب كما أشار عليه السلام بقوله (( أنا ذات الذوات )) فأثبت أن الذوات كلّها أعراض لا تجوهر لها ولا تحقق لها بنفسها إلا بي ، ولما كان في هذا القول احتمال توهم الاستـقلال صرّح بالمراد بقوله عليه السلام (( أنا الذات في الذوات للذات )) فأثبت عليه السلام أنه ملك ومملوك للذات الثابت المستقل سبحانه وتعالى ، وهذه الطريقة هي صفة الكينونة الإلهية الظاهرة في الرتبة الأحمديـة المفصّلة للحقـيقة العلوية حيث يقول عز وجل {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}1 ، وهذا التكييف في كل مقام وكل عالم بحسبه ومقتضى رتبته من العوالم الألف ألف وغيرها مما أحاطت به دائرة الوجود .

 

         الأمر الثاني هو أن الأشياء من العلوية والسفلية في السلسلتين من الطوليّة والعرضيّة لا تدرك ولا تفهم شيئا من أحوال الدنيا والآخرة بأي نحو يفرض إلا إذا وصفها الله عز وجل لها وكيّفها لها وعلّمها إياها لأن النور والمدد والفيض الذي هو العلم إنما هو من جهته سبحانه قائم بمدد فعله قيام صدور وتحقق فلو انقطع عنها لانعدمت فالله سبحانه هو الذي يعرّف الأشياء

_________________

1 الحج 52

 

 

 

أنفسها وخالقها وما لها وما عليها كما قال عز وجل {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}1 وقال أيضا سبحانه {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}‏2 وهو من معاني قوله تعالى { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}3 فالعلم المطلق سواء تعلّق بكينونة الخالق أو بكينونة المخلوقين فإنما هو لله عز وجل يعلم من يشاء بما يشاء كيف يشاء ، والخلق في مراتبهم ومقامات وقوفهم ولواذهم بباب ربّهم يسألون منه سبحانه العلم بألسنة أعمالهم وأفعالهم وأحوالهم وأقوالهم ، وهو سبحانه يعطي كل ذي حق حقه من الخزينة الخاصة به ويكيّف له ما يناسب مقامه ويفيض عليه من الباب الذي توجه به إليه سبحانه ، فمن كان واقفا في مقام الأجسام ولازما لرتبة الجماد حسب علمه بالاستعداد لا يكيّف الله عز وجل له إلا الجمادات فلا يدرك قلبه إلا ما أبصرت عيناه وسمعت أذناه وشمت منخراه وذاق بلسانه ولمست جوارحه وأركانه وهم الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، ومن كان واقفا في مقام النفس ورتبة الصور والهيئات وأشغلته الكثرات وألهته فلا يكيّف له إلا الصور والهيئات والمقادير المجرّدة والأشباح والهياكل وليس كلّما أراد الواقفون في المقامين وجدوا بل إذا أراد لمن أراد ما أراد من الصور على مقتضى الكينونة ، ومن كان واقفا في مقام القلب ورتبة اللب وسائلا من الله سبحانه المدد من الأنوار العقلانية والنفحات الروحانية يفيض سبحانه إياها عليه ويكيّفها له بالكيفيّة الوحدانيّة من الصور الكلّية والهندسات المعنويّة وهؤلاء اللذين طلبوا من معرفة المخلوقين وإن كانت ألسنتهم المقاليّة الكاذبة تطلب معرفة الخالق فإن الذي يطلب معرفة الله بدليل المجادلة الذي هو مقام النفس أو دليل الموعضة الحسنة الذي هو مقام القلب فإن ما طلب معرفة الممكن المخلوق لأن تلك الأدلة لا  تقدّر إلا مخلوقا وإن كان بعضها أشرف من  الآخر ، ومن كان واقفا مقام الفؤاد ولائذا بباب المراد وقد هاجت له ريح المحبّة المستدعية للاستظلال والاستئناس في ظلال المحبوب وإيثار محبوبه على ما سواه فـهذا هـو طالب

______________

1 الشمس 8                 2 النحل 9                3 البقرة 255

 

المعرفة الإلهية والأسرار الأسمائية والصفاتية ، ولما كان هو طالبا للعلم بالله أكرمه الله عز وجل وعلّمه وكيّف له حقيقة معرفته بعدم الكيفية وعدم المثال وعلّمه حقائق المخلوقين وأحوال جميع مبادئهم وشرائطهم ولوازمهم وما يوصلهم وما يقطعهم وما يصلحهم وما يفسدهم وما يؤول إليهم أمورهم ، وهذا الواقف قد فتح له الباب وأذن له النواب فلم يمنعه البواب فيستمر عليه الفيض من جناب الحق عزّ وجل ولا نفاد ولا انقطاع {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}1وفي الحديث القدسي حديث الأسرار (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))2 وهذا التكيّف عبارة عن كتابة كون ذلك الشيء في رقّ مكانه وزمانه ، والكتابة عبارة عن نقش وجود الشيء على ما هوعليه فيما يصلح له فإن كان المكيَّف بفتح الياء معرفة الله جلّ اسمه فهو عبارة عن ظهور التوحيد في حقيقة الشيء وظهور التوحيد عبارة عن إلقاء مثال من المثل الأعلى واحتجاب ذلك المثال بحجب الكينونية ، والمجموع أي المحتجب والحجاب حقيقة الشيء وظهور التوحيد والمعرفة إنما هو في المثال وهو الجهة العليا من الشيء ووجه الله ذو الجلال وهو مقام الأحدية ، وإن كان المكيَّف بفتح الياء اسم الله وصفاته فهي منتقشة وموجودة في رتبة الواحدية وهي عبارة عن ظهور المثال بوجهه في مرآة الجلال بعدما كان مصونا بنور الجمال في غيب الوصال ووجهه إلى كل مرآة أي متعلق ظهور اسم وصفة ، وإن كان فعل الله ومشيئته فهو متنقّش في لوح السرمد ومكان الإمكان ، وإن كان أثر فعل الله فهو منتقش ومكون في المتوسط بين السرمد والدهر ووجهه الأعلى ناظر إلى السرمد بل فيه والسفلي ناظر إلى الدهر بل هو فيه وهو ملتقى البحرين لكن كيفه وهيئته الانبساط والشمول والإحاطة وعدم النهاية وهو إن كان أنزل رتبه من المشيئة لكنه قد ظهر حاكيا لها ودليلا عليها وهوعلم واسع كعموم قدره الله عز وجل ، وإن كان الـقلم فـهـو في لوح المعـاني ورق الدهر أعلاه ، وإن كان اللوح

_______________

1 ص 54                          2 إرشاد القلوب 199

 

فهومكتوب في لوح الصور وأوسط الدهر ، وإن كان الأجسام فهي منتقشة ومكتوبة في لوح الزمان ورق المكان وقس عليه سائر المقامات .

 

         والمكيف له إن كان أعلى من المكيَّف بالفتح فهو منقوش بجميع مراتبه على ما هي عليه بتوسط قلم ذلك العالي ومداد نوره في إقليم ظهوره فهو حاضر لديه حاصل عنده في ملكه متقوم بيد قيوميته ، وإن كان أسفل منه فهو منقوش في حقيقة ذاته البسيطة قبل التركيب بحدود قابليته فلا يصل إليه إلا إذا حل التركيب ووصل مقام البساطة ، وإن كان مساويا فهو منقوش في مراتب كيونيته أي في حقيقة ذاته المركبة من الحدين فيصفه بما يقرأ من حروف نفسه وحدود ماهيته ولا ثالث في أقسام المكيف له و إدراك السبب الأعظم هو من القسم الأول فقد كيف له كل شيء من البدء إلى المعود إلى ما لانهاية له في مقام الظهورات والتجليات والآثار والشئونات فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هذا هو المراد من قوله تعالى {* مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}‏  من جهة مفهوم المخالفة .

 

         الأمر الثالث أن ما من الله عز وجل لم يزل مقدما على ما من الخلق فلا يتصور رتبة في الخلق أي في السوى إلا وقد سبق فيها شأن من شئون الربوبية يكون ذلك الشأن مقوما لذلك الشيء في الصدور والتحقق وإلا لكان قديما غيره مستقلا بنفسه فيتحقق بذلك تعدد القدماء فلا يمكن القول بأن القابليات يجب أن تكون موجودة قد سطع عليها نور الوجود فقيل كل منها ما اقتضته من الاعوجاج والاستقامه فالشقي شقي بقابليته المتحققه قبل ظهور نور الوجود وكذلك السعيد ولم يتعلق بتلك القابلية جعل وليس لله فيه حكم و إنما القابليات هي الأعيان الثابتة المستجنة في غيب الذات الحق جل وعز وشئون ذاتية له وذاتيات الحق لا تقبل الجعل والتغيـير والتبديـل والـزيادة

_________________

1 الكهف 51

 

والنقصان كما هو مذهب أكثر الصوفية وقد صرح بذلك الملا محسن في الكلمات المكنونة .

 

          ولا شك أن هذا القول باطل لا سبيل فيه إلى الحق لأن القابلية التي هي الأعيان الثابته إن كانت هي عين الله سبحانه وتعالى فلا يتصور الاختلاف فيها في حد ذاتها وظهوره بالوجود لأن ذات الله سبحانه لا تختلف ولا تتغير ولا تتبدل ، وإن كانت غير الله فهل هي حالة في ذات الله أو في غيرها فإن كانت في ذات الله - تعالى الله سبحانه -  فكان محلا لها وهو يستلزم التأثير والانفعال و إن كانت في غيره سبحانه فقديم آخر سواه .

 

         وبالجملة هذا القول لا ينطبق على قواعد أهل الإسلام ولا الأصول المقررة عن أهل البيت عليهم السلام ولذا عبر أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقام بما هو صريح الرد عليهم حيث قال عليه السلام (( ولقد كيف لي فعرفت )) التكيف ونسبه إلى غيره ثم أتى بالفاء التعقيبية في القبول للدلالة على أن القابلية مؤخرة عن المقبول والمخاطب مؤخر عن الخطاب بل ليس إلا نفس الخطاب الواقع على الحد الخاص في رتبة من المراتب وذلك الحد هو القابلية وهي أمر عرضي لا قوام له إلا بذلك الخطاب ، فقوام المخاطب بالخطاب وظهور الخطاب بالمخاطب وهو السر في كن فيكون ووقوع الخطاب على المخاطب هو السر بين الكاف والنون ، لكن في هذه المسألة سر دقيق لا ينكشف إلا بنور التوفيق والهداية بالاعتصام بعروة أهل بيت العصمة والطهارة ولا أحب شرح هذه المسألة في هذا المقام لأدائه إلى ما لا يحسن من الكلام فإن سر الخليقة أبى الله أن يطّلع عليها إلا الخواص من الأعلام فلا حظ فيه لغيرهم من العوام , مع أنا قد أشرنا إشارة مجملة ولوحنا التلويح التام لمن يفهم الكلام .

 

 

 

          الأمر الرابع أن حكم الله سبحانه على كل المخلوقات واحد وفيضه لكل الممكنات عام فلا تفاوت بين خلق وخلق في أصل الإفاضة والإعطاء والفيضان كما قال عز وجل {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ}1 لأنه سبحانه واحد وفعله واحد وأثر فعله واحد ، ولو جوزنا صحة صدور المكثرات من الواحد من جميع الجهات فلا موجب لذلك إذا كان المصدر البديع حكيما ، لكن لما كان جريان فعله تعالى من بدء الأمر إلى عوده الذي هو عين البدء على جهة السؤال والطلب والنداء من غير الاضطرار والمنع ليأخذ النصيب من فيضه سبحانه كل من على حسب شهوته و اختياره و إرادته لئلا يكون للناس على الله حجة ، اختلفت الموجودات بالشرافة والكثافة والقرب والبعد والتابعية والمتبوعية باختلافهم في التلبية والإجابة في التكوين والتشريع ، فمن لبى أولا توجه ذلك النور الأعظم والفيض الدائم الأقدم إليه فجلسه بالتلبية لديه فكان سراجا وهاجا قابلا لما يفاض عليه من فوارة النور وعارفا لما يلقى إليه من الأسرار والمعارف غير معوج الفطرة بل على الاستقامة الكاملة الحقيقية التي لا أكمل منها فيعرف بذلك جميع أسرار المبدأ والمعاد ويبلغ به منتهى المقصد والمراد فيتسع إليه جميع المرادات الإلهيه من الخلق على ما قال تعالى في الحديث القدسي (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))2 وهذا المؤمن هو أول من آمن بالله ولبى نداء إني أنا الله ، فبصفاء القابلية ونورية الطوية والسريرة التي يكاد زيتها يضئ ولم تمسسه نار عرف ما كيّف الله تعالى له من العلوم والأسرار بنفس تلك العلوم الحاصلة عند التلبية فسبق هذا العارف بمعرفته الحاصلة من الله سبحانه بصفاء قابليته المسببة عن سرعة إجابته لدعوة ربه الخلق كلهم في العلم والمعرفة ، وكذلك المراتب إنما اختلفت بذلك عند من يفهم الكلام ، فالإمام عليه السلام إنما نبه على السر لأهله بهذه الدقيقة بأني ما نلت هذه المرتبه وما فزت بهذه الدرجة لنسبة بيني وبينه تعالى سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وليس أنه خبرني بذلك كلا وحاشى وهو أكرم وأعظم من ذلك ولا أني مستـل في ذلك والله أجل وأعـم من ذلك

___________________

1 القمر 50                   2 البحار 58/39 ح 61

ليستقل في ملكه غيره ، و إنما هو منة من الله عليّ بالعطية  قبل الاستحقاق وأنا قبلت ذلك منه بتوفيقه ولولا قبولي لم أصل إلى ما وصلت ولولا عطيته لم أكن شيئا ولم أعرف حرفا فهو عز وجل كيف لي وأنا عرفت ما كيف، وإلا فالتكييف واقع وليس أنه سبحانه كيف لي من دون غيري و إنما هو تكييف وحداني سار في جميع الذوات ولكني عرفت ذلك دون الخلق كلهم فسبقتهم بالعلم والمعرفة واليقين على حسب قبولي وطاقتي , فالقبول له مدخلية تامة في وجود الشيء ولولاه لم يوجد كالانكسار للكسر ، ومن هذه الجهة سبق آدم على الملائكة لما علمه الله سبحانه الأسماء فتعلم وما قدرت الملائكة أن تتعلم من غير واسطة البشر فأمر آدم بإبنائهم إياها فتعلموا عن الله بواسطة آدم عليه السلام وليس ذلك إلا لتقدم آدم عليه السلام بالإجابة والتلبية وتبعية الملائكة إياه ولذا سجدوا له وتعلموا منه على ما تقتضي مرتبتهم وتطيق كينونيتهم وذلك لتقدم قابلية آدم عليه السلام على قابلية الملائكة ، وهذه القابلية لم تكن شيئا قبل وجود المقبول وإنما هي وجدت حين وجود المقبول بوجود المقبول كما ذكرنا ، وإلى هذه الدقيقة أشارعليه السلام بقوله (( ولقد كيف لي فعرفت وعلمني ربي فتعلمت )) فأثبت بذلك الأمر بين الأمرين وأبان عن وجه الجمع بين كل الكلمات المتنافية كما يعرفه أهله من أهل الاستيضاح والحجة .

 

         الأمر الخامس أشار بقوله عليه السلام (( وعلمني ربي فتعلمت )) أشار بالتعليم إلى تمكين القابلية وأنه من شرط وجود الشيء وهو من جهة الفاعل لا من جهة القابل فإن تحقق وجود الشيء يتوقف على أمور ، الأول الفاعل الثاني أثر فعل الفاعل الذي هو المقبول الثالث القابل الرابع نسبة  المقبول إلى القابل الخامس نسبة القابل إلى المقبول السادس تمكين القابلية لصلوحها لقبول فعل الفاعل كالنار المتعلقة للدهن للإستضاءة فإن الدهن بكثافته لم يستأهل لقبول النور والإستضاءة فالنار تكلسه وتلطفه وتزيل أوساخه تمكينا لقابليته واصطلاحا لها للقبول ، والمراد بتمكين القابلية تخلية السر ورفع الموانع بينه وبين أثر الفعل ، فإظهار العلم أي النور الوحداني النقطة الحقيقية التي كثرها الجاهلون هو رتبة المقبول والحدود المشخصة والظهورات المعينة الخاصة بذلك العلم ومكث ذلك العلم في تلك الحدود رتبة القابل ورفع الموانع وعدم الحيلولة بين العالم أي القابل المتسأهل للعلم، وعلمه الخاص به هو تمكين القابلية وهو المسمى في عرف العلماء بالتعليم ، وهذا التمكين الذي هو التعليم على أنحاء مختلفة و أطوار متشتتة ويجمع الكل الدليل لإراءة السيل ، فالدليل من تمام القابلية فما من الله سبحانه أولا وبالذات أربعة أمور لا دخل للعبد فيها شيء إن وجد في الشيء هذه الأربعة فيريده الفاعل سبحانه وإلا فلا ، واثنتان منها للقابل أي من الله سبحانه وتعالى بالعرض لا بالذات ولا تكملان إلا بتلك الأربعة ، وبالمجموع إتمام الشيء فلو أخل بواحد منها لم يحصل الشيء وهذا هوالسر في الأمر بين الأمرين وسر تعقب الأشياء بعضها عن بعض وسر الاختلاف مع تساوي نسبة الباري بكل مخلوقاته وسر الابتداء الزماني و انتهائه ، فإن الفيض الأول دائم قائم لا تعطيل له فلا يعرف له أول ولا آخر ولكن المفاض عليه في أصل تحققه أو لعدم استيهاله أول المرة لقبول الفيض يتقدم ويتأخر وكذلك ظهور الفيض فهم من فهم .

 

           الأمر السادس أشار عليه السلام إلى مقامه ومرتبته وفي التلقي في التكوين والتشريع فإن مقام الخلق مقامان ، الأول مقام الإجمال والإبهام والعماء واللاتعيين وهو مقام النقطة الحقيقية الغير متطورة بالأطوار الغير الظاهرة بالأنوار قد غشيها نور وحدة المبدأ وصفته وكينونته فزاغت عنها الأبصار وانحسرت دونها الأفكار وصفت عن كل الأكدار وزالت عنها كل غبر الأغبار فهي عماء محض ونور بحت ووجه الحق للأسماء ولها القيومية المطلقة لكن إذ لا متقوم فلا كيف في هذا المقام ولا حد ولا إشارة ، نعم له كيفية باطنية و إنية غيبية لا تميزها العقول ولا تكتنهها الأوهام ، الثاني مقام التفصيل والانبساط والتمييز والتعيين وظهور الآثار الفعلية ونشوء الأسماء الحسنى والصفات العليا وبروز التعلقات والأسماء المتقابلات ، ولا شك أن في الكون الأول لا وجود إلا لمحمد وعلي عليهما السلام ولا شك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الأفضل والأقدم والأسبق فيكون مقامه صلى الله عليه وآله وسلم مقام النقطة مقام الإبهام ومقام عدم التكييف ، ولا شك أن عليا عليه السلام هو التالي له صلى الله عليه وآله وسلم ولا فصل بينهما بشيء أبدأ وهو عليه السلام أقرب الأشياء إليه صلى الله عليه وآله وسلم والله جلّ اسمه سمّاه نفسه ، فيكون المقام الثاني مقام التفصيل والتّعيين والتّمييز والاختلاف مقام علي عليه السلام وهو قوله تعالى {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ}1 وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((ما اختلف في الله ولا فيّ و إنما الاختلاف فيك يا علي )) فمقامه عليه السلام مقام التّكيـيف والتّوصيف والانبساط ولذا قال عليه السلام (( ولقد كيف لي )) فهو عليه السلام في عالم الوجود المطلق في مقام الألف والنفس الرحماني الأولي والأزلية الثانية والسر المستسر بالسر ، وفي عالم الوجود المقيد من الخلق الأول خلق الأنوار في مقام النفس الكلية ، وفي الخلق الثاني خلق الأجسام في مقام الكرسي ، وفي مقام السموات في مقام القمر ، وهكذا مقامه عليه السلام كما ذكرنا مرارا في مقام الصفة وظهور الربوبية إذ مربوب كونا وعينا وهو مقام الانبساط والانتشار والتفصيل ولذا قال عليه السلام (( كيّف لي )) فإن التكييف توصيف وتحديد وإن كان يطلق على محض الصفة وحدها من غير كيف إلا أنه ليس من أصله وصفته وحقيقته بخلاف التوصيف فلو عكس الأمر لم يؤدّ هذا المؤدي فافهم وفقك الله لما يحب ويرضى و اشرب عذبا صافيا .

 

          الأمر السابع أشارعليه السلام بذكر المعرفة والعلم وتقدم المعرفة على العلم إلى الدليلين دليل الحكمة وهو المفيد للمعرفة وبه يعرف الله ويعرف ما سواه وهو دليل الكشف ومشاهدة الشيء على ما هـو عليه ولذا أتى عليه السلام بالكيف في مقام المعرفـة فـإن المعرفة إنما تحصل بالفؤاد كما قـال

___________________

1 النبإ 1 - 3

 

 

الصادق عليه السلام (( وإذا تجلى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المـحـبـة ))1الحديث ، والفؤاد محيط بكيفيات كل الأشياء وكلها تحت مقامه فيدركها على ما هي عليه بخلاف المشاعر الأخر إذ لا تخلو واحدة منها عن الكيف ، ويريد عليه السلام بالكيف ما هو أعم من الكيف الذاتي أي الصفة الذاتية والعرضية من الأثرية وغيرها ، والمعرفه قالوا في معناها أنها الادراك الثاني بعد الذهول عن الادراك الأول وقالوا ولذا لا يصح أن يطلق على الله العارف بخلاف العالم إذ ليس هذا الذهول شرطا في العلم كما في المعرفة ، وهذا الذهول إنما حصل في القوس النـزولي عند خطاب أدبر إذ في كل مرتبة عالية تغيب في الرتبة السافلة وتستجن فيها استجنان الشجرة في النواة ثم يعدم شعورها ويبطل حسّها إلى أن ترجع إلى مقامها في القوس الصعودي فهناك يحصل إدراك مقامها ومقتضياتها بعدما كان ذاهلا عنها ، ولما كان الإدراك التام والكشف الحقيقي والمعرفة الواقعية لا تحصل إلا إذا نظر بمشعر الفؤاد المحيط بكل المشاعر ونظر به إلى نور العظمة المنيرة لكل المراتب والمقامات فهناك يحصل له الإدراك التام بعد الذهول ولذا اختص الواقفون بذلك المقام والواصلون إلى تلك المرتبة باسم العارف ، وأما مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فهو و إن لم ينسى المراتب المتقدمة حين تنـزل لاستحالة السهو والنسيان في حقه في التكوين والتشريع لكن من جهة الالتفات في مقام يشغله شأن عن شأن قد يحصل له ذلك فإن النفس حال الالتفات من حيث الالتفات إلى النظر في المسألة الفقهية مثلا لا يمكن أن تكون ناظرة إلى المسألة الهندسية وإلا لم يشغلها شأن عن شأن والمفروض أنه ليس من صفتها ، وليس عدم الالتفات جهلا وإلا لم يكن عالما بشيء من الأشياء في الوجود وهو مكابرة وسفسطة ، وأما إذا كان النظر بعين الفؤاد فتكون الالتفاتات كلها واحدة فينظر بنظر واحد إلى الكل دفعة واحدة كالشمس الناظر إلى أشعتها المتكثرة لأن التلقي عن المبدأ لا يكون إلا بتلك العين وذلك النظر ، فعلى ما ذكرنا صحّ إطلاق اسم العارف عليه وعلى من معه في مقامه عليه السلام .

________________

1 مصباح الشريعة 119

           ودليل المجادلة بالتي هي أحسن وهو مفيد في العلم ولم يذكر عليه السلام ما يدل على دليل الموعظة الحسنة لعدم الحاجة إليه لأن الوسط يعرف ويذكر إذا ذكر أعلاه و أسفله لأن الطفرة في الوجود باطلة ، فتم بما ذكر عليه السلام العلم بالموجودات من العلوية والسفلية كلها من منّ الله تعالى عليه عليه السلام فإن الله عز وجل قد حصر الأدلة كلها في ثلاثة كما قال عز وجل {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}1فلو بقي علم في العالم أي ما سوى الله لم يقم الله سبحانه له دليلا يوصل الطالب إليه لما كان حكيما تعالى عن ذلك علوكبيرا، وقد نص أمير المؤمنين عليه السلام بأن الله عز وجل علمه مدلولات كل هذه الأدلة فقد أحاط بكل شيء علما {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}2 .

 

         ويريد عليه السلام بالرب هو المربي وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الحق جلّ وعلا ولا يكون إلا بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتي بيان كيفية هذا التعليم وسر هذا التفهيم إنشاء الله .

________________

1 النحل 125                      2 البقرة 255

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام ألا فعوا ولا تضجوا ولا ترتجوا

فلولا خوفي عليكم أن تقولوا جنّ أو ارتد لأخبرتكم

 

       اعلم أن الحق القديم تعالى وتقدس لم يزل في قدسه وأزليّته متفردا متوحدا لا شيء معه ولا غير عنده بل هو هو ولا يعرف كيف هو إلا هو ، ثم أنه سبحانه ظهر بالمحبة التي هي عين الظهورات فاحتوى الظهور جميع السبحات الإلـهية والشؤنات الربانية وكلما يمكن أن يظهر به بفعله وهذا الظهور أول الذكر وهوبإمكانه بحر لا أول له ولا آخر ولا نهاية له ولا بداية له إذ لو انقطع حتى يحصل الابتداء كان الأزل مقترنا بالفاصلة إذ العدم لا يصلح ، لا انفصال إذن ولا انقطاع ، والشيء مع لزوم الاقتران إن كان قديما يلزم تعدد القدماء و إن كان حادثا فبطل الفرجة والفاصلة حتى تحقق الأولية المسبوقة بالعدم ولقد شرحنا هذه المسألة في كتابنا اللوامع الحسينية عليه السلام من أراد الاطلاع على حقيقة الأمر فليرجع إليها ، وهذا الظهور وجهه الأعلى بحر ظهور الأحدية الواحدية ووجهه الأسفل بحر الإمكان الذي هو العمق الأكبر وهوالإمكان الراجح لجمعه كل شئونات الحق سبحانه قد خزنها فيه بيمنه يبديها لأنه كل يوم في شأن أي شئون يبديها لا يبتديها ، والوجه الأسفل من هذا الإمكان الراجح هو الوجود وهو محل تلك الإمكانات وموقع ظهور الهاء وهو وإن كان أضيق إحاطة من بحر الإمكان لكن لما كان أقرب الأشياء وأول السابحين في تلك اللجة كان بينهما كمال المناسبة والمشابهة وهو أيضا غير متناه التعلق مع ورود الشئونات الإمكانية من ظهورات الأسماء والصفات عليه فلا نهاية لعجائبه ولا غاية لغرائبه ولا يتكرر ما فيه بل دائم السيلان والإفاضة من بحر الوجود والوجود الإمكاني المستلزم لكمال التحيّر ، فكلما يمكن للأزل أن يظهر في الإمكان والأكوان كله دائما ترد عليه ولا نفاد لذلك ولا انقطاع وذلك البحر هو بحر العلم لأن العلم ليس إلا ظهور حقائق الأشياء شهودا ووصفا ، ولما كان ذلك الوجود أقرب الأشياء إلى المبدأ الحق الذي ظهر فيه علمه وسلطانه وجبروته وملكه وقدرته كان له جمال يتلألأ وبهاء يتشعشع فصار ذلك النور مبدأ وجودات لأهل الرتبة الثانية وهو نور واحد قد انقسم إلى الأقسام، وأنت تعلم أن الأثر وجه واحد من وجوه ظهورات المؤثر بل لو أردت حصر نسبة الوجه الواحد مع تلك الوجوه الكثيرة التي لا ذكر لشيء منها في ذلك الوجه الواحد لما قدرت أن تحصيها كثرة ، انظر إلى نسبة قيامك وحده مع سائر ظهوراته من قعودك وأكلك وشربك ونومك ويقظتك وحركاتك وسكناتك وسائر أطوارك وأوطارك من بدأ أمرك ووجود إلى منتهى أكوارك وأدوارك ، ولا شك أن القيام وحده فاقد علم كل تلك الأطوار والآثار والظهورات وليس عنده إلا محض الظهور بالقيام فلو رآك أحد متكلما يحكم عليك بصفة الكلام خاصة ولا يعلم أن لك صفة أخرى غيره ، فإذا أتقنت ما قلناه لك علمت أن نسبة المرتبة الثانية إلى المرتبة الأولى جزء من المائة ألف جزء من رأس الشعير وأستغفر الله من التحديد بالقليل ، فليس عند الثانية إلا رشح من وجه واحد من الظهورات والوجوه الغير متناهية التي لتلك الرتبة العليا الأولى بل ولا نسبة ، فلو أخبر أهل الرتبة العليا بشيء من تلك الوجوه أهل الرتبة الثانية لأنكروا وكفروا وقطعوا ببطلانه إذ لا يجدون ذلك عندهم ولا يمكن ذلك أيضا في حقهم فـتكون نسبة أهل المرتبة الأولى مع السفلى نسبة العالم المطلق إلى الجاهل المطلق ، ثم إذا أشرق نور من أهل المرتبة الثانية وظهر منه أثر فتحققت به الرتبة الثالثة وتحددت بحدود كثيرة وخلقت منها ذوات كثيرة ذوات شعور وإدراك تكون نسبتة الرتبة الثالثة إلى الرتبة الثانية نسبتها إلى الأولى فيكون ما عند الثالثة وجه واحد من وجوه الثانية الغير المتناهية وذلك الوجه أيضا رشح لا أصل وذات ، فانظر الآن نسبة الثالثة في العلم بالرتبة الأولى بل لا تتحقق نسبة ولا يعبر عن قلته بعبارة بل لا يفهم من تلك المرتبة وعلومها شيئا أصلا لا بالأصالة ولا بالتبعية ، وقد علمت المراد من هذه المراتب التي ذكرنا فإن بحر الإمكان الراجح هو المشيئة وبحر الوجود هو الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم والرتبة الثانية رتبة الملائكة الكرّوبيين والمقربين والأنبياء والمرسلين والرتبة الثالثة رتبة الإنسان ، انظر الآن إلى نسبة علم الناس إلى علوم أهل البيت عليهم السلام هل لهم علم معهم عليهم السلام وهو المراد بقوله تعالى {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}1  قال الشاعر:

      بئـر معطلة وقصر مشـرف         مثل لآل محمد مستطـرف

      فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى        والبئر علمهم الذي لا ينزف

 

         فلا ظهر من علمهم ذلك للخلق أبدا لا للأنبياء المرسلين ولا الملائكة المقربين فلا يذكرون عليهم السلام ذلك أبدا لأحد إلا أنفسهم بعضهم مع بعض كما قالوا عليهم السلام (( إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله أحد لا الملك المقرب ولا النبي المرسل ولا المؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان قيل فمن يحتمله قال عليه السلام نحن نحتمله )) فانقطع طمع الخلق كلهم عن هذا ولا يطمع في إدراكه طامع ، وهكذا نسبة كل رتبة إلى ما دونها وهذا لا سبيل له إلى الإظهار ولا يجوز ذلك بل لا يمكن أيضا إلا إذا انقلبت الحقائق فيكون التابع متبوعا والشعاع منيرا والفرع أصلا وهو باطل بالضرورة ، نعم بذلك العلم يتكلم بعضهم عليهم السلام مع بعض في الأمور المشتركة ، وأما في الأمور المختصة فيختصون عليهم السلام بحروف من العلم في باب التوحيد والمعرفة لا يتحملها بعض آخر منهم عليهم السلام كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يختص بحرف من العلم لم يعلمه علي عليه السلام ولا يتحمله وكذا علي عليه السلام بالنسبة إلى سيدنا الحسن عليه السلام وكذلك الحسن عليه السلام وبالنسبة إلى مولانا الحسين عليه السلام وكذلك الحسين عليه السلام بالنسبة إلى القائم المنتظر عجل الله فرجه عليه السلام وكذلك القائم بالنسبة إلى الأئمة الثمانية عليهم السلام وكذلك الأئمة الثمانية بالنسبة إلى فاطمة عليها السلام ، وذلك الحرف هو سر التقدم والتأخر فالمقدم عنده حرف يقصر عنه المتأخر في سر التوحيد ، و أما في الأحوال المتعلقة بالخلق فكلهم سواء ليس واحد منهم أعلم من الآخر في ذلك ، وكذلك علمهم عليهم السلام لم يظهر للأنبياء ولن يظهر أبدا كيف وقد ظهر لموسى عليه السلام قدر من مثقال الذرّ من نور علمهم عليهم السلام في الرتبة الثانية لكن

_____________

1 الحج 45

في أعلى مراتبها ما قدر أن يطيقه حتى وقع مغشيا عليه ، وأيوب لما ظهر له عليه السلام نور من صفة علم علي عليه السلام في رتبة أيوب ما قدر أن يصبر حتى شك وبكى وقال هذا أمر عظيم وخطب جسيم ، و آدم عليه السلام لما ظهر له سر علم القائم عليه السلام في مقامه تحير وتوقف وهكذا سائر الأنبياء فكيف يطيقون علمهم عليهم السلام ، لا ما يطيقون أبدا ولا يتحملونها سرمدا فلا يجوز لهم الإظهار بوجه أبدا ، وكذلك سر بواطن القرآن الظاهر في حجاب العالمين وإليه أشار ما قال سيد العابدين عليه السلام حجة الله على العالمين في الشعر المنسوب إليه عليه السلام شعرا :

 

     إني لأكتـم من علمي جواهره       كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

     وقد تـقدم في هذا أبـوحسن        إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

     ورب جوهر علم لو أبوح بـه        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا

     ولاستحل رجال المسلمون دمي      يرون أقبح مـا يأتـونه حسنا

 

وليس هذا النوع من العلم هوالمراد من قول أمير المؤمنين عليه السلام (( ألا فعوا ولا تضجوا .. إلخ )) وإن كان يمكن تطبيق هذه الأبيات على المراد ، وأما النوع فليست بمراد قطعا لأنه عليه السلام لا يظهر للخلق ما ليس في مقامهم ويشهد بما قـلت قوله عليه السلام (( لأخبرتكم بما كانوا وما أنتم فيه )) بل المراد هو العلم الثاني الواقع في السلسلة العرضية .

 

          وبيانه بالإجمال هو أن الله عز وجل لما خلق الإنسان جعل له ثلاثة خزائن لثلاثة علوم وهي كليّات تجمع الخزائن كلها والعلوم             بأسرها ، فالخزينة الأولى هي الفؤاد على مشاعر الإنسان وهذه خزينة واسعة لا نهاية لها وهي أشرف الخزائن وأصل الخزينة هي واحدة وبابها واحد ومفتاحها بيد الله سبحانه لا سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولكن في أطراف هذه الخزينة بيوتات متصلة بها أبوابها متصلة بتلك الخزينة الواحدة لا طريق إليها إلا من الباب الأعظم الذي مفتاحه عند الله سبحانه ومخزون في هذه الخزينة علم الحقيقة أي معرفة الله سبحانه ومعرفة حقائق الأشياء كما هي مما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( اللهم أرني الأشياء كما هي )) وفيها دليل  الحكمة ، والخزينة الثانية هي القلب ومفتاحه عند الملائكة العالين الأربعة الذين يستمد منهم جبرائيل وميكائيل و إسرافيل وعزرائيل والمفتاح الأعظم بيد الملك الأعظم روح القدس وهي خزينة واحدة مشتملة على أربع بيوت وهي القبة التي دخلها محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج وكان مفتاحها بسم الله الرحمن الرحيم ورأى فيها أربعة أنهار تجري من أربعة حروف من البسملة وفي هذه الخزينة علم الطريقة وتهذيب الأخلاق والعلوم المعنوية والأحكام اليقينية والمعاني الكلية ولتلك الخزينة حجرات كثيرة كل مسألة منها موضوعة في حجرة منها ومقفل عليها بقفل من النور وموكل عليها ملك خاص بها ، والخزينة الثالثة هي الصدر إلى الجسم وهذه الخزينة مشتملة على أبواب وبيوتات كثيرة وحجرات عديدة لكن أبوابها يجمعها عشرون بابا وبيوتها ثلاث مائة وستون بيتا وحجراتها لا تحصى كثرة ومفتاحها بيد إسرافيل وعزرائيل وفيها علم الشريعة وعلوم الصور المجادلات بالتي هي أحسن كل مسألة من مسائلها في حجرة من الحجرات مقفلة بقفل من الفضة والحديد وموكل عليها ملك من الملائكة الخاص بها ، والعلوم كلها ترد عليه من الخزائن الثلاثة المذكورة والشخص في القوس النـزولي لما تنزل إلى الجماد ثم أخذ في القوس الصعودي فمهما وقف في موقف من هذه المواقف الثلاثة احتجب عن العلوم المخزونة في الخزانة التي هي أعلى منها ، فإذا ورد عليه شيء من العلوم المكنونة في تلك الخزينة العليا التي بابها قد انسد عليه ولم يفتح له ولم يشاهد ملكوت ذلك العالم يبادر بالأفكار ويسرع إلى الرد والإبطال ويلج في العناد والجدال ، ولما كان الناس في الأغلب واقفين على باب الخزينة الثالثة ولم يملكوا الباب ولم يأخذوا المفتاح بل إذا ورد عليهم شيء يقفون بقابلية عملهم وفكرهم على باب تلك المسألة الخاصة ويلتمسون فتحها ، فإذا أراد الله عز وجل تفهيمهم إيّاها خاصة أمر الموكل على ذلك الباب بفتحه فيعلمونها وهكذا ، والذين ملكوا المفتاح لمن القليلين ولم يبلغوا إلى الخزينة الثانية العليا وإن وصلوا وبلغوا إليها لم يستقروا فيها ، ولما كان وقوفهم في هذه المواقف السفلية إذا ذكر لهم شيء من أسرار الولاية الظاهرة في مولانا علي عليه السلام أوسائر الأئمة عليهم السلام أو سر حقيقة من حقائق الكون ، مثل ما إذا قيل لهم أن الألفاظ كلها حقائق لا مجاز فيها وأنّ القابليّات مساوقة للمقبولات في الظهر ومتأخر عنها في الوجود وأن الخلق كلهم أمثال و أدلة بعضها على بعض وأن الوجود كله نقطة واحدة قد ظهرت بأطوار وأكوار وأدوار و أن كل شيء فيه بيان كل شيء وأن الأشياء يدور عودها على بدئها وبدؤها على عودها وأن جميع الخلق كرات مستديرة صحيحة الاستدارة ومع ذلك شكلان مخروطان متوازيا السطحين وما انوجد شيء في التكوين والتشريع في الذات والصفة إلا بالاختيار وأن كل ذرة من ذرات الوجود ما وجدت إلا بالولادة بالنكاح الصحيح على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأمثال ذلك من أسرار المشتقات والمبادئ واسم الفاعل واسم المفعول ومقامات المسمى في الاسم وسائر ما لم يجر على قلمي ولم ينطق به فمي من أسرار الوجه السفلي من الخزينة العليا لبادروا إلى الانكار ولقد أخبر الله عز وجل عن حالهم بقوله تعالى {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}1 هذا حال من لم يصل إلى تلك المرتبة ، وأما الواصلون أيضا فتختلف أحوالهم لأن تلك الخزينة تمتلئ على قدر سعتها فكلما تتسع يكثر النور فيها فتزيد المعرفة وهذا الاتساع إنما يكون بكثرة المرور عليها وقلته وشدة الإخلاص والتوجه في العمل وقلته فكلما ازداد نورا وضياء ازداد معرفة وعلما بخلاف الآخر الواقف في مقام التكوين فإنه لم يبلغ مقام الزيادة وهكذا ، فلم يزل الخلق تختلف علومهم بشدة سيرهم وضعفه وقوة طلبهم وعدمها إلا أن الواصلين إلى تلك الخزينة ارتفع عنهم الإنكار وخلص عملهم التسليم والانقياد إذ شاهدوا عيانا قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُم مِّن

_______________

1 الأحقاف 11

 

 

 

 

الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}1ومن هذه الجهة قال أمير المؤمنين عليه السلام (( اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشيـة في الطوى البعـيدة ))2 وقال مولانا الصادق عليه السلام (( ما كل ما يعلم يقال ولا كل ما يقال حان وقته ولا كل ما حان وقته حضر أهله ))3 وقال أمير المؤمنين عليه السلام (( ما كل العلم يقدر العالم أن يفسره فإن من العلوم ما يحتمل ومنه ما لا يحتمل ومن الناس من يحتمل ومنهم من لا يحتمل )) وقال سلمان لعلي عليه السلام (( يا قتيل كوفان والله لولا أن يقول الناس وا شوقاه رحم الله قاتل سلمان لقلت فيك مقالا تشمئـز منه النفـوس )) إلى قـوله (( وأنت قصة أيوب ))4 الحديث وأمثالها من الأخبار كثيرة والوجه واضح ظاهر .

 

         وأما المؤمن الممتحن الذي شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه وهداه للإيمان إذا ورد عليه شيء من ذلك إن عرفه فهو المطلوب والمنى و إن لم يعرفه يسهل عليه التصديق ولا يستنكف أن يقول لا أعلم ويسلم ولا يعترض فبقدر التسليم يوفقه الله للفهم والمعرفة القطعية الغير المشوبة بشيء من الشكوك والشبهات حتى لا يرتاب والناس في ريبهم يترددون وهم في كمال الراحة في دنياهم و آخرتهم ولذا ترى أحاديث أهل البيت عليهم السلام مشحونة بأن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان وفي رواية أخرى ومدينة حصينة قيل وما المدينة الحصينـة قـال عليه السلام القلب المجتمع ، وقال عليه السلام في وصفهم (( المتّبعون لقادة الدين الأئمة الهادين الذين يتأدّبون بآدابهم وينهجون نهجهم فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان فتستجيب أرواحهم لقادة العلم ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم ويأنسون بما استوحش منه المكذّبون وأبـاه المسرفون أولئك أتباع العلماء صحبوا أهل الدنيا بطاعة الله

________________

1 الإسراء 85             2 البحار 35/4 ح 2     

3 البحار 53/115       4 البحار 26/292

تبارك وتعالى وأولياءه ودانوا بالتقيّة عن دينهم والخوف من عدوّهم فأرواحهم معلّقة بالمحل الأعلى فعلماؤهم وأتباعهم خرس صمت في دولة الباطل منتظرون لدولة الحق وسيحق الله الحق بكلماتـه ويمحق الباطل ها ها طوبى لهم ))1 الحديث .

 

         فتمحض لك من هذا الكلام أن العلوم كلها مما يتعلق بها الإدراك لمن هو تحت المشيئة على أربعة وجوه ، وجه منها يعم الكل من أهل تلك المرتبة أدناها وأعلاها وأسفلها ، وفي مقام الافتراق والاختصاص والامتياز يختص به الأدنى والأسفل من أهلها ، والعالي إذا نظر إليه فإنما هو بعد تنـزله بظهوره ونوره أو بتطوره وشئونه إلى الأسفل وهو الوجه الظاهر المشتمل على اللب والقشر وقشر القشر المعبر عنها بالوبر والصوف والشعر كما في قوله تعالى   {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }2 .

 

        والوجه الثاني منها ما يختص به الخواص من أهل الباطن في علم الأسرار الباطنية اللدنية كما في مقام الإنسان معرفة أن الصلاة هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والزكاة هي البراءة من أعدائه والشجرة طيبة والكلمة الطيبة والمثل الأعلى والكتاب المبين والآيات والصراط والقسطاس المستقيم وسبيل الله علي عليه السلام والطيّبون من أولاده والصديقة الطاهرة عليها السلام ومقابلات ما ذكرنا لمقابليهم ومعانديهم ، ومعرفة أن إطلاق هذه الألفاظ عليهم عليهم السلام ليس من باب المجاز لقوة المناسبة ودلالة القرينة وإنما هو من باب الحقيقة الأولية وإطلاقها على المعاني المعروفة مـجاز على الحقيقة وحقيقة على المجاز .

 

          والوجه الثالث منها ما يختص به الخصيص من أهل باطن الباطن الذين قد وقفوا مقام نقطة العلم التي كثرها الجاهلون وفرقوا بين الفعل اللازم والفعل المتعدي فعرفوا معنى اسم الفاعل وكيفية اشتقاقه من المصدر و اشتقاق

_____________

1 الكافي 1/335                     2 النحل 80

المصدر من الفعل وكيفية انبعاث الفعل إلى سبعة أطوار من الماضي والمضارع والأمر والنهي والجحد والنفي والاستفهام ، وتطور كل من هذه السبعة إلى أربعة عشر طورا ، أو انبعاث الفعل إلى تسعة لتجعل الاسم الفاعل واسم المفعول مما انبعث عنه و إن كان بواسطة المصدر ، فظهر لهم حقيقة شكل المثلث المشفوع بالمربع المستخرج منه شكل الاستدارة والمخروط فرأوا ظهور الجميع في اليد فلاحظوا الخمس الأصابع في العقود الأربعة عشر فاستنطق لهم منها كلمة كن فعرفوا بذلك اسم عليعليه السلام لا معناه بملاحظة ما هو الحق المقرر في الأسماء إن الحرف الأول من الاسم عليه المدار وباقي حروف الاسم شرح لإجمال ذلك الحرف ولذا قال في قصيدته شعرا :

      حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها       عن ميم مركزها بذات الأجرع

      علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت   بين المعـالم والطلوع الخضـّع

 

   ولا تتوهم أن مرادي من هذه الكلمات اللغز والتعمية وإنما أردت بها حفظ السر على ما قال الشاعر :

     ومستخبر عن سر ليلى أجبتـه        بعمياء من ليلى بلا تـعيـين

     يقولون خبرنا فأنت أمينـهـا        وما أنا إن خبرتهم بــأمـين

 

        و أهل هذه المرتبة هم المؤمنون الممتحنون الذين يتحملون أسرارهم كما في أخبارهم عليهم السلام .

 

         والوجه الرابع ما يختص به من شاءوا وأرادوا عليهم السلام بإرادة خاصة من الخصيصين وليس هذا لهم مهما أرادوا أو طلبوا بل إنما هو لفضل وعطية يمنون به على من سبقت له من الله الحسنى وبذلك تتفاضل درجاتهم وإليه الإشارة في قولهم عليهم السلام (( إن حديثنا صعب مستصعب شريف كريم ذكوان ذكي وعر لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبـي مرسل ولا مؤمن

 

 

ممتحن ، قلت : فمن يحتمله جعلت فداك ، قال عليه السلام : من شئنا ))1 وهؤلاء ممن تعلقت بهم عناية خاصة من الله بهم لأن الله سبحانه يؤتي كل ذي فضل فضله، والعلوم كلها لا تخلو من هذه الأربعة .

 

       ولما كانت المراتب الطولية ثمانية كما ذكرنا مرارا تكون مراتب العلم بملاحظة هذه الأربعة في تلك الثمانية اثنين وثلاثين مرتبة و إن أضفت عالم المشيئة إلى المراتب الطولية وجعلتها عالما مستقلا تكون المراتب ستة وثلاثين و إن ثلثت هذه المراتب الأربعة كل مرتبة منها بملاحظة الأعلى والأوسط والأسفل تكون اثني عشر مرتبة ، فإذا لاحظتها مع الثمانية تكون ستة وتسعين ، ومع التسعة تكون مائة وثمانية ، وفي الاثني والسبعين منها للإنسان فيها حظ والباقي يخلص لغيره من المراتب العالية ، وكل هذه المراتب التي للإنسان بالنسبة إلى الدائرة المحيطة بها كالنقطة في الدائرة العظيمة ، وكل مرتبة إذا نسبتها إلى الرتبة التي تقابلها تتسع الدائرة وتنفرج الكرة وإن كانتا في النوع متساويتين لكن ما عند العالي أوسع مما عند السافل بما لا نهاية له وإلى هذه الدقيقة في باطن الأمر ولب السر أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث زينب العطّارة إن الأرض بما فيها ومن عليها بالنسبة إلى الأرض الثانية كحلقة ملقاة في فلاة قيّ وهكذا إلى الأرض السابعة وإلى البحر وإلى الثرى كل واحدة بالنسبة إلى الأخرى كحلقة ملقاة في فلاة قيّ ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم  والثرى ومن عليها ومن فيها بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة ملقاة في فلاة قيّ والمجموع بالنسبة إلى السماء الثانية كحلقة ملقاة في فلاة قيّ وهكذا إلى الكرسي وهو وما فيه بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة قيّ .

 

        ويريد صلى الله عليه وآله وسلم بالحلقة في فلاة قيّ النقطة في الدائرة وهذا هو حكم كل سافل بالنسبة إلى عاليه وهوكما ذكرنا لك من نسبة المراتب بعضها مع بعض، وستة من هذه المراتب حظ العوام وبها يتخاطبون

________________

1 بصائر الدرجات 22

ويخاطبون ولا يراد منهم في مقامهم غيرها، والباقي حظ الخواص والخصيص فتختلف أحوال العوام عند استماع تلك المراتب فهم فيها بين عارف بكلفة شديدة ودقة عظيمة وبين مجوّز لها على جهة الرجحان مع احتمالهم خلافها وبين محتمل غير منكر وبين منكر وبين مكذب حاكم للقائل بالفسق وبين مكذب حاكم للقائل بالكفر مع قبول التوبة وحاكم بالكفر والارتداد مع عدم قبول التوبة، وتختلف أحوالهم في مراتبهم في أنفسهم ومراتبهم في مراتب   العلوم .

 

      ولكل رأيت منهم مقاما            شرحه في الكلام مما يطـول

 

         فإذا عرفت ما سطرنا لك عرفت مراتب الخلق ومقاماتهم في العلوم فلا يشتبه عليك شيء من أحوالهم ووقوفهم في مقاماتهم ومواقفهم إن سددك التوفيق وقادك التأييد ، ولما كانت العناية الإلـهية جرت في اصطلاح القوابل السفلية وتمكينها لتحمل الأنوار العلوية المشرقة من شمس فلك القدرة بإنضاجها وطبخها لتتقوى لها وتتهيأ لتحملها وإلا لاحترقت لأن ما من الفاعل في غاية الحرارة وما من القابل في غاية البرودة واليبوسة فلو ألقيت الحرارة على البرودة دفعة واحدة على حد الكمال لأفنتها وعدمتها وأحرقتها فلم يتحقق الشيء فلا بد من إلقاء الحرارة شيئا فشيئا حتى يحصل النضج وتتحقق المناسبة التّامة بين تلك القوابل وتلك الأنوار حتى تكون صابرة ومتحملة عند إشراقها عليها ، وبرهان هذا على التفصيل في العلم المكتوم سيّما عند ظهور القاضي الذي هو الأنفحة باصطلاحهم أي النوشاذر إذ في أول الأمر يوقدون تحته نارا حرارتها كحرارة جناح الطائر ثم يزيدون في النار كل يوم ضعف ما كان في اليوم الأول إلى سبعة أيّام فتبلغ الحرارة في اليوم السابع إلى مقدار حرارة نار السبك، فلو كانت الحرارة الحاصلة بعد السبعة في اليوم الأول لاحترق الثفل وفنى ذلك تقدير العزيز العليم .

 

 

 

          و إذا فهمت هذا فاعلم أن عالم الشهادة آيات و أمثال لما في عالم الغيب كما قال عز وجل {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}1 ‏فكما أن في عالم الأجسام لم يتحقق إلا بحلّين وعقدين ففي الحل الأول والعقد الأول الغلبة والاستيلاء للرطوبة والبرودة والحرارة ضعيفة مغلوبة ، وفي الحل الثاني والعقد الثاني بعكس الأول بل الاستيلاء والغلبة للحرارة واليبوسة والبرودة والرطوبة ضعيفة مغلوبة ، فكذلك الأمر في خلق الأرواح وقد قلنا سابقا أن الذين خلقوا على الصورة الإنسانية على ثلاثة أقسام ، أحدها من خلق ظاهرهم وباطنهم على الصورة الإنسانية وهؤلاء الخصيص والخواص على اختلاف مراتبهم ، وثانيها من خلق ظاهرهم على الصورة الإنسانية وباطنهم أي روحهم على الصورة الشيطانية من صور البهائم وحشرات الأرض وهؤلاء المعاندون من الكفار والمنافقين ، وهاتان الطائفتان قد قضيت لهم الأمور وصبغوا على ما قبلوا من فيض الفيّاض فلا يكون هؤلاء من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء ، وثالثها من خلق ظاهرهم على الصورة الإنسانية وباطنهم بعد لم يخلق و إنما هو ساذج قابل للطرفين حيث غلبت عليهم الرطوبات البلغمية فثقلت مداركهم عن استماع الأمر الإلـهي حتى يقبلوا أو ينكروا وهؤلاء العوام الذين لم يذوقوا حلاوة المحبة ولم يردوا ماء المعرفة ، ولما كان الأنبياء والرسل والكتب والأوصياء والعلماء إنما هم لتتميم قوابل الأرواح وتمكينهم للنصح والإصلاح ليستأهلوا للخطاب ويصاغوا بعد الخطاب بما نطق به الكتاب ، ولقد قلنا أن هذا التمكين لا يحصل إلا بالحلين والعقدين ، جرت عادتهم عليهم السلام مع العوام بذلك إن لم يكونوا من المعاندين فإن كانوا قاطعين عالمين بشيء بالجهل المركب وهو غير مطلوب منهم بالكينونة الأولية وهم لا يعلمون ذلك فأولا يوردون عليهم السلام عليهم عليهم السلام ما يبطل به قطعهم ويقينهم وينزلونهم منـزلة الاحتمال والتجويز هذا أول الحل الأول ، ثم بعد ذلك ينـزلونهم إلى مقام الشك عما كانوا قاطعين به وهذا تمام الحل الأول وعقده ، ثم بعد ذلك

________________

1 فصلت 53

يظهرون عليهم السلام لهم الحق الواقعي على جهة البرهان اللائق بهم وهوالحل الثاني ، ثم يلزمونهم عليه وهو العقد الثاني ، فإذا تتبعت كلماتهم عليهم السلام وسلوكهم مع العوام من هذا القسم لا تجد إلا كما ذكرنا ولقد أوضح مولانا الصادق عليه السلام الأمر كما شرحت لك في احتجاجه مع ذلك الزنديق الشامي حتى جعله بتوفيق الله مؤمنا خالصا وهو مذكور في الكافي في أول كتـاب التوحيد ، وكذلك فعل الله سبحانه مع المنكرين للبعث حيث قالوا {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}1قال الله عز وجل {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}‏ فتنـزلوا منـزلة الاحتمال والتجويز حيث قالوا {مَن يُعِيدُنَا} فقال الله {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } تنبهوا و احتملوا وجوزوا ذلك ثم سألوا عن وقته كما أخبرهم عنهم سبحانه { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}‏2 ، وهذا هو نمطهم وديدنهم عليهم السلام مع المخالفين الغير المعاندين و إن كانوا جهالا لا يعلمون ما يريدون عليهم السلام أن يلقوا إليهم ويعلمونهم فكما فعل أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقام فقال عليه السلام (( ألا فعوا ولا تضجوا ولا ترتجوا )) لأنه عليه السلام أراد أن يلقي إليهم أسرار الولاية الظاهرة في كينونات ذواتهم المخزونة في أعلى مراتب قلوبهم وأفئدتهم وهم في مقام الجسم واقفون وبباب الجدال والقيل والقال لائذون فأمرهم بالوعي وعدم الاضطراب وفي هذا تمام الحل الأول في الخلق الأول ، لأن ما ألقي إليهم من أسرار هذه الخطبة هو نار وجعلها الله في الشجر الأخضر الشجرة الزيتونة التي ليست بشرقية ولا غربية وبهذه النار نضجت ثمار الجنة التي هي علوم الولاية ، ولما كانت القرائح جامدة والطبائع خامدة وغلبت الرطوبات الباردة وخفيت بل انطفت الشعلات الغيبية الواردة فلا يمكنها الصعود إلى الدرجات العالية جعل عليه السلام في روعهم قبسة من قبسات الـنور على جبل الطور الظـاهرة في الشجرة المذكورة فأمرهم بعد

__________________

1 الإسراء 98                  2 الإسراء 50 - 52

الإلقاء بوعيها وحفظها بالسكون والاطمئنان لتستقر تلك الشعلة وتجفف الرطوبة فلو اضطربوا وارتجوا واستغربوا واستبعدوا تفتح مسام القابلية فتخرج حرارة تلك الشعلة من خلالها فلا تؤثر فيها ولا تنضج القابلية بها، ومن هذه الجهة كثرت الثلوج في فصل الشتاء وانسدت المسام لتوجه الحرارة إلى الباطن وتستخن القوى والجوارح بها لتمام نضجها وطبخها وإلا لفسدت القوى و اضمحلت الأشياء ، فأول باب المعرفة والحكمة القبول والانقياد والسكون والاطمئنان، فلولا السكون لم يستقر القبول ولولا القبول لم ينفع السكون بل لم يتحقق وهذا الاستيهال لإفاضة الفيض على تلك القوابل الباردة الفاسدة ، وإلى هذا الإشارة بقوله عز وجل {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}1 فذكر سبحانه وتعالى لتحقق الإيمان أمرين ، أحدهما الأخذ من علي عليه السلام لا غير ، وثانيهما عدم الحرج والاضطراب بل التسليم والتصديق فيهما يتحقق الإيمان الذي لما تجسد في عالم الأجساد والأجسام ظهر بالصورة         الإنسانية ، فبالأمرين يتم نضج طبيعة الإيمان ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام على ما في الكافي (( إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا ))2 الحديث ، فجعل عليه السلام التسليم هو أول باب المعرفة واليقين فلا يكمل اليقين ولا تتم المعرفة ولا تستقر الحكمة إلا به ، والتسليم كما فسره عليه السلام هو استماع الحق ووعيه بإذن قلبه وعدم اضطرابه وعدم القول فيه لم وكيف و أين وعلى بل لا يجد في نفسه شيئا ويسلم الأمر لأهله ، فإن وجدوه أهلا أبانوا له وكشفوا عن الحقيقة له فسيعرف بما عرّفوه إياه وإلا فلا يطلب ما ليس له بمصلحة ، فالمؤمن المخلص هو المسلم وهو الذي يعرف بحقيقة الإيمان أن الخلائق بأسرها عند آل محمد عليهم السلام كالدرهم في يد أحدكم وهم عليهم السلام

___________________

1 النساء 65                       2 الكافي 1/181

مطّلعون بجميع أحوالها وأطوارها وأوطارها ، فإذا ورد على أحد من الخلق حديث من أحاديثهم عليهم السلام فهم الذين أجروه على لسان القائل وسببوا الأسباب حتى أصغى إليه المخاطب أو نظر إلى المكتوب لحكم ومصالح اقتضت ذلك ، فإذا اقتضت الحكمة أن يعرفوه هيئوا له أسبابها على مقتضى ما يريدون بمقتضى استدعاء الدواعي وإن اقتضت إنكاره مع أنه هوالحق في الواقعي الأولي لا النفس الأمر الذي هو الواقع الثانوي سببوا له أسباب الإنكار إما بأحاديث أخر تعارضه أو بأدلة عقلية أو بإجماع وشهرة وإشارة في لحن الخطاب وفحواه ومفهومه وأمثال ذلك ، وإن اقتضت الجهل به في حقه أبقوه على حاله فلا يذكرون له معارضا ولا يجعلون قرائن وأدلة موضحة ففرضه حينئذ التسليم والرد إلى أهله والوقوف عنده والعمل بما استقر عليه المذهب ودلت عليه الأخبار المحكمة ولا يخوض في لجج المتشابهات ولا يطرح الأخبار ولا ينكرها فإنّ صاحبها أولى بها لعلهم أرادوا بها ما لا يخالف المذهب ونحن لا نعرف ولا ندرك وجه التطبيق وهذا هو سلوك سبيل الرب ذللا ، فإذا واظب بالذي ذكرنا وتحقق الذي سطرنا وآمن قلبا بالذي قلنا فهو المؤمن الممتحن وقد دخل البيت من بابه ويفتح له إنشاء الله أبواب الحكمة ويرزق المعرفة ولكن الموفقين لهذه المعرفة قليلون ، ومن هذه الجهة تراهم في كل واد يهيمون حيث أعرضوا عن أئمة الهدى عليهم السلام بلسان أعمالهم وأرادوا فتح باب الشريعة بعقولهم ومداركهم فضّلوا وأضلّوا كثيرا وضلّوا عن سواء السبيل .

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام ولولا خوفي عليكم

أن تقولوا جنّ أو ارتد

 

        وإليه الإشارة ما روي عنهم عليهم السلام (( لم يبلغ الرجل كمال الإيمان حتى يشهد ألف صديق بأنه زنديق )) وهذا الحديث ما روي مسندا في كتاب من الكتب المعروفة ولكني وجدته في حاشية من حواشي بعض الكتب مرسلا ومقطوعا ، لكن تعاضدت الأخبار ويشهد بصحته صحيح الاعتبار وقوله عليه السلام (( لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما فما ظنكم بسائر الخلق ))1دليل على ذلك ، وكذا في قول علي ابن الحسين عليهما السلام .

 

      ورب جوهر علم لو أبوح بـه        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

      ولاستحل رجال المسلمون دمي     يرون أقبح ما يأتونه حسنا

 

        وكذلك قوله عليه السلام (( لوعمل سلمان عمل المقداد لكفر ولو عمل المقداد عمل سلمان لكفر )) وقول الصادق عليه السلام لمحمد بن هلال وإلى المدينة في سر حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّا عليه السلام لكسر الأصنام إلى أن قال عليه السلام ما معناه (( لو أني بيّنت لك ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حمل علي عليه السلام لقلت جنّ جعفر بن محمد )) الحديث .

 

         وقول سلمان لعلي عليه السلام (( يا قتيل كوفان لو قال الناس واشوقاه رحم الله قاتل سلمان لقلت فيك مقالاتشمئز منه النفوس لأنك حجة الله الذي به تاب على آدم وبك أنجى يوسف من الجب وأنت قصة أيوب وسبب تغير نعمة الله عليه ، فقال عليه السلام : أتدري ما قصة أيوب وسبب تغير نعمة الله عليه ، قال : الله أعلم وأنت يا أمير المؤمنين ، قال عليه السلام :

______________

1 الكافي 1/401

لما كان عند الانبعاث للنطق شك أيوب في ملكي  فقال هذا خطب جليل  وأمر جسيم قال الله عز وجل : يا أيوب أتشك في صورة أقمته أنا إني ابتليت آدم عليه السلام بالبلاء فوهبته له وصفحت عنه بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين وأنت تقول خطب جليل وأمر جسيم فوعزتي لأذيقنك من عذابي أو تتوب إلي بالطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام ثم أدركته السعادة بي ))1و أمثال هذه من الأخبار كثيرة ، وليس معنى شهادة ألف صدّيق بأنه زنديق أنه يظهر منه كلمات توجب ذلك حاشاه لأنه من أهل السر وهو بنور التوسم يعرف المتحمل عن غيره فلا يذيع سر أهل البيت عليهم السلام المأمور بكتمانه عند غير أهله فلم يبلغ إذاً كمال الإيمان فإن مخالفتهم عليهم السلام في إذاعة سرارهم من أفسق الفسق كما دلت عليه الأخبار المتكثرة ، فلا يراد منه أن المؤمن البالغ في الإيمان حد الكمال يظهر تلك الأسرار بل المراد أن عنده ما لو أظهره للناس لشهد ألف صدّيق بأنه زنديق حيث ينزه الحق سبحانه عن كل أوصافهم وهم إنما أثبتوا تلك الأوصاف زعما منهم بأن الربوبية لا تكون بغيرها والذات الكاملة يمتنع أن لا يكون لها صفات كمالية فإذا وجدوا عنده

مخالف معتقدهم وأنه سبحانه منزه عما يقولون قدّروا بأنه كافر زنديق مع أن

_______________

1 البحار 26/293

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قـوله هو الحق والله عز وجل يقول {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}1 ، فإذا أتى العارف الكامل البالغ وقال أنه سبحانه منزه عن التنزيه وليس مقام التنزيه مقام التوحيد فقدّر أهل التنزيه بأن ذلك كفر وزندقة ، وكذا إذا ذكرت لأهل هذه المرتبة ما لا ينطق به فمي ولا يجري به قلمي يقدّرون أن هذا تشبيه وكفر بل يحكمون علي السفاهة والجنون كما قال روحي فداه ، فإن العقل وقواه وجنوده ومشاعره ومداركه وكل الآلات البدنية والقوى الروحانية لم تبلغ تلك الدرجة والفوز بتلك الأسرار وإنما هو سر بينهم وبين بارئهم في مكمن الغيب على سرير الحب فلا يسع ذلك المقام ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فإن أقصى مقامات النبوة مقام العقل والملائكة من إشراقاته وعكوسات أنواره وحوامل ظهورات آثاره، وذلك المقام ينحط دونه مقام النبوة والملائكة ، والمراد بالنبوة مطلقا في كل مقام بحسبه من الكلية والجزئية فإن عقل كل أحد نبي بالنسبة إليه كما دلت عليه الروايات المتكاثرة فإذا خرج ذلك السر عن مقتضى العقل و إنما ظهر بطور الشهود في عالم اللانهاية من غير مستقر البداءة في مقام النقطة السرمدية الجامعة بين النفي والإثبات والجمع والتفريق الجامعة للمتفرقات المفرقة للمجتمعات فيحكم على الليل بأنه نهار في عين كونه ليلا وبالعكس ، فيحكم العاقل الواقف في مقام العقل بأن ذلك جنون وسفاهة لكونه خارجا عن مقتضى العقل وليس لذلك الواقف سبيل إلى ما رواه ليحكم بأن ذلك حقيقة وما حكم به العقل وما دونه من المشاعر بالنسبة إليه مجاز فيحمل على السفاهة والجنون فيرون أقبح ما يأتونه حسنا ، ومن هذه الجهة بقيت العلوم كلها مكتومة لأن الإنسان الأكبر الذي هو العالم في القوس الصعودي وصل إلى مقام البهائم والحيوانات مقام النفس الأمارة بالسوء وقد تسلطت النفس  وأغلب أهل الدنيا في ذلك المقام واقفون وبذلك الباب لائذون فلا يسعهم إدراك تلك المقامات والوصول إلى تلك الدرجات فلا يقبلون من الواصلين ولا يقبلون من الكامل وهوقول

_______________

1 الصافات 180

 

مولانا الحجة المنتظر عجل الله فرجه في بعض توقيعاته (( لا لأمر الله تعقلون ولا من أوليائه تقبلون حكمة بالغة فما تغن النذر ))1نعم إذا بلغ في القوس الصعودي مقام البلوغ الذي هو رتبة العقل فهناك يكمل إدراكه وتقوى مشاعره فيستغني كل عن علم صاحبه كما قال مولانا علي عليه السلام ثم قال عليه السلام وهذا تأويل قوله ‏{يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ}‏2 ، فهناك تبدو الأسرار وتفشو الأخبار فلا ينكر أحد علم صاحبه لأن هناك وإن كان مقام العقل لكن فيه نور الفؤاد .

 

        ثم اعلم أن الممكن لما لم يتم له الوجود إلا بالتركيب وهو لا يتحقق إلا من ضدين جرت الحكمة الإلهية أن يكون لكل شيء ضد كما قال الرضا عليه السلام (( لم يخلق فردا قائما بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه ))3 وهو قـوله تعالى {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}4 وهذا يقتضي أن يكون كل حق يقابله باطل في مقامه وإن كان في عالم الشهود يكون ضده فيه وإن كان في عالم الغيب فكذلك أيضا ، وقد عرفت سابقا أن الخزائن العلوية مهابط الأنوار القدسية من الملكية والملكوتية والجبروتية ثلاثة ، فكذلك الخزائن السفلية في مقام التقابل على العكس ، فالخزينة السوأى السفلى في مقابلة الأعلى في تحت الثرى فيها من أحكام الإنكار وتلبيس الباطن على الحق بقدر ما في الأولى الأعلى من المعرفة والمحبة وإظهار الحق ، والخزينة السوأى السفلى في مقابلة الثانية في الثرى وفيها من أحكام الشكوك والظنون والوساوس بقدر ما في مقابلها من اليقين ومفتاحها بيد الجهل ، والخزينة السوأى السفلى في مقابلة الثالثة الأعلى في الطمطام أو جهنم وتمتد إلى الأرض الثانية أرض العادات ومفتاحها بيد الشياطين الثلاثة ، ولا منزلة ولا واسطة بين الحق والباطل فماذا بعد الحق إلا الظلال ، والإنسان لقلبه عينان وأذنان فباليمنى ناظر إلى العليا وباليسرى ناظر إلى السفلى فإذا

_________________

1 البحار 53/171                    2 النساء 130

3 عيون أخبار الرضا 1/176         4 الذاريات 49

أعرض عن النظر إلى الحق في العليا فلا بد أن ينظر إلى السفلى فإذا مال إليها و استقر ميله و استمر وعمل بمقتضاه وقلل الأكل والشرب وسائر المقتضيات من الرياضات المقررة عندهم اتصل بأولئك الشياطين على مقتضى عمله فمنهم من يتصل بشياطين الأرض الثانية ومنهم من يتنزل إلى الطمطام وجهنم وبئس المصير ومنهم من يتنزل إلى تحت الثرى وهؤلاء سيّما الأخيرتين منهم لا خير فيهم ظلمة محضة تجري عليهم أحكام الإنكار والجحود لا يرغبون إلى الخير أبدا ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم ، لكن جميع أحوالهم مشابهة ومماثلة في الصورة الظاهرة بادئ الأمر لأحوال أهل الحق وعلماء الدين كالشجرة الطيبة والشجرة الخبيثة وهؤلاء مثل فرق أهل الضلال من الكفار والجمهور والصوفية وتراهم يتكلّمون بالأسرار والحقائق ويفعلون خوارق العادات كل ذلك {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}1 وهم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}2 فهؤلاء عندهم من العلوم الباطلة من أحكام الطغيان والكفر والصد عن سبيل الحق بقدر ما عند أهل الحق من العلوم والأسرار الإلهية من مقتضيات الإيمان وحدود الإسلام ، وفيهم يقع الإشتباه للجهال لأنهم في أنفسهم لكون كل منهم سائر إلى جهة غير جهة الآخر وكلا السيرين على الاستقامة بلا إقامة ولا رجوع وذلك يصعد وذلك يهبط فأين موضع   الاشتباه .

 

        وأما إذا مال الشخص إلى الباطل ميلا كليا وعرض عن الحق إعراضا حقيقيا لكنه لم يعمل ما يقتضي اتصاله بالشياطين وهذا بقي جمادا لا يعرف شيئا إذا ما اكتسبه ببعض الكسب من الأمور الصناعية إجراء للمسببات على  نهج الأسباب مثل حكام أهل الباطل وخلفاء الجور ، وقد يتوسط بين الأمرين مع الميل الكلي إلى الباطل وهو مثل علمائهم وقضاتهم وهؤلاء على أقسام مختلفة حسب قربهم إلى مبدئهم من الجهل الكلي وبعدهم عنه ، وقد يكتسب

________________

1 النور 39                   2 الكهف 104

البعيد من أحكام الباطل المنطبع في أسفل السافلين بالكسب وهو لا يفتح له إلا بعض الأبواب الجزئية من تلك الخزائن السوأى كأكثر علمائهم وفضلائهم إذ ليس لهم يد طولي وباع طويل في باطلهم باختلاف المتشبثين بأذيال أولئك الشياطين والمترددين كالصوفية فإن لهم يد طولى وباع طويل في باطلهم فمن اطّلع على مع هذيانات ابن عربي في الفتوحات والفصوص وإحياء العلوم للغزالي والإنسان الكامل أي الشيطان المظل لعبدالكريم الجيلاني وجامع الأسرار أي الأشرار للسيد حيدر الآملي يرى صدق ما ذكرنا وسطرنا من شدّة تفوّرهم في باطلهم، ولما كان كل باطل كما ذكرنا يشابه الحق وهم أيضا زيّنوا ظواهر كلماتهم بزخرف القول فاشتبه الأمر على أغلب الجهال من أهل الحق بل كلهم حيث لم يردوا على حوض ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الطيبين الطاهرين عليهم السلام وما عرفوا حقائق مراداتهم عليهم السلام في مخاطباتهم ومحاوراتهم ومكالماتهم و أفعالهم و أقوالهم وسائر أعمالهم عليهم السلام، ورأوا هذا السراب يلوح كأنه ماء سيما مع تشبث أولئك الأباطيل بمثل كلمات الأئمة عليهم السلام من مثل هذه الخطبة (( لولا خوفي عليكم أن تقولوا جن أو ارتد )) وقول الصادق عليه السلام (( ما كلما يعلم يقال ولا كلما يقال حان وقته ولا كلما حان وقته حضر أهله )) وقول علي ابن الحسين عليه السلام (( لوعلم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله )) و أمثالها مما تقدم بعض منها فيقولون أن الذي أظهرنا ما فيه توّهم  الكفر هو مما قالوا عليهم السلام

      إني لأكتم من علمي جواهره       كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

      وقد تـقدم في هذا أبو حسن       إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

      ورب جوهر علم لو أبوح بـه      لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنـا

      ولاستحل رجال المسلمون دمي   يـرون أقبح ما يأتونه حسنـا

 

 

 

 

          ولما سمعوا مثل هذه الكلمات منهم وما عرفوا أن قولهم هذا من إلقاء الشياطين في أمنييته الرسول والنبي والمحدث كما في قوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}1 حكموا بحقّية مقالهم وصدقوهم بأفعالهم وأقوالهم فضلوا وضلوا كثيرا ، والآخرون من الجهال حيث رأوا ما ظهر من أولئك الضلال من قبائح معتقداتهم ومنكرات أعمالهم وأفعالهم ولم يكن لهم ضرس قاطع حتى يتبين لهم الغث من السمّين والظن من اليقين ولم يتعلق بهم اتصال إلى الملائكة ولا الشياطين ولم يتهنّأوا بحظ وافر في الدين فحكموا على كل من تكلم بالباطن وبعض الأسرار بالكفر والتّزندق لأنه لم يتميز بين القولين ولم يعرف الماء والبول الصّافيين وتعين أحدهما من البين ، فإذا ألقيت عليهم الأخبار المتقدمة فهم بين طارح ومنكر لها وبين مؤوّل إيّاها وبين متوقف فيها، والأصل في ذلك كلّه وقوفهم على باب الخزينة الأولى وهوباب ضيّق حرج لا يهتدي الواقف عليه إلى سعة وفسحة أبدا ، ولكن لما كان لله الحجة البالغة والدلائل الظاهرة والآيات الباهرة والأنوار الساطعة والنجوم المضيئة ولم يدع الخلق في ظلمة عمياء ولا دهمة بهماء وجعل للخلق علم هداية ودليل رشد وميزان قويم يعرف به الحق من الباطل والغث من السمين وهم الأئمة الهداة عليهم السلام وما ظهر من الكتاب والسنّة بأوضح دلالة حتّى لا يبقى لمحتج حجّة ولولا ذلك لما قامت

___________________

1 الحج 52

 

 

 

 

 

 

حجة الله على الخلق ولكن للخلق على الله حجة وهو سبحانه يقول {يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}1وقال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} وقال قبل {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}2 فوجب أن نذكر بعض العلامات المأخوذة من سادات البريّات عليهم السلام لبيان الفريقين وامتياز كل منهما عن الآخر لقطع حجة المعاند ورفع شبهة الجاهل .

 

         فنقول اعلم أن لأهل الحق علامات بها يمتازون عن غيرهم فإذا وجدتها في أحد فاعلم أنه القرية الظاهرة التي قد أمرت بالسير فيها إلى القرية المباركة وتلك العلامات على وجهين منها ما يتعلق بعلمهم ومنها ما يتعلق بعملهم .

 

        أمّا الأولى فاعلم أنهم إذا نظروا في مسألة من المسائل لا ينظرون فيها حتى ترتفع ثلاث خصال وتجتمع خمس خصال، أما الأولى فأولها أن يتمحض قصدهم ونيتهم في معرفة تلك المسألة من العلم لله سبحانه ليتوصل بها إلى طاعته ورضاه من عمل أو قول أو ظهور قدرة وعظمة يوجب كمال الخوف أو نعمة وإحسان يوجب الرّجاء والطّمع وجلال يقهره عن نفسه أو جمال يجذبه إليه ويفقده عن نفسه لينقطع إلى ربه وأمثال ذلك من الأحوال الرّاجعة إلى الحق سبحانه ولا يطلبها ليعاند بها العلماء ويمار بها السفهاء ويصرف إليه وجوه الناس أو ليعزز علمه ليعرف بذلك ويشتهر به و أمثال ذلك من أنواع العصبية والجدال والمراء كما ترى في أغلب أحوال الناس .

________________

1 النساء 165

2 المائدة 3

 

 

 

       وثانيها أن لا يكون حين النظر مأنوسا بطائفة من أهل العلم أو غيره ليميل قلبه إليهم وإلى ما يقولون فإن حبك للشيء يعم ويضم وقد يكون على باطل وخطأ فيقع فيما وقعوا فيه بل يكون أنسه بالله وميله فيما عند الله ورغبته فيما اختاره الله سبحانه {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }1  .

 

         وثالثها أن لا يكون عنده قاعدة قد أخذها من غير أهل بيت العلم على النمط الذي نذكره إنشاء الله تعالى ، فإن من عنده قاعدة لا يأمن أن يركن إليها ويصرف العلم إليها وقد تكون باطلة فاسدة فيقع في الخطأ والغلط كما ترى لأن أغلب الناس يطرحون الأخبار الصحيحة المتكثّرة وينكرونها لمخالفتها لقاعدتهم وقد تكون القاعدة باطلة .

 

        وأما الثانية من الخصال الوجوديّة فأولها أن يكون باقيا على الفطرة الأصلية الأولية غير مغير لها بمتابعة الشيطان فلم تسبقه الشكوك والشبهات ، وعلامته أن يكون دائم النظر والتفكر في خلق الله من السموات والأرض وخلق نفسه وأحواله وعظيم التحير حين ما ينظر إليها ، وعلامة ذلك صفاء طويّته وذكاء سريرته وعلامته أن لا يشغله علم عن الآخر بل تكون الأشياء عنده بعضها دليلا للآخر فلا يقال فيه أنه كامل في علم دون العلم الآخر بل العلوم كلها عنده على حد سواء ، لأن الباقي على الفطرة يرى آية الوحدة في كل شيء فعين بصيرته مفتوحة فلا فرق عنده في الرؤية بين شيء وشيء كما في الغير الجسمي إذا كانت مفتوحة يرى الأجسام على اختلاف ألوانها وأحوالها وكذا عين القلب إذا كانت مفتوحة ، وأما الذي يقتصر على شيء فلا يعرف الآخر فهو كالأعمى الذي يعلّمونه بعض الأشياء فلا يعلم إلا الذي علم ، وقولي كل العلوم عنده على حد سواء مرادي أنه علم اللطيفة السارية في العلوم كلها وهي النقطة التي قالهاعليه السلامولا يلزم أن يكون ظهورات

__________________

1 النساء 134

 

تلك النقطة على التفصيل كلها حاضرة عنده، بلى إذا طلب كلما أراد منها وجد بمشاهدة تلك النقطة فيها ويستدل بكلها على كلها كما مرّ فهم من فهم .

 

         وثانيها أن يجد لها دليلا من كتاب الله سبحانه من الآيات المحكمات التي هنّ أم الكتاب بحيث لا يمكن إنكارها ولا اعتذارها للمنصف ، وأما المعاند فلا يقطعه ألف حجة ، ولا يتثبّت في الاستدلال بالمتشابهات وهي التي لم تظهر دلالتها والمراد منها إما بنفسها أو بأمر خارج منها كالأخبار الموضّحة لها المعيّنة للمراد منها و إن كانت هي على الظاهر مجملة فإنها حينئذ ليست من المتشابهات .

 

       وثالثها أن يجد لها دليلا من أحاديث أهل البيت عليهم السلام كما ذكرنا في الكتاب ويتجنّب عن الأحاديث التي لم يقبلها الأصحاب إلا إذا كانت راجعة إليها وأن لا يكون لها معارض أقوى بل لا يجد معارضا أصلا إذ التعارض في الأخبار أمر صوري لا حقيقة له ، وأما تغير المغيّرين والمبدلين وسهو الساهين والناسين في الرواية وأمثالها ، فجعلوا عليهم السلام في إرشاداتهم قرائن وأدلة تنفيها وتثبت الأمر الواقعي المراد ولولا ذلك لما استقام قولهم عليهم السلام (( إن لنا أوعية من العلم نملؤها علما لننقله إلى شيعتنا فخذوها وصفّوها تجدوها نقيّة صافية وإياكم والأوعية فنكبوها فإنها أوعية سوء ))1هذا معنى الحديث ، فلولا القرائن الناصة لما تتأتى التصفية فإن الخلق جهال لا يعلمون شيئا إلا ما علموهم إياه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم ما معناه (( يا بن عباس لا تجد في يد أحد حقا إلا بتعليمي وتعليم علي عليه

_______________

1 ذكر المصنف هذه الرواية بالمعنى ونحن نذكرها هنا بالنص ففي البحار 2/93 ح 26 قال أبو جعفر عليه السلام (( إن لنا أوعية نملأها علما وحكما وليست لها بأهل فما نملأها إلا لتنقل إلى شيعتنا , فانظروا إلى ما في الأوعية فخذوها ثم صفوها من الكدورة تأخذوها بيضاء نقية صافية , وإياكم والأوعية فإنها وعاء سوء فتنكبوها )) .

السلام ))1، والكلام في هذا المقام طويل والإشارة كافية لمن اهتدى إلى السبيل ولم يتعود بالقال والقيل ، فمجمل القول أنه لا يتمسك برواية على خلاف القانون الذي جرت العادة بين الفرقة المحقة في التمسك بها فإن هذه الطائفة لا تزال على الحق حتى تقوم الساعة .

 

        ورابعها أن يدل عليها العقل المستنير بنور الله والمستوقد بضياء أئمة الهدى عليهم السلام ومعناه أنه تربى وتشافى شدة الإعتناء والنظر في أخبارهم مع الاعتقاد الجازم بأنهم عليهم السلام لا يهملون رعاياهم وغنمهم وعالما بأنه حينما ينظر ويلاحظ الأخبار وهو بين يدي إمامه وسيده يتعلم منه عليه السلام كما قالوا عليهم السلام (( نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون وسائر الناس غثاء ))2وهو عليه السلام لا تمنع غيبته عن مشاهدة رعيّته و إصلاح أحوالهم

_______________

1 ذكر المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه هذا الحديث بالمعنى , ونحن نورده هنا بالنص تيمنا كما ورد في البحار 26/345 ح 18 (( وكل شيء يسبح لله ويكبره ويهلله يتعليمي وتعليم علي عليه السلام )) والحديث طويل وجليل أخذنا منه موضع الحاجة فمن أراد الزيادة فليراجع .

2 الكافي 1/34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وطرد الشياطين والباطل عنهم كما قال تعالى {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }1 وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما كان في الأمم الماضية يكون في هذه الأمة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ))2 وهذا هوالعقل المستنير فيجب أن يكون له دليل عقلي عليها أي على المسألة زائدا عما دل عليه الكتاب والسنة ليكون على بصيرة ومعرفة .

 

          وخامسها أن يجد لها دليلا عيانيا شهوديا في العالم فإنه كتاب أكبر كتبه الله بيده وبناه بحكمته ورباه بقدرته وحفظه بصنعه وجعله من أعظم آياته وحث الناس بقراءته حيث يقول {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}3 ويقول {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}4   

_________________

1 القصص 15

2 لم نقف على هذا الحديث بعينه ولكن وجدنا ما يقرب منه باللفظ والمعنى ففي البحار 21/257 ح 7 قال صلى الله عليه وآله (( لتسلكن سبل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة , حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلنموه )) .

3 يونس 101                     4 العنكبوت 43

 

 

 

 

 

 

 

{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}1‏ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}2 ثم أن الله سبحانه بين كيفية الاستدلال بتلك الآيات فقال {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } فهذا هو المدعى ثم جعل لهذا آية ودليلا ليعرف الخلق كيفية هذا الحشر والعود بعد موت الخلق و اضمحلالهم فقال سبحانه {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ }3   الآية تم شرح هذه الآية في سورة ق حيث قـال سبحانـه {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ *  رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}4 والقرآن مشحون ببيان هذه الأحوال .

 

          وبالجملة ما خلق الله سبحانه شيئا وما كلف العباد بأمر إلا وقد بينه بأكمل التبيان ، والبيان الكامل إنما يتم بالبيان الحالي والمقالي فالبيان الحالي هو العالم والمقالي هو الكتاب والسنة وكل منهما شرح وبيان للآخر ومطابق له ، وفي صورة المخالفة يظهر بطلان الاستدلال فلا تخالف السنة الكتاب أبدا ولا العكس ولا العالم الأمرين ، فإذا تطابقت هذه لأدلة الأربعة مع عدم مخالفة الفرقة المحقة التي لا زال الحق فيهم ففي مخالفتهم عدول عن الحق والعادل عن الحق لا ينجو ، ومع بقاء الفطرة الأصلية الغير المعوجة  ومع رفع تلك الخصال وجب أن يكون حقا وإلا كان الحق سبحانه مغريا بالباطل أو مخلفا للوعد

_____________

1 يوسف 105                2 فصلت 53

3 يس 32 – 34             4 ق 9 - 11

 

 

 

 

 

تعالى ربي عن ذلك علوا كبيرا ، أما الوعد فقد قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}1 والمجاهدة في الله ما تحقق على أكمل المراتب إلا كما ذكرنا لأنـه هو الطريق المؤدي إلى الحق قطعا ، ولا تصح أن تكون المجاهدة بالإدبار والإعراض عن الحق سبحانه كما في مقابلات ما ذكرنا فيجب على الله سبحانه الهداية {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}2 ، وأما الإغراء بالباطل فلا يمكن فرض وقوعه بالنسبة إلى الله سبحانه مع أن الله سبحانه نصّ بوفاء العهد الذي عاهد من هداية المحسنين حيث قال {فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}3 فأثبت الهداية للمؤمنين ثم شرح الإيمان وأوضح حقيقته فيما يتعلق بالعلم أو مع العمل بقوله الحق {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا

__________________

1 العنكبوت 69          2 إبراهيم 47

3 البقرة 213

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}1 ، والمخاطب في الظاهر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الباطن هو أمير المؤمنين عليه السلام، والإخلاص في حكم أمير المؤمنين عليه السلام هوالذي ذكرنا لك من ملاحظة الأدلة الأربعة، ثم بين الله سبحانه إصابة المؤمنين فيما صاروا إليه من معتقداتهم وأعمالهم وعدم خطئهم فيما ينسبون إلى الله عز وجل بقوله تعالى {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}2 وقال مولانا الباقر عليه السلام (( نحن القرى التي بارك الله فيها والقرى الظاهرة شيعتنا ))3 فنصّ سبحانه وتعالى باتباع الشيعة المؤمنين الذين هداهم الله للحق مع اختلاف الناس في الأداء ، ونصّ أيضا على أنهم لا يخطأون إذ حكم للسائرين فيهم الآخذين عنهم بالأمن ولا يكون إلا الأمن من الخطاء ، فأثبت صحة مجاهدتهم في الله لترتب الآثار عليهم وهي الهداية وقد قلنا أن المجاهدة في العلم لا تكون إلا كما ذكرنا وكلما سواه طريق الهلاك والبوار وسبيل الخسران والنار .

 

          ثم إن كل شيء لما كان له ثلاث جهات جهة إلى الحق وجهة إلى نفسه من حيث أنه أثر لغيره وجهة إلى غيره من حيث ارتباطاته لترتب نظام معيشته في دنياه وآخرته عليه ، ولكل مقام أحكام واقتضاءات تجري على ذلك المقام ولكل مرتبة دليل خاص بتلك المرتبة ، فللثالثة دليل المجادلة وللثانية دليل الموعظة الحسنة وللأولى دليل الحكمة ، وفي كل مقام يجب تحقق تلك الخصال كلها من الوجودية والعدمية ، فيكون للعارف من المؤمنين الممتحنين

___________________

1 النساء 65                      2 سبأ 18

3 لم نقف على هذه الرواية بعينها ولكن وجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في الاحتجاج 327 حيث قال عليه السلام (( فنحن القرى التي بارك الله فيها وذلك قول الله عز وجل , فمن أقر بفضلنا حيث بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة , والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا )) .

والشيعة المخلصين أربعة وعشرين دليلا وميزانا في معرفة كل شيء ، وفي كل شيء واحد ربما يتطرق فيه الخطأ ، وأما إذا اجتمعت فيمتنع ذلك لما        ذكرنا ، فإذا عجز عن إتيان هذه الأمور كلها في شيء من الأشياء وإن تمكن عنه في أغلبها وأكثرها فذلك لا يوثق به ، وأما إذا كان في كل شيء بحيث لا يشذ عنه شيء أتى بالمذكورات فهو المؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام ووجب على الخلق اتباعه والاقتداء به فيما يجهلون من أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم وعقباهم وهو القليل من المؤمنين وهو أعز من الكبريت الأحمر ، وهؤلاء الذين عندهم من الأسرار ما لا يتحمله إلا الصديقون والأبرار فإذا سمعت منهم شيئا فلا تقابله بالإنكار وسلم الأمر له تسلم بشرط تحقق الأمر الثاني فيهم كما نذكره إنشاء الله ، فإذا رأيت فيهم ما يخالف ذلك فتبرأ منهم فإنهم أعداء الدين وخصماء النبيين وخلفاء الشياطين هذا الذي ذكرنا هو علامة أهل الحق في العلم .

 

        وأما العلامة الثانية وهي العمل وهو أن تكون جميع أعماله وأقواله كلها مطابقة لما عليه الشريعة الغراء النبوية العامة للمخلوقين كلهم فلا ينكر شيئا منها بادعاء أن الباطن غير الظاهر وأن هذه الأعمال لأهل الظاهر وأما المطلوب من العارفين فإخلاص القلب ولطافة السر لا هذه الأعمال المشترك فيها العوام وسائر الخلق فإن ذلك من صفات الفسقة أهل الجور حيث تثاقلوا عن الطاعات ، بل يكون المؤمن كما وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بعض صفاتهم لهمام وأنا أذكر الحديث إنشاء الله بطوله لما فيه من المنافع الجليلة وإظهار أهل الحق وامتيازه عن أهل الباطل روى الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( قام رجل يقال له همام وكان عابدا ناسكا مجتهدا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يخطب فقال يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه فقال عليه السلام يا همام المؤمن هو الكيس الفطن بشره في وجهه وحزنه في قلبه أوسع شيء صدرا وأذل شيء نفسا زاجر عن كل فان حاض على كل حسن لا حقود ولا حسود ولا وثّاب ولا سباب ولا عيّاب ولا مغتاب يكره الرفعة ويشنأ السمعة طويل الغم بعيد الهم كثير الصمت وقور ذكور صبور شكور مغموم بفكره مسرور بفقره سهل الخليقة لين العريكة رصين الوفاء قليل الأذى لا متأفك ولا متهتك إن ضحك لم يخرق وإن غضب لم ينزق ضحكه تبسم واستفهامه تعلم ومراجعته تفهم كثير علمه عظيم حلمه كثير الرحمة لا يبخل ولا يعجل ولا يضجر ولا يبطر ولا يحيف في حكمه ولا يجور في علمه نفسه أصلب من الصلد ومكادحته أحلى من الشهد لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف ولا متكلف ولا متعمق جميل المنازعة كريم المراجعة عدل إن غضب رفيق إن طلب لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر خالص الود وثيق العهد وفيّ العقد شفيق وصول حليم خمول قليل الفضول راض عن الله عز وجل مخالف لهواه لا يغلض على من دونه ولا يخوض فيما لا يعنيه ناصر للدين محام عن المؤمنين كهف للمسلمين لا يخرق الثناء سمعه ولا ينكي الطمع قلبه ولا يصرف اللعب حكمه ولا يطلع الجاهل علمه قوال عمّال عالم حازم لا بفحّاش ولا بطيّاش وصول في غير عنف بذول في غير سرف ولا بختّال ولا بغدّار ولا يقتفي أثرا ولا يحيف بشرا رفيق بالخلق ساع في الأرض عون للضعيف غوث للملهوف لا يهتك سترا ولا يكشف سرا كثير البلوى قليل الشكوى إن رأى خيرا ذكره وإن عاين شرا ستره يستر العيب ويحفظ الغيب ويقيل العثرة ويغفر الزلة لا يطلع على نصح فيذره ولا يدع جنح حيف فيصلحه أمين رصين تقي نقي زكي رضي يقبل العذر ويجمل الذكر ويحسن بالناس الظن ويتهم على العيب نفسه يحب في الله بفقه وعلم ويقطع في الله بحزم وعزم لا يخرق به فرح ولا يطيش به مرح مذكر للعالم معلم للجاهل لا يتوقع له بائقة ولا يخاف له غائلة كل سعي أخلص عنده من سعيه وكل نفس أصلح عنده من نفسه عالم بعيبه شاغل بغمه لا يثق بغير ربه غريب وحيد جريد حزين يحب في الله ويجاهد في الله ليتبع رضاه ولا ينتقم لنفسه بنفسه ولا يوالي في سخط ربه مجالس لأهل الفقر مصادق لأهل الصدق مؤازر لأهل الحق عون للغريب أب لليتيم بعل للأرملة حفي بأهل المسكنة مرجولكل كريهة مأمول لكل شدة هشّاش بشاش لا بعباس ولا بجساس صليب كظام بسام دقيق النظر عظيم الحذر لا يجهل وإن جهل عليه يحلم ولا يبخل و إن بخل عليه صبر عقل فاستحيا وقنع فاستغنى حياءه يعلوا شهوته ووده يعلوا حسده وعفوه يعلوا حقده ولا ينطق بغير صواب ولا يلبس إلا الاقتصاد مشيه التواضع خاضع لربه بطاعته راض عنه في كل حالاته نيته خالصة أعماله ليس فيها غش ولا خديعة نظره عبرة وسكوته فكرة وكلامه حكمة مناصحا متباذلا متواخيا ناصح في السر والعلانية لا يهجر أخاه ولا يغتابه ولا يمكر به ولا يأسف على ما فاته ولا يحزن على ما أصابه ولا يرجو مالا يجوز له الرجاء ولا يفشل في الشدة ولا يبطر في الرخاء يمزج الحلم بالعلم والعقل بالصبر تراه بعيدا كسله دائما نشاطه قريبا أمله قليلا زللـه متوقّعا لأجله خاشعا قلبه ذاكرا ربه قانعة نفسه منفيا جهله سهلا أمره حزينا لذنبه ميّتة شهوته كظوما غيظه صافيا خلقه آمنا منه جاره ضعيفا كبره قانعا بالذي قدّر له متينا صبره محكما أمره كثيرا ذكره يخالط الناس ليعلم ويصمت ليسلم ويسأل ليفهم ويتجر ليغنم لا ينصب للخير ليفخر به ولا يتكلّم ليتجبر به على من سواه نفسه منه في عناء والناس منه في راحة أتعب نفسه لآخرته فأراح الناس من نفسه إن بغي عليه صبر حتى يكون الله الذي ينتصر له بعده ممن تباعد منه بغضّ ونزاهة ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ليس تباعده تكبرا ولا عظمة ولا دنوه خديعة ولا خلابة بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير فهو إمام لمن بعده من أهل البر ، قال فصاح همّام صيحتة ثمّ وقع مغشيا عليه فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أما والله لقد كنت أخافها عليه ، وقال هكذا تصنع الموعظة البالغة بأهلها، فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين، فقال عليه السلام : إن لكل أجل لن يعدوه وسبب لا يجاوزه فمهلا لا تعد فإنما نفث على لسانك الشيطان ))1، فهذه الأوصاف هي علامات لإيمان المؤمن العارف بالله عز وجل ، فبهذه الأوصاف والأعمال تصفو قابليته وتزكو سريرته فيشرق على قلبه نور اليقين وعلى فؤاده نور المحبة وعلى صدره نور العلم فكلما ازداد حبا ويقينا وعلما ازداد عملا وتوجها وإقبالا فازداد استنارة واستضاءة لأن الله عز وجل قريب المسافة فمن دعاه أجابه ومن سأله أعطاه ، فإذا استنارت قابليته تحملت لظهورات المثال، وتلك الظهورات ليست عند

________________

1 الكافي 2/226

من كثفت قابليته وخبثت أعماله ، فإذا تكلم مثل هذا الشخص بشيء من الأسرار فيصدق ولا ينكر عليه لأنه لا يقول شيئا يخالف ما عليه عامة المسلمين الموحّدين و إن لم يدركوا وجه المطابقة كما أن مولانا وسيدنا القائم عجل الله فرجه يخبر أصحابه بتلك الكلمة فيتفرّقون عنه عليه السلام سوى الوزير و أحد عشر نقيبا فإذا تفرّقوا وجالوا الأرض ولم يجدوا ملجأ غيره يأتونه مسلّمين قابلين لعلمهم بأنه عليه السلام معصوم لا يخطأ ، فكذلك إذا وجدت شيعتهم يتخلّقون بأخلاقهم ويتأدّبون بآدابهم ولا يخالفونهم بأقوالهم وأعمالهم فتظهر فيهم نقطة مثالهم فيصدر عنهم مثل أقوالهم وأعمالهم في مقام ( لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك ) وهذا التصديق لا يكون إلا بعد الاختبار بالعلامات المذكورة، مع أن المخلصين من الشيعة لم يظهر منهم ما هو صريح مخالفة عقول الخلق ولا يظهرون الحكمة لغير أهلها كيف وإن إذاعة سرّهم عليهم السلام من أفسق الفسق وهم لا يتجرّؤن إلى مثل ذلك ، وأما الصوفية فيأبى الله إلا أن يفضحهم ويظهر للناس شناعة أحوالهم ومكابرتهم مع الله وإدبارهم عنه لئلا يتسلط المنافقون على المؤمنين ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، و إذا أردت أذكر شناعة أمرهم ووقاحتهم وفضائحهم عموما وخصوصا يطول به الكلام فعليك بمطالعة كتب العلماء المدوّنة فيهم وفي صفاتهم و أعمالهم و إن تكتّموا وتستّروا وأخفوا قبائح أمرهم فعلى الله سبحانه أن يظهرها ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، إلا أن الذين غضت الشبهات أعينهم وأبصارهم بسوء أعمالهم ورداءة ميولاتهم فلا يرون تلك القبائح ولا يرونها قبائح يرون أقبح ما يأتونه حسنا ، فلا يعتمد إذاً في ما يقولون ويجب الإعراض عما يصفون فإن ما عندهم إنما أتى من الخزائـن السوأى من سجين قد تصاعد إليهم بمعـونـة

 

 

 

 

 

الشياطين {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}1 {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}2 فظهر لك بعون الله أن الصوفية أو المتصوّفة أو غيرهم من المتعسفين لا يمكنهم الاحتجاج لباطلهم بمثل تلك الأخبار السالفة وبقوله عليه السلام في هذه الخطبة (( ولولا خوفي عليكم ))  .

 __________________

1 الأنعام 121

2 الأنعام 113

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 وقوله عليه السلام لأخبرتكم بما كانوا

وما أنتم فيه وما تلقونه إلى يوم القيامة

 

        يريد عليه السلام بذلك أحوال المبدأ والمعاد والمآل وضمير الجمع يعود إلى من تقدم مع آدم الأول ، وهذا سر غزير وباب غامض لا يطلع عليه على الواقع سواهم عليهم السلام لكن المنقطعين إليهم والطارقين لأبوابهم قد تعلموا منهم عليهم السلام شيئا يسيرا من ذلك الباب وهو جزء من مائة ألف جزء من رأس الشعير مما ظهر لأهل الرتبة الثالثة أي الرتبة الإنسانية ، فاعلم أنا قد ذكرنا سابقا أن العالم الأول عالم الوجود المطلق وآدم الأول المشيئة وحواء أرض الإمكان الرّاجح وأول الأولاد أو الظهورات أو الهابط الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم فكانت المشيئة هي العرش والحقيقة هي الماء فكان مستويا عليه ، أي كانت المشيئة ظاهرة في الحقيقة المحمدية لأن المشيئة هي محل الإمدادات والفيوضات والتكاليف التكوينية والتشريعية فكانت هي الدين والحقيقة على الماء الذي به كل شيء حي ، وهي العلم الساري المتعلق بكل معلوم موجود من غيب وشهود كما قالواعليهم السلام (( نحن معانيه ونحن علمه ونحن حقه )) الحديث ، فبقي العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض أي سموات عالم الوجود المطلق وأرضه لأنّ كل عالم فيه العرش والكرسي والسماء والأرض والبر والبحر ، ففي عالم الوجود المطلق العرش هو المشيئة وبحر الصاد والمزن والنون الذي تحت العرش هو الحقيقة المقدسة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم ولذا أتاه الوحي ليلة المعراج (( ادن من صاد وتوضأ لصلاة الظهر )) لأن الظهر أول الظهور وبدء لمعان النور والسموات هم الأئمة الاثنى عشرعليهم السلام حملة فيوضات العرش وإمداداته كما قالوا عليهم السلام (( نحن محالّ مشيئة الله وألسنة إرادته وتراجمة وحيه )) والأرض هي فاطمة الصديقة الطاهرة عليها السلام لأنها محل تلك الأنوار ومثبت تلك الأزهار فهؤلاء عليهم السلام أول من تقدم مع آدم الأول فكان العرش على الماء قبل خلق السماوات والأرض في المشارق ، روي أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السلام (( كم كان العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض قال عليه السلام : أتحسن أن تحسب ، قال : بلى ، فـقال عليه السلام : أخاف أن لا تحسن ، قال : بلى ، فقال عليه السلام : عليه السلام لو صب خردل في الهواء بحيث سد الفضاء و ملأ ما بين الأرض والسماء ثم لو عمرت مع ضعفك أن تنقل حبة حبة من المشرق إلى المغرب حتى ينفد لكان ذلك أقل من جزء من المائة ألف جزء من رأس الشعير مما بقي العرش على الماء قبل خلق السموات والأرض وأستغفر الله عن التحديد بالقليل ))1 فإن أردت بالعرش والسموات والأرض ما ذكرنا فيكون هذا التقدير تقريب ثمانين ألف سنة من سني مبادئ الوجود المقيد في السنين والأعوام المعروفة بين العوام ، وفي الحقيقة هذا تقريب للنوع ويحق الاستغفار بالقليل لأن كل السنين والأعوام من الوجود المقيد الذي عندنا كلها منقطعة عند نقطة من تلك السنين والأعوام فأين تقدّر تلك السعة والفسحة بهذه الأمور التي هي كالنقطة الفانية بالنسبة إلى سعة العرش الذي كل السموات والأرض بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة قي والكرسي مع المجموع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة قي و أستغفر الله عن التحديد بالقليل، ثم هذا العرش الظاهر بالماء تنزل في أطواره وشئوناته بمشيئة الله وقدرته إلى ما لا يحصى من

________________

1 لم نعثر على هذه الرواية بهذا النص ولكن وجدنا ما يقرب منها وهي ما ذكر في إرشاد القلوب 277 (( قال الرجل : فكم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء , قال علي عليه السلام : أتحسبن أن تحسب , قال نعم , قال للرجل : لعلك لا تحسبن أن تحسب , قال : بلى إني لأحسن أن أحسب , قال علي عليه السلام : أرأيت إن صب خردل في الأرض حتى سد الهواء وما بين الأرض والسماء ثم أذن لك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من مقدار المشرق والمغرب وفي مد عمرك وأعطيت القوة على ذلك حتى تنقله وأحصيته لكان ذلك أيسر من أن أحصي عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء , وإنما وصفت منقصة عشر عشر لعشر من جزء من مائة ألف جزء , وأستغـفر الله عن التـقليل والتحديد )) 

المراتب ولا يتناهى من العدد وقد أشير إلى نوع هذه التنـزلات والكسر والصوغ الواقفين في مراتب الوجود بقوله عليه السلام على ما رواه في جامع الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن موسى سأل ربه أن يعرفه بدء الدنيا منذ خلقت ، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام : تسألني عن غوامض علمي ، فقال : يا رب أحب أن أعلم ذلك ، فقال : يا موسى خلقت الدنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرّات وكانت خرابا خمسين ألف عام ، ثم بدأت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام ، ثم خلقت فيها خلقا على مثال البقرة يأكلون رزقي ويعبدون غيري خمسين ألف عام ، ثمّ أمتّهم في ساعة واحدة ثم خربت الدنيا خمسين ألف عام ثم بدأت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام فمكثت عامرة خمسين ألف عام ، ثم خلقت فيها بحرا فمكث البحر خمسين ألف عام لا شيء  مجاجا من الدنيا يشربه ، ثم خلقت دابة وسلّطتها على ذلك البحر فشربته بنفس واحد ، ثم خلقت خلقا أصغر من الزنبور وأكبر من البقّ فسلطت ذلك الخلق على هذه الدابة فلدغها وقتلها فمكثت الدنيا خرابا خمسين ألف عام ، ثم بدأت في عمارتها فمكثت خمسين ألف سنة ، ثم جعلت الدنيا كلّها آجام القصب وخلقت السلاحف وسلّطتها عليها فأكلتها حتى لم يبق منها شيء ثم أهلكتها في ساعة واحدة فمكثت الدنيا خرابا خمسين ألف عام ، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام ، ثم خلقت ثلاثين آدم ومن آدم إلى آدم ألف سنة فأفنيتهم كلهم بقضائي وقدري ، ثم خلقت فيها خمسين ألف ألف مدينة من الفضة البيضاء وخلقت في كل مدينة مائة ألف ألف قصر من الذهب الأحمر فملأت المدن خردلا إلى الهواء والخردل يومئذ ألذّ من الشهد وأحلى من العسل وأبيض من الثلج ، ثم خلقت طيرا واحدا أعمى وجعلت طعامه في كل سنة حبة من الخردل أكلها حتى فنيت ، ثم خرّبتها فمكثت خرابا خمسين ألف عام ، ثم بدأت في عمارتها فمكثت عامرة  ألف عام ، ثم خلقت أباك آدم بيدي يوم الجمعة وقت الظهر ولم أخلق

 

 

من الطين غيره و أخرجت من صلبه النبي محمدا عليه الصلاة والسلام ))1 وهذه المراتب هي مراتب تنـزلات الوجود وشئونات أطوار آدم الأوّل .

 

        قوله تعالى (( خلقت الدنيا منذ ألف ألف عام عشرّ مرات )) يريد به والله أعلم ما ذكرناه سابقا في كيفية تعدد العوالم والآدميين إلى ألف ألف من ضبط نسب تلك المراتب أو لمجرد الكثرة على ما مضى من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في مدّة إقامة العرش على الماء قبل خلق الأرض والسماء ، وقوله تعالى (( فكانت خرابا خمسين ألف عام )) يريد بالخراب حل الشيء مقام الخلق الأول قبل نشوء الصّورة وتمام الهيئة بل رتبة الحلّ وصلوح النسبة قبل التعين والتشخص ، وبالخمسين ظهور الهاء في الياء لأن مقام التعلق والارتباط مقام النون في كن أي مقام الابداع لا الاختراع لأنه محل النشء والتفصيل فالمتعلَّق على حسب المتعلِّق بكسر اللام فيحكى  مثاله ، وأما عدد الألف فلظهور تمام التربيع فيه وهو شكل الائتلاف والائتلاف إنما يتحقق بالابداع ، فالمربع شكل الابتداع والمثلث شكل الاختراع والجامع لرتبة مقام الابتداع في العدد هو الألف فلذا وقع التعبير عن هذه الحقيقة بخمسين ألف عام وهذا إشارة إلى إقبال العقل وإدباره ، فأشار سبحانه وتعالى إلى كيفية بدء الوجود المقيد لظهور التركيب فيه يمكن تقدير الأوقات والأزمنة والابتداء والانتهاء فيه بخلاف الوجود المطلق فإنه صرف البساطة فأول تنـزل العقل إلى مقام الروح قبل أن يكمل مقام الروح بل قبل أن يكمل العقد الأوّل من الحل الأوّل  والخراب إشارة إلى محض الحلّ الأول ، وقوله تعالى (( ثم بدأت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام )) يريد بالعمارة العقد الأول والمدة كما ذكرنا لك، وقوله تعالى (( ثم خلقت فيها خلقا على مثال البقر )) وهو تمام الحل والعقد الثانيين و إكمال حقيقة الرّوح وهو البقرة الصفراء التي فاقع لونها تسرّ الناظرين وقد قال عليه السلام (( إن البقرة خلقت من زعفران الجنة )) وذلك

_______________

1 جامع الأخبار 125 - 126

 

 

المقام في الطبيعة حارّ رطب ومقتضى لونه الصّفرة كما هو الحق ، وقوله تعالى (( يأكلون رزقي ويعبدون غيري )) وذلك لأنه في مقام التنـزل وقوس الإدبار ونظر التنـزل المدبر إلى الإنية المشتركة والماهية الكافرة ، قوله تعالى (( ثمّ أمتهم في ساعة واحدة )) هو أمر العقل بالتّنـزّل من مقام الروح إلى الآخر والموت والوفاة هو الانتقال من دار إلى دار كما قال تعالى {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}1 الآية ، قوله تعالى (( ثم خربت خمسين ألف عام ثم مكثت عامرة خمسين ألف عام )) على ما مضى من حكاية الحلّ والعقد الأولين ، وقوله تعالى (( ثم خلقت فيها بحرا )) وهو البحر الأخضر أواسط الملكوت وهو بحر النفوس عالم الذرّ الأول قبل وقوع التكليف عليهم كانت بحرا واحدا غير ممتازة بالصورة والخلقة الظاهرية والباطنية وقال تعالى {وَمَا

______________

1 آل عمران 19

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}1، وقوله تعالى (( ثم خلقت دابة )) وهي الصورة التميّزية وبها يدب الشيء ويدرج ويسعى إلى وكره ومستقره ويستحق له اسما ورسما وصفة و أحوالا وهي التي جففت البحر الذي هو الذوبان والسيلان والصلوح لكل صورة وكل واحد فتجفف واختصت كل حصة منه بما ليس من الصورة من السعادة أو الشقاوة ، وقوله تعالى (( ثم خلقت خلقا أصغر من الزنبور وأكبر من البقّ )) يريد به سبحانه عالم الطبيعة إنما كان أصغر من الزنبور ولأن المراد به النحل وهو الخلق الأول منتحل العلم والمعرفة والإدراك وعالم الطبيعة تحت الخلق الأول ومقام فقدان الإدراك والشعور فتكون أصغر من الزنبور ، وأكبر من البق لأن المراد به عالم الأجسام أدنى الموجودات والعوالم بقاء وأكثرها اضمحلالا و انقطاعا وعالم الطبيعة فوق عالم الأجسام وهي من أعالي أسافل الدهر ، قوله تعالى (( فسلّطتها عليها )) يريد به بطلان تركيب النفوس و اضمحلال صورها وتشخّصاتها ورجعت كما كان أوّلا إما بحر الماء أو بحر التراب ، قوله تعالى ثم (( جعلت الدنيا كلها آجام قصب )) يريد به عالم المواد وجوهر الهباء و إنما هي أجمة لأنها آخر المجردات ليست بتجرد الأرواح والعقول ولا بكثافة الأجسام كالأجمة ليس بكثافة الأرض ولا بلطافة ماء الخالص والقصب هو ذكر الصور والهيئات الكامنة فيها المستأهلة لظهورها لكن لما كانت جهة التجرد فيها غالبة خرجت على هيئة القصب من الميل إلى الأعلى والظهور بالعقود التي نقوش مراتب ما مضى عليها من الأحوال ولما كان الاختلاف الصوري فيها منتفيا ظهرت كلها قصبات ، قوله تعالى (( ثم خلقت السلاحف وسلّطتها عليها فأكلتها )) ذلك عالم المثال لغلظة ظاهره وقشره لارتباطه بعالم الأجسام مقام النقش والارتسام وهو حجاب أسود غليظ ورقة باطنه لكونه متوجها إلى العالم الأعلى بذاته وحقيقته وكيفية الأكل كما ذكرنا آنفا من غيبة كل مادة في بطن الصورة ، قوله تعالى (( ثم أهلكتها في ساعة واحدة )) يريد به تمام حكم اضمحلال تأثيره من حيث نفسه والصعود إلى رتبة أعلى وهو مقام التركيب الأول في الحلّين والعقدين ، قوله تعالى (( ثم خلقت ثلاثين آدم من آدم إلى آدم  ألف سنة )) يريد به ظهورات المراتب التي كانت في القوس النزولي وكانت مستجنة في المادة فهي الأصول التي عليها مدار الوجود وهي القلب والصدر والعقل والعلم والوهم والوجود والخيال والفكر والحياة والجسد كل منها في ثلاث مراتب عليا ووسطى وسفلى أي نسبته إلى مبدئه وإلى نفسه وإلى غيره وكل أصل آدم له أولاد تشعب منه كما ذكرنا فيما تقدم مفصلا ، قوله تعالى (( فأفنيتهم كلهم )) يريد به اضمحلال ذكرهم ونسيان أمرهم حيث ابتدأ بخلق الأجساد والقشور فلا ذكر لها فيها فإن ذلك مراتب الأقطاب وما بعدهم مراتب الدوائر والكرات المستديرة عليها ، قوله تعالى (( ثم خلقت فيها خمسين ألف ألف مدينة .. إلخ ))  يريد به خلق السموات والأرض لأنها مدينة للآدميين كلّهم وإنما كانت خمسين لاشتمال كل من السموات على المتممين والخارج المركز والتدوير الممثل الذي هو المجموع وهذه الخمسة إذا ضربت في نفسها عند ملاحظة نسبها وأوضاعها تكون خمسة وعشرين وهي إذا ثنيت بالغيب والشهادة تكون خمسين ، وأما الألف فلما ذكرنا من أن هذه السموات مظاهر الابتداع وشكله التربيع والجامع لهذه الرتبة هو الألف في الأعداد ولذا قال من الفضة البـيضاء ، قـوله تعالى (( فملأت المدن خردلا )) والخردل هو مواد الفيوضات والإمدادات الجسمانية الكامنة في المبادئ العالية من السموات ، والطير الأعمى هو الحد الجسمي المفني بظهور تلك الحبوب فتغيب الحبة بحكمها وظهورها في ذلك الحد وكونه أعمى لجموده وعدم مشاهدته للأنوار العالية لأنه مظهر الاسم المميت ، قوله تعالى (( ثم خربتها )) إشارة إلى الحل للتركيب الثانوي في مقام التوليد الجمادي والنباتي والحيواني والإنساني فالعمارة هي العقل الأول من ذلك الحل ، قوله تعالى (( ثم خلقت أباك آدم .. إلخ )) يريد به أول ما نشأ وظهر من التركيب الثانوي في الحد الجسمي في الكون النوري ، ويداه سبحانه فاليمنى بها مبدأ النور والخير واليسرى بها مبدأ الظلمة ، وهما قد عجنت في طينة أدم عليه السلام ، وقت الظهر هو ظهور المبدأ وبدء وجود الشيء ، وقوله تعالى (( ولم أخلق من الطين غيره )) هو دليل ما ذكرنا من التفسير بعد ملاحظة الترتيب فتلك المراتب المتقدمة كلها أنوار وأرواح مجردة والماديّات أيضا أنوار لم تخلق من الطين والمراد منه الطين المركب من العناصر الأربعة المعروفة لا المجرّدات من عناصر هورقيليا وجابلصا وجابلقا وهذه المراتب هي مراتب أطوار آدم الأول في عالم الوجود المقيد .

 

      وأما آدم الأول في عالم الوجود المطلق حامل الاسم الأعظم فقد تطوّر بحمل الأسماء من القدس والإضافة والخلق ثم ظهر في اسم الرحمن فكان عرشا لاستوائه عليه ثم ظهر في حجاب الملائكة العالين ثم تجلى للكرّوبيين فظهر لهم بهم حتى عرفوه وتلقوا منه ولقنهم ما حمله ربه من أسرار الرئاسة الكلية والجزئية ثم لبس لباس الأنبياء وذلك اللباس هو المثال الملقى في هويتهم وذلك بدن نوراني لا روح له ، ثم ظهر في الحجاب الأسفل رتبة الإنسان وتقلب في صورهم حيث شاء الله من أول ظهور آدم إلى خاتم الأنبياء عليه وعليهم أفضل الثناء والصلاة فصارت الهياكل هياكله والأشباح أشباحه والصور صوره والمواد مواده والإضافة في هذه الأشياء كلها لاميّة ، وأريد بها التمليك والاختصاص لا الحقيقة كما أن السراج المتجلي في المرايا يكون كل تلك الصور والأشباح الظاهرة فيها للسراج ، ثم ظهر لفرعون لابسا لباس الذهب وقابضا برمح من الذهب لما أراد فرعون أن يقتل موسى وهارون فمنعه عن قتلهما ، ثم ظهر لسلمان في حال طفوليته لما أراد السبع أن يفترسه فنجاه منه بإذن الله ، ثم ظهر لفاطمة بنت أسد قبل بلوغها وحال طفوليتها ونجاها من السبع ، ثم ظهر لطلحة بن عبدالله بما ظهر وقتله حتى قال طلحة لمن كان عنده أما تراه كيف يصعد إلى السماء وينزل إلى الأرض ويذهب إلى المشرق والمغرب ويقاتل بالسيف ويرمي بالنبل ويقول مت يا عدوالله فيموت في ساعته ، ثم ظهر لجبرائيل عليه السلام حين سأله ربه من أنا ومن أنت وما اسمي وما اسمك ولم يدر الجواب فقال له قل أنت ربي وأنا عبدك اسمك الجليل واسمي جبرائيل ، ثم ظهر بالكوكب الذي يطلع بعد ثلاثين ألف سنة وقد رآه جبرائيل ثلاثين ألف مرة في جبهته الشريفة ، ثم تلك العوالم والمراتب المتقدمة في الحديث من المخرب لها والعامر لها في تلك المدد المتطاولة والله سبحانه لا يباشر الأشياء لأنه مكرم عن ذلك ، وأخبر الله سبحانه بالمقوم المباشر حيث

 

قال {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}1 القبضة باليد وهي علي عليه السلام واليمين هوعلي عليه السلام ، فإذا كانت السموات والأرض مقهورة ومضمحلة ومطوية عنده ولديه فما ينكر منه مثل ما ذكرنا لا بل الأمر أعظم وأعظم وأعظم فلا ينكر ما ذكرنا إلا المنكر لقدرة الله وعظمته وكرامة الله في أوليائه منّة من الله سبحانه عليه وكرامة منه إليه لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وما طوينا وكتمنا من الأسرار خوفا من الأشرار أكثر مما سطرنا تذكرة لألي الأبصار وتنبيها لأهل الاعتبار .

 

      وهذا و أشباهه من المراد من قـوله عليه السلام (( لأخبرتكم بما كانوا )) أي آدم الأول (( مع من تقدم )) وقد أشرنا إلى نوع ما صاروا إليه مجملا في عالم الذرّات وقس عليه الصفات وحكم الوجودات الشرعية من الأعمال وإجراؤها حسب الأحكام وأجزاء الأحكام حسب القوابل وإظهار نقطة العلم اللّدني العرفاني في مرتبة الشرائع فكانت ستة كلية تشهد بمثناها على تمام حروف لا إلـه إلا الله وتمام الدورة الشمسية في البروج والسنة القمرية في الشهور فالشريعة واحدة والنبي واحد والوصي واحد والكتاب واحد والاختلاف بالقابليّات كما قال عز وجل {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}1‏، والأنبياء نوّاب وكّلهم لإتمام الكلمة وإتمام ظهور النعمة التي إن تعدّوها لا تحصوها ، والكلمة هي الكلمات التي لوكان ما فيه الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله وهي الكلمات التّامات التي لا يجاوزهم بر ولا فاجر وهي الكلمات التي تلقاها آدم فقبلت توبته وهي الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماما ، وهكذا الكلام في مقامات كيفية خلق آدم أبينا وحواء أمّنا ودخولهما الجنّة وسجود الملائكة لآدم و إنكار إبليس وإغوائه إياهما وإخراجهما عن الجنة وقتل قابيل هابيل وتزويج الجنية والحورية

________________

1 الرعد 11

من شيث ويافث ابني آدم وهلمّ جرّا من الأحوال الواقعة إلى زمان ظهوره ، وكل ذلك آيات وأدلة له عليه السلام أقامها الله سبحانه لأنه روحي فداه يد الله الباسطة ورحمته الواسعة ونعمته السابغة ونقمته الدّامغة وعينه الباصرة وأذنه السميعة ولسانه النّاطق المعبّر عنه واسمه الرضي ووجهه المضي وصراطه العلي وركنه القوي ولطفه الخفي وسره المخفي وعبده المرضي ، فإذا كان كذلك فلا يبعد منه ما ذكرنا عنه تلويحا وإشارة وتصريحا بل الأمر أعظم فقوله عليه السلام (( وما أنتم فيه )) أي الآن من المحن والابتلاء واستيلاء الجور وإخفاء الحق وشيوع الباطل وكثرة الاختلاف وأصله وفرعه ومبدؤه ومنتهاه .

 

      أما أصله فاعلم أن الله عز وجل خلق أصل الفطرة في غاية الصفاء واللطافة لأنها المقصود للإيجاد وأول ما وقع عليه فعل الله سبحانه فوجب أن تكون في اللطافة غايتها وفي الشّرافة نهايتها وفي البهاء أعلاه وفي المجد أسناه ، ثم لما حكم الله على خلقه بالإدبار لتتميم الإقبال فأنزلهم إلى الدّركات والمهابط ولمّا كانت جهة التعيّن ومقام الإنية تكاثفت كلما نزلت إلى أن انتهت إلى الجماد ثم أمرها بالإقبال فأخذت تصعد إلى الدرجات وتطوي المقامات فأخذت تصعد إلى النبات ثم إلى الحيوان ثم إلى الإنسان فوجد أبونا آدم في هذه المرتبة ، ثم لما كان الكمال كمالين والصوغ صوغين صوغ الأبدان وصوغ الأرواح ولمّا كمل صوغ الأبدان في عالم الظهور أخذ في صوغ الأرواح وهي لما تنـزّلت إلى المرتبة الجمادية بمقتضى مقامها أخذت تصعد من أول كونها نطفة إلى علقة إلى مضغة فتمت الرتبة الأولى في شريعة آدم عليه السلام والرتبة الثانية في شريعة نوح عليه السلام والرتبة الثالثة في شريعة إبراهيم عليه السلام والرابعة التي هي رتبة العظام في شريعة موسى عليه السلام والخامسة التي هي رتبة اكتساء اللحم في شريعة عيسى عليه السلام التي هي مقام إنشاء الخلق الآخر الذي هو مقام الحياة من فلك القمر في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذه الرتبة مقامات تختلف الأحوال فيها وتتبدل وتتغير تبدلا سيّالا من كون الولد في بطن الأم إلى أن يخرج إلى كونه رضيعا إلى كونه فطيما إلى كونه صبيا إلى كونه مراهقا إلى كونه بالغا إلى كونه تاما في مقام البلوغ وهو ثلاثون سنة إلى كونه كاملا في البلوغ وهو أربعون سنة ، فإذا كان أول ظهوره صلى الله عليه وآله وسلم بشريعته أول مقام ظهور الحياة وبينه وبين البلوغ الواقعي الكامل الذي هو أربعون سنة تلك المراتب المتقدمة وهي دائمة السيلان والتبدل وتختلف الأحكام بهما فوجب النسخ والاختلاف والتغير والتبديل والزيادة والنقصان وغلبة الرطوبات التي هي الميولات الشهوانية وبها استيلاء الجور والخلاف وظهور القبائح والشنائع وخفاء العقل وتسلط النفس الأمارة بالسوء وتوجه الحرارة الغريزية التي هي الإمدادات الإلهية والإنبعاثات الشوقية والتوجهات الحقية إلى الباطن أي إلى الاختفاء وعدم الظهور وسكون الجوارح والآلات الغيبية والشهودية عن الارتقاء إلى معالي الدرجات وظهور فصل الشتاء وجمود القرائح وخمود الطبائع وسد المسام وكل ذلك بتقدير الحكيم وتدبير العليم ، ولولا هذا الاختلاف والأوضاع المتشتتة المتفرقة لاحترقت الطبائع وفنيت أو انجمدت وخمدت وما استوت فجرى الأمر بين الأمرين لتنضج الطبائع وتبلغ إلى غاياتها الكمالية وتصير إنسانا وتخرج عن الظلمات البهيمية ، فلو أخبرهم الإمام عليه السلام بهذه الدقيقة والسبب الذي به جرى هذا الاختلاف ولو أراد لجمعهم على كلمة واحدة بحيث لم يختلف اثنان ولكن في ذلك خلاف الاستقامة وخلاف العدل ولأنكروا ولم يقبلوا لما ذكرنا من جمود قرائحهم وخمود طبائعهم ولقالوا كما قال عليه السلام (( لولا خوفي عليكم أن تقولوا جنّ أو ارتد )) فافهم .

 

      وأما مبدأ الاختلاف فاعلم أن الله عز وجل لما خلق النور انعكس عنه الظل الذي هو الظلمة فاستدار النور على التوالي واستدارت الظلمة على خلاف التوالي وهذه المخالفة جرت بينهما فاستدار النور هابطا والظلمة صاعدة لحكم العكس المستوي إلى هذه الدنيا فالتقت الكرتان بنقطة وظهرت آثار كل في الآخر فاختلط ما حاذى النقطتين من الكرتين بعضها مع الآخر فصارت كل واحدة من الفريقين طبيعتان أصلية وعرضية كلّ تخالف ذاتية

الأخرى ، فالميل إلى العرضي يضاد الميل إلى الذاتي فمن هنا جاء الاختلاف والأحكام تجري على مقتضاه إلى أن تفترق النقطتان بالكلية وذلك إذا مات الشخص وتميل النقطتان عن مستقرهما وإن لم يحصل الافتراق التام وهو في قيام القائم عليه السلام ، والرجعة والافتراق التام إنما يكون في القيامة وأكمل إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذلك منتهاه ، والخلق قبل أن يقوم القائم عليه السلام في الابتلاء والامتحان ليميز الخبيث من                      الطيب وليعلم أهل الطبيعة العرضية من الذاتية والعكس وهو قوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}1وقال عز وجل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}2 وقال عز وجل {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}3 وعن أمير المؤمنين عليه السلام       (( لتبلبلنّ بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطنّ سوطة القدر حتى يـعـود أسفلكم

_______________

1 آل عمران 142                    2 البقرة 155 - 156

3 العنكبوت 1 - 2

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقنّ سباقون كانوا قصّروا ))1 الحديث والخلق الآن في أشد ظلمة من الليل الدامس من غلبة الظلم والجور ولكن المصليّن بالليل هم الفائزون وهو قوله تعالى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}2 أي النفوس التي تنشأ بالليل لذكر الله سبحانه ولإقامة الصلاة هذا الذي ذكرنا هونوع أحوال الخلق في هذه الأزمان وقبلها وهو يريد عليه السلام عليه السلام بقوله (( وما أنتم فيه )) الذي ذكرنا على جهة العموم والكلي ، ويريد به خصوصيات أحوالهم في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وآدابهم وأطوارهم وما استجن في سرائرهم واستكن في ضمائرهم وما انعقد عليه ضمائرهم وما قويت به عزيمتهم والأسباب والأحوال التي تهيّجت لهم نيران الشوق إلى مآربهم ومطالبهم وحوائجهم ، وما أهل الكوفة عليه من النفاق والشقاق عازمون بذلك المعاندة مع الله رب العالمين وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .

 

      وأما فرع هذا الاختلاف فهو التقية وتعدد الأحكام الواقعية الثانوية والنفس الأمرية وظهور خباثة الظالمين وبروز بواطن المنافقين المعاندين وهلاك الفاسقين وتخليص المؤمنين من كيد الكافرين وتصفية المخلصين عن شوب لطخ الجاحدين وخروج الشّيعة من أصلاب الفاسقين وخلصوا الأمر لله رب العالمين واللعن والبوار على أعداء الدين وهلاك خلفاء الشّياطين وتطهير الأرض من كل رجس نجس لعين وتخليصها للقوم الصالحين إن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين فافهم مجمل الأحوال .و

 

      قوله عليه السلام (( وما تلقونه إلى يوم القيامة )) وقد ذكر عليه السلام شر ذمة من ذلك في خطبة البيان ولكن ما أظهر لهم فيها السر الذي لوسمعوه لقالوا أنه جنّ أو ارتد وهو مقلب تلك الأحوال ومدبر تلك التدابير

__________________

1 الكافي 8 / 67                   2 المزمل 6

 

والآمر والناهي الذي بيده أزمة التقدير وسيبين لك في هذه الخطبة قليلا من كثير مما يلقونه إلى يوم القيامة ونؤخر شرحه إلى ذلك المقام .

 

      ثم اعلم أن المخاطب بهذه الخطابـات كما مرّ في قولـه عليه السلام (( أيها الناس )) كل الموجودات لا اختصاص بالمشافهين ولا بالإنسان في كل أفراده بل هو عامّ للأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والإنسان والجن والحيوان والبهائم وحشرات الأرض والجماد والنبات ، وتلك الأحوال الثلاثة جارية للكل إلا أن لكل بنسبة مقامه ، ألا ترى فساد الثمار وقلة الأمطار وتعاور الليل والنهار وعدم إعشاب البراري والقفار وتراكم السحب وأمثال ذلك مع أن في الفطرة الأولى والكينونة الحقيقية خلق الله الدنيا والكواكب كانت في أشرافها وطالع الدنيا سرطان فالشمس في بيت الوتد في الحمل في الـدرجة التاسعـة عشر والوقت الظهر وقت الصلاة وإسماع صوت الملك (( قوموا على نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم )) وهذا هوالفطرة الأولى والمقصد الأقصى ، ولما تحركت الأفلاك ومالت الآفاق وخفي نور الشمس عن الإشراق وتراكمت السحب المكفهرة وتصاعدت الأدخنة والأبخرة الفاسدة المدلهمّة وتكاثفت الأجزاء الأرضية وحجبت الشمس عن إشراقها وتلألؤها ولمعانها فتحققت بها الظلمة وسرت في كل شيء من البقول والثمار في الحيوان والإنسان فتولّد بذلك أبدانهم وهكذا في عالم الأرواح والأشباح والبقول والثمار في تلك الأطوار ، والحاصل كل شيء الآن من الغيب والشهادة والروح والجسد مما في الدنيا الوجه السفلي من عالم المثال إلى الأرض الأولى كلّها مشوب مختلّ لا يصفو إلا بين النفختين .

 

 

 

 

 

 

قال عليه الصلاة والسلام ولقد ستر علمه عن جميع النبيين إلا صاحب شريعتكم هذه صلى عليه وآله فعلمني علمه وعلمته علمي

 

      أقول أما الأخبار الدّالة على أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع ما عند الأنبياء عليهم السلام فكثيرة ومن الأنبياء في عالم الظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولاشك أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلم الأنبياء بأجمعهم فيكون ما عندهم مستورا عن الأنبياء كلاّ سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، روي في الكافي عن عبدالله بن جندب أنه كتب إليه الرضا عليه السلام (( أما بعد فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أمين الله في خلقه فلما قبض كنّا أهل البيت ورثته فنحن أمناء الله في أرضه عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام ، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق ، وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم أخذ الله علينا وعليهم الميثاق يردون موردنا ويدخلون مدخلنا ليس على ملّة الإسلام غيرنا وغيرهم ، ونحن النجباء النجاة ونحن أفراط الأنبياء ونحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب الله عز وجل ونحن أولى الناس بكتاب الله ونحن أولى النّاس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن الذين شرع الله لنا دينه فقال في كتابه {* شَرَعَ لَكُم } يا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم { مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } قـد وصانا بما وصى به نوحا { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } فقد علمنا وبلغنا علم ما علمنا و استودعنا علمهم ، نحن ورثة أولي العزم من الرسل { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } يا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم { وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وكونوا على جماعة { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } من أشرك بولاية علي عليه السلام { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من ولاية علي عليه السلام إن الله يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }  من يجيبك إلى ولاية علي عليه السلام ))1 .

____________________

1 الكافي 1/223 _ 224

      وفيه عن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم وما من نبي مضى إلا وله وصي وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وعشرون ألف نبي منهم خمسة أولوا العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن علي بن أبي طالب عليه السلام كان هبة الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلموورث علم الأوصياء وعلم ما كان قبله، أما إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورث علم ما كان قبله من الأنبياء والمرسلين على قائمة العرش مكتوب حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء وفي ذؤابة العرش علي أمير المؤمنين عليه السلام فهذه حجتنا على ما أنكر حقّنا وجحد ميراثنا وما منعنا من الكلام وأمامنا اليقين فأي حجة تكون أبلغ من هذا ))1 .

 

      عن أبي عبد الله عليه السلام (( إن سليمان ورث داود وإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورث سليمان ، وإنا ورثنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وإن عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور وتبيان ما في الألواح ، قـال : قلت : إن هذا لهو العلم ، قال : ليس هذا هو العلم ، إن العلم الذي يحدث يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة ))2 .

 

      وعنه عليه السلام (( إن داود ورث علم الأنبياء وإن سليمان ورث داود وإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورث سليمان وإنا ورثنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى ، فقال أبو بصير : إن هذا لهو العلم ، فقال : يا أبا محمد ليس هذا هو العلم إنما العلم ما يحدث بالليل يوما بيوم وساعة بساعة ))3 .

__________________

1 الكافي 1/224                    2 الكافي 1/224 _ 225

3 الكافي 1/225

 

      وعنه عليه السلام (( إن الله عز وجل لم يعط الأنبياء شيئا إلا وقد أعطاه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قال وقد أعطى محمد صلى الله عليه وآله وسلم جميع ما أعطى الأنبيـاء وعندنا الصحف التي قـال الله عز وجل { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }1‏))2 .

 

      وعنه عليه السلام في قوله عز وجل { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ }3 (( الذكر عند الله والزبور الذي أنزل على داود وكل كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن هم ))4 .

 

      وعن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه (( سئل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورث النبيين كلهم ، قال : نعم ، قال السائل : من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه ، قال : ما بعث الله نبيا إلا ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلم منه ، قال : قلت : إن عيسى بن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله ، قال : صدقت وسليمان ابن داود كان يفهم منطق الطير وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على هذه المنازل ، قال : فقال : إن سليمان بن داود قـال للهدهد حين فقده وشكّ في أمره { فَقَالَ مَالِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } حين فـقده فـغضب عليـه فقال { عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء فهذا وهوطائر قد أعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكان الطير يعرفه وإن الله يقول في كتابـه {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان وتحيا به الموتى ، ونحن نعرف الماء تحت الهواء ، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن ________________

1 الأعلى 19                   2 الكافي 1/225

3 الأنبياء 105                 4 الكافي 1/225 _ 226

الله بـه مع ما قد يأذن الله مما كتبه الماضون جعله الله لنا في أم الكتاب إن الله يقول { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ثم قال { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء ))1 .

 

      اعلم أن معنى وراثة أئمّتنا  عليهم السلام لعلم الأنبياء عليهم السلام هو معنى وراثة الله الأرض حيث يقول عز وجل { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }2 ، ومعنى هذه الوراثة رجوع كل شيء إلى مبدئه وأهله ، وليس أنها ترجع إلى ذات الله عز وجل وإنما ترجع إلى آثار فعل الله ومحال مشيئته وألسنة إرادته ، وبيّن هذا المعنى في موضع آخر من القرآن حيث يقول عز وجل { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }3 والأرض هي العلم والعباد هم المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وهم الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فعلوم الأنبياء والمرسلين كلها تنتهي إليهم عليهم السلام حين ما تبدأ منهم إليهم فمنهم إليهم عين ما إليهم منهم فابتدائها منهم عليهم السلام   إلى الأنبياء هو عين انتهائها ورجوعها عنهم إليهم عليهم السلام فحين ما رجعت إليهم لم تخرج عن الأنبياء وحين ما بدأت منهم إلى الأنبياء عليهم السلام لم تخرج منهم كالشمس فنورها منها بدء وإليها يعود ، فعلوم الأنبياء وإن كانت هي علمهم لكنها ليس علمهم حقيقة وإن كان صافي تلك العلوم علمهم في مقام ( أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) ، فنسبة علمهم في هذا المقام إلى علم الأنبياء عليهم السلام نسبة الإكسير الصافي الخالص إلى الحجرة الكدرة الغير الصيقلية ، ومعنى علمهم أي ملكهم وفي قبضتهم كالشعاع الذي هو في ملك السراج والشمس ، وليس تلك العلوم علومهم حقـيقة في مراتبهم ومقاماتهم فما عندهم عليهم السـلام ستر على غيرهم من الأنبياء والمرسلين

________________

1 الكافي 1/226               2 مريم 40

3 الأعراف 128

والخلق أجمعين وذلك لأن ما عندهم من الاسم الأعظم الذي به مواد العلم وقوامه كما روي أن بلعم بن باعور قد تعلم اسما واحدا من الاسم الأعظم وكان يملي على أربعة آلاف كاتب كلهم يكتبون من علومه المنشعبة من ذلك الاسم سمعت هذا من شيخي أطال الله بقاه وجعلني فداه ، وقد عبّر الله سبحانه عن الاسم الأعظم بالعلم حيث قال { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } وذلك آصف ابن برخيا كان عنده حرف من الاسم الأعظم وقد دلّ العقل والنقل على أنهم عليهم السلام حووا الأسماء العظام كلها ما خلى الاسم الواحد المختص بالله  سبحانه ، ومن الأخبار ما روي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال (( إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين ، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ))1 .

 

      وعن أبي عبد الله عليه السلام (( إن عيسى بن مريم عليه السلام أعـطي حرفين كان يعمل بهما ، وأعطي موسى أربعة أحرف ، وأعطي إبراهيم ثمانية أحرف ، وأعطي نوح خمسة عشر حرفا ، وأعطي آدم خمسة وعشرين حرفا ، وإن الله تبارك وتعالى جمع ذلك كله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن اسم الله الأعظم ثلاثـة وسبعون حرفا أعطى محمدا صلى الله

______________

1 الكافي 1/230

 

 

 

 

 

عليه وآله وسلم اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه حرف واحد ))1  .

 

      وعن أبي الحسن العسكري عليه السلام (( اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيّره إلى سليمان ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب ))2 .

 

      وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال عليه السلام (( إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخر كأنه في كفّي فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وما هو كائن قال الله عز وجل (فيه تبيان كل شيء) ))3 .

 

      وعنه عليه السلام قال (( {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }‏ ففرج أبو عبد الله بين أصابعه فوضعها في صدره ثم قال وعندنا والله علم الكتاب كله ))4 .

 

      وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى { قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ((إيّانا عنى وعلي عليه السلام

_______________

1 الكافي 1/230                 2 الكافي 1/230

3 الكافي 1/229                 4 الكافي 1/229

 

 

 

 

 

 

أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي عليه السلام ))1  .

 

      وعن أبي عبد الله عليه السلام يقول (( إن عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس و إن الناس ليحتاجون إلينا وإن عندنا كتابا إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطّ علي عليه السلام صحيفة فيها كل حلال وحرام ، وإنكم لتأتون بالأمر إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه ))2 .

 

      وعن معمر بن خلاد قال سأل أبا الحسن عليه السلام رجل من أهل فارس فقال له (( أتعلمون الغيب فقال قال أبو جعفرعليه السلام يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم ، وقال : سر الله عز وجل أسره إلى جبرائيل عليه السلام وأسره جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسره محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى من شاء الله ))3 .

 

      وقال أبو جعفر عليه السلام في قوله تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (( فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقضيه إلى الملائكة فذلك يا حمران علم موقوف عنده إليه فيه المشيئة فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا       يمضيه ، فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي

________________

1 الكافي 1/229                      2 الكافي 1/241

3 الكافي 1/256

 

 

 

 

 

 

انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمثم إلينا ))1 .

 

       فإذا أتقنت هذه الأخبار ونظرت إليها بصحيح الاعتبار علمت أن ما عند أئمة الهدى عليهم السلام من العلوم مستور مخفي عند كل الأنبياء والمرسلين كما قال مولانا الصادق عليه السلام (( لوكنت بين موسى والخضر لأنبأتهما أني أعلم منهما ))2 و أخبرني شيخي أطال الله بقاه عمّن رواه عن أحدهم عليهم السلام ( إن موسى وخضر كانا قاعدين على ساحل البحر إذ أتى طير فأخذ بمنقاره قطرة من الماء فرمى بها إلى نحوالمشرق ثم أخذ قطرة أخرى فرمى بها نحو المغرب ثم أخذ قطرة أخرى فرمى بها نحو السماء ثم أخذ قطرة أخرى فرمى بها في البحر فتحير موسى وخضر عمّا فعل الطير ولم يدريا ما تأويله إذ جاء صياد فقال ما لكما متحيرين قالا تحيرنا مما صنع هذا الطير ولم ندر ما أراد فقال الصياد إنه يقول يبعث الله سبحانه نبيا في آخر الزمان وله وصي يكون علمكما وعلم من في المشرق والمغرب ومن في السماء كالقطرة بالنسبة إلى هذا البحر ) انتهى ما نقلت من معنى الحديث .

 

      وأنت لو تأملّت في ما حققنا لك سابقا في حقيقة العلم لعلمت بأن الأنبياء ما يمكنهم اللحوق إلى مراتب علومهم عليهم السلام بل يمتـنع ذلك في حقهم إلا أن ينقلبوا عن حقائقهم ويغير الله خلقهم وهو على كل شيء قدير .

 

      قوله عليه السلام (( ولقد ستر علمه عن جميع النّبيين )) الضمير في علمه يرجع إلى أحوال آدم الأول والذين معه وما صاروا إليه وما ينتهي إليه   أمرهم ، يريد عليه السلام بآدم الأول هو على أحد الوجوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه هم الأئمة الاثنى عشر البروج الثانية في الكرسي الليلة المباركـة التي هي فاطمة عليها السلام وما صاروا إليه من بدء

________________

1 الكافي 1/256                   2 الكافي 1/260

كينونتهم في القدم في عالم اللاّنهاية وكانوا يعبدون الله سبحانه ألف دهر وكل دهر مائة ألف سنة إلى أن خلقت الملائكة الأربعة العالون فبقيت هذه الملائكة يعبدون الله سبحانه معهم عليهم السلام ألف دهر إلى أن خلق الله سبحانه الكرّوبيين وبالكروبيين خلقت الأنبياء وتقوّموا بهم فهم باب فيضهم من الله سبحانه بالملائكة العالين والمنتهى إلى تلك المبادئ أيضا لقوله تعالى { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}1وتلك المراتب فوق ذكر الأنبياء وفوق ذاتهم ، ولا شك أن الشيء لا يتجاوز ما وراء مبدئه فلا ريب أن تلك العلوم كانت مخفية عليهم ومستورة عنهم ، ثم لما كان الأنبياء ليس كل واحد منهم علّة مستقلة لما تحتهم بل المجموع علّة للمجموع من المراتب النّازلة فلا يكون لكل واحد السعة العامة المحيطة بكل ما تحته من أحوال الذوات والصفات والكينونات ، ولأهل البيت عليهم السلام تلك السعة والإحاطة فعلموا عليهم السلام   حقيقة آدم الثانية أي الماء الثاني الذي صعد منه دخان فكان مبدأ الأفلاك وزبده صار مبدأ الأرضين فتولد الأنبياء عليهم السلام من دوران تلك الأفلاك على تلك الأرضين ، فإذا كانوا عليهم السلام من جزئيات ذلك العالم فلا يحيطون بحقيقته وذلك خاص بمن خصه الله سبحانه بالاسم الأكبر الأعظم الأعظم وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام والأئمة الطاهرين عليهم السلام  .

_______________

1 الأعراف 29

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 قوله عليه السلام فعلمني علمه

 

      هذا الإشكال فيه لأن البدل يجب أن يكون قائما مقام المبدل منه وذلك لا يكون إلا أن يكون مساويا له في أحواله وإلا لم يكن بدلا ، مع أن مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقام الإجمال والبساطة ومقام الوصي عليه السلام مقام التفصيل والكثرة فلا تزال العلوم تظهر من مقام الإجمال إلى مقام التفصيل ولذا قال عليه السلام (( ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم )) لأن الباء مقام الكثرة والتفصيل ولذا اختص اسم الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واسم الرحمن بالوصي عليه السلام كالعرش والكرسي فإن الفيوضات ترد على العرش مجملة بسيطة كلية فمنه تفاض على الكرسي مفصلة متمايزة منقسمة في البروج والمنازل وسائر الكواكب .

 

      في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( إن جبرائيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برمّانتين فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما وكسر الأخرى بنصفين فأكل نصفا وأطعم عليا نصفا ثم قال  رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أخي هل تدري ما هاتان الرمانتان ، قال : لا ، قال : أما الأولى فالنبوة ليس لك فيها نصيب وأما الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه ، فقلت أصلحك الله كيف كان يكون شريكه فيه ، قال عليه السلام : لم يعلّم الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم علما إلا وأمره أن

 

 

 

 

 

 

يعلّم عليا عليه السلام ))1  .

 

      وفيه عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال (( نزل جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برمانتين من الجنة فأعطاها إيّاهما فأكل واحدة وكسر الأخرى بنصفين فأعطى عليا عليه السلام نصفها فأكلها فقال يا علي أما الرمانة الأولى التي أكلتها فالنبوة ليس لك فيها شيء وأما الأخرى فهوالعلم فأنت شريكي فيه ))2 .

 

      وفيه أيضا عنه عليه السلام (( نزل جبرائيل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم برمانتين من الجنة فلقيه علي عليه السلام فقال ما هاتان الرمانتان اللتان في يدك فقال أما هذه فالنبوة ليس لك فيها نصيب وأما هذه فالعلم ثم فلقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنصفين فأعطاه نصفها وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصفها ثم قال أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه قال فلم يعلم والله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرفا مما علمه الله عز وجل إلا وقد علمه عليا عليه السلام ثم انتهى العلم إلينا ثم وضع يده على صدره ))3 .

 

      وقد دلّت الأخبار المتكثرة بل المتواترة معنى على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّم عليّا عليه السلام ألف باب من العلم ينفتح من كل باب ألف باب وكل باب إشارة إلى سر عالم من العوالم وتتضمّن أبوابا كثيرة ، فإن العالم ألف ألف فالألف هو الأصل ونشأ من كل واحد من الألف ألف وقد علّمها إياه صلى الله عليه وآله وسلم مجملا بالكينونة والذات وبالبيان بالصفات وعند علي عليه السلام فصلت تلك الأبواب لأنه عليه السلام الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، فلا يمكن

___________________

1 الكافي 1/263         2 الكافي 1/263

3 الكافي 1/263

إحصاء تلك الأبواب إلا للذي يسبح في لجة اللاّنهاية على جهة الكلي لا الجزئي ، ثم إن هذا التعليم لا انقطاع له ولا نفاد لأن العلم دائما يجري من بحر القدر الذي تحته شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد ، فلم يزل ينزل من ذلك البحر المحيط بحور وإن كانت خلجان بالنسبة إلى البحر الأول ، فالبحر الأول المظلم كالليل الدامس هو بحر العين المستنطق من ( ك هـ ي ا ) أي من الكاف الظاهر في الهاء والياء فإن الكاف هي الظاهرة المستنطقة من البسملة لأنها تسعة عشر وهي استنطاق الواحد ، فإذا نظرت ظهور الأحد في الواحد كانت الكاف فالكاف هي هاء قد كررت أربع مرات مرة في البسم والثانية في الله والثالثة في الرحمن والرابعة في الرحيم ، والهاء في مقام التكرير تظهر منها الياء وفي مقام التربيع تظهر منها ، النون فالهاء هو السر والأمر في الكاف والنون ، وإذا جمعت الكاف والنون استنطقت العين ، وإذا ظهرت الكاف في العين ظهرت الصاد ، ففي الباطن على أعلى مقاماتها يكون الصاد هي الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم والعين هي مقام القيومية ومرتبة المشيئة الكليّة والعمق الأكبر على الحقيقي وهو العلم الذي لا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء وظهر في بحر الصاد كما روي أن الصاد بحر تحت العرش ينزل منه الماء الذي به حياة كل شيء ، ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتوضؤ منه لصلاة الظهر ليلة المعراج فأتى النداء ( ادن يا محمد من صاد وتوضأ لصلاة الظهر ) ولما كانت الصلاة معراج المؤمن والتوضؤ هو التطهير والاستعداد لملاقاة الرب وهو وجه التوجه إلى الله تعالى وتوجه السافل إلى العالي بكينونة ذاته لا بصفاته و آثاره علمنا أن الصاد هو حقيقته صلى الله عليه وآله وسلم حيث توجه بها إلى ربه في مقام الدنو بدليل صلاة الظهر لأنها صفة ظهور المبدأ ولذا كانت أول صلاة فرضها الله عز وجل على عباده برحمته فلم تزل العلوم والأسرار تفاض من بحر العين إلى بحر الصاد بلا انقطاع فلو انقطع آنا واحدا بل أقل انقطع الوجود

 

 

 

كله وهو قوله تعالى { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}1 فهذه الاستزادة لا انقطاع لها والإفاضة كذلك لأن الله عز وجل يقول { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }2 فالاستجابة مقترنة بالدعاء والاستزادة دعاء فوجب الاستجابة ولذا قال عز وجل (( وليس لمحبتي غاية ولا نهايـة وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))3 لا في البدء ولا في العود لأن العود نفس البدء، وهذا العلم الجاري من بحر العين له شعبتان وخليجان فخليج يجري من بحر الكاف والآخر من بحر النون والآخر من بحر العين ، والذي من بحر الكاف له أربعة أنهار نهر يجري من البسم والآخر من الله والآخر من الرحمن والآخر من الرحيم ، وفي كل نهر خمسة جداول جدول النقطة والألف والحروف والكلمة التّامة والدلالة ، وهذه العلوم كلّها علم التوحيد الصّرف والتعدد باختلاف المحال والمهابط للتجلي وفي كل مقام وتجلي لا يرى إلا الواحد بنفي الكثرات وسلب الإضافات والامتيازات وعند العلم يقال أنها خمسة وعند العمل هو واحد لا بالعدد ، والعلم الذي يتصور فيه التعدد عند جميع شئونات الكينونة لمن أشهده الله خلق نفسه ، وأما عند الصعود إلى ذروة المجد والعلى فيتحد العلم والعمل و إن كانا متّحدين في كل مقام ، فالجدول الأول من النهر الأول من الخليج الأول هو الذي يختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يشترك فيه معه علي عليه السلام وذلك علم لم يعلمه إيّاه عليهما السلام يعني لا يمكن ذلك إلا أن تنقلب الحقائق فيرتفع الامتياز حينئذ وهذا خلف وبذلك العلم كان أفضل و أعلى فلو تساويا لما كان أحدهما عليهما السلام أفـضل               

_________________

1 طه 114                2 غافر 60 

3 إرشاد القلوب 199

 

 

 

 

 

لئلا يستلزم الترجيح من غير مرجح وقد قال عز وجل { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }1 { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }‏2 ، ولما صحّ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بين الأمر وبين علي عليه السلام لأن المساوي لا يكون واسطة بالضرورة فوجب أن يكون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم في التوحيد لم يكن عند علي عليه السلام وبذلك كان كما قال علي عليه السلام (( أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم )) .

 

      فقوله عليه السلام (( وعلمني علمه )) وإن كان العلم مصدرا مضافا يفيد العموم إلا أن ذلك العلم ليس داخلا لأنه عين حقيقة ذاته والتعليم فعل والفعل متأخر عن مرتبة الذات فيتعين أن يكون المراد بالعلم هو ما تحت مرتبة الذات فعلى هذا فلا إحاطة لعلي عليه السلام في مقام الحقيقة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم فقوله صلى الله عليه وآله وسلم (( ياعلي ما عرف الله إلا أنا و أنت )) يريد المعرفة الحاصلة لسائر المخلوقين لا مساواتهما عليهما السلام في المعرفة وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( وما عرفني إلا الله وأنت )) أما الله سبحانه وتعالى فهو بالكنه والحقيقة وأما علي عليه السلام فهو بالبيان والصفة لا الحقيقة وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( ما عرفك إلا الله و أنا )) يريد المعرفة بالكنه في المقامين ، وفصل القول أن في هذا المقام مباحث هي مفتاح للأبواب المقفلة وحل الرموز المشكلة فلا يعرف حقيقة الأمر في هذا المقام إلا بها و أنا أشير بها مجملا .

 

      الأول : ما العلم وحقيقته ؟ والثاني : ما العلم المنسوب إلى الله المختص به والمنسوب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كذلك والمنسوب إلى علي عليه السلام كذلك ؟ والثالث : ما كيفية التعليم وربط هذه العلوم بعضها ببعض ؟ والرابع : ما كيفية تعليم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام وتـعليم علي عليه السلام لمحمد صلى الله عليـه وآلـه وسلم ؟

__________________

1 المجادلة 11                     2 الزمر 9

وينكشف لك الأمر ويتضح لك السر بعد معرفة هذه الأبواب إنشاء الله تعـالى .

 

      أما الأول فاعلم أن العلم نور من عند الله سبحانه وتعالى يقذفه في قلب من يحب فيشاهد الغيب وينشرح فيحتمل البلاء ، ومبدأ هذا القذف هو المثال الذي ألقى سبحانه في هويات الأشياء كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الملأ الأعلى (( صور عارية عن المواد خالية عن القوة والاستعداد تجلى لها فأشرقت وطالعها فـتلألأت فألقى في هويتها مثالـه فأظهر عنها أفعاله ))1 وهذا المثال هو سر كن في فيكون وهو السائل الآمر بالله سبحانه القائل كن وهو المجيب الممتثل من قبل نفسه بالله سبحانه الفاعل ليكون ، وقد ورد عنهم عليهم السلام في بيان قوله تعالى بين النفختين خطابا للأرض أين الجبّارون وأين المتكبرون وأين الذين يأكلون رزقي ويعبدون غيري لمن الملك اليوم ثم قال سبحانه لله الواحد القهار وقالوا عليهم السلام (( نحن السائلون ونحن المجيبون )) لأنهم وجه الله الذي لا يهلك وقال أمير المؤمنين عليه السلام (( بل تجلى لها بها )) ولا تستغرب من ذلك فإنك تراه بالعيان فإنك إذا قرأت القرآن وقرأت قوله تعالى { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }2 فلا يتوهم أحد أنّك تدعي الربوبية والألوهية لأنك حينئذ حاك ولسان له تعالى ثم يستحب لك أن تقول إذا قرأت أمثال هذه الآيات بلى يا رب أنت الله لا إلـه إلا أنت لا نعبد إلا إياك مخلصين لك الدين فأنت الذي أجبت فكنت في الحالة الأولى لسان المخاطِب وفي الحالة الثانية لسان المخاطَب وهذا آية ما ذكرنا لك ودليله فافهم ، فذلك المثال هو العلم والهوية هي القلب وهي أول ما ظهرت به كينونة الخلق الذي أحبه الله للإيجاد لأن يعرف كما قال (( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف )) فقذف الله سبحانه هذا النور في قلب من أحب ، وقد علمت أنه تعالى أحب كل الخلق من حيث الخلقة فقذف هذا النور في قلب كل أحد من المخلوقين وقد مثّل سبحانه لهذا

_______________

1 البحار 40/165                    2 طه 14

النور ونسبته مع القلب مثالا قريبا لا تفنى عجائبه ولا تنفد غرائبه حيث يقول سبحانه { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ }1 النور الظاهر في هذا المصباح الذي في الزجاجة التي كأنها كوكب درّي هو المستوقد من الشجرة المباركة الزيتونة التي ليست شرقية ولا غربية فالنار منها كزيتها ذلك هو العلم ، فلما استضاء المصباح الذي هو العلم الظاهر في القلب صار له وجهان وجه إلى الحرارة المحضة واليبوسة من النار ووجه إلى البرودة واليبوسة التي هي ثقل الزيت ونفسه ووجهه إلى الحرارة والرطوبة من توجه النار إلى الدهن ووجه إلى البرودة والرطوبة من توجه الدهن إلى النار ، ولذا كان لون النار هو النور الظاهر في الدهن أصفرا برّاقا شفافا وبهذه الصفرة ينير لتحقق المناسبة التّامة وتلك الصفرة هي المصدر الذي يشتق منه اسم الفاعل والمفعول ، ولذا وضع لذلك النور اسما وهو المصدر فقيل علم ونور وكلاهما مصدران .

 

      وتوضيح الكلام أن العلم هو نقطة الكون المنبسطة على حقائق الأكوان الوجودية والحروف الكونية والوصفية والشرعية واللفظية ، وتلك النقطة بظاهرها تحكي ظاهر الأكوان وباطنها تحكي باطن الأكوان والأعيان وبكينونتها وذاتها تحكي المبدأ الذي هو الأصل في الكلام الذي ينشعب منه أصول ، وكل أصل ينشعب إلى أصول وهكذا ، وبسرّها المستودع في هويتها تحكي سر الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ، وبسر سرّها تحكي الوحدة الحقيقية البسيطة كل ذلك في مقام ( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله ) فالعلم ظل نوراني وشبح منفصل ليشرق على كل مذروء ومبروء وعلى التجليات الذاري البارئ الصور التي هي نفسه وعلى نور هيكل التوحيد وشبح التجريد والتفريد ، ولذا وضع له المصدر كما ذكرنا فإن المصدر هو الواقف على الطتنجين والبرزخ بين على العالمين عالم الفاعل وعالم المفعول وعالم الفعل والأسماء دليل المسميات وصفاتها ، ولما كان الظهور هيكل التوحيد في الهاء التي ظاهرها عين باطنها كما قال صلى الله عليه وآله

________________

1 النور 35

وسلم (( التوحيد ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره ، ظاهره موصوف لا يرى وباطنه موجود لا يخفى ))1 وهو رتبة التوحيد ولما كانت الأسماء رتبة التعلقات فوجب إشباع الهاء فظهر به سر الأسماء وموصوفها ومسمّاها وأصلها وهو الهوية التي تقوم بها الألوهية ، ولما كانت الظهورات الخاصة لها ارتباطا أكثر وأقوى فلو خطّت بيّناتها مع زبرها فاستنطقت منها الواحد ، والواحد إذا أضيف إليه الأحد كان عشرين فاستنطق منه الكاف فكانت الكاف هي تمام مقامات الأسماء والصفات والتجليات الإلهية من العامة والخاصة والظاهرة والباطنة وبقي مقام التعلق الخاص والربط المتعلق ولا يتم ذلك إلا بانضمام النون لأن الهاء إذا كررت تكون منه الياء و إذا كعبت الهاء في الياء تـظهر النون وهما تمام كلمة كن ، وكذا قـال سبحانه بعد البسملة { كهيعص }2 فالكاف إنما حصلت من إشباع الهاء والنون من تكريرها و إذا جمعتا تستنطق من المجموع العين ، فالعين إشارة إلى عالم الوجود المطلق وعالم الأمر بجميع تفاصيله وأحواله ، ولذا كانت السبعة هي العدد الكامل بنفسها وبتكريرها وتنزيلها ، وهي مشتملة على مراتب الاسم الأعظم الظاهرة في المخلوقين والغير الظاهرة وهي أسرار مبادئ الوجود وعلله الفاعلية ومبادئ العلل المادية والسر الأعظم الأعظم السرّ المقنّع بالسرّ من رتبة التوحيد الظاهرة للمخلوقين بجميع أنحائها وأطوارها وتجدد الفيوضات والإمدادات من بحر القدرة إلى طتنج المشيئة ومنها إلى جدول الحقيقة ومنها إلى مستسرّات سرائر الأكوان ومستوضحات شهادة الأعيان وهكذا إلى ما شاء الله ، ولما كانت العين تحكي تلك الأسرار ومنها تظهر تلك الأنوار وهي الوجه الأعلى من النقطة بمراتبه وجب أن توضع في أول حرف اسم تلك النقطة ملاحظا للنظم الطبيعي في العالم التكويني والـتدويني كما جعلت في أول اسم حاملها كما قـال تعالى (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعـني قـلب عبـدي 

_______________

1 معاني الأخبار 10                    2 مريم 1

 

 

المؤمن ))1 وقـال عز وجل { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }‏2 وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ، ولما كان الوجه السفلي لتلك النقطة ظهورها في الألف وانعطاف الألف بالحروف وتشعّبها منها وهو مقام الخلق والخلق إنما يتحقق بيكون عند خطاب كن وذلك له مقامان مقام صلوحه واستيهاله لوقوع الخطاب عليه والمقام الثاني مقام وقوع الخطاب عليه ، فالأول نسميه بالقابلية والثاني نسميه بظهور المقبول في القابل وقد تطلق عليه المقبول على جهة الإجمال ، ولا يصلح المخلوق ولا يستأهل لوقوع خطاب كن عليه ظاهرا وباطنا على جهة الكمال والتمام فيهما إلا بعد أن يستودع في سره بالتجلي ثلاثون اسما من الأسماء الحسنى فإذا استودعت فيها وعمل كل اسم فعله وتمت البنية ونضجت الطبيعة فهناك تنضج الطبيعة ويقوم الشيء رافعا صوته بالتلبية ويظهر فاعل يكون بعد وقوع خطاب كن عند الخطاب ، والسر في هذا الثلاثين هو أن المبدأ كما ذكرنا مرارا هو المثلث وهو إذا جذر يكون تسعة فإذا تممت التسعة بظهور الأحد يكون تمام العشرة وهذه العشرة لها ظهورات في كل العوالم و إنما تختلف بالأجمال والتفصيل والظهور والإخفاء والبساطة والتركيب ولها مقامان مقام نزول ومقام صعود فالنزول هي تلك ثلاثة إلى أن تصير عشرة والصعود هو ظهور سرّ تلك الثلاثة في كل من العشرة وهو تمام الثلثين وإليه الإشارة في قوله تعالى {* وَوَاعَدْنَا

______________

1 البحار 58/39 ح 61                 2 البقرة 23

 

 

 

 

 

 

 

 

مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }1 ومعنى ما ذكرناه هو أن الشيء لما بدأ من فعله تعالى له ثلاثة وجوه وجه إلى مبدئه ووجه إلى نفسه ووجه إلى غيره ، ولكل منها ثلاث حالات حالة عليا وحالة وسطى وحالة سفلى والعاشر هو الوحدة الجامعة لتلك الحالات كلها ، أما الصعود فهو ظهور الأحوال الثلاثة الأسفل فالأسفل إلى الأعلى فالأول ظهور الحالة السفلى في المجموع وهناك مقام الجماد ، والثاني ظهور الحالة الوسطى وظهور ربط المبدأ وهيجانه إلى جهة المبدأ والاستمداد وهو مقام          المعدن ، والثالث ظهور الحالة العليا من ظهور الربط الكلي وهو مقام النبات وهناك مقام فكسونا العظام لحما وذلك تمام الثلاثين ، فالأربعون من ظهور الحالة الرابعة وهي سر الثلاثة الجامع لها بأطوارها في كل هذه الثلاثة في كل مقام بحسبه وفي مقام الوحدة والجامعية فلها مقام مع كل واحد منها ومقام منفرد متوحّدة فيها وهي تمام الأربعين ، فمقام الخلق يتم في مقامين على اختلاف مراتبه مقام القابل وهو الثلاثون ومقام المقبول وهو الأربعون ومن هذه الجهة كان في مبدأ الكتاب الكريم ومفتتح سورة البقرة { الم } فالألف لبيان المبدأ واللام والميم لمقام رتبة الخلق قي أطوار القابليات والمقبولات ، ولما كانت الأسماء صفات المسميات ووجب بينهما المطابقة في كل الجهات اللازمة فوجب أن يجعل ثاني أحرف اسم تلك النقطة اللام لأنها متقدّمة في الظهور وكذا في الوجود وثالثها الميم لبيان تمام المراتب واجتماع العلل مع المعلولات والأسباب والمسببات واللوازم والملزومات والشرائط والمشروطات وهو يوم الجمعة في أيام الأسبوع ، ولم تكن هنا رتبة أخرى ليزاد حرف آخر فانحصرت أحرف الاسم في الثلاثة فصارت على مقتضى الترتيب علم ( ع ل م ) ثم دلّت بصفاتها إلى معان أخر فالعين من عالم الغيب ولأنها من حروف الجبروت واللام من عالم الأوسط لأنه من عالم الملكوت والميم من عالم الأسفل لأنه من عالم الملك ، وكل من الأحرف ثلاثيّة فتكون تسعة والمجموع واحد فتكون عشرة مع التفصيل الذي أشرنا آنفا و أشار سبحانه وتعالى إلى

___________________

1 الأعراف 142

هذا الصوغ والتأليف في كتابه العزيز { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } أي منتحل العلم { أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ } أي من العرب وهي المبادئ العالية وأطوار كن والعوالم الغيبية والإشارة إليها العين في الظاهر والباطن كما ذكرنا { وَمِنَ الشَّجَرِ } وهي أطوار عالم الشهادة والمقامات الخلقية لظهورات الجهات التفصيلية والكثرات فيها وتشعبها إلى الأغصان وأغصان الأغصان والأوراق وهكذا والإشارة إليها الميم { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } من الأحوال البرزخية بين الغيب والشهادة والظاهر والباطن والإشارة إليها اللام لأنها من حروف الأوسط { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }1 هي الأطوار الحاصلة من القرانات والإضافات والروابط وأنحاء الحيثيات، فالعلم هي نقطة الوجود السارية في الغيب والشهادة وبها ظهر المعبود بأحواله وأفعاله وهو بحر دائم الفوران يصعد ماؤه من الأرض وينزل إليه من السماء ونداء { يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء }‏2 لا يقع على هذا البحر لأن ذلك للرحمة وهذا للغضب وشتّان ما بينهما { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ }3 فشهد لفظ العلم بسر معناه ودلّ شهادته على غيبه ذلك تقدير العزيز العليم هذا مجمل بعض أحوال العلم .

 

      وأما الأمر الثاني فاعلم أن تلك النقطة هي السر الذي لا يحيط بكينونتها وأصلها وفرعها ومبدئها ومنتهاها ولوازمها وشرائط ظهوراتها وأطور كينونات نشأتها وإمداداتها وكلما لها ومنها وإليها وعنها وبها وعليها وعندها ولديها وسائر أحوالها وأوضاعها وإن كان لا وضع لها ولا حال لها على جهة الحقيقة والإحاطة القيّومية بنحو الشهود والظهور لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى لأن تلك النقطة هي الاسم الذي رواه في الكافي أن الله سبحانه خلق اسما ليس بالحروف مصوّت وباللفظ منطق وبالشخص مجسّد وباللون مصبوغ وبالتشبيه موصوف برئ من الحدود منفي عنه الأقطار محجوب عنه حسّ كل متوهّم مستتر غير مستور وهذا هو السر المخزون عند

______________

1 النحل 68 – 69          2 هود 44         3 ص 54

الله والاسم الأعظم الأعظم الأعظم والذكر الأعلى الأعلى الأعلى وهو الشمس المضيئة في قعر بحر القدر وفيه مصدر البداء وعلل الأشياء ومن ذلك يستزاد خاتم الأنبياء وكذلك صفوة ذرّيته وعترته عليهم السلام حيث أمرهم الله سبحانه بذلك بقوله تعالى { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }1 وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( اللهم زدني فيك تحيّرا )) وهذا العلم هو حقيقة الكائنات والممكنات والمكوّنات وليس فيه تجدد ولا تغير ولا تبدّل ولا مضي ولا حال ولا استقبال ولا اضمحلال ولا نقصان ولا زوال ولا تحول ولا انتقال ولا حركة ولا سكون ولا ظهور ولا خفاء وإنما هي نقطة عند الحق القديم المحيط بالأشياء كلها وهي حاضرة عنده سبحانه وتعالى والله سبحانه عالم بها قبل الخلق وبعد الخلق ومع الخلق ولا يصل إلى هذه المريبة أحد من المخلوقين إلا أن يكون خارجا عن صقع الإمكان فيختص بالله سبحانه فالممكن ليس عنده إلا نفسه وما تحته وأما التجدّدات الواردة لحفظ بقاء ذاته فليست حاضرة عنده وأما القديم سبحانه فليس عنده تجدد إذ ليس مستندا إلى الغير ولا متقوّما بسواه سبحانه وتعالى ، وهذا هو العلم الذي لا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء وهذا هو علمه سبحانه بالأشياء بها وهوالذي قال عليه السلام (( علمه ___________________

1 طه 114

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بالأشياء قبل كونها كعلمه بها بعد كونها ))1وهذا العلم خاص بالله سبحانه ليس لأحد فيه نصيب كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (( في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد فمن تطلّع عليها فقد ضادّ الله في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره وباء بغضب من الله

ومأواه جهنم وبئس المصير ))2ومن هذا العلم جفّ القلم بما هوكائن فـافهم ، وإليه الإشارة فيما ورد عنهم عليهم السلام أن الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون اسما اثنان وسبعون اسما عندنا وواحد تفرّد به الحي القيوم سبحانه وتعالى ، ثم ظهر في الأكوان من غيب الإمكان بعلم الله سبحانه في مقامين مقام النقطة الكونية والحقيقة الوجودية أي السر المستسرّ في كل الغيوب والأحوال والظاهر في كل شيء بالتفصيل في مقام الإجمال إما بذاته أو بصفاته أو بشؤنات آثاره أو بظهورات أنواره على جهة البساطة وعدم الكثرة ومقامه الاختراع ، ولها القيّومية والهيمنة على كل الأكوان وكل شيء تحت هيمنته تسلّطه مضمحلّون لدا سطوع نوره وبهائه وهو العلة المادية لكل الموجودات فظهرت في تلك النقطة من الحقائق الإلهية والذوات السرمدية والأزلية الثانية على جهة الوحدة والبساطة ، فالأسماء كلها من الأسماء الكونية والظاهرة في ذلك المقام اسم واحد والذوات ذات واحدة والحقائق حقيقة واحدة ليس هناك اختلاف وتعدد وتغير وتبدّل وظهور وخفاء وظلمة وعماء وأوليّة وآخرية وتقدم وتأخر لأنه مقام الربوبية إذ مربوب ذكرا لا عينا وهو مقام الواحد وأول ظهور الأحد لا الواحد المقابل للثاني بل الواحد الذي ليس له ثاني يجتمع مع الأعداد بكلها بصفاته وبعددها ويفارقها بذاته والأعداد تكثر وتزيد بظهور أمثاله ولذا لا تصعد مقاما في العدد إلا وترى الواحد قدّامه لن

___________________

1 في التوحيد ص 41 ما يقرب من هذا الحديث وهو قـوله عليـه السلام (( أحاط بالأشياء قبل كونها فلم يزدد بكونها علما , علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها )) .

2 البحار 5/97

 

يبلغ إليه العدد وإن صعد إلى ما صعد وبلغ إلى ما بلغ فهذه النقطة هي القطب الذي تدور عليه الأكوان الوجودية من الأزل إلى الأبد الذي هو عين ذلك الأزل ولا يحيط بهذا العلم على جهة الحقيقة إلا النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهو صلى الله عليه وآله وسلم الواسطة الكبرى والبرزخية العظمى وله الرسالة المطلقة ، وهذه الوساطة والرسالة المطلقة ، وهذه الرسالة والوساطة أعلى مقاما من الولاية إذ شملته جهة الوحدة واضمحلّت له الإنية حتى لا يبقى في مقام الفرق إلا الواسطة المحضة كما ذكرنا سابقا وهذا بحر لا يساحل وطمطام لا يحاول فلا نهاية له ولا بداية ودائما يفاض على هذا البحر من بحر القدر الذي في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد ولا نهاية لذلك الفيضان، ثم يفور ذلك البحر بورود ذلك الفيض بسر { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }1 ولا غاية لهذا الفوران ، وذلك البحر هو حقيقة المحبة ولذا لقّبه تعالى بالحبيب ووجود الكائنات كلها تـدور على المحبة لقوله تـعالى (( فأحببـت أن أعرف )) ، وهو بحر صاد وتمام { كهيعص }2 وبحر المزن { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}3 وبحر النون وبحر المعرفة وسر الوجود وبحر النون وجنان الصاقورة التي ذاق روح القدس منها الباكورة وبحر الماء الذي به كل شيء حي وبحر العلم الذي منه يغترف كل خلق ولا ينقص منه شيء وأمر الله الذي لا ترى فيه اختلاف ، وبالجملة هو نقطة بسيطة غير ظاهرة إلا بصفاتها تدور عليها المكونات بأسرها وهي حقيقة العلم وينبوعه وأصله ومعدنه وهذا هو المقام الأول مما ظهر من العلم الأول .

 

      وأما المقام الثاني منه فهو مقام التفصيل وشرح العلل والأسباب وظهور تلك النقطة في الشئونات والأطوار وظهور الأسماء المتقابلة والأحوال

_______________

1 النور 35            2 مريم 1  

3 الواقعة 68 - 69

المتضادة وهو مقام الربوبية إذ مربوب كونا وعينا وهناك محل ظهور الاختلاف وتمايز الخلق بعضهم عن بعض بالحدود والصور والهيئات وتفاصيل ذلك الإجمال كالمداد والكتابة المتمايزة مما تختلف به الأحكام والمعاني مع صلوح الكل للكل ومقام استواء الرحمن على العرش وإعطاء كل ذي حق حقه والسوق إلى كل مخلوق رزقه ومقام إعطاء كل ذي فضل فضله وتمايز الأركان الأربعة في العرش من الركن الأبيض ركن الرزق والركن الأصفر ركن الحياة والركن الأخضر ركن الممات والركن الأحمر ركن الخلق ، وظهر في الركن الأول اسم الله المحيي وفي الثاني اسم الله الحي وفي الثالث اسم الله المميت وفي الرابع اسم الله القابض ، فهو مقام أول انقسام الوجود وتشعّب الملائكة حملة الأسماء الظاهرة بالتدبير والتأليف والتكييف والتصوير ، وفي المقام الأول لم يكن انقسام ولا تمايز ولا اختلاف وإنما التمايز حصل في هذا المقام إذ الوجود كله له مقامان مقام الإجمال ومقام التفصيل ومقام البساطة ومقام الكثرة ، فلما كان حامل العلم الأول هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان حامل العلم الثاني هو مولانا علي عليه السلام ولذا نسب الاختلاف كله إليه عليه السلام كما قال تعالى { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }1 وقال عليه السلام (( ما لله آية هي أكبر مني وما لله نبأ هو أعظم مني ))2 وقـال صلى الله عليـه وآله وسلم (( ياعلي ما اختلف في الله ولا فيّ و إنما الاختلاف فيك يا علي )) وذلك لأن مقام الله سبحانه هي الربوبية إذ لا مربوب فليس هناك شيء حتى يتصور الاختلاف ، ومقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الربوبية إذ لا مربوب عينا وليس للكثرات هناك ظهور حتى يتصور الاختلاف ، فانحصر الأمر في هذا المقام أي مقام الربوبية إذ مربوب ذكرا وعينا فهناك يتحقق الاختلاف وتظهر الأشياء كلها على مثال المبدأ وتنسى نفسها واضمحلالها وتدعي فوق مقام رتبتها فمن متوقّف جاهل ومن منكر معاند ومن موافق صادق ولـذا                

________________

1 النبأ 1 _ 3                    2 تأويل الآيات 733

 

ترى الاختلاف في مقام الرحمانية لا الألوهية وهو قوله تعالى { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا }1 إلى أن قال تعالى { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }2 فافهم المراد ، فعلي عليه السلام هو مبدأ العلة الصورية بظهوره كما أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ العلة المادية بشعاعه وقد تقدّم مرارا أن مثاله صلى الله عليه وآله وسلم العرش ووجهه الشمس ومثال علي عليه السلام الكرسي ووجهه        القمر ، ولذا تسير الشمس وتقطع دورة بعد أن سار القمر وقطع اثنا عشر دورة ولذا كانت منطقة البروج منقسمة على اثني عشر اسما لكل قسم برج فمقامه عليه السلام مقام الابتداع فمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العالم الأول الاختراع الأول والولي عليه السلام فيه الابتداع ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في العالم الثاني الاختراع الثاني والولي عليه السلام الابتداع الثاني ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عالم الوجود المقيد مثاله العقل الكلي والولي عليه السلام مثاله النفس الكلية ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم الألف في عالم الصفات والولي عليه السلام الباء فيها ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم النقطة والولي النفس الرحماني الأولي ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم محل المشيئة والولي عليه السلام محل الإرادة والقدر والقضاء والإمضاء ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حامل ظهور الألوهية ويدعو باسم الله والولي عليه السلام حامل آثار الرحمانية ويدعوه الله باسم الرحمن ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ العلة المادية والولي عليه السلام مبدأ العلة الصورية ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر بالإنذار والولي عليه السلام ظاهر بالهداية ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبوالقاسم والولي عليه السلام أبوتراب وأبوالحسنين ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم نور الله مثل نوره

____________

1 مريم 85 _ 88                   2 مريم 93 _ 95

والولي عليه السلام مشكاة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل الله والولي عليه السلام رحمة الله ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الله والولي عليه السلام قدرة الله ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله والولي عليه السلام آية الله وروح الله وعظمة الله ويد الله ولسان الله وعين الله وجنب الله ونفس الله وذات الله ووجه الله وحامل فيض الله ومظهر أمر الله ونهيه ، فالعلم المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام المختص به هو علم الولاية الظاهرة بالتفصيل وكل علوم الربوبية إذ مربوب مطلقا فهو عليه السلام معدنه وينبوعه منه بدؤه وإليه ينتهي ويعود وهو قوله تعالى { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ }1 قال عليه السلام (( الضمير في إليه يرجع يعود إلى الولي عليه السلام وفي فاعبده يرجع إلى الله يعني اعبد الله بهذا الاعتقاد )) ويكفيك في هذا المعنى كونه عليه السلام قسيم الجنة والنار لأن الخلق بأجمعهم إما من أهل الجنة والكرامة أو من أهل النار والإهانة كما قال عز وجل { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ }‏2 فافهم .

 

      وأما الأمر الثالث فاعلم أن العلم على المعنى الذي ذكرت كله عند الله عز وجل { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ }3 وما عند الله لو كان في ذاته تعالى لاختلف فإن تلك النقطة التي قلنا أنها العلم وهي و إن كانت واحدة لكن لها شئونات علوية وسفلية وهذا لا يصح أن يكون صفة القديم تعالى شأنه فإن الذي وجوده من ذاته لا تكون له جهتان ولا يفرض ذلك فإن الجهتين انقسام والانقسام منفعل ومتأثر عن المقسّم الفاعل وذلك لا ريب فيه ، فما عند الله من الأحوال الخلقية كلها في ملكه عز وجل كما قال سبحانه { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ

__________________

1 هود 123                 2 التغابن 2

3 الملك 26

 

 

 

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ }‏1 وقال عز وجل { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }‏2 وقـال تعالى أيضـا { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى }3 وأمثالها من الآيات كثيرة ، فعلمه سبحانه ذاته والتعلق جهات خلقية في الخلق فالعلم المتعلق لو كان عين العلم القديم لكان له حالتان حالة التعلق وحالة عدمه وورود الحالتين لا يكون إلا بمرجحات خارجية وإلا استحال الانفكاك وامتنع التعاقب ، لأن ذات الشيء لا تتخلف عنه والمرجحات الخارجية دليل عدم استكمال الشيء في نفسه وافتقاره إلى أمور خارجية لإظهار شئوناته الذاتية ، ثم لا تتحقق الشئونات والأحوال إلا لحادث ممكن تكون له جهتان متضادتان فتحصل جهة من مبدئه والأخرى عنه به ، فأما الذي لا يستند إلى الغير فليس له إلا جهة واحدة ، فثبت أن يكون العلم المتعلق غير العلم القديم سبحانه وتعالى وقد صرح بالأمر مولانا الصادق عليه السلام على ما في الكافي عنه عليه السلام ل (( لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم )) إلى أن قال عليه السلام (( فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع ))4 الحديث ، انظر في قـوله عليـه السلام (( وقع )) فإنه فعل لا يجوز استناده إلى الذات مع ما ثبت من مذهبه عليه السلام من امتناع ورود الحالتين على الحي القيوم سبحانه وتعالى ، فعلمه المتعلق بالمعلومات في خزائنه الإمكانية التي هي مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو وأصلها ومنشؤها في الخزانة العليا الأولى وهي لا وجود لها في الكون عند أهله فلا إحاطة لأهل الكون بشيء من تلك العلوم ، ولما كان فيض الله سبحانه واسعا وإمداده متجددا ونعمته شاملة بالغة فلا يزال يمد الخلق سبحانه وتعالى بفاضل جوده وتلك الإمدادات إنما هي من تلك الخزينة بها فترد أولا إلى الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم جملا جملا على جهة الكلية والشمول والبساطة إذ الأثر على صفة فعل المؤثر ولما كان الفعل لا حدّ له فيكون الأثر أيضا كذلك يظهر كعموم قدرة الله سبحانه صالحا للأحوال الغير

______________

1 الحج 70        2 ق 4            3 طه 52      4 الكافي 1/107

المتناهية من جهة الحدود والإضافات والقرانات ، والخزانة الأولى أيضا ليست مستقلة وإنما هي دائما يفاض عليها من بحر الجود والعطاء بها نفسها ، وفي الواقع وحقيقة الأمر الخزانة العليا غيب للثانية وليست شيئا غيرها وإلا لكانت الثانية معلولا وهو لا يصح وإنما هما شيء واحد له وجهان وجه فيه ذكر الأشياء ووجه فيه حقيقتها إما بذاتها أو بصفاتها أو بظهورات آثارها ، ألا ترى كيف جعل الله سبحانه الاسم الأعظم { كهيعص }2 اسما واحدا وكلمة واحدة فالصاد هو الخزينة الثانية والعين هي الأولى والهاء والياء والكاف هي تفاصيل العين على ما فصلنا سابقا ، فمن الأعلى ينزل إلى الأسفل ومن الغيب يأتي إلى الشهادة ، لست أريد بالشهادة الأجسام الظاهرية أو النفوس المصورة ولا العقول المحدودة وإنما أريد بالشهادة الظاهر الذي هو عين الظهور بعدما كان في مكمن الخفاء وذلك المخفي هو علم الغيب الخاص بالله سبحانه , فإن قلت فعلى ما ذكرت يلزم أن لا يجهلوا شيئا لأن الغيب هو وجههم الأعلى والشيء إذا أشهده الله خلق نفسه يحيط بحقيقة ذاته على ما هي عليه ، قلت نعم يعلمونه على ما هو عليه بأن ذلك الوجه بعد ما لبس حلة الكون فيعلمونه ممكنا ولا يعلمونه مكوّنا إلا حين كوّن ولذا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال تعالى { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء }1أي حين شاء كيف شاء بالمشيئة الكونية وتلك المشيئة هي ظهور تلك الحقيقة لنفسها بنفسها أي من حيث كونها حاملة لظهور الله سبحانه لها بها ، وأما الذي لم يكن فيعلمونه كذلك ، أما الله سبحانه فلما كان ليس له حالتان ولا ينتظر وجهان فليس له علمان فلا يقال له تعالى أكوان وإمكان يعلم الأكوان بعد الإمكان فإن ذلك باطل واعتقاده كفر ، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو مصدر الفيض وله مقامات وأحوال ففي كل حال منها يحكي وجها من وجوه التجليات الإلهية والأحكام الصمدانية ويكفيك في ذلك قول أمير المؤمنين فيه صلى الله عليه وآله وسلم (( أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ))2 ولما كان الفيض والمدد دائم الفيضان عليه عليه السلاموذلك يعيّن ويشخّص تلك الأذكار فدائما يظهر من مكمن الخفاء إلى الإعلان والإظهار { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}3 فكل إفاضة يظهر ما لا نهاية من الأحكام الإمكانية لكنها جملا تفصّل عند الولي عليه السلام فكلما سيوجد عندنا وجد عندهم عليهم السلام وكلما سيوجد عند الله وجد عند الله فالذي لم يوجد عندهم هو علم الغيب وإليه

___________________

1 البقرة 255                            2 الإقبال 461

3 ص 54

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإشارة بقوله تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ }1 وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أحد التفاسير .

 

      وكيفية ذلك التعليم هو إشراق ما عند الله فيه له به فعلمه تعالى فيه به قبله بما لا يتناهى لأنه النور المشرق من صبح الأزل وهو أيضا الصبح أو صبح الأزل وفيه ظهرت شمس الأزل ، والتعليم إشراق المعلم على المتعلم بما فيه من نور العلم فيستنير المتعلم بذلك مع حفظ الأصل للمعلم وفي ذلك المقام اتحدت الأحوال واضطربت الأقوال ولم يبق للمقال مجال فإن الإشراق ظهور المشرق به والمشرق هو الظاهر بالإشراق والأصل محفوظ عند المشرق وهو ظاهر بالإشراق فإليه يرجع الأمر كله قال عليه السلام (( رجع من الوصف إلى الوصف ودوام الملك في الملك )) وهو قوله تعالى { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ }2 فافهم فإني قد أشرت إلى مخزون العلوم ومكنون السر فهو عليه السلام علم الله ومشيئته مشيئة الله ، أما سمعت في الزيارة الخارجة عن الناحية المقدسة حرسها الله تعالى في زيارة الحجة عجل الله فرجه إلى أن قال عـليـه السلام

_______________

1 الجن 26 _ 27

2 الحج 70

 

 

 

 

 

 

 

 

 

م (( مجاهدتك في الله ذات مشية الله ومقارعتك في الله ذات انتقام الله ))1 الزيارة .

    وإياك واسم العامريـة إنـني       أخـاف عليها من فم المتكـلم

    أخاف عليك من غيري ومني        ومنك ومن مكانـك والزمـان

    فلو أني جعلتـك في عيـوني       إلى يـوم القـيامـة ما كفانـي

 

      هذا بيان كيفية مجمل تعليم الله لمحمد ، فإذا فهمت ما قررنا وحررنا من مكنون العلم علمت أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو معدن العلم وأصله وينبوعه لأن عنده صلى الله عليه وآله وسلم الأصل وكلما لغيره وعند غيره فروع وحدود وصور وقد نشأت منه صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقال لغيره العالم إلا بالإضافة لأن قوام الشيء بمادته وصورته والمادة هي الأصل في الشيء بل لا أصل سواها والصورة هي الحدود والأعراض والإضافات والنهايات فلا تقوم لها إلا بها ، فلما كانت الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم هي نور الأنوار والنور الذي تنـورت منه الأنوار وهي مادة المواد واسطقس الاسطقسات كان هو صلى الله عليه وآله وسلم ينبوع العلم وأصله ومعدنه كما قال روحي فداه (( أنا مدينة العلم وعلي بابها ))2 وفي رواية أخرى (( أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ))3 والحكمة وإن كانت هي العلم إلا أنها أشرقت مراتبه أي كل مراتبه بوجهها الأشرف فإن الحكمة عبارة عن السين المكتنفة بالأحدية فالأحدية هي المحيطة بجميع أطوارها والسين هي المحاط فإن الكاف والميم إذا استنطقتها يتولد منها السين وهو أعظم أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن اسمه يطابق مسماه فإن زبره عين بيناته ولفظه عين معناه ومن هذه الجهة كانت السورة المباركة قلب القرآن وهو علي عليه السلام في مقام ظهوره عليه السلام في عالم التفصيل بالتكرير وهو السين في بسم الله الرحمن الرحيم وهو الاسم الأعظم وهو إشارة إلى كل مراتب

________________

1 البحار 91/36                  2 عيون أخبار الرضا 2/66

3 وسائل الشيعة 27/77

الموجودات على كمال التفصيل فإنا قد ذكرنا أن مراتب القابليات ثلاثون والشيء له مقامان مقام الإجمال ومقام التفصيل ومقام الغيب والشهادة فيكون الحاصل ستين وهو السين ، وكل قابلية فلا يتخلف عنه المقبول فيلزمها مع دلالة الأحد عليه والحاء والهاء إذا مزجتهما واستنطقتهما يتولد منهما أحد وهو الجامع الأصل لمرتبتي الوجود صعودا ونزولا وجميع أحوال القوسين و أطوارهما ومقتضياتهما ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المدينة لها لفظا ومعنى أما اللفظ فلأن ميم المدينة مثال ميم محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدال داله وبالتكرير حاؤه وبالإضافة إلى الياء الميم الثاني والنون إشارة إلى الميم الثالث المدغم ومن هذه الجهة أشير إليها بينات الميم التي هي النون دون زبرها لبيان أنها غائبة في الخط ومذكورة في اللفظ كالبينات فإنها غائبة في الخط ومذكورة في اللفظ في بعض الأحوال فاستنطق من المدينة من دون الهاء اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الهاء اسم الباب لفظا ومعنى أي لفظ معناه ، أما اللفظ فلأن الهاء خمسة كما هي قوى الباب فالهاء نطق الباب فالمدينة بلفظها تدل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبابه علي عليه السلام ويتعين الباب باسمه إذا أشبعت الهاء لتظهر منه الواو ثم نزلتها إلى الرتبة الثانية فيستنطق اسم علي عليه السلام فظهر الأصل والفرع كليهما من لفظ المدينة ، ولما كان الناس لا يعرفون تلك الدقائق ولا يستشعرون بتلك الحقائق كشف صلى الله عليه وآله وسلم عن حقيقة الأمر وأوضح السر وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن يأت المدينة فليأتها من بابها )) فكشف صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله تعالى { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }1 وإنما كان علي عليه السلام هو الباب لأنه عليه السلام مبدأ العلة الصورية والصورة باب المواد فلا يوصل إليها إلا بها في القوس الصعودي ، ولذا ترى فلك القمر ككوكبه أقرب الأفلاك والكواكب إلينا وهي باب للآثار والإمدادات والإفاضات الشمسية فلا يوصل إليها إلا بالقمر في كل مقام ولذا

_______________

1 البقرة 189

تراهم في الحل الأول يأخذون جزء من الحرارة وجزء من اليبوسة وأربعة أجزاء من البرودة والرطوبة ولهذا السر جعلوا في اسم العلم من اسم علي عليه السلام حرفين ومن اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرفا واحدا للسر أن مقامه صلى الله عليه وآله وسلم مقام العقل ورتبة الإجمال ومقام علي عليه السلام مقام التفصيل والنفس الكلية والجسم من قشور النفس فاقتضى أن يكون حرفان من اسمه وحرف واحد من اسم أخيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتحقق أنه المدينة وأنه الباب والسافل لا يتوجه إلى العالي إلا من الباب التي بينه وبينه ، وكلما كان عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جهة الإجمال فيلقى إلى علي عليه السلام كذلك فيفصل هناك ولذا كان يعلمه عليه السلام من العلم أبوابا أي قواعد كليات لا حدودا جزئية إذ ليس ذلك شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك ما كان ينبغي أن ينشد الشعر كما أخبر سبحانه { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }1 لأن الشعر والنظم ترتيب وتصوير ومقامه عليه السلامفوق مقام الصورة والفرق والامتياز .

 

      وأما الأمر الرابع فاعلم أنه قد ظهر مما بينا كيفية تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام من أنها إفاضة مادية أصلية كالعرش بالنسبة إلى الكرسي فإن الفيوضات ترد على العرش مجملا ومن العرش ترد على الكرسي فيفصل هناك إلى الكواكب وهي إلى البروج والمنازل ، وكالعقل والنفس فإن العلوم والفيوضات كلها ترد أولا إلى العقل بعدما وردت إلى الفؤاد وهي في العقل مجملة بسيطة كثرتها معنوية صلوحية لقد فصلت في النفس و انتشرت وكتبت في اللوح فالكتاب هو المشية بيدها وهي الفؤاد والقلم العقل والنفس واللوح فهذه كتابة أبدية لا تنقطع لأن الكاتب لا يعجز واليد لا تقصر والمدد لا ينقطع والقلم لا يجف واللوح لا يخلص ولا يقصر ، فارتفعت الموانع وبقي المقتضى والمفروض عدم بخل الكاتب الكريم وعدم جهله فعلم القلم في الكتاب وكذا علم الكاتب فيما لا يظهر في الكتابة في

________________

1 يس 69

الكتاب والكتاب هو الإمام عليه السلام والقلم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الباطن في الظاهر وقد قال عز وجل { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا }1 { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }2 { وَتَـفْصِيـلَ كُلَّ شَيْءٍ }3 { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }4 وقال تعالى { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏ }5 ، وأما سر باطن الباطن وباطنه وباطنه فإن ذلك أبى الله إلا أن يستره وأن لا يكتب ، فالعلم المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو العلم الإجمالي ورتبة الربوبية إذ لا مربوب عينا وكونا ومقام الوحدة الظاهرة في الواحد للظهور في الأعداد ومقام إقامة مقامه في سائر عوالمه في الأداء ، ومقامه نقطة العلم الظاهرة المنبسطة على أطوار ظواهر الكائنات وبواطنها المقتضية لرفع الاختلاف وظهور الائتلاف ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( ما اختلف في الله ولا في )) ، والعلم المنسوب إلى مولانا علي عليه السلام هو العلم التفصيلي ورتبة تجلي الربوبية إذ مربوب عينا وذكرا ومقام ظهور استواء الرحمن على العرش و إعطاء كل ذي حق حقه والإيصال إلى كل مخلوق رزقه ومقام الواحد الظاهر في الأعداد ومقام الاختلاف ورتبة الألف الظاهرة بالحروف والكلمات ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( وإنما الاختلاف فيك يا علي )) وقال عز وجل { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي

_______________

1 النبأ 29                2 يس 12                 3 يوسف 111

4 الأنعام 59             5 الجاثية 29

 

 

 

 

 

 

 

هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }1 وقال عليه السلام (( ما لله آية هي أكبر مني وما لله نبأ هو أعظم مني ))2 ، ولما كانت الأشياء لها مراتب ومقامات منها مقام العلّيّة  والمعلولية والأثرية والمؤثرية ففي هذا المقام يعلم العالي علة السافل المعلول بأحواله في مرتبة ذات السافل فحقيقة السافل هي عين علم العـالي بالسافل به ، فالعالي وإن علم السافل به لكن لا يقال أن هذا تعليم أي السافل المعلول علم العالي نفسه أي أعطاه علمه به إذ علمه به في مقامه لأن التعليم تأثير للمعلم في المتعلم وليس هذا العلم في ذات العلّة حتى تكون مستكمةه بعلمها بأثرها وإنما هو في رتبة الأثر بل هو عين الأثر وإنما التعليم حينئذ من جهة العلة حيث أن وجوده من فيض جودها ونور وجودها فلا زاد علم العالي للسافل شيئا للعالي في ذاته شيئا لأنه لم يصل إليها بوجه أبدا وإلا لتغيّرت الذات بأثرها وذلك مستحيل ، بل السافل لم يزل متعلما من العالي من فاضل علمه الظّاهري فهو قابل لذلك العلم بكينونته وذاته ومنها مقام الترتب في القوس الصعودي والنزولي وذلك لما كان من جهة الاستكمال والاستتمام يجري فيه التعليم ، وبيانه مجملا هو أن الشيء لما بدأ من فعل الله تعالى خرج حاكيا لمثاله فظهر بلا كيف ولا كم ولا وضع ولا عين ولا جهة ولا رتبة ولا تحديد ولا تقييد ولا توصيف ولا تكييف فكانت له عين واحدة يرى بها التوحيد المحض الخالص ، ولما كانت الألوهية تقتضي الظهور بكل وجه من طور الوحدة والكثرة الأسمائية والصفاتية ومقام الأسماء لم يكن يجتمع مع مقام التوحيد وذلك المقام أيضا لا يكون إلا بالظهور بالأثر فنزّل سبحانه الشيء المخلوق من عالمه إلى أطوار تعيناته وتنزلاته فقال له أدبر عني وأقبل إلى الخلق فسبّح في لجّة تلك الغمرات وانغمس في بحر الإنيّات حتى استكمل ما أراد سبحانه به إظهار أسمائه وصفاته وجلاله  وجماله ، ولما أن المطلوب والمقصود لذاته هو التوحيد وحده وما سواه من المراتب لإثبات تحققه عند المخلوق وأمره سبحانه بعد الإدبار إلى الإقبال فقال له أقبل فأقبل إلى أن بلغ أشده

_________________

1 النبأ 1 _ 3                   2 تأويل 733

 

واستوى فحصل للشيء بطء مسافة هذين القوسين علمان علم الوحدة والائتلاف وعلم الكثرة والاختلاف وعلم الإجمال وعلم التفصيل ، فعلم الوحدة هو الذي يدركه في كينونة ذاته بذاته من غير توسط أمر آخر ، وعلم الكثرة يدركه بظهور ذاته في مقام التفصيل لا في مرتبة الذات ، ومقام التفصيل لا يتحقق إلا بظهور مقام الوحدة وعالم الإجمال فيه فلا يزال ينزل العلم من  المبدأ مجملا فيفصل ويتشعب في مقام التعلق ، فلما كان العقل في الإنسان هو حامل العلم الإجمالي الكلي المعنوي والنفس هي حامل العلم التفصيلي الصوري الشخصي فلا يزال العقل يمد النفس ويعلمها بالمدد والعلم الحقيقي الإجمالي والنفس أيضا تعلم العقل العلم التـفصيلي الشخصي الصوري ، فإذا أراد العقل شيئا من أحكام التفصيل نظر إلى رتبة النفس فعلمها كما أن الحواس الباطنية تعلم النفس أحكام الظهورات الخاصة التفصيلية ، يعني أن النفس إذا أرادت معرفة شيء من تلك الوجوه نظرت إليه بتلك القوة فهي تعلم النفس علمها وذلك العلم من النفس وللقوة حظّ الخصوصية ، وكما أن الحواس الظاهرة تعلّم الباطنية أحكام الأجسام الشهودية إذ لولاها لما تمكّنت الأرواح الباطنية استعلام الأحوال الجسمانية الشهودية ، وكما أن الملائكة تعلم الأنبياء والرسل أحكام التشريعي والتفصيلي وكذلك التكويني كذلك ، فتقول النفس مثلا علمني العقل علمه من العلم المعنوي والقواعد الكلّية المبهمة وعلّمته علمي من الصور الجزئية والتفاصيل الشخصية والأحكام المحدودة ، وإن كانت هذه التفاضيل لا قوام لها إلا بتلك المجملات والمبهمات ولكن تلك الخصوصيات إنما ظهرت هنا دون تلك الرتبة فيتناولها العقل عندي لا عنده ولا نقص في ذلك له بل إنما هو لغاية الكمال والتمام ، وكذلك تقول الحواس علّمت النّفس إياي علمها وعلّمتها علمي وكذلك سائر القوى والمشاعر والآلات فإن لكل واحد منها علما خاصا بها ينظر العقل إليه به ، وكذلك جبرائيل علّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما علّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيّاه لكن بطور آخر فإنه كان يأخذ من ميكائيل وهو من إسرافيل وهو من روح القدس وقد سمعت مرارا ما قاله العسكري عليه السلام في روح القدس أنه ذاق من حدائقهم الباكورة .

 

      فعلى هذا تبين لك معنى قول علي عليه السلام (( علّمته علمي )) لأن عليّا عليه السلام في مقام الولاية وهي مقام التفصيل فالأحكام التفصيليّة ما وصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ بواسطة علي عليه السلام وذلك الوصول إنما كان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان طائفا حول جلال القدرة أي الولاية المطلقة قبل خلق نور عليّ عليه السلام عند جلال العظمة وهي النبوة ، فلمّا خلق عليّا عليه السلام بقي نور علي عليه السلام يطوف حول جلال القدرة أي الولاية ونور محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف حول جلال العظمة ، فإذا كان كذلك فكلّ المقامات والمراتب التي فيها التّعلّق والتكييف والتوصيف والتعريف والتفريق والامتياز لا يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعلي عليه السلام وهو بابه فيما يصدر منه إلى غيره وفيما يصل إليه من غيره فهو بابه عليه السلام إلى غيره وباب غيره إليه ، ولما كانا عليهما السلام حقيقة واحدة صحّ نسبة تعليم أحدهما إلى الآخر وإن كان أحدهما بالأصالة والآخر بالقشر والصورة ، فمن التّعليم ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكينونة البشرية الظاهرية الصورية في الهيكل الإنساني فإن هذه الصورة وإن كانت على مقتضى كينونة النبوة في الشكل التّثليثي في الواحد لكن كانت غير ظاهرة وغير متمايزة الأضلاع والحدود وإنما تمايزت بالصور في رتبة الابتداع ، ولما كان علي عليه السلام هو حامل ركن الإبداع كما أن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم حامل ركن الاختراع فالإرادة منسوبة إلى الولي عليه السلام كما أن المشيئة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالكاف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والنّون للولي عليه السلام ، وكذلك ظهور الكاف في النون ولذا كان مجموع الكاف والنون استنطاق أول حرف اسم الولي عليه السلام فالأشياء المتمايزة نسبتها إلى الإرادة والإرادة نسبتها إلى الولي ، وأما الأول فلـقوله عليه السلام في الدعاء

 

(( ومضت على إرادتك الأشياء ))1، وأما الثاني فلقوله عليه السلام في الزيارة (( إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم ويصدر من بيوتكم الصادرة لما فصّل من أحكام العباد ))2 الزيارة ، فالكينونة البشرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مما علّمها إياه الولي عليه السلام بالترجمان وإن كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإليه ومن الولي وإليه صلى الله عليه وآله وسلم فافهم .

 

      ومن التعليم ظهور النبي ببعث الأنبياء والرسل فإن تعدد الأنبياء بحسب ظهورات الأسماء في مرايا التعلّقات ، وتلك إنما نشأت من حكم الابداع بالإرادة وحاملها الولي كما أن المشيئة حاملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالمشيئة كانت الإرادة ، والأنبياء حكاية ظهورات تلك الأسماء فافهم .

 

      ومن التعليم إنزال القرآن الكتاب الذي فيه تفصيل كل شيء من الأسرار الغيبية والشهودية مما كان أو يكون إلى ما لا نهاية له فإن الكتاب التكويني حقيقة هو الولي عليه السلام والكتاب التدويني صفة الكتاب التكويني وقد دلّ العقل والنقل على أن الكتاب هو علي عليه السلام وهو الكتاب الذي كتبه الله بيده وهو الهيكل الذي بناه بحكمته وهو مجمع صور العالمين وهو الصراط المستقيم وهو الصراط الممدود بين الجنة والنار وقد قال تعالى     { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }1 وقال عز وجل { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا }2 وقال { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ }‏3 وهو علي عليه السلام وهذا لا إشكال فيه لمن نظر وتدبّر وأنصف واعتبر والله سبحانه أخبر عن ذلك بقوله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }4 وقد اتفق المفسرون أن هذا الروح هو القرآن

_________________

1 يس 12                2 النبأ 29       

3 الجاثية 29             4 الشورى 52

وقال عليه السلام (( أنا الروح من أمر ربي وأنا كتاب الله الناطق والقرآن كتاب الله الصامت )) فالولي هو الكتاب الذي أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فعلم به ما كان وما يكون كما أنه يعلم بالقرآن مع أنه أشرف وأعظم من القرآن فافهم ضرب المثل فكم من خبايا في زوايا .

 

      ومن التعليم الأسماء الحسنى التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بها الله سبحانه فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما علم عليّا عليه السلام الاسم الأعظم الله وهو الاسم الواسع العظيم الجامع فعلّمه علي عليه السلام الاسم الرحمن وما سواه من الأسماء الخاصة المتفاوتة المختلفة المتقابلة لأنها كلها إنما نشأت من اسم الرحمن حين استوائه على العرش وقد ظهرت كلها بعلي عليه السلام ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله بعلي عليه السلام على ما روي عن ابن مسعود وعائشة، وعلي عليه السلام يدعوالله بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو السر في قوله عليـه السلام (( وعلّمني علمه وعلّمته علمي )) فافهم .

 

      ومن التعليم بعثة الأنبياء بالشرائع والسنن فإن الشرائع كلها من شريعة أبينا آدم عليه السلام إلى شريعتنا الموجودة الآن كلها من حدود القرآن كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شيء ، وقد علمت أن القرآن هو صفة الولي عليه السلام وتلك الشرائع صفة القرآن على الحقيقة أو نسخة منه على الظاهر فيرجع إلى الولي عليـه السلام أمرها قال تعالى { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ }1 قال عليه السلام إن الضمير يرجع إلى الولي عليه السلام وقد ورد من طريقـنا وطريقهم في تفسير قـوله تعالى { مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن

_________________

1 هود 123

 

 

 

 

رُّسُلِنَا }1 عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( ليلة أسري بي إلى السماء اجتمعت في مسجد الأقصى مع كل الأنبياء والمرسلين فأتاني جبرائيل وقال يا محمد اسألهم بماذا بعثوا فسألتهم فقالوا بعثنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أن عليا ولي الله )) وهذا التعليم والإلهام في الكل إنما كان بعلي عليه السلام بمثاله في هويّاتهم وفي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لكونه علمه ولسانه ونفسه ، أما علمت أن النبي كسر الأصنام وهدمها لكن بعلي عليه السلام لما علا على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم .

 

      ومن التعليم إنزال الملائكة وحفظة الوحي وحملة الإلهام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذلك كان بالولي عليه السلام أما علمت أن جبرائيل سيد الملائكة وقد علّمه علي عليه السلام شرائع دينه ومعرفته بربّه واسمه ، وهذا دليل على أنه عليه السلام ما يمكنه أن يتعلّم ويأخذ من الله سبحانه إلا بواسطة علي عليه السلام لأن الملائكة حملة التدابير الخاصة المتعلّقة الناشئة من الإرادة التي يحملها الولي عليه السلام وتهبط إليه والكرّوبيون الذين هم سادة الملائكة حيث أن موسى النبي عليه السلام الذي من أولي العزم قد خرّ مغشيا عليه عند ظهور نور رجل منهم بقدر سمّ الإبرة كلّهم من شيعة علي عليه السلام على ما رواه الصّفار في بصائر الدرجات ، والشيعة إنما مشتقّة من الشعاع أومن المشايعة كما ورد عنهم عليهم السلاموكلا المعنيين يستلزم أخذهم في كل ما لهم وعليهم ومنهم وإليهم عن علي عليه السلام ولذا قال عليه السلام في حديث البساط (( والله إنه لا يخطو ملك خطوة إلا بإذني وأمري )) كيف وهو عليه السلام أمر الله الذي قامت به السموات والأرض وقام به كل شيء كما قال عليه السلام (( كل شيء سواك قام

_______________

1 الزخرف 45          

2 الأنبياء 29

 

بأمرك ))1وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز بقوله { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ }2 وقد قال عليه السلام أنا الروح من أمر ربي فالملائكة إنما تنزّل به عليه السلام على من يشاء من عباده من الأنبياء والمرسلين والخلفاء والصالحين والمؤمنين الممتحنين في حياتهم وبعد مماتهم ، وقد سمعت ممن أخبرني عنهم عن أحد الأئمة عليهم السلام أنه قال (( إن جبرائيل ما دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة إلا وقد استأذن من علي عليه السلام فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذن علي عليه السلام )) وهذا الحديث وإن كان مرسلا لكنه مؤيد بالأخبار الأخر والآيات كما أشرنا إلى بعض منها .

 

      وبالجملة أنحاء هذا التعليم كثرة و أسرارها غريبة ولذا ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج ما مر على مقام من المقامات إلا وقد رأى عليا عليه السلام فيه ولما وصل إلى مقام قاب قوسين فخاطبه الله سبحانه خاطبه بلسان علي عليه السلام لأن العالم كله مثل وهياكل لعلي عليه السلام لأنه نور أشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره فما تجد ذرة من ذرات الكون إلا وهو متقوم بذلك الهيكل ولذا كان يجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند كل ذرة ، ولما صعد المقامات الغيرية ووصل إلى المقامات الذاتية ففي المقامات التفصيلية يجد عليا عليه السلام بذاته فيها حتى إذا وصل إلى مقامات تجلي ربه فهناك انقطع ذكر علي عليه السلام لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذاك في مقام النقطة ورتبة علي عليه السلام مقام الألف فالواصل في مقام النقطة ينقطع عندها الألف بخلاف العكس لكن جميع أحوال النقطة وسريانها في الحروف إنما هي بالألف فلا فارق بينهما ولا تقدم النقطة وإن كان لها التقدم في كل مقام لكن بحسب الظهور والوجود وترتب الآثار لا يفارقان إلا إذا قطعت مسافة الألف فهناك انقطع الاسم والرسم والذكر

______________

1 البحار 90/148

2 النحل 2

ولا تعرف النقطة ولا تشاهد لها أثر ولا ظهور ، فكانت الألف هي آية النقطة وظهور سلطانها ولذا قال علي عليه السلام (( أنا آية محمد صلى الله عليه وآله وسلم )) فلولا علي عليه السلام لم يظهر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر بوجه أبدا فعلي عليه السلام مظهر آثاره وناشر أخباره ومعلمه أسرار الولاية الظاهرة بما جعل الله فيه عليه السلام كما مثلنا لك بالعقل والنفس فإن الأحوال والأسرار والقوة والشئونات العقلانية ما ظهرت إلا بالنفس وما أحاط العقل بالعلوم التفصيلية إلا بالنفس فقد تعلم منها عملها لكن هذا علم قشري هو جعله وديعة في النفس ليشاهده فيها إذا تحتاج إليه ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (أعطيت لواء الحمد وعلى حامله) .

 

      ومجمل القول أن جميع الأحوال الثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مما فيه اقتران وتعلق وارتباط كل ذلك كان بعلي عليه السلام ، كما أن رؤوس المشيئة الظاهرة في الأشياء في المشاء إنما هي بالإرادة لأن كلمة كن بها قد استقام الخلق فالكاف صاحب الإجمال والنون صاحب التفصيل ، فأحكام التفصيل إذا لحقت الكاف بأي نحو كانت فإنما هي بالنون وأحكام الإجمال إذا لحقت النون بأي نحو كانت فإنما هو بالكاف ، فظهور الكاف في النون هي الولاية الظاهرة في الأكوان ومستجنات غيوب الإمكان وقد أشار عليه السلام إلى ما ذكرناه من التصريح بتلويح قوله عليه السلام (( علمني علمه وعلمته علمي )) على تفسير ظاهر الظاهر الذي يشير إلى باطن الباطن فإنه قال صلى الله عليه وآله وسلم (( علمني )) فأتى بمتعلق التعليم الياء للإشارة إلى أنها تكرير الهاء وهو مقام علي عليه السلام ، لأنه عليه السلام بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم نسبة الإجمال إلى أول مقام التفصيل لذا كان مقامه عليه السلام الياء لأنه أول تكرير الألف وميلها إلى الانبساط ثم أتى بنون الوقاية للإشارة إلى المراد وهو ظهور الهاء في الياء وهو رتبة مقام علي عليه السلام فالذي علم النبي علياً عليه السلام هو الهاء وهي مقامات التوحيد ومراتب التفريد ووجوه المبدأ وكف الحكيم ، ولذا أشير إلى النبي صلى الله عليه وآلـه وسلم في رقـوم الاسم الأعظـم بخـاتم خماسي الأركان هكذا (          ) والهاء لما استدارت في أربعة أدوار لكمال الاعتدال إذ لظهور سر الأحد في الواحد ظهرت الكاف فكان العلم المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرار المشيئة المتلقاة عن الله بنفسها قبل تعلقها ولذا كان أثرها الهاء لأنها أول مقامات الظهور وموضوع علم البيان الذي علمه الله الإنسان وسر مقام أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء ، فهذا العلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاص به لا يشاركه فيه علي عليه السلام وهو غاية مقامات الظهور ونهاية مقصد القاصدين وغاية آمال العارفين وقد حدد ذلك المقام في المقام الزماني من أول زوال الشمس إلى مضي مقدار أربع ركعات بإزاء اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم المربع وذلك الوقت خاص بصلاة الظهر لا يجوز فيه العصر سهوا ولا عمدا وهو المختص لا المشترك ولذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج قيل له ( ادن من صاد وتوضأ لصلاة الظهر ) وهو الوقت المختص لا المشترك ولذا كانت صلاة الظهر منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن مقامه مقام الظهور المطلق والوحدة الصرفة الغير مشوبة بشيء من تعلقات الكثرة لتظهر الظلمة من جهتها وهو أول ظهور نقطة الهاء وعند التجذير أول الخمسة من الخمسة والهاء هي سر مقام جلال القدرة ، فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام أسرار الهاء ولذا قال عليه السلام (( علمني علمه )) لكن هذه الهاء لا إشباع فيها ومع الإشباع تكون عين علي عليه السلام وروحي له الفداء فحقيقته عليه السلام علم محمد صلى الله عليه وآله وسلم علمه إياه ، وتلك الحقيقة الصرفة هي الهاء فلما أشبعت بالتكرير والتفصيل والظهور والتحديد اشتق من الهاء بعد الإشباع له عليه السلام اسمه فكان جامعا للأسماء الحسنى كلها ومعنى هذا الاسم هو الله ومعنى الله الهاء هو وهي التي علمها عليا عليه السلام .

 

      ثم قوله عليه السلام (( وعلمته علمي )) إشارة واضحة إلى أن الهاء والمعبر عنه بالهاء حقيقة بسيطة صرفة لا تكثر فيها من حيث ذاتها وإنما تكثرها بتكريرها وتفصيلها وأقل تكريرها الياء فهي منشأ الكثرات ومبدأ العثرات ، وعلي عليه السلام هو الواقف في هذا المقام وهو الباب لذلك الجناب فإذا أراد النظر إلى مقام الكثرات والتعلقات ومشاهدة الأسماء والصفات فإنما ينظر المعبر عنه بالهاء إلى مقام المعبر عنه بالياء فذلك علمه أسرار الهاء وذلك علمه أسرار الياء وهي أول ظهور الهاء في مقام التعلق فعند إتمام ظهور الهاء في الياء هو المقام المختص بعلي عليه السلام من حيث مقامه ورتبته ولذا كانت صلاة العصر مخصوصة بعلي عليه السلام لأنها أول تكرير صلاة الظهر فالمختص بها هو المحدود في الوقت الزماني مقدار بقاء أربعة ركعات إلى غروب الشمس لأن عليا عليه السلام هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه المختص مقام كثرة التعلقات المورثة للظلمة ولما كان منتهى الظلمة مقام السكون وهو مقام مفعول البارد اليابس والفعل و إن كان فيه التعلق إلا أن جهة الوحدة فيه غالبة فقبل التعلق مقامه مقام الكاف وهو المختص بصلاة الظهر وبعد التعلق مقامه مقام النون أي ظهور الهاء في الياء وهو المختص بصلاة العصر لقرب النون بكمال الكثرة التعلقية إلى المفعول المظلم المتكثر من حيث كونه مفعولا وما بينهما أي عند الميل إلى التعلق هو الوقت المشترك وهو السر ما بين الكاف والنون وذلك السر في هذا المقام فاطمة الصديقة عليها السلام لأنها الجهة الجامعة بين الكاف التي هي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنون التي هي مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، فمن هذا السر ظهر ذلك السر في الواو والغائب بين الكاف والنون لإتمام الاثني عشر بمثناها فتمت الكلمة بتمام الأربعة عشر يد الله ووجه الله وهو قوله عليه السلام في الزيارة (( بكم تمت الكلمة ))1وهي كلمة كن على بعض الوجوه ، فافهم فإني قد كشفت السر وأوضحت الأمر ولا قوة إلا بالله .

 

      ولهذا الكلام بيان آخر وهو أنك اعلم أن لهما عليه السلام مقامين مقام في العالم الأول في الخلق الأول في رتبة الاختراع الأول والابتداع كما قال مولانا الرضا عليه السلام (( إن الله سبحانه أول ما خلق الاختراع والابتداع ثم خلق الحروف فجعلها فعلا منه يقول للشيء كن فيكون ))

_______________

1 الزيارة الجامعة الكبيرة

فلهما مقام هناك فهما عليهما السلام هناك أخوان قد رضعا من ثدي واحد من مشيئة الله سبحانه بنفسها بنفسها فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الاختراع الأول وهو الأخ الأكبر وعلي عليه السلام هو الابتداع الأول وهو الأخ الأصغر ، كالعرش والكرسي فإنهما أخوان إلا أن الكرسي هو الأخ الأصغر والعرش هو الأكبر ، ولا شك أن الكرسي مستمد من العرش ولم تزل الفيوضات والإمدادات من العرش تجري إلى الكرسي فتفصل هناك بالنجوم والكواكب والبروج وأمثالها من الأحوال وما ذكرنا من حكم التعليمين كله يجري في هذا المقام على تفاوت درجاته ومقاماته فراجع تـفهم إنشاء الله تعالى .

 

      والمقام الثاني في رتبة الحروف من الوجود المقيد ظهرا متنزلين في هذا المقام لتكميل الناقصين وإرشاد المسترشدين على المعاني كلها كالشمس والقمر المتنزلين من العرش والكرسي وهما عليهما السلام في هذا المقام يقتضي أن يكونا ابني عم فإن الشمس قد تولدت من ضوء العرش بواسطة الكرسي والقمر من الكرسي بالعرش ، ولا شك أن الشمس في هذا المقام مستمدة من الكرسي ولذا لا تفارق في سيرها منطقة البروج أبدا لاستمدادها منها كما قال عليه السلام (( الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ))1 فالعرش يعلم الكرسي والكرسي يعلم الشمس العرش فيحتمل أن يكون المراد (( علمني علمه )) في العالم الأول من حيث ذلك العالم من العلوم وأسرار الولاية الظاهرة في الأكوان لا أسرار النبوة الأولية فإنها أشرف وأعظم من الولاية المطلقة وتلك خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم لا يشترك فيها معه علي عليه السلام كما دلت عليه الروايات كحديث الرمانتين وأشباهه كما مر ، والعقل المستنير أيضا يدل على ذلك ولا إشكال فيه للفطن ، ويكون المراد من قوله عليه السلام (( وعلمته علمي )) أي في العالم الثاني الظاهر بالنبوة الظاهرة والأحكام والشرائع فإن

_________________

1 الكافي 1/98

ذلك في هذا العالم مستمد من الابتداع وقد قلنا أن عليا عليه السلام حامله فيكون في هذا المقام مستمدا منه عليه السلام بما أمد به في المقام الأول ، وذلك كجبريل وسائر الملائكة فإنهم يأخذون من غيبهم ويؤدون إلى شهادتهم عليهم السلام لأن الملائكة روابط بين الغيب والشهادة ، وكذلك علي عليه السلام علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقام الشهادة ما أخذه منه صلى الله عليه وآله وسلم وعلمه إياه في عالم الغيب في الخلق الأول ولا منافاة بين هذا وبين كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرف وأفضل من علي عليه السلام كما ذكرنا غير مرة صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أولادهما الطيبين وعلى الصديقة الطاهرة المعصومة المظلومة المغصوبة المطهرة .

 

 

 

 

قال روحي فداه وعليه الصلاة والسلام ألا و إنا نحن النذر الأولى ونحن الآخرة والأولى ونذر كل زمان و أوان

وبنا هلك من هلك ونجى من نجى

 

      ولما أشار عليه السلام بل صرح بانحصار العلم المطلق على الوجه المطلق في محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عليه السلام و إنّ ما عندهما مستور عن كل الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وكل ذي وجود من الخلق أجمعين ، أراد عليه السلام أن يزيل ما عسى أن يختلج في وهم بعض القاصرين الغافلين الذّاهلين عمّا سبق في بيان مقاماته عليه السلام ما يوجب انحصار العلم فيهما عليهما السلام ولكن للغفلة والذهول ربما يتخيلون كيف يكونان أعلم وأعظم و أشرف من غيرهما مع أنهما ما وجدا إلا بعد الأنبياء و إن كل سابق في كل صقع ومقام أعلم وأشرف من اللاحق لبطلان الطفرة فلا يسبق السابق إلا لكونه أشرف من اللاحق ولا يكون أشرف إلا إذا كان أعلم ، فأجاب عليه السلام بأن الطفرة في الوجود باطلة وأن الفيض متسق غير معطل لكن لا كل سابق في الظهور سابق في الوجود بل السابق في الوجود يجب أن يكون لاحقا في الظهور لأن كل موجود لا بد له من قطع قوسي النزول والصعود وفي النزول كل سابق أشرف وفي الصعود بالعكس فيكون ما ظهر آخرا فهو أشرف الكل ، ألا ترى أن الإنسان في الولادة الجسمانية أول ما يظهر منه النطفة ثم العلقة وهي أشرف من النطفة ثم المضغة وهي أشرف منهما ثم العظام ثم اكتساء اللحم ثم تظهر الروح الحيوانية ثم يتولد ويظهر العقل كاملا سويا من أول بلوغه خمسة عشر سنة إلى أربعين وليست رتبة أعلى من رتبة العقل في الوجود المقيد، انظر كيف ظهر آخرا وليس لعاقل أن يقول أن العقل ما خلق إلا ذلك الوقت لأن الله سبحانه أجل و أعظم من أن يختار الكثيف على الشريف والظلمة على النور والليل على النهار مع ما دلت الأخبار وشهد بصحتها صحيح النظر والاعتبار أن العقل أول ما خلقه الله سبحانه .

 

      فإذا فهمت هذا علمت أن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم هو أول النبيين وأشرفهم وأفضلهم و أعلمهم وخاتم الوصيين هو أول الوصيين بعد خاتم النبيين لأن الوصي المطلق العام الكلي يجب أن يكون من سنخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون بدلا قائما مقامه وبالغا مبلغه وظهور الختم هو دليل البدء وقد قال عز وجل { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }1، فإذا كان خاتم النبيين هو الأول وهو واحد بدليل أنه في العود واحد فتكون الشريعة شريعته والسنة سنته والدين دينه والحكم حكمه والأمر أمره ووجود سائر الأنبياء مقدمة وتوطئة لظهوره صلى الله عليه وآله وسلم بل سائر الأنبياء عليهم السلام قشور وظواهر متقومة بالأصل واللب الذين هما هو صلى الله عليه وآله وسلم على المعاني كلها ولولا خوفي من أشباه العلماء لصرحت بالمراد ولكن

_________________

1 الأعراف 29

 

 

أقول كما قال الشاعر:      

      تعرضت في قولي بليلى وتارة بهند     فلا ليلى عنيت ولا هنــدا  

 

      وسيدنا ومولانا جعلني الله فدا ه قد أشار إلى كل ذلك بأتم الإشارة بأنحاء شتى فنحن إنشاء الله نقف بأثره ونتبع أمره فقال عليه السلام (( ألا ونحن النذر الأولى )) .

 

      أتى عليه السلام بكلمة العرض للتنبيه والتبيين و إظهار ما كان مستجنا في طبائع الأكوان من مستودعات أسرار الإنسان لغيب البيان ، فخفيت تلك الأسرار باحتجاب تلك الأنوار بتراكم الأبخرة والأدخنة الأرضية الكثيفة فتلاءمت بالرطوبات الغريبة والحرارة الغريبية فانجمدت القرائح وخمدت الطبائع لوقوع هذا الحجاب الغليظ الأسود ، فأراد عليه السلام كشف هذا الحجاب وفتح ذلك الباب على جهة الحكمة مستدرجا لا دفعة ليفسد بمزج هذا الحجاب العرضي وأخلاطه بالأجزاء الذاتية فلو نزع الحجاب دفعة واحدة لانتزعت منه الأجزاء الذاتية فتفسد الطبيعة وتجمد القريحة وهو خلاف الحكمة ، فمن هذه الجهة أتى عليه السلام بكلمة العرض وهي اللام المكتنفة بالألفين في أولها وآخرها أشار إلى أنه ليس فيه إثبات إلزامي كما لو حذف الألف الثاني ولا نهي تحريمي كما لوحذف الألف فهو إثبات مع النفي أي الأمر بين الأمرين والسر بين العالمين ، ولذا كان حرف التنبيه لا أمر ولا نهي ولذا يجوز له الفعل والترك يعني لا يعاقب على الترك و إن كان الفعل مطلوبا بدليل إصدارها بالهمزة ، وهذه إشارة إلى ظهور نور الولاية في الكون على جهة الاختيار وسطوع ذلك النور مشروح العلل مبين الأسباب وشرح حقيقي لقوله عليه السلام عن الله تبارك وتعالى ( ألست بربكم ) ولذا وضعت لها هذه الحروف المخصوصة ، فاللام في هذه الكلمة رشح لام علي عليه السلام لما بينا من أن اسمه عليه السلام اللام والألفان رشح لاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكرناه من أن اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الألف المكررة ، فالألف واللام إذا اجتمعتا فإن تقدمت الألف كان إثباتا لأن مقامه صلى الله عليه وآله وسلم مقام المدد والمادة والعطية والسكون والاطمئنان والثبات والبيان والتأدية ، وإن تأخرت الألف في الظهور في مقام ( وعلمته علمي ) كان نفيا لأن مقام علي عليه السلام مقام القهر والغلبة والاستيلاء والتسليط والسلب والنفي ، مع مناسبة الألف مع الوحدة الثابتة واللام مع الكثرة النافية ، ودليل ما ذكرنا ووجهه يطول به الكلام والإشارة كافية لأولي الأفهام ، فإذا ظهرت الألف أولا وآخرا مع اللام كان تنبيها وتبليغا لا حكما وتثبيتا وهو المقام الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال عز وجل { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ }1 وقـال تعالى {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }2 والهادي هو علي عليه السلام الذي يعطي كل ذي حق حقه من حكم الإجابة والإنكار ، ومن هذه الجهة وجب أن يكون في هذه الكلمة مثال محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مثال علي عليه السلام ، وجعل مثاله صلى الله عليه وآله وسلم في الطرفين لبيان أنه صلى الله عليه وآله وسلم محيط وأول وآخر وظاهر وباطن وعلي عليه السلام محاط بالنسبة إليه وهو الفرع الكريم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأصل القديم بالنسبة إلى غيره ، فهذه الكلمة أي كلمة العرض من تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياه هذا هو الوضع الأولي ، بهذه الكلمة أشار إلى سريان نور الولاية من الولي المطلق من البدء إلى العود الذي هو عين ذلك البدو ولذلك كررت الألف أولا وآخرا ، فأثبت بهذه اللفظة ما أراد إظهاره وبيانه روحي فداه ، ثم أتى علي عليه السلام فبالضمير المتكلم المنفرد لبيان الحصر والحقيقة و أكده مع ذلك بحرف التأكيد المثقلة ثم أدغم أحد النونين بالآخر حرصاً للمبلوغ إلى المراد وخروجاً من المقدمة إلى ذي المقدمة ، وقد علمت أن الضمير المتكلم معه غيره له صيغتان أحدهما للمنفصل وهي نحن والثانية للمتصل وهي نا ، وجمع عليه السلام في هذا المقام بين الصيغتين ، وإنما اختصتا بهذه الحروف المخصوصة على الهيئة المخصوصة لأن الألف هي دليل الوحدة والنون هي دليل الكثرة لأنها مقام الإرادة في كن فيكون ، ولما كانت الضمائـر في نفسها متكثـرة و إن أشير بها إلى الواحد لأن تعريفها

__________________

1 العنكبوت 18                    2 الرعد 7

بالتقييد لا بالذات فلها جهة وحدة وجهة كثرة من جهة الحدود والقيود ، ولذا فرقوا بين الضمائر وبين الأعلام أن الأعلام تعين المسمى من حيث هو بخلاف الضمائر فإنها بالقيد كما قال ابن مالك

       اسم يعين المسمى مطلقا            علمه كجعفر وخرنقا

 

      فمن هذه الجهة وجب في الضمائر ما يدل على الكثرة كالواو في ضمير الغائب والنون في ضمير المخاطب والنون في ضمير المتكلم ، ولما أرادوا المتكلم وحده زادوا الألف قبل النون وبعدها مبالغة في الوحدة و إنما هي المقصودة لا الكثرة ، وقد قلنا لك أن الألف اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمتكلم وحده ينسب إليه حقيقة دون الخلق كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر وكان يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة )) وكان في هذه المقامات متكلما وحده لا شريك معه إلا ذكر ظهور نور علي عليه السلام ولما لم يكن إلا الذكر كان حرف اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غالبا وجهة الوحدة فيه ظاهرة كما ذكرنـا ، فوجب أن يكون ضمير المتكلم وحده ( إنا ) في الوضع الأول الأصلي و إنما اختيرت النون لأنها أول كلمة وقعت في الوجود من الحروف كما قال مولانا الرضا عليه السلام (( ثم خلق الحروف فجعلها فعلا منه يقول للشيء كن فيكون )) فالكاف والنون هما أول ما نطق بهما الرحمن عند استوائه على العرش والمتكلم أعرف الضمائر وقبلها وأعظمها فاختيرت لها النون وهي مشتملة على سر الكاف بخلاف العكس ، وذكر المجموع مستلزم للتطويل ولا فائدة في ذلك فافهم الإشارة ، وأما في المتكلم معه غيره فحيث كان المطلوب فيه الكثرة دون الوحدة قدموا النون على الألف لأن النون اسم علي عليه السلام فتأخرت الألف في هذا المقام لأنها اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجب التأخير كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في تتمة الحديث المتقدم (( حتى بلغت إلى مقام جلال العظمة فخلق نور علي عليه السلام فكان نوري يطوف حول جلال العظمة ونور علي عليه السلام يطوف حول جلال القدرة ))، وقد علمت أن المتكلم مع الغير إنما تحقق عند خلق علي عليه السلام فكان مبدأ الضمير فنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السر حيث قال (( فكان نوري يطوف حول جلال العظمة )) فوجب حينئذ تقديم النون وتأخير الألف للإشارة إلى هذه المرتبة ، فمن هذه الجهة كان ضمير المتكلم مع الغير المتصل ( نا ) من غير الألف الأولى مع أن الاختصار والوحدة مطلوبة في المتصل لكونه بمنزلة الكلمة الواحدة مع ما يتصل به ، وأما في المنفصل فلما كان مطلوبية الكثرة وظهور التعدد والحصر والتأكيد في ذلك فيه أشد وأكثر فكرروا النون في الأول والآخر للإشارة إلى مقصودية الكثرة لذاتها في هذا المقام وظهور الولي في الأول والآخر والظاهر والباطن ، فالمتكلم معه غيره في مقام الولاية والقيومية وإن كان للتعظيم فإن العظمة من آثار ظهور سلطان الولاية كما قال عز وج { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }1 بخلاف المتكلم وحده فإنه في مقام التوحيد والتفريد والتقديس كما قـال عز وجل (( يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك ظاهرك للفناء وباطنك أنا )) وهو الظهور بالتوحيد لا بالذات البحت تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وقال عز وجل { يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ }‏2 الآية وقـال في مقام الولاية والسلطنة { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ }‏ 3 { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ }‏ 4 الآية { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا }5 الآية { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ }‏6 الآية وهكذا أمثالها ، ولما أن الوجود لا يستقيم إلا بمثال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام ولا يستقر الكون بواحد منهما وجب مثالهما في كل شيء إلا أنه يلاحظ في المقام حكم الغائب في الظهور وفي هذا المقام و إن كان المطلوب ظهور مثال علي عليه السلام لكنه لا يستقر إلا بمثال سيده ومولاه نبي الرحمة ، فزادوا الحاء لبيان نسبة تقدم المتكلم وحده على المتكلم معه غيره يعني نسبة تقدم نفسه الشريفة على نفس علي عليه السلام ولما كانت تلك النسبة في الرتبة الثانية تبلغ الثمانية إلى الثمانين فما منه صلى الله عليه وآله

_________________

1 الكهف 44       2 القصص 30              3 الزخرف 32

4 الحجر 23 – 24      5 يس 12             6 نوح 1

وسلم جهة الوحدة وينبسط وينتشر في مقام علي عليه السلام فأبان سبحانه وتعالى بوضع الضميرين مرتبة كل واحد منهما عليهما السلام على كمال التفصيل ولا كلما يعلم الإنسان يقدر أن يسطر وهذا الذي ذكرنا إشارة إلى نوع المسألة في هذا الباب ، نعم بالمشافهة ربما ينال بعض المأمول والله الموفق للسداد .

 

      فإذا أتقنت ما ذكرنا فاعلم أن الإمام عليه السلام عدل عن الضمير المتكلم وحده إلى المتكلم معه غيره في هذا المقام ، ثم عدل عن الضمير المنفصل إلى المتصل ثم أكده بالضمير المنفصل ، أما الوجه في العدول الأول فلأنه عليه السلام فيما تقدم في المقامات في صدد بيان ظهور الولاية الكبرى والسلطنة العظمى والغاية القصوى وهو روحي فداه في تلك المقامات متفرد بالأصالة لما ذكرنا مرارا عديدة من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامه النقطة الحقيقية فلا ظهور لها إلا بالألف وهو مقام علي عليه السلام وباقي الأئمة عليهم السلام مقامهم مقام الحروف والكلمة التامة فلا قوام لهم إلا بالألف فيها تقومت الحروف ولذا كان أمير المؤمنين عليه السلام وحده من غير مشاركة أحد إياه في هذا الاسم لأن المؤمنين حقيقة هم الأئمة عليهم السلام وهو عليه السلام يميرهم العلم ، ففي مقامات الولاية هو عليه السلام متفرد مستقل بالله سبحانه والأئمة عليهم السلام كلهم مشاركون معه في الولاية بالبدلية والوراثة وهو الأصل القديم ، فمن هذه الجهة أفرد عليه السلام ضمير المتكلم في تلك المقامات ، وأما في هذا المقام يريد أن يبين عليه السلام الأحكام المشتركة الحاصلة لكل واحد منهم من غير اختصاص أحد منهم بذلك ، لأن لهم عليهم السلام مقام جمع ومقام فرق وفصل ، ففي مقام الجمع يشتركون في الأحوال الثابتة فيه ولذا قالوا عليهم السلام كلنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولنا محمد وأوسطنا محمد وهذا من ذلك المقام .

 

      و أما الوجه في الأمر الثاني فاعلم أن الله سبحانه خلق محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام في عالم مستقل منفرد ليس معهم سواهم كما قال مولانا الصادق عليه السلام (( إن الله سبحانه خلقنا من طينة مكنونة مخزونة عنده ولم يجعل في مثل الذي خلقنا منه نصيبا ))1لأحد وفي الزيارة الجامعة (( فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين وأعلى منازل المقربين وأشرف درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع في إدراكه طامع ))2الزيارة ، فعالمهم غير عالم المخلوقين وطورهم غير طور المربوبين المصنوعين فلما خلقهم الله وأكمل خلقتهم أعطاهم ما يستقيم به معاشهم ومعادهم ومن ذلك وضع الألفاظ حيث يحتاجون في مقام إظهار الكمالات إلى المحاورات وأنحاء المخاطبات ، فوضع سبحانه لهم الألفاظ كيف ما أرادوا مما اقتضت كينوناتهم الذاتية والوصفية والأصلية والعرضية ، ولما كانت الألفاظ على طبق الذوات والكينونات وكان الأصل فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام فيجب أن يكون الأصل في الألفاظ كلها اسمهما واللفظ الدال عليهما فكل لفظ بكل معنى بكل حقيقة ينبئ صفة من صفاتها الظاهرة في الهياكل الأربعة عشر عليهم السلام ، ثم لما كان سائر المخلوقات من أشعة أنوارهم ومن عكوسات آثارهم ظهرت تلك الحقائق والأنوار في الرتبة الثانية على طبقها في الأولى وهكذا في الثالثة والرابعة والخامسة إلى ما لا نهاية له ، فلهم الألفاظ والمعاني ولهم الحدود والمباني ولكن لما كان الناس في القوس الصعودي أكثرهم بقوا في مقام الانجماد وما بلغوا المراد في مقام الفؤاد فرأوا تقدم الأنبياء والملائكة وسائر الأمم عليهم عليهم السلام وعلى أممهم ورعاياهم ظنوا السبق الحقيقي والتقدم الواقعي فخصوا الألفاظ بما عرفوا من اللغات والصفات والاقتضاءات بما ظهر لهم من ____________________

1 لم نقف على هذا الحديث كما ذكره المصنف أعلى الله مقامه ولمن وجدنا ما يقرب منه وهو قوله عليه السلام (( إن الله خلقنا من نور عظميه ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش , فأسكن ذلك النور فيه , فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا )) الكافي 1/389

2 الزيارة الجامعة الكبيرة

مقتضيات تلك المقتضيات فحرموا عن معرفتهم عليهم السلام ، ولما أن الله سبحانه أبان عن شرفهم وفضلهم حيث قال تعالى { هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى }1 ما عرفوا المراد من ذلك وحملوا النذر الأولى على الأنبياء وقالوا أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من نوع الأنبياء ومن سنخهم أو أنه من النذر الأولى يعني أنه كان نبيا و آدم بين الماء والطين وليس هذا هو المراد الحقيقي من قوله عز وجل وإن كان يراد ظاهرا على حسب متفاهم العوام ، فبين عليه السلام حقيقة المراد مع غاية التأكيد الذي يفهمونه تأكيدا وإلا فكل حرف من كلامه عليه السلام تأسيس وتأصيل فأتى عليه السلام بالألف في قوله عليه السلام ( إنـّا ) لبيان أنه عليه السلام هو النقطة تحت الباء فإنها الألف فقوام الباء بالألف لا النقطة التي يتقوم بها الألف ثم أتى عليه السلام بالنون للإشارة إلى تمام كلمة كن فمهما تحققت النون فقد تحققت الكاف ثم أتى بالنون الثاني لبيان ظهور الابداع في العالمين في العالم الأول عالم الغيب والشهادة ثم أدغم أحدهما في الثانية لبيان أنهما ليسا عالمين متمايزين منفصلين و إنما هما واحد مع كونهما اثنين ومن هذه الجهة صار لفظ أنّ حرف التأكيد والتثبيت لاجتماع مرتبة المقبول ورتبتي القابليات فيها فتقرر مدخولها وتثبت ثم وصلها عليه السلام بالضمير المتصل ( نا ) فأدغم النونين لبيان كمال الوحدة المعتبرة في هذا المقام ، وهذا وإن كان مقام الفصل والتعدد ولكنه مقام الجمع والاتحاد لمكان الادغامين ، ثم أراد أن يشير إلى مقام الفرق والفصل متمايز الأحكام فأتى بنحن فيشير عليه السلام بإنا إلى مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفسه الشريفة لأنهما صلوات الله عليهما في كمال الاتحاد و إن كان بالمغايرة ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( يا علي أنت نفسي التي بين جنبي أنت مني بمنزلة الرأس من الجسد وبمنزلة الروح من البدن ولحمك لحمي ودمك دمي والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي )) وهذه الأحكام وإن كانت تجري في سائر الأئمة عليهم السلام إلا أنه بالتبعية البدنية لأنهم شعب نشأت من علي عليه السلام وهو الأصل القديم وإن كان هو الفرع الكريم

_________________

1 النجم 56

بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشار عليه السلام بنحن إلى مقام سائر الأئمة عليهم السلام لأنه عليه السلام كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله ، ولذا جرت الحكمة أن تكون كلمة التوحيد لا إله إلا الله اثنا عشر حرفا وهي تفصيل الكتاب إلى الآيات البينات والدلائل الظاهرات والحجج البالغات عليهم السلام ما دامت الأرضون والسماوات ، فبين عليه السلام بالتأكيد البالغ حسب متفاهم العوام والتأصيل الواقع حسب متفاهم الخواص أنهم عليهم السلام أي قصبة الياقوت وحجاب الله في الملك والملكوت وظهور سلطانه في القدرة والجبروت هم النذر الأولى وهم المراد من قوله تعالى { هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى }1  ومؤدى ( من ) السنخية يعني أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منهم ومن حقيقتهم وطينتهم لا فرق بينه وبينهم وذلك بخلاف الأنبياء إذ لا يصح القول بأن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم منهم أي من سنخهم إلا مجازا أو نظرا إلى ظاهر الهيكل البشري وذلك غير ملحوظ في هذا المقام بل في كل المقامات والأحوال ، ولما كان الناس ربما يستشكلون في كون فاطمة سلام الله عليها نذيرا بخلاف سائر الأئمة عليهم السلام فإنهم لا إشكال في كونهم نذرا أزاح الله سبحانه هذا الإشكال وأوضح هذا الإجمال بصريح المقال في قوله عز وجل { كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }2 في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام (( يعني فاطمة سلام الله عليها ))2 لإحدى الكبر وهم الأئمة عليهم السلام وهي نذير للبشر ، فهم أي الأربعة عشر المعصومون الطيبون الطاهرون عليهم السلام النذر الأولى قد خلقهم الله سبحانه في العالم الأولي وأقامهم أشباحا تحت عرشه إلى أن خلق الخلق فصاروا نذرا لهم من الله عز وجل ، وأما الأنبياء فهم أشباحهم و أمثالهم وأشعة أنوارهم وهياكل آثارهم فلهم معهم عليهم السلام مقام لا فرق بينهم وبينهم ففي ذلك المقام ينتمون إليهم وينسبون بهم كما في قوله عليه السلام

____________________

1 النجم 56           2 المدثر 32 – 37          3 تفسير القمي 2/396

(( أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى وأنا عيسى )) إلى غير ذلك من الأنبياء لأن الأنبياء صفاتهم كما يقول زيد أنا القائم أنا القاعد أنا الآكل أنا الشارب إلى غير ذلك من الأسماء إذ كلها صفات زيد لا فرق بينه وبينها إلا أنها عبده وخلقه ، فعلى هذا يصح لك أن تقول أنهم عليهم السلام هم النذر الأولى على هذا المعنى الثاني فهم آدم وهم شيث وهم إدريس وهم نوح وهكذا إلى آخر الأنبياء ، وذلك لأنه قد دل العقل والنقل على أن الأنبياء خلقوا من شعاع أنوارهم فنسبتهم إليهم نسبة الشعاع إلى الشمس ولا شك أن الشعاع على مثال المنير وهيئة جار على طبق صورته كما ترى أنه إذا وقع شعاع الشمس على المرآة أوالماء أو أمثالهما من الأجسام الصيقلية تراه بعينه على هيئتها ومثالها لا تفرق بينهما أبدا إلا بالحاجة والفناء والاضمحلال الاستقلال وذلك حكم صورتك في المرآة إذا نظرت إليها فإنك تجدها على هيكلك وتحكم عليها بما تحكم عليك فتقول أنا ذا مع أنّ تلك الصورة ليست عين حقيقتك ولا جزؤها ولا تعود إليها وتصل إليها وإنما أقمتها في مقامها وأمدتها في ظلها هذا هو حكم الأثر والنور من حيث هو أثر ونور إذا بقي على ما هو عليه ، وأما إذا تغير على حسب القابليات فيحكم على التغيير بنهج ذلك التغيير كما إذا ظهرت صورتك في المرآة العوجاء والمحل الغير المصيقل فإنك لا تحكم عليها بما يجري عليك من ظهوراتك في أطوارك وكذلك الكلام في هذا المقام فإن شعاع آل محمد عليهم السلام لما تشعشع وتلألأ ووقع على الأراضي الطيبة وقابليات الأنبياء عليهم السلام فبقي ذلك الشعاع على ما هو عليه من حكاية وصف الكينونة فصحّ توصيفهم بالأنبياء وحمل الأنبياء عليهم فتقول علي عليه السلام مثلا أو أحد الأئمة عليهم السلام هو نوح وإبراهيم كما تقول زيد قائم فإن القائم ليس عين زيد ولا ضميره يعود إليه و إنما هوصفة تدل على ظهور زيد ومثاله وبذلك حملته على زيد في مقام لا فرق بينك وبينها فالموضوع والمحمول وإن كانا من حيث المقصود متغايرين ولكنهما من حيث الحقيقة الواقعية متّحدان أي الموصوف بكونه قائما هو الوجه الأعلى من القائم فإن زيدا ظهر في الوجه الأعلى على نحو عموم قدرته فمن حيث الظهور كل الصفات تحكي زيدا بل لا تسمى إلا زيدا ومن حيث الخصوصية تختص بالوجه الخاص كقولك زيد قائم وقاعد فقولك زيد قائم فزيد هو عين القائم وكذلك بالعكس مع أن القائم ليس حقيقة زيد ولا ذاته وإنما هو صفة من صفاته وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام (( لشهادة كل صفة على أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف على أنه غير الصفة ))1(( وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران ))2 ويريد عليه السلام بهذا الموصوف هو المقصود من الصفة والذي نقول هو الظاهر في الصفة وإن كان الظاهر في الصفة أيضا هو غير الصفة فافهم هذه الكلمات فإن التصريح بالمراد مما لا يمكن وإلا فصريح العبارة غير ذلك فإذا وفقت لفهم ما ذكرنا علمت معنى ما قال الإمام عليه السلام (( أنا الأمل والمأمول )) كما تقدم (( ونحن النذر الأولى )) إذا جعلت النذر الأولى هم الأنبياء  عليهم السلام ويكون المراد من الأئمة عليهم السلام وقوفهم في مقام الأصلي من غير ملاحظة نزولهم في صقع من الأصقاع ومقام من المقامات حسب تنزلات الأشياء فإنهم عليهم السلام لهم مقام في رتبة ذواتهم وكينوناتهم وصعودهم ونزولهم الذاتيّين من مراتبهم الحقيقة من أفئدتهم وعقولهم وأرواحهم ونفوسهم وطبائعهم وموادهم وهياكلهم وأجسامهم وأجسادهم وهم عليهم السلام   في هذه المقامات علة فاعلية لكل ذرات حقائق الكائنات وذوات الموجودات وكل الخلق أشعة أنوارهم في كل مقاماتهم ، وعلى هذا فكل الذرات صفاتهم وكل الذوات أمثال ظهوراتهم وهياكل آثارهم وصفاتهم فيصح حينئذ توصيفهم عليهم السلام بتلك الصفات وهذا باب غامض وسر مشكل لكني أبين حديثين وفيهما كل المراد يجده أهل الاستعداد من أصحاب الفؤاد في الإنجيل (( يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك ظاهرك للفناء وباطنك أنا )) ، وهذا الضمير هو الضمير المتكلم وقد ذكرنا فيما سبق ونذكر إنشاء الله فيما يأتي أن المتكلم ظهور الذات بالكلام والضمير ظهور المتكلم بالصفة والمجموع بمعزل عن الذات المقدسة القديمة سبحانه وتعالى بينهما بينونة صفة لا بينونة

________________

1 البحار 4/284 ح 17

2 البحار 4/227 ح 3

عزلة وقال عليه السلام في تفسير قوله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ }1أنه نور رجل من الكروبيين وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جواب اليهود إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم (( لا ينبغي أن أصغّر ما عظمه الله من قدري إن الله تعالى أوحى إلي إن فضلك على الأنبياء كفضلي وأنا رب العزّة على كل الخلق ))2وقال الصادق عليه السلام في وصف الكروبيين على ما تقدم (( قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ، ثم قال : أن موسى لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيـين فتجلى للجبل فجعله دكا وخر موسى صعـقا ))2 اجمع بين هذه الأخبار وما ذكرنا في هذا الشرح من الأصول الكلية تعرف بذلك أن كل ذرة من ذرات الكون منقوش في حقيقتها وذات كينونتها محمد وأهل بيته الطاهرون  عليهم السلام  بأسمائهم وأشخاصهم كتابة لا يشتبه أحدهم بصاحبه وهوالذي أشار إليه عليه السلام في الزيارة الجامعة (( حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دني ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنيد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلا عرفهم جلالة أمركم وعظم خطركم وكبر شأنكم وتمام نوركم ))3 الزيارة ، وهذه المعرفة بما كتب في ذواتهم ما نطقوا به عليهم السلام بلسانهم كما نقش وكتب صورتك في المرآة ، بل أقول إن حقيقة ذوات الأشياء هي عين تلك الكتابة المرسومة بقلم الاختراع على لوح الإبداع فإذن كل الأشياء بلسان كينوناتهم وحقائقهم يحكون كلام علي عليه السلام عندما قال لهم حين ما أشهده الله خلقهم (( أنا علي الولي

_______________

1 الأعراف 143

2 لم نقف على هذه الرواية كما ذكرها المصنف أعلى الله مقامه ولكن وجدنا ما يقرب منها , قال صلى الله عليه وآله وسلم (( قال ربي يا محمد إن فضلك على جميع النبيين والمرسلين والملائكة المقربين كفضلي وأنا رب العزة على سائر الخلق أجمعين )) البحار 9/309 ح 10

2 بصائر الدرجات 69                 3 الزيارة الجامعة الكبيرة

ووصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمي )) لأن الربوبية الظاهرة في المربوبين هي نوره وشعاعه عليه السلام وذلك كما يحكمون عن الله عز وجل عند تلاوة كتابه { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا }1 وكما حكى علي عليه السلام عن الله في الشجرة لموسى ، فحقيقة الخلائق هي رسم أنا العلي الأعلى وذلك خطاب ومثال ألقاه عليه السلام في هويتهم وذلك هو أنا الظاهر في ضمير المتكلم وهو في الأشياء كلها ، لكن ذلك المثال لما وقع في هويات الكائنات فإن كانت الهوية مستقيمة معتدلة غير معوجة وقريبة إلى المبدأ في الخلق الأول ظهر على ما هو عليه وإن كان بتغيير لكنه لا يرفع حكمه كشمس واحدة أشرقت على ألف مرآة في كلها تجد مثالها على ما هو عليه من دون تغيير وإن كانت بعيدة أو معوجة غير مستقيمة لا يظهر ذلك المثال ولا تحكي نور الجلال، ففي الأول ينتسب إلى المنير وفي الثاني لا ، فالأول هو حكم الأنبياء  عليهم السلام لقربهم من المبدأ واستشراقهم من شوارق أنوار أهل البيت  عليهم السلام من غير واسطة واستقامتهم وعدم اضطرابهم وعدم اغتشاشهم حكوا مثالهم من العصمة والطهارة والنزاهة الحكمة وغيرها فصحّ استنادهم إليهم عليهم السلام بخلاف سائر الخلق من الرعايا وإن كانت حقائقهم تلك الكتابة لكنها خفيت واستولت عليها أحكام الإنية المدبرة الغير المقبلة فبقيت لا تحكي لبعدها عن فوّارة النور فلا يصح الاستناد ما دام حكم الفرق باقيا أو حكم الخلط ظاهرا في هذه الدنيا وإذا ارتفعت الموانع يعود الحكم كما كان سابقا أي على الواقعي الأولي ولذا لما أصيب طلحة ابن عبد الله يوم الجمل قيل له من رماك يا طلحة قال (( رماني علي بن أبي طالب قيل له يا ويلك إنه ما يرمي بالنبل و إنما يقاتل بالسيف قال ألا تنظر كيف يصعد إلى السماء وينزل إلى الأرض ويسير إلى المشرق والمغرب ويقاتل بالسيف والنبل ويقول مت يا عدو الله فيموت في ساعته )) وكان الرامي له مروان بن الحكم لعنه الله، انظر إلى هذا الحديث فتجد ما لا تحيط به العبارة ولا تدرك بالإشارة وإنما هو تلويح وربما تصريح بما ذكرنا فإن ذلك الذي رأى كله أمثال وأشباح

________________

1 طه 14

لتلك الحقيقة المقدسة ظهرت عندما صار بصره حديدا ورفع الغرائب والأعراض وما رأى الحقيقة ولا أدركها كيف لا وهو يـقول عليـه السلام (( ظاهري إمامة )) وفي رواية أخرى (( ولاية وباطني غيب لا يدرك )) ولكن الأنبياء لما حكوا ذلك المثال وصف نفسه الشريفة بهم في هذه الدنيا ، وفي الآخرة يكون كل شيء صفته وآيته يعني يظهر ذلك وإلا ففي كل حال تكون الأشياء صفاتا وأظلة فافهم وقد قال مولانا الصادق عليه السلام في زيارته إياه عليه السلام (( السلام على شجرة طوبى وسدرة المنتهى السلام على آدم صفوة الله ونوح نبي الله وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمد حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن بينهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا السلام على نور الأنوار وسليل الأطهار وعناصر الأخيار السلام على والد الأئمة الأطهار ))1 الزيارة ، وهذا كما تقول السلام على القائم القاعد الضارب الناصر السميع البصير المحيي المميت وأمثالها من الصفات من غير فرق أبدا ، وأما عدم انتساب سائر الخلق إليهم وإليه عليه السلام فلما قلنا من عدم الحكاية التامة مع أنه عليه السلام أشار إلى ما لوحنا بقوله (( والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )) وعلى هذا يظهر لك معنى كون علي عليه السلام في وقت واحد في ليلة واحدة في أربعين موضعا ، وحضورهم عليهم السلام عند كل ميت من المؤمنين الممتحنين أو ماحض الكفر من المنافقين وقد يتفق موت ألوف في وقت واحد ودقيقة واحدة من الطرفين يظهر لكل على هيكل اعتقادهم فيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والأصل في ذلك أن عليا عليه السلام هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الآية الشريفة وهو أيضا نفس الله كما في قـوله تعـالى { وَيُحَـذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَـهُ }2 وفي الزيارة السلام على نفس الله تعالى القائمة فيه بالسنن ))2 _________________

1 البحار 97/305 الزيارة الخامسة المروية عن مولانا أبي عبد الله الصادق عليه السلام                       2 آل عمران 28     

3 البحار 97/330 الزيارة المعروفة بزيارة صفوان

وهو عليه السلام ذات الله كما في قوله روحي فداه في بيان النفس الملكوتية الإلهية أنها (( هي ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى ومن عرفها لم يشق أبدا ومن جهلها ضل وغوى )) وهذه هي الذات المخلوقة لا القديمة تعالت وتقدست ، والمخلوقة هي الذات الظاهرة في المخلوقين في مقام لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وكما أن عليا عليه السلام هو ذات الله بالمعنى الذي ذكرنا كانت كذلك الموجودات كلها ذات علي عليه السلام أو قل أن عليا عليه السلام ذاتهم كما قـال عليه السلام (( أنا ذات الذوات أنا الذات في الذوات للذوات )) والمعنيان واحد ، وإذا كان هو ذات الأشياء لا بذاته بل بظهوراته وأشباحه وأمثاله فكل الأشياء حكايات له ولأحواله ، ففي مقام الحقيقة بعد الحقيقة هو ، وفي مقام المجاز غيره وهنا مقامات يقصر عن بيانها اللسان يضيق صدري بإظهارها ولا يضيق بكتمانها ولا تفهم مما ذكرت غلوّا ورفعا لمقام علي عليه السلام إلى مقام الربوبية وإنما ذلك شرح لكمال عبوديته وخضوعه لله سبحانه واضمحلاله في نفسه وعدم شيئييه واستقلاله لا كما يقول أصحاب وحدة الوجود فإن الله سبحانه برئ من القول به وأصحابه ، ولا تتوهم أني أقول أن عليا عليه السلام هو ذات الأشياء بحقيقة ذاته المقدسة فإن ذلك كفر بالله العلي العظيم بل أقول أن الخلق أمثاله وأشباحه والمثل هو الذات الظاهرة في المشتق لا البحت فالذات المعبرة في القائم مثال هي المثال والآية والمقام اسمها اسم زيد وصفتها صفته لا فرق بينها وبينه إلا أنها عبده وخلقه ، وعلي عليه السلام هو المثل الأعلى لله سبحانه كما قال عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))1 وفي الزيارة (( من أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ومن قصده توجه بكم ))2 فافهم فإن شرح هذه الأحوال يحتاج إلى بسط في المقال بتمهيد بعض المقدمات وقد ___________________

1 الكافي 1/ 184 ح 9          2 الزيارة الجامعة الكبيرة

3 الروم 25                        4 البحار 90/148   

 

 مضى بعضها فراجع ، ويأتي إنشاء الله بيان أكثرها فترقب .

 

     فإن كنت ذا فهم تشاهد ما قلنا         وإن لم يكن فهم فتأخذه عنا

     فما ثم إلا ما ذكرناه فاعتمـد         عليه وكن في الحال كما كنا

 

      فعلى ما قررنا ظهر لك وجها واحدا من معنى قـوله عليـه السلام (( نحن النذر الأولى )) بجعل النذر الأولى هم الأنبياء  عليهم السلام  وأوصياؤهم وسائر رسل والنذر من الملائكة والجن والإنس والعلماء الراشدين والمؤمنين الممتحنين والصلحاء الفاضلين فتدبر فيه .

 

      والوجه الثاني في مقامهم الثاني عليهم السلامفي رتبة القطبية فإنهم في كل عالم وكل مقام قطب لأهل ذلك العالم وذلك المقام ، والقطب هو وجه الفعل إلى المفعول ووجه المفعول إلى الفعل وهو المفعول المطلق وهو أمر الله الذي قامت الأشياء كلها به كما في قوله تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }3 وقـال الصادق عليه السلام (( كل شيء سواك قام بأمرك ))4 وذلك الأمر هو المفعول الأول كما قال تعالى { وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً }1 وهوالقدر الذي يرى في أفعال العباد وأعمالهم في الكينونة والذات والأعراض والصفات سريان الروح في الجسد كما قال سيد الساجدين عليه السلام (( أن القدر في أفعال العباد كالروح في الجسد )) فلولا الروح لا قوام ولا حراك للجسد كما ولولا الجسد لا ظهور للروح وكذلك لولا القدر لا يتحقق العمل ولولا العمل لا يظهر القدر وهذا معنى الحديث و إنما أخذ عليه السلام من قوله تعالى { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا }‏2 وقيام الأشياء بهذا الأمر والقدر المفعولين قيام ركني عضدي لا صدوري إيجادي ، نعم بالأمر الفعلي وهوالمقام الأول من مقاماتهم عليهم السلاموهذا القطب هوالمقصود بالذات في الإيجاد وعليه تعلق الجعل الأدنى وبه قامت المحبة في قـوله تعـالى

_________________

1 النساء 47                    2 الأحزاب 38

 

(( فأحببت أن أعرف )) ، ولكن لما قيل لذلك الأمر أدبر فأدبر حصلت الكثرات والإضافات والجهات فاحتجب ذلك النور بكل جهة وإضافة بل ربما ظهرت آثار تلك الإضافة والجهة مما اقتدرت عليه بقوة ذلك النور الساطع الظاهر المستجن فيه ولكن لا قوام للشيء في ذلك المقام باعتبار تلك الجهة إلا بذلك الأمر والنور، بل ليس للشيء حقيقة سواه فإن الإضافات إعراض وأحوال ما تقوم إلا بذلك الأصل تقوم القشر باللب ، فإذا فهمت ذلك وتنبهت للحديث الوارد عن أهل البيت عليهم السلام أن الله سبحانه أول ما خلق الله سبحانه هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقى يسبح الله ويقدسه ألف دهر ثم خلق سبحانه إثني عشر بحراً فأمره بالسباحة فيها ثم عشرين بحراً آخر فأمره سبحانه بالسباحة فما أتم السباحة في تلك الأبحر خرج منها وقطر منه صلى الله عليه وآله وسلم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة خلق الله من كل قطرة روح نبي من الأنبياء عرفت المراد إذ لاشك أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك العدد ، نعم تلك القطرة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء عليهم السلام هي قطب رحى وجوداتهم وإن كانت من سنخهم ولكن نسبتها إليهم نسبه الروح إلى البدن ونسبة الإكسير إلى الحجارة المرمية ، ثم استجنت تلك القطرات وكمنت في تلك القطرة كمون القشر في اللب لا العكس و إن كان المعروف هو ذلك ومعنى كمون القشر في اللب ذكر صلوحه لتلك القشور لا غير فيه إلى أن كمل هذا العدد أي مائة ألف وأربعة وعشرون ألف باعتبار ملاحظة قران بعض أحواله مع الأحوال الأخر فعند حصول تلك الـقشور استجنّ اللب فيها ، والقشر لا قوام له إلا باللب والأغصان لا تحقق لها إلا بالشجرة بل ليست غيرها ولا حول لها إلا بها ، ثم استجنت تلك القشور المكتنفة باللب الأصلي والقطب الحقيقي في الإنسان فكل الرتبـة الإنسانية قشرا لتلك القشور ، فاستجنّت تلك في القوس النزولي في مقام القطبية في الحيوانات وهي استجنت في النباتات وهي في الجمادات فالنبات صافي الجماد والحيوان صافي النبات والإنسان صافي الحيوان والأنبياء صافي الإنسان وأهل البيت عليه السلام صافي الأنبياء ، فهم عليهم السلام صفوة المرسلين وهم صفوة الصفوة من صفوة الصفوة ولما كان الصافي هو اللب والسافل هو القشر كان لا يقوم القشر إلا بوجود اللب إما ظاهرا مشهورا أومكتتما مستورا , ففي حال النزول اختفى اللب في القشر وفي حال الصعود يظهر اللب من القشر مع وجود القشر متقوّما ومتأصلا بذلك اللب ، فلهم أي لهذه المراتب مقامان مقام العلية الفاعلية ومقام القطبية والأصلية ، ففي المقام الثاني فالمتأصل الثابت هو القطب والدائرة تطوراته بأطوار شئوناته ثم لا قوام لها في حال من أحوالها إلا بالقطب فلك أن تقول أن القطب هي الدائرة ولك أن تقول بالعكس ولك أن تجعل لكل منهما حكمة لكن لا يجري الحكم على الدائرة في حال من الأحوال إلا بالقطب ، وذلك كالقلب فإن الإنسان حقيقة هو القلب وهو الأصل المؤثر المدبر في البدن وكل الآلات البدنية شئونات للقلب تبدأ منه وتعود إليه ، ولذا إذا وجد صدر الميت الآدمي وجب عليه ما يجب على الكل من التغسيل والتكفين والتدفين والصلاة عليه و أمثالهـا من الأحوال والأحكام .

 

      فإذا فهمت ذلك علمت المراد في لحن المقال كما قالوا عليهم السلام  (( إنا لا نعد الرجل من شيعتنا فقيها حتى يلحن له ويعرف اللحن ))1فلما قال الله سبحانه للعقل الكلي الظاهر في أطوار الكروبيين أقبل إلى  الخلق أو أدبر عني إلى الخلق فتنزل بالتشأن والتّطوّر إلى أن وصل مقام الجماد ثم قال له أقبل إلي أو أدبر عن الخلق فأخذ في الصعود فظهر في صفو المعدن وبقيت المعادن كلها تدور على وجه ذلك الصفو الظاهر فيها ثمّ لما استعدّت البنية وصفت طبيعة العالم واعتدلت ظهرت تلك الصفوة بوجهها ونورها فكانت قطبا لدائرة كون النباتات ثم ظهرت في صفو الحيوان فكانت قطبا لها تدور عليها في جميع أحوالها ثم ظهرت في صفو الإنسان وكان آدم عليه السلام حامل تلك الصفوة بل هي ذات تقومت بنية آدم بها فتشعب من ذلك القشر

_________________

1 مستدرك الوسائل 17/344

 

قشور كثيرة وهي أولاد آدم عليه السلام إلى أن صار أصفاها وأعلاها حاملا لتلك الصفوة المنتقلة لآدم عليه السلام إليه ، وهكذا كانت القشور حاملة لتلك الصفوة ومحلا للقطب إلى أن استعد العالم لظهوره ولإشراق نوره من غير حجاب فظهر القطب أي تلك الصفوة الطاهرة قد انسلت من تلك القشور ، وبالجملة ضاع الكلام فلا سكوت معجب ، واعلم أني ما يمكنني أن أظهر ما أريد من هذه الكلمات وأبينه صريحا بظاهر العبارات من جهة عدم احتمال الناس من أهل الطبائع الغير الناضجة والطبائع الخامدة والقلوب القاسية فيسارعون إلى الإنكار وقد قالوا عليهم السلام (( لا تتكلم بما تسارع العقول إلى إنكاره وإن كان عندك اعتذاره ، وليس كل ما تسمعه نكرا أوسعته عذرا ))1 وقال مولانا الصادق عليه السلام (( ما كل ما يعلم يقال ،

_________________

1 لم نجد الرواية كما هي في هذا الـشرح المبارك , ووجدنا هذه الروايـة (( إياك أن تتكلم القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره , فليس كل من تسمعه نكرا يمكنك لأن توسعه عذرا )) البحار 71/229 ح 6

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولا كلما يقال حان وقته ، ولا كلما حان وقته حضر أهله ))1فإذا لا يجوز الكلام في أمثال هذا المقام إلا مرموزا أومستورا مقنعا بالأستار والحجب لينتفع به العالم الفطن ويصون عن الجهّال و أشباه العلماء ولو أذن لنا في الكلام لكان البيان على غير هذا النمط قال مجنون العامري:

 

ومستخبر عن سرّ ليلى أجبته      بعمياء من ليلى بلا تعيين

يقولون خبرّنا وأنت أمينـها    وما أنا إن خبّرتهم بأميـن

 

      ولكني أقول إذا فهمت أن الأئمة عليهم السلام سيما فخرهم وأميرهم وسيدهم أمير المؤمنين عليه السلام أمر الله الذي قامت به الأشياء كلها قياما عضديا ركنيا والأشياء حقيقتها مركبة من نور ذلك الأمر ومن الحدود المعينة المشخصة سهل لك معرفة المراد ويتمحض لك التصديق لقوله عليه السلام في الـدعاء (( لا يرى فيه نـور إلا نورك ولا يسمع فـيها صوت إلا صوتـك ))2وقد علمت إن أيدك الله ووفقك لمعرفة أئمتك عليهم السلام أن ليس لله نور سواهم وليس له صوت إلا صوتهم لأن الله سبحانه قرنهم بنفسه وأقامهم مقامه وقال بلطيف الإشارة إشارة إلى هذا المقام { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }‏2 ولا ريب أن يمين الله تعالى ليست إلا علي عليه السلام وهو يد الله اتفاقا من الفرق الناجية من الشيعة وقد قال عز وجل { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء }3 فإذا كان الإنفاق باليد فليس في الموجدات إلا أثر اليد ونورها فالأشياء كلها لديها متقدمة معدومة والاختلاف هناك يرجع إلى كمال الوحدة بل تبطل ولا حس لها إلا بها وإليه الإشارة في قـوله عز وجل { وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }4 وهذا معنى ما ورد أن مولانا عليّا عليه السلام يوم العرض الأكبر

_________________

1 البحار 53/115 ح 138                  2 البحار 87/203            2 الزمر 67        3 المائدة 64               4 طه 108

تقف الخلائق كلها جاثية بين يديه عند الحساب وهو عليه السلام يتكلم بكلام واحد يجري ذلك الكلام الواحد في كل شخص مما هو عليه من الأحوال السعيدة أو الردية من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وكل منهم يرى أنه عليه السلام يقرأ صحيفة عمله ، ومعنى ذلك في هذا المقام هو ظهور ذلك النور الواحد المشرق من صبح الأزل على هياكل الكائنات وحقائق الموجودات من الممكنات والمكونات وذلك النور يظهر في كل حقيقة على ما هي عليه كالوجه الواحد المقابل للمرايا الكثيرة وكالنفس الخارج من الجوف المنقطع بالقلع والقرع والضغط بالحروف وكالمداد الظاهر بالكتابة والواحد المتشأن بالأعداد وذلك النور أثر من شعاع علي عليه السلام في الإنسان وشعاعه عليه السلام في الكروبيين فافهم إن كنت تفهم وإلا فاسلم تسلم ولا تنكر قدرة الله في أوليائه .

 

      فظهر لك معنى قوله عليه السلام (( نحن النذر الأولى )) بالوجوه الثلاثة إحداها أنهم النذر حقيقة أولية وما سواهم نذر بالحقيقة الثانية التي هي بعد الحقيقة ، فالأنبياء نذر من الله بواسطتهم ومؤدون عن الله تعالى بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلق بواسطتهم كما في باطن قوله تعالى أي في باطن الباطن { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِـأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1 وإذا لاحظت تفسير ظاهر الظاهر انكشف لك سر باطن الباطن وتلك الملاحظة في الضمائر ، والدليل على هذا التفسير كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( أقامه مقامه في سائر عالمه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار ))2 فعلى هذا من ادعى أحد من الأنبياء أنهم يؤدون

_______________

1 الأنبياء 26 – 29              2 الإقبال 461         3 غافر 15

4 البحار 97/301

عن الله سبحانه ويأخذون بدون واسطة محمد وآله فقد ادعوا الربوبية والألوهية لأنفسهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه ورأوا أنفسهم مستقلين قال تعالى { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ }3 وقد قالوا أن اسم رفيع الدرجات هو الإمام عليه السلام لأنه اسم الله كما في الزيارة (( السلام على اسم الله الرضي ))4 وقد قال علي عليه السلام (( أنا الروح من أمر ربي )) فقد ثبت هنا مقامان مقام البيان ومقام المعاني .

 

      وثانيهما أن النذر هم الأنبياء المتقدمون وهم أشباح آل محمد صلى الله عليه وآله وسلموأمثالهم يحكون عنهم وهم عليهم السلام يوصفون بهم كما مرّ .

 

      وثالثها أنهم هم الأنبياء ولكنهم متقومون بهم أي بمثالهم أي ليسوا إلا ذلك المثال ولا حقيقة لهم مستقلة في حال من الأحوال كما مثلت لك بالقلب والإنسان والمداد والحروف والنفس وأمثال ذلك من الأمثال مما ضربه الله للخلق ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حي عن بينه وقد أشار إلى تلك الدقيقة الشريفة بقوله عليه السلام فيما تقدم (( أنا الأمل والمأمول )) ولو أردنا شرح حقيقة الحال في هذه الوجوه الثلاثة سيما الوجه الثالث لأدى إلى بسط عظيم في المقام بتمهيد مقدمات لا ينبغي إظهارها وإبرازها لعامة الناس فتركناها وإن أشرنا إلى شيء منها لئلا يحرم أهله .

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام نحن الآخره والأولى

 

       الآخرة هي العود والأولى هي البدأ ولما كان العود هو البدأ وكانت الآخرة هي الأولى كما كما قال عز وجل { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }1 إنما أنث الصيغة لبيان أنهما صفتان للدار أي الدار الآخرة والدار الأولى وقد دل العقل والنقل على أن عليا عليه السلام والأئمة عليهم السلام هم البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما في قوله تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ }2 على قراءة المبني  للمجهول في يسبح فيكون رجال خبر لمبتدأ محذوف أي تلك البيوت رجال وهم الأئمة عليه السلام وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي عن الأصبغ بن نباته قال (( كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام فجاء ابن الكوّاء فقال : يا أمير المؤمنين من البيوت في قول الله عزّ وجل { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ

________________

1 الأعراف 29  

2 النور 36 - 37

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }1 قال علي عليه السلام : نحن والله البيوت التي أمر الله بها أن تؤتى من أبوابها ، نحن باب الله وبيوته التي يؤتى منه فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها ))2 فإذا كان الأئمة عليهم السلام هم البيوت فقد جاء تأويل قوله تعالى { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }‏3 وعلي عليه السلام هو أول البيوت وقد وضع في الكعبة المشرفة زادها الله شرفا وتعظيما ، وإنما كانوا بيوتا لأنهم عليهم السلام حووا آثار الربوبية وجمعوا أحكام الألوهية وعندهم اجتمعت الخيرات كلها وخزنت الأنوار بأسرها وحفظوا أسرار العلوم الإلهية ووَسِعوا ظهورات رب البرية كما قال عز وجل (( لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))4 والعبد المؤمن هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصالة وأهل بيته الطاهرون  عليهم السلام بالبدلية ، فلما أفيضت الأنوار والأسرار والفيوضات الواردة على ذرّات الكائنات ظهرت فيهم عليهم السلام وهم محل تلك الأنوار ومهبط تـلك الأسرار فسماهم الله سبحانه بيتا لكونهم مسكن علومه وأسراره ، فإطلاق البيت عليهم حقيقة لا مجازا ثم لما ظهر ذلك المعنى في هذه المساكن المعروفة سميت بها مجازا أو حقيقة ثانية بعد تلك الحقيقة الأولية وإنما هي حقيقة مجازا ومجاز حقيقة ، فهم عليهم السلام هم الدار الأولى لأنهم البدء حيث خلقهم الله سبحانه قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف دهر والأحوال الثابتة في رتبة الخلق كلها لهم في مقام التفصيل والعقل الكلي بأطواره وشئوناته الذاتية والعرضية الذي قد حصل البدء في كل مرتبة ومقام بإقباله إلى الخلق هو تفصيل من تفاصيل أحوالهم وآثارهم وهو أول من ذاق الباكورة في حدائقهم وهو أول فتق وقع في الجوالمرتوق من صفاتهم وأنوارهم ، فهم  عليهم السلام إذن بالمبدئيـة أولى وبالأوليـة أحرى ، ولما كانت الموجودات

__________________

1 البقرة 189               2 الاحتجاج 227

3 آل عمران 96            4 البحار 58/39 ح 61

كلّها أوعية رحمة الله سبحانه وخزائن فيضه وهم عليهم السلام أوسع الأوعية وأشرف الخزائن بل لا خزينة معهم ولا وعاء غيرهم عندهم فكانوا هم الدار الأولى ، وكل أول هو الآخر لأن الآخر هو عود الشيء إلى الكمال والكمال هو القرب إلى المبدأ وليس أقرب إلى المبدأ بالنسبة إلى الشيء من مبدأ ذاته فإذن عوده هو عين ظهور بدئه ، فالآخرة هي الأولى حقيقة ، وذلك أن الله سبحانه لما خلق الخلق خلقهم في الخلق الأول على أكمل ما تقتضي كينونتهم وتستدعي هويتهم ولا يمكن رتبة فوقها وغيرها ، ولما أمرهم بالأدبار ظهرت فيهم ظلمة الإدبار وكثافة تصرف الأغيار وكدورة دوران الليل والنهار ، فلما بلغ الكتاب أجله ووصل الأمر مستقره أمره بالإقبال ومعناه رفع تلك الظلمة ورفع تلك الشبهة فيعود كما كان قد بدأ فيلحق ببدئه فبدؤه هو عين عوده ، فالدار الآخرة التي هي في الظاهر الجنة ونعيمها والنار وأليمها هي بعينها هي الدار الأولى التي هي أول تنزل العقل الكلي إلى آخر مقامات الإدبار إلى نهايات مقامات الإقبال الجسماني الدنياوي فعود الأجسام إلى بدئها الجسماني وهو عين عودها وكذلك الأرواح والنفوس والطبائع والمواد وآل محمد عليهم السلام هم المبدأ على جهة الإطلاق وهم المنتهى ، أما في أنفسهم عند أنفسهم فظاهر لأنهم عليهم السلام قد بدءوا من نور العظمة ونور الذات وهما عين حقيقتهم لأن الله سبحانه ما حل فيهم العياذ بالله ولا تعين وتصور بصورهم وهياكلهم وإنما خلقهم لا من شيء بل خلقهم بهم وأقامهم في أظلتهم وأسكنهم في دار محبته ورضاه التي هي عين هويتهم كما قال عليه السلام في النفس الملكوتية الإلهية أنها (( هي ذات الله العليا وشجرة طوبى وسدة المنتهى وجنة المأوى )) فتلك الذات هي الجنة وهي الشجرة ، وأما عودهم فهو عروجهم إلى تلك النقطة التي هي عين بدئهم وصعودهم إلى تلك الذروة التي هي ذاتهم ، فكانوا عليهم السلام هم الأولى وهم الآخرة ولا شك أن الشيء لا ينتهي إلى الذات البحت القديمة فإنها متعالية عن الاقتران ومنزهة عن الاتصال ، فعود الشيء إلى ما بدأ منه من حقيقة ذاته ، ولما كانت تلك الحقيقة مثال الله الملقى في هويات الكائنات وذلك المثال لا تذوت له بذاته وإنما هو حكاية وصفة وآية لغيره قيل أن الأشياء تعود إلى الله وتصير إليه كما في قـوله تعالى{ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }1 وإلا  فقد قـال عليه السلام (( انتهى المخلوق إلى مثله والجأه الطلب إلى شكله )) وقـال عليـه السلام (( رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك )) .

 

      وأما أنهم بدأ الأشياء وعودها فلأن الأشياء كلها قد خلقت من شعاع أنوارهم وفاضل آثارهم فذاتهم لمعة من نور أجسامهم عليهم السلام وتلك اللمعة قد تطورت بأطوار مختلفة قد ظهرت في كل طور بظهورها في مرتبة فإذا خلص الشيء عن مرارات شدة اإدبار رجع إلى الإقبال وهو الوصول إلى تلك الحقيقة واللمعة فلا يتعداها أبدا وهي لا تحكي غير مثالهم وصفتهم ، فبدأ الأشياء منهم أي من نورهم وعودها إلى ذلك النور ، ومن جهة أن ذلك النور إنما هو وصفهم ومثالهم كان بدؤها وعودها إليهم لأن ذلك المثال لا يدل إلا عليهم ولا يرجع إلا إليهم ، وأما الكفار وأصحاب النار فإنهم قد خلقوا من الظلمة الحاصلة من عكس أنوارهم والإعراض عن آثارهم وكما قال تعالى { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }‏2 وعود الظلمة إلى نفس النور من حيث هو نور { يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ }3 فلا قوام لها إلا بالنور ولا قوام للنور إلا بالمنير ولا منير بالوجود سواهم عليهم السلام أما سمعت ما فسر مولانا الصادق عليه السلام لفظ الجلالة فقال عليه السلام (( آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا

___________________

1 البقرة 156             2 الحديد 13            3 النمل 24

 

 

 

 

 

 

واللام إلزام خلقه ولايتنا والهاء هوان لمن خالف محمدا وآل محمد ))1، وهو قوله عليه السلام في الزيارة (( بكم فتح الله وبكم يختم ))2 ، فهم عليهم السلام الفاتح وهم الخاتم والخاتم هو عين الفاتح وبالعكس كما أن الختم هو عين الفتح وبالعكس .

 

      والدار الآخرة هي رجوع الأشياء في العالم الكلي إلى مبادئها في اليوم الذي خلقه الله عليها أما سمعت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الجنة والنار ليلة المعراج وتلك الدار هي ظهور شأن من شئون علي عليه السلام وطور من أطواره فسميت باسمه وقيل لها الآخرة وكذلك الدنيا والأولى قد يراد بهما الترادف أي يراد بهما معنى واحد وهو العالم الكلي أيضا بعد كمال الإدبار وقبل نهاية الإقبال , إنما قيل لها الدار لما ذكرنا من أنها مجمع الشؤون الربوبية ومخزن أسرارها ، وإنما قيل لها الأولى لأنها المبدأ والدنيا لأنها أدنى من الدنو بمعنى القرب ، وقد يراد بالأولى ما ذكرنا وهو دنيا البلاغ ، وبالدنيا الدنيا الملعونة وهي مقتضيات الإدبار وظهورات أشباح المدبر الحقيقي ، ولما كانت الدنيا في أغلب أحوالها يراد بها المعنى الثاني ما نسبوها إلى أنفسهم الشريفة عليهم السلام لأنها حينئذ ظل كينونتهم تدور على خلاف جهتهم وتشتهي خلاف مراداتهم فهي حينئذ الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قـرار ولذا كانت تـنسب في أغلب الاستعمالات وأكثر الموارد إلى

________________

1 التوحيد 230

2 الزيارة الجامعة الكبيرة

 

 

 

 

 

الأعداء كما في قوله تعالى { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }1وهي ولاية الأول والثاني وأتباعهما { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى }2 وهي ولاية علي عليه السلام وقوله تعالى { كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ }‏3 وهي ولاية الأعداء { وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ }4 ‏وهي ولاية علي عليه السلام وقوله تعالى { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا }‏5 .

 

      وبالجملة فالآخرة في كل موضع من القرآن يريد بها عليا عليه السلام وولاية الأئمة عليهم السلام ، والدنيا أغلبها دنيا ملعونة وكلها يريد بها ولاية مخالفيهم وظالميهم لعنهم الله ، فمن هذه الجهة ما نسب إلى أنفسهم  الشريفة الدنيا لمكان هذه الشبهة ، و إنما ذكر الأولى لكونها أعم حيث تشمل بدأ كينوناتهم عليهم السلام في القابلية الأولى في الخلق الأول بل قبلها في أطوار اللانهاية وأحوال اللابداية إلى أزل الآزال وأبد الآباد حيثما أراد الله وشاء في مكنون علمه ومخزون سره بغيب محبته إلى أول التعين والتقييد ظهور العقل الأول وأول الإدبار والنزول إلى نهاياته وآخره في مقام الجماد ، ويشمل أيضاً صعوده إلى أول الدنيا وهي محدودة بخلق أبينا آدم عليه السلام ونزوله إلى هذه الأرض إلى فناء العالم أي موت الإنسان الكبير أي رجوعه إلى ما كان قبل خلق آدم عليه السلام ، ومجموع هذين الحدين على ما في بعض الأخبار مائة ألف سنة ، عشرون ألف سنة دولة الباطل وثمانون ألف سنة دولة أهل الحق عليهم السلام ، فعلى هذا تدخل الرجعة وقيام القائم عليه السلام في الدنيا كما تدل عليه الأخبار الكثيرة ويشهد بصحتها صحيح الاعتبار الإ أن هذه الدنيا كما تدل عليه الأخبار الكثيرة ويشهد بصحتها صحيح الاعتبار إلا أن

_________________

1 الأعلى 16             2 الأعلى 17                3 القيامة 20

4 القيامة 21             5 الإسراء 18 - 19

هذه الدنيا دنيا بلاغ لا دنيا ملعونة مما قـال عليه السلام (( الدنيا مزعه الآخرة ))1وقال تعالى { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ }2 ، فلو اقتصر عليه السلام بذكر الدنيا لتبادر إلى غير ما يراد مع أنه ليس فيها دلالة على هذا العموم المراد في هذا المقام مع ما في لفظ الأولى من الإشارة إلى الأولية والقطبية وغيرها من المحسنات التي يطول بذكرها الكلام وبما ذكرنا كفاية لأولي الألباب من أولي الأفهام .

 

      والآخرة تشمل ما بعد الموت الأكبر للإنسان الأكبر ووصول كل شيء إلى محله ورجوع كل فرع إلى أصله ولحوق كل مسبب لسببه من أول مقام الفرق في آخر مراتبه المزج والخلط في أول الحشر إلى أن يتصفى من الخلط والمزج بوصول أهل الجنة إليها وأهل النار إليها ، ثم في مقامات الفرق في الجنة من أول اغتسالهم في عين الكافور وشربهم من ماء السلسبيل ووقوفهم على الكثيب الأحمر واستراحتهم في الرفرف الأخضر وسلوكهم في أرض الزعفران وقيامهم مقام الأعراف وسيرهم فيه إلى أن ينقطع بهم السير في مقام الفرق وجاء حكم الوصول والاتصال في مقامات الجمع بظهورات المحبوب وتجليات المطلوب وفناء المحب في محبوبه والطالب في مطلوبه في الوجدان والوجود وهو مقام الرضوان الذي هو أكبر ثم سيرهم في تلك المقامات بتكرار التجلي والظهور والصحوبعد المحو والمحوبعد الصحو والحضور بعد الحضور والقرب بعد القرب والوصل بعد الوصل كما قال عزّ وجلّ (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))3وهو قوله

___________________

1 إرشاد القلوب 1/89

2 النساء 134

3 إرشاد القلوب 199

 

 

عليه السلام (( إن الله أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ))1 فإنه يريد عليه السلام ما ذكرنا من حكم اللانهاية فوق رتبة القيود من عالم الوجود المقيد حيث يـقول عليـه السلام (( ولا خطر على قلب بشر )) فإنه القلب هو أعلى مقامات الوجود المقيد وهو أنا وهو أول زوج تركب .

 

      وبالجملة كل ذلك مقامات الآخرة ومراتبها وكلها علي عليه السلام والأئمة الطاهرون عليهم السلام لوجهين بل لثلاثة وجوه .

 

      أحدها : أن الآخرة هي الأئمة عليهم السلام حقيقة لأنهم هم الأولى حقيقة وهذه الأولى والآخرة المعروفتان حقيقة ثانية عرضية لأنهما شعاعهم وهو لا يلحق المنير ، ألا ترى أنك تقول إن في البيت سراجا ولا تقول أن فيها سراجاً و أشعة مع أن الأشعة لا شك أنها موجودة لكنها لا تجامع السراج ولا تدخل معه في عدّ ولا حساب ، وكذلك الآخرة والأولى هم الأئمة عليهم السلام حقيقة لأنهم المبدأ لكل شيء وأنهم المنتهى كما في الزيارة  ليس وراء الله ووراءكم يا سادتي منتهى ))2وإنهم عليهم السلام الدار والبيت التي سكنت فيها الفيوضات الربانية والتجليات الصمدانية وهم عيبة علم الله ومخزن سر الله ومهبط نور الله ومحل مشيئة الله وموضع إرادة الله كما في الزيارة (( إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم ويصدر من بيوتكم الصادرة لما فصّل من أحكام العباد ))2 وهم بيت معرفة الله وهم البيوت التي

__________________

1 لم نقف على هذه الرواية التي ذكرها المصنف أعلى الله مقامه ولكن وجدنا ما يقرب منه وهو كثير منه ما في التهذيب 6/107 قوله صلى الله عليه وآله ((  فأبشر يا علي وبشر أولياءك ومحبيك من النعيم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ))

2 البحار 97/308                  3 كامل الزيارات 200

 

 

قد اتخذت في الجبال والشجر كما في قوله تعالى { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ }‏  وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه منتحل العلم والدين والمعرفة والمحبة والتوحيد { أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ }1 وهم الأئمة عليهم السلام لأنهم أوتاد أرض القابليات وأعلام الحق والهداية لأهل الأرضين والسموات وحاملوا الحرارات الواردة من المبدأ الأول من الفيض الأول الواصلة إليهم بواسطة سماء النبوة ونجوم خصوصيات الإلهامات النبوية بصلابة القوة والحفظ والعزيمة وعدم نفوذ الغير فيها بميل أو هوى وعدم ظهورها للغير منهم وبهذا كانوا عليهم السلام كما وصفهم الله سبحانه { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}‏2 قال الشاعر :

      فالقصر مجدهم الذي لا يرتقى     والبئر علمهم الذي لا ينزف

 

      ولذا كانوا جبالا كما قال الخضر عليه السلام في مرئيتة لأمير المؤمنين عليه السلام كنت كالجبل لا تحركه العواصف قـال تعالى { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ *وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْـجِبَـالِ كَيْفَ

__________________

1 النحل 68

2 الحج 45

 

 

 

 

 

 

 

 

نُـصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}1 فالجبال في الباطن هم الأئمة عليهم السلام { بُيُوتًا }‏ أي مسكنا ومحلا للعلوم التفصيلية كما ذكرنا سابقا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الإجمال والولي والوصي عليه السلام صاحب التفصيل ، كما أن الصدر بيت علم الغيب والنفس بيت علم العقل كذلك الوصي بيت علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكرنا في قوله عليه السلام (( وعلمته علمي وعلمني علمه )) فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالقلب وعلي عليه السلام كالصدر والأئمة عليهم السلام كالحواس والقوى والمشاعر وفاطمة الصديقة الطاهرة عليها السلام كالجسد الحاوي للكل والواعي للجل والقم ، فهم عليهم السلام بيوت علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أن النفس والقوى والحواس بيوت علم القلب ومخزن العلوم التفصيلية وذلك ظاهر إنشاء الله ، { وَمِنَ الشَّجَرِ }‏ وهو علي عليه السلام لأنه شجرة طوبى وسدرة المنتهى وجنة المأوى وقد ورد أن شجرة الخلد وسدرة المنتهى في بيت علي عليه السلام وليس في الجنة بيت إلا وفيه غصن من أغصانها ، إنما كان شجرة لأنه قد ظهر منه اثنا عشر غصنا من الأغصان الكلية في الولاية الكلية ، { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}2 وهي فاطمة الطاهرة الصديقة على أبيها وبعلها وبنيها وعليها الصلاة والسلام لأنها الصلاة الوسطى الراتبة بين النبوة والولاية وهنا ظهر ما في ليلة المعراج حين ما قال جبريل عليه السلام له عليه السلام يامحمد صلى الله عليه وآله وسلم (( قد وطأت موطأ ما وطأه قبل لا ملك مقرب ولا نبي مرسل قف فإن ربك يصلي وقال صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يصلي قال يقول سبوح قدوس أنا رب الملائكة والروح أنا رب الملائكة )) ومن معاني هذه الصلاة هي وصل النبوة بالولاية وذلك الوصل كان منها تزويج فاطمة عليها السلام من علي عليه السلام فهي العرشية الرابطة بين الجدارين جدار النبوة وجدار الولاية فكان أولاد النبي

___________________

1 الغاشية 17 - 20

2 النحل 68

 

صلى الله عليه وآلـه وسلم من علي عليه السلام بفاطمة عليها السلام ويظهر مما ذكرنا تأويل تمام الآيـة إذ بالبيان مشروحا يطول به الكلام والإشارة كافية .

 

      فظهر لك بعون الله أنهم البيوت حقيقة وأنهم الآخرة والأولى على الوجه الأول وذلك كالصلاة فإن الصلاة حقيقة اسمهم عليهم السلام كما قال تعالى { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ }‏  أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم { وَالصَّلاَةِ } هي علي عليه السلام أمير المؤمنين { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي ولاية علي عليه السلام لكبيرة { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }1‏ الآية ، وقـال عليه السلام (( أنا صلاة المؤمنين وصيامهم )) وقال الصادق عليه السلام على ما رواه في بصائر

___________________

1 البقرة 45

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدرجات للصفار (( نحن الصلاة ونحن الزكاة ونحن صوم شهر رمضان ))1 الحديث ، فالصلاة وغيرها من الأسماء الطيبة كلها حقيقة اسمهم اللفظي حقيقة كما في الـزيارة ((إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه مأواه ومنتهاه ))2 وهذه الصلاة المعروفة ذات الأركان والأوضاع هي صفتهم وآيتهم سميت باسمهم من حيث حكايتها لذلك المسمى بتلك الجهة فلا يقوم فرع إلا بأصله ولاتتحقق صفة إلا بموصوفها ولا يكون موصوف إلا بالصفة فلا ولاية لهم عليهم السلام إلا بهذه الأفعال وكذلك لا ظهور لهم إلا بها ، فالصلاة اسم لهم عليهم السلام حقيقة ثم وضعت لحقيقتك حقيقة ثانية ثم وضعت لفعلك الخاص حقيقة ثالثة ثم وضعت للدعاء حقيقة رابعة أومن باب التشكيك فافهم أرشدك الله للصواب .

 

      وهكذا حكم كل خير ونور وكذلك الأولى والآخرة فإنهما لهم حقيقة لكنها لما ظهرتا في مقام التفصيل الظهوري بتلك الأطوار والأحوال سميت بهما بنحو من الاعتبار لما دل عليه الدليل العقلي والنقلي ، إنما في السافل تفاصيل ظهورات الـعالي فكلما في السافل مفصلا كان في العالي مجملا ، ولما كان الاسم جهة التمييز والبيان فإذا ميز كان الاسم للعالي حقيقة وللسافل إما مجازا أو حقيقة ثانية كما ذكرنا ، واعلم أني ربما أردد الكلام للتفهيم والبيان لغموض المسألة وصعوبتها .

___________________

1 لم نعثر على هذا الحديث في النسخة التي عندنا من بصائر الدرجات ووجدناها في البحار 24/303 بزيادة نحب أن نوردها تبركا وتيمنا (( نحن الصلاة في كتاب الله عز وجل ونحن الزكاة ونحن الصيام ونحن الحج الشهر الحرام ونحن البلد الحرام ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله ونحن وجه الله )) . والحديث مذكور أيضا في تأويل الآيات 21

2 الزيارة الجامعة الكبيرة

 

 

      وثانيها أن نحمل الأولى والأخرى على معنييهما المعروفين كما تقدم فكونهم عليهم السلام حينئذ الأولى والآخرة كما تقدم في قـوله عليه السلام (( ونحن النذر الأولى )) لأن الخلق كلهم بجميع أحوالهم وشئونهم وأطوارهم الحسنة الجميلة صفاتهم وأسماعهم ولباسهم فيسمون بأي اسم شاءوا ويصفون بأي صفة أرادوا ويلبسون أي لباس اختاروا لهم الأمر والحكم { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }1 ، لكنهم عليهم السلام يجرون الصفات والأسماء على حسب الحكم والمصالح ومقتضى المصلحة والوقت والجهة والرتبة وسائر الشرائط والمكملات والمتمات من اللوازم والأسباب وسائر حدود القابلية كما إذا كان لك صفات كثيرة كالعالم والعادل والطيب والقائم والضارب والناصر وأمثالها تصف نفسك بأي صفة أردت أو شئت مما اقتضت المصلحة فكذلك الخلق كلهم صفات لهم إما بالذات أو بالتأويل ، وبعبارة أخرى كل الخلق يحكون إما توصيفهم بصفات الكمال أو تنزيههم عن صفات النقصان ، فلهم عليهم السلام مقامان وكذا كل عال مع سافله إما أن يرقوا السافل إلى مقام الصفتية فيتصفون بها أي يصفون أنفسهم بها كما في أمثال هذه الخطبة الشريفة ، وإنما قلت هكذا تعمية عن الأغيار وإلا ففي كل شيء يوجد ذلك التوصيف وقد وصفوا عليهم السلام بذلك أنفسهم إلا أن بالتصريح يرتاب الجاهلون ويستظهر المعاندون ، أو أن ينزلوا إلى مقام السافل فيجرون على أنفسهم الشريفة أحكامهم وأحوالهم كما قال علي عليه السلام في حديث الطشت والإبريق الذين أوتي بهما له عليه السلام من الجنة ليتوضأ حين شك في وضوئه قال عليه السلام (( شككت في وضوئي فذهبت أتوضأ وألحق صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )) وهكذا أحكام الخلق مما يوهم الشك أو السهو أو النسيان أو المعصية أو التعليم من الملائكة أو الغفلة أو سائر الأحوال فإن كل ذلك أحوال السافلين أجروها على أنفسهم إما كرامة لهم كما قـال تعالى لموسى (( يـا موسى

_________________

1 ص 39

مرضت فلا تعودني )) وكان المريض ولي من أولياء الله وقوله تعالى في حديث برخ الأعور (( إنه يضحكني كل يوم ثلاث مرات )) أي يضحك أوليائي وإلى هذا ناظر قوله تعالى { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }1 فإنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل ذنوب شيعة علي عليه السلام ذنوبه فاستغفر لذلك وبكى وتضرع تتميما لقابلياتهم فغفر الله سبحانه له ذلك الذنب الذي نسبه إلى نفسه الشريفة وإلا فحاشاه عن الذنب صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى هذا سهل عليك معرفة أن طلحة أصيب من مروان بن الحكم لعنه الله مع أنه قال رماني علي بن أبي طالب لأنه عليه السلام أجرى فعله بيد ذلك الخبيث لقوة المناسبة بين القاتل والمقتول ولشدة التبكيت والتشكيك ، ولكن لما كانت دار الآخرة دار العود إلى الله سبحانه انقطعت ملاحظة الأسباب ويشاهد المسبب وقطع نظر طلحة إلى المسبب وهو المثال الملقى منه في هويات الكائنات وحقائق الموجودات في كل الذرات وقطع النظر عن الحامل واليد ولآلة على المعاني الذي عندنا لا كما تقوله الأشاعرة ، وقتل علي عليه السلام طلحة بذلك الخبيث كقتل الله سبحانه بني إسرائيل ببخت نصر فإن الله سبحانه انتصر بذلك الكافر دينه وأخذ به ثار يحيى المظلوم الشهيد المقتول ، وهذا مثاله في هذه الأمة ، وأما حقيقة الأمر فالذي أجرى فعله بيد مروان بن الحكم هو الذي أجرى فعله بيد بخت نصر لأن عليا عليه السلام وروحي فداه يد الله العليا وكلمته الحسنى ووجهه الأعلى ومقام الذي لا تعطيل له في كل مكان فلا قوام للشيء إلا بالوجه كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه يرجعون وهو العلي الكبير وقال سيد الساجدين عليه السلام في دعاء الحريق (( وإن كل معبود مما دون عرشك إلى قرار أرضيك السابعة السفلى باطل مضمحل ما خلا وجهك الكريم  فإنه أعز وأجل من أن

_____________________

1 الفتح 2

 

 

يصف الواصفون كنه صفته أوتهتدي العقول إلى كنه عظمته ))1الدعاء فإذا كان كذلك فلا استبعاد فيما قلنا ولا استعجاب فيما ذكرنا , أما سمعت حديث جبريل عليه السلام إذ دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل علي عليه السلام فقام جبرائيل لعظمته و إجلاله فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتقوم لهذا الفتى قال كيف لا أقوم وله حق التعليم قال صلى الله عليه وآله وسلم وكيف كان ذلك فقال لما خلقني الله سبحانه وسألني من أنا ومن أنت ما اسمي وما اسمك قلت أنت أنت وأنا أنا اسمك اسمك واسمي اسمي فاشتعلت علي حرارة الغضب فاحترقت أجنحتي وبقيت إلى ثلاثين ألف سنة ثم ناداني الله سبحانه بما ناداني أولا فأجبت ثانيا بالجواب الأول فاحترقت أجنحتي ثانيا فلما أتت النوبة في المرة الثالثة أن يسألني ربي أتاني هذا الفتى عليه السلام وقال لي إذا سألك الله سبحانه فقل في جوابه أنت الرب الجليل وأنا عبدك الذليل اسمك الجليل و اسمي جبرائيل ثم سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كم مضى عليك من العمر فقال ما أحسبه إلا أني أعلم أن كوكبا يطلع بعد ثلاثين ألف سنة وقد رأيته ثلاثين ألف مرة ثم إن عليا عليه السلام رفع عمامته الشريفة وأظهر ناصيته المباركة فقال عليه السلام هذا ذاك الكوكب يا جبرائيل فقال هو ذاته بعينه والله )) نقلت الحديث بالمعنى إذ لم أحفظه بلفظه وذلك الكوكب ظهور من ظهورات علي عليه السلام بالهيمنة والتسلط والخلق والحرارة والبعث والإرسال والإنزال ويظهر ذلك فيما يشاء كيف يشاء بما يشاء وذلك الإظهار كما قلنا لك من حكم التنزل في رتبة المعلول وإلا فالذي أرى جبرائيل هو مما يناسب مقامه وأين هو من مقام الأنبياء وأين الأنبياء من مقامهم وأين الثرى من يد المتناول وقد نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن سلمان أفضل من جبرائيل في الحديث المشهور ، ولم يزل مثال علي عليه السلام مع كل الخلق من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والمؤمنين الممتحنين وسائر الخلق من الجن والإنس أجمعين إلا أن الأنبياء لما

_________________

1 مصباح التهجد 220

كان وجههم الأعلى دائم الإلتفات إلى مبدئهم وكذلك الملائكة تتمكن لهم مشاهدة تلك الأمثال وأما سائر الخلق فلا يتأتى لهم إلا حين الموت أوفي رؤيا أو بعد انسلاخ شديد من الدنيا وإذا أرادوا ذلك عليهم السلام بالخصوص لحكم ومصالح كثيرة والمثال هو آية الممثل بل لا فرق بينه وبينه إلا أنه عبده وخلقه فإذن يصح أن يقول أنا ذاك كما يقول زيد أنا القائم فافهم .

 

      وثالثها أن نحمل الأولى والأخرى على معنييهما المعروفين عند العامة ونجعل المراد من الضمير المنفصل ( نحن ) مقام القطبية وظهور العلة المادية  فإنهم عليهم السلام بما ظهروا في الهياكل المعروفة للخلق قلب الإنسان الكبير وسائر الأعضاء كلها من القلب وإليه وكلها قشور له لا قوام لها إلا به ولذا إذا فقدت تلك الهياكل عن وجه الأرض فسد الكون وانهدم النظام كالقلب إذا أفسدته الحرارة الغريزية ، ولذا إذا رفعهم الله سبحانه إلى السماء في الرجعة بعدما بلغ الكتاب أجله يفسد العالم ويبقى في هرج ومرج أربعين يوما إلى الفساد الأعظم والهلاك الأكبر وفقدان الشعور والإحساس بالمرة ، وهذا الوجه هو بعينه الوجه الثالث الذي ذكرناه عند بيان قوله عليه السلام (( نحن النذر الأولى )) فراجع كما ذكرنا إذ لا يمكن الكلام عن هذا المقام إلا مرموزا مستورا فكم من خبايا في زوايا فتدبر فيما ذكرنا فإنك تجد صحوا بلا غبار .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام ونذر كل زمان و أوان

 

      لأن كل ما سواهم عليهم السلام بجميع المراتب إنما خلقوا ووجدوا من شعاع أنوارهم وظهور فاضل آثارهم وتقوموا بهم عليهم السلام قيام صدور وقيام عضد وركن ، ولما كان الممكن لا يستغني عن المدد في حال من الأحوال لمكان الاضمحلال وعدم الاستقلال ، والفيض دائما يرد عليهم من المبدأ المفيض جل جلاله ، والخلائق دائما يقبلونه وإلا لانعدموا وبطلوا ، ولما كان الفيض في ذاته له اقتضاء وآثار وفي قابلياتهم اقتضاء وآثار وفيها بالنسبة إلى المبدأ له اقتضاء وآثار وبالنسبة إلى نفسه له اقتضاء وآثار وبالنسبه إلى نفسه له اقتضاء وآثار ، وكانت قابليات الخلق كلها على قسمين قابلية توافق هيكل التوحيد وقابلية توافق هيئة الشرك بل القابليات هما نفس الهيكلين ، ظهر الفيض في نفس قابلية الشرك بالنسبة إلى مبدئه في حكم ذلك الشيء بصورة الغضب فأثر في الشيء في نفسه القساوة والطبع والعماء والصممم والذل والفقر والمسكنة والأذية بأنحائها وأحوالها وأهوالها ، وبالنسبة إلى حكم مبدئه فيه في الحكم الأولي قبل وقوع الخطاب والأمر هي تقيد الفيض بالحدود المشخصة اللازمة ، ظهر ذلك الفيض من المبدأ المفيض بطور النذير فذلك الفيض الإلهي نذير من عذاب الله وسخطه عند وقوعه في الحل الظلمات من جهة كونه حاملا للخطاب الإلهي لا من حيث وقوعه في الهيكل الظلماني وغضب من الله سبحانه حسب جريانه على مقتضى ذلك الهيكل بملاحظة نفسه المدبرة المقبلة إلى وجهه الأعلى من حيث نفسه ، ولما كان ذلك الهيكل غير ناضج وغير متصل بالحرارة الغريزية الأصلية وإنما هو بارد يابس من جهة النظر إلى نفسه وفيه رطوبة للميل إلى مبدئه من حيث نفسه لا من حيث مبدئه ، فلما أثرت تلك الحرارة أظهرت نتنها وخبثها وكثافتها وخبث رائحتها ومجموع ذلك الفيض والقابيلة هو الشيء المدبر القاسي الغاسق المعرض المدبر ، فتحقق النذير عند وجود هذا الهيكل الشرير وقبله عند   ذكره ، فلولا وجود هذا الهيكل ولا ذكره ولا إمكانه ولا إمكان حدوثه باقتضاء الطلبات ولا ذكر أسبابه ولا وجودها ولا تحققها لم يكن النذير أيضا ولكن لا يمكن عدم وجوده ولا عدم إمكانه وذكره وإلا لم يوجد الشيء بل لم يمكن ، فإن الحادث إذا حدث حصلت له جهتان جهة إلى ربه وجهة إلى نفسه فإنك تشير إليه وتقول هو حادث ولا شك أن جهة هويته غير جهة حدوثه ، فلو كان عينه بكل جهة لما صح حمله عليه ولما جاز أن تقول هو حادث فإن الحمل لا بد فيه من المغايرة و إن كان بالاعتبار لأن النسبة لا بد من تحقيقها بين الموضوع والمحمول فلوكان الموضوع عين المحمول حقيقة انتفت النسبة بارتفاع الاثنينية فلا يصح قولك هو حادث أو هو ممكن وهذا لا شك فيه وليس من هذا القبيل قولك هو الله أو هو واجب أوغير ذلك من الحمليات وإن كان من هذا القبيل فافهم فإنا لوتصدينا لبيان وجه الفرق لأخرجنا عما نحن فيه .

 

      وبالجملة إذا تحققت الجهتان كانت جهة الهوية نوعين نوع يوافق الجهة الأولى في مقام الفرق والمقام الثاني ، وإلا ففي الجهة الأولى لا ذكر لشيء فيها حتى يصح التوافق أو التخالف وتلك الموافقة في مقام الهوية باقتران ذلك الفيض ، وتلك الجهة العليا هي هيكل التوحيد لأن الحادث المخلوق يجب أن يكون دائم النظر إلى مبدئه إما بقيامه بامتثال أوامره ونواهيه و إجراء سائر أحكامه وإما بخضوعه وخشوعه وذله وفقره ومسكنته له وطلب الحوائج من عنده ، وإما ببينونيته عما سواه والدنو إلى مولاه وطلب القرب إليه والوصول بخدمته ، وليس هذا الترديد من باب منع الجمل بل من باب منع          الخلوّ ، ولكل جهة ومقام من هذه المقامات الثلاثة أحوال و اقتضاءات يصعب حصرها وذكرها ولذا شرعت الصلاة التي هي عمود الدين على هذا الهيكل فإن فيها قيام يشار به إلى قيام العبد بخدمة مولاه والامتثال لأمره ونهيه وفيها ركوعا يشار به إلى خضوع العبد وخشوعه وذله ومسكنته والإشارة إلى أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وفيها سجود يشار به إلى مقام الدّنوّ والبينونة عن الخلق والفناء في ذكر مولاه  والاضمحلال عند جلال عظمته ، وبهذه الحدود الثلاثة يتم هيكل الإيمان وهو مرادنا بهيكل التوحيد ، وبهذا يظهر ( أنا ) في قوله عليه السلام (( إلهي كيف أدعوك وأنا أنا وكيف لا أدعوك وأنت أنت ))1ولما تحققت هذه الجهات الثلاثة النورانية ظهرت لكل جهة جهة ضدها في إمكان وجودها في الخزانة السفلية الإمكانية فكان ضد الجهة الأولى الكساله والامتناع عن الخدمة وطلب الراحة كما قال عز وجل { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ }2 الآية وقال عز وجل { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }3 ، وكان ضد الجهة الثانية الاستكبار وارتكاب القبائح والمناهي كما قال عز وجل { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }4 وقال عز وجل { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً }‏5 الآية ، وكان ضد الجهة الثالثة الإعراض عن الله سبحانه وعدم التوجه إليه ونسيان ذكره وحرمته عن مناجاته وقربه والاشتغال بغيره

__________________

1 البحار 91/138                  2 التوبة 38

3 النساء 142                       4 ص 75

5 الجاثية 23

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كما قال عز وجل { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }1، وبإتمام هذه الحدود يتم هيكل الكفر والشرك والنفاق والشقاق ، ولما كان الله سبحانه حكيما يجري الأشياء على مقتضياتها وأسبابها ويضعها في موضعها وهو سبحانه سريع الحساب اقتضت حكمته سبحانه في فيض الرحمة الواسعة أن يلزم على أهل هذا الهيكل نتن ذاته وقبح صفاته ورداءة أعماله المقتضية للجحيم والحميم والعذاب الأليم نعوذ بالله من سخط الله ، وهكذا اقتضت حكمته البالغة أن يلزم على أهل هيكل التوحيد ثمرات أعماله وحسن توجه ذاته لأنه طيب لاتصاله بالأصل الثالث فجميع الأحوال الناشئة منه كلها على وجه الصفاء والنورانية والتمامية والكمالية في كل مقام يفرض وعلى كل حال يتصور وذلك هو النعيم والجنة ، فلما خلق الله سبحانه إمكان هذين الهيكلين وإمكان مقتضيات هاتين النشأتين أراد سبحانه أن يظهر مستجنات غيب الإمكان إلى عالم ظهور الأكوان والأعيان ، ولما كانت الجهتان في ذلك العالم ذكريتين يجب أن تكونا في عالم الوجود وجوديتين كونيتين ، فلذا خلق الله سبحانه الخلق في عالم التكوين من مزج هذين الهيكلين فالماء العذب الفرات من هيكل الأولي النوراني والماء المالح الأجاج من الهيكل الـثاني الظلماني ، فتحقق لكل شيء حينئذ ميلان ميل إلى الخير والرشد والنور وميل إلى السوء والقبح والظلمة ، ولما أن الوجه الأعلى هو الأعلى وهو المقصود لذاته والجهة السفلى هي السفلى وهو المقصود بالعرض من باب المقدمة كان الميل إلى الأعلى هوالمطلوب في خلق الأكوان وإظهار مستودعات غيوب الإمكان ، ولما كان الشيء صار مختارا بتلك الجهتين واختيار أحد المتساويين من غير جهة مرجح خارجي مستحيل كما برهنا عليه في سائر رسائلنا سيما الرسالة الموضوعة للرد على منكري القائل بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، جعل الله سبحانه لكل من الجهتين أسبابا ومرجحات خارجية ، أما الأولى عن جهة أنها الأصل والمقصود لذاته ، وأما للثانية فمن جهة أنها متممة للأولى ولا

____________________

1 التكاثر 1 - 2

تقوم في عالم الظهور إلا بها ومن جهة أن مآل الأولى إلى النور ومآل الثانية إلى الظلمة وطلب النور هو المطلوب وطلب الظلمة هو العذاب والألم ، فبين الله سبحانه لهم ذلك حين برء كينوناتهم بواسطة من برء وخلق حقائقهم وذواتهم به وتلك الواسطة هي ظهور نور المبين على مثاله للمبين له في رتبة المبين له فهو ذاته المردودة إليه فافهم ، وذلك المبين والواسطة في العالم الأول هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم فظهر بشيرا صلى الله عليه وآله وسلم لكل أحد ترتب مقتضيات الجهة الأولى أن عملوا على مقتضاها ونذير لكل أحد ترتب مقتضيات الجهة الثانية عليهم أن عملوا بمقتضاها وهو الفرقان في مقام البشارة والإنذار وهو قوله عز وجل { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }1 فهو صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين جميعا والعالم هو ما سوى الله فيكون نذيرا لكل ما سوى الله ترتب أحوال تلك الجهة وآثارها عليهم وقال أيضا سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا }2 فلما خلق الله سبحانه الخلق وحشرهم في محشر واحد وأوقفهم في مجمع واحد ثم استخلص نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة ما هو أهله و انتجبه آمرا وناهيا وأقامه مقامه في سائر عوالمه في الأداء مقامه إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه الخواطر والأفكار فقال لهم عن الله عز وجل ألست بربكم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيكم وعلي عليه السلام وليكم والأئمة الأحد عشر من ولده وفاطمة الصديقة عليها السلام أئمتكم وهداتكم ثم ، بشرهم صلى الله عليه وآله وسلم بما يلزم هذا الإقرار من النعيم واللذة والحلاوة والمحبة والمسرة بأن كشف لهم عن باطن الكرسي على المعاني كلها وأراهم وأشهدهم أنفسهم وما يؤول إليه أمورهم من النعيم والمغفرة والخير والبركة و إن لم يتركوا مقتضى الجهة العليا الأولى ، وأراهم صور أعمالهم من الحور والقصور وصور اعتـقادهم من الإيصال إلى التجلي بعد التجلي من الـنور الأعـظم

___________________

1 الفرقان 1                      2 الأحزاب 45 - 46

والركن الأقوم ، ثم أنظرهم عما يترتب عليهم من مقتضيات الجهة السفلى الثانية أن علموا بمقتضاها بأن كشف لهم عن باطن الصخرة أسفل السافلين وأراهم صور تلك الأعمال الرديئة والأفعال القبيحة من أنواع الحّيات والعقارب وسائر المؤذيات وبين لهم أن هذه الصور والحدود لمن أنكر وعمل مقتضى تلك الجهة السفلى وقوله تعالى { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}1وقوله تعالى { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا }2 وقوله تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}‏3 فلما عرض صلى الله عليه وآله وسلم عليهم التكليف وبشرهم بمرجو ثوابه وأنذرهم عن محذور عقابه فقبله صلى الله عليه وآله وسلم أولا عن نفسه الشريفة فأجاب أولا فقال يا ربنا قبلت جميع ما كلفتني وأمرتني بلسان وحيك فصدقه الله سبحانه بذلك لما خرج الإقرار عن كينونة ذاته ومستسرات سرائر غيب حقيقته بأبي هو وأمي و صلى الله عليه وآله وسلم  وأنزل سبحانه قوله تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ }4 فزاده سبحانه نورا على نور وسرورا على سرور فأعطاه الوسيلة والحوض والشفاعة والجنة والنار وجعل أمر الخلق إليه ومرجعهم لديه وقال { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }5 وقال

_______________

1 الإنسان 3                2 الإنسان 2

3 البلد 10                 4 البقرة 285

5 ص 39

 

 

 

 

 

 

 

 

عز وجل { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }1 وذلك بعدما امتحنه بالتكليف ووجد منه صدق العبودية ثم وصفه سبحانه بأعظم الصفات وقال {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}‏2 ثم قال عز وجل { أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ }3 ولا تستبعد من أنه صلى الله عليه وآله وسلم كيف سأل وكيف أجاب لأن الله عز وجل قد أوضح الأمر وبين الحقيقة لمن نظر إلى الدقيقة فقال عز وجل { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}‏4 وقد ذكرنا مرارا أن المراد بالآية الشريفة هو أن البدء هو عين العود وبينهما التطابق الكامل إن أبيت عن المعنى الأول ، وقد دلت أخبارهم عليهم السلام بأن عند فناء العالم وهلاك الخلائق يسأل الله سبحانه بلسانهم أين الجبارون وأين المتكبرون وأين الذين أكلوا رزقي وعبدوا غيري لمن الملك اليوم ثم يرد على نفسه فيقول لله الواحد القهار وقد ورد في عدة أخبار عنهم عليهم السلام أنهم قالوا (( نحن السائلون ونحن المجيبون )) ، وهذا إشارة إلى البدء فلا يبقى أخيرا إلا ما كان مخلوقا أولا وما خلق إلا بالتكليف وما كلف إلا بالمكلف الواسطة ولا مكلف في القدم والأزل فيكون في الإمكان وليس سوى المخلوق الأول  فعنده اجتمع الحكمان والتقى البحران قال تعالى لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب

_________________

1 الحشر 7              2 القلم 4               3 الأنعام 124

4 الأعراف 29

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عبدي المؤمن ))1 والمثال الظاهري هو الذي مثلنا به مرارا من حالك عند تلاوتك القرآن على فرض أنك مخاطب به الآن إلا أنه خاص بالحاضرين مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنك حين التلاوة لسان الله يخاطب الله نفسك بك ولذا تأمر أولا ثم تقبل وهكذا هناك بعينه ، فإن قلت كيف يقر لنفسه بالنبوة وللأئمة عليهم السلام بالولاية ، قلت الشيء إذا لم يقر بواسطة الفيض بين المفيض والمفاض عليه لم يوجد ولم يتحقق وعلى هذا يحمل قوله عليه السلام في (( الزيارة طأطأ كل شريف لشرفكم وبخع كل متكبر لطاعتكم وخضع كل جبار لفضلكم وذل كل شيء لكم وأشرقت الأرض بنوركم وفاز الفائزون بولايتكم ))2 فإن ذلك خضوع تكويني وإقرار وخضوع غريزي ذاتي ضرورة إن كثيرا منهم ما أقروا لسانا ولا جنانا على حسب الظاهر ، ولما كانت الوسائط كلها منتفية عنده صلى الله عليه وآله وسلم سوى نفسه الشريفة فتكون هي الواسطة والرابطة وهذا سر جار في كل شيء من الأشياء كما قال عليه السلام (( لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها ))3 وقال الكاظم عليه السلام (( ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور ))4 فيجب الإقرار لنفسه بأنه نبي ورسول من الله إليه في مقام ( رجع من الوصف إلى الوصف ودام الملك في الملك انتهى المخلوق إلى مثله والجأه الطلب إلى شكله ) ، أما الولاية لعلي عليه السلام والأئمة عليهم السلام لأنهم علموه علمهم بعدما تعلموا منه علمه على ما فصلت عند قوله عليه السلام (( وعلمني علمه وعلمته علمي )) ، ثم بعد إقراره وقبوله وإظهاره لهيكل التوحيد على أكمل ما يمكن في الإمكان أقر وأقبل علي أمير المؤمنين عليه السلام بمثل إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرفا بحرف بحقيقة الكينونة ولب الهوية فلما قابل بكله فوارة النور والفيض أحاط النور بكله وجزئه وكل ذرات وجوده فقام

_______________

1 إرشاد القلوب 199               2 الزيارة الجامعة الكبيرة

3 البحار 4/261                   4 البحار 3/327

محتذيا مثال النبوة فحكى ما كان يحكي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفس التقدم ولذا لم يكن نبيا وكان وصيا وليا فظهر بشيرا ونذيرا كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا على هذا النهج أولاده الطيبون وأحفاده المعصومون عليهم السلام كلهم من جهة ذلك القبول الواسع العام والمقابلة الكلية ظهرت فيهم الأحكام الظاهرية فيهما وجرى لهم ما كان جاريا لهما فظهروا مبشرين ومنذرين لأنفسهم بأنفسهم وما كان خلق سواهم ولا حادث غيرهم ، فلما خلق الله الأنبياء ( عليهم السلام من شعاع أنوارهم وفاضل آثارهم عليهم السلام فكلمهم الله بلسان وحيه بما ذكرنا وظهر منهم صدق العبودية والطاعة ظهر فيهم مثالهم وحكوا بحقيقة ذاتهم صفاتهم وكانوا بذلك أنبياء الله وخلفاء الله عز وجل لظهور ذلك المثال المستدعي لخلافة الله سبحانه فيهم فاختلفوا بشدة المقابلة وضعفها إلى إخلاص الولاء لهم والانقياد لأمرهم وعدم الإخلاص التام فاختلفت مراتبهم ومقاماتهم عند الله وعند الخلق فمنهم من صار أولي العزم ومنهم من لم يبلغ ذلك وهو قول العسكري عليه السلام (( قد صدنا ذرى الحقائق بأقدام النبوة والولاية )) إلى أن قال عليه السلام فالكليم ألبس حلة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة ))1فكان الأنبياء عليه السلام لقربهم إلى أنور أئمتنا عليهم السلام وشدة الإخلاص في طاعتهم ومحبتهم مبشرين ومنذرين أحكام الجهتين على ما ذكرنا وقررنا ، ولكن حكم الإنذار لا مكان الوقوع وإلا فمقتضى تلك الجهة السفلية غير واقعة وغير متحققة والأنبياء حينئذ تابعون ومتلقون الأحكام الإلهية منهم في حجاب الكروبيين والحكم حكمهم والدين دينهم والشريعة شريعتهم وكلهم عاملون بتلك الشريعة ولم يكن فيها اختلاف لجريانها على تمام الشرائط والمكملات والمتممات ، وكان الأنبياء عليهم السلام هنالك رعاياهم وشيعتهم ويدل العقل المستنير بنور الله أنهم حين نزولهم إلى الدنيا ما تجري أحوالهم المختصة

_________________

1 البحار 26/264

بهم الغير المشوبة بشيء من رعاياهم إلا بشريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم المعروفة عندنا وتشير إليها بواطن الأخبار ولكن لم أقف على حديث صريح يدل على الذي ذكرنا ولذا لا أقول بذلك كغيره وإلا إني سمعت ممن أثق به أنه وجد حديثا بهذا المعنى صريحا والعلم عند الله ، ولكن لا ينبغي التشكيك أنهم عليهم السلام ما خرجوا من شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم المحفوظة عند أئمتنا عليهم السلام أبدا ، ولما خلق الله سبحانه سائر المخلوقين وكلفهم بلسان وحيه بما كلف الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام فهم بين مقر ومنكر فظهرت في هذه المرتبة آثار الهيكلين ومزاج البحرين وسر العالمين فبعث الله سبحانه للأنبياء ( عليهم السلام نذر إليهم على حكم شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلمونظم طريقته ، فالأنبياء عليهم السلام وإن كانوا نذرا لكنهم بواسطتهم وتبعيتهم بل من جهتهم وعلى ولايتهم ، فالنذر على الحقيقة هم الأئمة عليهم السلام في كل زمان وأوان والأنبياء عليهم السلام وسائر الخلق أيضا إن صفت لهم القابلية وظهر فيهم نور الكينونة ليكونوا نذرا جزئية كلهم آلسنة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتراجمة لما نطقوا به للخلق ، ولما كان الخلق في أول الخلقة ما نضجت طبائعهم وما صفت هوياتهم فلم يقدروا أن يصلوا إلى أهل البيت عليهم السلام فجعل الأنبياء أبوابا وحجبا وأستارا فهم المتكلمون من وراء الحجب كما تكلم الله مع موسى وراء الحجاب الذي هو علي عليه السلام وتكلم علي عليه السلام مع موسى عليه السلام من وراء الحجاب الذي هو رجل من الكروبيين وكما تكلم ذلك الكروبي مع موسى من وراء ذلك الحجاب الذي هو الشجرة ، فالمتكلم هو الله سبحانه حقيقة والوسائط كلها مرتفعة منقطعة مضمحلة هذا في ما يختص به سبحانه، وأما فيما يختص به السفرة والوسائط فالأصل والحقيقة فيه هونبينا صلى الله عليه وآله وسلم و أئمتنا عليهم السلام وسائر الوسائط والحجب كلها مرتفعة منقطعة وذلك لأهل دليل الحكمة فإنهم  لا يرون في الوجود متكلما وناطقا عن الله سبحانه سواهم عليهم السلام ويرون الأنبياء عليهم السلام ألسنة حاكية محضة فلا ينسبون إلى اللسان شيئا أبدا وينظرون إلى قوله عز وجل { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ }1 وفي زيارة مولانا علي عليه السلام (( السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال وسيف ذي الجلال ))2 فهم عليهم السلام عندهم نذر كل زمان وأوان من بدأ الوجود إلى نهاية انقطاع الأكوار والأدوار في مقامات الليل والنهار بعد انقطاعهما إلى انقطاع الأطوار والأوطار إلى مالا نهاية له فلا يرون لشيء استقلالا أبدا بحال من الأحوال سواهم، وهو المراد من قوله عليه السلام (( لا يرى فيه نور إلا نورك ولا يسمع صوت إلا صوتك ))3 ومن البين أنهم عليهم السلام نور الله وصوتهم صوت الله أو هم صوت الله ، فعلى هذا ما أسخف قول من قال بجواز تقليد الميت من المجتهدين فإن المجتهد مثال ومرآة لتجلي حكم الإمام عليه السلام فإذا مات وانكسرت المرآة وانقطع اللسان فمن أين المقال فلا سبيل إليه بوجهه أبدا لا بدوا ولا استمرارا لأن المكلف يجب أن يأخذ حكمه من إمامه وسيده عليه السلام وهويخاطبه بهذا اللسان فإذا لم يكن هذا اللسان فلا بد من الإصغاء إلى اللسان الآخر في الأعمال التي توردها وتفعلها بعد قطع ذلك اللسان .

 

      وبالجملة فلا نذر عن الله سبحانه سواهم وكلما سواهم ألسنة إنذارهم كما ذكرنا مرددا لأجل التفهيم ، وأهل الموعظة الحسنة يرون أن الأنبياء لما كانوا آخذين عنهم والعاملين بشريعتهم فإنذارهم تابع لإنذارهم فهم المنذرون على الأصالة والذات وغيرهم بالتبعية ، ولما كان التابع عند وجود المتبوع منقطعا ومعدوما كان إثبات الإنذار لهم عليهم السلامحقيقة وهو المراد من قوله عليه السلام (( ونحن نذر كل زمان وأوان )) ، وأهل المجادلة لاحظ لهم في معرفة هذه الخطبة المباركة ولو بالوجه الأسفل لأنهم لا يمكنهم النظر إلى الشيء من جهة الوحدة الحقيقية ولا يأتي لهم النظر إلى المتقدم بنظر التأخر ولا إلى المتأخر بنظر التقدم وإلى السافل بنظر العالي وإلى العالي بنظر

____________________

1 الكهف 18             2 البحار 97/287         3 البحار 87/203

السافل وإلى الواحد بنظر الكثير وإلى الكثير بنظر الواحد وإلى المركب بنظر البسيط وإلى البسيط بنظر المركب وإلى القريب بنظر البعيد وإلى البعيد بنظر القريب وإلى المتفرق بنظر المجتمع وإلى المجتمع بنظر المتفرق وإلى الجامد بنظر الذائب والذوبان وإلى الذائب بنظر الجامد وإلى السماء بنظر الأرض وإلى الأرض بنظر السماء وأن ينظروا كل شيء في كل شيء ليتمكن لهم الاستدلال على المسألة الفقهية مثلا بمسألة نجومية وعليها بمسألة نحوية وعليها بمسألة طبيعية فلا يحجبهم علم شيء عن علم شيء ولا شهود شيء عن شهود شيء ، فمهما لم يكن الشخص الناظر في العلم بهذه المثابة لم يقف على مخ الحكمة ولباب المعرفة ولم تنفتح له مغالق أبواب هذه الخطبة المباركة ، ومن هذه الجهة تراهم ينكرونها وينسبونها إلى وضع الغلاة وإذا لم يهتدوا بهذا فسيقولون هذا أفك قديم .

 

      وقوله عليه السلام (( كل زمان وأوان )) لا يريد به عليه السلام ما هو المصطلح عند الحكماء من كون الزمان ظرفا ووقتا للأجسام ليشمل شمول كونهم نذر عالم الأجسام خاصة ، بل يريد بالزمان الوقت المطلق مع قطع النظر عن كونه ظرفا للأجسام أو ظرفا للمجردات المصورة وغير المصورة أو ظرفـا لعالم الأمر ووجود المطلق وهذه الكلية في قوله عليه السلام (( كل زمان )) كليّة عامة شاملة لا اختصاص لها بشيء دون شيء بل تشتمل المراتب التي لكل مرتبة فإن زمان العالم الأول عالم الأمر عالم كن وعالم الأمر قبل الأمر المسمى عندنا بالسّرمد له مراتب كثيرة و أحوال عديدة عجيبة ، فإنّ عالم الأمر الذي هو عالم كن ينقسم إلى عالمين عالم الكاف وعالم النون ويتولد منهما عالم آخر ثالث وهو عالم الواو ، وكل هذه المراتب لها مراتب في نفسها ومراتب في غيرها ، فمن مراتب الكلمة في نفسها النقطة والألف والحروف وتمام الكلمة التامة التي انزجر لها العمق الأكبر ، ومن مراتب التعلقات المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإذن والأجل والكتاب ، ومراتب كل واحد منها في نفسها الحاصلة بظهور الطبائع الأربعة التي هي الحرارة والرطوبة واليبوسة والبرودة المتآلفة عنها الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والتراب ، وهكذا مراتب محال المشيئة والإرادة الأربعة عشر ، وكذا مراتب الدلالة الظاهرة من الكلمة التّامة بعد إتمام كلمة كن بمراتبها الثلاثة من الوجه الأعلى المنتسب إلى الكلمة والوجه الأوسط المتحصّل به نفسها والوجه الأسفل المقترن بالأشياء وغيرها من المراتب التي لا يسع الوقت لبيانها وإنما ذكرت إشارة إلى نوع المسألة ، ولا شك أن كل هذه المراتب لا تخلو من زمان وتشمله الكلية ولذا قالوا أن الزمان نهر يجري تحت جبل الأزل ويسير إلى ما لا نهاية له والمكان سفينة هذا البحر والخلائق ركاب قال الشاعر :

 انظر إلى العرش إلى مائـه          سفينة تجري بـأسـمائـه        

 واعجب له من مركب دائر        قد أودع الخلق بأحـشائـه 

 يـسبح في لج بـلا ساحل         في جندل الغيب بظـلمائـه

 ومـوجه أحوال عـشاقـه        وريحه أنـفاس أبـنـائـه

 فـلو تـراه بالورى سائـرا       من ألف الخـط إلى بـائـه

 ومرجع العـود إلى بـدئـه       ولانـهايـات لإبـدائــه

 يكـور الليـل على صبحـه       وصبحه يـفنى بأسمائـــه

 

      وكذلك مراتب الخلق أي عالم الوجود المقيد فله مراتب كثيرة من العقل في مراتبه الثلاثة بأكواره الأربعة ، والروح كذلك والنفس الطبيعية والمادة والمثال كذلك ، والعرش والكرسي وسائر الأفلاك والعناصر متولدات المتولدات والحاصلة من القرانات ومتولدات المتولدات وهكذا إلى ما لا نهاية له ، والزمان سار في كل تلك المراتب مما سميناها وما لم نسمها أكثر ، ولما ثبت بالأدلة القطعية من العقلية والنقلية أن كل شيء وكل ذرة من أفراد الكائنات قد بدأ عن فعل الله سبحانه بالاختيار فجرى في كل ذرات التكليف كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلصه في القدم على

 

 

سائر الأمم { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }1 وهذه الدعوة أعم من التكويني والتشريعي والذاتي والصفاتي والقلبي والإيجابي ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الداعي إلى الله أي إلى سبيله هو علي عليه السلام كما قال الباقر عليه السلام لجابر (( ما من مؤمن يؤمن بهذه الآية إلا وله قتلة وميتة وهي قوله تعالى { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ }2 قال عليه السلام يؤمن بأن سبيل الله هو علي عليه السلام والقتل في سبيل الله هو القـتل في سبيل علي عليه السلام ))3 الحديث ، و النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الخلق إلى ولاية علي عليه السلام وينذرهم ويحذرهم عن مخـالفته كما قـال تعالى { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ

________________

1 النحل 125                    2 آل عمران 57

3 لم نقف على هذا الحديث كما ذكره المصنف أعلى الله مقامه ولكن وجدنا ما يقرب منه في المعنى ففي البحار 53/40 عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السلام قال (( سئل عن قول الله عز وجل ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم , فقال : يا جابر أتدري ما سبيل الله , قلت : لا والله إلا إذا سمعت منك , فقال : القتل في سبيل علي عليه السلام وذريته , فمن قتل في ولايته قتل في سبيل الله , وليس أحد يؤمن بهذه الآية إلا وله قتلة وميتة , إنه من قتل ينشر حتى يموت ومن مات ينشر حتى يقتل )) 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نَفْسَهُ }1وهو علي عليه السلام هو نفس الله القائمة فيه بالسنن وولايته عليه السلام هي دين الله الذي لا يقبل عملا إلا به وهي الصراط المستقيم المرشد إلى كل خير ونور وصواب وحكمة وسداد .

 

      وبالجملة في كل تلك المراتب يجري حكم البعث والإرسال والبشارة والإنذار وقد علمت أن الأصل والحقيقة في البعث والإرسال والبشارة والإنذار هو آل محمد المختار عليهم سلام الله الواحد القهار وعلي عليه السلام هو أميرهم وسيدهم وفخرهم في كل مقام ورتبة فيكونون عليهم السلام هم النذر من قبل الله على كافة الخلق في كل زمان وأوان من السرمد والدهر والزمان بجميع مراتبها وأحوالها من المدد الذاتية السرمدية والمدد الذاتية الزمانية والمدد الذاتية الدهرية ، وهذه المدد كلها ذوات متأصلة متحققة وهم سلام الله عليهم نذر من الله لها والسابحين في لجّها والواقفين في عرضها ، ومعنى ما ورد أن عليا عليه السلام نصر الأنبياء كلها سرا ونصر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جهرا هو الذي قلنا أن الأنبياء ألسنة لهم عليهم السلام يتكلمون بها مع من أرادوا من خلق الله وينذرونهم لقاء الله ، وله الوجهان الآخران أيضا على طبق ما ذكرنا في النذر الأولى فراجع تفهم إنشاء الله .

_________________

1 آل عمران 28

 

 

 

 

 

 

 

            بقي النكتة والوجه في أنه عليه السلام لم أتى بلفظ نذير ولم يأتي بلفظ البشير ؟ وهي المتابعة لكلام الله المجيد فإنه سبحانه ما وصف الرسل بالبشير وحده فأي موضع ذكر البشير ذكر معه النذير مثل قوله تعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }1 وقوله تعالى { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }‏2 وغيرها من الآيات ولكنه سبحانه إذا أتى بالنذير ربما اكتفى به وحده من غير ذكر البشير كما في كثير من الآيات من قوله تعالى { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }3 وقوله تعالى { مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ }4 وقوله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }5 وقوله تعالى { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا }6 وقوله تعالى {هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى}7 وأمثالها من الآيـات كثيرة .

 

      والوجه فيه بالإجمال إنا قد ذكرنا أن كل شيء وكل فرد من أفراد المكلفين له داعيان وجهتان جهة إلى الخير والنور وهي الجهة اليمنى والملك الموكل بتلك الجهة على ذلك الجانب اسمه البشير بشيره إلى الخيرات والنعيم إذا التفت إليها وعمل بمقتضاها ، والجهة الثانية إلى الشر والظلمة وهي الجهة اليسرى والملك الموكل بتلك الجهة وذلك الجناب اسمه النذير ، والأنبياء عليهم السلام ظهروا عن الله سبحانه على حكم تلك الجهتين من البشارة والإنذار ولكن لما أمر الله سبحانه الخلق بالإدبار والنزول إلى المقامات السفلية لحكم ومصالح يطول بذكرها الكلام ، ولاشك أن الشيء كلما يبعد من النور تكثر فيه الظلمة وتتقوى جهة الماهية فتضعف جهة الخير والوجود حتى يبلغ بهم الأمر أنهم بالطبيعة والكينونة لا يميلون إلى الخير أبدا حتى إذا قطعوا مسافة الإدبار وبلغوا أقصاه وهومقام الجماد ناداهم إلى الإقبال ، ولا ريب أنه في صعوده لا بد أن يمر على تلك المقامات السافلة حتى يصل إلى المنزل الحقيقي

________________

1 الأحزاب 45      2 النساء 165     3 فاطر 24     4 فاطر 37                    5 الفرقان 1            6 الأنعام 130        7 النجم 56

والوطن الواقعي الذي حبه إيمان وبغضه كفر ، فإذا صعد مقاما رآه أحسن من الذي كان فيه سابقا استحسنه ورآه مسكنا و اتخذه موطنا وهو من مقامات الماهية وظلمات الجهل فيأتيه النذير من قبل الرب العلي الكبير بانزجاعه عن ذلك المنزل وتصميمه على الارتحال إلى منتهى المطلب إلى أن يصل إلى المنزل فهناك يأتيه البشير كما قال في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }1 في هذه البشارة في مقام الاستقامة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وآله وسلم { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }2 قال (( شيبتني هذه الآية )) فإن مقام الاستقامة مقام السكون والاطمئنان بعد وصوله إلى أعلى مقامات الأكوان والإمكان , وأما قبل الوصول إلى ذلك في كل مقام كان الغالب فيه النفس الأمارة بالسوء المظهر للجهة الثانية السوأى السفلى فالمناسب في ذلك المقام النذير لا البشير ، ولما كان العالم بعد في أسفل الدرجات في مراتب الصعود فإنه الآن في الرتبة الدنية مقام النفس الأمارة بالسوء التي فعلها الظلم والغشم ومطلوبها الشهوة والرئاسة وغيرها من الشهوات الباطلة ، ولذا ترى أكثر أهل الدنيا في غفلة عما يراد منهم وفي سهو عما يطلب منهم وكثر فيهم الظلم والغشم وركوب الشهوات وفعل المناهي والمحرمات همهم إخفاء الحق وأهله وإظهار الباطل وأهله ولا يميل الشخص إلى الطاعة إلا بصعوبة ولا يفعلها إلا بمشقة بخلاف المعصية فإنه يميل إليها بالطبيعة ويجد في فعلها لذة وشهوة ولا يـتـركها إلا

_________________

1 فصلت 30 - 31

2 هود 112

 

 

 

 

بمرارة ومشقة ، ولذا ورد إن (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ))1والمنافق وهذا كله لأن الدنيا في مقام النفس الحيوانية ، وبعدما صعدت إلى مقام النفس الإنسانية وأول صعودها إليها أول ظهور مولانا وسيدنا القائم المنتظر عجل الله فرجة إلى آخر الرجعات المباركة فينقلب الأمر والحال بعكس الآن فلا يكون للمؤمن ميل إلى المعصية أبدا وتظهر شناعتها وقباحتها لكل أحد والحق يظهر والباطل يخفى والنور يتلألأ والباطل يطفى ويعدم فهنالك يظهر الأنبياء مبشرين وإن كانوا منذرين إلا أن جهة البشارة أقوى كما في هذه الدنيا تكون جهة الإنذار أقوى فهم منذرون وإن كانوا مبشرين فافهم    السر ، وعلى هذا اتضح لك السر والوجه في ما ورد في القرآن وأحاديث أهل العصمة عليهم السلام في مذمة الكثرة كما في قوله تعالى { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ }2 وقوله تعالى { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}3 وقوله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}‏4 و أمثالها من الآيات كثيرة ، وفي الحديث عن الباقر عليه السلام

________________

1 الفقيه 4/362                2 الفرقان 44

3 الأعراف 179               4 يوسف 106

 

 

 

 

 

 

 

 

(( الناس كلهم بهائم إلا المؤمن والمؤمن قليل والمؤمن قليل ))1 وقـال تعالى { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }2 { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }3 { وقَلِيلٌ مَّا هُمْ }4 وغيرها من الآيات التي مدح فيها القلة وذلك للسر الذي ذكرنا ، ولذا كان البشير في القرآن النازل ظاهرا لإصلاح بنية أهل الدنيا ونضج طبائعهم أقل استعمالا من النذير ولا يذكر وحده أبدا بخلاف النذير فإن النذير في القوس الصعودي مقدم على البشير ولذا ترى أول ما يأتي الميت في القبر المنكر والنكير اللذين من ظهورات النذير في الدنيا ثم بعد ذلك يأتيه المبشر والبشير سهل الله علينا ظهور المنكر والنكير بالنبي وآله الطاهرين عليهم السلام .

____________________

1 البحار 2/200                 2 هود 40     

3 سبأ 13                         4 ص 24

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام وبنا هلك من هلك ونجى من نجى

 

      اعلم أنه لا سبيل ولا طريق في الوجود إلا إلى جهة الموافقة والطاعة لله سبحانه أو إلى جهة المخالفة والمعصية ولا ثالث لأن الحادث ليس له إلا جهتان جهة إلى ربه وجهة إلى نفسه فهو لا يتقوم إلا بالنظر إلى أحدهما إما إلى جهة نفسه أو إلى جهة ربه ، فإذا نظر إلى الجهة العليا أفيض عليه من بحر الصاد الذي تحت العرش أي الصاقورة للجنان التي ذاق روح القدس منها الباكورة على فؤاده فيزيد بهاء للتجلي بعد التجلي والظهور بعد الظهور فيبلغ به المعرفة غايتها والمحبة نهايتها ويجد حلاوة المحبة ويستأنس في ظلال المحبوب ولا لذة أعظم من ذلك ولا حلاوة أشد مما هنالك ، ثم يفاض على قلبه فيستشرق بذلك من أنوار اليقين ويدرك الأسرار المكنونات ويجد فسحة وانشراحا وسكونا واطمئنانا في القلب لا يعدل بشيء أبدا في اللذة والسرور بعد مقام الجنة فيرجع الاختلافات عنده إلى الائتلاف والحركات إلى السكون والسكون إلى الحركات ويجد الحق ظاهرا واضحا في أقطار الأرضين والسموات ، ثم يفاض على صدره فيستنير ويلقى ويقذف فيه العلم وينفسح ويشاهد الغيب وينشرح فيحتمل البلاء ويقف على العلوم الكثيرة والأطوار العجيبة الغريبة وتتعدد عنده أنحاء العلوم وتتضاعف لديه أبكار المسائل ويظهر له من الصور العلمية ما لا يحيط به الخاطر ولا يسطر في الدفاتر ولا يجري في الضمائر ، ثم يفاض على قواه ومشاعره وأركانه فتحد سمعه وبصره ويسمع الأصوات الغريبة من أصوات الأجسام العلوية كالأفلاك وحركاتها وأصوات صرير أقلام الملائكة عند كتابة أعمال العباد وصب الماء النازل من العرش في حوض الكوثر وصوت الملك الواقف على دائرة نصف النهار فينادي ( قوموا على نيرانهم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفئوها بصلواتكم ) وسائر الأصوات مما خفيت على الذين في باطنهم اضطراب وعلى وجه مطلوبهم نقاب ويرى الأكوان العجيبة الغريبة من ألوان الأشياء على الكينونة الأولية والألوان الغيبية النورية كألوان الطواويس وهذا الحكم في سائر القوى والمشاعر الحسية الجسمية يفاض على الأعضاء من توليد الدم الصافي الخالي عن الأكدار وتقوية الحرارة الغريزية الموجبة لقوة القلب المورثة للشجاعة وصفاء الدم وتقليل البلغم وصفاء المرة السوداء الموجبة لاعتدال القامة واعتدال البنية وتقوية الطبيعة وحسن الصورة وجودة التركيب وتناسب الأعضاء واعتدال الطبائع مما يتعلق بحسن الظاهر المطابق لحسن الباطن ، ثم يفاض على متممات وجوده وكونه من الشرائط واللوازم والأسباب من مكانه ومحل عيشه الجسماني والروحاني من الفسحة والنزهة ومحل الراحة وما يظهر فيه من ثمرات أعماله الباطنية والظاهرية من كثرة الأثمار وجريان الأنهار واعتدال الأشجار واعتدل الهواء في الليل والنهار أوالنهار وحده ومن قرانات أحواله كالمرآة الحسناء الجميلة الشريفة التي تهش إليها النفس وتنجذب إليها مع كمال المحبة والألفة بينهما وتحصيل أنواع الملاذ من كل واحد منهما لكل واحد منهما وكالأولاد الصالحين وكثرتهم ورشدهم وطاعتهم له وخضوعهم لديه وقيامهم بأوامره ونواهيه ووقوفهم بين يديه وكالخدم والحشم وبلوغ الآمال وغير ذلك مما يرجع إلى حكم القرانات والأحوال وكل ذلك ثمرات الإقبال إلى الرب المتعال وبه النجاة عن ورطة الهلاك والظلال ، وأما إذا أدبر وأعرض عن الجهة العليا الموصلة إلى الرب الأعلى سبحانه وتعالى فتظهر مقابلات ما ذكرنا جميعا فتحرم عن لقاء الله سبحانه وعن لذة مشاهدة ظهوره ومناجاته وهي في الحقيقة أعظم الآلام وأشد المكاره والأسقام أما سمعت ما في دعاء كميل عنه عليه السلام (( إلـهي هبني صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ))1فجعل الحرمان عن اللقاء أشد من كل عذاب وأوجع من كل عقاب وهو كذلك كما قال عليه السلام وروحي له الفداء وذلك معلوم لمن تشرف باللقاء ثم حرم منه إهيانا نعوذ بالله من حرمان لقائـه ، ثم تسري تلك الظلمة المدلهمة وتسود القلب فيكون لا يستقر في قرار ولا تجد فيه سكونا ولا وقارا وتكثر عليه الشكوك ولا يجد وجه المخلص

____________________

1 دعاء كميل

وترد عليه الشبهات ولا يعلم المهرب ثم تضيق الصدر وتجعله حرجا كمأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يعلمون وهذا صراط ربك مستقيما ، ثم تطبع على سائر القوى والمشاعر فلهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلوا أولئك هم الغافلون ، ثم تسري تلك الظلمة في الأعضاء والأركان فتولد الدم الفاسد وتضعف الحرارة الغريزية الموجب للجبن والبخل وقلة الكرم وغلظ البلغم وهيجان السوداء الموجبة لقبح الخلقة والصورة وعدم اعتدال الطبيعة واعوجاج الأعضاء والجوارح وتنكيس الرأس إلى الأسفل وأمثالها من الأحوال الخلقية الظاهرية أو العرضية من أحكام القرانات والأحوال كضيق المكان وخبثه ونتنه وعدم ملائمة الأصحاب ومنافرتهم لبعضهم مع بعض وعدم موافقتهم وأمثالها من أحكام الإدبار مقابل ما ذكرنا في طبقات الإقبال حرفا بحرف ، وكل ذلك ثمرات الإدبار وبه الهلاك والبوار والخلود في النار .

 

      ثم لما كان الخلق مختلف الشؤون ومتكثر الجهات والمراتب والحيثيات فإذا توجه إلى الله سبحانه بكل جهة من ذرات الوجود كان له تلك الثمرات والأرضين ودركاتها وطبقاتها وأقاليمها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها ومعادنها وجبالها وطيبها وسبخها ، والعناصر من نارها وترابها ومائها وهوائها ، والمتولدات من معدنها ونباتها وحيوانها وإنسانها ، ومراتب المعادن ضعيفها وقويها صافيها وكدرها غاليها ورخيصها ، ومراتب النباتات وحشيشها وأشجارها وأثمارها وعدمها وحلاوة الثمار ومرارتها وحموضتها وأحمرها وأبيضها وأسودها وأصفرها وسائر أنحائها ، ومراتب الحيوان حشراتها وطيورها ووحوشها وحرامها وحلالها ومؤذيها غيره وذوات قوائمها وغيرها وذوات القرون وغيرها ، ومراتب الإنسان عالمه وجاهله طويله وقصيره وحسن الخلقة منه وقبيحها ذكره وأنثاه ، وهكذا سائر المراتب الأحوال ، وكل هذه الأحوال وهذه الاختلافات ترجع إلى ما ذكرنا من الإقبال والإدبار ولوكان لي حال مستقيم وقلب متوجه وما خفت التطويل لبينت لك الوجه وشرحت كيفية منشأ الاختلاف وكيفية إقبال الموجودات وإدبارها في كل شيء وسر المزج والاختلاط وكيفيته ومبدأ وقوعه وحالها بعد الصفاء وقبله إلا أن من تتبع هذا الشرح وعرف المراد منه يظهر له كل ذلك فإنه مشروح فيه بتلويحات الكلام يدركه الأعلام وسنشير إنشاء الله تعالى إلى بعض ذلك مفصّلا فيما بعد إن أدركني التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

      فإذا عرفت ما ذكرنا وسطرنا من سر الهلاك والنجاة وأن منشأهما الإقبال إلى الله سبحانه وتعالى أوالإدبار عنه ، فاعلم أن الله سبحانه لا يتوجه إليه من نحو ذاته بالضرورة فإن الخلق لا يصلون إليها ولا يحومون حول حماها وإنما ذلك بصفاته وآياته الظاهرة في المخلوقين وتلك الصفات والآيات لابد لها من حامل ومظهر تظهر فيه وإلا لم تظهر ، ولا يكون ذلك المظهر الحامل لجميع ظهوراته وآياته تعالى إلا المخلوق الأول وإلا لزم الطفرة إذ لوكان عند المخلوق الثاني ما لم يكن عند المخلوق الأول من آية الله وفيضه لم يكن ذلك المخلوق الأول وإنما هما متساويان في المرتبة والمفروض خلافه فإذا كان المخلوق الأول هو الأقرب إلى الفيض من المخلوق الثاني كان المخلوق الثاني مستمدا ومتقوما بالمخلوق الأول ، فيكون المخلوق الثاني من شعاع المخلوق الأول لأنا قد ذكرنا مرارا في كثير من مباحثاتنا ورسائلنا أن الاختلاف والتعدد منحصر بين أمرين إما أن يكون حقيقة واحدة قد ظهرت في صور كثيرة وأحوال مختلفة حسب الحدود والمشخصات الخاصة كالاختلاف بين أجزاء الخشب وتصويره بالصور المختلفة كالسرير والصنم والباب والصندوق وأمثال ذلك وكالإنسان الظاهر في الصور الكثيرة من صوره زيد وعمرو وبكر وأمثالهم ، وهذا في الحقيقة خلق واحد وتلك العوارض إنما أوجدت ولحقت بالعرض ، فلا يقال أن زيدا هو المخلوق الأول وعمروا هو المخلوق الثاني أو أن الأب هو المخلوق الأول والابن هو المخلوق الثاني وإنما هما شيء واحد وحقيقة واحدة ظهرت بالأعراض والحدود في صور كثيرة واقتضت أحكاما كثيرة ، فالمخلوق حقيقة هو ذلك الأمر الواحد المعبر عنه بالكلي لكنه لم يظهر إلا بتلك الحدود فهي مرآة لظهوره لا محصلة لحقيقته كما هو المعلوم أن يكون حقيقتان أحدهما العلة والثانية المعلول ، وفي هذا المقام تكون الثانية مستمدة من الأولى ومتقومة بها ولا تحصل لها في حال من أحوالها إلا بالأولى كالسراج والأشعة فإنها حقيقة ثانية مجاز للسراج لا قوام لها بدونه ولا تحصل لها بغيره والسراج متقوم بالنار كذلك فالنار تمد السراج أولا ثم تمد الأشعة بالسراج فكلما للأشعة من فاضل ما عند السراج وهذا مرادنا بالمخلوق الأول والمخلوق الثاني لا المعنى الأول .

 

      فإذا أتقنت ما ذكرنا لك فاعلم أنه قد دلّت الأدلة القطعية من العقلية والنقلية أن محمدا وآله صلى الله عليه وآله وسلم قد خلقهم الله فبل الخلق بما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، فهم عليهم السلام مظهر توحيده ومحل صفاته وأسمائه وبهم تقوّمت ظهوراته سبحانه كما في دعاء رجب عن الحجة عليه السلام (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إلـه إلا أنت ))1 وهم القدس الذي ملأ الدهر كما في خطبة النبي صلى الله عليه وآلـه وسلم (( الذي ملأ الدهر قدسه ))2 فكل الخلق بما فصل إليهم ما وصل من نور وخير وتوحيد وتوصيف وإدراك وشعور ونظم وسائر الأحوال كل ذلك بهم  عليهم السلام فهم باب الله إليهم في جميع أكوانهم وأعيانهم وأحوالهم في كل أطوارهم وأكوارهم وأدوارهم ، فإذا كانت النجاة بالتوجه والإقبال إلى الله سبحانه وهم باب الله وسبيله وجب أن يكون التوجه إليه من بابه وسبيله حتى يقع التوجه فأنت إن قصدت الباب والأصل معا كفرت وأشركت وإن قصدت الباب وحده كفرت وإن لم تقصد الباب ما تصل إلى المطلوب فيكون وجهك عند الإعراض عن الباب إلى الظهر والخلف وهو الإدبار وهو مستلزم الهلاك ، فإن قصدت الأصل وتوجهت إليه بالبـاب وذلك هو الهداية والرشاد إاليه الإشارة بقول مولانا الصادق عليه السلام لهشام (( من عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ومن عبد

_________________

1 دعاء رجب لمولانا الحجة عجل الله فرجه

2 اليقين 347

 

المسمى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا ، وفي حديث

آخر أولئك هم المؤمنون حقا ))1فهم عليهم السلام باب الله فلا يمكن التوجه إلى الله سبحانه إلا بهم لأنهم الطريق ولا طريق ولا سبيل سواهم فبمتابعتهم والاقتداء بهم النجاة وبمخالفتهم والإعراض عنهم الهلاك إذ الإقبال إليهم هو الإقبال إلى الله والإعراض عنهم هو الإعراض عن الله قال عز وجل { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ }2 { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي

___________________

1 الكافي 2/87

2 النساء 80

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }1 ‏وقال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }2 وفي الزيارة    من أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ومن قصده توجه بكم )) الزيارة ، فإذا كانوا عليهم السلام أبواب الله وخزان وحيه ومقاليد معرفته ومفاتيح خيره ورشده وطريق توحيده كما قـال عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))3 وقال عليه السلام (( بنا عرف الله وبنا عبد الله ))4 (( لولانا ما عرف الله ))5 (( ولولانا عبد الله ))6 فدلّ الله سبحانه الخلق إليهم كما دلّهم إلى نفسه وأوجب عليهم طاعتهم وولايتهم ومحبتهم ، ولما خلقهم في العالم الأول في حجاب اللاهوت قبل أن يصلوا إلى مقام الجبروت دعاهم إلى توحيده وولايتهم لأنّ ولايتهم عليهم السلام ركن توحيده وجزؤه لا يتم توحيده إلا بها ولذا قرنهم إلى نفسه فقال لهم ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي والأئمة والصديقة الطاهرة صلى الله عليهم أولياؤكم وخلفاء الله وأوصياء نبيكم قالوا بلى ظاهرا فمنهم من طابق ظاهره باطنه في الإجابة والإقرار فهوالذي خلق من عليين فقد اهتدى ونجى ومنهم من خالف ظاهره باطنه عنادا وعتوا فهوالذي ضل وهلك وخلق من سجين ومنهم من توقف وهو الضال الذي خلق ظاهره من طينة الإجابة وباطنه لم يخلق إلى أن يقر بهم أو ينكر عليهم فيخلق على حسب إقرارهم و إنكارهم ، ثم في العوالم المتنزلة عالم الجبروت والملكوت ثم أنزلهم إلى عالم الملك وكرر عليهم العرض وكلفهم بالإقرار بالولاية من لدن آدم إلى عيسى عليه السلام وكل نبي لم يبعث إلا على الإقرار بالتوحيد لله وبالنبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالولاية لعلي عليه السلام والأئمة عليهم السلام وأمتهم ما نجوا إلا بالإقرار بالمجموع والإنكار للمجموع وما كان ينفعهم الإقرار ببعض والإنكار لبعض وما كان يترقى أحد من الأمم السابقين إلا بالإخلاص في ولايتهم وطاعتهم وكثرة الصلاة عليهم ، وكذلك كان هلاكهم إذ لم يقبلوهم والروايات في

_________________

1 آل عمران 31            2 الفتح 10             3 الكافي 1/184 ح 9

4 التوحيد 152             5 البحار 25/4        6 الكافي 1/193

هذا المعنى كثيرة والآيات كذلك فإن آدم عليه السلام لما خلقه الله سبحانه وأخذ عليه الميثاق والعهد بولايتهم وطاعتهم فقبل وحمل أنوارهم و أشباحهم عليهم السلام شرفه الله سبحانه وجعله مسجودا للملائكة كرامة لهم عليهم السلام حيث ظهروا في صلبه ظهور الشاخص في المرآة ثم لما صدرت عنه تلك الهفوة والتقصير في حقهم عليهم السلام طرد عن الجنة وأبعد عن الرحمة وأخرج عن مجاورة الله سبحانه واسود جميع بدنه لما ظهر منه ذلك كما قال تعالى  {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}1 وقال الصادق عليه السلام هكذا أنزلت الآية والله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في ورواية أخرى والأئمة

___________________

1 طه 115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من ذرية الحسين عليهم السلامفنسى ولم نجد له عزما ))1ولما طرق بابهم بينونته وخضع وخشع لهم بهويته بإظهار جزعه وبكائه وطول حزنه ودعائه فمن الله عيه وعلمه أسماءهم ليدعوه بها ليتوب عليه وقوله تعالى { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }2 وتلك الكلمات التي هي قوله ( اللهم إني أسألك بحق محمد و أنت المحمود وبحق علي وأنت الأعلى وبحق فاطمة وأنت فاطر السموات والأرض وبحق الحسن وأنت المحسن وبحق الحسين وأنت قديم الإحسان إلا أن تتوب عليّ ) فتاب الله عليه ، وكذلك نوح عليه السلام لما صنع السفينة ما تمت وما استقرت إلا بعد أن قرأ عليها أسماءهم المباركة وأتى له جبرائيل بخمسة مسامير كل مسمار باسم واحد من أصحاب الكساء فاستقرت بها السفينة ومشت بإذن الله وجرت في الماء ولما تلاطمت الأمواج وتراكمت وكادت السفينة أن تغرق دعى الله سبحانه بأسمائهم المباركة فأنجاه الله ومن معه من الغرق ، وإبراهيم عليه السلام لما أخلص في ولائهم وطاعتهم وتخـلل حبهم في مكنونـات سرائره وعلانيته

____________________

1 لم نقف على هذه الرواية كما ذكرها المصنف أعلى الله مقامه , ولكن وجدنا ما يقرب منها في المعنى ففي الكافي 1/416 عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله (( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل , كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من ذريتهم , فنسي , هكذا والله نزلت على محمد صلى الله عليه وآله ))

2 البقرة 37

 

 

 

 

 

 

 

فانتخبه الله خليلا و هو قوله تعالى {* وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }1 ، وموسى عليه السلام كان لم يزل يدعو الله في الشدائد بأسمائهم المباركة فيفرج الله سبحانه عنهم وقال العسكري عليـه السلام في الحديث المتقدم (( فالكليم ألبس حلة الاصطفاء لما عهدنا منه الوفاء وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة )) والله سبحانه إنما ابتلى بني إسرائيل بذبح البقرة المعلومة لأن صاحبها كان شديد المحبة لمحمد وآله عليهم السلام وكان كثير الصلاة عليهم فكافأه الله سبحانه بذلك حتى اشتروا منه البقرة بملء جلدها ذهبا فلما اشتروا منه بذلك المبلغ العظيم افتقر بنوا إسرائيل فأمروا بالصلاة على محمد وآل محمد عليهم السلام فأغناهم الله سبحانه سريعا عاجلا بأحسن ما كانوا في الأول ولم يزل كان بنوا إسرائيل بعد زمان موسى عليه السلام يدعون الله سبحانه في الشدائد والمحن بأسمائهم المباركة فيفرج الله عنهم تلك الشدة العظيمة والمحنه الهائلة ولقد أخبر الله سبحانه عن ذلك حيث قال { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}2 ، و أيوب عليه السلام لما شك في ولاية علي ابتلي بتلك البلية العظيمة فلما تاب وخضع له عليه السلام وذل تاب الله عليه كما في حديث سلمان حيث يخاطب سلمان عليا عليه السلام ويقول (( يا قتيل كوفان لو قال الناس واشوقاه رحم الله قاتل سلمان لقلت فيك مقالا تشمئز منه النفوس لأنك حجة الله الذي بـه تاب على آدم وبـك أنجى يـوسف من الجب وأنت قصة أيوب وسبب تـغير نعمة الله عليه ، فقـال عليـه السلام : أتدري ما قصة أيوب وسبب تغير نعمة الله عليه ، قال : الله أعلم وأنت يا أمير المؤمنين ، قال عليه السلام : لما كان عند الانبعاث للنطق شك أيوب في ملكي فقال هذا خطب جليل وأمر جسيم قال الله عز وجل : يا أيوب أتشك في صورة أقمته أنا  إني ابتليت آدم عليه السلام بالبلاء فوهبته له وصفحت عنه بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين وأنت تـقول خطب جليل وأمر

_________________

1 البقرة 124                     2 البقرة 89

جسيم فوعزتي لأذيقنك من عذابي أو تتوب إلي بالطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام ثم أدركته السعادة بي ))1فانظر ما ترى ، ويونس عليه السلام لما شك وبكى وذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فركب السفينة وأتى الحوت فساهم أهل السفينة فجاء السهم باسم يونس عليه السلام فكان من المدحضين وهذا كان عقوبة له لما تردد في ولاية علي عليه السلام أمير المؤمنين فلما تاب ورجع نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فلما دخل البيت من الباب وتوجه إلى الله سبحانه بذلك الجناب نجاه

_________________

1 البحار 26/293

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الله من الغم كما قال تعالى { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}1 ويعقوب عليه السلام لما قصر في حق علي عليه السلام وتردد في ولايته بقوله { لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} لأن عليا عليه السلام أخذ عليه الميثاق والعهد أن لا ينظر إلى الأسباب أبدا ويقصر نظره إلى المسبب فلما نظر إلى السبب حيث قال ما قال كان ذلك تقصيرا فأتاه جزاء عمله وتقصيره فابتلاه بفراق قرة عينه يوسف عليه السلام واشتد لذلك بكاؤه وطال حزنه وعناؤه إلى أن ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم ولما تاب ورجع وخضع لعلي عليـه السلام وللأئمة قال { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}3 وقوله { عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا }4 فرد الله بصره وقرة عينه يوسف عليه السلام ، ويوسف بن يعقوب بن إبراهيم عليه السلام لما قصر في الولاية حينما نظر إلى المرآة ورأى حسنه وجماله في غاية الكمال فخطر على قلبه لوكنت أنا عبدا كم كان ثمني فابتلاه الله سبحانه بهذا بذلك التقصير برق العبودية { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ

____________________

1 الأنبياء 88                         2 يوسف 13

3 يوسف 64                         4 يوسف 83

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ }1 ثم باعوه بما باعوه ثم لما أدخل في السجن وقصر في الولاية حيث {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }2 ولما تاب ورجع وخضع لعلي عليه السلام والأئمة من ولده عليهم السلام بالطاعة والامتثال أنجاه الله سبحانه من السجن وجعله ملكا ، ولو أردنا أن نشرح ما جرى على الأنبياء عليهم السلام وأممهم واحدا بعد واحد بسبب التقصير في حق الأئمة عليهم السلام وبسبب الانقياد والطاعة لطال علينما الكلام فأختصر في المقال وأقول إن ولاية علي عليه السلام والأئمة عليهم السلام في كل المراتب عرضت على كل شيء وهو عرض مستمر غير منقطع وذلك العرض كان يوم الغدير فلما أن العرض مستمر كذلك يوم الغدير مستمر دائم ثابت فلا يصيب أحدا مكروه من مكاره الدنيا والآخرة إلا بسبب تقصيره في ولاية علي عليه السلام وعدم قبوله لها إما بالكلية أي على جهة الموافقة أو بحسب مقامه ، بل لا يتغير شيء مما أحاطت به دائرة الإمكان عن الفطرة الأصلية الأولية المقصودة لذاتها في الجعل الأول إلا من جهة عدم الإذعان بالولاية فلا انكسرت قصعة ولا زجاجة ولا حجرة إلا بالتقصير في الولاية ، وما استمرت ثمرة وما اعرجت شجرة ولا استملح ماء  ولا أسبخت أرض إلا بالتقصير في الولاية ، وما تمرضت نفس ولا مات شخص ولا ألكن طير ولا احترقت أرض وما تدودت ثمرة إلا بالتقصير في الولاية ، وما بقيت الأشياء على الفطرة الأصلية ولا صفت عن الكدورات ولا طابت ولا استقامت ولا اعتدلت ولا استحلت إلا بالقبول لولاية علي عليه السلام ، فانحصرت النجاة على القول المطلق بأي وجه كان من مبدأ الوجود إلى آخر نهايات الشهود بحب علي عليه السلام والأئمة عليهم السلام بحسب المراتب وانحصر الهلاك على القول المطلق بأي وجه كان من أول مقامات الذر إلى نهايات دركات أسفل السافلين إلى ما لا نهاية له بمخالفة علي والأئمة عليهم السلام وهو قوله عليه السلام في تفسير الله على ما تـقدم (( الألف آلاء الله على خلقه من النعيم

___________________

1 يوسف 20                           2 يوسف 46

بولايتنا واللام إلزام خلقه ولايتنا والهاء هوان لمن خالف محمدا وآل محمد ))1 فانحصر النعيم والهوان والعذاب بموافقتهم ومخالفتهم وهم إذاً قسيم الجنة والنار وعلي عليه السلام هو الباب الذي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وهو الماء النازل من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ، وهو وأولاده عليهم السلام قوم يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين فلا يفوتهم شيء ولا يتعدى منهم أحد ، وهم الكلمات التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، إلا أن الأمر كما أخبر الله عز وجل { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ }1 والمتكلم معه غيره إما على ظاهره والمعظم به نفسه فإن كان معه غيره فالأئمة عليهم السلام هم الذين معه وعنده كما قال عليه السلام في قوله تعالى {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}2 قال عليه السلام (( نحن الذين عنده )) وقال عليه السلام (( لنا مع الله حالات هو فيها نحن ونحن فيها هو إلا أنه هو هو ونحن نحن )) وقال تعالى في آخر السورة { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }3 ولو تمكنت أن أذكر ما يتلجلج في صدري ويختلج في خاطري لرأيتم أمورا عجيبة إلا أن السكوت أولى والكتمان أحلى والله المستعان وعليه التكلان .

__________________

1 العنكبوت 1 – 4                   2 الأنبياء 19 - 20

3 العنكبوت 69

 

 

 

 

 

      وفي قوله عليه السلام (( بنا هلك من هلك ونجى من نجى )) سر آخر إذا لاحظت فيه حكم ظاهر الظاهر إذ يظهر هناك الإرادة التي هي محل الكثرة ومنشأ الأضداد وتقومها بالمشيئة التي هي ظهور الوحدة والواحد ولذا أخرت الألف لبيان أنها المتممة للنون والمقومة لها لا أنها المقصود لذاته ، وبين بالإشارة بهذه الكلمة إلى العلة الفاعلية أي المهلك والمنجي وتـقديم النون على الألف سر تقديم الهلاك على النجاة ، ولما كان الأمام عليه السلام يذكر هذا المعنى مصرحا اكتفيت بالإشارة في هذا المقام حتى يأتي أوان شرحه إنشاء الله  .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام وروحي له الفداء فلا تستعظموا ذلك فينا فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة وتفرد بالجبروت والعظمة لقد سخر لي الرياح والهوام والطير وعرضت عليّ الدنيا

 فأعرضت عنها أنا كاب الدنيا لوجهها

 

      اعلم أن الخلق في القديم الأول لما أوقفهم الله سبحانه بمشيئته في حجاب العز وسرادق المجد عرفهم الله سبحانه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام كل أحد في مقامه من الولاية الإلهيه الظاهرة في حقيقة الولي عليه السلام الظاهرة ببعض ظهورها ونورها في كينونات الأشياء وذوات الموجودات فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دني ولا فاضل ولا مؤمن صالح ولا فاجر طالح ولا جبار عنيد ولا شيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلا عرفهم جلالة أمرهم عليهم السلام وعظم خطرهم وكبر شأنهم وتمام نورهم وصدق مقاعدهم وثبات مقامهم وشرف محلهم ومنزلتهم عندهم وجاههم لديه فعرفوهم في ذلك العالم بالنورانية وأقروا لهم بالعبودية وذل الطاعة وكمال الفقر والمسكنة وطأطأ كل شريف لشرفهم وبخع كل متكبر لطاعتهم وخضع كل جبار لفضلهم وذل كل شيء لهم ، فعرفوا مقامهم البيان في الحجاب الأعلى من الدرة البيضاء في عالم الوجود المطلق ، وعرفوا مقامهم المعاني في الحجاب الأعظم حجاب الذهب في عالم البرزخ المتوسط بين عالم الوجود المطلق الذي هو عالم الأمر وبين عالم الوجود المقيد الذي هو عالم الخلق ، وعرفوا مقامهم الأبواب في الحجاب الأعلى من الفضة البيضاء في عالم الوجود المقيد ، وعرفوا مقام الإمامة ومقام حجة الله في الحجاب الغليظ من الزبرجدة الخضراء وفي سائر الحجب ، ولما أدرك الخلق ذل الإدبار وابتلوا بالبعاد عن تلك الديار وتنزلوا في مقامات الأغيار ولحقهم غبار الأكدار فنسوا ما عرفوا في تلك المراتب وعهدوا في تلك العوالم وشاهدوا في تلك المعالم فلما أتاهم نداء الإقبال أخذوا يصعدون وهم عن مقامهم الأصلي ومراتبهم الحقيقية ناسون وإليها متوجهون وهم لا يشعرون فصار أكثرهم لا يعقلون وأكثرهم لا يفقهون وأكثرهم لا يعلمون وأكثرهم يجهلون وأكثرهم غافلون ، فالذي شاهد تلك الآثار وجاس خلال تلك الديار إذا تكلم بشيء منها قابلوه بالإنكار ، فلما كان الإمام عليه السلام أبان عن شيء جزئي من أسرار تلك المقامات التي عرفوها وبينوا لهم إيّاها هنالك وكان مقامهم مما يقتضي الإنكار والاستبعاد حيث سمعوا من هيكل بشري وصورة إنسانية مثلهم وعلى هيكلهم ما يدعي ويرى نفسه أنه علة أكوانهم وأعيانهم وبيدهم إسرارهم وإعلانهم كان يعظم ذلك عليهم ولم يعرفوا أن ذلك الهيكل ظهوره لهم في مقامهم وهم كلهم على صورته ومثاله كالسراج الواحد في المرايا الكثيرة فإن المثال الموجود في تلك المرايا كلها على هيئة السراج وهيكله لا فرق بينها وبينه في الهيئته والصورة لكن السراج مقوم إنياتهم ومذوت حقائقهم وذواتهم وبيده خيرهم وشرهم ، ولما كان هذا الإنكار والاستبعاد مما يكدر عليهم صافي العيش ويحرمهم عن شرب صافي المحبة أراد عليه السلام أن يزيل عنهم هذه الكدورة ، ولما أن كشف حقيقة الأمر لم يمكن لكل أحد مع ما فيه من لزوم الإلجاء أو النسبة إلى السحر والكهانة وأمثال ذلك أتاهم عليه السلام في مقام البيان فقال لهم عليه السلام (( فلا تستعظموا ذلك فينا )) وإن كان مقامكم مما يقتضي ذلك كيف لا وإن أيوب عليه السلام لما ظهر له شيء من ذلك عظم عليه وقال هذا أمر عظيم وخطب جسيم ، وآدم عليه السلام لما ظهر له شيء من ذلك توقف وتحير كما في الكافي ، كذلك غيرهم إذ كل أحد يجدهم عليهم السلام من أعظم ما يمكن له أن يدرك في حق الله سبحانه ، بل ما عرفوا من توحيد الله سبحانه جزء من سبعين ألف جزء من رأس الشعير من مقامهم ومرتبتهم ، فكيف لا يعظم ذلك عليهم إذ قد يظهر لهم أن ما عرفوا من معرفة الله وقدسه وكبريائه وعظمته كل ذلك أدنى مرتبة من مراتب خلق من مخلوقاته سبحانه وأدنى صفة من صفاتهم ، بل لا يبعد أن يقال أن ذلك بالنسبة إليهم صفة النقصان لا صفة الكمال ، ألا ترى كيف قال إمامك ومولانا الصادق عليه السلام في الكروبيين أنهم قوم من شيعتنا وبهم تجلى الله لموسى وكان تجليهم الذي قـال تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا }1، وما ورد أن الملائكة في عالم الأنوار ولما شاهدوا نور محمد وأله عليهم السلام في كمال الظهور والإشراق واللمعان قالوا إنه نور الله فقالوا عليهم السلام لا إله إلا الله لتعلم الملائكة أنهم أناس مخلوقون والله سبحانه منزه عن وصفهم وصفتهم ، ولا يبلغ الحادث مبلغا في المعرفة والتوحيد إلا ويظهر له من مقامهم ومرتبتهم ما لم يكن عنده ويعلم أن ذلك معرفتهم وهي معرفة الله الظاهر لهم بهم له به وهو قول علي عليه السلام (( نحن الأعراف الذي لا يعرف الله  إلا بسبيل معرفتنا ))2 على المعنى الثالث لهذا الحديث  الشريف ، ولا تتعجب مما ذكرت من أن ما يعرف الخلق كلا من معرفة الله هو معرفتهم عليهم السلام لما دلت عليه الأدلة القطعية من العقلية والنقلية أن الشيء لا يتجاوز مبدأه ولا يقرأ إلا حروف نفسه كما قـال عليـه السلام (( انتهى المخلوق إلى مثله والجأه الطلب إلى شكله )) وقـال عليـه السلام (( إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها ))3 وقال الصادق عليـه السلام (( كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع

_________________

1 الأعراف 143                 2 الكافي 1/184 ح 9

3 البحار 4/254

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مثلكم مردود إليكم ))1وأمثالها عنهم عليهم السلام كثيرة لأن الشيء لا رتبة له فوق ذاته إنما هو معدوم فوق مرتبته فلا يتصور له إدراك هناك إذ المدرك انتفى وانعدم فأين الإدراك فإدراكه للعالي ليس إلا بظهور ذلك العالي في رتبة مقام هذا السافل وذلك الظهور هو عين السافل وإن كان وجها للعالي ، ثم إن كان ذلك الظهور والمثال أتى إلى السافل من غير واسطة سوى نفسه كان حظه لمعرفة العالي من أوفر الحظوظ وأتم مراتب النصيب فلا أحد يعرفه مثله إلا أن يكون في رتبته وإن كانت معرفته لا تلحق العالي وإنما عرف نفسه لكن تلك المعرفة هي عين معرفة ربه له .

 

      ثم لما كان السافل له جهتان يجب أن يقطع النظر حين الالتفات والتوجه عن جهة نفسه وإنما يتوجه إلى مبدئه بالوجه الأعلى من الوجه الواحد ، وإن كان ذلك الظهور والمثال أتى إليه بواسطة رتبة فوقها فلا يكون ذلك إلا أن يكون الثاني مثالا وشعاعا وشبحا للأولى لما ذكرنا سابقا أن المتغايرين ينحصر في أمرين إما أن يكون حقيقة واحدة قد تطورت بأطوار مختلفة بحسب الحدود والعوارض والجهات والحيثيات ولا يتصور في مثل هذا التعدد والتوسط والترتب ، أو يكون أحدهما علة والآخر معلولا هنا يتحقق التوسط ، فالحقيقة الثانية إذن تكون مثالا للحقيقة الأولى وصفة لها وتحكي عنها بجهتيها لا بوجه واحد الذي هو أعلى الوجوه ، فإن أثر الشيء إنما يتحقق بعد تمام  ذلك الشيء والشيء لا يتم إلا بالجهتين ، فالأثر متأخر عنهما فيحكي المركب لا البسيط ، إذا أردت أن تعرف ذلك انظر إلى السراج فإنه مركب من مس النار والدهن فإذا أراد أن يعرف النار يقطع النظر عن جهة الدهن وعما تقتضي تلك الجهة فيجد حينئذ لونا أحمرا وحرارة ويبوسة ساذجة غير مشوبة بشيء من الرطوبات فهذا النور المحسوس في الشعلة المحسوسة كله يرتفع عند السراج حين التوجه والالتفات إلى النار وذلك هو الوجه الأعلى فيكون هذا النور الظاهر في هذه الشعلة نقصا بالنسبة

_________________

1 البحار 66/292

إلى مقامه الأول لأن ذلك مشوب بجهة الإنية وظلمة الماهية وأما الشعاع فإنه مركب من نور السراج وجهة إنية حدوده من المشخصات الستة من الزمان والمكان والجهة والرتبة والكم والكيف وهو أثر للنار ومتوجه إليها وطالب منها لكنه واقف ببابها ولائذ بجنابها ومتوجه به إليها والسراج هو الباب يأخذ من النار ويترجم للشعاع فإذا أراد الشعاع أن يعرف النار لا يعرفها إلا بوجهه الأعلى منه ووجهه الأعلى صفة إنية السراج لا صفة توحيده فالشعاع  وإن بلغ ما بلغ في التصفية والانقطاع إلى النار والتوجه إليها والتوصيف لها كل ذلك توصيف للسراج في الحقيقة لا للنار فلو أن السراج توجه إلى النار بالمجموع لكان مشركا مع النار غيرها وهو إنيته وذلك الشرك صار عين التوحيد للشعاع بل ربما ما يصل الشعاع إلى معرفة السراج أبدا وإن وصل إلى ما وصل فإنما هو جزء من سبعين ألف جزء من رأس الشعير من معرفة السراج لكنه حين التوجه لما كان لا ينظر إلى السراج وإنما يتوجه إلى النار خاصة قبل هذه معرفة النار فيقول حينئذ السراج نحن الأعراف الذين لا يعرف النار إلا بسبيل معرفتنا أي بمعرفتنا للأشعة فإن الشعاع معرفته للسراج لا من جهة السراج معرفة النار، وإنما قلت معرفته للسراج لأن له جهتين جهة إلى نفسه وهي الحدود والأعراض يجب أن يكشفها ويمحيها وجهة إلى النار وهي نور السراج فلا يمكنه حينئذ إزالة نور السراج إذاً ينعدم فأين يتوجه .

 

      فإذا فهت هذا فهمت حقيقة الأمر في المسألة فإن محمدا وآله عليهم السلام جعلهم الله بابا لمعرفته وتوحيده وكل الخلق إنما خلقوا من شعاع أنوارهم وشعاع الشعاع وشعاع شعاع الشعاع وشعاع شعاع شعاع الشعاع وهكذا ، وفي كل رتبة ثانية يجري ما ذكرنا في الرتبة الأولى من الثانية ، فعلى هذا غاية معرفتهم لربهم بأكمل ما يمكن هو معرفة أدنى وصفهم في مقام النقصان لا في مقام الكمال ولذا نزه الله سبحانه نفسه عن صفات المخلوقين وقـال سبحانـه { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }1 و ( ما ) عامة

___________________

1 الصافات 180

شاملة لكل وصف ، ثم أظهر الرضا عن المرسلين حيث إنهم يتوجهوا إليه من الباب الذي جعله الله تعالى لهم فقال‏ { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ }1ثم أثبت ما خص به نفسه لحكايته لتوحيده تعالى من غير واسطة و إنما هو متمحض في الصفتية فقال تعالى { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }2 والحمد هومبدأ اشتقاق اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فافهم .

 

      ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت و لا عرفني إلا الله وأنت و لا عرفك إلا الله وأنا ))3 ، فإذا كان كذلك فهم عليهم السلام المدلجون بين يدي الحق في كل مقاماتهم وإليه الإشارة بقوله تعالى في الحديث القدسي حديث الأسرار (( وليس لمحبتي غاية ولا نهاية ، وكلما رفعت لهم علما وضعت لهم حلما ))4 إذ كلما يظهر لهم مقام في العلم من معرفة الله سبحانه من ظهور تلك الصفات حتى عرفوا الله بها يظهر لهم بعد ذلك حلم فيعرفون أن ذلك مقام المخلوق ثم يترقون بظهور الجبار لهم بحكم المحو والصحو حتى عرفوا أنهم وصلوا إلى الحقيقة وشاهدوا المطلوب عيانا فيظهر لهم في مقام أعلى فيعرفون أن المقام الأول مقام خلق ولهم كانوا هناك مشركين وهكذا فلا نهاية لهذا المحو والصحو أبدا ، فإذا كيف لا يعظم عليهم إذ يرون ما يصفون في أعلى مقامات توحيدهم يظهر لهم بعد ذلك أنه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم و أهل بيته الطيبين الطاهرين فيعظم عليهم الأمر ، ثم إن ما لم يظهر لهم هو أعظم بل الذي ظهر لهم والذي لم يظهر ولن يظهر إلى انقطاع كينوناتهم هو رشح من إنيات مقامات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهله الطاهرين عليهم السلام وذلك أيضا بالنسبة إلى مقامهم لا بالنسبة إلى مقامهم وأين الثريا من يد المتناول ، وهذا هو السر فيما ورد في الأخبار أن مولانا القائم عليه السلام عجل الله فرجه إذا ظهر وحضر عند أصحابه الثلاثمائة والثلاثة عشر يـظهر لهم عليه

__________________

1 الصافات 181                    2 الصافات 182

3 تأويل الآيات 145               4 إرشاد القلوب 199

السلام كـتابا مختوما بخاتم رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بخاتم رطب فيقول لهم بايعوني على مقتضى هذا الكتاب فلما أنه عليه السلام يقرأ عليهم يجدون ما كانوا يصفون به الرب عز وجل القديم سبحانه وتعالى بأعلى مقامات التوصيف والبيان الذي ما يمكن لأحد من أهل ذلك الزمان لأن هؤلاء صفوة الله في الأرض وليس على وجه الأرض يومئذ أعلم ولا أعرف منهم لأنهم المؤمنون الممتحنون الذين عرفوا الحيث والكيف والكم واللم وعرفوا مفصولهم وموصولهم وما يؤول إليه أمورهم فكانوا يوحدون الله عز وجل ويوصفونه بغاية ما عندهم من العلم والمعرفة فإذا هم يرون أن الإمام عليه السلام وروحي له الفداء وعجل الله فرجه يريد منهم أن يقروا ويعترفوا أن ذلك بعض مقامات آل محمد عليهم السلام ولهم مقامات أعظم من ذلك وتلك المقامات من بعضها فيعظم ذلك عليهم ولا يقدرون على التحمل والقبول فيستعجلون ويقولون أنت لست بصاحبنا فيجولون شرق الأرض وغربها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها ولا يجدون ملجأ فيأتون ويسلمون ويبايعون على جهة التسليم لا على جهة المعرفة وإني وإن فضحت السر وكتبت ما لا ينبغي إلا أنه بعد من وراء الحجاب وقد سد عليه ألف باب فافهم الخطاب .


      فمن هذه الجهة كان يعظم عليهم، هذا بالنسبة إلى العلماء العارفين ثم إن الأمر يعظم شيئا بعد شيء وحينا بعد حين إلى أن رجعت الأشياء كلها إلى الله فهناك يظهر سر علي روحي فداه مشتقا من نور الكينونة .

 

    وإياك واسم العامريـة إنـني           أخاف عليها من فم المتكـلم

    أخاف عليك من غيري ومني           ومنك ومن مكانك والزمـان

    فلـو أني جعلتك في عيـوني            إلى يوم القيامة ما كـفانـي

 

      وأما الجهال الواقفون في مقام القيل والقال حيث نسوا العهد المأخوذ عليهم في العالم الأعلى في القديم الأول ثم لا نهاية له من الأزمنة والأمكنة من أن عليا عليه السلام هو نور الله المطلق في السموات العلا والأرضين السفلى وما يرى وما لا يرى مما جرت به الأقلام ومضت به المقادير وبقوا في مقام الانجماد في مقام الجماد كما قال عز وجل {* وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }1 ولا يدركون الأشياء على جهة ذوبانها إذا سمعوا شيئا جزئيا من أسرارهم عليهم السلام من بعض فروع ما ذكر عليه السلام في هذه الخطبة الشريفة مثل أن جبرائيل عليه السلام ما يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بإذن علي عليه السلام يعظم عليهم ذلك بل ربما ينكرونه زعما منهم بأن عليا عليه السلامكان يأخذ العلم والحلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو كان يأخذ عن جبرائيل عليه السلام كيف يستأذن جبرئيل عليا عليه السلام مع ما في الروايات أن جبرائيل ما نزل إلى علي عليه السلام أبدا وما كان يراه بل ربما يسمع كلامه ، وإذا سمعوا ما ورد أن جبرائيل عليه السلام كان يأخذ من اسرافيل وهو يأخذ من ميكائيل وهو يأخذ من الملك وهو روح القدس وهو عقل محمد وآله عليهم السلام فكان جبرائيل وغيره من الملائكة يأخذون منهم ويؤدون إليهم فيعظم ذلك عليهم ويضطربون زعما منهم بأنه حينئذ إتيان جبرائيل يكون تحصيل الحاصل إذن لا فائدة ترجع إليهم من جهة العلم ، وما ورد أن عليا عليه السلام قد قرأ القرآن حين تولده من أوله إلى آخره ولم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرفا واحدا منه ، وما ورد أن عليا عليه السلام كان إذا وضع رجله في الركاب يقرأ القرآن من أوله إلى آخره حتى يستوي على ظهر الدابة حتى واجهني بعض أشباه العلماء بذلك وقال إن ذلك الفعل مستحيل ممتنع لا يمكن وقوعه لا أستثني ، أحدا وكذلك الأحوال والأسرار المودعة في هذه الخطبة الشريفة إذا سمعوها يقولون أن فيها ارتفاعا وغلوا وينكرون نسبتها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويقولون إنها من وضع الغلاة وكما ذكرنا في أول الجزء والأول من هذا الشرح ، فـأوصاهم الإمام عليه

____________________

1 المنافقون 4

السلام وصية لو راعوها وحفظوها لم يلتبس عليهم شيء من أمور دينهم ومعرفتهم بأئمتهم عليهم السلام لكنهم ما راعوها وضيعوها فوقعوا فيما وقعوا من الاضطراب والاختلال والاختلاف قال دعبل الخزاعي :

      ولو قلدوا الموصى إليه أمورهم      لزمت بمــأمون من العثرات

 

      وتلك الوصية لا اختصاص لها بالجهال و إنما هي وصية عامة للجاهلين والعارفين الواصلين إلا أن العارفين حفظوها وأولئك ضيعوها وهي قوله عليه السلام (( فلا تستعظموا ذلك فينا )) فإن الاستبعاد والاستعجاب والحكم بعدم وقوع الشيء تعجيلا ومبادرة وجهلا بالأمر هو الذي يكون سببا لعدم انفتاح باب المعرفة وازدياد الجهل على الجهل والعجز على العجز فإن الخلق متفقون لا نكير عندهم على أن كل أحد لا يدرك كل شيء إذ كل أحد يجد ذلك في نفسه بالفطرة والضرورة وقد نص الله على ذلك حيث قال { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }1 واتفقت الأمة بل كل ذي فطرة على أن الله سبحانه لا يطلب من العبد في العمل والاعتقاد إلا مقدار ما وهبه من العلم والمعرفة وقد نص على ذلك في كتابه العزيز بقوله { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }2 ‏{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّـا

_________________

1 يوسف 76

2 القرة 286

 

 

 

 

 

 

 

 

آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}1 .

     

       فمقتضى الكلام الأول الضروري أن لا يسارع الشخض الإنكار إذا سمع ما لا يدرك ، ومقتضى الكلام الثاني الضروري أن لا يعتقد ما لا يدرك فيسكت عما لا يعلم وينطق عما يعلم فإذا تكلم متكلم فضلا عما إذا انتسب إلى أهل العصمة عليهم السلام فينظر فيه نظر المنصف الجاهل المتعلم من الله سبحانه ومن الأئمة عليهم السلام الهداية ، فإن قام دليل قطعي من إجماع أو ضرورة ونص في الكتاب أو في الأحاديث أو دليل عقلي مستند إلى أمر شرعي من الخطابات الإلهية ما يدل على بطلانه أو بصحته فيعمل بمقتضاه وإلا فيتحمل ويتوقف هذا إذا عرف مراد القائل المتكلم بالكلام ، وأما إذا لم يعرف واحتمل أنه أراد منه معنى آخر من المعاني السبعين كما قال عليه السلام (( إني لأتكلّم بكلمة وأريـد منها أحد وسبعين وجها لكل منها المخرج ))2فإذن لا سبيل له إلى الرد والإنكار ويجب عليه التوقف في كل حال وطلب فهم المراد لينفتح له الباب ، فعلى هذا لا يجوز رد الأخبار وطرح كلما ينتسب إلى الأئمة الأطهار عليهم السلام ما لم يقم دليل قطعي على أنه مكذوب عليهم عليهم السلام وليس من الدليل محض الاستبعاد وعدم اشتهاره عند العوام والعلماء الذين ليسوا بصدد مضامين تلك الأخبار والقول بأنه يلزم منه الغلو والارتفاع باطل إذ لعله يريد منه معنى لا يلزم ذلك وكان ذلك المعنى مخفيا عند الناظر أو يراه بعيدا وهو قريب عند الإمام عليه السلام فإذا قالوا عليهم السلام (( إني أتكلم بكلمة وأريد منها أحد وسبعين وجها لي لكل منها المخرج )) انقطع الكلام وقالوا أيضا ( إذا أتاكم عنا بأنا نقول أن الليل نهار والنهار ليل فلا تكذبوه فإنكم تكذبونا ) فإذا كان كذلك وقد

__________________

1 الطلاق 7

2 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ووقفنا على ما يقرب منها في بصائر الدرجات ص 329 قوله عليه السلام (( إني أتكلم بكلمة وأريد منها أحد وسبعين وجها لي لكل منها المخرج ))

جاءت الأخبار وتواردت واشتهرت بين الفريقين أن الله سبحانه خلق محمدا وآله عليهم السلام قبل خلق الخلق وقبل أن يخلق شيئا ثم خلق الأشياء كلها من نورهم عليهم السلام وأما الشيعة الفرقة الناجية المحقة فلا يشكون في ذلك في أئمتهم عليهم السلام وأما العامة فلا يشكون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنه خير الخلق خلقه الله قبل أن يخلق الخلق ثم خلق الخلق من نوره ، فإذا كان كذلك فتكون الخلائق كلهم بالنسبة إليهم عليهم السلام كالأشعة للسراج وهو لا استقلال له إلا بالنار ، والسراج عين للنار الناظرة لأحوال الأشعة ويديها المبسوطة بالإنفاق على الأشعة ووجه لها تتوجه الأشعة به إليها وتنظر به إليها ولسان تخاطب الأشعة به ونور تضئ به لها وسائر الأحوال ولا يصل إلى الأشعة شيء إلا بالنار والنار أيضا لا توصل الأشعة شيئا إلا بالسراج ، فصح لك أن تقول أن أشعة السراج خلق الشعاع بالنار أو تقول أن النار خلقت الأشعة بالسراج والمعنى في المقامين واحد ، وإذا قيل أن أمر الأشعة مفوض ومرجوع إلى السراج فليس هذا هو التفويض الباطل إذ السراج لا غناء له عن النار فهو حينما يدبر أمر الأشعة بيد النار ويستمد منها لا يستغني عنها بوجه أبدا ، والتفويض الباطل إذا قيل بالاستقلال وإذا قيل أن السراج خلق الأشعة لا يلزم عنه عزل النار عن الخالقية والتدبر والتصرف وإنما هو إثبات لتدبيرها لمن يعقل ، فمن هذا المثال اعرف المراد ونزل الخلائق كلهم بمنزلة الأشعة وعلي أمير المؤمنين عليه السلام بمنزلة السراج وأجر الأحوال كلها على حسب ما ذكرناه من غير استعجاب ولا استعظام فإنه إنكار لقدرة الله عز وجل وجهل بمقامه ومقام أوليائه وإنكار لسعة اقتداره سبحانه وتعالى وعجز عن معرفة عظمة الله جل جلاله وتنزيهه عن شوائب النقائص الإمكانية ، وليس في ذلك عجب بل أمرهم عليهم السلام أعجب وخطبهم أعظم وقد روى الكليني في الكافي ما معناه (( أنه قيل للصادق عليه السلام أن ما علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا من الأبواب التي يفتح من كل باب ألف باب هل ظهر لشيعتكم كلها قال عليه السلام ما ظهر منها باب أو بابان قال فما ظهر من فضلكم لشيعتكم إلا باب أو بابان قال عليه السلام وما عسى أن يظهر لكم والله ما ظهر لكم من فضلنا إلا ألف غير معطوفة ))1، والمعاني والدلالات كلها إنما تحصل بالحروف وتأليفها وترتيبها على نظم معين والحروف تحصل من انعطاف الألف اللينية إلى الأطوار والأحوالالثمانية والعشرين فقبل انعطاف الألف لم تظهر الحروف فضلا عن ظهور المعاني المختلفة المتعددة الغير المتناهية فالألف الغير المعطوفة من حيث هي ليس فيها من المعاني شيء أصلا من المعاني التي تظهر بالحروف كما قال الرضا عليه السلام (( إن الحروف ليس لها معنى غير أنفسها فإذا أردت أن تؤلفها تؤلفها لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك )) فصرح عليه السلام بهذه الإشارة لأهل الإشارة أن ما ظهر لكم من فضائلنا ليس شيئا بالنسبة إلى مقامنا ومرتبتنا وهو كذلك فإن الأثر لا يلحق مؤثره والشيء لا يجاوز مبدأه والأدوات لا تحد إلا أنفسها والآلات لا تشير إلا إلى نظائرها ، فإذن لا يستعظم ما يظهر من فضائلهم ومناقبهم وظهورات آثارهم وصفات أشباح هياكلهم عليهم السلام إلا الجاهل بالأمر المعاند ، ونهيه عليه السلام عن الاستعظام نهي تحريمي لا يسع العاقل ذلك ولذا قالوا عليهم السلام ما معناه لا تخبروا بأحاديثنا ضعفاء شيعتنا فيقولوا ليس هذا )) والإنكار كفر والمؤمن الممتحن يسلم كلما يصدر منهم ويرد عنهم عليهم السلام فإن فهمه فذلك حظه وإلا فيرد إليهم كما قال عز وجل خطابا لعلي عليه السلام في الـباطن       

__________________

1 ذكر المصنف هذا الحديث بالمعنى ونحن نذكره هنا بالنص تيمنا وتبركا ففي الكافي 1/297 عن يونس بن رباط قال (( دخلت أنا وكامل التمار على أبي عبد الله عليه السلام فقال له كامل جعلت فداك حديث رواه فلا , فقال : اذكره , فقال : حدثني أن النبي صلى الله عليه وآله حدث عليا عليه السلام بألف باب يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله كل باب يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب , فقال : لقد كان ذلك , قلت جعلت فداك , فظهر ذلك لشيعتكم ومواليكم , فقال : يا كامل باب أو بابان , فقلت له : جعلت فداك , فما يروى من فضلكم من ألف ألف باب إلا باب أو بابان , قال : فقال : وما عسيتم أن ترووا من فصلنا ما ترون من فضلنا إلا ألفا غير معطوفـة ))

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}1 وقال الصادق عليـه السلام (( إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا ))2 الحديث ، فالمؤمن الممتحن لا يستعظم ما يقرع على أذنه من أسرار علي عليه السلام لأنه باب الله ووجهه ، ولا يستعظم من الله شيء من الأشياء ، وهو عليه السلام لا ينسب إليه شيء إلا بمشيئة الله سبحانه وباقتداره لا من قبل نفسه فإنها من حيث هي ليست شيئا ولا تذوت لها فإذا كان منسوبا إلى الله عز وجل وبقدرته وهو تعالى على كل شيء قدير فمن أين الاستعجاب والاستعظام ولذا قال عليه السلام في حديث معرفته بالنورانية ما معناه أنه (( من شك في ما ذكرت فقد أنكر قدرة الله في أوليائـه )) قال الشاعر ونعم ما قال :

       أعدم وجودك لا تشهد له أثرا     ودعه يهدمـه طورا وينسيـه

____________

1 النساء 65                     2 الكافي 1/181

ورد في البحار 26/7 (( الويل لمن أنكر فضلنا وخصوصتنا وما أعطانا الله ربنا لأن من أنكر شيئا مما أعطانا الله فقد أنكر قدرة الله عز وجل ومشيئته فينا  )) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام فوالذي فلق الحبة

     

      أتى بالواو للقسم تأكيدا للأمر وتثبيتا للحجة عند الجاهل على الحقيقة وسر الخليق،ة وإنما اختار عليه السلام الواو في هذا المقام لأنها أول سر ظهر من ينبوع حقيقته وأول نور سطع من شمس كينونته وهويته في الأزل الثاني ، لأن الواو هو الأمر بين الكاف والنون وهذا العدد التام بالزبر وبالسر الغيـبـي والرمز الباطني هو حكاية الأحد فإن البينات غيب بالنسبة إلى الزبر ، وإن كانت بلحاظ آخر صفة له والواو بيناته ثلاثة عشر وهو تمام الأحد وهو حكاية صفة الذات الأزلية والعبارة عنها ولذا اختصت الواو بالقسم لاشتمالها لهذا السر المنمنم وكون أولها عين آخرها وظاهرها عين حقيقة باطنها يشير إلى الأولية والآخرية وإلى رجوع العود كالبدأ كما في قوله تعالى { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ }1 وهي العدد التام والسر العام الجامع لأسرار التوحيد بالباطن وأسرار الموحدين في الظاهر وإتمام الصنع بالصفة ورجوع العود كالبدء بالإشارة وأول ما بدء من العين أي كن فمحلها وسط الكلمة لبيان أنها أثر المجموع فلها وجه إلى جوامع التوحيد ومراتب التنزيه والتجريد ووجه إلى مقامات الكثرة ومراتب الخلق الظاهرة

________________

1 الإسراء 7

 

 

 

 

 

 

 

بالنون وهي الستة الأيام التي خلق الله فيها الشيء كما قال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}1‏ وهي صفة الغيبوبة والمحو والإفناء والصعود من ظاهر القشر إلى باطن اللب ولذا قال مولانا الباقر عليه السلام (( والواو إشارة إلى الغائب عن درك االأبصار ولمس الحواس ))2 وهي مجمع الطبائع النورية في الباطن وإن كانت في الظاهر جامعة لأقوى مراتب أقوى الطبائع لاشتمالها على النار في مقام المرتبة وعلى الهواء أو التراب في مقام الدرجة ولذا كانت عاطفة لما فيها من سر الرطوبة مع الحرارة المسرية والمتعدية إلى الغير ومستأنفة لما فيها من سر الحرارة واليبوسة الطالبة للابتداء والاستئناف وعدم التبعية ولذا كانت من حروف القسم لكونها من حروف المبادئ بذاتها وصفاتها ومقامها وظاهرها وباطنها كما أشرنا إليه ، ولا تتوهم أن مقامها الشفة والحروف الشفوية ليست من المبادئ وإنما هي حروف الحلق لأن المبدأ مقام وجوده في نفسه أسفل المراتب والمقامات وذلك سر علوه أما سمعت عليا عليه السلام قد لقب بأبي تراب ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصف بالعبودية التي هي الذلة والمسكنـة قبل كل صفة وكل حال ونعت قـال صلى الله عليه وآله وسلم

______________

1 ق 38

2 التوحيد 88

 

 

 

 

 

 

 

 

(( الفقر فخري وبه أفتخر ))1أما علمت أن السجود في الصلاة أشرف و أفضل من الركوع وهو من القيام وإن أقرب أحوال العبد مع الله حالته وهو ساجد ، أما رأيت أن البسملة التي أولها أعلى المبادئ وأشرفها من حروف الشفة وهي الباء ومن جهة الشرافة المعنوية ظهرت الواو بدوا حتى استجنت في كن وغابت عند ظهور تين الكلمتين واستنطقت باسم الأحد الذي هو أبسط الأسماء ثم ظهرت بزبرها وبصورتها على غيب معناها فاستنطقت منها الواحد وصار مبدأ الأعداد وسبب حصول الاستعداد واشتق منها اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أشرف المبادئ ثم اشتق منها بالطرد والعكس اسم علي عليه السلام الذي هو أفضل الأكوان والمكونات ومن هذين الاسمين الأعليين ظهرت الأسماء ووجدت المسميات ، إلا أن الله عز وجل ما يختار لمن هو مبدأ المبادئ وعلة العلل وأصل الأصول اسما وصفة إلا وهو مبدأ الأسماء ومقوم الصفات اللفظية والحرفية وكذلك المعنوية النورية وكذلك الظلمانية ، لأن المراتب السفلية الظلمانية تسجد للشمس من دون الله فلابد لها من السجود للشمس وإلا لبطلت و اضمحلت وفنيت وما ظهر منها أثر ولم يكن لها خبر ذلك تقدير العزيز العليم فافهم .

 

      ثم ظهرت عودا كما كانت بدوا في الاسم الأعظم الأعظم الأعظم الذي تنفعل لها الأشياء وتظهر منه القوابل والإضافات والاستضافات النقطة التي عليها مدار الأكوار والأدوار والأطوار والأوطار والليل والنهار وهي هذه الأحرف (                  ) وإنما ظهرت الواو في العود منكوسة لإثبات الرجوع ورجوع الأشياء كلها عند رجوع الواو إلى الصفاء الأصلي والنورانية الذاتية والوحدة الحقيقية وهذا المعنى وإن كان ظاهرا في أصل الواو إلا أن هذا النكس لسر الرجعة وظهور الدولة وما في نفسها من الدلالة إلى الرجوع والعود إنما يكون في يوم القيامة فافهم إن كنت تفهم والا فاسلم تسلم فلأجل ما ذكرنا وما لم نذكر اخـتار عليه السلام الواو في هذا المقام

______________

1 جامع الأخبار 111

للقسم دون سائر الحروف ، ثم لما كانت كلماتهم عليهم السلام تامة في كل الاقتضاءات والأحوال كانت للواو مناسبة في هذا المقام و إظهار شأن من شئون ما هو بصدد بيانه عليه السلام وتلك المناسبة لم تحصل في غيرها وهي إنما تحصل وتظهر في سر أطوار ظاهر الظاهر ولو فتحنا هذا الباب وتصدينا لشرح تلك اللباب لطال الكلام زائدا عما يقتضيه المقام .

 

      والإشارة إليه على جهة الإجمال لأهل التوجه والإقبال هي أنه عليه السلام لما ذكر بعض أسرار ولايته الظاهرة في المخلوقين وكانت الطبائع غير ناضجة والنفوس والسرائر غير طيبة لم تتحمل وكادت أن تفسد وتضمحل أراد عليه السلام إثباتها ودلالتها إلى ما فيه نجاتها وبه بقاؤها وثباتها وقال لهم لا تستعظموا ذلك فينا فإن أمرنا أعجب وسرنا أغرب وهذا الذي ذكرنا لكم شيء يسير من ذلك بل جزء من مائة ألف جزء من مثقال الذرة ، فإذا تنبهوا أن الأمر أعظم مما سمعوه هان لهم الخطب في التصديق وسهل عليهم الأمر لأن النفس إذا تنبهت إلى ما هو أعظم مما كان عندها توجهت والتفت إليه ويبقى الأول سهل التسيلم والانقياد فلا تتنفر منه وتتحمله وتجوزه إلى أن ترسخ فيها وتطمئن ، ولما كان الخلق أكثرهم في القوس الصعودي ما وصلوا إلى مقامهم الحقيقي وما لحقوا بمركزهم الواقعي ووطنهم الأصلي                                 لم تكن المصلحة لإظهار السر اللبي بصريح العبارة فأتى عليه السلامبالإشارة بغامض العبارة في لحن المقال يدركها من أراد عليه السلام إرادة خاصة وتصون عن الجاهل الذي قد أبى أن يتعلمها منه روحي فداه فأتى عليه السلام بالفاء للإشارة إلى قوله تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ *

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}1 وأما هي الكمال الشعوري لآخر مراتب المبادئ العلوية العددية وهي الآحاد و آخرها التسعة والعين لما ظهرت في الفاء أو  في الطاء تولدت عنها الواو مثناة وهو قوله تعالى { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً }2 قـال عليـه

________________

1 الدخان 3 – 4                  2 البقرة 60

السلام كما تقدم أن موسى إشارة بالباطن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصا هي علي عليه السلام والحجر هي فاطمة عليها السلام والعيون الاثن عشر هم الأئمة عليهم السلام ومنها علي عليه السلام وكذلك في هذا المقام ظهرت الواو مثناة من اجتماع عين علي عليه السلام مع طاء فاطمة عليها السلام والوجه في هذا السر ربما نذكره إنشاء الله فيما بعد ، والعين هو كلمة كن قد تحققت وتقومت في التعين الأول ومنه ظهرت في الحسن عليه السلام ومنه ظهرت في الحسين ومنه في القائم عليه السلام ومنه في الأئمة الثمانية عليهم السلام ومنه في الفاطمة عليها السلام ومنها تقسمت آثارها وظهوراتها في العالم على نحو إعطاء كل ذي حق حقه والسوق إلى كل مخلوق رزقه ، فالخلائق كلهم واقفة ببابها ولائذة بجنابها لأنها في أفلاك المبادئ وأوائل جواهر العلل كالقمر بالنسبة إلى الأفلاك الجسمانية أقرب الأفلاك إلى المستمدين الفقراء اللائذين لافتقارهم إلى الرطوبة والبرودة المناسبة لمقامهم أعظم وأشد والقمر يؤثر الحياة والقوة والحركة فيهم من جهة تقاطعه مع الشمس في الفلك الجوزهر وبذلك التقاطع حصلت الحياة ، والإشارة إلى ذلك التقاطع الحقيقي هي الازدواج الظاهري بين علي وفاطمة عليهما السلام ولذا كان ازدواجها في السماء بمحضر من الملأ الأعلى بأمر العلي الأعلى ، انظر إلى اللطائف العجيبة في قوله تعالى إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة { كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏* وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ }1 أما إتـيان القمر والليل فظاهر من أنهما طبع المرأة بمقتضى الكينونة والصبح إشارة إلى التقاطع التي ذكرنا ولذا كان وقت الصبح وقت توزيع الأرزاق وهي أحسن الساعات وهي من ساعات الجنة لأن تلك الساعة تحكي عن الفلك الجوزهر في المبدأ الأول لظهور سلطان النهار وسلطان الليل فيه فليست الحرارة فيه غالبة ولا البرودة و إنما هو في كمال الاعتدال وصحبة أهل الوصال واستقامة الأحوال فالقمر والليل إشارتان إلى مقامهما عليهما السلام

__________________

1 المدثر 32 - 36

 

والصبح إشارة إلى مقامهاعليها السلام مع علي عليه السلامفي قـوله تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ }1 فالعين في مقام الإجمال لم تظهر أحكام تفصيلها إلا بالتقاطع مع الطاء والآثار التفصيلية لم تظهر إلا من الطاء بعد التقاطع وتطورها في أطوار كمالها المستخرج المتولد منها الفاء فما للعين بذر وما للطاء أصل وفرع بذر ، ألا ترى أن الشمس تربي المواد وهي في غاية الإجمال والبساطة والتفاصيل والصور إنما هي بالقمر بعد التقاطع ، ولذا كان القمر صاحب العدد والحساب والكثرة والصور ولذا كان فلك القمر أكثر الأفلاك في الأفلاك الجزئية وإن ساواه فلك عطارد فإنما هو لأمر آخر لكونه فلك الفكر والفكر له تقلبات وأحوال ولذا كان له أوجان وحضيضان ، ولما تمت الكلمة في الطاء وكملت الطاء في الفاء ظهرت تفاصيل الفيض الناشئ من الكلمة الواردة على محلها ومعدنها وينبوعها وأصلها ، وأول التفاصيل هو الستة لأنها أول تثنية الواحد وأول تكراره فإن الواحد ثلاثة كما قدمنا مرارا ذكره وهي العدد التام كما ذكرنا لتساوي كسورها مع أصلها فوجب أن يذكر الواو

_________________

1 القدر 1 – 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بعد الفاء في هذا المقام ولذا قال تعالى { إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ }1 قال الصادق عليه السلامعلى ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره (( يعني فاطمة عليها السلام ))2 وهي إحدى الكبر وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام وهي نذير للبشر لأن الفيض الظاهر بالبشارة والإنذار إنما هو عنها نشأ ومنها برز وإليها يعود ويرجع ، وأصول الفيض إلى أن تكمل وتستقيم ستة في الأيام يوم الأحد ويوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة ، وفي الذوات عالم العقول وعالم النفوس وعالم الطبائع وعالم المواد وعالم الشباح وعالم الأجسام ، وفي العالم الإنساني النطفة والعلقة والمضغة والعظام واكتساء اللحم و إنشاء الخلق الآخر ، وفي الصفات والأعراض الكم والكيف والزمان والمكان والجهة والرتبة ، فوجب أن يذكر الواو بعد الفاء لبيان أن ما ظهر منها عليها السلام وروحي فداها هي الأكوان الستة المالئة لكل الوجود بقراناتها وإضافاتها ونسبها وتولداها وصفاتها وسائر أحوالها وهي الكون الجوهري والكون النوراني والكون المائي والكون الناري والكون الهوائي والكون الترابي فهي صلوات الله عليها قطب للعوالم كلها ، ثم أتى عليه السلام بالألف بعد الواو والمدغمة مع اللام للإشارة إلى تقسيم هذه العوالم الستة إلى القابل والمقبول وخفاء المقبول الذي هو جهة الوحدة في القابل الذي هو جهة الكثرة ومراتب القابل ثلاثون عدد قوى اللام ، ثم أتى عليه السلام بالذال لبيان رتبة الكمال بعد التمام وهو يوم السبت بعد يوم الجمعة والبلوغ بعد إنشاء الخلق الآخر والتركيب بعد اجتماع الحدود الستة لأن السبعة هي العدد الكامل ، وأشار أيضا روحي فداه إلى تشعب كل مرتبة باعتبار أطوار القابل والمقبول إلى مائة مرتبة لتبلغ رتبة الكمال في المقامات التفصيلية إلى سبعمائة وهي عدده قوى الذال ، والإشارة إلى ذلك أن كل مرتبة مخلوقة من عشر قبضات من الأفلاك التسعة ومن الأرض في كل عالم بحسبه فإذا جمعت ولاحظت أول النسب في هذه العشرة يكون لكل مرتبة مائة والسبعة تكون سبعمائة فافهم .

_________________

1 المدثر 35                           2 تفسير القمي 2/396

 ثم أتى عليه السلام بالياء لبيان ظهور المبدأ في الوجه السفلي لأنها قد أخذت من ياء علي عليه السلام ثم أردفها عليه السلام بفاء فاطمة عليها السلام في قوله عليه السلام (( فلق الحب )) ، وبالجملة فالكلام لا يحسن على هذا النمط فإنه شيء لا يعرفه الناس و إذا سمعوه قابلوه بالإنكار وإذا تنبهوا لذلك ربما يفرّعون عليه ما لا يصح ولا يليق لأنها باب منسد إلا من أطلعه الله سبحانه على غيوب الأشياء وأشهده نفسه وخلقه فيرى الأشياء كلها بسر الوحدة ويضع كل شيء في موضعه وأما الجاهل بالأمر فلا يسعه ذلك إذ لا يجوز القياس والظن والرأي والتخمين والإلحاق بالأعم الأغلب والإلحاق بالمشهور في هذه المقامات وهذه الدقيقة التي هي أقرب مما ذكر عليه السلام مصرحا على حسب الظاهر ، وأما في الحقيقة فليس فيها غرابة بوجه بل لو لم يكن كذلك لكان غريبا لأنها معهم عليهم السلام في رتبة واحدة وهي آخرهم والطفرة في الوجود باطلة فيجب أن الفيض المنتشر في العالم إنما يكون عنها وبها والخلق كلهم عبيد لها ولها الهيمنة والاستيلاء على كل الوجود والموجود ، ولكن كما ذكرت سابقا أن الطبائع الغير الناضجة من الشيعة إذا سمعوا مثل هذه الكلمات في حق علي عليه السلام مع ما ورد في حقه من الفضائل والمناقب التي لا يسع إنكارها لأحد من المسلمين يستغربون ويستعظمون بل ينكرون كما أنكروا ونسبوا هذه الخطبة الشريفة وأمثالها من الخطب والأخبار والأحاديث كلها إلى الغلاة والمفوضة ، فما ظنك إذا سمعوا ذلك وأعظم منه في حق سيدتنا الزهراء على أبيها وبعلها وبنيها وعليها آلاف التحية والثناء ولكنهم عليهم السلام أهل الكرم والجود لا يبخسون الناس حظهم ويؤدون إلى كل أحد حقه ممن يطلب منهم ولا يطلب منهم وإن كان لا يصح أن لا يطلب منهم ، فأشار إلى تلك الدقيقة بتلك الإشارة كما أشرت لك والحمد لله رب العالمين .

 

      واعلم أني لم أذكر في هذا الشرح النكات والوجوه الظاهرية التي تعرضوا لها أهل المعاني والبيان في المحسنات اللفظية وأهل النحوالصرف واللغة في القواعد الحرفية وأهل الحروف الظاهرية في الحروف العددية وأهل الخطوط والرقوم في الرسوم الرقمية ، أو المعاني التي ذكرها الحكماء وأهل الطبيعة إذ المرجع فيها وأمثالها ما ذكروه في كتبهم وأثبتوه في زبرهم وذلك ليس المطلوب منا في هذا الشرح ، بل المراد منا كشف الأسرار ورفع الحجاب وفتح الباب لأولي الألباب فأقتصر على ذكر بعض الأمور والأسرار التي لم يذكروا ولم يدونوا ولم يعثروا عليه مما نطقت به بواطن الأخبار المعصومية وشهدت بتصديقه الآيات القرآنية ودلت عليه الشواهد العقلية والنقلية والفؤادية بين تصريح وتلويح وإشارة ورمز وتعمية و أمثالها كل ذلك خوفا من اشتباه الناس الذين تمكن في صدورهم الوسواس الخناس قال تعالى { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ }1وإنما أتى عليه السلام بالاسم الموصول في المقسم به لبيان الإبهام فالق الحب وبارئ النسم وإن كان هو التعين لأن الله عز وجل هو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أنه سبحانه لم يتغير ولم يتبدل ولم يتحول من حال إلى حال ولا يعتريه نقصان ولا زوال فأدام الملك في الملك وألجأ المخلوق إلى مثله وأقام الأشياء بأظلتها وتجلى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها ، والأشياء كلها ظهورات أفعاله تعالى ولها ظهور ولظهور ظهورها ظهور ولظهور ظهور ظهور ظهورها ظهور وهكذا إلى ما لا نهاية له من الأطوار والظهورات ، ولما كان الله سبحانه أمره واحداً وحكمه واحداً كل تلك الظهورات تفصلت في كل رتبة بالحب والنّوى وفي كل منها ظهرت نسمة كما نبين لك إنشاء الله ، فهو تعالى في كل رتبة فالق الحب وبارئ النسّم هذا في مقام الحقيقة بعد الحقيقة ولا فرق حينئذ بين إتيان الاسم الموصول وعدمه إذ ليس فيه إبهام وإنما هو تعيين وإن كان بإثبات بعض ومحو الآخر حين الإثبات أو المحوفإن كل رتبة عند الأعلى فانية بل لا شيء ولا ذكر لها هناك وأما في مقام ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) تظهر الثمرة والإبهام بإرادة المعنيين أو بسر الأمر بين الأمرين فإن الأشياء والموجودات كلها على اختلافاتها ما ظهرت ولا وجدت إلا بجهة من الله وجهة من نفسه وتلك الجهة هي فاعل فعل الفاعل كما في قوله تعالى (  كن

_________________

1 الأحقاف 11

فيكون ) ففاعليته تعالى للشيء إنما هي في نفس الشيء لا في نفس الذات القديمة تعالى شأنه وإلا لكانت محلا للحوادث أو مركبة أو متغيرة متبدلة ولا يوجد شيء أبدا من الجهة الواحدة وإن كان ذلك الشيء مما اضمحلت إنيته واندركت هويته تنسب آثارها كلا إلى الفاعل سبحانه ولا يلاحظ ذلك الشيء بتلك الجهة أصلا مثل ما في قوله تعالى { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ }1 { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ }‏2 وقوله تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا }3 الآية ، وقوله تعالى { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ }‏4 الآية ، وقـوله تعالى { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }5 وأمثالها من الآيات وإن كان الشيء بقيت له الإننة لكن لا يترتب عليها الأثر مسلوبة الحكم والتصرف وإنما هي لحفظ وجوده فذلك الشيء آثاره تنسب إليه ثم تسلب عنه فالنسبة لكون الشيء له إنية ومقام فرق في الجملة ، وأما السلب فلحكم الاضمحلال والزوال كما في قوله تعالى { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى }6 وإن كانت إنية الشيء من شأنها إن ظهر منها أثر وإن اضمحلت فذلك الشيء تنسب آثاره إلى نفسه لكن بالله سبحانه وبإذنه وبأمره كما في قـوله تعالى خطابا لعيسى عليه السلام { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَـهَ

________________

1 العنكبوت 44               2 فاطر 40               3 الزمر 42

4 الحج 5                      5 الزخرف 32           6 الأنفال 17

 

 

 

 

 

 

 

وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي }1 ومثل ما في الحديث (( إن الله إذا أراد أن يخلق الولد في بطن الأم يرسل ملكين خلاقين يقتحمان من فمها إلى بطنها ))2الحديث    وإن كانت الإنية تظهر آثارها وتقتضي شهواتها المخالفة لكينونة الحق سبحانه كما قال تعالى خطابا لآدم عليه السلام (( وحك من روحي وطبيعتك خلاف كينونتي )) فذلك الشيء لا تنسب آثارها إلا إليه ولا تنسب إلى الله سبحانه أبدا إلا بالعلم والدليل على أن الممكن لا يستغني في أفعاله عن الله عز وجل وإن الأفعال كلها تجري بسر الأمر بين الأمريـن كما في قـوله تعالى { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }3 وقوله تعالى { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}4 وقوله تعالى { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ }5 الآية ، وهكذا أمثالها من الآيات وهذا هو الحكم في الكينونة الأولية الدنياوية ، ولما كان الفاعل هو المشتق من المصدر كالقائم المشتق من القيام والضارب المشتق من الضرب وليس مرد الفاعل ومحله إلا إلى الأثر الذي هو المصدر لا الذات البحت وهو الذي تشهد به الفطرية الإلهية ، والفاعل صفة لا حقيقة وذات ، ولما كان الخلق في القوس الصعودي بعد النزولي قبل وصولهم إلى المبدأ الذي تنزلوا منه وقفوا في مقام الكثرة والانجماد ولم يحصل لهم الذوبان التام حتى يشاهدوا ذلك المعنى بسر الهوية ولب الفطرة قد ينتسب الفاعل إلى المصدر لبيان أن الذات متعال عن الاقتران والاتصال وإن الفاعلية صفة قائمة بهذا المحل وهي لله سبحانه وقيامها به قيام صدور لا قيام تحقق ، ومعنى هذا الكلام في هذا المقام أن حقيقة المصدر الذي هو المبدأ هي تلك الصفة لا أن الحقيقة شيء

_______________

1 المائدة 110

2 لم نقف على هذه الرواية كما ذكرها المصنف أعلى الله مقامه ووجدنا ما يقرب منها وهو ما روي في البحار 57/344 قوله عليه السلام (( ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم .. إلخ ))

3 طه 121             4 مريم 54 – 55                  5 الكهف 74

والصفة شيء آخر ليكون مشاركا أو مستقلا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ،

ومن هذا القبيل قول علي عليه السلام (( أنا خالق السموات والأرض بأمر ربي وأنا داحي الأرض )) كما يأتي إنشاء الله فإن ذلك للبيان لا أنه المستقل أو له إنيه يصدر عنها الأثر كما مر في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } وأما معنى قول مولانا الصادق عليـه السلام على ما رواه المجلسي (( من قال نحن خالقون بأمر الله فقد كفر )) وكما ذكرنا من لزوم توهم الإنية والاستقلال ليكون كالوكيل فإن ذلك كفر محض وزندقة صرفة {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1بل الخالق هو الله سبحانه وحده لا يشارك معه غيره ولا يستقل سواه ، والخالق صفة فعلية وحقيقتهم عليهم السلام تلك الصفة لا أن حقيقتهم أمر والخالق أمر آخر ، فالله سبحانه هو الخالق وحده فمن رام غير هذا المعنى غلا فهو كفر ، والإشارة إلى بيان لأهل القوس النزولي حتى لا يضلوا ويتنبهوا لحقيقة الأمر كما قال عز وجل { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }2 مع أن مولانا الصادق نفى هذا المعنى بعينه فافهم وتنبه واعلم بأن لا تعارض ولا تنافي بين الأخبار والآيات انظر إلى قوله تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا }3 الآية وقوله تعـالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ }4 { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }5 وقـوله تعالى { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ }‏6 وما دلت الأخبار والأدعيـة إن ميكائيـل هو الموكل على الأرزاق وقـوله تعالى { يُـدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَـاتِ }7 وقـوله تـعالى في الملائكـة { فـَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا }‏8 وقوله تعالى {إِنَّا أَنـزَلْنَـا عَلَيْـكَ

___________________

1 الأنبياء 29           2 الأنبياء 26 – 27           3 الزمر 42

4 النساء 97           5 السجدة 11                  6 الزخرف 32

7 الرعد 2             8 النازعات 5  

 

 

الْكِتَابَ }1 ‏وقوله تعالى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِيـنَ }9 { قُـلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَـلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ }10 اجمع بين هذه الآيات والروايات تجد سر ما ذكرنا لك واضحا ظاهرا بينا إنشاء الله .

 

      وأما إذا اتصل القوسان و اتحد القطبان في يوم القيامة يوم الفزع الأكبر وما بعده في الجنة فرد الأشياء كلها إلى الله وترجع إليه سبحانه إنا لله وإنا إليه راجعون فكل النسب تنتهي إليه سبحانه لا يسمع فيه صوت إلا صوتك ولا يرى فيه نور إلا نورك ، وفي هذه الدنيا كذلك إلا أنه لأهل الآخرة والأمر يومئذ لله لمن الملك اليوم لله للواحد القهار ولقد كشفت الأمر وأوضحت السر ولم يبق إلا التصريح وذلك ممنوع منه شرعا وإن كان عند من فتح الله نور بصيرته مصرحا مكشوفا والله ولي التوفيق .

_______________

1 الزمر 41                      2 الشعراء 193 - 194

3 البقرة 97

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام فلق الحبة

 

الحبة قد فسرت في تفسير أهل البيت عليهم السلام بالنطفة ويشهد له قوله عليه السلام (( وبرأ النسمة )) إلا أنها إنما تتحقق بفلق الحبة أي النطفة إلى العلقة وفلقها إلى المضغة وفلقها إلى العظام ثم اكتساء اللحم ثم إنشاء الخلق الآخر ثم الولادة الجسمانية ثم الولادة الدنياوية ثم الولادة الروحانية ثم الولادة العقلانية ثم الولادة البرزخية ثم الولادة الأخروية فهناك تتم الخلقة وتبرأ النسمة على أكمل ما يمكن في حقه ، ثم لا تزال تترقى من نوع ما هي عليه إلى ما لا نهاية له ، والحبة هي فاطمة الصديقة الطاهرة عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها آلاف الثناء والتحية قد انفلقت منها النسمات النورية كما في قوله تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } يعني عليا عليـه السلام { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُـفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }1 أي كل إمام حكيم بعد إمام حكيم ، و إنما كانت حبة لأن الله عز وجل فطم محبيها ومحب محبيها ومحب محب محبيها من النار وقد قال مولانا الصادق عليه السلام في تفسير قوله عز

_____________

1 الدخان 3 - 4

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجل { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ }1 قال عليه السلام ما معناه (( إن الحبة هي فاطمة عليها السلاموالسنابل السبع هي الحسين وأولاده عليهم السلامقيل والحسن قال عليه السلامإن الحسن إمام مفترض الطاعة وليس من السنابل ))2 .

 

      يريد من السبعة تلك الحقائق المقدسة بحسب أسمائهم الشريفة فإنها تكون سبعة وهم الحسين عليه السلام وعلي ومحمد وجعفر وموسى والحسن والمهدي صاحب الزمان عليهم السلام ، وإنما كان الحسن عليه السلام ليس من السنابل إذ ليس له عقب يكون إماما فما تنبت من أصله من هو مثله ، وأما الإمام القائم عليه السلام فإنه من السنابل لأنه منتهية إليه التعلقات وانقطعت الإمامة عنده ، ومائة حبة هم الأولاد لكل واحد منهم عليهم السلام في الرجعة مائة ولد كلهم أولياء الله وخلفاؤه في أرضة ممتازون عن سائر الأولاد الألف بالعلم والمعرفة والمحبة وأمثالها ، وفالق الحب حينئذ هو مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالله أو قل هو الله سبحانه بعلي عليه السلام وكلا المعنيين واحد ، فيكون على هذا المعنى مؤدى قوله عليه السلام فيما بعد (( وحقي وعظمتي )) لكن أمره أمر الله وحكمه حكم الله وفعله فعل الله وقوله قول الله لا فرق بينه وبينه إلا أنه عبده وخلقه فتقه ورتقه بيده بدؤه وعوده إليه .

______________

1 البقرة 261

2 ذكر المصنف أعلى الله مقامه هذه الرواية بالمعنى ونحن نذكرها بالنص ففي تفسير العياشي 1/147 قال الصادق عليه السلام (( الحبة فاطمة والسبع السنابل سبعة من ولدها سابعهم قائمهم , قلت : الحسن , قال : الحسن إمام من الله مفترض الطاعة ولكن ليس من السنابل السبعة , أولهم الحسين وآخرهم القائم عليه السلام , قلت : فقولـه تعـالى ( في كل سنبلة مائة حبة ) , قال عليه السلام : يولد للرجل منهم في الكوفة مائة من صلبه وليس ذاكإلا هؤلاء السبعة )) .

       أو يراد بالحبة العقل الأول الكلي قد انفلق منه العالم كله لأن الموجودات المقيدة الظاهرة بالآثار والأحوال من العلويات والسفليات كلها إنما تحققت بإقباله وإدباره وهو في ذاته في كمال البساطة والتجرد لكنه لما تنزل إلى المقامات السفلية لحقته الأعراض والحدود والقيود فصار باللحوق كل حد وقيد منشأ أصل من أصول الموجودات كالنفس والطبيعة والمادة والمثال والجسم وغيرها وكل ذلك إنما انفلق من تلك الحبة ، فلما رجعت إلى عالمها عادت إلى بدئها من كونها حبة وبقيت الأصول الظاهرة والناشئنة منها كل أصل في مكانه ورتبته كالحبة إذا زرعتها فإنها تصير سنبلة ثم عادت إلى أصلها أي كونها حبة وبقيت السنبلة الناشئة منها في مكانها ومرتبتها في الوجود وذلك ظاهر ، وحقيقة الأمر في الحبة أنها هي المحبة ولذا اشتقت له الحبة لسر تلك المحبة الظاهرة السارية فيها فإن الله عز وجل قال في الحديث القدسي (( كنت كنـزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلـق لكي أعرف ))1فالمحبة هي علة الخلق وهي منشأ وجوده فهي أول ما خلق الله سبحانه فنظرها دائما إلى المحبوب لكن قد يحصل لها نظر إلى المحب وبذلك كانت حجابا كما قال مولانا الصادق عليه السلام (( إن المحبة حجاب بين المحب والمحبوب )) فبذلك الحجاب ناسبت لحوق الأعراض والحدود فهي في حد ذاتها ذات وجهين نظر الوحدة ونظر الكثرة ، فبالأولى بسيطة غير منفلقة وليس لها ضد لأنه جهة الكثرة ، وبالثانية تنفلق ويحصل لها الضد حين ميلها إلى الانفلاق وذلك الضد هو النوى قال تعالى { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى }2 فانفلق من الحب أو الحبة الهياكل النورانية المصوغة من القبضات الطيبة من أرض العليين وسمائها وهم النسمات الإلهية ، فانفلق منها العرش وهو قلب النسمة على حسب مقامها من الكلية والجزئية ، ثم الكرسي وهو صدرها في الكلي والجزئي , ثم زحل ثم وهو دماغها ، ثم المشتري وهو علمها ، ثم المريخ وهو وهمها ، ثم الشمس وهي وجودها ، ثم الزهرة وهي خيالها ، ثم عطارد وهو فكرها ، ثم القمر وهو حياتها ، ثم النار وهي مرتها الصفراء ، ثم الهواء

_________________

1 البحار 84/198                  2 الأنعام 95

وهو دمها ، ثم الماء وهو بلغمها ، ثم التراب وهو مرتها السوداء ، والمجموع جسدها ، فلما انفلقت منها هذه المراتب تمت كينونة النسمة ولذا أتى عليه السلام في مقام النسمة بقوله (( وبرأ النسمة )) فإن برأ هو الفعل المتعلق بإيجاد الصور والحدود كما أن خلق هو الفعل المتعلق بإحداث المواد وتلك الحدود هي الأطوار التي أشرنا إلى شيء منها وكلها إنما حصلت بانفلاق الحبة كما سمعت مجملا ، ولا تظهر تلك المراتب في القوس الصعودي تامة الحكم متميزة الآثار إلا بعد تسعة وأربعين مرتبة لأن الثلاثة عشر في أربعة دورات دورة العناصر ودورة النبات ودورة الحيوان ودورة الإنسان تبلغ ما ذكرنا فلما تمت هذه المراتب جعل الله سبحانه كل مرتبة مخزنا لفيض من الفيوضات العلوية وعلم من العلوم اللدنية حتى استكملت عند تلك النسمة أسرار الأكوان ومستجنات غيوب الإمكان وجميع مراتب الكمال والجلال والجمال والعظمة والإقبال والبهاء والنور وكلما يريد سبحانه من الخلق أن يعلموه عند توجههم إليه تعالى مما يلقى إليهم من بحر الصاد أو المداد من القطرات الواردة الواقعة على أراضي جهات القابليات والاستعدادات حتى يستوفي الأجل ويبلغ الأمل من الله المزيد كما قـال عز وجـل { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }1  .

 

      وأما النوى فقد انفلق منها مقابلات ما ذكرنا للنسمة الخبيثة والفطرة الملعونة فانفلق منها الثرى وهي وجهها الكلي في الكلي والجزئي في الجزئي ثم الطمطام وهو صدرها ثم أرض الشقاوة وهي دماغها ثم أرض الإلحاد وهي علمها المنكوس ثم أرض الطغيان وهي وهمها ثم أرض الشهوة وهي مادتها الخبيثة ثم أرض العادات وهي خيالها الميشوم ثم أرض الطبع وهي فكرها الملعون ثم أرض الممات وهي حياتها ثم كمثل الكلب وهو مرتها الصفراء ثم الريح العقيم وهي دمها ثم الماء المالح وهو بلغمها ثم الحجارة والحديد وهي مرتها السوداء والمجموع جسدهـا ، فلما انفقلـت منها هذه المـراتب تمت

__________________

1 ق 35

كينونتها وخبث نتنها وكثافتها ثم دارت أربعة دورات واستكملت لها المراتب الخبيثة والمقامات الملعونة فاستجمعت جميع الخبائث واستوعبت كل الرذائل وصارت تدعي الربوبية وتدعو إلى نفسها وهو قوله تعالى { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا * لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا}1 .

 

      وإنما ما ذكر النوى عليه السلام في هذا المقام واقتصر بذكر الحبة لبيان أنهم أي النسمات المنفلقة من النوى كلهم منسيون كما نسوا الله جل جلاله فلا يذكرون إلا بالتبع وبالكناية واللزوم لا بالتصريح والقصد إلا في مقام يقتضي التصريح لمصالح وحكم ، وذكر الحبة يستلزم ذكر النوى فاقتصر عليه السلام على الأشرف وترك الأخس .

 

      وفلق الحبة إشارة إلى سر الوجودات لأن الخلق كلهم بأجمعهم إنما تشعبوا وتطوروا و اختلفوا بعد اجتماعهم كلهم في حقيقة واحدة وهي المحبة التي بها أوجد الله الخلائق ، فالقسم بفالق الحب يستلزم القسم بالله الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء الإلهية والصفات كلها لأن كل شأن انفلق من تلك الحبة استدعى ظهور اسم من الأسماء الإلهية واليها إلإشارة في دعاء كل يوم من رجب (( لكل مسألة منك سمع حاضر وجواب عتيد )) والأشياء بكل أنحائها لا تستغني عن المدد .

 

      وأما حقيقة فالق الحب ومدلول هذه العبارة والمشار إليه بهذه الإشارة فاعلم أن لي كلاما في هذا الباب الجامع لهذا وأمثاله و أمليته على بعض الأحباب مشتمل على ما لا تحيط به العبارة ولا تدركه الإشارة أحب إن أورده في هذا المقام فابذل جهدك في معرفته فإنه تمام الأمر وجامع التوحيد وكل كلام غيره ساقط دونه وهو ( بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أن الذات هي هي لا يخرج منها شيء ولا يدخل فيها شيء ولا ينتسب إليها شيء لأن

_______________

1 النساء 117 - 118

النسبة تكييف وتحديد ولا يقترن معها شيء بجميع النسب والإضافات والقرانات إنما هي لظهوراتها ، وتلك الظهورات هي أمثالها الظاهرة وأشباحها المنفصلة لا فرق بينها وبينها إلا أنها عبادها وأمثالها و آياتها ، فالإشارات كلها تنتهي إلى تلك الظهورات ورتبتها متأخرة عن رتبة الذات فهي موضع الأشياء في مقام الإشارة ، فضمير المتكلم والمخاطب والغائب إنما ترجع إلى تلك الظهورات لا إلى صرف الذات ، فإذا قلت إذا تريد به الظاهر بالكلام وذلك الظاهر هو مثال الملقى في هوية الكلام ولما كان الخلق كلهم ظهورات أفعال الله سبحانـه وتجليات أسمائه كما قـال علي عليه السلام ب(( بل تجلى لها بها ))1وقـال مولانـا الصادق عليـه السلام (( إن الله تجلى لعباده بكلامه ))2 . كان ما ينتسب إليه سبحانه بأي نحو من الأنحاء سواء كان بالضمائر أو بالموصولات أو بالأسماء والأعلام أو بالإضافات على كل وجه فإنما هي في رتبة ذلك الظهور ، ولما كانت حقائق الخلق هي ذلك الظهور كانت مدلولات تلك الدوال هي تلك الحقائق بتجليه سبحانه فيها وتجليه سبحانه فيها على حسبها فما ينتسب إليه تعالى هو ما يناسب مقامها مما ينتسب إليها لا من حيث هي هي ، ولما كان الخلق المنتسب إلى الله تعالى على الحقيقة الأولية منحصرا في محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم كما قال تعالى إشارة إلى هذه الدقيقة في الباطن { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }2 وقال أيضا تعالى { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }3 كان ما ينتسب إلى الله سبحانه وارد أعلى تلك الحقيقة المقدسة الشريفة فعلى هذا فافهم معنى قوله تعالى { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }4 وقـوله تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }5 وقـوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَـوْقَكُمْ سَبْعَ

__________________

1 الاحتجاج 204            2 طه 41             3 طه 39

4 طه 14                     5 ق 38

 

 

طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}1 وأمثالها من الآيات في هذا الشأن وإليه الإشارة بقول مولانا الصادق عليه السلام (( نحن الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا ))2 وفي الزيارة (( السلام على اسم الله الرضي ووجه المضئ وجنبه العلي ))3 وقال الصادق عليه السلام في حديث طويل إلى أن قال عليه السلام (( وهو المسمى ونحن أسماؤه وهو المحتجب ونحن حجبه )) الحديث .

 

      فإذا عرفت هذه الدقيقة فاعلم أن النبي عليه السلام قال في جواب اليهودي إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم (( إن الله تبارك وتعالى أوحى إليّ أنّ فضلك على الأنبياء كفضلي و أنا رب العزة على كل الخلق )) والمشبه عين المشبه به فتكون نسبة الله على خلقه هي بعينها نسبة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائر الخلق ، فعلى هذا فاجر كلما ذكرنا فيما ينتسب إليه سبحانه وما يراد منه فيما ينتسب إلى الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم حرفا بحرف فإن الخلائق سواها كلها أشباح ظهوراتها وهياكل صفات كينوناتها ، والإشارات تنتهي إلى الصفات والعبارات تتعلق بالتعلقات وهي كلها دور تلك الحقيقة فتلاحظها فيها وتشاهدها معها فيما ينتسب إليها مما يناسب مقامها إلا من حيث مقامها وفي بعض الأحوال مما يناسب مقامها على ما فصلت لك سابقا ، فإذا فهمت هذا الذي ذكرت وأتقنته ظهر لك سر عجيب و أمر غريب فعلى ما ذكرت فاحمل قوله عليه السلام (( فو الذي فـلق الحبة )) وليس المراد منه ومن أمثاله إلا الله سبحانه وحده على جهة

_________________

1 المؤمنون 17                    2 البحار 25/4

3 البحار 97/305

 

 

 

 

 

الاستقلال لا يشاركه فيه أحد ولا يتخذ لنفسه وزيرا ولا عضدا { قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }1 { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ }2 فلا استقلال لشيء إلا لله سبحانه ولا فعل إلا فعله ولا حكم إلا حكمه ولا أمر إلا أمره فمن رام غير هذا المعنى مما ذكرنا ومما يسمع منا فقد كفر كفر الجاهلية الأولى ونحن إلى الله منه براء .

________________

1 الرعد 16

2 الواقعة 68 - 73

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام وتفرد بالجبروت والعظمة

 

      هذا الكلام متفرع ومترتب على الكلام السابق و إن لم نقل أن الواو للترتيب وإن كان الظاهر من ظواهر الأدلة الترتيب ويستفاد ذلك من بعض الروايات كما في التهذيب وغيره لأنه عليه السلاملما ذكر فالق الحبة لكنه على الجملة الفعلية لا الجملة الاسمية للإشارة إلى أن هذا المقام مقام الفعل العامل في الاسم وإن كان ذلك اسم الفاعل فهو العامل ولا يدخل عليه معمول وهو علي أبدا ولا يعلى عليه ، ولذ أتى عليه السلام بصيغة الماضي الذي هو المبني الذي لا يؤثر فيه العامل بخلاف الفعل المضارع فإن للعامل فيه تأثيرا ، وقد أشار لأهل الإشارة إلى تحقق المقامين وإن مقام الفعل أعلى من مقام اسم الفاعل وإن كان اسم الفاعل فيه ذكر المبدأ وحده لا سواه لكن ذلك حكاية الفعل للاسم عدم استقلالية نفسه فـالمقسم به في هذا المقام أعلى من المقسم به في مقام اسم الفاعل وإن كان كلاهما اسمين لله سبحانه و ورد التعبير بهما كما في قـوله تعالى { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْمَيِّتِ }1 ‏الآية ، وذلك كما تقول إن اسم الله الأعظم من سائر الأسماء فإذا قسمت باسم الله يكون أعظم بالنسبة إلى ما إذا أقسمت بالاسم الخالق  فافهم ، وقد عرفت أن الموجودات المكونة بل الممكنة إنما تحصلت ووجدت بانفلاق الحبة والنوى فلا موجود من الموجودات خارجا عن انفلاق الحبة إما بذاتها أو بعكسها فيكون فالق الحبة وبارئ النسمة حينئذ متفردا ومتوحدا بالجبروت والعظمة والقدرة والعزة والهيمنة والسلطنة والبهاء والقدرة والبسيطة والعطية وأمثالها من شئون الجلال والجمال والكمال والقدرة والقوة لأن بكلمته انزجر العمق الكبر وركدت البحار وخضعت الجبال ووجلت القلوب من مخافته واستسلمت الخلائق كلها ، فظهر لك أن الذي فلق الحبة وبرأ النسمة هو المتفرد بالجبروت والعظمة .

 

      أما الجبروت فهو الظهور الإلهي على جهة الهيمنة والاستيلاء والاقتدار الذي يقهر كل ما عداه ويبطل كل ما سواه وإليه الإشارة على ما في دعاء علي ابن الحسين عليه السلام (( وإن كل معبود مما دون عرشك إلى قرار أرضك السابعة السفلى باطل مضمحل ما عدا وجهك الكريم ))2 الدعاء ، وإنما عبر عن السوى بالمعبود لأن كل شيء يتوجه إليه القصد من دون الله سبحانه فهو معبود للمتوجه الناظر مع الله وهو قول الله تعالى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ

_______________

1 الأنعام 95

2 مصباح المتهجد 220

 

 

 

 

 

 

اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }1وقال الصادق عليه السلام (( من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ))2 وعلى هذا يكون الجبروت هو عالم العقول من جهة ظهوره تعالى فيه تحت الحجاب الأبيض الأعلى فهو أعلى مقامات الوجود المقيد ومبدؤه وأصله وذكر الشياء وظهور جهتيها إنما كان في هذا العالم مبدؤه لكن على جهة الاضمحلال والفناء والعدم ، فالواقف في ذلك المقام لا يجد للأشياء تحققا أصلا وإن كان يجد لها ذكرا لكنه على جهة البطلان ولا يجدها منشأ الأثر ، وذلك العالم منشأ العبادة والطاعة والسؤال والطلب من الله سبحانه رضاه ومجلى الاسم الأعظم الله وقبله لم تتحقق العبادة لعدم العابد وبعده أيضا كذلك لخفاء ظهور المعبود في نظر الواقف في ذلك المقام لشدة انجماد الواقف وفرط ظهور المعبود، وأما في عالم الجبروت يجد المعبود سبحانه أظهر من كل شيء بل ربما لا يجد معه شيء يكون منشأ للأثر فيخلص له التوجه والعبادة والخضوع والذله والفقر والمسكنة وإلى هذا المقام أشار مولانا وسيدنا سيد الشهداء عليه السلامفي الدعاء (( أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا ))3 وتوحيد أهل هذا العالم هو التوحيد الشهودي قد ظهر الحق لهم في قلوبهم وأخذ بمجامعها فلا يجدون غيره إلا باطلا فانيا وهناك تظهر لهم سر ( ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ومعه ) ، و إنما سمي هذا العالم بالجبروت لأنه عالم المعاني وعالم الإجمال والوحدة والبساطة ، والكثرات فيها مطوية مضمحلة كاضمحلال الصور والحدود التي للكتابة في المداد واضمحلال الصور الشخصية في الطبائع الكلية ، فلأهل ذلك العالم الذي هو المعاني البسيطة جبروت وهيمنة وتسلط على ما عداهم من الصور الشخصية

________________

1 الجاثية 23                    2 عيون أخبار الرضا 1/304

3 دعاء عرفة لمولانا الحسين عليه السلام

والحدود الرسمية والعقل من ذلك العالم ولذا كان مدركا للمعاني الكلية بذاتها وبذلك كان معصوما إذ ليس شيء عنده مستقل له تذوت غير الله سبحانه حتى يتوجه إليه ويلتذ به إذ التوجه إلى اللا شيء أو إلى الذي لا أصل له قبيح فيخلص حينئذ له التوجه إلى الله سبحانه ولذا قال عليه السلام (( العقل ما عبد به الرحمان و اكتسب به الجنان ))1فمن وقف في مقام العقل فهو لم يزل ينظر في الأشياء بنظر البطلان والاضمحلال ، ولذلك كان مصدرا للعبادة بدء عودا ، أما في القوس الصعودي بعد النزولي فلا يكلف بالعبادة إلا بعد البلوغ أي ظهور العقل واستقامة المزاج حتى يثبت الظهور فلا تكليف ظاهرا على المجنون ولا على الصبي ولا على السكران ولا على مغمى عليه ولا على النائم كل ذلك لعدم ظهور العقل الذي هو جهة البساطة والوحدة وبه يتمكن عن معرفة جبروت الله وعظمته وكبريائه فإن الله سبحانه واحد لا يتوجه إليه إلا من جهة الوحدة وإن كانت فيها كثرة الأسماء والصفات وجهات التعلقات لكنها مقهورة ومضمحلة عند سلطان الذات المسمى بتلك الأسماء وذلك منتهى غاية العابدين ، وأما العود إلى الصعود إلى نقطة العقل والتجاوز عنه إلى مقام الحقيقة والفؤاد والانقطاع عن جهة الإنية والاستعداد فهناك يظهر البسيط ويدخل المدينة على حين غفلة من أهلها ويتحد الرائي والمرئي والرؤية والشاهد والمشهود والشهود والعارف والمعروف والمعرفة والمحب والمحبوب والمحبة فتنقطع العبادة لفقدان الشعور والإنية والإدراك الذي هو مناطها وإذ ليس فليس لأن الشيء مركب من جهتين جهة من نفسه وجهة من ربه وبهما يترتب عليه الأحكام ويتميز في المقام ، وأما من جهة كل واحد من الجهتين فلا تميز ولا حكم ، وأما الجهة  التي هي من نفسه فهي ليست شيئا إذا نظر إليها مجردة عن الجهة التي من ربه وتشيؤها وتحققها وتذوتها إنما هوبالجهة التي من ربه وإن كانت تخالفها وتضادها في كلما لها لأنها ساجدة للشمس من دون الله ، وأما الجهة التي هي من ربه فليست فيها إلا صفة ظهور الرب سبحانه بأفعاله لا بذاته وتلك الصفة صفة رسم جعلها

_________________

1 الكافي 1/11

سبحانه في هويات الأشياء حتى يعرفوه بها وتلك الصفة مثال معرفته وهيكل توحيده فلا يفرض فيها جهة وجهة وحيث وحيث واعتبار وفرض وامتياز ومغايرة لأنها وأمثالها كلها من صفات المخلوقين وهو سبحانه منزه عن              كلها ، والصفة يجب أن تكون دالة على الموصوف وإلا لم تكن صفة فيجب تنزهها عن كل الصفات الاعتبارية الامتيازية من الذهنية والخارجية والنفس الأمرية ، والشيء ليس فيه إلا جهتان فإذا نظر إلى الجهة السفلى كان محتجبا عن الله سبحانه فإذا نظر في مخلوقيته وأثريته وتوجهه إلى القديم الخالق المؤثر فهناك مقام العقل الذي ذكرنا ومحل العبادة وموقعها ، وإذا تمحض في النظر إلى الجهة العليا التي فيها صفة التوحيد الإلهي الظاهر في العالم الخلقي لا القديم الأزلي فارتفع عنه التمييز والإشارة والعبادة والتوجه والخضوع والخشوع لأن كل ذلك على فرض تحقق الوجهيين وإذ ليس فليس فأين موضع العبادة ولا شعور ولا إحساس لأنه قد أطفأ السراج وقد طلع الصبح وهو قوله عليه السلام في تأويل { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }1 فإذا أتى اليقين الذي يقتضي رفع كل ما سوى الحق سبحانه ارتفعت العبادة لارتفاع شرطها الذي هو العقل والإدراك والشعور والتمييز وهو قـول مولانا علي عليـه السلام (( من عرف الحق لم يعبد الحق )) أي حين المعرفة التي أنست العارف نفسه وغيره ، و اعلم أن بعض أهل  الضلال من الصوفية خذلهم الله وأصلاهم نار جهنم حيث أعرضوا عن طاعة الله سبحانه وعبادته وعن حمل أعباء الأوامر والنواهي التكليفية وأرادوا أن يخرجوا عن ربقة الطاعة والعبادة والعبودية موّهوا على الناس وقالوا إن الشريعة التي فيها التكليف والأمر والنهي والوعد والزجر هي سلم وآلة للوصول إلى الحقيقة فإذا وصل الإنسان بالشريعة إلى الحقيقة بقطع الطريقة فلا يحتاج بعد ذلك إلى العبادة فتسقط عنه العبادات كلها والتكاليف بأسرها لأن المقصود من بالعبادة هو الوصول إلى باب الملك بحيث وصل الإنسان إلى مقام الجمع والوصل انقطعت عنه التكاليف وكلما

_____________________

1 الحجر 99

 

في الشرائع بأسرها وهو قوله تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }1 فتركوا بذلك التمويه الصلاة والصيام وسائر العبادات ولم يدروا لعنهم الله أن العبادة لم تسقط مع الشعور والإدراك ولا يمكن الوصول إلى جهة الظهور الإلهي في رتبة الخلق إلا بمحو الإشارات وسد أبواب المدارك والمشاعر والحواس كلها كما قـال أمير المؤمنين عليه السلام (( محوالموهوم وصحوالمعلوم )) و (( كشف سبحات الجلال من غير إشارة )) وإذا حصلت هذه الحالة لا يبقى للعارف سكون ولا قرار فيخر مغشيا عليه لأنه ساجد حينئذ تحت عرش ربه قد توضأ من صاد لصلاة الظهر و أتم صلاته وسجد وذلك بتعليم النبي حين قيل صلى الله عليه وآله وسلم له يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ادن من صاد وتوضأ لصلاة الظهر فيرتفع حينئذ الحس والإحساس والشعور والإدراك والحركة كما كان يتفق لمولانا وسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام كما روى عنه عليه السلام وكما وقع عن الصادق عليه السلام حيث كان في الصلاة وكرر ( إياك نعبد ) حتى وقع مخشيا عليه فلما

____________________

1 الحجر 99

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أفاق قال عليه السلام (( ما زلت أردد هذه الآية حتى سمعت من قائلها ))1 فحين الإغماء ارتفع التكليف إجماعا من المسلمين و أما بعدما أفاق فقد بعد فوجبت عليه العبادة ما دام حيا ، ولأنها ذكر المحبوب عند المهاجرة والوصول هو الاجتماع في مقام الظهور لا الذات البحت تعالى شأنها لأنها لا تجتمع مع شيء ولا تقترن بأحد وهو قول مولانا الصادق عليه السلام (( وإذا انجلى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبة فاستأنس في ظلال المحبوب وآثر المحبوب على ما سواه وباشر أوامره واجتنب نواهيه ))2 وهذا تأويل قوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}3 وقول مولانا علي عليه السلام (( من عرف الحق لم يعبد الحق )) لا ما يقول أولئك الضلال الذين بنوا أمرهم على مخالفة أئمة الهدى واستثقلوا عن العبادة { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ }4 .

 

      وبالجملة فالجبروت هو مقام العقل وعالم المعاني أول الموجودات المقيدة وكل العوالم والمراتب والمقامات عنده مضمحل فإنه باطل وهو محل الرجاء وسلب الخوف إذ لا يجد لنفسه تحققا حتى يخاف عليها ولذا قال مولانا الصادق عليه السلام (( وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل

__________________

1 مفتاح الفلاح 372                2 مصباح الشريعة 119

3 الحجر 99                         4 التوبة 38

 

 

 

 

 

 

 

 

وإذا تمكن من رؤية الفضل رجا وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب وإذا وفق للطلب وجد ))1 .

 

      والوجه الاخر لتسمية هذا العالم الجبروت أنه يجبر الكسر فإن المراتب التحتية والمقامات السفلية كلها متقومة به وموجدة منه وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام (( والعقل وسط الكل ))2 وذلك لأن العقل أول ما خلقه الله سبحانه وتعالى فلما خلقه واستنطقه وأودع عنده غيوب جميع الأشياء ومعاني الخلائق ثم قال له أقبل فأقبل فوجد بإقباله كل المراتب الإمكانية والذوات الخلقية بنسبة مقامها، ثم قال له أدبر فأدبر فظهر بظهوره كلما كان مخفيا في القوس النزولي من المراتب والمقامات والأحوال والدرجات فاستكملت الأشياء كلها بالعقل فهو متمم لنقصانها وجابر لكسرها .

 

      وأما العظمة فهي الظهور الإلهي في رتبة الإبداع الثاني كما كان الجبروت هو الظهور في عالم الاختراع الثاني ، وذلك الظهور الابتداعي إنما هو في عالم الملكوت أي عالم النفوس تحت عالم العقول فإنه عالم التشخص والتصور والتعين والاختلاف ، وذلك يورث العظمة الموجبة للخوف والخشية لأنه مقام العلم كما قال عز وجل { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }3 وقال سيد الساجدين عليه السلام (( لا علم إلا خشيتك ولا حلم إلا الإيمان    

________________

1 المستدرك 12/168

2 البحار 61/58

3 فاطر 28

 

 

 

 

 

بك ، ليس لمن لم يخشك علم ، ولا لمن لم يؤمن بك حكم ))1وهو مقام التصور والتمايز وظهور النور الغائب للمجموع الماحي بكل الكثرات ولذا وصف العلي بالعظيم في قوله تعالى { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }2 لأن مقام علي عليه السلام هو مقام النفس الكلية ولذا كان كتابا جامعا لكل رطب ويابس كما قال تعالى { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }3 { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }4 { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا }5 {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}6 وهو عليه السلام النبأ الموصوف بالعظمة كما في قـوله تعالى { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }7 وقوله تعالى { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}8 وهو اسم الرب العظيم في قوله تعالى { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }9 ولما كان الركوع في الصلاة ينبؤ عن مقامه عليه السلام كان الذكر العظيم ولذا اشتق له العظيم من العين المأخوذه من عين علي عليه السلام والظاء التي هي آخر مراتب الكثرات وآخر مرتبة المآت في الرقوم الحرفية للإشارة إلى أن المسمى في مقام الكثرة لا مقام الوحدة ثم الياء والميم المستنطقتان بالنون المشتق من النون في كن التي هي الابتداع الأول كما أن الكاف هي الاختراع الأول .

 

      وبالجملة فالله سبحانه هو المتفرد بالجبروت والعظمة لا سواه إذ كل شيء سواه خاضع له وخاشع له ينسب إليه ، وقد قلنا لك أن الجبروت والعظمة ليستا عين ذاته سبحانه وإنما هما رتبة خلق من مخلوقاته في مقام المعاني لا مقام البيان ، وقد دلت الأخبار وشهد به العقل المستنير أن أهل البيت عليهم السلام هم معاني الله سبحانه كما قال مولانا الباقر عليه السلام لجابر بن عبدالله (( يا جابر عليك بالبيان والمعاني قال وما البيان والمعاني قال

___________________

1 مصباح المتهجد 472           2 البقرة 255       3 الأنعام 59         4 يس 12                5 النبأ 29              6 الجاثية 29             7 النبأ 1 – 3                8 ص 67 – 68          9 الواقعة 74

قال علي عليه السلام أما البيان فهو أن تعرف أن الله سبحانه ليس كمثله شيء ولا تشرك به شيئا وأما المعاني فنحن معانيه ونحن جنبه ويده ولسانه وأمره وحكمه وعلمه وحقه إذا شئنا شاء الله ويريد الله ما نريد فنحن المثاني الذي أعطانا الله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ونحن وجه الله الذي يتقلب في الأرض بين أظهركم فمن عرفنا فإمامه اليقين ومن جهلنا فإمامه سجين ولو شئنا خرقنا الأرض وصعدنا السماء وإن إلينا إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم )) فإذا كانوا عليهم السلام هم معاني صفات الله سبحانه فهم نوره وعظمته وجبروته وبهاؤه وجماله وجلاله ورحمته ونعمته وقدرته ومشيئته وسائر المعاني ولا شك أن كل شيء خاضع لعظمته تعالى وخاشع لقدرته وجبروته وكبريائه كما في الزيارة (( طأطأ كل شريف لشرفكم وبخع كل متكبر لطاعتكم وخضع كل جبار لفضلكم وذل كل شيء لكم ))1وفي الدعاء (( وبعظمتك التي ملأت كل شيء ))2 وفي دعاء رجب (( فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت ))3 فهم العظمة التي ملأ الله بها السموات والأرض وكل الأشياء ذليلة لديهم لأنها تتوجه إلى الله تعالى بهم كما في الزيارة (( يسبح الله بأسمائه جميع خلقه ))4 وقالوا عليهم السلام كما تقدم (( نحن الأسماء الحسنى التي أمركم الله أن تدعوه بها )) وقال تعالى  { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ }5 والتسبيح لا يكون إلا بالأسماء وهي كلها مقهورة تحت هيمنة اسم الله وفي زيارة علي عليه السلام (( السلام على اسم الله الرضي ووجهه المضي ))6 فصحّ خضوع الأشياء لهم بجميع أحوالها وشئونها و أطوارها ومقتضياتها وسائر أحكامها والله سبحانه هو المتفرد بهذه العظمة والجبروت لأنهم لله سبحانه لا لسواه كما قال تعالى { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }7 وقال علي عليه السلام إشارة إلى كونه عظمة الله وتفرد الله

_______________

1 الزيارة الجامعة الكبيرة          2 دعاء كميل              

3 دعاء رجب لمولانا الحجة عجل الله فرجه    4 البحار 100/189 ح 12     5 الإسراء 44        6 البحار 97/305       7 طه 41

 

 

 

سبحانه بمالكيته (( أنا الذات أنا ذات الذوات أنا الذات في الـذوات للذوات )) فإذا راجعت الضمير إلى الذي فلق الحبة جاءت الاحتمالات التي ذكرناها في أطوار باطن باطن الباطن فراجع وتفهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام لقد سخر لي الرياح والهوام والطير

 

أتى عليه السلام باللام للتأكيد والتثبيت لأنها سر من أسرار علي عليه السلام واسم من أسمائه وقد قلنا سابقا أن اسمه عليه السلام هو اللام ولذا كان سير القمر ثلاثين يوما لكونه مثاله و آيته ودليله وشبحه قد ظهر وجهه فيه وهو المحو الذي في القمر ، وبـ ( قد ) للتحقيق لأن القاف من ظاهر علي عليه السلام والدال من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبهما تحققت الأكوان وظهرت الأعيان وثبت الزمان والمكان فما يشير إليهما بتلك الجهة يكون دالا على ذلك إما كون القاف من ظاهر علي عليه السلام لما ورد في تفسير { حم * عسق }1 أن حم هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلم علي عليه السلام كله في عسق ، فالعين إشارة إلى عقله عليه السلام والسين إلى صدره والقاف إلى جسده عليه السلام والعلوم كلها لا تخلو عن المراتب الثلاثة ، وإنما خصص القاف بالجسد لما ورد أن القاف جبل من زبرجدة خضراء عليه أكناف السماء وهو محيط بالدنيا كلها وخضرة السماء إنما هي من تلك الزبرجدة ، وذلك صفة الجسم لأن جسمه الشريف وإن كان من عالم الشهادة بالنسبة إلى مقامه ومرتبته وذلك عالم الكثرة المقتضية للبرودة واليبوسة المقتضيتين للسواد ولكنه ممتزج ومقترن بصفرة الروح وذلك مقتضى الخضرة مع أن الجبل يشار به إلى الجسد وظاهر الشيء لانجماد المقامات الروحانية فيه كالجبل ، ومن هذه الجهة كانت القاف يشار بها إلى التحقق والثبات وهو قول الخضر عليه السلام في مرثية مولانا أمير المؤمنين (( كنت

_______________

1 الشورى 1 _ 2

 

 

 

 

كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ))1، وأما الدال فإنها من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها هي الأصل في اسمه الشريف وما عداها كلها ظهوراتها وتفاصيل شئونها وأطوارها وأحوالها لأنها يشار بها إلى اجتماع الطبائع الأربع واعتدالها المقتضي للدوام والثبات والبقاء وللاستمرار فعند اجتماع القاف مع الدال تحصل الدلالة إلى غاية التحقيق والتثبيت ولذا كان ( قد ) حرف التحقيق والتأكيد فافهم .

 

      وأما الرياح فهي أقوات جنود الله سبحانه كما روى عنهم عليهم السلام في الفقيه عن علي بن رئاب عن أبي بصير قال (( سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرياح الأربع الشمال والجنوب والصبا والدبور وقلت له إن الناس يقولون إن الشمال من الجنة والجنوب من النار ، فقال عليه السلام : إن لله عز وجل جنودا من الريح يعذب بها من عصاه موكل بكل ريح منهن ملك مطاع فإذا أراد الله عز وجل أن يعذب قوما بعذاب أوحى الله إلى الملك الموكل بذلك النوع من الريح الذي يريد أن يعذبهم به فيأمر بها الملك فتهيج كما يهيج الأسد المغضب ولكل ريح منهن اسم أما تسمع لـقول الله عز

____________________

1 الفقيه 2/592

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجل { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }1وقـال عز وجل { الرِّيحَ الْعَقِيمَ }2 وقـال تعالى { فَـأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ }3 وما ذكر في الكتاب من الرياح التي يعذب بها من عصاه ، ولله عز وجل رياح رحمة لواقح ورياح تهيج السحاب فتسوق السحاب ورياح تحبس السحاب بين السماء والأرض ورياح تعصره فتمطره بإذن الله ورياح تفرق السحاب ورياح مما عد الله عز وجل في الكتاب ، فأما الرياح الأربع فإنها أسماء الملائكة الشمال والجنوب والصبا والدبور وعلى كل ريح منهن ملك موكل بها فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يهب شمالا أمر الملك الذي اسمه الشمال فهبط على البيت الحرام فقام على الركن اليماني فضرب بجناحيه فتفرقت ريح الشمال حيث يريد الله عز وجل في البر والبحر ، وإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يبعث الصبا أمر الملك الذي اسمه الصبا فهبط على البيت الحرام فقام على الركن اليماني فضرب بجناحيه فتفرقت ريح الصبا حيث يريد الله تعالى في البر والبحر ، وإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يبعث جنوبا أمر الملك الذي اسمه الجنوب فهبط على البيت الحرام فقام على الركن اليماني فضرب بجناحيه فتفرقت ريح الجنوب حيث يريد الله  في البر والبحر ، وإذا أراد الله عز وجل أن يبعث دبورا أمر الملك الذي اسمه الدبور فهبط على البيت الحرام فقام على الركن اليماني فضرب بجناحيه فتفرقت ريح الدبور

________________

1 القمر 19                  2 الذاريات 41

3 البقرة 266

 

 

 

 

 

 

 

حيث يريد الله تعالى في البر والبحر ))1 .

 

      وفيه عن الصادق عليه السلام (( نعم الريح الجنوب تكسر البرد عن المساكين وتلقح الشجر وتسيل الأودية ))2 .

 

      وفيه أيضا عن علي عليه السلام (( الرياح خمسة منها العقيم فنعوذ بالله من شرها ))3 .

 

      (( وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا هبت ريح صفراء أو حمراء أو سوداء تغير وجهه واصفر لونه وكان كالخائف الوجل حتى تنزل من السماء قطرة من مطر فيرجع إليه لونه ويقول جاءتكم بالرحمة ))4 .

 

      وروى عن الباقر عليه السلام (( وأما الريح العقيم ريح عذاب لا تلقح شيئا من الأرحام ولا شيئا من النبات وهي ريح تخرج من تحت الأرضين السبع وما خرجت منها ريح قط إلا على قوم عاد حين غضب الله        عليهم ))5 .

 

      وروي أنه تعالى لما أراد الله هلاك قوم نوح عليه السلام أرسل الريح العقيم فهبت عليهم فعقمت الأصلاب والأرحام فبقوا أربعين سنة لا يولد لهم مولود حتى أغرقهم الله لأن الأطفال لا ذنب لهم .

 

      في الفقيه عن كامل قال (( كنت مع أبي جعفر عليه السلام بالعريض فهبت ريح شديدة فجعل أبو جعفر عليه السلام يكبر ثم قال عليه السلام إن

_______________

1 الفقيه 1/545 _ 5462

2 ، 3 ، 4 المصدر السابق 547 _ 548

5 الكافي 8/92

 

 

التكبير يرد الريح ))1 .

 

      قـال عليه السلام (( ما بعث الله عز وجل ريحا إلا رحمة أو عذابا فإذا رأيتموها فقولوا اللهم إنا نسألك خيرها وخير ما أرسلت له ونعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت له وكبروا وارفعـوا أصواتكم بالتكبير فإنه يكسرها ))2 .

 

      وقـال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( لا تسبوا الرياح فإنها مأمورة ولا الجبـال ولا الساعات ولا الأيـام ولا الليالي فتأثموا ويرجع إليكم ))3 .

 

      في الاحتجاج في سؤال الزنديق عنه عليه السلام قال (( أخبرني ما جوهر الريح ، قال عليه السلام : الريح هواء إذا تحرك يسمى ريحا فإذا سكن يسمى هواء وبه قوام الدنيا ، ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن وذلك أن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير تبار ك الله

________________

1 ، 2 ، 3 الفقيه 1/544

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحسن الخالقين ))1 .

 

      وفيه أيضا عن علي بن يقطين أنه قال (( أمر أبو جعفر الدوانقي بيقطين أن يحفر له بئرا بقصر العبادي فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم يستنبط منها الماء فأخبر المهدي بذلك فقال له احفر أبدا حتى يستنبط الماء ولو أنفقت عليها جميع ما في بيت المال ، قال فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها فلم يزل في يحفر حتى ثقبوا ثقبا في أسفل الأرض فخرجت منه الريح قال فهالهم بذلك فأخبروا به أبا موسى فقال أنزلوني قال فأنزل وكان رأس البئر أربعين ذراعا في أربعين ذراعا فأجلس في شق محمل ودلي في البئر فلما صار في قعرها نظر إلى هول وسمع دوي الريح في أسفل ذلك فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم ثم دلي فيه رجلا في شق محمل فقال إيتوني بخبر هذا ما هو قال فنزلا في شق محمل فمكثا مليا ثم حركا الحبل فأصعدا فقال لهما ما رأيتما قالا أمرا عظيما رجالا ونساء وبيوتا وآنية ومتاعا كله ممسوخ من حجارة فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتفشى شبه الهباء ومنازل قائمة قال فكتب بذلك أبو موسى إلى المهدي فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى ابن جعفر عليه السلام يسأله أن يقدم عليه فقدم عليه فأخبره فبكى بكاء شديدا وقال عليه السلام يا أمير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم هؤلاء أصحاب الأحقاف قال فقال له

_______________

1 الاحتجاج 2/350

 

 

 

 

 

 

المهدي يا أبا الحسن وما الأحقاف قال الرمل ))1 .

 

      وفي حديث المفضل (( ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر وتسير السفن وترخى الأطعمة وتبرد الماء وتشب النار وتجفف الأشياء الندية وبالجملة أنها تحيي كل ما في الأرض فلولا الريح لذوي النبات ومات الحيوان وحمت الأشياء  وفسدت هيئة الأرض ))2

 

      في الكافي عن محمد بن عطبة قال جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السلام من أهل الشام من علمائهم فسأله عن مسائل وأجاب عليه السلام إلى أن قال        (( ولكن كان إذ لا شيء غيره وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إليه وخلق الريح من الماء ثم سلط الريح على الماء فشققتالريح متن الماء حتى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضا بيضاء نقية ليس فيها صدع ولا ثقب ولا صعود ولا هبوط ولا شجرة ثم طواها فوضعها فوق الماء ثم خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقية ليس فيها صدع ولا ثقب

_________________

1 الاحتجاج 2/388 _ 389

2 توحيد المضل 141 / - 142

 

 

 

 

 

 

 

وذلك قوله تعالى { السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } ))1.

 

      وفيه قال سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن السحاب أين يكون قال       (( يكون على شجر على كثيب على شاطئ البحر يأوي إليه فإذا أراد الله عز وجل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته ووكل به ملائكة يضربوه بالمخاريق وهو البرق ثم قرأ هذه الآية { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } ))2 الآية .

 

      وفي بعض الأخبار أن الله سبحانه أول ما خلقه الهواء وفي بعضها أنه عليه السلام سأل أين كان الله قبل خلق السموات والأرض قال عليه السلام (( كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ))3 .

 

      وفي أخبار أخر أن المؤمن حين موته تأتيه من الجنة رياح ريح سخية فتسخيه لبذل الروح وريح مشوقة تشوقه إلى لقاء الله والدار الآخرة وريح منسية تنسيه الدنيا وأحوالها وزخرفها وزبرجها .

_________________

1 الكافي 8/94 

2 الكافي 8/218

3 عوالي اللآلي 1/55

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فإذا سمعت هذه الأخبار فاعلم أنه قال الله عز وجل { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }1وقال تعالى { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ }2 { مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }3 وقال مولانا الرضا عليه السلام (( قد علم أولوا الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما ههنا ))4 فإذا كان كذلك فما تجد في العالم السفلي فاعلم يقينا أنه إنما هو تنزل من العالم العلوي فإن العالم السفلي هو ظهورات ووجوه وتفاصيل للعالم العلوي ، فإذا كان كذلك فالريح كان لها مادة وصورة مادتها الهوى وصورتها الحركة إلى الجهة المعينة فقبل الحركة هو هواء راكد وبعدها ريح ، والوجه في الحركة هو ازدياد الحرارة فإنها هي التي تهيج الأشياء وتحركها ولذا كانت الحركة مورثة للحرارة وهي دليل أن أصلها الحرارة وإلا لما كانت أثرها وتلك الحرارة من تأثير أشعة الكواكب وهي دائمة وليست الريح دائمة لأن الحرارة إذا لم يكن لها حامل يحفظها ويحفظ أثرها لم تظهر بآثارها وتأثيراتها وإن كانت موجودة ، مثاله الشمس فإنها إذا أشرقت على الجدار وسائر الأحجار والزجاجة لم تظهر من إشراقها حرارة مؤثرة ظاهرة بالإحراق والاشتعال ، وإذا أشرقت على البلور تظهر حرارتها بالآثار فتحرق وتشتعل وذلك لأن البلور فيه قوة جامعة تجمع نور الشمس وتحفظه فتؤثر الحرارة فيه وفيما يجاوره ، وكذلك الهواء فإنه من غاية لطافته لم يمسك نور الشمس وأشعة سائر الكواكب النارية فلم تتبين فيه حرارة فإذا كثف الهواء باختلاطه مع الأجزاء الهبائية الأرضية والأجزاء البخارية والأجزاء النارية المستجنة في الدخان فإذا كثرت تلك الأجزاء وقويت حفظت الحرارة الواقعة عليها وأمسكت فأثرت تأثيرها وتهيجت الأبخرة المختلطة بالهواء فتهيج الهواء وتحرك إلى جهة لكون تلك الأجزاء تميل ________________

1 الملك 3             2 القمر 50             3 لقمان 28

4 لم نقف على هذه الرواية بهذا اللفظ ولكن وجدنا ما يقرب منها ففي عيون أخبار الرضا 1/175 قال عليه السلام (( قد علم ذووا الألباب أن الاستدلال على هناك لا يكون إلا بما ههنا )) .

 

إلى جهة لقوة مناسبتها معها ، وتلك الحركة والحرارة تعين الأجزاء البخارية والدخانية والهبائية للحركة والميل إلى المبدأ بجهة خاصة فتشعب الأجزاء البخارية من جهة تلك الحركة فتحدث عن تشعبها شجرة لها غصون وأوراق فما دامت الحرارة قوية تتلطف تلك الأجزاء وتتفرق فكلما تصعد تضعف الحرارة وتقوى البرودة فيتبين الانجماد والخمود إلى أن وصلت إلى الكرة الزمهريرية فهناك البرد الكلي لعدم وصول انعكاس نور الشمس إليها فتنجمد تلك الأجزاء أي الأبخرة ، وأما الأجزاء الدخانية فلا لقوة حرارتها إلا إذا اكتسبت البرودة بغلبة توارد الأبخرة عليها وضعفت الحرارة المستجنة فيها فحينئذ تنجمد لا مطلقا فإذا انجمدت تلك الأجزاء وتحققت وتراكمت وأثقلت أنزل الله سبحانه المطر فوقع على الأرض فتنبت به النبات فصار غذاء للمواليد الثلاثة من الجماد والنبات والحيوان ، فلولا الريح لم يكن سحابا ولولا السحب لم يكن مطرا ولولا المطر لم يحصل شيء من المركبات الثلاثة وهو قوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }1 فالرياح كالروح للعالم لأن الهواء هو الروح لكونه مظهر اسم الله الحي وحركته سريانه في جميع الأقطار ولذا قال (( إنما سمي الروح روحا لأنه اشتق اسمه من الريح ))2 وفي بعض الروايات (( فإن روحه متعلقة بالريح والريح معلقة بالهواء ))3 ولذا رضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سليمان عليه السلام أن يحفظ الجان ابنه في كرة الهواء لا غيرها من الكرات معللا بأن عزرائيل يمكنه أن يصل إليها فلما ذكروا له الهواء سكت ورضي لأن الهواء طبيعتها الحياة وعزرائيل طبعه الموت فلا يلحقه أولا وبالذات إلا بأمور أخر فافهم .

 

      والإشارة إلى حقيقة الأمر للمؤمن الممتحن أن الهواء هو أمر الله المفعولي والأمر القدري الساري في ذرات الكائنات كلها لأن ما من الفاعل

___________________

1 الأعراف 57            2 الكافي 1/133             3 علل الشرائع 97

النار والهواء وما من المفعول القابل الأرض والماء وجهة ارتباط الفاعل للقابل هي المادة التي هي الهواء وأما الحرارة فلكونها وجه الفاعل وجهته وأما الرطوبة فلاتصالها بالقابل وامتزاجها به واختلاطها به بحيث صار مع القابل حقيقة واحدة والمادة في غاية البساطة فحين تعلقها بالصورة وميلها إليها تكونت الرياح فإن كانت تلك الصورة هي الصورة الطيبة كانت تلك الريح من نسيم الجنة تظهر في كل عالم وفي كل شأن وفي كل حال على حسبها ، فمنها ما هي مع التنزل أي الدنيا وهي الرياح اللواقح والرياح التي تثير السحاب وتنضج الثمار وتقوي الأشجار وتجري الأنهار وتهيج البحار لنمو الحيوانات البحرية ونشوئها ، ومنها ما هي حين الصعود الكلي وهي الرياح التي تأتي المؤمن عند موته كما مرت الإشارة إليها ، ومنها ما هي بعد الصعود الكلي كما في الجنة من الرياح الطيبة والنسمات البهية مما يطول الكلام بذكره ، ومنها ريح السكينة والوقار والإيمان والنور وأمثال ذلك ، وإن كانت الصورة هي الصورة الخبيثة تظهر الرياح على مقتضى الحكم الوضعي على حسبها فتكون ريح العذاب وحكمها حينئذ حكم الملائكة التذين يعذب الله بهم أهل النار ، وكما أن الشيء لا يمد بالنور والعطاء إلا منه وله وإليه فلا يعطي الشيء ما هو خارج عن جنسه وكذلك لا يمد بالظلمة والخذلان ومما يقتضيان في كل عالم من الآثار المتربة عليهما فيه أي في ذلك العالم وإليه الإشارة بقول علي عليه السلام (( إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها ))1وأول ذكر الشيء حقيقة فلا يتعداها شيء والأحكام التفصيلية الواردة على الشيء كلها إنما نشأ من حقيقته لأن التفصيل من الإجمال والكثرة من الوحدة والفرع من الأصل ، والإجمال والوحدة والأصل هي حقيقة الشيء وهي محل النظر الرحماني ومطرح الفيض الإلهي ومورد الأمر والنهي والحكم ، فإن كان النظر إلى الشيء من الله عز وجل على جهة الرحمة يخلق الله سبحانه من نور تلك الحقيقة ملائكة من النور يحملون الفيض الوارد على تلك الحقيقة إلى سائر مقاماتـه ومراتب تفصيله ، فالملك إنما يأخذ منه

__________________

1 شرح النهج 13/72

ويوصل إليه ويبدأ منه ويعود إليه ، ولما كان كل شيء من الأشياء قد ملأ الكون والإمكان فكانت الملائكة الحاملون للفيض إليه كذلك قد ملأ الكون والإمكان له في كل مقام وكل عالم ملك يوصل الفيض منه إليه ، فملائكة كلية في المراتب المشتركة وملائكة جزئية في المقامات المختصة ، فملك النور يأخذ من تلك الحقيقة لب الشيء ويوصله إلى قشره بمقتضى ذلك القشر على حسب مقامه من الطمأنينة والراحة والعزة والعلم والمعرفة والنور البهاء والجلال والجمال ، وكل ملك حامل لاسم من الأسماء الإلهية وهم ملائكة الجنة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }1 ، وإن كان النظر إلى الشيء عن الله عز وجل على جهة الغضب يخلق الله سبحانه ملائكة من مادة نهي الله وصورة إعراض الشيء على مقتضى الإعراض على هيئات منكرة وصور هائلة مهولة يحملون ما ينزل الله عليه من أحكام الغضب الواردة على حقيقته فمنه يأخذون وإليه يؤدون بدؤهم منه وعدوهم إليه ، فالله سبحانه وتعالى يعذب بهم الذين منه بأنواع العذاب في الدنيا والآخرة في كل مقام وكل عالم بكل طور لأنه قد ملأ الأكوان والمكان بل الإمكان ، وكذلك بعينه حكم الريح فإنها هي حقيقة العالم في العالم الأول الأعلى المتعلقة بأطوار المتعينات والشئونات فإن كانت تلك الأحوال أحوال خبيثة خلاف ما أراد الله وأحبه تكون تلك الرياح رياح مظلمة عاصفة مهلكة على حسب جريانها بمقتضى ميولات تلك الطبائع الخبيثة الملعونة من الرياح التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز فعذب بها من استوجب عقوبة الله عز وجل من جهة العتو والاستكبار .

 

      وأما الرياح الأربع التي هي الدبور والصبا والجنوب والشمال فهي أول ظهورات الـريح المطلق التي قلنا أنها مادة الـوجود من حيث تـعلقها

_______________

1 فصلت 30 _ 31

بالمتعلقات وتعينها بالمشخصات فأول تعينها هذه الرياح الأربعة ، ولذا كانت أربعة وهي القطب التي يدور عليها ذرات الكائنات ولها ظاهر وباطن ، فمن ظاهرها يعذب الله سبحانه أهل الغضب ومن باطنها يرحم الله سبحانه أهل الفضل لأنها باب سور الفيض والرحمة ، فمنها ما ينقسم إلى أقطار الوجود وذراته وهي في العالم الجسماني نقول أنها بإزاء الكعبة التي بإزاء البيت المعمور التي بإزاء العرش الذي بازاء الملائكة العالين الذين بإزاء الكلمات الأربع التي بني عليها الإسلام وقام النظام وأول زوج تألف وأول ممكن تركب من زوجين وتلك هي الكلمات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، فالدبور ملك من جنود جبرائيل وهو لائذ بالبيت المعمور وحامل للركن الأسفل الأيسر من العرش وهو النور الأحمر الذي منه احمرت الحمرة وطبيعة الحرارة واليبوسة ولونه الحمرة وفعله الحل والفتك والفرق والتصعيد والتلطيف وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( أهلكت عاد بالدبور )) ، ومحل الملك في الركن الشامي وينبوع ظهوره في الركن اليماني وسعة إحاطة دائرته ربع العالم ومبدؤه نقطة الجنوب إلى مغيب الشمس وهو ضد الصبا ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (( نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور ))1وهذا الملك حامل ركن الخلق وموصل للحرارة واليبوسة اللتان هما أصل الإنشاء والإيجاد إلى الذرات الجسمانية عن الركن الأيسر الأسفل من البيت المعمور التي في السماء الرابعة وحامل ذلك الركن جبرائيل وهذا الملك لائذ بركن البيت الحرام الذي في مكة وأخذ عن جبرائيل هناك وينشر تلك الحرارة في أقطار العالم بجنوده وآلاته وجنوده الموصلة لتلك الحرارة إلى مكانها المقرر لها هي الريح أي ريح الدبور وهي منسوبة إلى ذلك الملك وإنما كان ذلك بواسطة الريح لنفوذها في جميع الذرات بقوة الحرارة واللطافة واللين ولا يناسب غيرها للنظم المحكم والأمر المتقن ، وإنما صار مظهر ذلك الملك ومكانه بجنوده وآلاته بين الجنوب والمغرب مع أن الظاهر والمعروف أن جهة المغرب مائلة إلى البرودة والرطوبة والمشرق إلى الحرارة واليبوسة وقد دلت بذلك فحوى بعض

___________________

1 البحار 11/363

الأخبار وقد صرح الأطباء بأن ريح الدبور والصبا معتدلتان ، أما بالذات فإن ماهيهتهما بين الشمال البارد واليابس وبين الجنوب الحار الرطب فتقتضيان الاعتدال أو باعتبار البلد فيقتضي ما قالوا وملاحظة بعض الأخبار وأن جنة الدنيا في المغرب وهي طبع الرحمة وهي الماء لقوله تعالى { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }1وقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }2 يقتضي ذلك بأن الريح التي تهب من ناحية المغرب باردة رطبة والتي تهب من ناحية المشرق حارة يابسة فيعكس الحكم في الصبا والدبور والجنوب .

 

      والجواب أما في الظاهر اعلم أن مهب ريح الدبور من نقطة الجنوب إلى المغرب والجنة خلف المغرب خلف جبل قاف من تلك الناحية وبين المقامين فرق واضح لأن الشمس إذا غربت يبرد وجه الأرض في الليل بطوله ولذا تجد نصف الليل أبرد من أوله وآخر الليل أبرد من نصفه مع قربه من الشمس وأول الصبح في كمال البرودة الإضافية فإذا طلعت الشمس وأشرقت على وجه الأرض فتلائم البرودة ولا تقوى الحرارة ، فهبوب الرياح من جهة المشرق مع الشمس يكون على مزاج الروح أي جوزهر فلك القمر مع أن هبوب الرياح في الأغلب مع الشمس ولذا قالوا أن الريح صبا تهب في أول النهار فيكون الغالب فيها البرودة لكنها مخلوطة بحرارة باطنية لتعدل برودتها كما ذكرنا في بعض مباحثاتنا في فلك الجوزهر ، والسر في وجوده وتقاطعه مع الشمس لتحقق الحياة مع أن البرودة وحدها طبع الموت والحرارة كذلك للفناء والإعدام فإذا اقترنتا وقويت البرودة والرطوبة فهناك تظهر الحياة وتنضج وتتصور وتتقدر ولذا كان ريح الصبا ريح طيبة وريح الحياة نصر الله سبحانه بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأدخل السكينة والطمأنينة بها في قلوب المؤمنين فطبعها يكونة حينئـذ باردا والرطوبة فيها ظاهرة والحرارة لها

__________________

1 الروم 50                2 الأعراف 57

حافظة فافهم ، وأما إذا تعالت الشمس وسخنت وجه الأرض ومكثت وحصل منه التسخين وذلك لا يكون في كمال الشدة إلا بعد زوال الشمس وأول دخولها في الحلقة ووصولها إلى تلك النقطة أي نقطة الجنوب فهناك تشتد الحرارة وتضعف البرودة فإذا هبت الرياح معها تكون في غاية الحرارة واليبوسة ، أما الحرارة فظاهرة وأما اليبوسة فلتجفيف الشمس رطوبات الأبخرة وبقاء الأدخنة المحترقة ولا أقل من الأجزاء الأرضية اليابسة ولذا يتفق البرق والصاعقة بعد الظهر لا قبله إلا نادرا لأسباب آخر ذلك إشارة تجفيف الأدخنة والأبخرة عن الرطوبات وبقاء الأجزاء الأرضية الهبائية يابسة سالمة عن المعارض فتحترق وتشتعل وتميل إلى المركز وتحرق من أراد الله أن تصيبه فتكون الرياح التي تهب بعد الزوال عن ناحية المغرب في غاية الحرارة واليبوسة فتكون ريح الدبور كما وصفنا لك حارة يابسة وأما نفس المغرب فلا شك أنه بارد وهو محل الجنة من جهة الكمال كما أشار إليـه عز وجل بقولـه { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ }1‏ أي الماء والطين والريح حكمها واعتبارها ليس من جهة ذاتها وإنما هو من جهة قراناتها وأوضاعها وإضافاتها مع غيرها مثل الشمس وكثرة البخار والدخان وقلتهما وكثرة أحدهما أو قلته وأمثال ذلك وإلا فهي في حد ذاتها حارة رطبة ولا يبعد القول بيبوستها بالإضافة فإن الهواء هو في نفسه حار رطب والريح هي الهواء المتحرك والحركة تحدث حرارة زائدة عما كان عليه وهي تجفف الرطوبات البخارية فيكون طبع الريح بالذات الحرارة واليبوسة الإضافية ، واختلاف طبائعها وأحوالها وألوانها وشدتها وضعفها إنما هي باعتبار قرانها مع الشمس والنار حقيقة كثرة الأبخرة والأدخنة وقلتهما أو أحدهما وسائر الأحوال، فإذا اعتبرت هذه فلا مناص القول بحرارة الدبور ويبوسة وبرودة الصبا ورطوبتها وذلك معلوم إنشاء الله .

 

      وأما قولهم أن الدبور والصبا معتدلتان لكونهما بين الشمال والجنوب فغلط لأن الاعتدال إنما يحصل بإتمام الطبائع واجتماعهما في المجموع والعالم

___________________

1 الكهف 86

رجل واحد تمامه بهذه الأرباع الأربعة فيجب أن يكون كل ربع على طبيعة حتى يحصل الاعتدال التام بقران الطبائع لا أنه يجعل بعضها في كمال القوة وبعضها متناسبة فإن ذلك ليس بفعل حكيم ولا جرى صنعة الإيجاد على ذلك ، فلو قال قائل أن الاعتدال التام في العالم إن يكون كل طبيعة على صرافة مزاجها وتأثيرها اقتضائها من غير أن تنكر  بطبيعة أخرى ويحصل للمجموع طبيعة خامسة يظهر منها آثار كل منها وذكر أدلة ما ذكرنا يطول به الكلام فلا يصح الحكم بالاعتدال لا بالنسبة إلى البلد ولا بالنسبة إلى الريح نفسه لأن الشمال إذا كان باردا يابسا والجنوب حارا رطبا وهما طبيعتان متضادتان فوجب أن يكون بينهما برزخا له جهتان به يحصل التلاؤم والاجتماع فوجب أن يكون بين الجنوب الشمال الدبور أي طبيعة النار لتكون بحرارتها تناسب الجنوب وبيبوستها تناسب الشمال وبين الشمال والجنوب يجب أن يكون الصبا لتكون ببرودتها تناسب الشمال وبرطوبتها تناسب الجنوب ويحصل التأليف من الاجتماع ، وأما ما ذكروا فهو خارج عن قانون الحكمة .

 

      والشمال ملك  من جنود عزرائيل مقره الركن الشامي وينبوعه الركن اليماني وركنه بإزاء الركن اليسر الأعلى من البيت المعمور وهو بإزاء الركن الأيسر الأعلى من العرش الذي حامله الروح على ملائكة الحجب من الملائكة الأربعة العالين الذين ما سجدوا لآدم عليه السلام النور الأخضر الذي منه اخضرت الخضرة وهو بإزاء كلمة لا إله إلا الله وطبعه البارد         اليابس ، وإنما خالف لونه طبعه لاختلاطه وامتزاجه بالنور الأصفر ولذا كان الشمال من اليمين ، فللشمال مقامان مقام في قوله عليه السلام (( قبض قبضة بيمينه وقبض قبضة بشماله وكلتا يديه يمين )) وهذا الشمال لونه الخضرة وطبيعته البرودة واليبوسة ظاهرا في الصورة ، وفي السر والباطن فيه الحرارة واليبوسة أو الرطوبة ومن هذا القبيل الملك الذي اسمه الشمال الموكل

 

 

 

بالرياح الشمالية ومقام في قوله تعالى { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ }1 وهذا الشمال هو بارد يابس طبيعته الموت ولونه السواد ورائحته منتنة وريحه قتالة وهي الصرصر وفعله الفيض والجمودة والتضرير والتثقيل وتهيج المرة السوداء وسعة إحاطة دائرته ربع العالم ومبدؤه الجدي إلى مغيب الشمس وهذا الملك هو حامل ركن الموت عن عزرائيل إلى أقطار الوجود بجنوده وأعوانه وآلته في هذا الحمل الهواء وركن الموت البرودة واليبوسة ولا يستقيم شيء من الأشياء إلا بها فهي من حيث هي ميت وموت وإذا أشرق عليها نور الحرارة والرطوبة وصلحت قابليته ببرازخ تحفظ وجودها حيت بإذن الله تعالى وإليه الإشارة بقوله عز وجل { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ

_______________

1 الحاقة 25

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }1 والأرض طبيعة الموت لأنها باردة يابسة ، قالوا أما الوجه في يبوسة هذه الريح فلأنها تجتاز إما على مياهه جامدة لا تنفصل عنها أبخرة يخالطها أو على البراري فلا يصبحها أبخرة مائية كثيرة لقلة الحرارة تلطف الأجزاء المائية وتجعلها بخارا وكثرة البرودة المانعة من ذلك ولأنها لا تجتاز على مياه سائلة ، وأما برودتها فلأنها تجتاز على جبال وبلاد باردة .

 

      والجنوب ملك من جنود إسرافيل مقره الركن العراقي وينبوعه الركن اليماني وهو بإزاء الركن الأيمن الأسفل من البيت المعمور وهو بإزاء الركن الأيمن الأسفل من العرش الذي حامله الروح من أمر الله من الملائكة الأربعة العالين وهو النور الأصفر الذي منه اصفرت الصفرة وهو بإزاء كلمة الحمد لله من الكلمات الأربع التي عليها مدار الإسلام والإيمان في الذوات والصفات وكل الجهات ، وطبيعته الحرارة والرطوبة ولونه الصفرة وفعله الحل والتعفين وإمساك الحياة ، وسيأتي إنشاء الله تفصيل أحوال هذه الرياح الأربع .

 

      وبالجملة هي العمدة في نظام العالم وبها يتسق الوجود وتظهر الأحكام المختلفة من ينبوع واحد روى القمي بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائـه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال (( إن الله تبارك وتعالى أراد أن يخلق خلقا بيده ثم ذكر ما قال الله للملائكة في أمر خلق آدم عليه السلام إلى أن قال عليه السلام فاغترف ربنا عز وجل غرفة بيمينه من الماء العذب الفرات وكلتا يديه يمين فصلصلها في كفه حتى جمدت فقال لها منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمة المهتدين والدعاة إلى الجنة وأتباعهم إلى يوم القيامة و أبالي ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون ، ثم اغترف غرفة أخرى من الماء المالح الأجاج فصلصلها في كفه فجمدت ثم قال لها منك أخلق الجبارين الفراعنة والعتاة وإخوان الشياطين والدعاة إلى النار إلى يوم القيامة و أشياعهم ولا أبالي ولا أسأل عما

________________

1 فصلت 39

أفعل وهم يسألون ، قال وشرطه في ذلك البداء ولم يشترط في أصحاب اليمين ، ثم خلط الماءين جميعا في كفه فصلصلها ثم كفهما قدام عرشه وهما سلالة من طين ثم أمر الله سبحانه الملائكة الأربعة الشمال والجنوب والصبا والدبور أن يجولوا على هذه السلالة من الطين فأمرءوها وأنشأوها ثم أنزوها وجزوها وفصلوها وأجروا فيها الطبائع الأربع الريح والدم والمرة والبلغم فجالت الملائكة عليها وهي الشمال والجنوب والصبا والدبور وأجروا فيها الطبائع الأربع الريح في الطبائع الأربع من البدن من ناحية الشمال والبلغم في الطبائع الأربع من ناحية الصبا والمرة في الطبائع الأربع من ناحية الدبور والدم في الطبائع الأربع من ناحية الجنوب ، قال فاستقلت النمسة وكمل البدن فلزمه من ناحية الريح حب النساء وطول الأمل والحرص ولزمه من ناحية البلغم حب الطعام والشراب والبر والحلم والرفق ولزمه من ناحية المرة الحب والغضب والسفه والشيطنة والتجبر والتمرد والعجلة ولزمه من ناحية الدم حب الفساد واللذات وركوب المحارم والشهوات قال أبوجعفر عليه السلاموجدناه هذا في كتاب علي عليه السلام ))1والحديث طويل .

 

      فبين عليه السلام أن استقلال النسمة وكمال البدن إنما هو بهذه الرياح الأربع ولما كان فعله سبحانه يجري على مجرى واحد وحكمه وأمره واحد فكان تمام العالم بها فكان تمام كل ذرة من ذرات الوجود بها لأن حكم الله سبحانـه في الكل هو حكمه في الجزء { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ }2 وكذلك الحكم في الظاهر والباطن فكانت حقيقة الريح وأصلها ومبدؤها في الوجود الأول الأمر المفعولي الذي به قوام السموات والأرض وكلما في الوجود المقيد وهو الهواء فيما ورد أن أول ما خلق الله الهواء فكان فانيا غائبا في ظهور نار المشيئة وساكنا غير متحرك لعدم ظهور الأثر الفاني في المؤثر عند المؤثر ومعه فلما ظهر مقتضى الاعتبار وهو إقبال القابليات بألسنة الطلبات وتـوجهها بلطائف ذاتياتها إلى أبواب استغنائها بالله سبحانه ، ولما

_______________

1 تفسير القمي 37 _ 41                  2 الملك 3

كان الهواء هو الباب علقته تلك اللطائف المعبر عنها بالأبخرة والأدخنة المتصاعدة من أرض الجرز وأرض الجواز وهي مذكورية الأشياء فيه وصلوحها لتعلقه بها بتقييده بها فتهيج الهواء بأمر الله سبحانه لسد فاقة أولئك الفقراء السائلون اللائذون بباب الله ومال إلى الجهة المستدعية لتلك الجهة العليا فتحرك فحدث منها الريح وأثارت السحاب فقطر منه المطر وهو الماء الذي به حياة كل شيء فسيق إلى الأرض الجرز والبلد الميت فعمرت حديقة الجنة التي أزلفت للمتقين ومن دخلها كان آمنا من المؤمنين فنبتت فيها أنواع الفواكه والثمار على أنحاء الأشجار وصاقورة تلك الجنان عرش الرحمن فكان أول من ذاق الباكورة في جنان الصاقورة روح القدس وهو خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل فاستمد منه الروح من أمر الله واستمدت منه النفس التي لا يعلم ما فيها عيسى عليه السلام و استمد منها الروح على ملائكة الحجب فتم بها العالون وهم السابقون السابقون أولئك المقربون وتم بها عرش الرحمن فاسمتد جبرائيل عليه السلام عن الروح على ملائكة الحجب وعزرائيل عن النفس التي لا يعلم ما فيها عيسى عليه السلام وإسرافيل عن الروح من أمر الله وميكائيل عن روح القدس فاستمد الدبور عن جبرائيل والشمال عن عزرائيل والجنوب عن إسرافيل والصبا عن ميكائيل فكانت المرة الصفراء عن الدبور والسوداء عن الشمال والدم عن الجنوب والبلغم عن الصبا ، فتم بها النظام وظهر أمر الله الملك العلام وكل هذه رياح ظاهرية وباطنية وغيبية وشهودية وعلوية وسفلية ونورانية وظلمانية وعلينية وسجينية ، وشرح أحوال كل واحد منها يطول به الكلام وسيأتي بها زيادة شرح إنشاء الله ، وكلها مسخرة للإمام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الطيبين عليهم السلام إلا أن له عليه السلام بالأصالة ولهم عليهم السلام بالبدليه والفرعية ويشير إلى هذا العموم والكلية قوله عليه السلام (( وسخر لي الرياح )) فأتى بالجمع المحلي باللام المفيدة للعموم للإشارة إلى الرياح مطلقا أي كلما يصح عليه إطلاق الريح على أي وجه يكون من الحقيقة أو الحقيقة بعد الحقيقة أو غير ذلك من بعض سائر الإطلاقات ، وما ورد في بعض الروايات أن سليمان عليه السلام أوتي له بثلاثة رياح أخذ اثنتين منها وترك الثالثة لعلي عليه السلام وبهذا المعنى أو قريب منه ورد في حق ذي القرنين وليس الآن ببالي أصل الحديث وذلك لا ينافي الكلية المدعاة في كلامه عليه السلام لأن كل واحد من سليمان عليه السلام أو ذي القرنين لما حكى ظهور وجه واحد من سلطنة علي عليه السلام سخر الله سبحانه له الريح حسب حكايته من ذلك الظهور ، ولما كانت الحكايه لم تكن كلية ما تحمل لتسخير تلك الرياح الصعبة الشديدة العاصفة البالغة حد الشدة فكان يتركها لصاحبها ولمربيها ويأخذ ما كان يتحمل من تلك الرياح لحكاية ظهور وجهه من سلطنة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فمنـه وصلت إليهما وإليه عاد ما ذهب عنهما وعن غيرها من الأنبياء والأولياء والملوك والسلاطين لأن الله عز وجل قـال { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }1 وليست هذه الولاية هي عين ذاته سبحانه وإنما هي آثار فعله وظهور سلطنته وقهاريته وقيوميته وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية مما ذكرنا ومما سيأتي أن عليا عليه السلام هو حامل ولاية الله الكبرى وصاحب الرئاسة العظمى فكانت الرياح كلها مسخرة له عليه السلام وقد علمت مما ذكرنا أن الأشياء كلها إنما تحققت وتأصلت بهذه الرياح فأثبت عليه السلام باللزوم أن كل شيء مسخر له فيأتي حينئذ تأويل قـوله تعالى {* وما من دآبـة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستـودعها }1 وهو عليه السلام يد الله الآخذة بناصية كل دابة وعلم الله الذي أحاط بكل البرية وإن أجريت الكلام على مقتضى ظاهر الظاهر يظهر صريح الأمر وقوله تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}2 والقدر هو علي عليه السلام والقبضة قبضته واليمين هو علي عليه السلام والتنزيه إنما هو عن وقوع الشركة فيه عليه السلامحيث قارنوه مع فلان وفلان وفلان ونسبوهم إلى الله سبحانه بأنهم أولياء الله وهم حزب الشيطان وأعداء الرحمن والله سبحانه منزه عن ذلك .

________________

1 هود 6                       2 الزمر 67

والحاصل أن الآيات والروايات وأدلة العقل منطبقة وناصة على أن عليا عليه السلام سخر له كل شيء كما خاطبه سبحانه وأولاده الطاهرين عليهم السلام في الباطن بقوله تعالى { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }1 ثم أنه سبحانه أجمل القول بعدما أشار إلى بعض التفصيل بقوله تعالى { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ }2 وقوله عليه السلام (( وسخر لي الرياح )) إشارة إلى باطن قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام حيث قال { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }3 ، فسليمان في الباطن هو أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي دعى ربه قبل الداعين وذكره قبل الذاكرين وسليمان النبي عليه السلام قد حكى عنه على مقداره من الحكاية فظهر فيه من سر تلك السلطنة تأمل في قوله عليه السلام في الزيارة (( ذكركم في الذاكرين )) أي ذكر الذاكرين لله هو ذكركم لله على أحد الوجوه المناسب لمقام الاستشهاد وهو قوله عليه السلام (( إن ذكر الخير كنتم أوله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه )) ولا شك أن دعاء سليمان عليه السلام خير وجب أن يكون علي عليه السلام أوله ومعدنه ومنتهاه فافهم .

 

      قال عليه السلام ‏{ رَبِّ اغْفِرْ لِي } أي لشيعتي لأنه الظاهر بالتكلم والخطاب والغيبة لأن المتكلم  هو عين ذات البحت { وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي } إذ لا بعده أحد ولا وراءه شيء وقد أحاط بالقبل والبعد فهو قبل القبل وبعد البعد حين لا قبل ولا بعد فطلب عنه سبحانه أن يملكه الدنيا والعقبى وما أحاط به العرش الأعلى بحقيقة ما هو أهله ولم يستأهل غيره عليه السلام لهذا الطلب أبدا ولذا قـال تعالى { لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ

___________________

1 إبراهيم 32 _ 33            2 إبراهيم 34           3 ص 35 _ 39

مِّنْ بَعْدِي } فلو كان غيره مستأهلا له لكان ينبغي له ولم يكن هذا المعنى متحققا في سليمان عليه السلام كما هو المعلوم فأجابه سبحانه لكونه دعاء وقع مستجمعا لجميع شرائط الإجابة من كمال الاستئهال وظهور الحكمة ووضع الشيء كما ينبغي على كمال ما ينبغي فقال سبحانه وتعالى مفرعا على دعائه عليه السلام { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ } وهذه هي الريح التي شقت بطن الماء أي البحر الأول الذي حصل من ذوبان الياقوتة الحمراء فموجت البحر وصعدت منه البخار والدخان وميزت عنه الزبد حتى خلق الله سبحانه بالبخار والدخان السموات السبع والعرش والكرسي والنار والهواء والماء والملائكة والجان ، وبالزبد الأرضين السبع والجبال والبحار والبراري والقفار وطبقات النار والشياطين الأشرار والبحر المظلم ونار السموم والريح العقيم والطغاة والسجين والثرى وما تحت الثرى وما لا يعلمه إلا الله ، وهي تجري بأمره رخاء حيث أصاب فجرت هذه الريح بأطوارها وأحوالها في كينونات حقائق أهل الدنيا والآخرة بأمره عليه السلام ولا يتعداه شيء من أحوال النّشأئين وغيرها من سائر عوالم الربوبية والعبودية ثم لما منّ الله سبحانه إياه عليه السلام بهذه العطية العظمى فوض إليه أمرها وجعل إليه عليه السلام حكمها فقال { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }‏ وعن كتاب منهج الـتحقيق إلى سواء الطريق عن سلمان الفارسي عليـه السلام قـال (( كنت أنا والحسن والحسين عليهم السلام ومحمد بن الحنفية ومحمد ابن أبي بكر وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود الكندي رضوان الله عليهم أجمعين ، فقال له ابنه الحسن عليه السلام : يا أمير المؤمنين إن سليمان بن داود عليه السلام سئل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ذلك فهل ملكت مما ملك سليمان بن داود شيئاً ، فقال عليه السلام : والذي فلق الحبة وبرء النسمة إن سليمان بن داود عليه السلام سئل الله عز وجل الملك فأعطاه وإن أباك ملك ما لم يملكه بعد جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد قبله ولا يملكه أحد بعده ، فقال الحسن عليه السلام : نريد أن ترينا مما فضلك الله عز وجل به من الكرامة ، فقال عليه السلام : أفعل إنشاء الله ، فقام أمير المؤمنين عليه السلام وتوضأ وصلى ركعتين ودعى الله عز وجل بدعوات لم نفهمها ثم أومأ بيده إلى جهة المغرب فما كان بأسرع من أن جاءت سحابة فوقفت على الدار وإلى جانبها سحابة أخرى فقال أمير المؤمنين عليه السلام أيتها السحابة اهبطي بإذن الله عز وجل فهبطت وهي تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنك خليفته ووصيه من شك فيك فقد هلك ومن تمسك بك سلك سبيل النجاة ، قال : ثم انبسطت السحابة إلى الأرض حتى كأنها بساط موضع ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام اجلسوا على الغمامة فجلسنا وأخذنا مواضعنا فأشار إلى السحابة الأخرى فهبطت وهي تقول كمقالة الأولى وجلس أمير المؤمنين عليه السلام عليها مفرداة ثم تكلم بكلام وأشار إليها بالمسير نحو المغرب وإذا بالريح قد دخلت تحت السحابتين فرفعتهما رفعاً رفيقاً فتأملت نحو أمير المؤمنين عليه السلام وإذا به على كرسي والنور يسطع من وجهه يكاد يخطف الأبصار ، فقال الحسن عليه السلام يا أمير المؤمنين عليه السلام إن سليمان بن داود كان مطاعاً بخاتمه وأمير المؤمنين عليه السلام بماذا يطاع ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام أنا عين الله في أرضه أنا لسان الله الناطق في خلقة أنا نور الله الذي لا يطفأ أنا باب الذي يؤتى منه وحجته على عباده ، ثم قال عليه السلام أتحبون أن أريكم خاتم سليمان بن داود عليه السلام ، قلنا نعم ، فأدخل يده في جيبه فأخرج خاتما من ذهب فصه من ياقوتة حمراء عليه مكتوب محمد وعليّ ، قال سلمان فتعجبنا من ذلك ، فقال عليه السلام من أيّ شيء تعجبون وما العجب من مثلي أنا أريكم اليوم ما لم تروه أبداً ، فقال الحسن عليه السلام أريد أن تريني يأجوج ومأجوج والسد الذي بيننا وبينهم ، فسارت الريح تحت السحابة فسمعنا لها دوّياً كدويّ الرّعد وعلت في الهواء وأمير المؤمنين عليه السلام يقدمنا حتى انتهينا إلى جبل شامخ في العلو وإذا شجرة جافة قد تساقطت أوراقها وجفت أغصانها ، فقال الحسن عليه السلام ما بال هذه الشجرة قد يبست ، فقال عليه السلام سَلها فإنها تجيبك ، فقال الحسن عليه السلام أيتها الشجرة ما بالك قد حدث بك ما نراه من الجفاف فلم تجبه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام بحقي عليك ألا ما أجبتيه ، قال الراوي والله لقد سمعتها وهي تقول لبيك لبيك يا وصي رسول الله وخليفته ، ثم قالت يا أبا محمد إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يجيؤني في كل ليلة وقت السحر ويصلي عندي ركعتين ويكثر من التسبيح فإذا فرغ من دعائه جاءته غمامة بيضاء ينفخ منها ريح المسك وعليها كرسي فيجلس فتسير به وكنت أعيش ببركته فانقطع عني منذ أربعين يوما فهذا سبب ما تراه مني ، فقام أمير المؤمنين عليه السلام فصلى ركعتين ومسح بكفه عليها فاخضرت وعادت إلى حالها ، وأمر الريح فسارت بنا فإذا نحن بملك يده بالمغرب والأخرى بالمشرق فلما نظر الملك إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون وأشهد أنك وصيه وخليفته حقاً وصدقاً ، فقلنا يا أمير المؤمنين من هذا الذي يده في المغرب والأخرى بالمشرق ، فقال عليه السلام هذا الملك الذي وكله الله عز وجل بظلمة الليل وضوء النهار ولا يزول إلى يوم القيامة وإن الله عز وجل جعل أمر الدنيا إلي وإن أعمال الخلق تعرض في كل يوم علي ثم ترفع إلى الله عز وجل ، ثم سرنا حتى وقفنا على سد يأجوج ومأجوج فقال أمير المؤمنين عليه السلام للريح اهبطي بنا مما يلي هذا الجبل وأشار بيده إلى جبل شامخ في العلو وهوجبل الخضر عليه السلام فنظرنا إلى السد وإذا ارتفاعه مد البصر وهو أسود كقطعة ليل دامس يخرج من أرجائه الدخان ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا أبا محمد أنا صاحب هذا الأمر على هؤلاء العبيد ، قال سلمان فرأيت أصنافا ثلاثة طول أحدهم مائة وعشرون ذراعا والثاني طول كل واحد سبعون ذراعا والثالث يفرش أحد أذنيه تحته والأخرى يلتحف بها ، ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أمر الريح فسارت بنا إلى جبل قاف فانتهينا إليه وإذا هو من زمردة خضراء وعليها ملك على صورة النسر فلما نظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال الملك السلام عليك يا وصي رسول الله وخليفته أتأذن لي في الكلام فرد عليه السلام وقال له إن شئت تكلم وإن شئت أخبرتك عما تسألني عنه فقال الملك بل تقول أنت يا أمير المؤمنين قال تريد أن آذن لك أن تزور الخضر عليه السلام قال نعم فقال عليه السلام قد أذنت لك فأسرع الملك بعد أن قال بسم الله الرحمن الرحيم فمشينا على الجبل هنيئة فإذا بالملك قد عاد إلى مكانه بعد زيارة الخضر عليه السلام ، فقال سلمان يا أمير المؤمنين رأيت الملك ما زار الخضر عليه السلام إلا حين أخذ إذنك ، فقال عليه السلام والذي رفع السماء بغير عمد لو أن أحدهم رام أن يزول من مكانه بقدر نفس واحد لما زال حتى آذن له وكذلك يصير حال ولدي الحسن عليه السلام وبعده الحسين عليه السلام وتسعة من ولد الحسين عليهم السلام وتاسعهم قائمهم عجل الله فرجه ، فقلنا ما اسم الملك الموكل بقاف فقال عليه السلام ترجائيل ، فقلنا يا أمير المؤمنين كيف تأتي كل ليلة إلى هذا الموضع وتعود فقال عليه السلام كما أتيت بكم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني لأملك من ملكوت السموات والأرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم إن اسم الله الأعظم على اثنين وسبعون حرفا وكان عند آصف ابن برخيا حرف واحد فتكلم به فخسف الله عز وجل الأرض ما بينه وبين عرش بلقيس حتى تناول السرير ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرف النظر وعندنا نحن والله اثنان وسبعون حرفا وحرف واحد عند الله عز وجل استأثره في علم الغيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عرفنا من عرفنا وأنكرنا من أنكرناه ، ثم قام عليه السلام وقمنا فإذا نحن بشباب في الجبل يصلي بين قبرين فقلنا يا أمير المؤمنين عليه السلام من هذا الشاب فقال عليه السلام صالح النبي عليه السلام وهذان القبران لأمه وأبيه و إنه يعبد الله بينهما فلما نظر إليه صالح لم يتمالك نفسه حتى بكى وأومأ بيده إلى أمير المؤمنين عليه السلام ثم أعادها إلى صدره وهو يبكي فوقف أمير المؤمنين عليه السلام عنده حتى فرغ من صلاته فقلنا له ما بكاؤك قال صالح إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يمر بي عند كل غداة فيجلس فتزاد عبادتي بنظري إليه فقطع ذلك منذ عشرة أيام فأقلقني ذلك فتعجبنا من ذلك ، فقال عليه السلام تريدون أن أريكم سليمان بن داود قلنا نعم فقام عليه السلام ونحن معه حتى دخل بستانا ما رأينا أحسن منه وفيه من جميع الفواكه والأعناب وأنهاره تجري والأطيار يتجاوبن على الأشجار فحين رأته الأطيار ترفرف حوله حتى توسطنا البستان وإذا بسرير عليه شاب ملقى على ظهره واضع يده على صدره فأخرج أمير المؤمنين عليه السلام الخاتم من جيبه وجعله في إصبع سليمان بن داود عليه السلام فنهض قائما قال السلام عليك يا أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين أنت والله الصديق الأكبر والفاروق الأعظم قد أفلح من تمسك بك وقد خاب وخسر من تخلف عنك وإني سألت الله عز وجل بكم أهل البيت فأعطيت ذلك الملك ، قال سلمان فلما سمعنا كلام سليمان بن داود عليه السلام لم أتمالك نفسي حتى وقعت على أقدام أمير المؤمنين عليه السلام أقبلها وحمدت الله عز وجل على جزيل عطائه بهدايته إلى ولاية أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وفعل أصحابي كما فعلت ، ثم سألت أمير المؤمنين عليه السلام ما وراء قاف قال عليه السلام وراءه ما لا يصل إليكم علمه فقلنا تعلم ذلك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام علمي بما وراءه كعلمي بحال هذه الدنيا وما فيها وإني الحفيظ الشهيد عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك الأوصياء من ولدي بعدي ، ثم قال عليه السلام إني لأعرف بطرق السموات من طرق الأرض نحن الاسم المخزون المكنون نحن الأسماء الحسنى التي إذا سئل الله عز وجل بها أجاب نحن الأسماء المكتوبة على العرش ولأجلنا خلق الله عز وجل السماء والأرض والعرش والكرسي والجنة والنار ومنا تعلمت الملائكة التسبيح والتقديس والتوحيد والتهليل والتكبير ونحن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه ، ثم قال عليه السلام أتريدون أن أريكم عجبا قلنا نعم قال غضوا أعينكم ففعلنا ثم قال افتحوها ففتحناها فإذا نحن بمدينة ما رأينا أكبر منها الأسواق فيها قائمة وفيها أناس ما رأينا أعظم من خلقهم على طول النخل قلنا يا أمير المؤمنين من هؤلاء قال عليه السلام بقية قوم عاد كفار لا يؤمنون بالله عز وجل أحببت أن أريكم إياهم وهذه المدينة وأهلها أريد أن أهلكم وهم لا يشعرون قلنا يا أمير المؤمنين تهلكهم بغير حجة قال لا بل بحجة عليهم فدنا وتراءى لهم فهموا أن يقتلوه ونحن نراهم وهم يرونا ثم تباعد عنهم ودنا منا ومسح بيده على صدورنا وأبداننا وتكلم بكلمات لم نفهمها وعاد إليهم ثانية حتى صار بإزائهم وصعق فيهم صعقة قال سلمان لقد ظننا أن الأرض قد انقلبت والسماء قد سقطت وأن الصواقع من فيه قد خرجت فلم يبق منهم في تلك الساعة أحد قلنا يا أمير المؤمنين ما صنع الله بهم قال عليه السلام هلكوا وصاروا كلهم إلى النار ، قلنا هذا معجز ما رأينا ولا سمعنا بمثله ، فقال عليه السلام أتريدون أن أريكم أعجب من ذلك فقلنا لا نطيق بأسرنا على احتمال شيء آخر فعلى من لا يتولاك ويؤمن بفضلك وعظيم قدرك على الله عز وجل لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والخلق أجمعين إلى يوم الدين ، ثم سألنا الرجوع إلى أوطاننا فقال عليه السلام أفعل ذلك إنشاء الله فأشار إلى السحابتين فدنتا منا فقال عليه السلام خذوا مواضعكم فجلسنا على سحابة وجلس عليه السلام على الأخرى وأمر الريح فحملتنا حتى صرنا في الجو ورأينا الأرض كالدرهم ثم حطتنا في دار أمير المؤمنين عليه السلام في أقل من طرف النظر وكان وصولنا إلى المدينة وقت الظهر والمؤذن يؤذن وكان خروجنا منها وقت علت الشمس فقلنا بالله العجب كنا في جبل قاف مسيرة خمسة سنين وعدنا في خمس ساعات من النهار فقال أمير المؤمنين عليه السلام لو إني أردت أن أجوب الدنيا بأسرها والسموات السبع وأرجع في أقل من الطرف لفعلت بما عندي من اسم الله الأعظم ، فقلنا يا أمير المؤمنين أنت والله الآية العظمى والمعجز الباهر بعد أخيك وابن عمك رسول الله ))1انتهى .

 

      وقد ذكرت الحديث بطوله لما فيه من ظهور بعض سلطنة أمير المؤمنين عليه السلام بتسخير الرياح له من الله عز وجل ويريد به أيضا بقوله (( سخر لي الرياح )) إثبات مقام نفسه في ذاته وفي الدعاء رب هب لي في نفسي وذلك في قوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ

___________________

1 البحار 27/33 _ 40

 

 

 

 

الثَّمَرَاتِ }1فالرحمة هي مقام النقطة وهي باطن الباطن في آخر مراتب السبعين والسبعة وهي السر المقنع بالسر ومقام الحقيقة المقدسة النبوية صلى الله عليه وآله وسلم والرياح هي مقام الألف والنفس الرحماني الأولي بفتح الفاء وباطن الباطن تحت الرتبة الأولى بدرجة والسر المستسر بالسر ومقام الحقيقة المقدسة العلوية عليه السلام والسحاب المزجى في قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا }‏2 وهي مقامات الحروف العاليات وسر السر وباطن الباطن وباطن الظاهر وحق الحق ومقام الحقيقة المقدسة المعصومية أي حقائق الأئمة الطاهرين عليهم السلام ، والسحاب الثقال والمتراكم الحامل للمطر والماء هو مقام الكلمة التامة ومقام الظاهر والسر والحق والسر المجلل بالسر ومقام الحقيقة المقدسة الفاطمية عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها آلاف الثناء والتحية ، فإذا تمت هذه الكلمة و ائتلفت هذه الفرقة استنطقت منها في عالم الألفاظ والأجسام كلمة كن فأشرق منها النور وهو المطر والوجود على الليل الديجور وهي ظلمة الإنية والماهية والأرض الجرز فظهرت الأشعة وتشعشت الذرات المشرقة وتكونت الكائنات وانبسط بساط الأرضين والسموات فضجت الأصوات إلى بارئ النسمات بأنواع اللغات ، فمبدأ هذه المكونات هو الريح كما في هذه الآية الشريفة وهي حقيقة الحياة وعين التحقيق والثبات ولذا اشتق منها الروح وقد

___________________

1 الأعراف 57

2 النور 43

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام (( الروح متعلقة بالريح وهي متعلقة بالهواء ))1فالهواء هو أصل الكون والوجود ولذا قال عليه السلام (( إن أول ما خلق الله الهواء )) وهو في مقام يظهر منه لا إله إلا الله إذا ما اعتبرت الهمزة الثانية وإذا اعتبرتها يظهر منه الأحد الذي هو سر الواحد الذي هو سر البسملة وإذا ما لاحظت الهمزتين جميعا يحكي من سر الهوية ولب الألوهية ولذا كان الاسم المتعلق بالهواء اسم الله الحي وبه تبين سر القيوم فكانا معا اسم الله الأعظم إلا أن سر القيوم في الحي وسر الحي في الهواء وسر الهواء في هو وسر هو في الهاء وهي سر الأسرار ونقطة الأكوار والأدوار وعليها دار الليل والنهار ، فالهواء هو الحري بأن يكون أول ما خلقه الله لأن طبعه طبع المصدر المفعول المطلق ومزاجه مزاج الرسالة وحقيقته عبارة عن الوساطة والريح أول ظهور هذا الهواء وحركته إلى جهة الشئون وهي المثيرة للسحاب والمهيجة للذوات لأخذ حظها من رب الأرباب والموصلة إلى كل ذرة نصيبها من الكتاب وهي ظاهرة بالتفصيل وبارزة بالتغيير والتبديل وصفتها صفة الولاية ومزاجها مزاج الهداية وطبعها طبع العناية ، فيكون الهواء هو أحرى بأن يكون أول ما خلق الله الروح وبها انفتقت الأجواء وعلقت الأرجاء وأضاء الضياء و أقيمت الأرض والسماء فبها الولاية الكبرى والسلطنة العظمى والرئاسة العليا ليس دونها مقام فانقطع عندها الكلام وهو قوله عليه السلام (( ظاهري ولاية وباطني غيب لا يدرك )) ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

      وأما سر الجمع في الرياح حينئذ فلبيان أن مقامه عليه السلام مقام الكثرة والامتياز والاختلاف الذي رجوع كل ذلك إلى الوحدة الحقيقية وكلها مطلوبة كالبستان المتضمن لأنواع الفواكه والأثمار والأشجار والأزهار وكذا الاختلافات الغير مطلوبة أيضا به نشأت وعنه تأصلت وتحققت كما مر في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطابا لعلي عليه السلام (( ما

_________________

1 تفسير القمي 2/249

 

اختلف في الله ولا فيّ و إنما الاختلاف فيك يا علي )) وقال تعالى { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }1قال عليه السلام (( ما لله آية هي أكبر مني وما لله نبأ هو أعظم مني ))2 وقـد تقدم ذلك مرارا .

_______________

1 النبإ 1 _ 3

2 تأويل الآيات 733

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام والهوامّ

 

      بتشديد الميم جمع هامّة وهي حشرات الأرض كالحية والعقارب والنملة والخنافس وأمثال ذلك ، وبتخفيفها الأسد كما في القاموس ، وأما الحشرات فهي التي لا نفس لها سائلة فهي المكونة من ظواهر قشور الحيوانات فصارت برزخا بين الحيوان والنبات إلا أن الغالب فيها الجهة الحيوانية ولذا جرت عليها أحكام الحيوانات من الحركة والمشي وطلب ما يسد فقرها من المآكل والمشارب وضبطها وحفظها وأحكام النباتات من امتزاج روحها بجسمها بحيث إذا قطعت نصفين يبقى كل نصف يتحرك زمانا طويلا كالشجرة إذا قطعت نصفها لا ييبس النصف الآخر على الفور بل ربما لا ييبس أصلا كما هو المحسوس الظاهر ، ولذا جرت الشريعة فيها على مقتضى ما في النبات ولذا لا تنجس موتاها ولا دمها كما في سائر الحيوانات ، والنخلة أيضا برزخ بين الحيوانات والنباتات إلا أن الغالب عليها الجهة النباتية وفيها عشر خصال من الحيوانية وهي المشهورة ، وإنما ضعفت خلقة تلك الحشرات وما نضج نبتها وما استحكمت قوامها وما جرت دماؤها لضعف الحرارة الغريزية التي بها التلطيف والتنضيج وكثرة الرطوبات الفضلية والكثافات المانعة عن ظهورها ونشوئها وكمالها وتلك الحرارة إنما تحصل بزيادة الحركة والسرعة والمبادرة للامتثال لقوله تعالى حين قال ألست بربكم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيكم وعلي والأئمة الأحد عشر من ولده وفاطمة الطاهرة الصديقة أولياؤكم فمن سارع في الامتثال وبادر في الجواب قويت حرارته الحاصلة من قوة تلك الحرارة وأزالت الأعراض الغريبية المفسدة الحاصلة من الميولات النفسانية والشهوات الجسدانية والالتفاتات الغيرية ، فإذا تراكمت هذه الأعراض بعضها على بعض ضعفت الحرارة لكون طبعها مضادة لطبعها فإذا ضعفت الحرارة ضعفت الطبيعة لأنها محلّها وينبوعها فإذا ضعفت الطبيعة لم تقدر على هضم ما يرد على البدن من الغذاء لأن ذلك لا يكون إلا بالتلطيف والتصعيد والتعفين والتعقيد والتقطير ورد الفضول ولا يكون ما ذكرنا إلا بالحرارة ، فإذا ضعفت القوة الهاضمة يمتنع البدن عن الغذاء الزائد والوارد عليه أيضا يكون فضولا لم يتحلل ولم يندفع فتكثر البرودة والرطوبة واليبوسة فتكون البنية ضعيفة تعجز عن حمل الأثقال وفعل الأعمال وربما تزيد البرودة إلى أن لا يبقى للحرارة الضعيفة محل فترتحل فتفسد البنية وتبطل الكينونة وفي الحديث أخبرني شيخي وثقتي أطال الله بقاه عن أحدهم عليه السلام ما معناه (( أن للمؤمن أربعين جنة فكلما يعصي تكشف جنة حتى تكشف الجنان كلها فتستره الملائكة بأجنحتها إلى أن يتبذخ بالمعصية فيأخذ في بعضنا أهل البيت )) فهذا هو الهلاك الأعظم والموت الأكبر والجنة الظاهرة على طبق الجنة الباطنة ، والحشرات لما ضعفت تلبيتهم لذلك النداء حين سمعوا المنادي من الناحية العليا ضعفت جثتهم وقلت قوتهم وصغرت كينونتهم وكذلك حكمهم حين أنكروا إذ لم يبلغ إنكارها إنكار الأقوياء العلماء في الرتبة العليا فمن لبى منها وآمنت بنبيها ووليها تضمنت نفعا تاما وما أنكر منها تضمن مضرة تامة ، ثم لما حصل بين الفريقين مزج واختلاط وألفة وارتباط اكتسب كل واحد عن الآخر ما عليه من المفسدة والمضرة بالعرض فصار النحل يخرج منها ما هو شفاء للناس وقوة للحرارة الغريزية وراحة للقلب وعضد للكبد وحياة للبدن كله ، وصارت العقرب يخرج منها سما قاتلا وهكذا قياس باقيها ، وكذا التي تنفع من جهة وتضر من جهة أخرى فإذا استجنت فيها تلك الخواض واستحكم عليها ذلك الأساس فهي من حيث نفسها محكومة عليها مطيعة أو عاصية معذبة أو منعمة ولكنها من حيث بارئها ومبدئها جند من جنوده عز وجل وخزينة من خزائنه يعذب بها من يشاء كما عذب قوم فرعون بالجراد والقمل والضفادع وينعم بها من يشاء كما ينعمون بالعسل عن النحل وبالجراد ويتغذون بها وأمثالهما من سائر الأجناس ، ولما كان التعذيب والتنعيم بها موقوفا بإرادة الله سبحانه وبعنايته الخاصة صارت هي واقفة بباب إذنه تعالى ولائذة بجناب قدسه لتمتثل أمره وتجري حكمه وتظهر ما أودعه في كل منها من الخاصية حسب قابليته وإجابتها لداعي ربها فيما أراد الله كما أراد الله كيف ما أراد الله سبحانه وقد دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية ، ولما كان الله سبحانه اقتضت حكمته وسبقت مشيئته أن يجري الأشياء بالوسائط وينزل الأحكام الوجودية والشرعية من الخزائن الغيبية وكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام هو صاحب تلك الخزائن وأصل تلك الوسائط لأن له الولاية الكبرى والرئاسة العظمى صارت الهوامّ مسخرة منقادة لأمره عليه السلام فكانت لا تنفع ولا تضر إلا بعنايته خاصة وبإذن خاص منه عليه السلام في ذلك الشيء وكذلك في جريانها في سائر أحوالها وتدبير أمورها في مآكلها ومشاربها كالنحل في رئاستها وفي تدبيرها لأحوال الرعية وفي كيفية خدمة الرعية لذلك الرئيس ، وكالنمل تسعى في إغذاء الذخيرة لنفسها لعلمها باحتياجها إلى الغذاء في المستقبل وعدم اقتدارها على تحصيله في ذلك الوقت وإنها إذا أحست بنداوة المكان فإنها تشق الحبة بنصفين لعلمها بأن الحبة لو بقيت سالمة ووصلت النداوة إليها لنبت منها وتفسد الحبة عليها أما صارت مشقوقة لم تنبت وإنها تشقها في الطول لا في العرض لعلمها بأنها تنبت إذا شقت في العرض وإذا وصلت النداوة إلى تلك الحبوب ثم طلعت الشمس فإنها تخرج تلك الأشياء من جحرها وتضعها حتى تجف فإذا كثرت وثقل الحب تجمع جماعة تستعين بها على نقله بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك الجد والتشمير ما ليس للناس مثله ثم لا تتخذ الدبيبة إلا في مقام من الأرض كي لا يفيض السيل فيغرقها .

 

      وكالليث الذي تسميه الناس العامة أسد الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمئن وغفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث يناله وثب ثم يثبت عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى ثم يقبل عليه فيفترسه .

 

      وكالعنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا ومصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه بلدغة سامة بعد ساعة فيعيش بذلك منه فذلك يحكي صيد الكلاب والفهود وهذا يحكي صيد الأشراك والحبائل وأمثالها من هذه الأحوال التي لا تحصى ، فهي في كل تلك الأحوال و إجراء ما فيها من المنافع والمضار تابعة وذليلة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وواقفة بباب إذنه روحي فداه ، فلا تعلمت هذه العلوم والأمور التي بها تجري في أمر معاشها إلا منه عليه السلام وهو الذي علم كل شيء ما يقيم به وجوده ويحفظ به غيبه وشهوده ، فقد علم كل شيء مما علمه الله تعالى وذلك التعليم إنما هو بفاضل ظهوره وشعاع نوره الذي هو عين ذلك الشيء ، فعلمه به وتعلم منه عليه السلام به فلا تلدغ العقرب ولا الحية ولا غيرهما شيئا من الأشياء إلا بإذنه الخاص ولا ينفع العسل من النحل ولا تأكل النحل من الثمرات ولا يلقى الشهد إلا بأمره عليه السلام وإليه الإشارة في باطن باطن التفسير أو في باطنه في قـوله تعالى { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } أي صاحبك ومربي ظهورك وأمتك وشيعتك أو مربيك في مقامات تفاصيلك كالملائكة الحفظة بالنسبة إليه عليه السلام وذلك الرب والمربي هو أمير المؤمنين عليه السلام كما كان الرب المتجلي لموسى على الجبل رجل من شيعته عليه السلام فافهم .

 

      { إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ } الآية وهو عليه السلام الذي أوحى إلى النحل وما أوحى من كيفية أكل الثمرات و اتخاذها البيوت المسدسات وترتيب أحوالها ترتيب السلطان لأحوال الرعية لبيان أن الحلاوة التي فيه شفاء للناس وهي روح الإيمان إنما تتلقى من المبدأ على هذا المنهج وقوله تعالى { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } وسبيل الرب هو علي عليه السلام وقد أمرت النحل أن تسلك في ذلك الأكل سبيل علي عليه السلام أي الطريق الذي جعله عليه السلام لها والصراط الذي فتق لها والحكم الذي أسس والأصل الذي أصل والبنيان الذي شيد لها وأوصل كل ذلك إليها بسر ذاتها وأبان لها بلسان ذاتها على هيكل استعدادها وهيئة قابلياتها حال كونها ذليلة له عليه السلام منقادة لأمره ونهيه لكونها مسخرة له مملكة إياه أو أن الله سبحانه أوحى إليها بلسانه وهو علي عليه السلام كما أوحى إلى موسى في الشجرة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وهي الشجرة العلوية عليه السلام كما قال عليه السلام (( أنا المكلم لموسى في الشجرة )) وهكذا الحكم في كل الحشرات بل كل الحيوانات في جميع أحوالها وأطوارها وسكناتها من أنواع الذرات بأنواع الهياكل والهيئات من الذوات والصفات في كل الحركات والسكنات فلا يموت منها شيء ولا يضعف ولا يفنى ولا يضمحل إلا بتقصيرها في ولايته عليه السلام وما أماتها إلا قهره عليه السلام بالله تبارك وتعالى ، وقد سخرت الهوام له عليه السلام كما سخرت الأشياء لله سبحانه بمعنى أن الأشياء مسخرة له تعالى في أماكنها ومقاماتها وقيّوميته سبحانه لها إنما هي بأثر فعله تعالى لا بنفس ذاته فهي تنتهي إلى ذلك الأثر لا إلى الذات البحت تبارك وتعالى ، ولما كان الأثر مضمحلا لديه وفانياً عند ظهوره سبحانه نسب إليه تعالى وإلا فهو تعالى منزّه عن الخلق ومن انتسابه إليهم وارتباطه لهم سبحان ربك رب العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين ، فالأشياء كلها منتسبة إليه تعالى لكنها منتهية إلى عللها وأسبابها ومقوّماتها الصدورية وكذلك نسبة تسخير الهوام وسائر الأشياء إلى مولانا علي عليه السلام فإنها مسخرّة لمبادئها وعللها وتلك المبادئ والعلل ظهور من ظهوراته عليه السلام ورشح من رشحات بحار أفضاله ولكن لما كانت تلك الوسائط فانية باطلة ومضّمحلة زائلة عند سطوع ظهوره وتشعشع بروز نوره عليه السلام نسبت إليه وإلا فهو منزّه عن انتهاء الهوام وسائر البهائم إليه عليه السلام فإن الهوام والبهائم تستمد من سر الملائكة المستمدين من الجن المستمدين من الإنس المستمدين من الأنبياء المستمدين من الصديقة الطاهرة المستمدة من الأئمة والعترة الطاهرة المستمدين من مولانا وسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام وسيد الوصيين على محمد وعليه وأولاده وزوجته الصديقة أفضل السلام وأزكى التحية ، وكل رتبة سفلى عند العليا معدومة في رتبتها ما سوى فاطمة  عليها السلام مع أولادها وبعلها ، فإذا كان كذلك فالتسخير للهوام إنما هوله عليه السلام بالبهائم والملائكة كما أن تسخير الأشياء لله تعالى إنما هو به وبظهورات أفعاله و آثاره عليه السلام ، ولك أن تجعل التسخير له عليه السلام لكن الذي ظهر للهوام والبهائم إذ كل شيء يعرفه وكل موجود يطلبه وكل لسان يدعوه وكل قلب يضمره وكل عين تراه وقال عليه السلام (( إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها ))1(( انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله الطريق مسدود والطلب مردود دليله آياته ووجوده إثباته )) وقد مر تفصيل هذا الإجمال وتفسير هذا الإبهام فافهم إن كنت تفهم وإلا فأسلم تسلم .

 

      وإنما اختار عليه السلام الهوام دون غيرها إشارة إلى ما هو بعيد عن الأفهام والأوهام فإن الناس ربما يتصورون طاعة الحيوانات من الجن والإنس والملائكة وسائر البهائم أيضا له لقوة إدراكهم ونورانيتهم و أما حشرات الأرض والنباتات والجمادات فمن جهة عدم قوة إدراكهم لا يتصوّرون كونهم مطيعين له لعدم شعورهم وقوتهم في النهوض ، فأشار عليه السلام إلى ذلك الفرد الخفي أن نسبة الهوام والطيور إليّ كنسبة سائر الحيوانات وكلها مسخرة لي منقادة لأمري ونهيي ، أو يكون وجه الاختصاص كثرتهم ووفورهم وكونهم أكثر من غيرهم من التي لها نفس سائلة ، وهذه الهوام قد ملأت وجه الأرض وكذلك الهواء المجاور للأرض والماء وتخلق كل ساعة ودقيقة وتتجدد خلقتهم لضعف بنيتها وكونها تتكون من الكثافات وما هذا شأنه لا حد له كثرة بخلاف سائر الحيوانات ، وهذه قاعدة مضبوطة كلما هو أنضج طبيعة وأصفى بنية أقل وجودا وظهورا في الذات بالنسبة إلى ما هو ليس كذلك ولذا قال عليه السلام كما روى بعض أصحابنا (( أن بني آدم بقدر عشر الجن والجن والإنس بقدر عشر حيوان البر والجميع بـقدر عشر

___________________

1 أعلام الدين 59

 

 

 

 

 

 

الطيور وكلها بقدر عشر حيوانات البحر ))1الحديث ، فجعل عليه السلام كلما هو أدنى أكثر ولاشك أن الحشرات أضعف وجودا وبنية عن كل الحيوانات وقد صرّح مولانا الصادق بذلك في حديث المفضّل إلى أن قال عليه السلام (( معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب وذلك إن هذه الضروب مبثوثة في الجولا يخلو منها موضع واعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذه الضروب شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل إنه يأتي من الصحاري والبراري قيل له كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد وكيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالـدّور فيـقصد إليـه مع أن هذه عيانـا تتهافـت عـلى السراج من

_______________

1 ورد ما يـقرب من ذلك كما في البحار 54/318 وهو قوله عليه السلام (( إن بني آدم عشر الجن والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر , وهؤلاء كلهم عشر الطيور , وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر ))

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قـرب ))1الحديث ، فأبان عليه السلام عن كمال جلال قدره وإظهار أن هذه الحشرات مع كثرتها ووفورها وتجددها في كل حين وآن بحيث ملأت الأقطار والأمصار كلها مسخرة له مطيعة لأمره ونهيه فلا تطير إلا بإذنه ولا تقع على شيء ولا تصيب شيئا إلا بإذنه عليه السلام كما تقدم فيكون تسخير غيرها من سائر الحيوانات بالطريق الأولى ، وقد روي أنه عليه السلام مرّ بواد وفيها نمل كثيرة وكان أبو ذر الغفاري معه عليه السلام فقال أبو ذر   (( عجبا لكثرة ما فيها من النمل جلّ محصيها قال عليه السلام لا تقل ذلك إني محصيها فعجب أبو ذر من ذلك فقال أنت محصيها فقال عليه السلام إي والله وكم فيها من ذكر وأنثى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )) .

 

      ويكون وجه الاختصاص أنه عليه السلام ذكر فيما قبل ما يشير به إلى أن الجن والإنس والملائكة مسخّرة له فقد ذكر الآن الرياح والهوام والطير فخص الرياح بالذكر لما ذكرنا من أنها الأصل والمبدء لحقائق الأشياء وذرات الكائنات ، ثم ذكر الهوام لأنها أول ما يتكون من إثارة الريح للسحاب الحامل للمطر النازل على الأرض في القوس الصعودي بعد القوس النزولي ولذا كثرت أجناسها وأنواعها لأنها تكونت من ظاهر القشور ومن الأوساخ والمواد الغير الناضجة وتتكون بأدنى سبب وعلّة وبخلاف غيرها من الأجساد والأجسام القوية المتكونة من المواد الناضجة والطبائع المؤتلفة ولذا تجد أهل الاعتدال قليلا بل ربما ما وجد إلا واحد وهو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولذا كان آخر الأنبياء وخاتمهم لأنه صفوهم ثم من بعده الأقرب إلى الاعتدال الأئمة الاثنى ا عشر عليهم السلام ثم من بعدهم فاطمة عليها السلام وهؤلاء الصفوة كلهم أربعة عشر وأصفاهم وأعدلهم و أنضجهم طينة وطوية واحد ثم من بعدهم الأنبياء عليهم السلام ولذا كثروا لكونهم قربوا إلى القشر والظاهر وإن كانوا عليهم السلام من الصفوة لكنهم معدودون لكونهم من اللب القليلين بالنسبة إلى غيرهم ثم من بعدهم الإنسان من الرعيـة فكثـروا ولم

_______________

1 توحيد المفضل 119

يدخلوا تحت حصر وعدّ لكونهم من القشور بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام ثم بعدهم الجن كثروا بالنسبة إلى الإنس وهكذا سائر المراتب ، ففي القوس الصعودي بعد النزولي أول ما يتكون الأكثف القشري ثم الأشرف اللبي ولهذا ذكر عليه السلام بعد الرياح التي هي العلة والأصل والمادة مطلقا لكنها حين نزولها إلى هذا العالم الجسماني الكثيف فأول ما يظهر منها والمتكون عند إثارتها السحاب بالدخان والبخار الهوام لأنها أضعف وجودا من كل المركبات بعد الجمادات والنباتات ثم بعد ذلك أردفها بالطير لأنها بعدها أي فوقها في القوة والشرف وللطافة فافهم .

 

      أو يكون المراد من الهوام الحيوانات أي البهائم مطلقا إما مجازا على مذاق أهل الظاهر أو من باب ظاهر الظاهر فتجعله جمع الهائمة أي التحير كما يقال رجل هائم وهيوم أي متحير ، وعلى هذا الوجه يعم البهائم كلها لأنها متحيّرات لا تعرف من معرفة الله ومعرفة الأئمة ومعرفة العلوم والأسرار والمعارف والحقائق والأنوار وسائر الأحوال فتدور في الأرض حائرة لا تفرّق بين الحق والباطل والجيد والردئ والأصل والفرع والنور والظلمة وأمثالها مما هو مناط حال المستبصر المستقيم المسترشد ، والمعنى في تسخيرها له عليه السلام هو ما أشرنا إلى نوعه في الهوام فإن الحيوانات إنما قويت واستحكمت قواها بالإضافة إلى الهوام لعظم مسارعتها وإقبالها وتوجهها لإمتثالها لقوله تعالى في الخلق الأول ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي وليكم وأولاده الطيبون وفاطمة الصديقة أولياؤكم فهم تقدّموا في الإجابة فقويت فيهم الحرارة الغريزية فحصل النضج والاعتدال الإضافي فتقووا فصار لهم القوة على غيرهم ، وإنما أشار إلى البهائم بضمير المذكر العاقل نظرا إلى مقامها في مقام الحقيقة بعد الحقيقة لأن كل واحد من المخلوقين له مقام في هذا المقام من الأعراض والصفات والنسب والروابط والحيثيات والذوات والحقائق ، ولذا تراه سبحانه يشير إليها في بعض المقامات بضمير المذكر العاقل كما في قولـه

 

 

تعـالى { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًـا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }1وقوله تعالى { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }2 وقول تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }3 وأمثالها من الآيات في القرآن كثيرة والسر في ذلك هو الذي ذكرنا لك أن كل شيء فيه وجه يحكي فيه الإنسان الكامل ووجه آخر يحكي فيه الإنسان الناقص وعند اجتماع الأمرين وعدم التمحض في أحدهما تأتي الحالات المتغيرة والمتبدلة والمعوجّة والمستقيمة فالبهائم بتلك الجهة العليا الوجه الإنساني سمعوا نداء إني أنا الله فأجابوا على ضعف منهم إما بالقبول أو الإنكار وسبب الضعف بعدهم عن نقطة النور أي قاعدة مخروطه وقربهم إلى قاعدة مخروط الظلمة فظهرت في ظاهر أحوالهم آثار ذلك المخروط ولما كانت الظلمة وجهها إلى الأسفل وتستمد من نفس النور من حيث هو هو ويسجدون للشمس من دون الله صار رأس أهل ذلك الوادي منكّس الرأس كما أخبر الله

________________

1 يوسف 4

2 النحل 48

3 الأنبياء 98 _ 99

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سبحانه عنهم { نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ }1ولما كان همهم أنفسهم وسعيهم فيما يرجع إلى أنفسهم صارت أيديهم ملصقة بالأرض متوجّهة إلى السجين ولما كان همهم بطنهم لا يبالون من الخبيث وليس همهم الامتياز بين الجيد والردئ صاروا يأكلون بفمهم أي يتناولون منه لا بأيديهم كالإنسان ومن على هيكله ، ولما كانت الحيوانات قربوا من هذه الطبقة غلبت إنيتهم فتصوّروا بهذه الصورة فصار المائز بين المقر منهم والمنكر طيب اللحم وزيادة المنفعة وعدمها ، فكل حيوان حلال اللحم وكثير المنفعة مؤمن آمن بالله ورسوله والأئمة الطاهرين عليهم السلام إما بالذات أو بالعرض فالحلية أيضا تتبع ذلك ، وكلما هو بالعكس فصارت سباعا نجس العين وغيره على اختلاف مراتبها في الإنكار لولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما أن الله عز وجل صرّح في كتابه العزيز أن كل دابة في الأرض وكل طير في الهواء أمة مثلنا وقال عز وجل { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }‏2 وقال أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين كما في قوله تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }‏3 فكلما في العالم أي ما سوى الله عز وجل فهو النذير له وصرّح في قوله تعالى بأن عليا خلقه من الماء فجعله نسبا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وصهرا وصرّّح أيضا بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض فنص واضحا صريحا بأن عليا عليه السلام هو الوصي والخليفة والقائم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصارت العوالم كلها ذوات شعور وإدراك كلها رعيّة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم لعلي عليه السلام ، ولا شك أن الرعية مسخّرة لنبيّهم بحيث يكون زمامهم بيده فلو أراد أن يفنيهم عن آخرهم لفعل ولا ينافي ذلك عصيانهم له وعدم إطاعتهم إياه لأن ذلك مهلة منهم لينالوا نصيبهم من الكتاب كما أن الله تعالى أمهل عصاة عبيده مع أن نواصيهم بيده وكذلك محمد وعلي عليهما السلام بالنسبة إلى رعاياهم وهم كلما في العالم إلا أنهم خلقت موادهم وهياكل أعيانهم من نورهما فلم يزالوا مقابلين لهما ومستمدّين عنها كمقابلة

________________

1 السجدة 12              2 فاطر 24              3 الفرقان 1

الصور المتكثّرة المنطبعة في المرايا الكثيرة المختلفة بالاعوجاج والاستقامة والإحمرار والصفرة للمقابل من الشمس أو غيرهما ، فالمقابل يمد كل شيء من المعوج والمستقيم على حسبه فلا تستغني عن المقابل أبدا وكذلك الظلال وهي كلها من النور والظل مسخّرة له ومنقادة لأمره ونهيه ، فالسباع إنما تقترض في كل وقت بإذن علي عليه السلام وأمره عليه السلام وكذلك غيرها من سائر الحيوانات لا تخطو خطوة ولا تلحظ لحظة ولا ترعى معشبا ولا تنقاد لأحد إلا بإذنه الخاص ، فالكلب مثلا لا ينبح أبدا إلا بإذنه ولا تأكل لقمة ولا لحمة ولا جيفة إلا بإذنه الخاص ولا تموت الأشياء إلا بإذنه ولا تحيى إلا بإذنه المخصوص في كل ذرة ذرة  وفي كل دفعة دفعة ولا تحرق النار ولا تحترق الخشبة مثلا ولا يصعد الدخان ولا يغلظ ولا يخفّ إلا بإذنه وأمره في كل دفعة وكل خرقة وهكذا الأحكام في كل جزئيات الوجود وكليّاته ، ولا تأخذ الحمى أحدا ولا تترك أحدا إلا بإذنه وأمره روحي فداه إن قلت لي من أين تقول هذه الأقوال قلت من قوله تعالى { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ }1أليس علي يد الله وقوله تعالى { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }‏2 وقد قالوا عليهم السلام (( إن إلينا إياب هذا الخلق ثم إن علينا حسابهم ))3 كما تقدم وفي دعاء سحر كل ليلة من شهر رمضان (( اللهم إني أسألك بقدرتك التي استطلت بها على كل شيء وكل شيء قدرتك مستطيلة اللهم إني أسألك بقدرتك كلها )) ولاشك أن هذه القدرة ليست عين الذات تبارك وتعالى إذ ليس فيها تشكيك وتكثّر وإنّما هي خلق ومن هو أشرف من علي عليه السلام وأخيه وأبنائه وزوجته الطاهرة حتى يكون محلا لهذه القدرة والله سبحانه يقول { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ }4 وقال سبحانه { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء }5 فاحذر أن تكون ممن تشملك هذه الآية ولا يشك أحد من

_________________

1 المؤمنون 88          2 يس 83                3 تفسير 551

4 الكهف 18          5 المائدة 64

الشيعة أن عليا عليه السلام يد الله فتكون مبسوطة وقد خلق الله سبحانه الخلق الأول قبل عالم الذر في خلق الحقائق بيده حيث ورد في الأخبار كما مر بعضها أنه سبحانه قبض قبضة بيمينه وقبض قبضة بشماله وكلتا يديه يمين واليمين هو علي عليه السلام لفظا ومعنى فإذا كان في الخلق الأول خلق حقائق الإنسان هو العلة والسبب ففي سائر أطواره وأحواله فبالطريق الأولى إذ ليس الإنسان في حال من الأحوال مستغنيا عن المدد ولا يأتي المدد إلا من الله سبحانه فما من الله فهو الباب الأعظم والصراط الأقوم .

 

      وبالجملة لا ينبغي للمؤمن الموحد أن يشك فيما ذكرنا وما نذكر إن شاء الله إذا كان موحدا ينزّه الله سبحانه من النقائص ويثبت له كمال الاستيلاء والقدرة ، فظهر لك مما ذكرنا كيفيّة تسخيره عليه السلام للحيوانات وتسخيرها له عليه السلام وهو في كل مقام محتاج إلى الله تعالى لا يستغني عنه طرفة عين كيف وإلا فيهلك {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1 .

 

      وأما الهوام في الباطن إشارة إلى المستضعفين الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا وروح الإيمان فيهم في غاية الضعف والقلة ولهم مقامات كثيرة حسب اختلاف مراتب الهوام إلا أن الحد الجامع هو الذي ذكرنا لك مما لا نفس له سائلة لضعف الحرارة الغريزية وكذلك هؤلاء المستضعفون بجمعهم عدم ذوقهم حلاوة الإيمان وهم مختلفون في القرب إليه والبعد منه اختلافا كثيرا .

 

      أو أنها إشارة إلى المخالفين فإنهم لما تكبّروا واستكبروا واستنكفوا عن طاعة الله سبحانه التي هي طاعة الإمام عليه السلامذلوّا وصغروا وضعفوا ولذا

__________________

1 الأنبياء 29

 

 

كثروا وقد قال الله عز وجل { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }1‏ وهذه الآية في القسم الأول من المستضعفين ، وقال سبحانه في هذا القسم { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}2 وقد أشار مولانا الباقر عليه السلام إلى هذا التأويل (( نحن وشيعتنا الناس والباقي غثاء )) وفي الحديث (( إن الله عز وجل يحشر المتكبر في القيامة على صورة الذر )) وهذا ظاهر إنشاء الله .

 

      ومعنى كونهم مسخّرين لأمير المؤمنين عليه السلام أنه يدبّرهم ويربّيهم حيث شاء الله سبحانه فيجري عليهم من المدد الظلمانية والطبع على قلوبهم وورود العذاب عليهم وقسوة قلوبهم وشدّة طغيانهم والإملاء والإمهال لهم ليزدادوا طغيانا وكفرا وهو قوله تعالى { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي

_______________

1 الفرقان 44

2 الأعراف 179

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }1وقد سمعت الكلام في الضمير المتكلم معه غيره في القرآن حيث ما ورد فلا نعود ولا نعيد يفهمه من كان من جنسنا وسائر الناس له منكرون وهو علي عليه السلام يقلّبهم بالله ذات الشمال ويسري بهم إلى كل واد سحيق ويمهّد لهم الأسباب وييسر لهم الأعمال ليصلوا إلى ما خلقوا له من العذاب الأليم والجحيم وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (( اعلموا فكل ميسّر لما خلق له ))2 وكل عامل لعلمه والفاعل لهذا التيسير هو الولي عليه السلام لأنه الذي ناصية كل شيء بيده بالله لأن يده يد الله وأمره أمر الله وحكمه حكم الله كما ذكرنا غير مرّة ، فصار إنكارهم لـه عليه السلام إنما هو به كما قال عز وجـل { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ }‏3 وقد قال عليه السلام في الدعاء (( لا الذي أحسن استغنى عن عونـك ورحمتك ولا الذي أساء و اجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك ))4 الدعاء ، ولاشك أن عليا عليه السلام هو القدرة التي استطال الله بها على كل شيء وهو العون والرحمة فكل شيء قاصد ومتوجّه إليه من مطيع حيث يحب الله ومن عاص حيث يكره الله ، وهو عليه السلام الباب والوجه والجناب إن هو إلا ذكر لأولي الألباب .

_______________

1 آل عمران 178            2 نهج الحق 120

3 العنكبوت 4                4 دعاء أبي حمزة الثمالي

 

 

 

 

 

 

 

 

قوله عليه السلام والطير

 

      وهو طير القدس في فضاء الأنس وهو طير واحد ظهرت الطيور كلها على هيئته وهيكله وحكى مثاله الطير الذي على ( صورة ديك أشهب براثنه في الأرضين السابعة السفلى وعرفهم مثني تحت العرش له جناحان جناح في المشرق وجناح في المغرب واحد من نار وآخر من ثلج فإذا حضر وقت الصلاة قام على براثنه ثم رفع عنقه من تحت العرش ثم صفق بجناحيه ثم تصفق الديوك في منازلكم فلا الذي من نار يذيب الثلج ولا الذي من الثلج يطفئ النار فينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم سيد النبيين وأشهد أن عليا عليه السلام سيد الوصيين وأن الله سبوح قدوس رب الملائكة والروح فتصفق الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه عن قوله وهو قوله تعالى { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ }1 )2 والذي أفهم أن هذا الطير واقف في وكره وهو على دوحة من دوحات شجرة طوبى التي هي في الجنة في بيت مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وتلك الدوحة قد حاذت دائرة نصف النهار التي تنصف العالم نصفين نصف في المشرق وآخر في المغرب ، فأحد الجناحين أحاط بالمشرق كله وهو الذي من النار ولذا كانت نار الدنيا في جهة المشرق ، والجناح الآخر أحاط بالمغرب كله وهو الذي من الثلج ورأسه على نقطة الجنوب وذنبه على نقطة الشمال وهو على تلك الدائرة ، وتصفيقه بالجناحين لمزج آثار تين الجهتين وهو المعبر عنه بالإيلاج في الليل والنهار ، ففي وقت صلاة الظهر أول التصفيق ومبدأ نشوء المزج وفي المشيئة ، ووقت صلاة العصر ثانيه

________________

1 النور 41

2 اقتبس المصنف هذه الكلمات عن الحديث المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في البحار 56/173 _ 174 حيث يقول سلام الله عليه (( إن الله ملكا في صورة الديك الأملح الأشهب . . . إلى أن ذكر الآية الشريفة )) 

وهو ظهور ذلك البدء والمزج في الإرادة ، ووقت صلاة المغرب ثالثه وهو ظهور الأثرين حين المزج وإن غلب أثر ظهور المغرب من البرودة الثلجية الحاصلة من الجناح الأيمن ، ووقت صلاة العشاء رابعه وهو تمام المزج واستيلاء الثلج ومغلوبية النار لا بالانطفاء لينافي قوله عليه السلام (( فلا الذي من الثلج يطفئ النار ))1وإنما هو بالخفاء وعدم الظهور وذلك لأن الخلق وقعوا في جانب الثلج من جناحه فإذا وقعوا في الجانب الآخر كان الأمر بالعكس وهو دائما يصفق على تلك الدائرة ويظهر الأثر للواقفين في كل ناحية مع صوت المنادي فافهم ، ووقت الصبح خامسه وهو أول المزج أي ظهوره من الناحية الثانية ، وإنما صارت أكثر الصلوات في هذه الناحية من جهة الجناح الذي من الثلج كالعصر والمغرب والعشاء بل الظهر أيضا لأن وقت الفريضة عند الزوال عن تلك النقطة وصلاة الصبح وإن كانت عند ظهور الناحية الأخرى من جانب النار إلا أنها عند ظهور الثانية الثلجية ولذا يتفق البرد وقت الصبح أكثر وأعظم من نصف الليل، وسر هذه اللطيفة صعب وبيانه مشكل بل يحتاج إلى تمهيد مقدمات كثيرة إلا أني أشير بالإجمال إلى نوع المقال .

 

      فنقول إن الوجه فيه أمران وهما مرادان .

      أحدهما : بيان أن التكليف بهذه الأعمال المعروفة على الهيئات المحفوظة إنما هو في هذه الدنيا إلى عند الوفاة وبعدها يرتفع ويكون التكليف نوعا آخر لأن مبدء الوجود الزوال فبعده من العصر إلى نصف الليل مقام النزول والبعد عن المبدء فوجب ذكره عند الحرمان من مشاهدته وبعد طلوع كمال مقام الصعود وأحوال الآخرة ونشأة الجنة إلى وصولها إلى النقطة الاعتدالية أي المتوسطة وهو مقام البلوغ إلى الرضوان ووصول الأشياء إلى أصلها وفناء المحب في محبوبه والطالب في مطلوبه ثم بعد الزوال خلق جديد فافهم الإشارة عن صريح العبارة .

___________________

1 الاحتجاج 1/228

      وثانيهما : أن بيان ذكر الله ونور الله في الجنة لأهلها في جهة المغرب ولذا كانت جنة الدنيا في تلك الجهة وكذلك الجزيرة الخضراء وقرية كرعة التي في وادي شمراخ وشمريخ في ناحية اليمن بين مكة والمدينة أيضا في تلك الجهة ، فكانت الخيرات كلها في تلك الجهة والصلاة هي أصل الخير والأعمال كلها فإن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها ، وأما نسيان ذكره تعالى والإعراض عنه والجهل والطغيان والاغترار بزخارف الدنيا ونضرتها إنما هي في النار وهي في جهة المشرق ولذا كانت حضرموت ووادي برهوت وبئر بلهوت كلها في المشرق ، فمن اغتر بطلوع الشمس ونورها وإشعاعها عند ظهورها في الأفق تعقبه ليل مظلم دامس مدلهم ، ومن نظر إلى زوالها واشتغل بذكر الله عند تنقلاتها من حالاتها وصبروا في الليل المظلم تعقبهم الشمس المضيئة عند الصباح تحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غلالات الكرى فافهم ضرب المثل وهو قوله تعالى إشارة إلى الأولين { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا }‏1 ، وقوله تعالى إشارة للآخرين { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ }2 ، وهذا الطير هو الملك الذي ينادي عند كل صلاة ( قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفئوها بصلاتكم ) فكل الطيور إنما هي من أطوار هذا الطير الأعظم والطير ورقاء المغرب وهي التي أشار إليها الشاعر في قوله :

 

       هبطت إلـيك من المحل الأرفع         ورقـاء ذات تـغرر وتمنع

       محجوبة عن كل مقلة عـارف         وهي التي سفرت ولم تتبرقع

 

      إلى آخر القصيدة وهي مشهورة ، وهذا الطير كلي وجزئي والكلي والجزئي شئون وأطوار له فافهم .

 

      فعلى هذا فكل الخلق طيور لهم جناحان جناح الخوف وهو من الثلج وجناح الرجا وهو من النار ، وجناح الولاية وهي من النار وجناح البراءة

___________________

1 الأحقاف 20                    2 الحاقة 24

وهو من الثلج ، وجناح الفقر وهو من الثلج وجناح الغنا وهو من النار ، وجناح الجهل والعجز وهو من الثلج وجناح العلم والقدرة وهو من النار ، فإذا كان الشيء طائرا إلى جهة المبدأ من حيث الظهور الكلي والاسم الأعظم كالتوجه إليه تعالى في مقام العبودية باسمه الله وهذا الطير يقتضي أن يكون على هيئة الإنسانية لأنها هيئة العبد  فرأسه ورقبته من لا إله إلا الله وصدره والترقوة والعضد من محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلبه وكبده واليدان من علي أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة والصديقة الطاهرة عليها السلام أولياء الله وباقي البدن كله من أوالي من والوا وأعادي من عادوا ، فلما كان توجهه كليا ظهر فيه سر الوحدة على أكمل ما ينبغي ، وإن كان طائرا إلى الجهة الخاصة من الأسماء الجزئية فذلك يقتضي أن يكون على هيئة هذا الطير المعروف ولذا كانت الملائكة طيورا لها أجنحة كما أخبر الحق سبحانه عنـهم { جَاعِلِ الْمَلَائِكَـةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَـةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }1فالرسالة والتوجه إلى المبدأ يقتضي أن يكون على هذه الهيئة المعروفة بخلاف المقام الذي يتحد فيه المقامان أي مقام المرسل والرسول والمرسل إليه كما في الإنسان ، والمرسل صفة لله فعلية ولا تتوهم من كلامي حينئذ ما يزعمه الجاهلون الملحدون تعالى الله مما يقولون علوا كبيرا .

 

      وريش الطير جهات ارتباطات المفيض بفيضه على المفاض عليه لا بذاته وتلك الروابط إذا تجسدت من عالم الغيب في عالم الشهادة ظهرت على صورة الريش ، ولذا كانت الملائكة تأتي إلى الأئمة عليهم السلام كان يقع من زغبهم أي فاضل ريشهم على فرشهم وبسطهم وكانوا يجمعونها ويجعلونها سجالا لأولادهم عليهم السلام .

 

      وبالجملة فذلك الطير الأعظم والعنقاء الأقدم مسخر لأمير المؤمنين عليه السلام ومطيع لأمره ونهيه فلا يرد ولا يصدر إلا بأمره وحكمه عليه السلام فإذاً كل الطيور مسخرون له عليه السلام ومنقادون لأمره ونهيه ، فمنه

________________

1 فاطر 1

عليه السلام تعلموا التسبيح والتهليل لله عز وجل إذ كل طير له ذكر خاص يدعو الله سبحانه به وكذلك سائر الحيوانات كما في الحديث عن الحسين بن علي عليه السلام كما في الخرائج الجرائح إنه عليه السلام قال (( إذا صاح النسر فإنه يقول يا بن آدم عش ما شئت فآخره الموت ، وإذا صاح البازي يقول يا عالم الخفيات ياكاشف البليات ، وإذا صاح الطاووس يقول مولاي ظلمت نفسي واغتررت بزينتي فاغفر لي ، وإذا الدراج يقول الرحمن على العرش استوى ، وإذ صاح الديك يقول من عرف الله لم ينس ذكره ، وإذا قرقت الدجاجة تقول يا إله الحق أنت الحق وقولك الحق يا الله يا حق ، وإذا صاح الباشق يقول آمنت بالله و اليوم الآخر ، وإذا صاح الحدأة يقول توكل على الله ترزق ، وإذا صاح العقاب يقول من أطاع الله لم يشق ، وإذا صاح الشاهين يقول سبحان الله حقا حقا ، وإذا صاحت البومة تقول البعد من الناس أنس ، وإذا صاح الغراب يقول يا رازق ابعث بالرزق الحلال ، وإذا صاح الكركي يقول اللهم احفظني من عدوي ، وإذا صاح اللقلق يقول من تخلى نن الناس نجى من أذاهم ، وإذا صاحت البطة تقول غفرانك يا الله غفرانك ، وإذا صاح الهدهد يقول ما أشقى من عصى الله ، وإذا صاح القمري يقول ياعالم السر والنجوى يا الله ، وإذا صاح الدبسي يقول أنت الله لا إله سواك يا الله ، وإذا صاح العقعق يقـول سبحان من لا يخفى عليه خافية ، وإذا صاح الببغاء يقول من ذكر ربه غفر ذنبه ، وإذا صاح العصفور يقول استغفر الله مما يسخط الله ، وإذا صاح البلبل يقول لا إله إلا الله حقا حقا , وإذا صاح القبجة تقول قرب الحق قرب ، وإذا صاحت السمانات تقول يا ابن آدم ما أغفلك عن الموت ، وإذا صاح السنوذنيق يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وآله خيرة الله ، وإذا صاحت الفاختة تقول يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد ، وإذا صاح الشقراق يقول مولاي اعتقني من النار ، وإذا صاحت القنبرة تقول مولاي تب على كل مذنب من المؤمنين ، وإذا صاح الورشان يقول إن لم تغفر ذنبي شقيت ، وإذا صاح الشفنين يقول لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإذا صاحت النعام تقول لا معبود سوى الله ، وإذا صاحت الخطافة فإنها تقرأ سورة الحمد وتقول يا قابل توبة التوابين يا الله لك الحمد ، وإذا صاحت الزراقة تقول لا إله إلا الله وحده ، وإذا صاح الحمل يقول كفا بالموت واعظا ، وإذا صاح الجدي يقول عاجلني الموت ثقل ذنبي ، و إذا صاح الأسد يقول أمر الله مهم مهم ، وإذا صاح الثور يقول مهلا مهلا يا ابن آدم أنت بين يدي من يرى ولا يرى وهو الله ، وإذا صاح الفيل يقول لا يغني عن الموت قوة ولا حيلة ، وإذا صاح الفهد يقول يا عزيز يا جبار يا متكبر يا الله ، وإذا صاح الجمل يقول سبحان مذل الجبارين سبحانه ، وإذا صهل الفرس يقول سبحان ربنا سبحانه ، وإذا صاح الذئب يقول ما حفظ الله فلن يضع أبدا ، وإذا صاح ابن آوى يقول الويل الويل الويل للمذنب المصر ، وإذا صاح الكلب يقول كفا بالمعاصي ذلا ، وإذا صاح الأرنب يقول لا تهلكني يا الله لك الحمد ، وإذا صاح الثعلب يقول الدنيا دار غرور ، وإذا صاح الغزال يقول نجني من الأذى ، وإذا صاح الكركدن يقول أغثني وإلا هلكت يا مولاي ، وإذا صاح الإيل يقول حسبي الله ونعم الوكيل حسبي ، وإذا صاح النمر يقول سبحان من تعزز بالقدرة سبحانه ، وإذا سبحت الحية تقول ما أشقى من عصاك يا رحمن ، و إذا سبحت العقرب تقول الشر شيء وحش ، ثم قال عليه السلام ما خلق الله من شيء إلا وله تسبيح يحمد به ربه ثم تلى هذه الآية { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }1 ))2 .

 

      وفي الاختصاص بسنده عن ابن عباس قال (( شهدنا مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم فإذا نحن بعدة من العجم فسلموا عليه فقالوا جئناك لنسألك عن ست خصال فإن أنت أخبرتنا آمنا وصدقنا وإلا كذبنا وجحدنا ، فقال علي عليه السلام سلوا متفقهين ولا تسألوا متعنتين ، قالوا أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله والحمار في نهيقه والدراج في صياحه والقنبرة في صفيرها والديك في نعيقة والضفدع في نفيقه ، فقال علي عليه السلام إذا التقى الجمعان ومشى الرجال إلى الرجال بالسيوف

___________________

1 الإسراء 44                   2 الخرائج والجرائح 1/248 _ 252

يرفع الفرس رأسه فيقول سبحان الملك القدوس ، ويقول الحمار في نهيقه اللهم العن العشارين ، ويـقول الديك في نعيقه بالأسحار اذكروا الله يا غافلين ، ويقول الضفدع في نقيقه سبحان المعبود في لجج البحار ، ويقول الدراج في صياحه الرحمن على العرش استوى ، وتقول القنبرة في صفيرها اللهم العن مبغضي آل محمد عليهم السلام , قال : فقالوا آمنا وصدقنا وما على وجه الأرض من هو أعلم منك ، فقال عليه السلام ألا أفيدكم ، قالوا بلا يا أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال عليه السلام إن للفرس في كل يوم ثلاث دعوات مستجابات يقول في أول نهاره اللهم وسع على سيدي الرزق ويقول في وسط النهار اللهم اجعلني أحب إلى سيدي من أهله وماله ويقول في آخر نهاره اللهم ارزق سيدي على ظهري الشهادة ))1 .

 

      وكل هذه الأذكار والتسبيحات إنما علمتها الطيور والحيوانات بتعليم محمد وآلـه السادات عليهم السلام لأنها تابعة لهم مطيعة لأمرهم ونهيهم وروى في الاختصاص بسنـده عن حمران عن علي بن الحسين عليـه السلام قال (( كان قاعدا في جماعة من أصحابه إذا جاءته ظبية فبصبصت عنده وضربت بيديها ، فقال أبو محمد عليه السلام أتدرون ما تقول هذه الظبية ، قالوا لا ، قال عليه السلام تزعم هذه الظبية أن فلان بن فلان رجل من قريش اصطاد خشفا لها في هذا اليوم وإنما جاءت أن أسأله أن يضع الخشف بين يديها فترضعه ، ثم قال أبو محمد عليه السلام لأصحابه قوموا بنا فقاموا بأجمعهم فأتوه فخرج إليهم فقال لأبي محمد عليه السلام فداك أبي و أمي ما جاء بك فقال : أسألك بحقي عليك إلا أخرجت إلي الخشف الذي اصطدتها اليوم ، فأخرجها فوضعها بين يدي أمها فأرضعتها ، فقال علي بن الحسين عليه السلام أسألك يا فلان لما وهبت لنا الخشف ، قال قد فعلت فأرسل الخشف مع الظبية فمضت الظبية فبصبصت وحركت ذنبها ، فقال علي بن الحسين عليه السلام تدرون ما قالت الظبية ، قالوا  لا ، قال قالت رد الله

_________________

1 الاختصاص 136

عليكم كل غائب لكم وغفر لعلي بن الحسين عليه السلام كما رد علي ولدي ))1 .

 

      وأيضا عن ابن الشيخ في مجلسه روى بسنده عن علي عليه السلام قال     (( مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظبية مربوطة بطنب فسطاط فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الله عز وجل لها من لسانها فكلمته فقالت يا رسول الله إني أم خشفين عطشانين وهذا ضرعي قد امتلأ لبنا فخلني حتى أنطلق فأرضعهما ثم أعود فتربطني كما كنت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف وأنت ربيطة قوم وصيدهم ، قالت بلى يا رسول الله أنا أجئ فتربطني كما كنت أنت بيدك ، فأخذ عليها موثقا من الله لتعودن وخلى سبيلها فلم تلبث إلا يسيرا حتى رجعت قد فرغت ما من ضرعها ، فربطها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت ، ثم سأل لمن هذا الصيد ، قالوا يا رسول الله هذه لبني فلان ، فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان الذي اقتنصها منهم منافقا فرجع عن نفاقه وحسن اسلامه فكلمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشتريها منه قال بلا أخلي سبيلها فداك أبي وأمي يا نبي الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أن البهائم يعلمون من الموت ما تعلمون أنتم ما أكلتم منها سمينا ))2 .

 

      وروي عن جابر قال (( خرجنا مع رسول صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة ذات الرقاع حتى إذا كنا بحرة واقم أقبل جمل يرفل حتى دنى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يرغو على هامته ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا الجمل يستعديني على صاحبه يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين حتى أجربه وأعجفه وكبر سنه أراد نحره ، اذهب ياجابر إلى صاحبه فأت به ، قال ما أعرفه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم إنه سيدلك عليه ، قال فخرج بين يدي منعقا حتى وقف بي مجلس بني حطمة ، فقلت أين رب هذا الجمل ، قالوا هذا لفلان بن فلان ، فجئته فقلت أجب رسول الله

________________

1 الاختصاص 297                    2 البحار 17/398

صلى الله عليه وآله وسلم فخرج معي حتى إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال إن جملك يزعم أنك حرثت عليه زمنا حتى إذا أجربته وأعجفته وكبر سنه أردت نحره ، قال والذي بعثك بالحق إن ذلك كذلك ، قال صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا جزاء المملوك الصالح ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم بعنيه قال نعم فابتاعه منه ثم أرسله صلى الله عليه وآله وسلم في الشجرة حتى نصب سنامه وكان إذا اعتل على بعض المهاجرين والأنصار من نواضحهم شيء أعطاه إياه فمكث كذلك زمنا ))1 .

 

      وعن عبدالله بن جعفر (( أن النبي دخل حائطا لبعض الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذرفت عيناه فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنامه فسكن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم من رب هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار ، فقال هو لي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه يشكو

__________________

1 البحار 61/111 _ 112

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لي إنك تجيعه وتذيبه ))1 .

 

      وأمثالها من الأخبار مما يدل على التجاء البهائم والحشرات به وبأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم وانقيادها لهم عليهم السلام كثيرة جازت العد والحد وهي مذكورة في الكتب المعدة لجمع أمثال هذه الأخبار وأنحاء هذه الالتجاءات إنما تعلموا من أمير المؤمنين عليه السلام ثم من أولاده الطيبين الطاهرين عليهم السلام وهكذا حكم جميع أطوارهم وأحوالهم كما ذكرنا غير مرة .

 

      وفي كتاب عبد الملك بن حكيم عن بشير النبال عن أبي عبد الله عليه السلام قال (( سهر داود عليه السلام ليلة يتلو الزبور فأعجبته عبادته فنادته ضفدع يا داود تعجبت من سهرك ليلة وإني لتحت هذه الصخرة منذ أربعين سنة ما جف لساني عن ذكر الله تعالى )) , وكان ذلك الضفدع يأخذ الذكر آنا فآنا من علي أمير المؤمنين عليه السلام لكونه وأشباهه وكل ما في الوجود المقيد مسخرا له ومنقادا لحكمه ، وهكذا حكم الأوجاع والأسقام والأمراض والهموم والغموم ما تصيب أحدا من الخلق إلا بإذنه عليه السلام وأمره كما في حديث عبدالله بن شداد وقد تقدم أن الحسين عليه السلام أتاه يعوده في مرضه فلما دخل عليه السلام عليه هربت الحمى وقال الرجل (( رضيت بكم أئمة فإن الحمى لتهرب عنكم فقعد عليه السلام فقال إن الله ما خلق خلقا إلا وقد أمره بالطاعة لنا ثم قال عليه السلام يا كباسة فسمعوا الصوت ولم يروا الشخص يقول لبيك فقال عليه السلام ألم يأمرك أمير المؤمنين عليه السلام أن

__________________

1 البحار 61/111

2 المستدرك 1/142

 

 

 

 

لا تقربي العدو أومذنبا لتكوني كفارة لذنوبه فما بال هذا الرجل ))1نقلت الحديث بالمعنى وفي هذا الدعاء عن النبي صلى الله عليه وآلـه وسلم للحمى (( يا أم ملدم إن كنتي آمنتي بالله فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم و انتقلي إلى من يزعم أن مع الله آلة أخرى فأني أشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له و أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله ))2 فإذا كانت الحمى والأوجاع قد آمنت بالله ودل الدليل العقلي والنقلي على أنه لم يؤمن أحد بالله إلا بواسطة أئمتنا عليهم السلام فكانت تلك الأمور كلها من المسخرات له عليه السلام وكذلك حكم الظلال والعكوس و أمثالها من التسخير والتدبير والإدراك والشعور وكذلك ، وما تجنه الضمائر وتكنه السرائر وسائر المتوهمات والمتخيلات والمتعلقات والمتعقلات كلها مسخرة له عليه السلام وانتقشت في الأذهان والنفوس بإذنه ولولاه لما انتقشت ولما     حصلت ، وإنما قبلت الانتقاش والانطباع لما وجدت من سر يكون المتحقق من كن المتحقق المتحصل من علي عليه السلام فهم من فهم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

________________

1 نقل المصنف أعلى الله مقامه هذا الحديث بالمعنى ونحن ننقلـه هنا بالنص تيمنـا وتبركا , روي في البحار 44/183 ح 8 عن زرارة بـن أعين قال (( سمعت أبـا عبد الله عليـه السلام يحدث عن آبائـه عليهم السلام أن مريضا شديدالجمى عاده الحسين عليه السلام فلما دخل من باب الدار طارت الحمى عن الرجل فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقا حقا والحمى تهرب عنكم , فقال له الحسين عليه السلام : والله ما خلق الله شيئا إلا وقد أمره بالطاعة لنا , قال فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول لبيك , قال : أليس أمير المؤمنين عليه السلام أمرك أن لا تقربي إلا عدوا أو مذنبا لكي تكوني كفارة لذنوبه فما بال هذا , فكان المريض عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي )) .

2 مصباح الكفعمي 161

 

قوله عليه السلام وروحي فداه

وعرضت عليّ الدنيا فأعرضت عنها أنا كاب الدنيا لوجهها

 

      لما أشار عليه السلام إلى المراد من قوله تعالى { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }1 بقوله عليـه السلام (( ولقد سخر لي )) ، فإذا سخرت له تلك الأمور التي هي عبارة عن جميع الوجود المقيد كما علمت فهو المتصرف فيها والآمر والناهي يحكم ما يشاء الله ويفعل ما يريد ولا يريد إلا ما أراد الله ولا يشاء إلا ما شاء الله ولا يشاء الله إلا ما يشاء ولا يريد سبحانه إلا ما يريد كما قالوا عليهم السلام (( إذا شئنا شاء الله ويريد الله ما نريد )) أراد عليه السلام أن يبين تنزه مقامه ومرتبته الشريفة عما ذكره سبحانه من جهة التحديد والتوعيد في آخر الآية المباركة بقوله عز وجل {* وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ

_______________

1 الأنبياء 26 _ 28

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1 ولما كان الجبر والظلم مما دلت الأدلة القطعية على بطلانه و امتناعه ولا يتحقق الاختيار التام إلا بعد تمكن العبد من الجهتين مخلى السرب مرفوع الموانع بحيث لا يحول بينه وبين ذلك إلا اختياره بالله سواء كان مع ذلك من الله أم لا ، ولما كان رفع الموانع لا يكون إلا بتمكين قابليته وتهيؤ المقبول قـال عليه السلام بعد الكلام السابق مرتبا عليه (( وعرضت علي الدنيا )) والعرض هو إيجاد المقبول وتمكين القابل للقبول ورفع الموانع الحائلة بين القابل والمقبول سواء كان المقبول نورا أو ظلمة خيرا أو شرا حقا أو باطلا ، وإن كان المقبول في الفيض الأول في المبدأ الأول لا يكون إلا الخير والحق ولكن المراد ههنا المواد الظلمانية بعد الامتياز من المواد الطيبة الطاهرة في أول مقام العقل الممتاز عن الجهل ، والدنيا حقيقة هو الظلم وهو طلب لذة وراحة قبل النضج أي نضج الطبيعة وفي غير أوانهما فالمريض لو أطعموه المأكل اللذيذ أسرع به إلى الفناء بل يمنوعه عنها ما دام المرض فلما طاب ووصل موقعها وآن أوانها وصحت البنية ونضجت الطبيعة أطعموها إياه ، فجميع مآرب أهل الدنيا وتوريطهم أنفسهم ورطات الهلاك كلها تدور إما طلبا للذة أو راحة يتعقبها بمحض الاحتمال لا على الواقع لأن ذلك موكـول إلى مشيئة الله عز وجل كما قال جل شأنه { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَـهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا

____________________

1 الأنبياء 29

 

 

 

 

 

 

 

مَّدْحُورًا }1 ، وقد فسرت الدنيا أيضا بما يشغلك عن فعل مستحب ومرجعه إلى ما ذكرنا إذ ليس المراد مطلق اللذة والراحة إذ العبد يجد لذة وراحة في طاعة الله سبحانه ما لا يعادله شيء من لذات الدنيا والآخرة ، وإنما المراد من اللذة بغير ذكر الله وطاعتـه وراحة ترفع التكليف كما قـال عليه السلام (( وأعوذ بك من كل لذة بغير ذكرك وكل راحة بغير أنسك ))2 وهو قوله تعالى { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ }3 فالدنيا هي الأمانة المعروضة على السموات والأرض والجبال فقال عز وجل { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }‏4 فالأمانة هي الدنيا وهي التي فسرت في بعض وجوه الباطن عنهم عليهم السلام أنها عداوة أمير المؤمنين عليه السلام والله سبحانه إنما عرضها على الخلق لما ذكرنا آنفا لئلا يكونوا في قبولهم لولايته عليه السلام مجبورين حتى تتم الحكمة وتنفذ المشيئة في ما أراد من خلق النار والجحيم والزقوم والحميم ، أما عرضها على سائر الخلق فمعروف وأما عرضها على أمير المؤمنين عليه السلام فلأن ولايته تقتضي كل خير ومعروف وهي أصل كل خير وعداوته تقتضي كل شر ومنكر وهي أصل كل شر فلا يمكن أن يقبل الخير باختياره إلا بتمكنه من فعل الشر باختياره وإعراضه عنه باختياره ، فاختياره ولاية نفسه عليه السلام إنما هو منوط بعرض عداوة نفسه عليه السلام عليه وتركه إياها باختيار ضدها ، فلولا هذا العرض ما استقام الوجود لأن الله عز وجل خلق كل شيء من الضدين ولا طلب من الأشياء طلب محبة إلا أحد الضدين وهو الضد الأول أي النار ولا يمكن لشيء من الأشياء أن يختار الضدين معا ولا يمكن أن يختار أحد الضدين إلا بعد عرض الضد الآخر وإعراضه عنه ، ولذا كان أول من خوطب بالخطاب الأول من الملأ الأعلى ألست بربكم ومحمد نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وعلي والأئمة الطاهرة

___________________

1 الإسراء 18               2 البحار 91/151

3 التوبة 38                 4 الأحزاب 72

أولياؤكم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسان نفسه الذي هو لسان الله فعرضت عليه أضداد المذكورات فأعرض عنها حتى قبل مقابلاتها وهذا ظاهر بينّ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فالدنيا هي ولايـة فلان التي هي عداوة علي عليه السلام وهو قوله تعالى ( على السموات ) وهو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما كونه سماء فظاهر وأما عرض عداوة علي عليه السلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم فلما ذكرنا من أن قبول الشيء نفسه الأولى منوطة بتركه النفس الثانية بعد عرضها عليه وإلا فلا يتحقق القبول عند أهل المعقول ، والأرض وهو علي عليه السلام وهو قـوله تعالى { وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ }1 وهو الإمام عليه السلام لكونه مهبطا لجميع الأنـوار ومستودعا لجميع الأسرار ، والجبال وهم الأئمة عليهم السلام وهم أعلام الهدى وأوتـاد الأرض كما قال تعالى { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا }2 ( فأبين أن يحملنها ) لما فيها من سوء العاقبة وخسران الآخرة والغفلة عن الله سبحانه وتعالى التي هي أصل كل خطيئة ولذا ورد أن الدنيا رأس كل خطيئة ولم يأبها ولم يأب حملها بحقيقة الإباء إلا محمد وعلي وأهل بيته الطاهرون سلام الله عليهم أجمعين لقد أعرضوا عنها بالكلية ولم يطلبوها ولو باللطخ والوهم والشوب وأمثال ذلك ، ولقد أتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيح جميع خزائن الأرض وقيل له خذ هذا فإنه لم ينقص من مقامك في الآخرة شيء تركه صلى الله عليه وآله وسلم وطلب التواضع وهو صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان أهلا للرفعة ولم يكن قبول ذلك من الدنيا إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يجعل الرفعة في مكانها  والراحة في دارها واللذة لوقتها لا في دار تفنى ونعيم يزول ولا يبقى أوبمحل ليس بمصفى ، ( وحملها الإنسان ) وهو أبو الدواهي وهو الذي طلب الدنيا عن الآخرة وباعها بالثمن الأوكس الأدنى ، ( إنه كان ظلوما جهولا ) أما الظلوم لوضعه الشيء في غير موضعه وطلبه التلذذ والترأس والراحة في غير أوانها ولم يكن للرئاسة بأهل لأن أهلها السابقون في الوجود العالمون بالغيب

_______________

1 الرحمن 10                       2 النبأ 7

والشهود ، وأما الثاني فلأن الجهل الكلي مرتبة من مراتبه وسيئة من سيئاته كما أن العقل الكلي حسنة من حسنات الأئمة عليه السلام كما في الحديث كما تقدم (( وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة )) وله عليه السلام خطبة وكلام في بيان زهده وإعراضه عن الدنيا أحب أن أذكرها ههنا وإن كانت طويلة لاشتمالها على فوائد جليلة ومقامات شريفة روى المجلسي رضوان الله عليه عن الصدوق في الأمالي بإسناده عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام جعفر ابن محمد عليه السلام عن أبيه عن جده عن أبيه عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام (( والله ما دنياكم عندي إلا كسفر على منهل حلو إذ صاح به سائقهم فارتحلوا ولا لذاتها في عيني إلا كحميم أشربه غساقا وعلقم أتجرّعه زعاقا وسم أفعى أسقاه دهاقا وقلادة من نار أوهقها خناقا ، ولقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها وقال لي اقذف بها قذف الأتن لا يرتضيها ليرقعها فقلت له أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غلالات الكرى ولو شئت لتسرّبلت بالعبقري المنقوش من ديباجكم ولأكلت لباب هذا البر بصدور دجاجكم ولشربت الماء الزلال برقيق زجاجكم ولكني أصدق الله جلت عظمته حيث يقول { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ } فكيف أستطيع على نار لو قذفت بشررة إلى الأرض لأحرقت نبتها ولو اعتصمت نفس بقلة لأنضجها وهج النار في قلتها ، وأيّما خير لعلي عليه السلام أن يكون عند ذي العرش مقربا أو يكون في لظى خسيئا مبعدا مسخوطا عليه بجرمه مكذبا ، والله لإن أبيت على حسك السعدان مرقدا وتحتي أطمار على سفاها ممدا أو أجر في أغلالي مصفدا أحب إلي من ألقى في يوم القيامة محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خائنا في ذي يتمة أظلمه بفلسة متعمدا ولم أظلم اليتيم وغير اليتيم لنفس تسرع إلى البلى قفولها ويمتد في أطباق الثرى حلولها وإن عاشت رويدا فبذي العرش نزولها ، معاشر شيعتي احذروا فقد عضتكم الدنيا بأنيابها تختطف منكم نفسا بعد نفس كذئابها وهذه مطايا الرحيل قد أنيخت لركابها إلا أن الحديث ذو شجون فلا يقولن قائلكم إن كلام علي متناقض لأن الكلام عارض ولقد بلغني أن رجلا من قطان المدائن تبع بعد الحنيفية علوجه ولبس من نالة دهقانه منسوجة  وتصفّح بمسك هذه النوافج صباحه وتبخر بعود الهند رواحه وحوله ريحان حديقة يشم نفاحه وقد مدّ له مفروشات الروم على سرره تعسا له بعدما ناهز السبعين من عمره وحوله شيخ يدب على أرضه من هرمه وذو يتمة تضوّر من ضره ومن قرمه فما واساهم بفاضلات عن علقمه ، لئن أمكنني الله منه لأخضمنه خضم البر ولأقيمن عليه حد المرتد ولأضربنه الثمانين بعد حد ولأسدن من جهله كل مسد تعسا ، له أفلا شعر أفلا صوف أفلا وبر أفلا رغيف قفار الليل إفطار معدم أفلا عبرة على خد في ظلمة ليالي تنحدر ولو كان مؤمنا لاتسقت له الحجة إذاً ضيّع ما لا يملك والله ، لقد رأيت عقيلا أخي وقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعة وعاودني في عشر وسق من شعيركم يطعمه جياعه ويكاد يلوي ثلاث أيامه خامصا ما استطاعه وأيت أطفاله شعث الألوان من ضرهم كأنما اشمأزت وجوههم من قرهم  فلما عاودني في قوله وكرره أصغيت إليه سمعي فغره وظنني أوتغ ديني فأتبع ما سره أحميت له حديدة لينزجر إذ لا يستطيع منها دنوا ولا يصبر ثم أدنيتها من جسمه فضّج من ألمه  ضجيج ذي دنف يئن من سقمه وكاد يسبني سفها من كظمه ولحرقة في لظى له من عدمه فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها لمدعبة وتجرّني إلى نار سجرها جبارها من غضبه أتئن من الأذى ولا أئن من لظى والله لو سقطت المكافاة عن الأمم وتركت في مضاجعها باليات في الرمم لاستحييت من مقت رقيب يكشف فاضحات من الأوزار تنسنح فصبرا على دنيا يمر بلأوائها كليلة بأحلامها تنسلخ كم بين نفس في خيامها ناعمة وبين أثيم في جحيم يصطرخ ولا تعجب من هذا واعجب بلا صنع منا من طارق طرقنا بملفوفات زملها في وعائها ومعجونة بسطها في إنائها فقلت له أصدقة أم نذر أم زكاة وكل  يحرم علينا أهل بيت النبوة وعوضنا منه خمس ذي القربى في الكتاب والسنة فقال لي لا ذاك ولا ذاك ولكنه هدية فقلت له ثكلتك الثواكل أفعن دين الله تخدعني بمعجمونة غرقتموها بقندكم وخبيصة صفراء أتيتموني بها بعصير تمركم أمختبط أم ذو جنة أم تهجر أليست النفوس عن مثقال حبة من خردل مسئولة فماذا أقول في معجونة أتزقمها معمولة والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها واسترق قطانها مذعنة بأملاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها شعيرة فألوكها ما قبلت ولا أردت ولدنياكم أهون عندي من ورقة في فم جرادة تقضمها وأقذر عندي من عراقة خنزير يقذف بها أجذمها وأمر على فؤادي من حنظلة يلوكها ذوسقم فيبشمها فكيف أقبل ملفوفات عكمتها في طيها ومعجونة كأنها عجنت بريق حية أو قيئا اللهم نفرت عنها نفار المهرة من كيها أريه السها ويريني القمرا أمتنع من وبرة من قلوصها ساقطة وأبتلع إبلا في مبركها رابطة أدبيب العقارب من وكرها ألتقط أم قواتل الرقش في مبيتي أرتبط فدعوني من دنياكم بملحي وأقراصي فبتقوى الله أرجو خلاصي ما لعلّي ونعيم يفنى ولذة تنتجها المعاصي سألقى وشيعتي ربنا بعيون مرة وبطون خماص ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين  ونعوذ بالله من سيئات الأعمال وصلى الله على محمد وآله ))1انتهى كلامه عليه السلام انظر في هذا الكلام تجد مقامه عليه السلام في ترك الدنيا لأنه عليه السلام وأولاده الطاهرون الآخرة كما تقدم في هذه الخطبة التي نحن بصدد شرحها ، وقد فسرت الآخرة في القرآن في الباطن بعلي عليه السلام ولا يكون محض الآخرة إلا بالإعراض الكلي عن الدنيا أو ما يوهم أنه هي لأن الدنيا هي الثاني من الأول ، فأثبت عليه السلام بتركه للدنيا بعدما سخرت له الرياح والهوام والطير لولايته المطلقة وهذا السر هو هيئة اللام في الخط العربي الإلهي فإن اللام مركبة من النون والألف فالنون في مقام الكثرة والألف سر الوحدة والربوبية والكثرة الغير المتصلة بالوحدة في مقام الذل والانكسار والانجمادات والفناء والزوال والتغيير والاضمحلال والبطلان والعقاب والنكال والنفي والعدم قـال عليـه السلام (( وبإرادتك دون نهيك منزجرة )) بعدما قـال

________________

1 أمالي الصدوق 620 _ 623

 

 

(( فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ))1.

 

      والوحدة بدون التعلق بالكثرة والاتصال بها مقام الجلال والعظمة والخفاء وعدم الظهور وهو مقام الربوبية إذ لا مربوب إما مطلقا أو في العين وإن كان في الذّكر فإن ذلك لا يوجب ظهور الكثرة وبروزها ، والوحدة أي الربوبية المتعلقة بالكثرة المتصلة بها الغير المنفصلة عنها هي حقيقة الولاية المطلقة والسلطنة العامة والإمامة الخاصة ، ولما كانت اللام قد حكت هذه اللطيفة جعلت اسما لعلي عليه السلام لأنه عليه السلام مدلول هذا الأسم وأثر هذا الطلسم فأثبت عليه السلام بقوله (( سخر لي .. إلخ )) سر اسم اللام وبقوله (( أعرضت عنها )) أي الدنيا سر عدم الانفصال فإن الدنيا من حيث هي هي فصل بين الله وبين عبده فلا يحول بين العبد وبينه تعالى شيء إلا الدنيا لأنها هي دار الغرور وإنما هي لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، انظر الآن إلى الدهن المتعلق بالنار إذا تعلق بها وتخللت في كل أجزائه وأطواره يحصل منها نور يستضاء به وأما إذا قويت جهة الدهن ضعف النور إلى أن لم يبق للنار محل فتلحق بمركزها وتعود إلى أصلها وإذا قويت جهة النار وضعفت جهة الدهن بحيث احترق كله تصاعدت الأجزاء المحترقة مصاحبة للنار ويبطل النور أي يخفي لشدة اللطافة المشابهة للطافة المبدأ فإذا كان التعلق ثابتا والانفصال من أحد الطرفين منتفيا يبقى النور والضياء إلى أن يشاء الله ، فأثبت عليه السلام بالفقرة الأولى في بيان التسخير المتعلق بالرياح وما بعدها عدم الانفصال من جهة المبدأ الحق ، ثم بالفقرة الثانية في بيان إعراضه عن الدنيا عدم الانفصال من جهة نفسه أي جهة الدهن فكان بذلك وليا مطلقا حامل آثار الربوبية المتعلقة لجهات العبودية ونورا كاملا يستضاء به في كل الأحوال الظاهرية والباطنية فاختير له عليه السلام قيما اختير له من الاسم الدال عليه عليه السلام اللام ولذا كانت دورة القمر الذي هو مثال ظهوره عليه السلام ثلاثين وسر الاسم التام عندنا في الحرف الأوسط والحرف الأول كالرأس في الجسد والحرف الأوسط كالقلب فيه ثم جعل على يمين القلب الذي هو اللام في هذا الاسم الشريف العين للإشارة إلى ثمرة اللام أي ثمرة الألف المتعلقة بالنون أي ثمرة توجه العبد إلى الله سبحانه في مقام ( إلهي كيف أدعوك و أنا أنا وكيف لا أدعوك و أنت أنت ) وتلك هي الضياء والنور الموجود في السراج عند تعلق النار بالدهن الذي أضاء بنور شعاعه ما يقابله ، وهي هنا في الظاهر كونه عليه السلام حاملا لأمر الله التكويني والتشريعي الذي بهما قامت السموات والأرض والأمر هو قول كن لقوله تعالى { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }‏1 فكان كن هو أمر الله وكن استنطاقه من الحروف العين بالحسابيين أي حساب المغاربة وغيرهم فبحمله عليه السلام ذلك الأمر كان وليا مطلقا كما أن السراج بحمله أثر النار وفعلها كان مضيئا مطلقا فالعين سر اللام لا باطنها بل ظاهرها فافهم .

 

      ثم تمم اسمه الشريف بالياء عن يسار اللام لبيان أنه عليه السلام حامل الولاية وحامل اللواء لا صاحب اللواء وقد قال صلى الله عليه وآلـه وسلم (( أعطيت لواء الحمد وعلي حامله )) ثم صار هذا الاسم الأقدس الأعظم كصاحبه عليه السلام جامع المقامات وحاوي المراتب على كمالها من الألوهية والعبودية كما هو مقتضى ظهور الرب بفعله في العبد لا بذاته وترك العبد الدنيا وإعراضه عنها فهو على فعل ماض من علا يعلو مثل دعا يدعو وذلك ظهور العين وهو كن أي مبدؤه الذي هو الفعل الماضي كما حققنا في بعض أجوبتنا للمسائل وهو حينئذ مبدأ الأفعال والأسماء وسر المسخر بكسر الخاء بقوله عليه السلام (( وسخر لي .. إلخ )) ، وهو على من الحروف الجارة أي الاستعلاء الذي يخفض عنده كل شيء ولذا يكسر ويجر ويخفض مدخوله إلا أحمد وعمر أما أحمد فلوزن الفعل وأما عمر فللعدل التقديري وإن كانا مجرورين بالباطن بل قالوا في الظاهر إلا أن جرهما بالفتح أما أحمد فلسر (( علمته علمي )) كما علمه علمه صلى الله عليه وآله وسلم وأما عمر

_________________

1 يس 82

 

فلقوله تعالى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ }1وأما ما سواهما من الأسماء الغير المنفصلة فلروجعهما إليهما فافهم إن كنت تفهم والا فأسلم تسلم ، وهو حينئذ رابطة الإيصال وحينئذ الفرع الكريم كما أنه في الأول الأصل القديم وهو حينئذ حامل الولاية ومحل المشيئة كما قالوا عليهم السلام (( نحن محال مشيئة الله وألسنة إرادته وترجمان وحيه )) كما أنه في الأول أصل الولاية ومبدؤها ومنشؤها وهو علي عليه السلام مبالغة لاسم الفاعل عال وهو عليه السلام حينئذ باب الله وصراطه وسبيل الله إذ فيه شباهة للفعل مع كونه اسما كما هو شأن الأبواب المعتبر فيهم نسبة الطرفين وكونهم من سنخ الأسفل كما قال عز وجل { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }‏2 وهو عليه السلام علي اسم من أسمائه يجري عليه حكم الاسم الجامد فإن الكلمات الكونية الوجودية كلها على أحوال أربع إما أن تعمل ولا تعمل أصلا كفعل الماضي والحروف العاملة ، وإما أن تعمل وتعمل كفعل المضارع واسم الفاعل والمفعول وأمثالهما ، وإما أن تعمل ولا تعمل كالجوامد من الأسماء ، وإما أن لا تعمل ولا تعمل كباقي الحروف ، فالمرتبة الأولى مقام المشيئة وتوابعها من الملائكة وحملة العرش ، والثانية هم الأنبياء والمرسلون ، والثالثة هم الرعايا والتابعون والمؤمنون الممتحنون وغيرهم مما لا يظهر فيهم المثال ، والرابعة هم الكفار المعاندون في ظاهر الإقرار ، وهو عليه السلام قد حوى المراتب الأربعة إلا الرابعة لأنها لا تصلح لمقامه ولا تناسب لمرتبته فافهم لقد القيت لك البذر المنقى المصفى فاحفظه عن الزوال والله خليفتي عليك .

 

      ثم إن الدنيا دنيا وإن الدنيا ملعونة ودنيا بلاغ ، فالأولى هي التي تشغلك عن ذكر الله عز وجل ، والثانية هي التي توصلك إلى رضاه وإلى   قربه ، فالدنيا التي أعرض عليه السلام عنها هي الملعونة لا البلاغ وإلا لما ظهر بين ظهراني الخلائق ، ولما كانت اللذات الفانية الزائلة كلها مما يشغل عن

________________

1 العنكبوت 4                   2 الأنعام 9 

ذكر الله عز وجل وإلا لم يكن زائلا فانيا لأن ما من الله وما عنده وما يؤول إله حي باق قد ألقى سبحانه فيه مثاله فيجب الإعراض عن كلما لذته تفنى وثمرته تزول وهذه المآكل الجثنة واللباس الخشنة وأمثالهما من الأمور التي كان يستعملها عليه السلام وإن كانت هي الدنيا لكنها دنيا بلاغ ومع ذلك كان منها توبته إلى الله واستغفاره وتضرعه وبكاؤه لأكله وشربه ولبسه وحياته بل لصومه وصلاته ولم يترك هذا المقدار من الدنيا لأنها لم تكن من جهة اللذة ولأن تركها يستلزم ما هو أقبح فافهم الإشارة وليس الآن موضع كشف هذه الأسرار فليترقب فيما بعد إنشاء الله .

 

      وأما سائر أئمتنا عليهم السلام فهم إنما لبسوا اللباس الفاخر وأكلوا المآكل الطيبة لتشابهم مع الناس حتى يتمكنوا من هدايتهم لأنهم عليهم السلام لم يكونوا مبسوطي اليد ونافذي الحكم كما كان علي عليه السلام ففعلوا ما فعلوا إثباتا للدين وتشييدا لما أتى به سيد المرسلين عليه وعليهم صلوات الله عليهم أبد الآبدين ، وإنما هم عليهم السلام معرضون عن الدنيا كما أعرض جدهم وأبوهم صلوات الله عليه وعليهم أجمعين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قال عليه السلام وروحي له الفداء وحتى متى يلحق بي اللواحق لقد علمت ما فوق الفردوس الأعلى وما تحت السابعة السفلى

وما في السموات العلا وما بينهما وما تحت الثرى

 كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار

 

      لما بين عليه السلام بأنه الولي المطلق حيث سخرت له الأشياء وأعرض عن الدنيا وما فيها فكان بذلك النير الذي استضاء به الأرض والسماء أي أرض القوابل وسماء المقبولات أراد عليه السلام أن يبين أنه المتفرد بذلك ولا أحد من المخلوقين يصل إليه وهو المحيط على دائرة الأكوان والإمكان وما سواه إما ذاته وعين حقيقته أو رعية وتابع ، وأراد أن يبين ذلك على جهة الاس تدلال بأخصر المقال ليهلك من هلك على بينه ويحيى من سبق له من الله العناية فقال عليه السلام (( وحتى تى يلحق بي اللواحق )) على سبيل الإنكار يعني لا يمكن أن يلحق بي اللواحق كما في الزيارة (( فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين و أعلى منازل لمقربين وأشرف درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يطمع في إدراكه طامع حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا صديـق ولا شهيد ولا عالم ولا جاهل ولا دني ولا فـاضل ولا مؤمن صالح وفـاجر طالح ولا جبار عنيد وشيطان مريد ولا خلق فيما بين ذلك شهيد إلا عرفهم جلالـة أمركم وعظم خطركم وكبر شأنـكم ))1الزيارة ، وقال عليه السلام كما في الكافي عن الصادق (( إن الله تعالى خلقنا من طينة مكنونة مخزونة عنده ولم يجعل في مثل الذي خلقنا منه نصيبا لأحد من المخلوقين ثم خلق شيعتنا من طينة مكنونة مخزونة تحت تلك الطينة وخلق من تلك الطينة الأنبياء والمرسلين )) نقلت معنى الحديث ، وفي أحاديث خلق أنوارهم ما يغني عن الكلام كما في الحديث إن الله سبحانه خلقهم قبل خلق الخلق بمائة ألف دهر وكل دهر مائة ألف عالم وفي رواية

__________________

1 الزيارة الجامعة الكبيرة

أخرى ألف دهر وفي رواية أربعة عشر ألف دهر ثم خلق الخلق كلهم بعد خلق أنوارهم بتلك المدة وحديث آدم عليه السلام المشهور أنه عليه السلام لما نظر إلى ساق العرش رأى أسماءهم عليهم السلام مكتوبة عليه فقال يا رب من هؤلاء فأوحى الله سبحانه إليه (( يا آدم إن هؤلاء كرام خلقي وصفوة بريتي لولاهم ما خلقتك ولا أحد من الخلق )) الحديث ، وحديث خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم روى سهل التستري وشيبان الراعي أنهما لاقى الخضر وسمعا منه أنه قال (( خلق الله نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نوره وصوره على يده فبقي ذلك النور بين يدي الله مائة ألف عام فكان يلاحظه كل يوم وليلة سبعين ألف لحظة ونظرة ويكسوه في كل نظرة نورا جديدا وكرامة جديدة ثم خلق منها الموجودات )) .

 

      في بصائر الأنوار عن جابر بن عبدالله قال (( قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول شيء خلق الله ما هو ، فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله وخلق منه كل خير ثم أقام بين يدي في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقساما فخلق العرش من قسم والكرسي من قسم وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ثم جعله أقساما فخلق القلم من قسم واللوح من قسم والجنة من قسم وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء والشمس من جزء والقمر والكواكب من جزء وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء والعصمة والتوفيق من جزء وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف قطرة وأربعة وعشرون ألف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ثم تنفست أرواح الأنبيـاء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأوليـاء والشهـداء والصالحين ))1 .

_____________________

1 البحار 25/21 _ 22

      وفي كتاب نور الأنوار عن جابر قال (( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره و اشتقه من جلال عظمته فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ثم سجد لله تعظيما ففتق منه نور علي عليه السلام فكان نوري محيطا بالعظمة ونور علي محيطا بالقدرة ، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري ونوري مشتق من نوره فنحن الأولون ونحن الآخرون ونحن السابقون ونحن المسبحون ونحن الشافعون ونحن كلمة الله ونحن خاصة الله ونحن أحباء الله ونحن وجه الله ونحن جنب الله ونحن يمين الله ونحن أمناء الله ونحن خزنة وحي الله وسدنة غيب الله ونحن معدن التنزل ومعنى التأويل وفي أبياتنا هبط جبرائيل ونحن محال قدس الله ونحن مصابيح الحكمة ونحن مفاتيح الرحمة ونحن ينابيع النعمة ونحن شرف الأمة ونحن سادات الأئمة ونحن نواميس العصر وأحبار الدهر ونحن سادة العباد ونحن ساسة البلاد ونحن الكفاة والولاة والحماة  والسقاة والرعاة وطريق النجاة ونحن السبيل والسلسبيل ونحن النهج القويم والطريق المستقيم من آمن بنا آمن بالله ومن رد علينا رد على الله ومن شك فينا شك في الله ومن عرفنا عرف الله ومن تولى عنا تولى عن الله ومن أطاعنا أطاع الله ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله ولنا العصمة والخلافة والهداية وفينا النبوة والولاية والإمامة ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة وشجرة العصمة ونحن كلمة التقوى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى التي من تمسك بها نجى ومن تخلف عنها هوى ( وكان في قضاء الله السابق أن لا يدخل النار محب لنا ولا يدخل الجنة مبغض لنا لأن الله يسأل العباد يوم القيامة عما عهد إليهم ولا يسألهم عما قضى عليهم ))1 .

 

      وفي تـأويل الآيات عن الشيخ أبي جعفر الطوسي بإسناده عن الفضل بن شاذان بإسنـاده عن جابر بـن يزيد الجعفي عن الإمام العالم موسى ابن

___________________

1 البحار 25/22 وما بين الأقواس في حديث آخر ص 24

جعفر عليهم السلام (( قال إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نور اخترعه من نور عظمته وجلاله وهو نور لاهوتيته الذي ابتدأ من لاه أي من إلهيته من أينيته الذي ابتدأ منه وتجلى لموسى بن عمران عليه السلام به في طور سيناء فما استقر له ولا طاق موسى لرؤيته ولا ثبت له حتى خر صاعقا مغشيا عليه وكان ذلك النور محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فلما أراد الله أن يخلق محمدا منه قسم ذلك النور شطرين فخلق من الشطر الأول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب عليه السلام ولم يخلق من ذلك النور غيرهما خلقهما الله بيده ونفخ فيهما بنفسه من نفسه لنفسه وصورهما على صورتهما وجعلهما أمناء له وشهداء على خلقه وخلفاء على خليقته وعينا له عليهم ولسانا له إليهم قد استودع فيهما علمه وعلمهما البيان واستطلعهما على غيبه وجعل أحدهما نفسه والآخر روحه لا يقوم واحد بغير صاحبه ظاهرهما بشرية وباطنهما لاهوتية ظهرا للخلق على هياكل الناسوتية حتى يطيقوا رؤيتهما وهو قوله تعالى ( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) فهما مقام رب العالمين وحجاب خالق الخلائق أجمعين بهما فتح الله الخلق وبهما يختم الملك والمقادير ثم اقتبس من نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام ابنته كما اقتبس نوره من نوره واقتبس من نور فاطمة وعلي الحسن والحسين عليهم السلام كاقتباس المصابيح هم خلقوا من الأنوار وانتقلوا من ظهر إلى ظهر وصلب إلى صلب ومن رحم إلى رحم في الطبقة العليا من غير نجاسة بل نقلا بعد نقل لا من ماء مهين ولا من نطفة خثرة كسائر خلقه بل أنوار انتقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات لأنهم صفوة الصفوة اصطفاهم لنفسه وجعلهم خزائن علمه وبلغاء عنه إلى خلقه أقامهم مقام نفسه لأنه لا يرى ولا يدرك ولا تعرف كيفيته ولا إنيته فهؤلاء الناطقون المبلغون عنه المتصرفون في أمره ونهيه فيهم يظهر قدرته ومنهم ترى آياته ومعجزاته وبهم ومنهم عرف عباده نفسه وبهم يطاع أمره ولولاهم ما عرف الله ولا يدرى كيف يعبد الرحمن فالله

_______________________

1 تأويل الآيات 393 _ 395

يجري أمره كيف شاء فيما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون )) انتهى .

 

      قوله ( تجلى لموسى ) إلى قوله عليه السلام ( وكان ذلك النور محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ) لا ينافي ما ورد عنهم عليهم السلام إن ذلك نور رجل من الكروبيين من شيعتنا لأن ذلك الرجل من محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالصورة في المرآة فمن رأى الصورة في المرآة يحكم في المقابل فيها وهي ليست عين المقابل ولا غيرها لا فرق بينها وبينه إلا أنها عبده وخلقه فافهم .

 

      وعن تأويل الآيات والبحار عن مصباح الأنوار للشيخ الطوسي رضوان الله عليه بإسناده عن أنس عن النبي عليه السلام قال (( إن الله خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام قبل أن يخلق الله آدم حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار ، فقال العباس فكيف كان بدأ خلقكم يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم يا عم لما أراد الله أن يخلقنا تكلم كلمة خلق منها نورا ثم تكلم كلمة أخرى فخلق منها روحا ثم مزج النور بالروح فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسن عليهم السلام فكنا نسبحه حين لا تسبيح ونقدسه حين لا تقديس فلما أراد الله تعالى أن ينشئ الصنعة فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري ونوري من نور الله ونوري أفضل من العرش ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة فالملائكة من نور علي ونور علي من نور الله وعلي أفضل الملائكة ثم فتق نور ابنتي فاطمة فخلق منه السموات والأرض فالسموات والأرض من نور ابنتي فاطمة ونور ابنتي فاطمة من نور الله وابنتي فاطمة أفضل من السموات والأرض ثم فتق نور ولدي الحسن وخلق منه الشمس والقمر فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ونور الحسن من نور الله والحسن أفضل من الشمس والقمر ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور والعين فالجنة والحور العين من نـور ولدي الحسين ونور ولدي

 

 

الحسين من نور الله وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين ))1 انتهى .

 

      قوله صلى الله عليه وآله وسلم (( إن الله تكلم بكلمة .. الخ )) ، وهي كلمة كن وهي التي انزجر لها العمق الأكبر والنور المخلوق منها هو الوجود الماء الذي به حياة كل شيء وهي نور الأنوار إذ به قام كل نور ومنه استوى كل خير والكلمة الأخرى هي الإرادة كما أن الأولى هي المشيئة وهي كن إلا أن هنا ظهور النون  كما أن في الأولى ظهور الكاف ، والروح في هذا المقام أرض الجرز والبلد الطيب والقابلية الأولى والدواة الأولى ، وإطلاق الروح عليها لظهور الحياة والحركة وترتب الآثار بها ومنها وإليها كما تحقق في محله وهذا دليل على أن الماهية مجعولة بجعل سوى جعل الوجود  اختلاط النور بالروح وقوع ذلك الماء على أرض الجرز وتعلق الوجود الأول بالماهية الأولى { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }2 فخلق منه تلك الأشباح المطهرة لأنهم حقيقـة واحدة ، ونسب خلق العرش من فتق نوره صلى الله عليه وآله وسلم لأنه مقام الإجمال والوحدة والبساطة وهو المبدأ وقد حكى في كل ذلك عن مقامه صلى الله عليه وآله وسلم وفتق النور ليس كفتق الحبة وخلق السنبلة و إنما هو كفتق ظهور السراج لخلق الشعاع والمقابل لخلق الصورة في المرآة اللهم إلا أن يكون المراد من العرش العقل الكلي ، ونسب خلق الملائكة إلى علي عليه السلام لأنه حامل الولاية الظاهرة بإعطاء كل ذي حق حقه والسوق إلى كل مخلوق رزقه والملائكة حملتها وحفظتها ونسب نور علي عليه السلام إلى الله لا إلى نفسه لبيان أنهما حقيقة واحدة وأن الفتق إنما هو بظهور الأثر لا بحقيقة الذات فافهم ، وهكذا في باقي الأئمة عليهم السلام ، ونسب خلق السموات والأرض إلى نور فاطمة عليها السلام لوجوه منها أن فلك الجوزهر يحكي صفتها حين نسبتها إلى علي عليه السلام فاجتمعت عندها مراتب القابليات والمقبولات فالسموات رتبة المقبولات وهي السموات الدائرة على الأرضين

__________________

1 تأويل الآيات 143 _ 144              2 الحج 5

والأرضون هي القابيات فخلق من نورها السموات من حيث اتصالها بعلي عليه السلام والأرض من حيث اتصاله بها عليها السلام ، ومنها أن العرش وملائكة الكرسي هي المبادئ من حيث الفاعل والسموات هي المبادئ من حيث قابلية ظهور الفاعل والأرض هي نفس القابلية من جهة حملها لظهورات الفاعل وهذه حكاية صفة فاطمة عليها السلام فافهم فإنه دقيق جدا ، ونسب صلى الله عليه وآله وسلم الشمس والقمر إلى الحسن عليه السلام لأنه عليه السلام أول نور ظهر وبرز منها وهو أشرف منها وكانت حاملا له كالكواكب فإنها أشرف من الأفلاك والشمس أشرف من الكواكب ونورها كالحسن عليه السلام فإنه أشرف أولادها عليها السلام واقتصر على الشمس والقمر من سائر الكواكب لأنهما الأصلان وهي تنتهي إليهما سيما إلى الشمس فالقمر مع الشمس مقام الإجمال كما هو نسبة مقامه عليه السلام والشمس مع القمر مقام التفصيل كما هو مقام أخيه ، ومعنى قولي الشمس مع القمر والعكس أي بتبعية أحدهما للآخر إذ لا ظهور لأحدهما إلا بالآخر ، ونسب الجنة والحور العين إلى الحسين عليه السلام لأنه عليه السلام صاحب مقام التفصيل وكوكبه القمر والحور العين كلها منسوبة إليه والجنة فكوكبها الشمس مع القمر فظهرت الجنات ، وتفصيل الأمر في هذا المقام موكول إلى ما يأتي إنشاء الله وإلى ما مضى .

 

      وفي المشارق عن طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان صفة الإمام عليه السلام إلى أن قال عليه السلام (( مطهر من الذنوب مبرأ من العيوب مطلع على الغيوب ظاهره أمر لا يملك وباطنه غيب لا يدرك واحد دهره وخليفة الله في نهيه وأمره لا يوجد له مثيل ولا يقوم له بديل فمن ذا ينال معرفتنا أو يعرف درجتنا أو يشهد كرامتنا أو يدرك منزلتنا حارت الألباب والعقول وتاهت الأفهام فيما أقول تصاغرت العظماء وتقاصرت العلماء وكلت الشعراء وخرست البلغاء ولكنت الخطباء وعجزت الفصحاء وتواضعت الأرض والسماء عن وصف شأن الأولياء وهل يعرف أو يوصف أو يعلم أو يفهم أو يدرك أو يملك من هو شعاع جلال الكبرياء وشرف الأرض والسماء جل مقام آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن وصف الواصفين ونعت الناعتين وأن يقاس بهم أحد من العالمين وكيف وهم الكلمة العلياء والتسمية البيضاء والوحدانية الكبرى التي أعرض عنها من أدبر وتولى وحجاب الله الأعظم الأعلى فأين الاختيار من هذا وأين العقول من هذا ومن ذا عرف أو وصف من وصفت ظنوا أن ذلك في غير آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كذبوا وزلت أقدامهم اتخذوا العجل ربا والشياطين حزبا )) إلى أن قال عليه السلام (( والإمام يا طارق بشر ملكي وجسد سماوي وأمر إلهي وروح قدسي ومقام علي ونور جليّ وسر خفي فهو ملك الذات إلهي الصفات زائد الحسنات عالم بالمغيبات خصّاً من رب العالمين ونصا من الصادق الأمين وهذا كله لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يشاركهم فيه مشارك لأنهم معدن التنزيل ومعنى التأويل وخاصة الرب الجليل مهبط الأمين جبرائيل وصفوة الله وسره وكلمته شجرة النبوة ومعدن الصفوة عين المقالة ومنتهى الدلالة ومحكم الرسالة ونور الجلالة جنب الله ووديعته وموضع كلمة الله ومفتاح حكمته ومصابيح رحمة الله وينابيع نعمته السبيل إلى الله والسلسبيل والقسطاس المستقيم والمنهاج القويم والذكر الحكيم والوجه الكريم والنور القديم أهل التشريف والتقويم والتقديم والتعظيم والتفصيل خلفاء النبي الكريم وأبناء الرؤوف الرحيم وأمناء العلي العظيم ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم السنام الأعظم والطريق الأقوم من عرفهم وأخذ عنهم فهو منهم وإليه الإشارة بقوله ( فمن تبعني فإنه مني ) خلقهم الله من نور عظمته وولاهم أمر مملكته فهم سر الله المخزون وأولياؤه المقربون وأمره بين الكاف والنون ( لا بل هم الكاف  والنون ) إلى الله يدعون وعنه يقولون وبأمره يعملون علم الأنبياء في علمهم وسر الأوصياء في سرهم وعز الأولياء في عزهم كالقطرة في البحر والذرة في القفر والسموات والأرض عند الإمام كيده من راحته يعرف ظاهرها من باطنها ويعلم برها من فاجرها ورطبها ويابسها لأن الله علم نبيه علم ما كان وما يكون وورث ذلك السر المصون الأوصياء المنتجبون ومن أنكر ذلك فهو شقي ملعون يلعنه الله ويلعنه اللاعنون وكيف يفرض الله على عباده طاعة من يحجب عنه ملكوت السموات والأرض وإن الكلمة من آل محمد عليهم السلام تنصرف إلى سبعين وجها وكلما في الذكر الحكيم والكتاب الكريم والكلام القديم من آية تذكر فيها العين والوجه واليد والجنب فالمراد منها الولي لأنه جنب الله ووجه الله يعني حق الله وعلم الله وعين الله ويد الله ( لأن ظاهرهم باطن الصفات الظاهرة وباطنهم ظاهر الصفات الباطنة فهم ظاهر الباطن وباطن الظاهر وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم أن لله عينا و أيادي أنت يا علي منها ) فهم الجنب العلي والوجه الرضي والمنهل الروي والصرط السوي والوسيلة إلى الله والوصلة إلى عفوه ورضاه سر الواحد والأحد فلا يقاس بهم من الخلق أحد فهم خاصة الله وخالصته وسر الديان وكلمته وباب الإيمان وكعبته وحجة الله ومحجته وأعلام الهدى ورايته وفضل الله ورحمته وعين اليقين وحقيقته وصراط الحق وعصمته ومبدأ الوجود وغايته وقدرة الرب ومشيئته وأم الكتاب وخاتمته وفصل الخطاب ودلالته وخزنة الوحي وحفظته وآية الذكر وتراجمته ومعدن التنزيل ونهايته ))1 .

 

      في العوالي عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال (( كما لا يقدر على صفة الله كذا لا يقدر على صفاتنا وكما لا يقدر على صفتنا لا يقدر على صفة المؤمن ))2انتهى .

 

      ولما اقتضى المقام ذكر فضائل ذلك الإمام عليه السلام فلا بأس أن نذكر خطبة البيان لأن فيها من فضائله عليه السلام ما لا يحيط به إنسان فتعرف بذلك أنه روحي فداه لا يلحقه لا حق ولا يطمع في إدراكه طامع قال عليه السلام على ما رواه علمائنا ودلت عليه الأخبار الكثيرة والآيات القرآنية والأدلة القطعية العقلية قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام (( أنا الذي عندي مفاتيح الغيب لا يعلمها بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم

__________________

1 البحار 25/169 _ 174 وما بين الأقواس لعله شرح المصنف أعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه .

2 عوالي اللآلي 1/436

غيري وأنا بكل شيء عليم أنا الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا مدينة العلم وعلي بابها أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأولى أنا الحجر الذي تفجر منه اثنتى عشرة عينا من الحجر أنا الذي عندي خاتم سليمان أنا الذي أتولى حساب الخلائق أجمعين أنا اللوح المحفوظ أنا جنب الله أنا قلب الله إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم أنا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا علي الصراط صراطك والموقف موقفك أنا الذي عنده علم الكتاب ما كان وما يكون أنا آدم الأول أنا نوح الأول أنا إبراهيم الخليل حين ألقي في النار أنا موسى أنا مؤنس المؤمنين أنا فتاح الأسباب أنا منشر السحاب أنا مورق الأشجار أنا مخرج الثمار أنا مجري العيون أنا داحي الأرضين أنا سماك السموات أنا فصل الخطاب أنا قسيم الجنة والنار أنا ترجمان وحي الله أنا معصوم من عند الله أنا خازن علم الله أنا حجة الله على من في السماء وفوق الأرضين أنا قائم بالقسط أنا دابة الأرض أنا الراجفة أنا الرادفة أنا الصحية بالحق يوم الخروج الذي لا يكتم عنه خلق السموات والأرض أنا الساعة التي لمن كذب بها سعيرا أنا ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه أنا الأسماء التي أمر الله أن يدعى بها أنا النور الذي اقتبس منه موسى فهدى أنا هادم القصور أنا مخرج المؤمنين من القبور أنا الذي عندي ألف كتاب من كتب الأنبياء أنا المتكلم بكل لغة في الدنيا أنا صاحب نوح ومنجيه أنا صاحب أيوب المبتلى وشافيه أنا صاحب يونس ومنجيه أنا أقمت السموات السبع بنور ربي وقدرته أنا الغفور الرحيم وإن عذابي هو العذاب الأليم وأنا الذي أسلم إبراهيم الخليل وأقر بفضلي أنا عصا الكليم وبه أخذ بناصية الخلق أجمعين أنا الذي نظرت في الملكوت فلم يغب عني شيء وغاب عن غيري أنا الذي أحصي هذا الخلق وإن كثروا حتى أؤديهم إلى الله أنا الذي لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد أنا ولي الله في أرضه والمفوض إليه أمره والحاكم في عباده أنا الذي دعوت الشمس والقمر فأجاباني وأنا الذي دعوت السبع السموات فأجابوني وأمرتها فينصبوني أنا الذي بعثت النبيين والمرسلين أنا فطرة العالمين أنا داحي الأرضين والعالم بالأقـاليم أنا أمر الله والروح كما

 

قال تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }1أنا سيرت الجبال وبسطت الأرضيين أنا مخرج العيون ومنبت الزروع ومغرس الأشجار ومخرج الثمار أنا الذي أقدر أقواتها وأنا منزل القطر ومسمع الرعد ومبرق البرق أنا مضئ الشمس ومطلع الفجر ومنشئ النجوم وأنا منشئ جوار الفلك في البحور أنا الذي أقوم الساعة أنا الذي إن مت لم أمت وإن قتلت لم أقتل أنا الذي أعلم ما يحدث أنا الذي آن بعد آن وساعة بعد ساعة أنا الذي أعلم خطرات القلوب ولمح العيون وما تخفي الصدور وأنا صلاة المؤمنين وزكاتهم وحجهم وجهادهم أنا الناقور الذي قال الله تعالى { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ }‏2 أنا صاحب النشر الأول والآخر أنا أول ما خلق الله نوري أنا صاحب الكواكب ومزيل الدولة أنا صاحب الزلازل والرجف أنا صاحب الذي أعلم المنايا والبلايا وفصل الخطاب أنا صاحب { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ }3 ونازلها أنا المنفق الباذل بما فيها أنا الذي أهلكت الجبارين والفراعنة المتقدمين بسيف ذي الفقار أنا الذي حملت نوح في السفينة أنا الذي أنجيت إبراهيم من نار نمرود ومؤنسه أنا مؤنس يوسف الصديق في الجب ومخرجه أنا صاحب موسى والخضر ومعلمهما أنا منشئ الملكوت والكون وأنا البارئ أنا المصور في الأرحام أنا الذي أبرئ الأكمه والأبرص وأعلم ما في الضمائر أنا أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم أنا البعوضة التي ضرب الله بها المثل أنا الذي أقامني الله والخلق في الأظلـة ودعى إلى طاعتي فلما أظهره أنكروا أمره كما قـال عز وجـل { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا

___________________

1 الإسراء 85                  2 المدثر 8

3 الفجر 7 _ 8

 

 

 

 

 

عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }1 أنا الذي كسوت العظام لحما ثم أنشأناه بقدرته أنا حامل عرش الله مع الأبرار من ولدي وحامل العلم أنا أعلم بتأويل القرآن والكتب السالفة أنا الراسخ في العلم أنا وجه الله في السموات ولأرض كما قال الله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }‏2 أنا صاحب الجبت والطاغوت ومحرقهما أنا باب الله الذي قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }3 أنا الذي خدمني جبرائيل وميكائيل أنا الذي حمل جبرائيل وميكائيل إلى الماء من الجنة أنا الذي يتقلب الملائكة على فراشي ويعرفني عباد كل إقليم الدنيا أنا الذي رددت الشمس مرتين أنا الذي خصّ الله جبرائيل وميكائيل بالطاعة لي أنا اسم من أسماء الله الحسنى وهو الأعظم الأعلى أنا صاحب الطور والكتاب المسطور أنا البيت المعمور أنا الحرث والنسل أنا الذي فرض الله طاعتي على قلب كل ذي روح متنفس من خلق الله أنا الذي أنشر الأولين والآخرين أنا قاتل الأشقياء بسيفي ذي الفقار ومحرقهم بناري أنا الذي أظهرني على الدين أنا المنتقم من الظالمين أنا الذي أدى دعوة الأمم كلها إلى طاعتي ومن كفرت وأصرت مسخت أنا الذي أرد المنافقين من حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا باب فتح الله لعباده من دخله كان آمنا ومن خرج منه كان كافرا أنا الذي بيدي مفاتيح الجنان ومقاليد النيران أنا الذي جهد الجبابرة بإطفاء نور الله و ادحاض حجته فأبى الله إلا أن يتم نوره وولايته أعطى الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم نهر الكوثر وأعطاني نهر الحياة أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض فعرفني الله ما شاء ومنعني ما يشاء أنا قائم في ظلة خضر حيث لا روح تتحرك ولا نفس تتنفس غيري أنا علم صامت ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم علم ناطق أنا القرون الأولى أنا صاحب القرن أنا جاوزت موسى في البحر وأغرقت فرعون أنا عذاب يوم الظلة أنا الذي أعلم هماهم البهائم ومنطق الطير أنا آيات الله وحجج الله وأمين الله أنا أحيي وأميت وأنأ أخلق

_________________

1 البقرة 89                2 القصص 88             3 الأعراف 40

وأرزق أنا السميع العليم أنا البصير أنا الذي أجوز السبع السموات والأرضين السبع في طرفة العين أنا الأولى أنا الثانية أنا ذو القرنين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك ذو القرنين هذه الأمة أنا صاحب الناقة التي أخرجها الله لنبيه صالح أن الذي نقر في الناقور ذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير أنا الاسم الأعظم كهيعص أنا المتكلم على لسان عيسى في المهد صبيا أنا المتكلم على لسان صبي يوسف الصديق أنا الذي ليس كمثله شيء أنا العذاب الأعظم أنا الآخرة والأولى أنا أبدئ و أعيد أنا فرع من فروع الزيتون الذي قال الله والتين والزيتون وقنديل قناديل النبوة أنا مظهر الأشياء كيف أشاء أنا الذي أرى الأعمال لا يعزب عني شيء لا في الأرض ولا في السماء أنا مصباح الهدى أنا مشكاة فيها نور المصطفى أنا الذي ليس شيء من عمل عامل إلا بمعرفتي أنا خازن السموات وخازن الأرضين أنا قائم بالقسط أنا عالم بتغيير الزمان وحدثانه أنا الذي أعلم عدد النمل ووزنها وخففها ومقدار الجبال ووزنها وعدد قطرات الأمطار أنا آيات الله الكبرى التي أراها الله فرعون وعصى أنا أقتل قتلتين و أحيا حياتين أنا الذي رميت وجه الكفار كف تراب فرجعوا الهلكى أنا الذي جحد ولايتي ألف أمة فمسخهم الله أنا المذكور في سالف الزمان والخارج آخر الزمان أنا قاصم فراعنة الأولين ومخرجهم ومعذبهم في الآخرين أنا معذب الجبت والطاغوت ومحرقهم ومعذب يعوق ويعققوق ونسرا أنا المتكلم بسبعين لسانا ومفتي كل شيء على سبعين وجها أنا الذي أعلم بتأويل القرآن وما تحتاج إليه الأمة أنا الذي أعلم ما يحدث بالليل والنهار أمرا بعد أمر وشيئا بعد شيء إلى يوم القيامة أنا الذي عندي اثنان وسبعون اسما من أسماء الله العظام أنا الذي أرى أعمال الخلائق في مشارق الأرض ومغاربها ولا يخفى علي منهم شيء أنا الكعبة والبيت الحرام والبيت العتيق كما قال تعالى فليعبدوا رب هذا البيت أنا الذي يملكني الله شرق الأرض وغربها أسرع من طرفة عين ولمح البصر أنا محمد المصطفى وعلي المرتضى كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي ظهر مني أنا الممدوح بروح القدس أنا المعنى الذي لا يقع علي اسم ولا شبه أنا أظهر الأشقياء الأشياء الوجودية كيف أشاء أنا باب حطتهم التي

 

يدخلون فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين )) .

 

      فإذا تأملت في هذه الأخبار ونظرت إليها بنظر الاعتبار علمت أن مقام آل محمد الأطهار عليهم سلام الله الملك الجبار أعلى وأجل من أن تناله البصائر والأبصار وأرفع من أن تصل إليه العقول والأفكار وقد قال عز وجل { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }1والنعمة هي هم عليهم السلام وقال عز وجل { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }2 والكلمات هي هم عليهم السلام وقد قال عز وجل { وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }‏3 وقدر الله هم عليهم السلام وقال عز وجل { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ }4 وهم عليهم السلام جنود الله الذين لا يعلمهم سواه تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم (( يا علي لا يعرفك إلا الله و أنا )) وقال تعالى {* وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ

___________________

1 إبراهيم 34                  2 لقمان 27

3 الأنعام 91                   4 المدثر 31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ }1‏ وهم تلك المفاتيح وتلك الغيوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وقال سبحانه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ }‏2 على قراءة الوقف إلى الله دون الراسخون في العلم وهم عليهم السلام تأويل القرآن الذي لا يعلمه إلا الله وعلى الوقف على الراسخون يكون هم الراسخون في العلم  كما دلت الأخبار بصراحتها عليه فالمعنى حينئذ لا يعلمهم إلا الله وهم إذ الشيء يعلم ذاته لأنه علم ذاته .

 

      وإذا أردت مقاما أزيد من ذلك بشرط أن لا تتوهم الغلو ولا تظن بالله ظن السوء ولا تصغر عظمة الله ولا تحقر قدرة الله فنقول هم المراد من قوله تعالى { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }‏3 وإليهم تتعلق الإشارة وهو سبحانه أجل من أن يشار إليه بإشارة أو يعبر عنه بعبارة أويهتدي إليه سبيل وقـال تعالى { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا }‏4 أي بوليـه وهم الأولياء الذين لا يحاط بهم علما وضمير الهاء كما تقدم إشارة بالإشارة عنـد الإشبـاع إلى علي عليه السلام وبالتلويـح إلى محمد صلى الله عليه وآلـه وسلم وإلى فاطمة عليها السلام فـإن الهاء إذا أشبعت كان عنها الواو وهما إذا نـزلتـا في الرتبـة الـثانيـة كان عنهمـا علي وهو قـوله تعـالى { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }‏5 { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }‏ 6 { هُوَ

___________________

1 الأنعام 59                2 آل عمران 7

3 الأنعام 103              4 طه 110

5 الزخرف 4               6 البقرة 255

 

 

 

 

 

 

الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }1 وبعد الإشباع بملاحظة زبرهما وبيناتهما يستنطق عنها الواحد وهو يثنى في الباء وهي تثنى في الدال وهي تثنى في الحاء وهي تخمس في الميم والمجموع هو الحمد فإذا أضفت الأصل الأول الذي هو عدد الواحد أي الهمزة كان أحمد وإذا أضيفت الميم في عالم تفصيل كان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبق تفصيل ذلك وإنما كررت الإشارة لئلا تحتاج إلى النظر وربما لا تحصل ما ذكرنا في الموضع الذي ذكرنا فيفوتك المقصود ، وبعد استنطاق الواحد من الهاء يلاحظ تثليثه فتكون عنه الثلاثة فتجذر تكون تسعة وتستنطق تكون عنه الطاء ويأخذ كماليها الظهوري والشعوري ويضمان مع الأصل الـذي هو الطاء فتكون فـاطمة لأن الفاء كمال الطاء الشعوري و ( مه ) كمالها الظهوري ومن الكمال الظهوري كان ظهور آدم أبوالبشر وباقي الأئمة عليهم السلام غصون في هذه الأصول الثلاثة فهم حينئذ هو أي الهاء مع الإشباع فضمير الهاء في كل المواضع القرآنية يرجع إليهم عليهم السلام وهم راجعون إلى الله إنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العي العظيم ، وقـال عز وجـل { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }2 والرب هو المربي الصاحب والكاف هي كاف الخطاب التي هي ظهور المخاطب وهو الأعيان السفلية في مقام لا فرق بينك وبينهما إلا أنهم عبادك وخلقك فهناك يستحقون الاسم من باب الحقيقة الثانية التي هي بعد الحقيقة الأولى فيكون المراد حينئذ آل محمد عليهم السلام وهم المتعالون عن الوصف والتوصيف ولا تتوهم أني أقول أنهم هم الله كلا وهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا

________________

1 الحج 62

2 الصافات 180

 

 

 

خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }1 ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين ، قال سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }‏2 والله اسمه العلي كما قال الرضا عليه السلام وهو اسم الله والهاء اسمها هو وقد علمت الكلام في هو والهاء وحدها ، فهم المتعالون عن الوصف فلا يلحقهم نعت ولا يصل إليهم إدراك والعباد المخلصون هم الأنبياء والمرسلون كما في الآية المتقدمة { سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }3 وقال سبحانه { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }‏4 وهم علم الساعة كما قال تعالى في حق عيسى عليه السلام الذي قال عز وجل أنه مثل لبني إسرائيل وهم هم عليهم السلام وفي زيارة أمير المؤمنين عليه السلام (( السلام على إسرائيل الأمة )) والآية الدالة على ما ذكرنا هي قوله تعالى {* وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ

________________

1 الأنبياء 26 _ 29                  2 الصافات 159 _ 160

3 الصافات 180 _ 182           4 لقمان 34

 

 

 

 

 

 

 

 

خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ }1إلى أن قال تعالى { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا }‏2 وما كان عيسى عليه السلام علم الساعة إلا لكونه مثالا لآل محمد عليهم السلام وهم عليهم السلام الغيث النازل من سماء الجود والكرم والفيض المنبسط على كل الأمم وهو قوله تعالى { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }‏3 وقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا }4 وهم عليهم السلام الرحم والأرحام و أسرارهم المودعة فيها ولا يعلمها سوى الله عز وجل وهم النفس التي لا تدري ماذا تكسب غدا لتلاشيهم في مشيئة الله واضمحلالهم في قدرة الله فلا يجدون لأنفسهم وسائر أحوالهم تحققا إلا بالله وإليه الإشارة في باطن قول أمير المؤمنين عليه السلام (( لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهي قوله تعالى { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }‏5 وهم النفس التي لا يعلم بأي أرض تموت الأرض أرض القابلية أرض الجرز الدواة الأولى والأرض المقدسة المطهرة عن القوم الجبارين والنفس هي الحقيقة من الله والوجه الأسفل فيها وهو الفيض الاختراعي فإذا تعلق ذلك الفيض بالقابلية تعين وتحدد بعدما كان غير متعين وغير محدود وبعبارة أخرى لما نزل الماء الإلهي على أرض الجرز اختفى واستجن فيها لإنبات النبات وإظهار الثمرات وهذا الاختفاء والاستجنان هو الموت ولما كان ذلك الفيض سرمديا انقطعت عنده الأوقات والأزمان فلا يوصف بمتى وأين فلا يقال بأي أرض تموت لأن ذلك ما يكون إلا حين الوقوع و أما القبل فلا قبل ولو فرض فلا تعيين ولا اختصاص ، أو لما كان الممكن دائم السيلان لشدة افتقاره إلى الله سبحانه فلا بد له في كل آن مدد جديد لم يكن عنده فلم يكن علمه عنده وإلا لاستغنى وذلك المدد مساوق لمحله وهو أرضه فلا يعلم الممكن ما يرد عليه من الإمدادات بقوابلها وحدودها قبل أن ترد ، ولما كان آل محمد عليهم السلام واقفين على باب القدرة ومقابلين لفوارة القدر كان لهم هذا

__________________

1 الزخرف 57 _ 59                2 الزخرف 61

3 الأنبياء 30             4 الفرقان 54                5 الرعد 39

الحكم بالأصالة الحقيقية ولغيرهم بالعرض ولما لم يكن عند الله سواهم كانوا عليهم السلام هم المخصوصون بهذه الخمسة وهم هذه الخمسة التي تفرد الله بعلمها كما قال أمير المؤمنين عليه السلام إن الله تفرد بخمسة ثم قرأ هذه الآية فلا يعلمهم ولا يعلم أسرارهم على ما هم عليه إلا الله سبحانه وهم بتعليم الله سبحانه إياهم أنفسهم وفي الدعاء (( هب لي نفسي )) .

 

    أهل النهي عجزوا عن وصف حيدرة        والـعارفون بمعنى ذاته تاهوا       

    إن قلـت ذا بشـرا العقـل يمنعني         و أختشي الله من قولي هوالله

 

        وفي شرح هذه الفقرة المباركة ينبغي التنبيه على أمور حتى يكون المخلص من الشيعة على بصيرة في فهم مراد أئمته عليهم السلام .

 

        الأول : لم اختار الإمام عليه السلام عدم اللحوق على عدم الإدراك والمعرفة مع أن عدم الإدراك والفهم لمقاماته أقرب في مقام الاستعلاء والتنزه عن سائر المخلوقين بالنسبة إلى عدم اللحوق إذ قد يدرك الشيء في الظاهر ما لا يلحقه وقد عرفت الآن أن الإمام عليه السلام لا يدرك مقامه ولا يفرض ولا يتصوره أحد من المخلوقين ولا يعرفهم إلا الله سبحانه .

 

        الثاني : لم خص نفسه الشريفة بعدم اللحوق مع أن الأئمة عليهم السلام كلهم كذلك لأنهم حقيقة واحدة وأحكامهم غير مختلفة .

 

        الثالث : لم أدى هذا المطلب على جهة الاستفهام الإنكاري .

 

        الرابع ما كيفية اللحوق وعدمه .

 

        الخامس : في بيان شرذمة من سر المستسر في هذه الفقرة المباركة .

 

        أما الأول فاعلم أنه قد تقرر عندنا أن العلم عين المعلوم ولا يتفارق أحدهما عن الآخر إذ لا يتصور انفكاك العلم عن المعلوم إذ ليس العلم إلا ظهور المعلوم للعالم وذلك الظهور قائم بالمعلوم لا بالعالم ولذا يوجد بوجوده ويعدم بعدمه ، وليس العلم هو الظهور العام حتى يكون غير المعلوم وإلا لم يكن العلم بالتعلقات المخصوصة علما مع أن الظهور عين المظهر إذ لوكان فيه جهة غير جهة الظهور لكان بذلك حاجبا لا مظهرا والمعلوم مظهر للعلم ولذا كان مادة المعلوم هي العلم لبيان أنه هو العلم مع الخصوصية فإذا كان كذلك فلا يدرك الشيء ما لا يلحقه أبدا ولذا امتنع إدراك ذات الواجب سبحانه إذ لو صح إدراك شيء مع عدم الوصول إلى حقيقته صح إدراك الذات كذلك ، ولوصح ذلك لما منع الخلق من إدراك الذات ، ولما كفر الشخص إذا ادعى أنه ادرك الذات البحت تعالى وتقدس وكذا امتنع إدراك المعدولات والممتنعات والعلم بها واستحال فرض المحال لامتناع الوصول إليها  لعدم شيئيتها ولذا قال عز وجل { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا }1فالإدراك يستلزم اللحوق في كل مكان فأنت حين ما تتصور البلدان البعيدة النائية عنك فقد لحقتها بخيالك و إن لم تلحقها بجسمك وما أدركتها أيضا  بجسمك والخيال وإن كان من عالم الغيب ونظره أيضا إليه إلا أن عالم الشهادة عند عالم الغيب كالنقطة للدائرة ، والخيال وإن كان يدرك الأجسام بها لكنه حين بعدك الظاهري التفت إلى ذلك المكان ببصرك الظاهري الذي هو هناك فعرفه به فقد لحقه في المقام الذي أدركته وإن وقع الخطأ فإنما هو في المرآة لا في أصل الواقع ولكن في هذه الصورة لا يقع الخطأ إلا إذا كان مستمرا إلى يوم المشاهدة العيانية واللحوق الحسي ، وأما إذا كان متخالفا كما لو تصورت البلدة الفلانية على هيئة خاصة ثم أتيتها ووجدتها على خلاف ما كنت تتصورها فإن التصور الأول إنما كان في الغيب وحده دون الشهادة ووقوع الخطأ لعدم صقالة المرآة .

 

      إن قلت فعلى هذا كيف لا يخطأ التصور بعد المشاهدة أو معها إذا كان لعدم صقالة المرآة .

__________________

1 طه 110 

 

      قلت القلب إذا كان مضطربا والحواس غير مجتمعة والنفس غير قارة مطمئنة إذا طلب شيئا من اللوح المحفوظ يقع منه فيها على حسبها من عدم الاستقرار فتظهر تلك الحقيقة فيها على غير جهة الاستقامة فإذا ظهر الأمر في الواقع بعد تأكد الأسباب والقرانات وينظر إليه بعد الاستقرار تجده مخالفا لما كان تعرفه سابقا كما إذا نظرت في الماء عند الاضطراب ونظرت إليه      بعده ، وعلى هذا يجوزأن يكون المراد من الإدراك مطلقا و إن كان جسميا فاللحوق حينئذ كان جسميا هذا مطلقا ، وأما المعصومون فإنهم يرون الأشياء النائية البعيدة على ما هي عليه من غير اختلاف كما روي أن الحسين عليه السلام أرى أم سلمة مصرعه ومقتله وأصحابه المستشهدين بين يديه روحي فداه وعليه سلام الله ووقع كما أراها عليها السلام من غير اختلاف وكذلك قال مولانا الصادق عليه السلام في أمر الرجعة وما أخبر من المغبة التي تنبئ لأمير المؤمنين عليه السلام و السرج المشعولة فيها وقال عليه السلام (( كأني أرى القناديل معلقة فيها كالشمس المضيئة )) وهذا كله يراه عليه السلام كما هو وكذلك الأخبار التي تقع على المؤمنين الممتحنين عند اجتماع قلوبهم  اجتماع حواسهم فإنهم يرون تلك الأحوال على ما هو عليه بأبصارهم الظاهرية لكنها هناك وذلك بخيالهم فنسبة الخيال واحدة و إن كانت نسبة الجسم متفاوتة فافهم فقد ألقيت إليك بذرا من الجنة وسقيتها بماء الكوثر ما أسعدك لوحفظتها عن الضياع والله خليفتي عليك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإذا فهمت هذه الدقيقة فهمت أن اللحوق مساوق للإدراك .

 

      تم الفراغ من العمل في هذا الكتاب المستطاب في ليلة الجمعة الليلة الثانية العشرين من شهر ذي القعدة الحرام عام ألف وأربعمائة وواحد وعشرين للهجرة على مهاجرها آلاف الثناء والسلام والتحية , وهذه الليلة الشريفة تصادف الذكرى المائة والستين على رحيل علم الأعلام جامع المعقول والمنقول حاوي الفروع والأصول العالم الرباني والحكيم الإلهي والفقيه الصمداني مفتاح علوم أهل البيت عليهم السلام شيخ المتأهلين وتاج رؤوس العلماء من الأولين والآخرين فخر الدين أحمد الإحسائي ابن زين الدين طيب الله ثراه وقدس الله نفسه وأعلى الله مقامه وأنار الله في الدارين أعلامه المتوفى في مثل هذه الليلة من عام ألف ومائتين وواحد وأربعين هجرية , والشيخ أعلى الله مقامه هو أستاذ المصنف أعلى الله مقامهما وأنار الله قلوبنا من نور علومهما وعلوم مشايخنا العظام أعلى الله كلمتهم , وقد تمت طباعة هذا الكتاب والاعتناء بتصحيحة على يد ثلة من الشباب المؤمنين الذين أطلقوا على أنفسهم لجنة السيد الأمجد قدس الله نفسه الشريفة لإحياء تراث شيخنا الأوحد ومشايخنا العظام أعلى الله كلمتهم , وقد تم العمل بأمر وإشراف حامل هذه العلوم والمدافع عنها والناشر لها المرجع الأعظم آية الله المعظم المجاهد خادم الشريعة الغراء الحاج ميرزا عبد الرسول نجل المرجع الراحل الإمام المصلح العبد الصالح الحاج ميرزا حسن الحائري الإحقاقي طيب الله ثـراه , واللجنة تهدي ثواب هذا العمل إلى روحه الطاهرة رضوان الله تعالى عليه , راجين من الله القبول وحسن التوفيق .

 

الصفحة الأخيرة

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

أقل الناس علما وعملا واكثرهم جرما وزللا

كثير المظالم والمآثم المسمى من قبل مولاه

بأبي المكارم حسين علي المطوع

تجاوز الله عن سيئاته