الباب الثالث

 

علي مع الحق والحق مع علي

 

 

 

 

الحق وشخصية المرتضى

 

         من المستلزمات الأساسية لاستيعاب الولاية لشرائط الحق : استقامة هذه الشرائط في الشخص الذي تنتجبه العناية الربانية لها . أو لا بد أن تصبح بدورها بعض المقومات الأولية لشخصية الولي نفسها ، وما تستوعبه هذه الشخصية من مدارك وطاقات واتجاهات ، وما يصدر منها من المواقف وأنواع السلوك ، دون أدنى وهن أو قصور ، وإلا قصر هذا الشخص عن الوفاء بمهماته الكبرى في منصبه الرفيع ، أو قصرت الولاية ذاتها عن تحقيق الغايات الربانية فيها ، وكلا الفرضين مما يستحيل تصوره بعد فرض انّ كلاً من تشريع الولاية ، واصطفاء الولي لها هو من الله سبحانه ، إذ لا تفاوت في حكمته تعالى ولا عجز في قدرته .

       ولأن الإنسان في واقعه ـ أعجز من أن يرتفع بمفرده إلى مستوى تلك الشرائط العليا، فمن الطبيعي حينئذ أن تكون الرعاية الإلهية تلك هي الضامنة لتحقيقها في شخصية المرتضى ، بنفس المستوى الذي تستوجبه آفاق الولاية ومهماتها في دين الله تعالى وفي حياة الإنسان معاً.

      فالرعاية الإلهية في التكوين الذاتي لشخصية المرتضى ـ تعني بناء هذا التكوين نفسه على أساس واحد ، هو الإسلام المطلق لله جل شأنه ، والانقياد التام لأمره ونهيه ، والتوجه إليه في كل صغيرة وكبيرة في حياته .

       فلا مجال في هذا التكوين لغير الله تعالى ، ولا خضوع منه لغير دينه ، ولا مظهر فيه غلا ما يستقيم مع حقائقه وما تدل عليه هذه الحقائق من معاني الحق ، ومعالمه ، وحجته .

     فقد سبق أن علمنا انّ الحق هو القيمة المطلقة في دين الله تعالى ، وعليه تتمحور جميع أهدافه في حياة الإنسان ، فهو المنطلق الذي يعتمده كل أفق من آفاقه ، وكل شأن من شؤونه . فطبيعي أن يكون الركن الاساس في بناء أي شخصية من شخصياته المنتجبة أيضاً فكيان الاسلام ـ كما علمنا ـ كيان حيوي الطبيعة متكامل الادوار والمواقع ، فمن المستحيل أن يستكمل صبغة الحق مع أدنى خلل في شمول هذه الصبغة لحقائقه كافة كما هو واضح ـ وترد النصوص الإسلامية لتؤيد هذه الحقيقة العقلية الواضحة ، وسنقرأ ـ إن شاء الله تعالى ـ بعضها في مباحث لا حقه .

 

 

الحق وعلي ( عليه السلام )

 

      اما في علي عليه السلام خاصة ـ حيث موضوع الحديث ـ فان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي أكد هذه القاعدة الثابتة من شخصيته العظيمة صراحة ـ في دعائه إلى الله سبحانه بعد إعلانه لولايته ( يوم غدير خم ) :

" و أدر الحق معه حيث دار " ([1]).

كما أقرها في مواقف أخرى أثرت عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذكر أئمة الحديث قسماً منها ..

كما في حديث أم سلمة ( رضي الله عنها ) ، زوج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :

( علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة ) ([2]).

وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً :

( رحم الله علياً ، اللهم أدر الحق معه حيث دار ) ([3]).

وأخرج الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال وقد مر عليه علي بن أبي طالب :

( الحق مع ذا ، الحق مع ذا ) ([4]).

كما أخرج عن محمد بن أبراهيم التميمي : ( ان فلاناً دخل المدينة حاجاً ، فأتاه الناس يسلمون عليه فدخل سعد فسلم فقال : وهذا لم يعنا على حقنا على باطل غيرنا .

قال : فسكت . فقال : ما لك لا تتكلم ؟

فقال ك هاجت فتنة وظلمة ن فقال لبعيري : إخ إخ ، فانحنت حتى انجلت .

فقال رجل : إني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أر فيه إخ إخ .

فقال : أما إذا قلت ، فاني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : "علي مع الحق ، أو الحق مع علي حيث كان " .

قال : من سمع ذلك ؟ . قال : قاله في بيت أم سلمه .

قال : فأرسل إلى أم سلمه فسألها . فقالت : قد قاله رسول الله في بيتي .

فقال الرجل لسعد : ما كنت عندي ألوم منك الآن . فقال : ولم ؟ .

قال : لو سمعت هذا من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم أزل خادماً لعلي حتى أموت) ([5]).

 

وعقب صاحب كتاب ( فضائل الخمسة من الصحاح الستة ) على الحديث قائلاً بعد روايته له:

( كلمة " إخ إخ " ـ بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة ـ صوت إناخة الجمل .

والظاهر ان في الحديث سقطاً ، والصحيح ( فقال الله لبعيري : إخ إخ فأنخت )

وذلك بشهادة الرجل : اني قرأت كتاب الله . ثم ان المراد من ( فلان ) في صدر الحديث هو معاوية بن أبي سفيان ومقصوده من عدم اعانة سعد على حقه : عدم نصرته له يوم صفين ، لأنه كان منعزلاً عن الطرفين ) ([6]).

   إلى روايات  عديدة اخرى وردت في هذا المضمون .

    وواضح ـ ولاسيما ـ بعد ما سبقت ملاحظته من النتائج ـ ان هذه الاحاديث وأشباهها انما وردت لتأكيد استقامة الإسلام ، وشرائط الحق فيه في هذه الشخصية العظيمة ، بعد تحقق الاصطفاء الإلهي لها ..

   فقد قلنا : انّ هذا العنصر هو الأساس الذي بني عليه دين الله تعالى نفسه وأقيمت عليه دعائمه ، فمن الطبيعي أن لا تقصر عنه ، أو عن شيء من شرائطه ومميزاته شخصية علي بن أبي طالب عليه السلام ، بعد أن أصبحت واحدة من تلك الحقائق ، بل ومصدراً من مصادرها ، تماماً كما كان الأمر مع شخصية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث انتجبته العناية الربانية لحمل مسؤوليات الرسالة قبل ولاية علي عليه السلام .

     وهكذا كان لابد أن يتجلى عنصر الحق في هذه الشخصية ، كما يتجلى في غيرها من حقائق الإسلام ، ولابد أن تستوعب شرائطه وخصائصه كل آفاقها وأبعادها ومكوناتها دون استثناء أو قصور والرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أقواله السابقة انما يؤكد هذه النتيجة الإسلامية الواضحة .

استقامة الحق في أصفيائه

 

ولفهم ما تعنيه رعاية الله سبحانه لشخصية المرتضى في هذه الناحية ، نعود مرة أخرى إلى النقطة التي انطلقنا منها في هذا البحث ... إلى التزام الإسلام لعنصر الحق أساساً له في وجوده وحقائقه كافة ...

اذ قلنا : ان هذا العنصر ـ في عالم المذاهب والأديان خاصة ـ يعني مطابقة  الدين أو المذهب لمقتضيات حكمة الله تعالى في خلقه للإنسان ، وتهيئته لتسنّم دور خاص بين مخلوقات هذا الكون ، وتوفير مختلف السبل والوسائل التي يحتاجها لتحقيق هذا الدور .. سواء في تكوينه الذاتي أم في قدرته على التصرف فيما حوله من الموجودات .

فهذه المطابقة تعني أن مذهب الحق لا يملي على الإنسان ولا يشرع له من التصورات أو الأحكام إلا ما يستقيم مع تلك المقتضيات ، ويحقق أهدافها فيه ، دون أدنى قصور أو انحراف .

بمعنى إن الإنسان ـ في واقعه الذي فطره الله عليه ، وجبله في أصل تكوينه ـ هو موضوع الإسلام ، وموضوع كل حكم من أحكامه ، وكل منهج يحتويه .

وفي المقابل فان مذهب الحق هو المنهج الذي يوفي لفطرة الإنسان حاجاتها ومتطلباتها في الحياة والسلوك ، لكي يبلغ بمسعاه في الحياة إلى تحقيق ما خلقه الله له وأراده لذاته من كمال أعلى ينبت عليه أوليات وجوده ، وأصول تكوينه الذاتي وأقام عليه مختلف اتجاهاته الفطرية العميقة في السلوك والتفكير .

فهناك وحدة واقعية تجمع بين الاتجاهات العامة لمظاهر التكوين كافة والإنسان ومذهب الحق . وهناك ترابط وثيق بينها جميعاً ، منشأه وحدة الحكمة الإلهية التي خلقت الكون ، وبرأت الإنسان ، كمظهر متميز من مظاهره ، ثم شرعت الإسلام ديناً له يوفي له حاجته من الكمال ويهيئ جميع ما يفتقر إليه من السبل المستقيمة لبلوغ مقتضيات تلك الحكمة في خلقه دون أجنى انحراف أو قصور .وقد أشرنا سابقاً ـ إلى أن ضرورة تحقيق الإنسان لتلك الوحدة الواقعية والاستقامة معها في سلوكه الاختياري كانت هي السبب في حاجته إلى مذهب الحق ، الذي يوفر له جميع مستلزمات هذه الوحدة إذ يستحيل على غير الله سبحانه أن يحيط بجميع مقتضيات حكمته في الخلق والتكوين ، ليستطيع اعتمادها في مذهب يشرعه للإنسان .

وهكذا فحين شاءت حكمة الله تعالى أن تكفي للإنسان حاجته إلى مثل هذا المذهب بالإسلام كدين توفرت فيه شرائط الحق . فمن الطبيعي أن تتجلى فيه جميع مقتضياتها دون استثناء .

إذن فلا غناء للإنسان ، ولا لاستقامة حياته بدون الإسلام أو بدون إتباع هداه ...

وكذلك فان قيام وجود الإنسان على أساس ثابت من هذا الهدى ، وانتظام الحياة على رصيد من مناهجه وأحكامه ، هو الهدف الواقعي المكين الذي تطمح إليه ذات الإنسان في أصل تكوينها وفطرتها ، قبل أن يكون هدفاً ناشئاً من التزام المرء بالإسلام ، وتعبده ببيناته ودلائله .

كما أن الشخص الذي تتكامل فيه ملامح الصورة الإسلامية المثلى للإنسان ليس هو الشخص المسلم الحق أو الإنسان الأمثل فحسب ، وإنما هو ـ قبل هذا ـ تلك القمة العليا التي تتجلى فيها حكمة الله تعالى في إنشائها للكون وخلقها لمظاهره كافة ، إذ بدون الوجود الفعلي لذلك الإنسان الأسمى والأكمل في هذه الحياة تبقى جميع تلك المظاهر قاصرة الدلالة والإدراك لعظمة الحكمة التي أبدعتها ودبرت شأنها .

     وهذا يعني أن وجود شخصيات إنسانية تتوفر فيها جميع ملامح تلك الصورة الإسلامية العليا للإنسان ، يعتبر إحدى الضرورات التكوينية التي لا بد منها لتجلي حكمة التكوين ، قبل أن يكون إحدى الضرورات السلامية التي تتجلى بها حكمة التشريع .

 

دور المرتضى في دين الله

 

    وناحية أخرى يجب الالتفات إليها وهي هنا ، وهي :

    إن اصطفاء الله سبحانه لشخصيات معينه من الناس لحمل مهمات كبرى في رسالاته ن وتسنم مناصبها العليا في البشرية ، كالولاية العامة على العباد وإبلاغ أحكام دينه القويم و الأولوية بالناس عليهم من أنفسهم ، يجب أن يقترن معه تعهد رباني خاص ، بأن يستوعب الشخص المصطفى جميع حدود وملامح تلك الصورة الإسلامية العليا للإنسان ، وإلا لم يتمكن من أداء المهمة التي أوكلت إليه بشكل يضمن للحق وحدته ووضوحه ومطابقته للواقع الإنساني ، ومثل هذا الاحتمال محال ، لأنه يعني تفاوت ما بين حكمة الاصطفاء والتشريع من ناحية والواقع الفعلي الذي يتحقق به وجود المصطفى وحياته من ناحية أخرى ، وتعالى الله عن التفاوت في الحكمة أو العجز في القدرة ، أو القصور في العلم .

    وناحية ثالثة وهي :

    إن أي انحراف أو شذوذ أو حتى خطأ ـ ولو جزئي ـ يصدر من أحد تلك الشخصيات المنتجبة لا يستقيم وحقائق الإسلام يعني ـ قبل كل شيء ـ عدم استقامة الحق في الإسلام ذاته وعدم تكامل شرائطه فيه .. وهذا مما يستحيل تصوره طبعاً .

فقد علمنا إن تلك الشخصيات ـ بعد تحقق الاصطفاء الإلهي لها ـ قد أصبحت من حقائق الإسلام في نفسها ، وأصبح جميع ما يصدر منها من الأقوال والأفعال من هذه الحقائق أيضاً ، فهذه الشخصيات هي مصادر تبليغها إلى العباد ، وهي أصول حجة الله بها على الناس كذلك .

(( لا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ولا حرام إلا ماحرمه الله ورسوله وهم .... )) .

(( النور من الله في ، ثم في علي ثم في النسل منه إلى القائم المهدي .. )) .

 

ولا يمكن الاعتذار بأن المخالفة التي حصلت من هذا الشخص المصطفى أو ذاك كانت بسيطة، أو إنها كانت منه في مورد جزئي لا أهمية له في الحياة ، أو وقعت منه نتيجة خطأ في التقدير ، أو غير ذلك ، فان أياً من هذه الأعذار غير ممكن التصور فيما يصدر عن هؤلاء المنتجبين ، لان استقامة الحق ، واضطراد شرائطه فيهم ـ كما هو الشأن في حقائق الإسلام كافة ـ حديان ، شاملان لكل ما يصدر منهم من عمل ، وما يكونون عليها من الأحوال ودون أدنى نسبة أو تجزئة فبدون هذه الحدية والشمول يستحيل التحفظ على الحق في دين الله تعالى وتحقق شرائطه السابقة فيه .

     ثم إن اعتبار البساطة أو الجزئية أو أشباهها من المفاهيم التي تهون من شأن المخالفة لأمر الله سبحانه إنما يرد في مرحلة السلوك والأعمال وما لها من آثار ونتائج في حياة الإنسان ، وهكذا سمي بعض الذنوب بالصغائر مقابل الكبائر ، لملاحظة اثر كل من النوعين على وجود الإنسان وأهميته في حياته .

     أما في المبادئ الأولى  لهذا السلوك من مكونات الشخصية ـ حيث تعني استقامة الحق في أولئك المنتجبين ـ فهذه المبادئ قد لا يتصور فيها ورود مفهوم البساطة والجزئية ، وان تبلورت في السلوك التافه بملاحظة الاعتبار الاجتماعي والحياة الإنسانية الجارية .

    فالاستقامة في تلك المراحل الأولى واحدة و الانحراف فيها واحد في أي مورد وردا ، وفي أي عمل تحققاً ، إذ لا يلحظ فيهما واقع هذا العمل بقدر ما يلحظ فيها التكوين الذاتي للشخصية واستقامتها مع الحق ، ولهذا فقد يتحقق مفهوم الانحراف وإن كان العمل في ظاهره غير خارج عن إطار الأمر الإلهي كما لو وقع العمل العبادي عن غير نية قصد القربة أو التهاون فيها .. وقد تكون المخالفة كبرى في ذنوب اعتبرتها الشريعة صغائر ، كما لو لم يعر الإنسان لما ارتكبه من الجرام أهمية ، أو مع التهوين من أمره أو الإصرار عليه .. وهكذا

     أن الملاحظ في هذه المرحلة هو وحدة شخصية الإنسان ومكوناتها ، وهي ـ كما نعلم ـ وحدة ذات صيغة حيوية متكاملة يستحيل فيها التجزئة والتبعيض ، كما يستحيل تجريدها من أحد أبعادها ومكوناتها أو استبعاده عن دوره بين سائر الأبعاد والمكونات الأخرى ، والتأثر بها والتأثير فيها جميعاً ، ولهذا فلا يمكن التفكيك فيما بينها في أي موقف أو حالة يكون عليها الإنسان ، لتداخل مشاربها وتشابك جذورها ، فأي موقف يصدر من الإنسان أنما يصدر من شخصيته المتكاملة تلك ، حيث تتراءى فيه جميع تلك المكونات والأبعاد دون استثناء ..

   ولهذا فان المخالفة التي يتسم بها موقف أو عمل يصدر من الإنسان ، إنما هي أثر بارز لخلل في تلك المكونات نفسها ، ووهن في تكامل ما بينها ، مما يعني امتداد هذا الخلل في مختلف جوانب الشخصية ، وانعكاسه بالتالي على أوليات سلوكها كافة وطريقة تعاملها مع الحياة .

     إذ الوحدة ـ كما علمناها ـ حيوية الطبيعة متكاملة الأدوار ، والجاري بين مختلف الجذور والمكونات هي أعمق وأعقد من أن تقف بآثار النقص أو الخلل عند نقطة محددة منها، فالخلل الموجود في السلوك ـ كما هو شأن السلوك نفسه ـ إنما يصدر من الشخصية ككل ، لينعكس بآثاره عليها ككل أيضا .

    هذا و أن لعلم النفس الحديث تصوراته القريبة من الواقع في هذه الناحية ، فهو قد استطاع ـ بدراساته الجادة ـ أن يكتشف من أوجه هذه الوحدة في مكونات شخصية الإنسان وحيوية العلاقة فيما بينها ، وعمق الروابط فيها أشياء جيدة . لا في خصوص عالم الشعور فحسب ـ حيث يستطيع الوعي أن يتخذ دوره الواضح في قيادة السلوك ـ وإنما فيما وراء هذا العالم أيضاً حيث تتأثر شخصية الإنسان بأمور تكمن وراء الشعور ، وتملي عليها ـ من هذا العالم البعيد عن تصور الفرد نفسه ـ مقتضياتها ذات الأثر الفعال في تكوين بنيتها وفي سلوكها وإن يدرك الوعي من أسبابها ما يمكنه من الاستفادة من ايجابياتها أو تلافي سلبياتها .

      كما استطاع علم النفس أن يتعرف ـ حتى الآن ـ على جوانب من تأثير بعض العوامل الطبيعية في شخصية الإنسان وسلوكه ، سواء منها ما يجري في جسمه كالغداء والقوى الفسيولوجية ، أم بعض الظواهر التكوينية التي يعيش بها كالبيئة الجغرافية والجو أم الوسيط الاجتماعي الذي يكتنف حياته وموقعه من المجتمع ، وهكذا .

      فسلوك الكانسان في أي جانب من حياته يتصور ـ لا يمكن أن ينفصل عن أي من هذه العوامل فلكل منها دوره ، ولكل منها آثاره البارزة أو الخفية فيه .

    ولهذه النقطة دلالاتها الكبرى في فهم الحدود اللازمة لشرائط الحق المتصورة في أولئك الذين انتجبهم الله تعالى لتسنم المناصب العليا في دينه العظيم ، كالولاية العامة على الخلق ، وإبلاغ رسالته إليهم ، وغير هذا ...

 

وبعض هذه الدلالات :

1- ضرورة استيعاب هذه الشرائط لجميع آفاق شخصيات أولئك المنتجبين ، بكل ما فيها من دقائق وأبعاد ، فلا يشذ عنها أفق ولا تقصر عنها دقيقة .. إذ لا تبعيض في التكامل الشخصي للإنسان ـ كما علمنا ـ ولا استثناء مع ما فيه من سمة الحيوية التي اشرنا إليها في حديث سابق .

2- ضرورة أن تغور هذه الشرائط إلى أعمق أعماق تلك الشخصيات في تكوينها الذاتي ، ثم ومن تلك الأعماق تنطلق لتتراءى في أي سلوك يصدر منها ، أو فكرة تطرحها إذ يمتنع استبعاد أي من تلك الأعماق عن التأثر فيما سواه من مكونات الشخصية .

 

       وهنا يبرز سؤال مهم هو : أنى يمكن لأحد من الناس أن يستقل بمفرده في الوصول إلى هذا المدى دون رعاية مباشرة من الله سبحانه وتعهد منه خاص ، يضمن هذا البلوغ دون وهن أو غموض ؟

     بل ، وعلينا أن نلتفت هنا إلى أن الدرجة المطلوبة من ذلك الاستيعاب والعمق لشرائط الحق في شخصية المصطفى لا تقف عند حدوده الفردية فحسب و إنما هي تتسع حتى تشمل متطلبات دوره في دين الله ومسؤوليته في الحياة الإنسانية كافة بل والوجود التكويني ككل .

واضح أن هذا الاستقلال محال ـ كما قلنا أكثر من مرة ـ وقد استعرضنا في الحديث عن البعد الإنساني للولاية بعض جوانب القصور الذاتي الموجود في الطاقات والقابليات التي يتعامل الإنسان من خلالها مع مختلف الأمور ، واشرنا إلى تأثره بحدود العصر الذي يعيش فيه ، وهما ـ كما قلنا ـ جانبان مهمان مما يقصر بالإنسان عن الاستقلال بنفسه في الارتفاع إلى الدرجة التي يقتضيها الاصطفاء الإلهي من شرائط الحق ، ما لم يسند المصطفى برعاية خاصة من الله تعالى .

 

     ويمكننا أن نضيف هنا عوامل أخرى لهذا القصور أيضا يجب أن لا تغيب عن الوعي وهو يدرس هذه الناحية من أولئك المنتجبين ( عليهم السلام ) .

 

 

ومن عوامل القصور الإنساني أيضاً

 

     أحدها : طبيعة العلاقة التي تربط ما بين الإنسان وذاته ، وما بينه وبين غيره من الموجودات إما ضمن دائرة المجتمع الإنساني أو ضمن البيئة أو الوسط التكويني الذي يعيش فيه أو غير ذلك مما يكتنف وجود  الإنسان وحياته .

فهذه العلاقة كما تتسم بالاستقامة والتكامل في بعض جوانبها قد يكون الصراع والشد هو الحاكم عليها في جوانب اخرى .

والفرق بين الاتجاهين وان اتضح في بعض الموارد ، إلا انه في موارد اخرى قد يكون من الدقة بحيث قد تخفى معالمه وحدوده على بصيرة المرء ذاته بل وفي بعض الحالات قد يتداخل الاتجاهان معاً حتى في الموقف الواحد بشكل قد يفوق التصور .

وطبيعي أن تتضاعف تلك الدقة وهذا التداخل مع كل أفق جديدة يستوعبه دورا لموقف في الحياة ، ومع كل أهمية له فيها ، ومع كل مسؤولية لصاحبه في المجتمع أو بين مظاهر الوجود .

     ولهذا ففرد من الناس قد يستطيع أن يتبصر مختلف أطراف المواقف ويرى معالم الحق فيه واضحة كل الوضوح ، ويضمن لنفسه الاستقامة معه في السلوك إلا انه في مواقف أخرى قد ينأى عنه مثل ذلك التبصر وهذه الرؤية ، فلا يتمكن إلا من التخبط العشوائي دون أي بصيرة إلا حيث يكتسبها من مصدر آخر يسلم إليه قيادة فيه ، ومن هنا كان لا بد من التعاون بين الناس في الحياة ، فبهذا التعاون يمكن أن تنتظم مسيرة الإنسان نحو الكمال وتستقيم في سبيله .

    إلا أن المعرفة البشرية كلها لم تبلغ درجة الإحاطة الكاملة بمختلف ظواهر الوجود ودقائقها ، ليصبح الإنسان قادراً على استيعاب جميع موارد التكامل والصراع بينها ـ وليحدد ـ على أساس من هذا الاستيعاب ـ معالم كل من الحق والباطل فيها . والشاهد القريب على هذا القصور في المعرفة هو تطورها وتناميها اليومي ، فما أكثر ما عمله الإنسان اليوم مما كلن يجهله باللامس .. وطبيعي آن يعلم في الغد بعض ما يجهله اليوم وهكذا ، إذ لم تتوقف حركة المعرفة وتقدم العلوم مع الزمن ..

      وبعض دلالات هذا القصور هو أن الإنسان أقل من أن يمتلك القدرة الكافية على استيعاب معالم الحق في جميع القضايا والمواقف بمفرده ليضمن لنفسه استقامتها المطلوبة في أصعدة الحياة كافة وفي جميع صور تعامله مع الأمور ، ولهذا فهو قد يحيد عن القصد في بعض الحالات ، وقد يستكين لدواعي الانحراف في حالات اخرى ، وقد تهن به قواه عن نيل أهداف عليا له في الحياة وهكذا .

     ودقة التداخل بين مختلف الاتجاهات وتشابك ما بين خطوطه يعني أن مكامن كل من التكامل والصراع غير محدودة المواقع والخطوط فيها ، ليستطيع الإنسان ـ ولو في إطار النوع ـ أن ينسلب في مسيرته جميع الطرق التي لم يحط بحدودها وليتجنب ـ من ثم ـ السالب من آثار السلوك فيها ، فمثل هذا التمييز غير مستطاع في أغلب أصعدة الحياة إذ موقف واحد قد يصبح مجلى لتكامل الإنسان وإدراكه لحدود الواقع بل ولصراعه معه .. وهي قضية عامه لها آثارها الحاكمة على الإنسان في مختلف جوانب حياته حتى في أوليات فكره وفي تصوره العقلاني ، ويمكن لأي احد من الناس آن يدركها من نفسه قبل غيره .

      وطبيعي أن تحقق شرائط الحق في شخصية احد من الناس ـ وفي الحدود الواسعة التي قلناها ـ يستدعي ـ ولا ريب ـ أن يمتلك من القوة الذاتية ما يستطيع به أن يستشرف ـ في عقله وبصيرته ـ على جميع علاقاته الذاتية مع نفسه ومع غيره ويهيمن به على جميع أبعاد ومكامن التكامل والصراع التي ترد ضمن مواقفه وتفاعله مع مختلف القضايا والأحداث ليدرك الصواب الكامل دون وهن أو قصور ، فلا يمضي ألا مع الحق ، ولا يستكين لغير مقتضياته ولا تفاوت عن دلائل اصطفائه ، كما تفاوت الإلهي ذاته عن استقامة ، وهذا ـ كما علمنا ـ محال . إذن فلا بد من المدد الرباني ، ولا بد من الرعاية المباشرة لضمان تلك الشرائط ، لان تلك السعة والدقة ، والهيمنة التامة على الأمور والمواقف كلها مما يستحيل على احد من الناس إن يستقل فيها بنفسه دون ذلك المدد كما رأينا ـ .

 

    ثانيها : طبيعة نشأة الإنسان وتأثره بعوامل الوراثة والبيئة ...

        وهي عوامل استطاعت الملاحظة الإنسانية والدراسات العلمية المختلفة ان تدرك بعض آثارها في شخصية الفرد وتوجهاته ، فإلى تلك النشأة أمكن أن تعزى للنوع الثاني الطرائق والاتجاهات التي تتبلور بها تلك الطاقات والقابليات وسبل تفاعلها مع الحياة .

ولان لهذه العوامل جميعها دوراً اساسياً وكبيراً في قيام كيان الفرد ، وتحديد معالم شخصيته ، فمن الطبيعي أن يتأثر بسلبيات هذه العوامل كما يتأثر بايجابياتها ، وهو تأثر وان لم يبلغ إلى درجة الجبر ، إلا انه كاف في تحديد التوجهات الذاتية للفرد وتعين اتجاهات شخصيته .

      هذا في حين أن من غير الممكن أن تتوفر لأحد من الناس ـ وفي جميع مراحل عمره ـ تلك الدرجة العليا من الكمال ، في جميع العوامل الوراثية والبيئية معاً دون مدد رباني خاص . لتمده ـ من ثم ـ بكل الراصدة الذاتية التي يحتاجها في الاستقامة المطلقة مع الحق ، واستيعاب شرائطه كافة وإتباع هديه في كل حال .. والتزامه نقطة انطلاق ثابتة في كل صعيد من أصعدة الحياة لا يشذ عنها ولا يحيد في أي من أحواله وأموره ، كما يتطلبه الأمر في الشخص المرتضى لقيام كلمة الله تعالى في هذه الأرض ...

      وهذا يعني أن تأثر الإنسان بسلبيات النقص والتفاوت في هذه العوامل مما لا يمكن تجنبه لأي فرد من الناس دون ذلك المدد الرباني الخاص الذي يرتفع به عن الموهنات منها ، ويسمو عما يتأتى لها من نتائج غير مرضتاه للحق ودينه سواء في تصوره أم في سلوكه ، بمعنى إن يستخلصه الله تعالى لنفسه في جميع حالاته ، ومكونات شخصيته ، دون أن تأخذ منه تلك العوامل أي مأخذ وان استطاعت إن تنحرف بغيره عن قويم السبيل آو تهن به عن بلوغ الغاية.

 

     ثالثها : طريقة النمو الإنساني وتكامل غرائز الفرد وقواه الجسدية والعقلية والنفسية منذ ولادته وحتى المراحل العليا لنضجه الكامل .

      فمع إن تلك الغرائز والقوى تولد بولادة الشخص ، إلا أن كلا منها ـ وكما هو معروف ـ وقبل أن يبلغ مرحلة النضج الكامل يمر بمراحل من الكمال والنمو التدريجي المتصاعد ليصبح لكل مرحلة من المراحل مزاياها البارزة وطابعها المتميز ، وتأثيرها الخاص على شخصية الفرد وتوجهاتها .. مما جعل لكل مرحلة من المراحل سمات متفاوتة عن المراحل الأخرى .

     وهي قضية يشهدها كل امرئ من نفسه قبل أن يراها في غيره من الناس .

    فالطفل يولد ولديه جميع ما يملكه الإنسان الناضج من الغرائز والدوافع والطاقات التي يحتاجها في تحقيق وجوده وإنسانيته وممارسة حياته ، إلا أن الغالب منها يوجد لديه كامناً بعيداً عن الظهور ، إلا ما يحتاجه منها في أيامه الأولى ، ثم ـ ومع تقدمه في الحياة ـ يبدأ كل منها في النمو والتطور مرحلة بعد أخرى حتى تصبح في صورتها النهائية حين تتكامل جميعها ، وتتنسق في تفاعلاتها عندما تبلغ الشخصية مرحلة نضجها واستوائها الكاملين .

     وكل فرد يرى من نفسه ـ وحتى قبل ملاحظته لغيره من الناس ـ بأن لكل مرحلة من نموه الذاتي ـ يمر بها ـ سماتها الخاصة التي تفرض عليه بعض الاهتمامات ، وتملي عليه اتجاهات ومواقف ذات طابع معين يستحيل عليه تجاهله أو إهماله ، دون أثر سلبي ينعكس على ذاته .

     وواضح إن تحقيق الاستقامة التامة والتوازن العام في مكونات الشخصية ـ التي تستوجبها شرائط الحق في شخصية المنتجب ـ وان أمكن تصورها في مراحل متأخرة من النضج لدى بعض الناس ،  إلا إنهما غير ممكنين أبداً فيما سبقها من المراحل ، ولا سيما في ادوار الحياة الأولى ، حيث لم تكتمل ـ بعد ـ قوى التعقل والإدراك ، فهي غير مأمونة التأثير .

      على آفاق الشخصية ولا سيما في عالم اللاشعور ، وما أكثر ما يجد المرء من نفسه ملامح تلك السلبيات ومعالم هذا القصور ، وهي تنعكس على تصوره وسلوكه !!

وعليه فلا بد من رعاية الله تعالى ولطفه الشاملين لأولئك الأصفياء ( عليهم السلام ) ، ولا بد من إشراف الهي مباشر عليهم يكون هو المتعهد لشخصية القيم على دين الحق والمبلغ لدلائله ، منذ أدوار وجوده الأولى وحتى آخر مرحلة يحقق بها مسؤولية في هذه الأرض ، لئلا يكبو عن القصد ، أو يتأثر بنوازع الهوى أو يقصر لعدم الاكتمال .

 

 

 

شمول الرعاية الإلهية لرسل الله وأصفيائه

         وكما لم تختص ولاية على ( عليه السلام ) بالرعاية الإلهية التي لا حظنا بعض جوانبها في الباب السابق ، ولا يختص علي ( عليه السلام ) ذاته من بين أصفياء الله سبحانه بهذه الرعاية التي تضمن لحق شرائطه في شخصيته .

     بل ، ولا اختصاص لرسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا لمنتجبيها الطاهرين (عليهم السلام ) في أي من أوجه الرعاية تلك ، فهي ـ وكما أشرنا أكثر من مرة ـ تعتبر دعامة أساسية في ضمان استقامة الحق ـ ذاته ـ وتحقيق شرائطه في دين الله تعالى وبيناته ، وعلى امتداد تأريخه مع البشرية ، منذ النبي الأول وحتى الوصي الأخير فيه . إذ الأصول واحدة ، والضرورات واحدة ، والحكمة التي يعتمدها في قيام حجته واحدة في الجميع كما أن قدرة الله تعالى التي اصطفت أولئك الأصفياء ـ هي أسمى من أن يداخلها عجز ، وحكمته أجل من يشوبها عبث أو تفاوت .

      وكتاب الله العزيز ، يؤكد هذه الناحية في العديد من سياقاته ويشير في الكثير من آياته المباركة إلى هذا العموم في الرعاية الإلهية ، ويصرح بأنها قد واكبت شخصيات الرسل والأنبياء ( عليهم السلام ) الذين سبقوا محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الزمان ، كما يشير إلى جوانب مما أفيض منها على الرسل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه من بين أصفيائه المنتجبين ( عليهم السلام ) . ويمكننا أن نقرأ هنا نماذج قليلة من هذه الآيات كقوله تعالى عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) :

] واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدّار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار [ ([7]).

 وكقوله تعالى عن يوسف عليه السلام : ] وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك . قال معاذ الله انّه ربي أحسن مثواي انّه لا يفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انّه من عبادنا المخلصين [ ([8]).

وعن موسى عليه السلام قوله تعالى : ] واصطنعتك لنفسي [ ([9]).

وعن عيسى ( عليه السلام ) يقول عز من قائل : ] إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس [ ([10]).

وأخيراً نقرأ قوله سبحانه عن محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ] ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء [ ([11]).

ولا نفيض في قراءة المزيد من الآيات ، فهي أكثر من أن تستوعب في هذا المجال .

" إنا خلصناهم " . " أن رأى برهان ربه " . " اصطنعتك لنفسي " . " أيدتك بروح القدس " .

" لو لات فضل الله عليك ورحمته " .... هذه  هي تجليات تلك العناية الربانية ومظاهر الضمان الإلهي لاستقامة الحق في تلك الشخصيات العظمى من دين الله تعالى ومدارك الوحدة المطلوبة في مختلف حقائقه فيهم .

أما بالنسبة إلى وجود هذه الرعاية في علي عليه السلام خاصة ، وبناء شخصيته على أساس مطلق من الحق ، فيكفينا من شواهدها آية التطهير المباركة التي جمعت بهذه الرعاية علياً إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والزهراء والحسن والحسين ( عليهم السلام ) في أذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنب ، إذ قال تعالى :

] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [ ([12]).

ودلالة الآية على المراد أوضح من أن تحتاج إلى بيان .

كما أن اختصاصها بهؤلاء الخمسة الأصفياء من الناس هو المتواتر عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما أخرجه الحاكم في المستدرك بسنده عن عائشة قالت :

( خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غداة ،وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ، ثم جاءت فاطمة فادخلها معهما ثم جاء على فادخله معهم ، ثم قال : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " ([13]).

كما أخرج الترمذي بسنده عن عمرو بن أبي سلمه ( ربيب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ( لما نزلت هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : } إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً { في بيت أم سلمه ، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء ، وعلي خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال :" اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " .

قالت أم سلمه : وأنا معهم يا نبي الله ؟

قال : أنت على مكانك وانك على خير ) ([14]).

ويمكننا أن نضيف من هذه الشواهد قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علي عليه السلام خاصة ـ من حديث ـ ( يا معشر قريش ! لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد امتحن الله قلبه على الإيمان ) ([15]).

 ودعا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له يوم غدير خم : ( وأدر الحق معه حيث دار).

ودعاؤه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له يوم أن بعثه إلى اليمن : ( اللهم أهد قلبه وثبت لسانه)([16]).

إذن فرعاية الله سبحانه المباشرة هي الرصيد الأول الذي يحقق به المصطفون شرائط الحق في وجودهم وهي السبيل الأوحد الذي يستحيل عليهم ـ بدونها ـ بلوغ الغاية السامية من اصطفائهم في استقامة دين الله تعالى ووحدة بيناته ووضوح حجته .

وعلي ( عليه السلام ) لا يختلف عن غيره من هؤلاء الأصفياء النجباء في ضرورة هذه الرعاية له بعد أن تحقق ارتضاء الله له ، واصطفاه إياه لتسنم مقام ولايته الكبرى بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

 

 

الرعاية الإلهية ومواردها في الأصفياء

 

     لكن .. ماذا تعني تلك الرعاية الإلهية لأولئك الأصفياء ؟

    وما هي مواردها في شخصياتهم المطهرة ؟

    والى أي مدى تمضي معهم ؟

    هذه الأسئلة وأشباهها مما يتبادر إلى الذهن ، وهو يتأمل الحديث السابق في البحث عن ضرورة هذه الرعاية الإلهية ودلائلها في أولئك المنتجبين ، إلا أن ما ينبغي الالتفات إليه هو استحالة الإجابة عنها بما وراء الحدود التي أملتها دلائل الحق التي سبق الحديث فيها ، وما أدركته فطرة الإنسان ، وهي تستلهم هذه الدلائل في أولئك الصفوة من البشر . أو بما وراء النصوص الإسلامية الصحيحة التي رسمت الخطوط العامة لتلك الدلائل وأكدت تلك الضرورات .

     فتلك الرعاية الإلهية في واقعها فيوض ربانية خاصة لنخبة من الناس اقتضتها فيهم حكمة الله سبحانه لهم والتزامه إياهم أمثلة شاخصة لهداه فهي مما يستحيل على أحد من الناس بلوغ كنهها ، أو الإحاطة بحدودها في ذواتهم ـ من ثم ـ تحديد معالمها ، أو استيعاب شيء من آفاقها فيهم .

     فالفكر الإنساني اقصر من أن يدرك شيئاً من رعاية الله تعالى لذات نفسه ، وأقل من أن يفهم مجاريها في قضاياه ، في وقت هو يعيش هذه الرعاية في كل شأن من شؤونه ، ويلمسها في كل حالة من حالاته  . إذن فكيف يؤمل له التطاول إلى تلك الآفاق العليا بإحاطة ، أو نيلها بتحديد ؟ .

      إذن ، فلا بد أن تتخذ الإجابة عن الأسئلة السابقة مسارات أخرى غير هذا الاتجاه المستحيل .

      مسارات تعتمد نفس الأوليات التي اعتمدناها في هذا الحديث لأنها هي الأصول التي يطلب استيضاحها لوفاء الإنسان بمسؤوليات تجاه تلك الذوات الطاهرة .

     أي مسارات تعتمد ما يمليه الحق من شرائط فيها ، وما تستوجبه استقامة في وجودها وحياتها ، وما تطرحه النصوص السلامية الصحيحة من مفاهيم وحدود تنير للمؤمن سبل الالتزام السليم بأولئك النجباء ، وإتباع هديهم ، إذ أن للحق دلائله ، التي يجب آن تسترشد في تمييز منابعه ، وان لدين الله تعالى حجته الواضحة في كمال هداه ، وجلاء بيناته ، في حدود ما يستطيع الإنسان إدراكه وفهمه من أمور .

      ولا ريب أن في محاولتنا فهم شرائط الحق ، واستقامتها في أولئك الصفوة النجباء ، وفي تأكيد النصوص السلامية لهذه الناحية فيهم ، وبيانها لدلائلها وإبعادها في شخصياتهم ، معيناً كافياً في تعريف الإنسان بما تعنيه الرعاية الإلهية لهم في الحدود التي يستطيع فهمها من هذه الرعاية ومواردها فيهم ، ليتمكن لطالب الحق اعتمادها في علقته معهم ، والوفاء بمسؤولياته تجاههم .

     اما ما وراء هذه الحدود ، فينبغي العلم بانه ما لا يعني الانسان العادي الولوج فيه ، ولم يرد ضمن إهتمامه ، أو حتى ضمن طاقة فهمه وإدراكه ، بل وحيث لا يستند الحديث فيه إلى أساس ثابت من العلم يصبح الوغول فيه رجماً بالغيب ، لا ينتهي معه الانسان إلى نتيجة مرضية . وان كان للواقع ثبوته الذي لا ينكر في تلك الشخصيات المطهرة .

ولهذه فنحن هنا ـ حيث نسعى إلى تكوين صورة واضحة للاجابة حول الاسئلة المتقدمة نحاول ـ قدر المستطاع ـ ان لا نتجاوز الحدود التي ذكرناها . ومن الله جل شانه نستمد التوفيق والسداد انه ولي التوفيق .

      ثم ان هنا نقطة مهمة يجب الالتفات اليها في هذا المجال .

        وهي ان النصوص الاسلامية الواردة في بيان الرعاية الالهية لاولئك الصفوة المنتجبين ، قد يركز كل منها على مفهوم خاص من هذه الرعاية في بعض اولئك الاصفياء ، حسب ما تقتضيه المورد الذي ورد فيه ذلك النص كما رايناه في النصوص السابقة .

      الا ان خصوصية الورد لا تعني الاختلاف في واقع تلك الرعاية ، او التعدد في طبيعتها ، او التفاوت في اهدافها او اختصاص كل واحد من أولئك الاصفياء ( عليه السلام ) بجانب خاص منها ... كلا أبداً وانما هي مظاهر لواقع واحد شامل لجميع اولئك المطهرين ( عليه السلام ) لتحقيق اهداف موحدة الخط والاتجاه ، اقتضتها حكمة الله تعالى في انتجابهم لدينه العظيم .

     فهذا العموم هو ما يعنيه اضطراد شرائط الحق في اولئك الصفوة استقامتهم مع مقتضيات هداه ، دون ادنى تفاوت أو عوج ...

     وهو ما تؤكد عليه النصوص الاسلامية الواردة في بيان شرائط النبوة والامامة التي سنذكر بعضها ـ فيما بعد ـ ( إن شاء الله تعالى ) .

    ولهذا فان آيات سورة (ص) السابقة حين تقول عن ابراهيم واسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) : " إنا خلصناهم بخالصة " فان هذا الاخلاص الالهي ليس هو من مختصاتهم وهدهم من بين أصفياء الله الاخرين فكل هؤلاء الاصفياء مخلصون لله تعالى .

     وكذلك فان آية سورة ( يوسف ) التي تذكر عنه : " وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " فان هذا البرهان الرباني وصرف السوء والفحشاء ليسا مما تميز بهما يوسف ( عليه السلام ) بمفرده دون غيره من المصطفين ..

    و الامر نفسه وارد مع اصطناع الله لموسى ( عليه السلام ) وتأييده لعيسى ( عليه السلام) بروح القدس ، او فضل الله ورحمته على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ... فهذه النواحي كلها عناوين متعددة لحقيقة واحدة شاملة اقتضتها حكمة الاصطفاء الالهي واستوجبتها استقامة الحق في أولياته .

    بمعنى ان كل مفهوم تعرض له تلك النصوص لا يعدو كونه واحداً من المجالي التي يتراءى بها ذلك المدد الواحد أو مطهراً لذلك الفيض الرباني العميم عليهم أجمعين وعلى البشرية كلها من خلالهم ، كهداة مهديين لها في سبيل الخير والكمال .

     نعم ، حين تكون هناك قرائن تخصص بعض الامور في مواردها فلا بد أن يقتصر بها حينئذ عند حدودها المذكورة ـ كما هو واضح ـ إذ لا مجال للتعميم في مثل هذا المورد .

      وهذا العموم الذي ذكر قد يعني امكان ان ننطلق في فهم جوانب هذه الرعاية الالهية ومواردها في تلك الشخصيات المصطفاة كافة ، من خلال كل من تلك النصوص ، وان ذكر كل منها على جانب خاص ركز في واحد منهم ، لعموم الضرورة السابقة ، ووحدة الحكمة الالهية واهدافها في اصطفائهم ، والتعهد الرباني لهم ، ولما أكدته تلك النصوص العامة التي ذكرت الشرائط التي يجب أن تتوفر فيمن يرتضيه الله تعالى مبلغاً لامره ونبراساً لهداه في البشرية .

 

من دلائل الحق في الرعاية الإلهية .

 

        اما ماهي دلالات شرائط الحق في هذا المجال ؟ ، وما هي معطياتها في بيان الرعاية الالهية وأبعادها ومواردها ومداها في تلك الشخصيات ؟

وما هي المفاهيم التي طرحتها النصوص الاسلامية الواردة في بيان هذه الامور ؟

غني عن البيان ان نقول بان هناك الكثير من القضايا التي يمكن تصورها في هذا المجال .. كما ان هناك الكثير من المفاهيم التي عرضت لها النصوص الاسلامية في تقديمها لسمات ومميزات أولئك النجباء ( عليهم السلام ) .

الا اننا هنا ـ ونحن نتأمل دلالات الالتزام الالهي لتلك الشخصيات المصطفاة في خطوطه العامة ـ لا بد أن نتقيد بهذه الحدود في هذه الناحية ايضاً ، كما وقفنا عندها سابقاً في استعراضنا للنواحي الاخرى إذ لا يمكننا الدخول في الجزئيات وإن كان بعضها من الاهمية بمكان .

    ولهذا فنحن نذكر من مظاهر الرعاية الالهية لاولئك النجباء ، ما يلي :

   أولاً :

   إنشاء الشخصيات المنتجبة كافة ـ بما فيها شخصية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ـ وبما فيها من مكونات وأصول وطاقات على أكمل صورة تعنيها التسوية الالهية للإنسان الحق ، وعلي أسمى ملامح يقدمها التصور الاسلامي ، وتتطلبها فكرته العامة عن كماله الذي يحقق لحكمة الله تعالى فيه غاياتها ، دون أي نقص أو خلل يقتصر بأي منها عن استيعاب شيء من مستلزمات الحق وشرائطه في الانسان المرتضى .

" واصطفيتك لنفسي " .

       وهكذا فلا يقعد تلك الشخصيات قصور يتأتى لها من وراثة بعض النقائص من الاسلاف ، او وهن في بيئة يعيقها عن نيل ذلك الكمال الاسمى ، ولا ترجيء قدرتها على تجسيد الحق في كيانها ، عملية التطور المعود بين الناس ، في أي مرحلة من مراحل وجودها.

      إذ سبق ان اشرنا إلى ما يستوجبه النقص الوراثي في مكونات الذات من تحديد في قدرة الانسان على الانطلاق في افاق الكمال .. كما سبق ان لاحظنا ما يعنيه التطور الطبيعي في جسم الفرد ونفسه من تفاوت في مراحل النضج ، وتأثر كل مرحلة من مراحل عمر الشخص ببعض العوامل النفسية والجسدية التي قد تفقده حتى التوازن المطلوب في رؤية الواقع ، والاستقامة معه في التصور والسلوك .

      ولما كان كل من الامرين غير ممكن في الشخص الذي يختاره الله تعالى لامره ، ويرتضيه لعهده ، فيجب ان تتجاوز رعاية الله فيه أي نقص يمكن ان يرد عليه في أي من مكونات ذاته ، أو أركان وجوده أو اصول ومظاهر حياته ، سواء في اصل خلقه ام في نشأته ام في مسيرة حياته .

      وقد سبق ان لاحظنا ان القصور في أي من تلك النواحي لا يقف في آثاره على جانب معين من الذات ، أو عند شكل خاص من أشكال حياتها ، فهي ـ كما تعلم ـ موحدة الجوانب متكاملة الابعاد حيوية العلاقات .

     والقرآن الكريم يذكر أمثلة لهذا التجاوز في رعاية الله سبحانه لعاملي التطور الطبيعي والوراثة في تلك الشخصيات المنتجبة ، كما في شخصيتي عيسى بن مريم ( عليه السلام ) ويحيى بن زكريا ( عليه السلام ) اذ يقول تعالى :

]    فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا . وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقيا .والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً [ ([17]).

]     يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً . وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً [ ([18]).

     ولا ريب انه تجاوز غير مستغرب ، بعد أن عرفنا أنها رعاية خاصة ، ممن بيده مقادير الامور وتدبيرها .. وانها رعاية اقتضتها حكمة الله سبحانه ، التي شاءت أن تصطفي تلك الذوات . وأن تضمن من مجالي عظمتها فيها ما يحقق للحق شرائطه في كل دور من أدوار وجودها ، وأن تظهر فيها من سمو دين الله ما يقيم بها حجة الله تعالى على العباد كأمثلة شاخصة للبشرية ، وشواهد هادية لها نحو الخير والصلاح .

 

   ثانياً :

    انشاء تلك الشخصيات ـ وبكل ما تملكه من مظاهر الكمال الانساني ـ على أساس واقعي ثابت ، مما تقتضيه حكمة الله سبحانه في الانسان ، وعلى رصيد تام من دلائل الهدى في دينه القويم ... بمعنى ان تتوحد في هذه الذوات حكمة الخلق والتشريع معاً ، ليكون وجودها مظهراً لعظمتها معاً كذلك بل ومظهراً لعظمة حكمة المكون والمشرع سبحانه ايضاً .

      فهي رعاية تخلص تلك الذوات لله تعالى وحده ، وتمحضها للحق الذي تقتضيه حكمته ، فلا وجود في كيانها لغير الله تعالى ولا حياة لها بدون هداه ، ولا موقع في نظرتها لغير كلمته.

] انّه من عبادنا المخلصين [ ([19]).

] انّا أخلصناهم بخالصة [ ([20]).

] امتحن الله قلبه للإيمان[ ...

 " أدر الحق معه حيث دار " ...

    ثالثاً :

     الهيمنة المطلقة للعقل ، وقوى الوعي المتبصر على كل ركن من أركان شخصية المنتجب ، وكل مجلى من مجاليها ، فلا دخائل في هذه الشخصية تزيغ بالعقل عن تبصره ، ولا عقد نفسية تلقي بظلالها عليه من وراء الحجب فلا خطأ ... ولا زلل .

   وانما هو هدى كامل ، ونور شامل ، يملأ جنبات تلك النفوس ، ويستوعب كل آفاقها ... كقوله تعالى عن ابراهيم ( عليه السلام ) :

] اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم [ ([21]).

وقوله تعالى في خطابه لسيد الرسل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ] إنك لعلى هدى مستقيم [ ([22]).

وكدعاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي ( عليه السلام ) : " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه" .

  

رابعاً :

    الوقاية التامة لتلك الانفس الزكية عن أن تتأثر ـ في رؤيتها للأمور ، أو تعاملها مع القضايا ـ بشيء لا يستقيم مع هدى الله تعالى وبصائره مما يجري حولها من حوادث لا من قريب ولا من بعيد ... والارتفاع بها عن أن تستكين لدواعي الهوى أو تحيد مع مضلات الأماني ... ليكون كل شيء فيها لله وحده ، ولكلمته وهداه ... فمن خلال  هذه الكلمات تمضي في وجودها ، ومن خلال هذا الهدى تجري بفاعليتها في هذه الحياة .

]      كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء [ ([23]).

]     انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [ ([24]).

    هذه بعض الخطوط العامة التي تجلى بها رعاية الله في أولئك المصطفين . وهذه ملامح بارزة منها في بنياتهم الشخصية .

    وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كأي منتجب آخر منهم ـ يجب أن يحاط بمثل هذا المدد الرباني أيضاً في جميع شؤونه ، حيث يستحيل عليه تحقيق أي من مهماته الكبرى دون رصيد ثابت من هذا المدد .

    ولهذا فلا حاجة لتتبع ما ورد فيه من النصوص الواردة في هذه الناحية لأنها لا تعدو الحديث السابق ، على أنها من الكثرة بدرجة لا يحتاج الوقوف عندها إلى كثير من العناء ، وقد سبق أن ذكرنا نحن العديد منها ضمن طيات الحديث المتقدم .

 

الرعاية الإلهية في النصوص الإسلامية .

 

     ويجدر بنا أن نقف عند بعض النصوص الإسلامية التي ( عرضت هذه الملامح التي قلناها ومدلولاتها في تلك الشخصيات  المطهرة ، ويمكننا أن نختار منها هنا ثلاثة نماذج نذكرها دون تعليق :

 

   الأول : ما ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من خطبة له يذكر فيها حال الأئمة وصفاتهم:

   (... فالإمام هو المنتجب المرتضى ، والهادي المنتجى ، والقائم المرتجى ، اصطفاه الله بذلك ، واصطنعه على عينه في الذّر حين ذرأه ، وفي البرية حين برأه ، ظلاً قبل خلق نسمة عن يمين عرشه محبواً بالحكمة في علم الغيب عنده ، اختاره بعلمه ، وانتجبه لطهره ، بقية من آدم ، وخيرة من ذرية نوح ، ومصطفى من آل ابراهيم ، وسلالة من اسماعيل ، وصفوة من عترة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لم يزل مرعياً بعين الله ، ويحفظه ويكلؤه بستره ، مطروداً من حبائل ابليس وجنوده .. مدفوعاً عنه وقوب الفواسق ، ونعوث كل فاسق ، مصروفاً عنه قوارف السوء ، مبرءاً من العاهات ، ومحجوباً عن الآفات، معصوماً من الزلات، مصوناً من الفواحش كلها،معروفاً بالحلم والبرّ في بقاعه، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه) ([25]).

     الثاني : ما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) انه قال :

     ( ان الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا ) ([26]).

  الثالث : ما قاله الإمام ابو الحسن الرضا ( عليه السلام ) في حديث طويل يذكر فيه خصائص الإمام ومعرفاته :

  ( الإمام : المطهر من الذنوب ، والمبرأ من العيوب . المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعز المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين .

( الإمام : واحد دهره ، لا يدانيه احد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد عنه بدل ، ولا له مثل ولو نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب ... )

    إلى أن يقول ( عليه السلام ) :

   ( ان العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح لذلك صدره ، وأودعقلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعي بعدهن بجواب ، ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ([27]).

واضح ان الاحاديث غنية عن أي تعليق ، فهي انما تؤكد تلك الملامح التي استوجبتها شرائط الحق واستقامته في اولئك المصطفين وان افاضت ببعض التفاصيل التي يقتضيها مورد البيان لان هذه التفاصيل ذاتها هي بعينها تلك الملامح كما هو واضح .

    ولا يرد على مثل هذه النصوص انها من كلمات أولئك الاصفياء أنفسهم ، فهي مما لا يمكن الاستدلال به من أجل الايمان بالجوانب التي ذكرتها من رعاية الله تعالى لهم ، او حتى فهم الابعاد التي فصلتها لها في ذواتهم ، لانها لا تعدو ان تكون دعاوى يحتاج التصديق بها إلى دلائل ترد من غيرهم ، اذا الشيء لا يثبت نفسه كما هو معروف في علم المنطق .

    أقول : ولا يرد هذا على مثل هذه النصوص ، لانها ـ كما نعلم ـ لا تؤسس دعوى من تلك الذوات المطهرة ، فهي ـ ومع غض النظر عن أي إعتبار ـ انما جاءت في خط الحكم العقلي الواضح من عموم شرائط الحق ، واستيعابها للاشخاص الذين يصطفيهم الله ( تعالى ) أمثلة عليا لدينه القويم في البشرية ، ومن ضمان تحقيق الله ( سبحانه ) لتطلبات حكمته في اصطفائه اياهم ، تماماً كما هو الامر مع الايات القرآنية الكريمة التي وردت في هذا الخط أيضاً .

     فالروايات السابقة وأشباهها كالايات القرآنية الكريمة الواردة في هذه الناحية ـ انما تلفت إلى هذه المزايا الاساسية في منتجبين كلمة الله سبحانه وهداة دينه القويم لتستطيع هذه العقول ـ من ثم ـ استلهام معالم الحق في صادق دعاوى الانتساب إلى هذه الكلمة وتمييزها عن الكاذب منها .

     بل ، وحتى مع الغض عن هذه الناحية فان علينا ان نلتفت إلى هذه النصوص ليست هي المؤسسة لدعوى إنتساب هؤلاء الاصفياء إلى دين الله ، او المثبتة لاصطفائه اياهم أركاناً لهداه ، ليرد الاشكال السابق ، فإن لهذه الاصفياء أدلته اليقينية الاخرى ، بمعنى ان النصوص السابقة قد وردت ممن  ثبت إصطفاؤهم يقيناً في دين الله ، وعلم اختيار الله اياهم لتلك المهمات الكبرى في البشرية .

     وحينئذ فتلك النصوص لا تعدو أن تكون بعض حقائق الاسلام الواضحة ودلائل حجته التي لا ريب فيها وبصائره للعقول ، وموازينه الثابته التي وضعها لابنائه ، في تمييزهم للاشخاص الذين يدعون لانفسهم مثل تلك المقامات العليا فيه ، وتسنمهم لتلك القمم الرفيعة من صرحه ، قبل ان يبنوا مع أي منهم علقة اسلامية معينة ، او يتخذوا منهم موقف ايجابياً أو سلبياً ، او يقتدوا باي منهم مثلاً اعلى في التزام للحق واتباع هداه .

وأخيراً فلا يخفى  ما في هذه السمات والملامح العليا والشرائط المذكورة في الاحاديث السابقة من إعجاز ، أسمى من ان يستطيع احد من الناس ـ سوى اولئك الصفوة ـ الوصول اليه ، وما في صدور هذه الاحاديث منهم اضفاء هذه الملامح والسمات على ذواتهم من تحدٍ معجز تقف أمامه البشرية كلها صاغرة لا تملك ان تثبت فيه وهناً في دعوى ، أو تفاوتاً في التزام مع ما هو معروف عن ظروفهم من قسوة ، وما في مهماتهم من دقة وعظمة واستيعاب لا يقف في حياة الانسان عند حدود فردية أو اجتماعية او حضارية ، وانما هو شامل للبشرية كلها بمختلف افرادها ومجتمعاتها وحضاراتها على امتداد التاريخ .. ولا ننسى بهذا الصدد ظلم الحقب التاريخية لهم ، واغتصابها لحقوقهم ـ كما هو معروف ـ اذ لهذا الظلم كذلك أثره في تحديد المواقف ودقتها وتوجهاتها التي تضاعف من ثقل المهمة وعظم المسؤوليه ـ ولا ريب ـ .

 

 

شمول رعاية الله لجوانب شخصية المصطفى

 

      إذن العناية الربانية الخاصة لموارد الاصطفاء الالهي من الناس ، وضمانها لاستقامة الحق في شخصية المرتضى شاملاً لكل بعد من ابعادها البارزة منها والخفية ، مستوعبان لكل طاقة من طاقاتها ، وكل قوة من قواها . فلا تحيد تلك الشخصية ولا تنحرف . ولا تقصر عن شيء من متطلبات الحق وضروراته ... سواء في اصل جبلتها ، ام فيما تمر به من مراحل النمو ، ام في فاعليتها في هذه الحياة .

      فالله سبحانه هو المتعهد لها ، وهو الضامن لاستقامتها ، وهو الذي يوفي لكل مورد منها مدده المناسب ، والاسباب المناسبة والتكافؤ الدائم مع معطيات الحق ، ومقررات مبدئه العظيم.

     كما يجب ان تبدأ تلك الرعاية الالهية مع المرتضى منذ مبادىء وجوده الاولى ، ثم لتبقى معه حتى آخر موقع تنتهي اليه مهمته في قيام الحق ، وان امتد هذا الموقع إلى ما بعد حياته بقرون متطاولة . وهنا تبرز دقّة الموقف، وعظمة الشخصية المرتضاة ومبلغ دور العناية الربّانية الضامنة لإستقامة الحق فيها.

     اذ علينا ان نعلم ان قيام الحق ضرورة عامّة في الوجود وليس محدد في مرحلة معينة من حياة البشرية، ولا في زمن خاص من أزمنة وجودها في هذه الارض، بمعنى انه ضرورة قائمة في الوجود التكويني ذاته ، قبل ان يكون ضرورة في حياة الانسان . وحين أنيطت مهماته في هذه الحياة – في كلّ دور من ادروارها – بنخبة مصطفاة من البشر ، ألقيت عليها مسؤولية إبلاغ هدى الله سبحانه ، وتجسيد حقائق دينه ، بما يكفل قيام حجّته على الناس في ذلك الدور بأكمله وإن كان هذا الدور أطول في الزمان من العمر الاعتيادي للانسان، اذ لا يلزم ان تستمر حياة أولئك المصطفين مع استمرار مسؤولياتهم بعد تحقق هذه الغاية كما يريده الله سبحانه .

      ولهذا فقد تتجاوز هذه المهمة ومسؤولياتها حدود الوجود الشخصي لهم ، ليصبح العطاء ، والنور رصيداً أبدياً في سلوكهم ومواقفهم وكلماتهم ، يمد كلّ الأزمنة والمراحل البشرية التي أخذتها حكمة الله في تلك المهمة بالهدى والرشد والبيان، وطبيعي أن تؤخذ هذه السعة في رعاية الله التي تكلأ اولئك المصطفين أيضاً.

     وهكذا فحيث اخذ في رسالة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن تكون شاملة للبشرية كافّة وأن تكون هي الرسالة الخاتمة لجميع رسالات الله سبحانه ، ولتمتد – مِنْ تَمَّ – مع البشرية حتى الفرد الاخير منها في هذه الارض ، فيجب حينئذ ان يؤخذ ذلك الشمول وهذا الامتداد في رعاية الله تعالى لشخص محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأوصيائه المطهرين ( عليهم السلام) ايضاً، لتقام بوجودهم وكلماتهم حجّة الله على العباد مع تلك السعة وذلك الخلود ايضاً. وهذا واضح كما سبق أن علمنا – وهو ما ترى آثاره ودلائله في أولئك الاصفياء شاهداً حياً قائماً بعد هذه الحقب المتمادية من تأريخ الاسلام وقيام كلمته في هذه الارض.

 

لا جبر في رعاية الله لأصفيائه

 

      ومما يستتبع الحديث المتقدم نقطة مهمة يجب ان لا نغفل عنها ونحن بهذا الصدد :

وهي ان هذه الرعاية الربانية لاولئك المنتجبين ـ مع ضرورتها فيهم ، وسمو عطائها في آفاق شخصياتهم ، وعمقها في مكوناتهم الذاتية ـ إلا انها ـ وبأي شكل تتصور ، وفي أي عمق وأي مدى ـ لا تعني جبراً لاي منهم في إرادة أو اكراهه على اتخاذ موقف معين ، او قسره على اتباع سلوك خاص لا يستطيع مخالفة في أي صعيد من أصعدة الحياة ـ كما قد يتصوره بعض الناس ـ ليمحي فضلهم في تجسيد الحق او استقامته المطلقة في كلماتهم ومواقفهم .

    كلا .. أبداً ..

    فان الشخص الذي اتسعت مداركه لمعرفة ما تعنيه فضيلة من الفضائل ، وتعمق حبه لها حتى خالط إتجاهاته النفسية ، فسما بنفسه عن تركها او حتى عن التفكير في تركها .

وان الشخص الذي وعى ما في بعض الرذائل من نقائص ، وتمكن بغضها في اعماق كيانه فسما بذاته حتى عن التفكير بممارستها .. فان هذا التسامي ـ في كلا مورديه ـ لا يعني ان صاحبه مجبور في أي من الحالتين .

    وهذه الرعاية الالهية لمنتجبي كلمة الله انما تجري ضمن هذا الاتجاه ايضاً .

     فهي ـ في جميع مواردها ومفاهيمها ـ لا تعدو مفاهيم الهدى والنور والسعة في آفاق المدارك والوعي ، وقوة الارادة ، ووضوح السبيل ، وبناء الذات وميولها واتجاهاتها على اساس الحق وحده وعلى متطلباته في السلوك ، والوقاية من ان تتأثر ـ ولو ـ ببعض ما يقصر بها عن بلوغ ذلك المستوى الرفيع .. والنصوص السابقة كلها واضحة الدلالة على هذا.

 

ولفهم هذه النقطة بشكل أوضح ، يمكننا ان نعود إلى  ما سبق ان ذكرناه من ان عنصر الحق في دين الله انما يعني مطابقته لمقتضيات حكمة الله في خلق الانسان وما اعدته له هذه الحكمة من دور خاص بين مخلوقات هذا الوجود .

    فهذه الحكمة هي التي شاءت ان تملك الانسان ما ملكته من قوى العقل والارادة واصول الاختيار ، وغيرها من الخصائص الانسانية المعروفة ، وجعلت هذه الخصائص هي وسيلته الاولى لتحقيق دوره في هذه الارض وخلافته لله تعالى فيها .. فمن الطبيعي ان تكون هذه الخصائص ـ وكما علمنا ـ هي الاصول الواقعية التي بنى عليها هذا الدين العظيم ، والسمات العامة في كل حقيقة من حقائقه ، والمكونات الاولية لكل شخصية منتجبة من شخصياته .. اذ ما كانت حكمة الله سبحانه لتختلف او لتتفاوت في أي شأن من شؤونها .. كما علمنا .

     ومن الطبيعي كذلك ان تؤخذ هذه الخصائص ضمن موارد الرعاية الالهية لهذه الشخصيات المنتجبة ، والفيوض التي تضفى عليها ، اذ لابد ان تحفظ لتلك الاصول الانسانية دورها الكامل دون ادنى نقص او تجاوز .. تماماً كما هو الامر مع غيرها من الناس وهم يسترشدون هدى الله ويتبعون بيناته .

   بل وكما هو الامر مع أي انسان يحقق بعض اهدافه السامية في الحياة ، او يستشرق ببصيرته إلى بعض آفاق المعرفة .. اذ حتى مثل هذه الامور مما لا يمكن نيله بدون توفيق من الله ورعاية منه.

    وكما لا تقسر هذه الرعاية احداً من الناس وهي تمده بسعة الادراك ، وتهيئ له الوسائل الكفيلة له بتجسيد هدفه المنشود ، وتعد له الظروف المناسبة لهذا التحقيق ، كذلك فان تلك الرعاية لا تقسر أحداً من اولئك الصفوة على اتباع سبيل معين من سبل الحياة ، ولا تجبره على اتخاذ موقف خاص في حادثة من حوادثها ، وان بلغت هذه الرعاية معه إلى القمة من السمو والرفعة في تكوين ذاته ، وبناء سلوكه على رصيد ثابت من الحق ، والهدى وصرفته عن أي إنحراف عنه ، او عن مقتضياته في أي موقف له في الحياة .

     بل هي تجري معهم ـ وكما اشارت اليه النصوص السابقة ـ ضمن إنشاء مكوناتهم الذاتية على أكمال ما تعنيه التسوية الالهية في إنسان أمثل ، وفي توازن ما في ذواتهم الذاتية على اكمال ما تعنيه التسوية الالهية في انسان امثل ، وفي توازن ما في ذواتهم من قوى كاملة النضج والفاعلية ، وفي الهداية الرشيدة لهم في مختلف مسالك الحياة ، حيث تقف ببصائرهم على مكامن الحق في الامور ومنابع الهدى فيها ، واستيعاب مداركهم لجميع ما تعتمده حكمة الله من غايات عليا في كل موقف من المواقف ، وكل حالة من الحالات ، وعلى أي صعيد من أصعدة الحياة .

ولئلا يصبح في الحديث نوع من الغموض يمكننا فهم المسألة من خلال واقعنا المعاش ، وما يدركه كل فرد منا حين يعود إلى ذاته ويلحظ طريقة تكوينه الشخصي واتجاهاته الخاصة في الحياة .

      فانا ـ مثلا وكأي انسان آخر نشأ في بيئة اجتماعية معينة لها قيمها وتقاليدها واتجاهاتها الخاصة ـ وان كنت في بداية نشأتي الشخصية في هذه البيئة ربما اجد في هذه القيم والاتجاهات اشياء بعيدة عن نفسي ، وقيوداً محددة لسلوكي الا انني وفي سبيل تحقيق الانسجام بيني وبين المجتمع ـ اتقبلها في اعماق نفسي كواقع مفروض علي ، واحاول ان اجري ضمن حدودها ، وامضي مع مقتضياتها في سلوكي وطموحاتي في الحياة ، حتى تصبح ـ مع مرور الزمن ـ جزءاً في تكويني الذاتي ، وصفة عامة لاتجاهاتي الشخصية ، مما قد يصعب علي مخالفة بعضها ، او حتى التفكير في مخالفته ولو في خطرات نفسي اذ سيصبح لها من القوة والهيمنة على النفس ما يمكنها من التدخل حتى في نظرتي للامور ـ وتصوراتي الخاصة حولها .

      لكنني ـ حتى مع هذه القوة التي اجدها في نفسي لها ـ لا اجدني مسلوب الارادة معها ، ولا مجبوراً على اتخاذي  ما اتخذه من المواقف او اختيار ما اختاره من صور السلوك ، وان لم افكر يوماً من الايام في الخروج عنها ، او مخالفتها وبالاخص حين تملأ بصيرتي واعتقادي العقلي ، وتصبح بعض مثلي الرفيعة في الحياة .

موارد الرعاية الالهية في اولئك الصفوة تمضي معهم ضمن هذا السبل ايضاً .

فهي وان احاطت كلاً منهم بمقتضيات الحق ، ومكنت من ذاته دلائل الهدى ، حتى بلغت معه إلى درجة الامتناع العقلي من مخالفتها في كلمة او سلوك الا انها ـ حتى مع هذه الدرجة ـ لم تبلغ معه إلى مرحلة القسر والاكراه على أي سلوك يأتيه ، او كلمة يقولها ، وان اصبح ذلك السلوك وهذه الكلمة بعض دلائل الهدى ومنار حجته في هذه الارض .

 

فرق ما بين التكوين الشخصي للفرد العادي والمنتجب

      نعم ، ان ها هنا فوارق مهمة بين طريقة التكوين الشخصي للفرد العادي من الناس وهذه الموارد المنتجبة للرعاية الالهية الخاصة لا بد من الاشارة اليها ، ولو باختصار :

    الاول : مصدر التكوين الشخصي ...

    فهذا المصدر في موارد الرعاية الالهية هو الله تعالى قبل أي مصدر اخر ، فعنايته الخاصة ، ومدده المباشر ، وتوفيقه الدائم ، هي الاساس الاول في تكوين بنياتهم الشخصية ، وتحديد اتجاهاتهم في السلوك وتسديد خطاهم في مسالك الحياة .

      ووقايتهم من عوادي الانحراف والزلل وهذه العناية الخاصة هي كانت هي المتفردة في بناء هذه الشخصيات المنتجبة حتى قبل وجودها في هذه الارض وهي المنفردة في بنائها كذلك بعد تسويتها كما تريدها حكمة الله تعالى شواهد لدينه وأعلاماً لهداه ..

      فتسليم هؤلاء الاصفياء لله تعالى مطلق ، وانقادهم لامره شامل ، واتباعهم لهداه عام ... فلا ذاتيات لهم وراء ذلك التسليم ، وهذا الانقياد والاتباع ، اذ تغني مطاهر الوجود كافة ، امام الحق تعالى في تلك النفوس المطهرة ، وتعجز عن التأثير فيها ، ما لم تكن ضمن هداه وبصائر بيناته .

     ولا شك ان هذه الدرجات العليا من التسليم والانقياد مما لا يؤمل تحققه في غيرهم من بني الانسان ، اذ لا يؤمن ان تتدخل في ذلك التسليم لله لدى عامة الناس ـ وان كان في ارفع مستوياته ـ عوامل موضوعية اخرى تقصر به عن هذا المستوى الرفيع فمعروف ان هذا التسليم انما يتأتى للإنسان العادي من خلال معرفته بالله تعالى ، وادراكه لسبل الارتباط به ، والانقياد اليه ، ومن خلال الطاقات المختلفة التي يملكها في فكره ونفسه وجسده . وهي ـ كما نعلم ـ اقصر من ان تبلغ به إلى ذلك المدى المطلق من التوحيد مع الحق والتسليم اليه والانقياد له ، وان بلغ بعض الناس في هذه المجالات شأواً رفيعاً لم يبلغه الاخرون ، الا ان هذا المدى يبقى أدنى من أن يطال تلك الافاق العليا المتصورة لأولئك المطهرين : " واصطنعتك لنفسي " .

" مخصوص بالفضل كله من غير طلب ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب ..."

   الثاني : العمق الذي يعتمده الحق في بنية الذات .

    فهذا العمق في الشخص المصطفى يبدأ من الأصول التي تتكون منها ذاته ، لينتهي بالتالي معها إلى كل ما تتجلى به هذه الاصول من مظاهر في بناء شخصيته ومواقفه لتنعكس من ثم ـ على الحياة الانسانية ـ كلها وما تطمح اليه من رشد .

   فلا وجود في شخصية المنتجب لغير الحق ، ولا مجال لغير نوره ، فهو فيها طابع تكويني ، صيغ على اساسه كل جزء من أجزائها ، وكل مقوم من مقوماتها ، قبل ان يكون طابعاً تشريعياً يسم كل بعد من ابعادها ، وكل موقف من مواقفها كنتيجة لانتظامها مع دين الله عز وجل ، واتباعها لامره ونهيه ، ـ ليمتد ـ من ثم في كل دور لها في الحياة الانسانية عامة ، وكل مهمة لها في هدى الانسان .

    هذا بينما يستحيل تصور هذا العمق في غير المرتضى الالهي من الناس .. اذ وكما سبق ان اشرنا ـ ان ارتباط الانسان العادي بالله تعالى وبهداه ، انما يتأتى له من خلال كسب ومجاهدة ، تتفاعل فيها ذاته ـ وبما تملكه من أختيار ، تتدخل في تكوينه عوامل الوراثة والبيئة التي يعيش فيها الفرد ـ مع ما تدركه هذه الذات في وعيها لحدود الحق ومناهجه ، قبل ان تنصهر شيئاً فشيئاً ـ بمرور الوقت ـ في ىفاق تلك الحدود ، وليصل بها التسامي ـ من ثم ـ إلى الدرجات الرفيعة التي يريدها الانسان لذاته من الكمال والاستقامة في سبيل الله عز وجل .

    ومن غير الممكن تجرد هذا التسامي وان كان في ارفع درجاته ـ عن رواسب تلك المراحل الاولية من عوامل القصور ، وما سبق ان جرى عليه من تأثر ببعض الاهواء او عدم النضج او نقص الخبرة وغيرها .

    فهذه الامور وان تضاءل دورها ، او حتى انمحى هذا الدوربعد تحقق النضج والارتفاع بدرجات اتباع الحق الا ان من الطبيعي ان يبقى من آثارها في اعماق الذات ، ولو بعض الندبات ـ وربما اللاشعورية ـ التي تشير إلى وجودها يوماً من الايام ، حيث يستحيل تجريد الخبرة وذاكرة الانسان من تلك السوابق ، وان لم يكن لتلك السوابق دور فيما وراء المراحل الاولى من حياة الفرد .

   ومن الطبيعي ان يكون لتلك الندبات تاثير فعلي في الذات من حيث شعر الانسان او لا يشعر ، اذ يمكن ان يبرز بشكل او بآخر ولو في بعض الاحيان ، كما في حالات الضعف الانساني ، والازمات النفسية وشبهها ... وهذا مما لا يتصور في شخصية أحد ممن ينتجبهم الله تعالى هدة للانسانية ، واعلاماً لدينه القويم فيها .

  الثالث : مدى استيعاب الحق لجنبات الذات .

   وهو فارق مهم اخر لابد من الالتفات اليه ...

   فالانسان العادي انما يصدر منه الحق والهدى كسمة تصطبغ به تصوراته الفكرية وميوله واتجاهاته ، وسائر مظاهر سلوكه الاخرى ... وطبيعي ان تخضع هذه السمة لعوامل القوة والضعف التي تحكم ذاته في اتجاهاتها النفسية المختلفة في المعرفة والرغبات والالتزام وغيرها . كما تخضع لعوامل القوة والضعف التي تحكم وجوده الشخصي في مختلف جوانبه الاخرى الجسدية والفكرية وغيرها .

      ولهذا فان عنصر الحق ـ حتى في اسمى درجاته لدى الانسان العادي يبقى ـ كأي سلوك آخر له ـ اسير تلك العوامل جميعاً ، ولاريب انها كما تعين الانسان لبلوغ ما يريده من تلك السمة في بعض الموارد ، قد تهن به في موارد اخرى ، وكما قد تسمو به في بعض اصعدة الحياة والمعرفة قد تكبو به في اصعدة او في موارد اخرى .

     وهكذا ، وكل هذا مما لا يضمن للحق شرائطه المطلقة التي لا بد من توفرها في كل الموارد والاصعدة والمواقف التي تصدر من الانسان وان بل درجة رفيعة في الاستقامة واتباع أمر الله .

    اما في الشخصيات المصطفاة فان الموضوع فيها مختلف تماماً .

     اذ الحق فيها ليس سمة يصطبغ بها ما يصدر منها من فكر ومواقف ، وانما هو فيها الركن الاساس الذي يعتمد عليه وجودها في هذه الحياة . قبل ان يكون منبعاً لما يصدر منها من كلمات ومواقف .

      فهذه الكلمات والمواقف انما هي ـ وقبل أي ملاحظة اخرى ـ مجلى لذلك الحق الذي اعتمدته العناية الربانية في وجودهم ذاته ، قبل ان تكون مجلى لمنشأ آخر في حياتهم ومكوناتهم الشخصية ، اذ لا دور لمنشأ آخر في اختيارهم وارادتهم دون الحق ، ودون هداه ورشده ، فمنه وحده ـ ينطلقون في ممارستهم للحياة واليه وحده ينتهون في دلائل كلماتهم ومواقفهم .

    ولهذا كانت حدود الحق وحدود مسؤولياتهم فيه وفي قيام حجته بين الناس هي حدود مختلف العوامل والقوى والطاقات التي يملكها الشخص المرتضى وان تجاوزت المدى المعروف منها لدى الانسان العادي .

   الرابع : واقعية القيم العليا التي يعنيها السلوك ، والكمال الذي ينتهي اليه .

وهو ايضاً فارق مهم آخر .

    فالقيم العليا يقصدها الانسان العادي انما هي صورة محددة في ذهنه عن مفهوم السمو والكمال في هذا المجال من الحياة أو ذاك ، فهي ـ ولا ريب ـ ادنى من ان تحيط بالواقع الفعلي الذي تعنيه حكمة الله تعالى لهذا الكمال والسمو وان امكن ان تنتهج سبيلها حين تتضح للعقل دلائلها ، لان تصور الانسان ـ كاي سلوك آخر له ـ محكوم كما نعلم ـ بحدود الخبرة ومختلف الطاقات التي يملكها والعوامل الموجهة لاهتماماته .

     هذا في حين ان تلك المثل العليا في مذهب الحق ، وفيما يصدر عن شخصياته المصطفين يجب ان لا تقصر ـ بحال من الاحوال عن المقتضيات الواقعية لحكمة الله سبحانه ـ وتجلياتها في الانسان وحياته ـ كما قلناه مراراً ومن هنا استحال على الانسان العادي ان يشرع لنفسه مذهب الحق ، إذ هو ـ بحدوده المعروفة ـ لا يملك الاحاطة بتلك المقتضيات ، مالم يسعفه هدى الله تعالى وبصائر بيناته .

     ولهذا فان اقصى درجة تتصورلسمو الانسان العادي ، وارتفاعه في سلم الكمال ، انما تتأتى له من خلال فهمه لدلائل الاسلام وانقياده لحجته واسترشاد بيناته في مسالك الحياة . وهي الدرجات التي تطمح اليها  فطرة الانسان ، ليستقيم في سبيل الحق ، ويسعد في حياته ، ويهنأ بما اتاه الله تعالى من نعم ، ويتم له كماله المنشود في الدنيا والاخرة .

اما السمو في شخصية المصطفى فهو ـ اولاً وقبل أي اعتبار آخر ـ احد مظاهر رعاية الله الخاصة له ، ومجالي حكمته فيه ، ولطفه ورحمته بالناس الذين كلف باقامة حجته عليهم .

     فالاهداف التي يقصدها المنتجون فيما يصدر عنهم من المواقف والكلمات ، والقيم التي تستقطب اهتماماتهم انما هي مجلى للحقائق التكوينية التي جبل عليها الانسان في فطرته ، قبل ان تكون قيماً تشريعية عليا ، تسعى نحوها البشرية ، لتحقق لنفسها السعادة والهناء في حياتها.

   بمعنى في سلوكها ان هذه الاهداف التي يقصدها هؤلاء المنتجبون ليست محكومة بحدود الجهد الانساني الا بمقدار ما يتجسد به ذلك الحق في حياة الانسان تصوراً من التصورات ، او سلوكاً وموقفاً يبرز فيه المرتضى كلمة الله العليا وحجته البالغة على العباد . اما المبادئ والاسس التي تعتمدها تلك المواقف والتصورات من الحق فهي الواقع ذاته وهي مقتضيات حكمة الله في الوجود ومستلزماتها في حياة الانسان ، ومن هنا اصبح كل ما يصدر من اولئك المصطفين ـ محمد والمطهرين من آله ( عليهم السلام ) ـ بعض حقائق الاسلام وملتزمات رسالته الخاتمة ، تماماً كما كان الرسل والاصفياء السابقون ( عليهم السلام ) كل في موقعه ودوره وزمانه ورسالته .

      اذن فلا جبر ، ولا اكراه لاولئك المنتجبين ، بما أحيطوا به من عناية الله تعالى ورعايته ، وفي مختلف آفاقها ومجالها ، وانما هي الواقعية في الكمال ، وانما هو شمول الحق في اصول التكوين الشخصي ومظاهره كافة ، وانما هي الوقاية وتسديد الخطى في كل امر يمضون ـ مع مسؤولياتهم الشاملة في تحقيق هدى الله سبحانه واقامة كلمته في هذه الارض ، بعيداً عن القصور والوهن اللذين يحكمان الانسان في حدوده المعروفة .

    وهذا المعنى هو الذي يؤكده باحثو العقيدة الاسلامية حينما يعرضون لهذه الناحية من اولئك المصطفين ( عليهم السلام ) تبعاً لما نصت عليه مختلف المصادر الاسلامية الواردة في هذا المجال .

     اذ يقول المرحوم السيد عبد الله شبر ( قدس سره ) في كتابه( حق اليقين في معرفة أصول الدين ) مثلاً ـ في عرضه لمفهوم العصمة ـ :

   ( والعصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب مع كونه قادراً على المعاصي كلها كجائز الخطأ وليس معنى العصمة ان الله يجبره على ترك المعصية ، بل يفعل فيه الطافاً يترك معها الخطأ باختياره مع قدرته عليها ، كقوة العقل وكمال الفطانة والذكاء ، ونهاية صفاء النفس ، وكمال الاعتناء بطاعة الله تعالى ) ([28]).

   كما يقول المرحوم الشيخ النباطي البياضي في كتابه ( الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم):

(واما العصمة التي لا يقع منها عصيان ، فهي لطف يفعله الله لا يوجب الاجبار بل يجامع الاختيار ، والانسان يعلم انه يترك ذنوباً بحسب اختياره فالمعصوم يترك الجميع كذلك ، اما للطف من نفسه بزيادة عقله وعلمه ومداومته على الفكر في امور معاده وملازمته على الكلمات بخلاف غيره واما من الله تفضلاً لا يوجب مشاركة غيره فيه لكونه زائداً على القدر الواجب عليه) ([29]).

وبعد فان هذه الناحية هي التي يؤكد عليها كذلك مضمون النصوص الاسلامية الواردة في بيان شؤون اولئك المصطفين ( عليهم السلام ) ـ كما قلت ـ حيث سبق ان اقتبسنا بعضها فيما تقدم كحديثي الامام الصادق والامام الرضا ( عليهما السلام ) اللذين قراناهما قبل قليل .

 

مبدأ العصمة الإلهية للمصطفين

 

       اما النتيجة الفعلية البارزة للرعاية الربانية الخاصة في شخصيات اولئك المنتجبين فان من اولى معالمها الكبرى : استقامتهم المطلقة والعامة مع الحق ، ومع دلائله التي شرعها الله تعالى للناس في دينه العظيم ، ومع متطلبات الواقعية التي اقتضتها حكمة الله تعالى في خلقها للإنسان .

     فلا انحراف عن الحق في موقف من مواقف اولئك الاصفياء ( عليهم السلام ) ولا اختلاف في شأن من شؤونهم ولا تفاوت في أمر من أمورهم ، وانما هو الحق وانما هو نهجه القويم وانما هي دلائله وبيناته العظمى .

     فقد علمنا مما تقدم ـ ان هذه الاستقامة ـ وفي أدق وأشمل ما لها من معنى ـ هي الغاية الاولى من تلك الرعاية الالهية المباشرة ، والتعهد الرباني الشامل لتلك الذوات المطهرة ... لضرورة ان تمتد دلائل الحق في كل حقيقة من حقائق الدين او المذهب الذي ينتسب اليه . اذ لابد من استقامة هذا المذهب في نفسه ، وفي كل منهج من مناهجه ، وكل بعد من أبعاده ، وكل حقيقة من حقائقه ... ومن ثم في كل شخصية من شخصياته ، ولا بد من انتظامها جميعاً في منهج واحد ، هو المنهج الذي تقتضيه حكمة الله تعالى في ايجاد الانسان وبناء حياته بالشكل الذي اجرته عليه .

     وقد راينا ان عموم هذه الاستقامة ، والانتظام في المنهج الالهي هو ضرورة ثابتة لا مناص منها ، ولا استثناء فيها ، رغم جميع المؤثرات والظروف التي تكتنف حياة الانسان ،  او الحق لا يتفاوت بحال من الاحوال ، وان تعددت تجلياته ، بتعدد الموضوعات التي يتراءى فيها وتعدد الزوايا التي يلاحظ منها .

     كما لا ريب في تحققها الفعلي أيضاً فالله تعالى هو خالق الكون ، وهو بارئ الانسان ، وهو مشرع دين الحق وهو القائم على أمره ، وطبيعي أن تنفذ ارادة الله في الوجود ، وأن يمضي حكمه في المكونات وفي سننها كافة بما فيها الاسلام دين الله تعالى .

     وكما لم تتخلف هذه الاستقامة في فكرة من فكر الاسلام ، ولا في منهج من مناهجه ، او في حكم من احكامه ، لا يمكن ان تتخلف كذلك في شخصية من شخصياته المنتجبة أيضاً ، اذ هي ـ بعد تحقق الالتزام الرباني لها ـ تصبح واحدة من تلك الحقائق الثابتة لدينه ، بل وهي تصبح ـ بهذا الالتزام ـ رافداً مهماً من روافد كلمته ، ومنبعاً رئيسياً من منابع حجته على العباد ، ومجلى تتبلور فيه حقائقه جميعها في الواقع الانساني المعاش .

ومن هنا كانت ضرورة الرعاية الالهية التي علمناها في البحث السابق .

    اذن ، فاستقامة الحق في منتجبيه تعتبر واحدة من المستلزمات الاساسية لاصطفائهم من الله سبحانه حيث يستحيل تحقق الغايات الاولى لهذا الاصطفاء بدونها ، لان عدم الضمان الرباني لتحقيقها فيهم يعني ايكال امر الحق ودينه القويم إلى من لا يؤمن منه الانحراف والشطط ، وهذا مما يستحيل تصور وقوعه كما سبق أن عرفنا .

    ولهذه الاستحالة نفسها ، كان من الضروري أن لا تختص هذه الاستقامة في بعض جوانب تلك الشخصيات المرتضاه دون جوانب أخرى ، ولا في بعض المواقف منها دون بعض ، ولا في بعض حالاتها دون غيرها ، ولا بعض مراحل حياتها دون سواها . بل يجب ان تكون عامة منهم ، شاملة لهم ، محيطة بكل جانب من جوانبهم وكل موقف وكل حالة ولكل مرحلة لهم في الحياة فقد قلنا : ان حدية الحق مما يستحيل فيها التجزئة والنسبية والاستثناء .

    وكل واحدة من هذه النقاط واضحة كل الوضوح ، ولا سيما بعد المسيرة التي قطعناها من الحديث.

     فقد علمنا ـ أولاً ـ أن هذه النواحي كلها هي من الشؤون التي يعنيها الاصطفاء الالهي ذاته .

فمعروف ان سعة هذا الاصطفاء وآفاقه يجب أن تواكب ما للدين نفسه من سعة في الافاق ، وهذه الافاق بدورها تتبع ما يعنيه الحق من دلائل وشرائط في حياة الانسان ، وما لحكمة الله سبحانه من مقتضيات في تكوين الخلق وإنشاء مختلف مظاهر الموجود ـ بما فيها الإنسان ـ.

     ولئن تكلفت قدرة الله سبحانه لغير الاختيار من الانسان ما يستقيم به وجوده وكماله من السنن والقوانين الحتمية فأجرتها فيه من حيث يشعر او لا يشعر ، فانها شرعت للاختيار منه هذا الدين العظيم ، وما فيه من احكام تحمل صبغته ، ليكون هو السنن التي يبلغ بها إلى تلك الغاية العليا بدوره ومن خلال سبله وافاقه الادارية .

      اذن فكل جانب وطبيعة اختيارية في الانسان هو مورد لدين الله تعالى واحكامه ، لانه في الاساس مجلى لحكمة الله تعالى ومظهر لقدرته وتدبيره .

       ولان ذلك الشخص المرتضى لاقامة هذا الدين في البشرية ، وتحقيق رسالته فيها هو المثل الشاخص لكيانه في الحياة ، فطبيعي ان لا يتصور منه قصور في وجوده وحياته وفي كل مايصدر عنه ـ دون تحقيق ما لهذا الدين من واقع ، ماله من غايات كبرى في هدى الانسان ، وصلاح أمره دون إنحراف او وهن .

     كما علمنا ـ ثانياً ـ ان الانسان كيان حيوي واحد يستحيل فيه التفكيك او التجزئة في بنائه الشخصي ، اذ ان كل بعد من أبعاد هذا البناء له دوره وآثاره في سائر الابعاد الاخرى ، وله دلالاته في أي حالة يكون عليها الانسان ، وفي أي موقف يصدر منه .

فهناك وشائج متينة بين كل بعد وآخر ، وهناك علاقات وثيقة ( بارزة او خفية ) تربط بين مختلف المواقع والاصعدة ، التي يتكون منها هيكل الانسان ، وينتظم منها وجوده وتستقيم حياته .

       وحينئذ فما لم تكن تلك الاستقامة عامة في جنبات تلك الذوات المصطفات كافة ، او في مختلف ركائزها واعماقها ، ولا يمكنها ـ بحال من الاحوال ـ ان ترقى إلى مستوى الحق او تحوي شيئاً من شرائطه ، بذلك المدى المطلق والعام الذي قلناه . في حين اننا علمنا ان شرائط الحق في دينه حدية لا نسبية فيها ولا تبعيض .

ولهذا السبب قد اختلفت الموازين العامة في اولئك المصطفين عن الموازين المتبعة في غيرهم من الناس ، سواء في الخصائص الذاتية ، او في مظاهر السلوك ، ام في النتائج التي ينعكس بها هذا السلوك على الحياة الانسانية بشكل عام .

ولهذا ، فحيث يكتفي من سائر الناس ـ مثلاً ـ باتباع هدى الله تعالى والانقياد لامره ، وتجنب نهيه في مستوى القصور الفكري والسلوك العملي ، لتعطي ـ من ثم ـ درجات النجاح والفوز عند الله سبحانه إلى من حقق في حياته تلك المفاهيم ، فإن ذوي الاصطفاء الالهي لا يكتفي منهم بهذا الحدود ، وان كانت في اسمى مستوياتها .

سبل المقاييس فيهم تنفذ إلى كل محل مكون لشخصياتهم وكل مقوم فيها والى كل اصل وفرع من وجودهم ، قبل ان تستوعب كل حالة من حالاتهم ، وكل موقف من مواقفهم ، بل وتمتد إلى كل نتيجة تتأتى من هذه المواقف في عطائها وإشاعاعها على الحياة البشرية ، ضمن الدور الذي أعده الله لكل منهم فيها .

وهكذا فلا خطأ ولا غفلة ولا نسيان ، بل ولا اختلاجة نفس ، تتفاوت فيها ذواتهم المطهرة عن استقامة الحق ، أو تنحرف عنه ، ولو في مجال الاحتمال ... فكل ما يصدر عنهم انما هو من الحق ، وكل ما تأتي منهم انما هو بعض بصائره ودلائله ، وكل ما يبرز منهم انما هو افق من آفاقه ـ دون استثناء ، او وهن يمكن ان يتصور في دلالة او حتى احتمال ولو ضعيف .

وعلمنا ـ ثالثاً ـ ما يعنيه النمو والتطور في قابليات الانسان وطاقاته من دلالة على قصور هذه القابليات ولو في مدأ تكوينها . وما لهذا القصور من آثار على كمال شخصية الفرد ، ونتائج في تحقيق استوائها ، وهي قد تكون نتائج سلبية تبقى مع هذه الشخصية حتى مراحل نضجها الكامل .

ولهذا فما لم يكن الضمان الالهي لاستقامة الحق في شخصية المصطفى شاملاً لحياته كلها ، محيطاً بمراحل عمره كافة لا يمكن ان يؤمن تأثره ببعض الموهنات ، او عوامل الانحراف ، ولو في بعض أدوار حياته ، وهي موهنات قد لا تختص آثارها السلبية في حدود معينة من شخصيته ، ولا في مرحلة دون أخرى من مراحل حياته ، وانما هي قد تمتد إلى جميع آفاقها ومراحلها ، ولو في درجات الاحتمال الضعيف ، الا ان مثل هذه الدرجات وان استسيغت من سائر الناس العاديين ولم تؤثر عليهم في درجات فوزهم عند الله تعالى ، الا انها غير مستاغة أبداً في موارد الاصطفاء الالهي ، ـ كما قلنا اذ الحق لا يتعدد  ولا يتفاوت بحال من الاحوال.

وهنا لا بد لنا من ان نتذكر ما أشرنا اليه سابقاً ـ أيضاً ـ من ان هذه الاستقامة وان بلغت هذا المدى الشامل والحدي الدقيق لدى أولئك الصفوة فهي لم تتأت لهم من خارج متطلبات انسانيتهم ، او دون حدودها الاختيارية ، بل هي تجري ـ وكما لاحظنا ـ ضمن هذه السمة الطبيعية التي جبلت عليها فطرة الانسان ، وهذه الحدود التي أنشاتها عليها حكمة الخلق والتكون .

كما لا غرابة في هذه الاستقامة ، ولا في أي أفق من آفاقها او شروط من شرائطها بعد أن اخذ لطف الله سبحانه ورحمته على نفسه ضمانها في اولئك المنتجبين ( عليهم السلام ) ، بل وهي ضرورة وجودية لا بد منها ، بعد ان كانت هي المظهر الاسمى الذي تتجلى به حكمة الله تعالى في الوجود الانساني خاصة ، والوجود التكويني بشكل عام .

وهذه الاستقامة المطلقة التي تتجلى في أولئك المنتجبين هي التي سمت في الاصطلاح الاسلامي بـ ( العصمة ) .

فالعصمة ـ كما يقول الشيخ ( زين الدين ) في كتابه القيم ( الإسلام ، ينابيعه ، مفاهيمه ، غاياته ):

( رصيد نفساني كبير يتكون من تعادل جميع القوى النفسية ، وبلوغ كل واحدة منها أقصى درجة يمكن أن يبلغها  الانسان ، ثم سيطرة القوى العقلية على جميع القوى والغرائز والركائز سيطرة كاملة حتى لا تشذ عنها في أمر ، ولا تستقل عنها في عمل .

( هذه الحصانة الذاتية التي يرتفع بها الانسان الاعلى عن الاتضاع في طبيعته ، ويمتنع بها عن الانزلاق في ارادته ، ثم عن الانحرافات والالتواءات التي تترسب في منطقة اللاشعور، وتتحول – كما يقول العلماء النفسيون – عقداً نفسية تتحكم في دوافع المرء وفي سلوكه، وفي اتجاهاته وملكاته ، وتسوقه من حيث لا يريد إلى النشوز عن الحق والشرود عن العدل .

  ( هذه الحصانة الذاتية التي توقظ مشاعر الانسان الكامل فلا يغفل ، وتعتلي بملكاته واشواقه فلا ينزلق ولا يكبو ، والتي تكفل له صحته النفسية من كل وجه .

  ( هذه العصمة التي يشترطها مذهب اهل البيت في الرئيس الاعلى لحكومة الاسلام. وفي ظني انّه شرط بمنتهى الجلاء ، كما انّه بمنتهى الحكمة.

  (.. بمنتهى الجلاء بعد أن كشفت مدارس التحليل النفسي حقيقة الرواسب وأبانت مدى تأثيرها في سلوك الانسان ووجهته في الحياة ... وبمنتهى الجلاء بعد أن وضعت التربية النفسية الحديثة طرقها لحل هذه العقد وللابتعاد بالنشء عن هذه الازمات.

  ( .. في ظني انّه شرط بمنتهى الجلاء والوضوح بعد أن سار العلم هذا الشرط ، وفرغ من تقرير هذه النتائج.

  ( من جراء هذا الضعف المتوطن في طبيعة الانسان حين تتعرض له المغريات والمرديات.

  ( ومن جراء العقد اللاشعورية الخالفة في نفس الانسان من صدماته في الحياة وانزلاقاته في الارادة ، وترديه بسبب الجهل او بسبب الهوى.

  ( ومن أجل طبيعة النظام الذي أنشأت لصيانة الحكومة في الاسلام ، ومن أجل غاية هذا الدين الكبرى التي تتصل بها كلّ جذوره وتستقي منها كلّ فروعه.

  ( ومن أجل الادلة الكثيرة .. الكثيرة ، التي تجاوزت حدود المئات ، ودلّت على وجوب العصمة في الامام بعد ان دلّت على وجوب العصمة في الرسول.

  ( .. من جراء هذه الامور كلّها قالت الشيعة من اتباع اهل البيت ( عليهم السلام) بوجوب العصمة في الامام بعد أن قالت بوجوب العصمة في الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلّم))([30]).


 

من اسباب القصور في فهم العصمة

 

     اذن فالعصمة مبدأ ضروري لابد منه في موارد الاصطفاء الالهي ..

     وهو مبدأ واضح الضرورة وواضح التحقق ، حين تقاس القضايا بهذه المقاييس الإسلامية المتماسكة ، وحين ينظر اليها من خلال متطلبات الحق وتسلسل شرائطه في تلك الذوات المطهرة ، وحين يستلهم من نصوص الإسلام الثابتة والمسلمة لدى جميع المسلمين.

امّا الاشكالات التي وجهت إلى هذا المبدأ والشبه التي وضعت في سبيله ، فهي – مع غض النظر عن منزلة من صدرت منهم – انّما تنطلق من اسس قاصرة الفهم ، لم تسمُ في نظرتها إلى ما تعنيه آفاق الحق ، ولم تتسع لموازينه، ولم تستقم مع متطلباته ، ولم تعط لدوره الكبير أهمية العُظمى في الوجود ، ولم تقدّر لقيامه في الارض منزلته الكبرى عند الله جلّ شأنه .

    اجل، هذا هو الواقع المشهود في تلك الشبه ، وأي ملاحظة – ولو سريعة – يمكنها أن تؤكده للباحث الحر دون أي عناء.

    فهي – أولاً – قد لا ترى أن لدين الله العظيم ذلك الارتباط المطلق بالحق ، وذلك الامتداد الطبيعي لحكمة الله تعالى ومتطلباتها في الإنسان والكون ، ولا ترى أن ذلك الارتباط وهذا الامتداد هما الأساس الثابت الذي نهض عليه كيان الإسلام ، وأقيمت حقائقه ، وانتظمت به شؤونه، وشرّعت عليه أحكامه لكي يتجلى هذا الحق – من ثم – ركناً ثابتاً في شخصياته المنتجبة التي اصطفاها مشرّعه الحكيم تعالى شأنه .

     أو انّها – ثانياً – قد لا ترى ان لقيام الحق أو لتحقق شرائطه في دين الله تعالى تلك الأهمية الكبرى التي تستحق من لطف الله ورحمته التفاته خاصة تضمن تجليها ولو في بعض الأصفياء ، وإن اتّضح التزامه لهم شهداء على خلقه، وأقام على هذا الالتزام كلّ ما هو جلي من الدلائل والآيات الواضحة ، والشواهد المعجزة.

     أو انّها – ثالثاً – قد لا ترى انّ الاهداف العليا التي يقررها الاسلام ويترسمها في مناهجه ، ويدعو اليها في بصائره يمكن أن تتحقق في الواقع الفعلي للإنسان ، وان تتبلور ولو من خلال أصفياء الله تعالى ومنتجبيه ( عليهم السلام) ، وأن تعهدتهم رعاية الهية خاصة وضمنت إستقامة الحق فيهم ، مما يعني أن تلك القيم والمثل والأهداف الإسلامية كلها لا تعدو – لدى مصادر هذه الشبه – عالم الفكر والتصور البعيد عن الواقع أو التحقق الفعلي.

   أو انّها – رابعاً – تستبعد على قدرة الله تعالى استطاعتها في توفية الأرضية المناسبة في ذوات بعض الناس لتحقيق هذه الدرجة العليا من الكمال الإنساني بالفعل.

    أو انّها – خامساً – تخلط – عن عمد أو لا عن عمد – بين تجليات الكمال الالهي المطلق في ذات الله سبحانه وصور الكمال الإنساني المحدود ، فاعتبرت العصمة والاستقامة مع الحق واحدة من تجليات ذلك الكمال المطلق التي يستحيل تحققها من عالم الإنسان.

   إلى غير هذه النواحي التي يمكن أن تُرى بوضوح في كلمات أولئك الناقدين لمبدأ العصمة والمستبعدين لتحققه في أولياء الله المصطفين . وهي – وكما نراها بوضوح أيضاً – نواح ناشئة من رواسب بعيدة عن الحق ، قاصرة عن دلائله شاذة عن مقتضياته.

 

العصمة من خلال المنطلقات القاصرة

        هذا ، ومع أنني – حتى الآن – لم  أحاول ، بل ولم أرغب الدخول في أجواء علم الكلام ، أو انتهاج طرائقه في الاستدلال أو النقض – بالرغم من أن موضوعنا الذي نحن فيه يعتبر بعض مسائله المهمة – لأن لتلك الأجواء والطرائق مستلزماتها التي لا تتناسب ومنهجنا في الحديث إلاّ أنني – وقد وصل الحديث بنا إلى هذه النقطة الحساسة – اجد نفسي مضطراً لاستعراض ولو نموذج واحد من آراء المتكلمين الذين تناولوا موضوع العصمة ، ولكن من خلال تلك المنطلقات القاصرة التي أشرت اليها ، لكي نرى مدى التفاوت الكبير بين تلك الاوليات الاسلامية الواضحة وآثار تلك الرواسب التي قصرت بالبصائر عن أن تمضي مع النور إلى آخر المدى ، وان وجدت معالم الحق أمامها واضحة كلّ الوضوح.

  يقول الفضل بن روزبهان:

  ( انّ أهل الملل والشرائع – بأجمعهم – أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء ، عن تعمد الكذب فيما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة فيما يبلغونه عن الله تعالى إلى الخلائق. اذ لو جاز عليهم التقول والافتراء في ذلك عقلاً– لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة ، وهو محال.

  وفي جواز صدور الكذب عنهم – فيما ذكر – على سبيل السهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأستاذ أبو اسحاق ، وكثير من ألائمة الأعلام ، لدلالة المعجزة على صدقهم في الأحكام، فلو جاز الخلف في ذلك لكان نقضاً في دلالة المعجزة وهو ممتنع.

   وامّا سائر الذنوب ، فهي امّا كفر أو غيره.

   امّا الصغائر والكبائر كل منها إمّا أنْ يصدر عمداً أو أن يصدر سهواً ، أمّا الكبائر فمنعه الجمهور المحققين ، والأكثر على أنة ممتنع سمعاً. قال القاضي والمحققون من الأشاعرة انّ العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً اذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم عمداً مستفاد من السمع وإجماع الأمّة قبل ظهور المخالفين في ذلك . وامّا صدورها – سهواً ، أو على سبيل الخطأ في التأويل – فالمختار عدم جوازه.

  وامّا الصغائر عمداً فجوّزه الجمهور ، وامّا سهواً فهو جائز إتفاقاً بين أصحابنا، وأكثر المعتزلة الاّ الصغائر الخسيسة كسرقة حبة أو لقمة مما ينسب صاحبه إلى الدناءة والخسة والرذالة ) ([31])

  ويمضي الفضل بعد استعراض لهذه الأقوال في الاستدلال على ما يراه فيقول في بيان أدلته :

  الاول : لو صدر عنهم ذنب لحرم اتباعهم فيما صدر عنهم ضرورة أنّه يحرم إرتكاب الذنب ، واتباعهم واجب للاجماع ، ولقوله تعالى ] إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله [([32]).

   وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن الصغائر والكبائر ، لكن في الصغائر تجويز عقلي لدليل آخر كما سيأتي.

   الثاني : لو أذنبوا لردّت شهادتهم ، إذ لا شهادة للفاسق بالاجماع ، واللازم باطل بالاجماع ، لأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم إلى يوم القيامة ؟

    وهذا الدليل يدل على وجوب عصمتهم عن الكبائر والاصرار على الصغائر لأنّها توجب الرد لا نفس صدور الصغيرة.

  الثالث: إن صدر منهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم ، لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وايذاؤهم حرام إجماعاً.

وأيضاً لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى : ] ومن يعص الله ورسوله فانّ له نار جهنم [([33]).

  وتحت قوله تعالى: ] ألا لعنة الله على الظالمين[([34]).

  وتحت قوله تعالى ، لوماً ومذمة : ]لم تقولون ما لا تفعلون[([35]).

 وقوله تعالى : ] أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [([36]).

 ( فيلزم كونهم موعودين بعذاب جهنم وملعونين ومذمومين ، وكلّ ذلك باطل إجماعاً ، وهذا الدليل أيضاً على عصمتهم من كل ّ الذنوب..) ([37]).

  ثمّ يقول الفضل بعد شطر من كلامه:

 ( ثم اعلم انّ تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحيق معنى العصمة ، وهو عند الأشاعرة – على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار إبتداءً – ان لا يخلق الله ذنباً ، فعلى هذا يكون الأنبياء معصومون ( كذا ) من الكفر والكبائر والصغائر الدالة على الخسة والرذالة، وامّا غيرها من الصغائر فانّهم يقولون لا يجب عصمتهم عنها لانها معفوّ عنها بنص الكتاب من تارك الكبيرة:

     ] الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الاّ اللمم انّ ربّك واسع المغفرة هو أعلم بكم اذ أنشأكم من الأرض واذ أنتم أجنّة في بطون أمّهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى[([38]).

     دلت الآية على أنّ مجتنب الكبيرة والفاحشة معفوّ عنه ما صدر من الصغائر عنه، وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان لما خلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي الذنب والغفله فكانت بعض الذنوب تصدر منهم بحسب مقتضى الطبع ، ولما لم يكن خلاف ملكة العصمة فلا مؤاخذة به.

    وامّا العصمة عند الحكماء فهي ملكة تمنع من الفجور ، وتحصل هذه إبتداءً بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات ، وتتأكّد في الأنبياء بتتابع الوحي اليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي ، والنواهي الزاجرة عما لا ينبغي.

   ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر سهواً أو عمداً عند من يجوّز تعمدها – ومن ترك الأولى والأفضل ، فإنّها لا تمنع العصمة التي هي الملكة ، فان الصفات النفسانية تكون في إبتداء حصولها أحوالاً ثم تصير ملكات بالتدريج.

ثم انّ الأنبياء مكلّفون بترك الذنوب ، مثابون عليه، ولو كان الذنب ممتنعاً عنهم لما كان الأمر كذلك اذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه.

( وأيضاً فقوله : ] انّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ .. [([39]) يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي لا غير .. فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر..) ([40]).

   نعم ، من هذا المنطلق الضحل المتهافت يتناول المتناولون هذا الركن الأساس من دين الله تعالى ،وعلى هذه القاعدة المتداعية يحاولون أن يقيّموا هذه الركيزة الإسلامية الكبرى التي يعتمدها الإسلام نفسه في وجوده وقيام صرحه ، وبلوغ حجته إلى الناس ، واستكمال كلّ بيّنة من بيّناته.

  .. النبي شخص عادي من سائر الناس ، لا يحمل في نفسه أي مؤهلات ذاتية، ولا يستحق من الله أي عناية خاصة لأنه لا يفترق عن غيره من الناس الاّ بأنّه موحى اليه من الله تعالى لا غير.

  ولأنه بشر خلق من طين هذه الأرض وأنشيء من ترابها، فطبيعي أن لا يخلو من الكدورات الترابية التي تقتضي – بذاتها – الذنب والغفلة ، كما تقتضي التغذية والتنفس والارتواء من الماء، بمعنى انّ الذنب والغفلة عنصران طبيعيان في وجود الانسان ، يستحيل عليه مجانبتهما كما لا يستطيع تجنب الغذاء والماء والهواء وسائر العناصر الطبيعية الضرورية لوجوده.

  ولهذه الحتمية استحالة حتى على الله سبحانه بارئ النبي ومنشئ تكوينه، ومدبّر أمره أن يهيئ فيه من أسباب الطهر من تلك الذنوب ما يستطيع أن يُبرَّأ به عن كلّ دنس منها، إلاّ إذا قسره وأجبره على مثل هذا الارتفاع لتكون العصمة بالتالي مانعة له من التكليف ، ومن الثواب عندما يترك المعصوم تلك المعاصي إذ لا تكليف ولا ثواب مع الجبر.

    ولكن يا ترى ، كيف امكن أن تتحقق العصمة من الكفر والكبائر المتعمدة، والكذب في دعوى الرسالة، فهي كسائر الذنوب أيضاً ولا شكّ أنّها كذلك بعض الكدورات الترابية الدخيلة في تكوين النبي. أي أنّها انّما تصدر منه بحسب مقتضى طبعه أيضاً ؟

    وهل أنّ الأنبياء مجبورون على تركها بتلك العصمة ، فلا تكليف عليهم بتركها ، ولا ثواب لهم على هذا الترك إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه ؟

  وهل .. ؟ وهل .. ؟

  ولا أحاول الاستطراد في التساؤل حول النقاط، التي عرضها الفضل بن روزبهان، فما فيها من وهن وتهافت أوضح من أن يخفى على ذي فطنة أو يغيب على لبيب.

  ولكن السؤال الأكثر أهمية في المسألة هو : هل أن تناول العصمة ... هذا الأصل الإسلامي الكبير من هذه المنطلقات القاصرة، وعلى هذه الأسس المتهاوية هو السبيل المناسب للتعرف على دلائل حجة الله تعالى ، وبيّنات بصائره ؟ وهل هذا هو الصراط الأسلامي المستقيم للإنسان ، وهو يتطلع إلى إدراك الحق في أصفيائه واستقامة شرائطه في منتجبيه ؟

واين هذا المنهج المتداعي عن الدلائل الإسلامية الرشيدة وهي تتناول هذا الصرح الإسلامي العتيد من خلال منطلقاتها الثابتة ومناهجها المستقيمة ، لتكن المعجزة – كما هو الحق – كافية في تصديق الرسول – أي رسول – بدعواه السفارة عن الله عزّ وجل ، وأنّه مرسل بأمره إلى العباد ، ولكن يا ترى هل أنّ دعوى الرسالة تقف عند هذا الحد؟

  أليس في هذه الرسالة أحكام وحدود وتصورات وحقائق لابد للرسول من بيانها للناس في أقواله وأفعاله وفي كلّ ما يصدر عنه ؟

    وها هو القرآن الكريم يؤكد هذه المهمة في شخص الرسول الكريم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) اذ يقول:

   ] يا أيّها النبي انّا أرسلناك شاهداً  ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً [([41]).

   إذن فكيف نستلهم أحكام تلك الرسالة وحقائقها وحدودها من شخصية لا تؤمن مخالفتها لتلك الحقائق والأحكام.

   والى أي مدى يمكن للأمّة أن تقتدي بهذه الشخصية وتسترشد هداها في مسالك الحياة ؟

   وأين يكمن الحق في سلوك شخص يخالف فعله قوله ، أو يتفاوت في أقواله وأفعاله ؟

  وكيف يمكن الايمان بواقعية دين الله بل والايمان بأنّه ] فطرة الله التي فطر الناس عليها [([42]) مع دعوى استحالة ان يستقيم أحد من الناس في سبيله ، حتى ولو كان هذا الفرد هو من أولئك الأصفياء الذين اختارهم الله لتبليغ حجته، والقيام على أمره؟

  بل وما معنى أن يلتزم دين الله عنصر الحق قيمة عليا له، وهو يصطفي أشخاصاً لا يؤمن منهم الإنحراف ؟ ولا توثق منهم الاستقامة معه ؟

  وهكذا إلى العشرات من الأسئلة التي ترد في هذا المضمار المهم ، مع الاعتماد على هذا المنطلق المتهافت في فهم مبدأ العصمة ، دون أن تجد لها إجابة واضحة متكاملة ، ولتتهاوى – من ثم – جميع ركائز الإسلام وبيّناته وحقائقه . وهي نتيجة لا أعتقد أن أحداً من المسلمين يرتضيها لنفسه.

  ولهذا فلا نحاول الدخول في مناقشات تفصيلية مع الفقرات السابقة من حديث الفضل ، ولا رؤية ما فيها من تضارب وتكذيب بعض الفقرات السابقة من حديث الفضل ، ولا رؤية ما فيها من تضارب وتكذيب بعض فقاراته للبعض الآخر ، كما في تأكيد الفضل بأنّ الدليل الأول والثالث يستوجبان القول بعصمة الأنبياء من الذنوب كافّة ، فهو حكم عقلي بالعموم ، والحكم العقلي – كما هو معروف – مما يستحيل تخلفه في موضوعاته أو تخصيصه ببعضها ، لأنّه ينتهي إلى التهافت والتناقض الصريح ، فكيف صح منه استثناء الصغائر وعدم منافاتها للعصمة . في حين أن الدليل الذي ذكره لتسويغ الصغيرة انّما سوغها لا باعتبار انّها ليست ذنباً من الذنوب ، وانّما لسعة مغفرة الله تعالى ورضوانه ، وتجاوزه سبحانه عمن أذنب بمثل ذلك اللمم من الذنوب.

  ثم .. ما معنى إعتماد الأجماع في الحديث حول أصل اعتقادي مهم يعتمده وجود الإسلام نفسه كالعصمة – بينما الإجماع – على تقدير إعتباره وان كان بهذا الشكل الواهي – انّما هو أصل من أصول استنباط الأحكام الشرعية التي يكون الحديث فيها متأخراً عدة مراتب بعد فرض ثبوت العقائد ؟ ، وهكذا.

الشرائط الموجبة للعصمة

 

       أجل .. انّ العصمة انّما طرحت كواحدة من المفاهيم المهمة والسمات الضرورية في بلورة أصلي النبوة ، والإمامة من أصول الاعتقاد ، وحتى أولئك الذين استثنوا منها السهو والغلط وصغائر الذنوب اضافة إلى غيرهم من المسلمين انّما اشترطوها فلأجل تلك الأدلة العقلية التي أوجبتها وأوجبت في حكمة الله سبحانه ورحمته بالناس ضمانها ورعايتها في أولئك المصطفين، لتحقيق الأرضية المناسبة لقيام هداه في الحياة إذ لا يمكن بلوغ تلك الغايات الكبرى للاصطفاء الإلهي بدونها ، كما أن أي خروج من المصطفين عن متطلباتها انّما يعني التفاوت في ذات دين الله سبحانه ، وعجز قدرة الله جلّ وعز، عن إحكام آياته. وهذا محال كما هو واضح.

       وهذه – كما نراها – نقطة مبدئية أولى تتعلق بذات الإصطفاء الإلهي ودلالاته وغاياته ، فهي سابقة على مرحلة تسلّم أولئك الأصفياء لمهماتهم في هذه الحياة كما تستبق مسؤولية الناس في الارتباط بهم ، وامتثال أمر الله سبحانه بالاقتداء بهم ، واتباع أمرهم ، واعتماد سبيلهم مسلكاً للوصول إلى رضوانه تعالى في صغائر الأمور وكبائرها على حد سواء.

      ومن هذا المنطلق بالذات يجب فهم العصمة وفهم انعكاساتها في دين الله وفي البشرية معاً، وهو – كما نراه – منطلق واضح الأسس، جلي الدلائل ، وهو يثبت هذه العصمة وضرورة استيعابها لشخصيات أولئك المنتجبين كافّة ولجميع مكوناتهم ومواقفهم وحالاتهم ، دون أي استثناء أو تخلف ، فالاستثناء والتخلف – وكما أشرت مستحيلان ، لأنّ عموم الأسس التي يعتمدها مبدأ العصمة في الحق ، وفي دين الله وفي غايات الاصطفاء – عموم حدّي يمتنع تفاوته في موضوعه بحال من الأحوال ، الاّ حيث يصح الالتزام بنسبية الحق ، أو عدم اكتمال الهدى في دين الله تعالى أو إمكان العجز في قدرة الله ( جلّ وعز ) وكلّ هذا مما لا يستساغ الالتزام به من عاقل يعي ما يقول.

      ولا يعنينا هنا الديث حول أدلة العفو الإلهي ومغفرة الله لبعض الذنوب ، إذ الكلام هنا ليس في المؤاخذة على الذنب أو عدم المؤاخذة عليه ، ولا في آثار بعض الذنوب على الإنسان ، بل الكلام هنا انما هو في استيفاء المرتضى لجميع شرائط الحق ، حيث انتجبه الله تعالى علَما له ، واصطفاه من أجل إقامة حجته ، وهو أمر لا تختلف فيه الذنوب شدّة وصعفاً ، أو صغراً وكبراً ، بعد أن كانت جميعها تعني الإنحراف عن استقامة الحق والخروج على وحدة منهجه ، وهي استقامة حدية لا عوج فيها – كما علمنا ، ووحدة ثابتة لا نسبية فيها ولا تهاون.

     ولا يبرّر هذا الإنحراف والخروج بتخصيصه بصغائر الذنوب وحدها أو بما يصدر من المنتجب عن سهو أو غفلة ، بعد أن كان ما يأتيه هذا الإنسان منها فاحشة أو انحرافاً عن تلك الاستقامة التي يجب أن تتجلى فيه بشكل حدي مطلق، تتوحد فيه كلمة الحق وعنوان حجته.

    إذن ، فلا محيص عن القول بعصمة شواهد الحق الذين اصطفاهم الله تعالى هداة لدينه ، ولا محيص عن القول بعموم هذه العصمة في أي مجلى تكويني لوجودهم وشخصياتهم ، وفي أي عمق تعتمده ذواتهم أو في أي كلمة أو سلوك يصدر منهم ، وفي أي مرحلة من المراحل أعمارهم وفي أي حالة يكونون عليها.

     فلا صغائر تصدر منهم ، ولا غفلة ولا نسيان في أي أمر أو صعيد في حياتهم .

    ومدد الله عزّ وجلّ ورعايته المباشرة هما الضمان الفعلي لتحقيق هذه الدرجة المطلوبة من العصمة.

    واصطفاء الله تعالى لهم وارتضاؤه إياهم هداة لبريته ، هما الشاهد المصدّق لهذا الضمان.

   ودين الله العظيم الذي استوجب – لتصديق أنبيائه وأصفيائه – خرق الكثير من نواميس الطبيعة وقوانينها من أجل قيام حجته بهم على امتداد تأريخه في البشرية جدير بأن  يستوجب – لهذه الغاية أيضاً – اكتمال هذه النواميس ولو في أولئك الأنبياء والأصفياء ليبلغوا في فطرهم وحياتهم إلى كمالهم الأعلى ، لأنّ هذا الكمال هو الغاية الأولى التي يهدفها هذا الدين العظيم نفسه في واقع الأنسان .

وإذن فليكن رسل الله وأنبياؤه وأصفياؤه ( عليهم السلام) هم مجالى هذا الكمال ومظاهره الواقعية ، لأنّهم القائمون بأمر هذا الدين ، ومثله الشاخصة أمام البشرية ، وهم موارد اقتدائها في سبيله القويم.

   أمّا ما يرد من روايات وأحاديث تخالف هذه القاعدة اليقينية ، فهي مما يجب توجيهه بما يستقيم معها حيث يمكن هذا التوجيه ، والاّ فلابد من ردها إلى من قالها لأنّها لا تعني – في موازين الحق – غير كونها شبهة في مقابل البديهية .

  وما أكثر ما أدخل على نصوص الأسلام ما ليس منها .. إذ لا شكّ انّ للباطل جهوده المستميتة لطمس معالم الحق في سبله ، ولا سيما في هذه المراحل الأولى من العقيدة ، لما لها من دور كبير في اقامة أسس الهدى ، وتشريع مناهجه.

  ولهذا فحيث يستطيع الباطل أي يضع لنفسه قدماً في هذه المراحل فانّه سيكسب من النتائج – ولا ريب – ما لا يمكن أن يناله في مراحل أخرى ، أذ سيستطيع أن ينحرف بالبصائر عن استقامة الحق ، ويتفاوت بها عن وحدته وهدي بيناته بشكل أسهل وأجدى له من المراحل الأخرى .

   ولا ننسى بهذا الصدد ما للسياسة من دور مشبوه في هذا المجال وبالأخص ما كان منها في العصور الأولى بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وقد قرأنا عن الدور الأموي بعض شواهده.

   والرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والحجج الطاهرون من عترته ( عليهم السلام) هم أول من حذّر الأمّة المسلمة عن الوقوع في هذه المزالق وهم الذين وضعوا لها المناهج الكفيلة لتتبع معالم الهدى في دلائله ، ورسموا السبل المناسبة لتمحيص ما يردها من نصوص تحسب على الإسلام ومصادره ، وأوضحوا لها كيفية التعرف على مكامن الحق والباطل منها ، واتباع ما استقام منها مع الحق ، ومع هدى الله تعالى ورشده.

    فعن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام) انّه قال – وقد سأله بعضهم عن الاختلاف في الحديث - :

  ( انّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعاماً وخاصاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً . وقد كذِّب على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )على عهده ، حتى قام خطيباً وقال : (( أيّها الناس ، قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذب متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار .. )) . ثم كذب عليه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من بعده .. ) ([43]).

   وعن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام) قال :

  ( قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : انّ على كلّ حق حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ) ([44]). إلى أحاديث أخرى في هذا المعنى.

 

عصمة علي ( عليه السلام )

 

   امّا بالنسبة لعصمة علي ( عليه السلام) بالذات .. فاني لا أعتقد أنّها ... وبعد هذه المسيرة الطويلة من الحديث لم تبلغ درجة كافية من الوضوح يُغنيها عن مزيد من الحديث فيها بالخصوص ...

  فعلي ( عليه السلام) – كما علمنا – مورد لاصطفاء الله تعالى وارتضائه الثابت لولايته الكبرى في هذه الأمة بعد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )..

  إذن فهو أحد موارد رعاية الله جلّ شأنه وعنايته الخاصة التي استوجبتها حكمته لمصطفيه . إذ لابد أن ينال من توفيق الله سبحانه ومدده ما يضمن أداءه لمسؤولياته العظيمة في تلك الولاية ومهماتها ، وهي مسألة لا تحتاج إلى مزيد بيان ، لانّها من موارد تلك القضية العامة.

   ويكفينا لتأكيدها – من النصوص الأسلامية – ما قرأناه من دعاء الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) له يوم أعلن ولايته على الأمّة يوم غدير خم : (( اللهم ... وأدر الحق معه حيث دار )).

  كما يكفينا ما قرأناه من شمول قطعي في آية التطهير المباركة له .

  وكذلك تأكيد الكثير من الروايات الواردة بأنّه مع الحق والحق معه ، وانّهما لا يفترقان حتى يردا على الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الحوض يوم القيامة.

  ونضيف اليها هنا الاشارة إلى روايات الثقلين ، وهي متواترة الصدور عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وقد سبق بعض مواردها ضمن خطبة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يوم الغدير ذاته ، إذ قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):

  (( وأني سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، الثقل الاكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلوا ، ولا تبدلوا .. عترتي أهل بيتي ، فأنّه قد نبأني اللطيف الخبير انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض . )).

  ومن روايات الثقلين أيضاً ما رواه أبو نعيم في كتابه ( حلية الأولياء ) كما رواه غيره كذلك عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه قال:

  ( أيها الناس ، انّي فرطكم وأنّكم واردون عليّ الحوض ، فاني سائلكم حين تردون عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا وعترتي أهل بيتي ، فأنّه قد نبأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) ([45]).

   وواضح ما في هذا الجمع والمعادلة بين كتاب الله تعالى الذي أنزله بالحق ، وهذه العترة المطهرة وما في هذه المعية التي لا إفتراق فيها بينهما حتى يردا على الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الحوض يوم القيامة ، من دلالة واضحة على عصمتهم من الذنوب والانحراف عن الحق ، فالكتاب هو العزيز الذي (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ([46]).

  وهو الذي ( أحكمت آياته ثمّ فصلت من لدن حكيم خبير) ([47]).

  وبهذا السياق أيضاً يرد تأكيد الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بأنّ علياً مع القرآن والقرآن مع علي حتى يردا عليه الحوض([48]).

   كما يرد قول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في حقه أيضاً:

   ( انّ حافظي علي بن أبي طالب ليفخران على سائر الحفظة لكينونتهما مع علي بن أبي طالب ، وذلك انهما لم يصعدا إلى الله بعمل يسخطه) ([49]).

إلى غير هذه الأحاديث الواردة في تأكيد عصمة علي ( عليه السلام) وتنزيهه عن الذنوب.

ونقف عند هذا الحد مع هذا النوع عن رعاية الله ( تعالى ) لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام) وما تجلى به هذه الرعاية في عصمته ، بعد أن اتّضح لنا أنّهما مما لا مجال فيهما لريبة مرتاب ، أو شك شاك حين يعود إلى الإسلام في استقامته الذاتية في أوليائه وفي صحيح نصوصه.

     والله تعالى هو الهادي والموفق للصواب.

 


 

[1]  ـ الغدير : ج 1 ، ص 33 ، عن شرح المواهب ج 7 ، ص 13 .

[2]  ـ فضائل الخمسة من الصحاح السته : ج 2 ، ص 109 ، عن تاريخ بغداد ـ ج 11 ، ص 321 .

[3]  ـ صحيح الترمذي : ج 5 ، ص 633 ، والمستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 124 .

[4]  ـ مجمع الزوائد : ج 7 ، ص 235 .

[5]  ـ المصدر السابق : ج 9 ، ص 134 .

[6]  ـ فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 2 ، ص 109 .

[7]  ـ ص : 45 ـ 47 .

[8]  ـ يوسف : 23 ـ 24 .

[9]  ـ طه : 41 .

[10]  ـ المائدة : ص 110 .

[11]  ـ النساء : 113 .

[12]  ـ الأحزاب : 33 .

[13]  ـ المستدرك على الصحيحين : ج3 ، ص 147 .

[14]  ـ صحيح الترمذي ج 5 ، ص 350 ، ويراجع للمزيد من المصدر كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ، ص 224 ، وما بعدها .

[15]  ـ صحيح الترمذي ص 634 ، تحقيق إبراهيم عطوة ن شركة ألبابي الحلبي 1285 ـ 1965 .

[16]  ـ المستدرك على الصحيحين ج 3 ، ص 135 , ويراجع ج 2 ، ص 260 للمزيد من المصادر .

[17]  ـ مريم : 29 ـ 33 .

[18]  ـ مريم : 12 ـ 13 .

[19]  ـ يوسف : 24 .

[20]  ـ ص : 46 .

[21]  ـ النحل : 121 .

[22]  ـ الحج : 67 .

[23]  ـ يوسف : 24 .

[24]  ـ الاحزاب : 33 .

[25]  ـ اصول الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني : ج 1 ، ص 204 ، ن مكتبة الصدوق طهران سنة 1381 .

[26]  ـ المصدر السابق : ص 191 .

[27] ـ المصدر السابق : ص 200 ، 203 .

[28]  ـ حق اليقين في معرفة اصول الدين للسيد عبد الله شبر : ج 1، ص 90 ، مطبعة العرفان ـ صيدا سنة 1353 .

[29]  ـ الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم لأبي محمد علي بن يونس العاملي النباطي البياضي ج 1 ، ص 116 ـ ن المكتبة المرتضوية ـ ط الاولى سنة 1384 .

[30] - الاسلام ، ينابيعه ، ومناهجه ، غاياته – للشيخ محمد أمين زين الدين ص 332 – 334 ط 2 مطبعة الاداب ، النجف سنة 1978.

[31] - دلائل الصدق – الشيخ محمد حسن المظفر ج 1 ص 369 ، ط تابان – طهران.

[32] - آل عمران : 31.

[33] - الجن: 23.

[34] - هود:18.

[35] - الصف: 2.

[36] - البقرة:44.

[37] - دلائل الصدق ج 1 ص 370.

[38] - النجم: 32.

[39] - الكهف: 110.

[40] - دلائل الصدق: ج 1 ص 371.

[41] - الاحزاب : 25 – 26.

[42] - الروم:30.

[43] - وسائل الشيعة ب 14 من أبواب صفات القاضي ج 1 ويراجع كتاب نهج البلاغة ص 325 ط الأولى تحقيق د. صبحي الصالح بيروت سنة 1387 – 1967.

[44] - الوسائل ب 9 من ابواب صفات القاضي ج 10 .

[45] - مجمع الزوائد للهيثمي ج 10 ص 363 ، وقال : رواه الطبراني باسنادين . ويراجع كتاب ( فضائل الخمسة من الصحاح الستة ) للوقوف على مزيد من المصادر للحديث ج 2 ص 48 وروايات أخرى في نفس المضمون

[46] - فصلت : 42.

[47] - هود: 1 .

[48]  - المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 124 ويراجع ( فضائل الخمسة من الصحاح الستة ) ج 2 ص 112 للمزيد من المصادر.

[49] - فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 18 عن تاريخ بغداد ج 14 ص 49 .