الباب الرابع
في علم علي ( عليه السلام )
علم علي ( عليه السلام ) في النصوص الاسلامية
امّا الرعاية الالهية التي تستوجب سعة الافاق العلمية التي يملكها علي ابن ابي طالب ( عليه السلام ) ليستطيع الوفاء بمسؤوليات ولايته الكبرى في دين الله تعالى ، فهي أيضاً بعض ضرورات ذلك الاصطفاء الربّاني له ، اذ يستحيل عليه تحقيق متطلبات هذا الارتضاء دون ان يمده الله سبحانه بما يكفيه من العلم بجميع آفاق تلك الولاية ومستلزماتها ، القريبه والبعيده . البارزة منها والخفية على امتداد ما جعلت له من الزمان والاجيال البشرية .
ومع ان هذه الافاق تعدو كونها جزءاً من الاصول والمقومات العامة التي تتكون منها شخصية علي ( عليه السلام ) كولي لله فتجب لولايته ، وانها مجلى لرعايته المباشرة له ، حيث سبق منّا الحديث فيها ، الا انّه لما كان للآفاق العلمية دورها الخاص في الوفاء بمسؤوليات الولاية فطبيعي ان تستوجب منّا الوقوف عندها خاصة بما يتناسب واهميتها تلك ، لندرك إلى أي مدى تمضي الحكمة الربّانية في عناياتها لتحقيق استقامة الحق في دينه العظيم ، وتوفيه مستلزماته فيمن اختارهم الله تعالى للقيام عليه ، وتجسيده امثلة قائمة لحجته بين الناس . ومن هؤلاء الاصفياء – بالطبع – علي بن ابي طالب ( عليه السلام).
ولرؤية شيء من هذه الافاق العلمية في علي ( عليه السلام) نحأول – أولاً – متابعة بعض النصوص التي تسالم على نقلها المؤرخون وحفظة السنّة ، قبل أن نستلهم دلاتها العامة في فهم شيء مما تعنيه طبيعة هذه الافاق ومداها فيه .
ونقف هنا عند طوائف ثلاث من هذه النصوص ، لها أهميتها في تحقيق غايتنا السابقة .
الطائفة الاولى : ما تواتر عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيان هذا الجانب المهم من شخصية علي ( عليه السلام ) .
فالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان هو أول من نوّه بعلم علي ( عليه السلام ) واشاد به ،
وبيّن مصدره . بل وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستغل كلّ فرصة مناسبة لالفات بصائر المسلمين إلى هذه الفضيلة الكبرى من علي ( عليه السلام ) وتعريفهم بمميزاتها ودلالاتها في شخصيته ، وسمو ما لديه منها على كل ما لدى الاخرين كافّة ، كما كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكثيراً ما يشير – وهذا هو الاكثر أهمية في اشادته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعلم علي (عليه السلام ) – إلى الرابطة الوثيقة بين علم نفسه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلم علي ( عليه السلام ) ، ووحدة مصدرهما معا ، وإنّ هذا المصدر هو الله سبحانه الذي بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم ) برسالته وارتضى علياً ( عليه السلام ) لولايته ، بل ووحدة ما بين علميهما وعلم جميع الانبياء ( عليهم السلام ) من هذه الناحية .
وكثير من هذا الحديث يبلغ من الاستفاضة إلى حد المتواتر بين المسلمين عامة ، حيث لم تختص بنقله طائفة منهم دون طائفة ، أو بعض الرواة دون بعض ...
ونحن نقرأ من هذه الاحاديث قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
( علي عيبه علمي ) ([1])
( علي باب علمي ، ومبين ما ارسلت به بعدي ، حبه ايمان وبغضه نفاق ، والنظر اليه رحمة)([2])
( انا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن اراد المدينة فليأت الباب ) ([3])
( انا دار الحكمة وعلي بابها ) ([4])
( اعلم أمتي من بعدي علي بن ابي طالب ) ([5])
( قسمت الحكمة عشرة أجزاء ، فاعطي علي تسعة أجزاء والناس جزاءاً واحداً وعلي أعلم بالواحد منهم ) ([6])
( من أراد أن ينظر إلى آدم ( عليه السلام ) في علمه ، والى نوح ( عليه السلام ) في فهمه ، والى ابراهيم ( عليه السلام ) في حلمه ، والى يحيى بن زكريا في زهده ، والى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي ابن ابي طالب ) ([7])
.. إلى كثير من الروايات التي تدخل ضمن هذه الطائفة ، وهي اكثر من ان تحصى ، ولا ننسى ان نعيد قراءة ما اقتبسناه من احاديث الغدير اذ لم يفته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التنويه بهذا الركن الاساس من شخصية علي ( عليه السلام ) ليتم به الحجة في اعلان ولايته على الاشهاد.
(( فاسمعوا واطيعوا ، فان الله مولاكم ، وعلي امامكم ، ثم الامامة في ولدي من صلبه إلى القيامة... لا حلال الا ما احله الله ورسوله ، ولا حرام الا ما حرم الله ورسوله وهم فما من علم الا وقد احصاه الله في ونقلته إليه ))
(( افهموا محكم القران ولا تتبعوا متشابهه ، ولن يفسر ذلك لكم الا من انا آخذ بيده وشائل بعضده... )).
(( هذا أخي ووصيي ، وواعي علمي وخليفتي على من امن بي وعلى تفسير كتاب ربي )).
الطائفة الثانية : ما اكده علي ( عليه السلام ) نفسه من هذه الافاق في شخصيته.
فهو ( عليه السلام ) – بالرغم مما علمته الامة من فضائله الجمّة – كان يخصّ هذه السمة من ذاته بالتاكيد ، والفات الانظار ، وكان كثيرا ما يتحدى الناس ان يجدوا له فيها بديلا أو شبيها ، أو يثبتوا في ادعائه لها تفأوتا عن الحقيقة وفي هذا الموضوع يقول ( عليه السلام ) :
( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ألف باب من العلم ، واستبطت من كل باب الف باب ) ([8])
( سلوني قبل ان تفقدوني ، فاني لا اسال عن شيء دون العرش الا اخبرت به) ([9])
( اني احدث .. كنت اذا سألت اعطيت ، واذا سكت ابتدئت وبين الجوانح علم جم فاسألوني)([10])
( الا ان ها هنا – واشار إلى صدره – لعلما جما لو اصبت له حملة ، بلى ، اصبت لقناً غير مأمون يستعمل الة الدين للدنيا ) ([11])
إلى احاديث اخرى ، وهي اكثر من ان تحصى كذلك .
الطائفة الثالثة : ما اقرّه الاخرون لعلي ( عليه السلام ) من هذه الافاق .
فعلم علي ( عليه السلام ) فضيلة يعلمها جميع من عرفه ( عليه السلام )، وادرك منه بعض خصائصه ، وما اكثر كلمات الاطراء والاشادة بهذا العلم منه ( عليه السلام ) ، بل ما اكثر كلمات التسليم له بالتقدم فيه ، حتى من أولئك الذين لم يقروا له بالامامة أو ارتضاء الله اياه للولاية .
وقد سبق ان قرأنا بعض المواد التي رجع فيها بعض الخلفاء لعلي ( عليه السلام ) في المهمات ، وما صرحوا به من كلمات الجأتهم إلى النطق بها بعض الظروف ، ونضيف هنا استكمالا للموضوع .
ما قآله ابو بكر في قضية سآله فيها احد اليهود مسألة أجاب عنها علي بن ابي طالب ، ( يا كاشف الكربات انت يا علي فارج آلهم ) ([12])
اما عمر بن الخطاب ، فكلماته في علي ( عليه السلام ) مشهورة في كتب التأريخ ومصادر السنّة كقوله :
( لو لا علي لهلك عمر ) .. ( اعوذ بالله ان اعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن) ، ( اللهم لا تنزل بي شدة الا وابو الحسن إلى جنبي ) ، يا ابن ابي طالب فما زلت كاشف كل شبهة وموضع كل حكم ) ([13]) ، وغيرها .
ويقول عثمان في هذا المضمار أيضاً : ( لولا علي لهلك عثمان ) ([14])
اما معاوية فقد كان يكتب فيما ينزل به ليسآله به علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) ، فلما بلغه مقتله قال :
( ذهب الفقه والعلم بموت ابن ابي طالب ).
فال له اخوه عتبة : ( لا يسمع هذا منك اهل الشام ).
قال : ( دعني عنك ) ([15])
ولما جاء نعي علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) إلى معاوية وهو نائم مع امراته فاخته بنت ورطة فقعد باكيا مسترجعا فقالت له فاخته : انت بالامس تطعن عليه واليوم تبكي ؟
قال : ( ويحك انما ابكي لما فقد الناس من حلم وعلم ) ([16])
والواقع ان علم علي من الوضوح والجلاء بدرجة من البداهة لا اعتقد ان احدا – عرف من امر علي ( عليه السلام ) شيئا ولو يسيرا – يمكن ان يرتاب فيها ، ولهذا فاطالة الحديث باقتباس مزيد من النصوص التي تذكر هذه السمة الجليلة فيه ، أو الاستطراد بذكر شهادات قالتها اسماء لامعة في التاريخ واقرته فيها له ( عليه السلام ) ليس بمستحسن في بحث كالذي نحن فيه .
بل ولابد من الاشارة هنا إلى اننا لم نقتبس الاحاديث والشهادات السابقة بعلم علي ( عليه السلام ) من اجل اثبات هذه الصفة السامية فيه ( عليه السلام ) لانفسنا أو للقاريء الكريم . كلا ابدا ، بل الغرض هو – وكما يقتضيه منهج الحديث – ان نستوفي صورة تمهيدية متكاملة فيه تمكننا من الانطلاق إلى فهم ما تعنيه هذه الصفة الجليلة في التزام الحق لعلي ( عليه السلام ) ، وراتضاء الله ايّاه ..
فماذا يعني هذا الاتزام في علم علي ؟..
وما هو دور ارتضاء الله تعالى ايّاه فيه ؟..
نعم ، فالاجابة حول هذين السؤالين هي التي تعنينا في هذا الحديث اذ لا يمكن استلهام ملامح واضحة عن غايتنا فيه بدونها .
بل والاجابة حول هذين السؤالين هي الاساس في فهم طبيعة هذه الصفة ذاتها في شخصية علي (عليه السلام ) وفي شخصيات غيره من اصفياء الله المنتجبين.
وما كان ليتضح بدونها – معنى تلك الاشارات المتكررة من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) بعلم علي ( عليه السلام ) ، بهذا الحجم الكبير الذي لاحظنا البعض في مصادر النصوص الاسلامية .
وما كانت لتتضح بدونها أيضاً ابعاد ذلك الاعتزاز والتحدي من علي ( عليه السلام ) نفسه بما كان يملكه من هذه الصفة ، وتأكيده عليها في كل فرصة مناسبة .
وما كانت بدونها أيضاً لتستبين دلائل ذلك الافتخار المتواصل يعلمه ( عليه السلام ) من ابنائه المنتجبين ومن أوليائه المخلصين على مرّ التأريخ .. لا في عصره ( عليه السلام) فحسب وانما في جميع العصور حتى القيامة .
نعم ، ما كانت لتتضح هذه الامور كافة بدون تلك الاجابة ، التي تضع هذه السمة العظمى من علي ( عليه السلام ) وشخصيته ضمن الاصطفاء ومتطلباته والمسؤوليات الملقاة عليه في دين الله تعالى .
اذ الالتزام الالهي – وكما اشرنا اكثر من مرة – لاي شخصية يصطفيها الله تعالى لتلك المهمات الكبرى يعتبر هو المقوّم الاساسي لتلك الشخصية ، والركيزة الثابتة لكينونتها ، كما انه المائز الاكبر في جميع ما تملكه من سجايا لا ينآلها غيرهم من الناس..
فدون هذا الاصطفاء تقف الحدود الانسانية كافة وان كانت في اسمى مظاهرها لتمضي الرعاية الربانية الخاصة بدورها في صياغة تلك الشخصيات المنتجبة واقامة كيانها .
العلم ومذهب الحق
تمهيدا للاجابة حول السؤالين السابقين لابد من الالتفات إلى نقطتين مهمتين ، لهما اثرهما الكبير في أيضاًح الاسس التي تعتمدها هذه الاجابة ..
النقطة الاولى : العلم ضرورة لقيام مذهب الحق
ما تعنيه صفة العلم من ضرورة في قيام الحق وفي تجلي شرائطه وخصائصه في الشخص الذي يصطفيه الله تعالى لهذه المهمة في الوجود البشري .
وهي ضرورة تمتد إلى كل اصل من اصول الدين يعتمده هذا الاصطفاء في مسؤولية المنتجب، والى كل سلوك يأتيه أو موقف يصدر عنه أو غاية يترسمها.
وقد اشرنا إلى ان اصول دين الله تبدا مع الانسان ، بل ومع الموجودات كافة، لا من ظواهرها البارزة منها فقط ، ولا من واقعها الشخصي القائم كحآله جزئية ، أو آنية محدودة ، وانما هي تبدا معها من خلال ما تعنيه حكمة الله تعالى فيها وما تقتضيه فيها من مستلزمات ، لا في حدودها الذاتية كوجودات ، وانما في افاق دلالاتها على عظمة الحكمة التي انشأتها ، وعلى جلالة ذلك التدبير الذي سوّاها واستقامت به امورها .
ولا ريب انها مستلزمات تستوعب افاق جميع ما في الوجود التكويني كله ، بما فيه من مظاهر وشؤون وتفاعلات فاي منها هو بدوره – مجلى لتلك الحكمة ، وفيض من لطفها ورحمتها ...
ومن الطبيعي حينئذ ان يحيط دين الحق بجميع هذه الافاق والمظاهر والشؤون والتفاعلات، لينطق منها بالانسان إلى اسمى كمال يطمح اليه بذاته في أي زمان وفي أي مكان، وعلى أي مستوى حضاري ، وفي أي مجتمع يعيش فيه ، لا في وعيه وفكره فحسب ، وانما بنفس وجوده ، ذات فطرته الاولى ، وبما في هذه الفطرة من تطلع ذاتي الاستقامة العامة مع غايات حكمة الله في الخلق ، حيث جعلت ركائز هذه الاستقامة في اعماق تكوينها ، وان لم تتبلور في الذهن فكرة محدودة واضحة الملامح .
ومن هنا يتضح ما تعنيه صفة العلم في مهمة الشخص المنتجب لقيام دين الله تعالى ، ودورها في مسؤوليته الكبرى في ابلاغ حجته إلى العباد ، اذ من المستحيل عليه الوفاء بهذه المسؤولية دون ارصدة من العلم والمعرفة تحيط بكل تلك الامور ، وما يتصل بها ، فهي التي تؤهله لمثل هذا الوفاء .
وسياتي بعون الله تعالى ، مزيد بيان لهذه النقطة ، وتفصيل لبعض الاجمال فيها .
النقطة الثانية : حدود الانسان
وهي استعادة لما سبق ان لاحظناه من قصور الانسان عن استيعاب الواقع بفهمه أو ادراكه .
فقد قلنا هناك ان حدود قابليات الانسان وطاقاته المدركة لا تعدو – في فهمها للامور – حدود ظواهرها القريبة ، حيث تنآله وسائلها الحسية أو الحدسية التي تمكنها من ادراك صورة معينة عنها، وتتميز ملامح هذه الصورة قبل التعامل معها على اساس مما يملكه المرء من أوليات نظرية ، وخبرات سابقة ، ثم تحديدها في اطار معين كفكرة يعتمدها الانسان في السلوك و ممارسة الحياة في مختلف اصعدتها .
ولا ننسى دور الوسط الذي يعيش فيه الفرد في بلورة تلك الطاقات وتوجيهها .. كما لا ننسى دور التطور الذاتي له وتواتر مراحل النضج التي يمر بها ، وآثارها في تكوينه النفسي والجسدي ، وكذلك المستوى العلمي والفكري الذي يبلغه المرء في حياته ، ولا بد هنا من التأكيد على دور الاتجاه الاجتماعي العام في المعرفة والمستوى الذي وصلت اليه المعرفة فيها من تأثير في توجيه طاقات الفرد ، وكيقية فهمه للامور ، واستخلاصه للنتائج منها ، ثم في طريقة تعامله معها .
اذ ليس من السهل على الانسان الخروج بوعيه ومداركه الخروج عن الاتجاه العام الذي يسلكه المجتمع في المعارف والعلوم والمستويات التي بلغتها الجهود الانسانية فيها ، لانها الظروف التي تتشكل ضمنها توجهات قابليات الفرد وتتحدد فيها اهدافه وتطلعاته ، وتتجلى فيها مواهبه وجهوده في الحياة .
ومن هنا قلنا ، ان الانسان وليد عصره ، وهو ابن بار للعصر الذي يعيش فيه ، وهو لا يستطيع تجأوز احكامه في نموه العقلي والعاطفي والعلمي ، الا حيث يعتمد النتائج المقررة التي بلغها الاخرون في جهودهم قبله ، لينطلق منها إلى ما هو اعلى واكمل . فخبرة الانسان تنمو وتتسع مع متابعته في دراسة الامور ومثابرته على استلهام الحقائق ، مما يبحث فيه من القضايا والوقائع التي تصل إلى وعيه ، لتصبح ضمن معلوماته عن الواقع ، ثم ليصل معها ( بعض الناس ) إلى درجات اسمى مما بلغه الاخرون في هذا الجانب من الحياة أو ذاك ، اما باكتشاف غوامض لم يدركها السابقون ، أو اختراع مستجدات لم يتصوروها . . وهكذا .
الا ان هذا التقدم وان كان من خلال تلك الطاقات القابليات التي يملكها المرء في تكوينه الذاتي ، فهو يجري ضمن البيئة التي يعيش فيها الانسان ، اذ من غير الممكن لهذه الطاقات ان تنمو وتنضج وتكتمل فاعليتها في الحياة وتتفاعل مع الواقع بدون وسيط يأخذ بها في طريق النمو والكمال ، ويستقطب جهودها لتبلغ – من ثم إلى ما تطمح إلى بلوغه ، ولا ريب ان الاتجاهات العامة التي تمضي عليها المجتمعات في المعرفة والمستوايات الفكرية والعلميلة التي يصل اليها كل مجتمع ، ضمن هذا الجانب من الحياة أو ذاك ، تشكل افقا واسعا من هذا الوسط الذي تتبلور فيه تلك القابليات والطاقات الموجودة في الافراد الذين يعيشون فيه .
ويلاحظ هنا ان السبق الذي يحرزه احد الناس في بعض جوانب المعرفة لا يعني انه القمة التي لا تسمو وراءها لغيره، فان للواقع عطاء اللامتناهي للفكر الانساني المتجدد..
.. كما لا يعني ان الانسان الذي احرز هذا السبق ، قد امتلك ناصية العلوم والمعرفة كافة وفي كل اتجاه ، وفي أي جانب من جوانب الوجود ، لان تقدم انسان في بعض الامور لا يعني استيعابه لكل الامور ، ولا يجعل لوعيه المحدود سعة تحيط بحالاتها وعلاقاتها جميعا، وان بلغ هذا الانسان في خبرته إلى درجة تأخذ بالالباب كما يصادف الامر مع نوابغ التأريخ .
كما يلاحظ أيضاً ان السبق الذي ينآله احد الناس في مرحلة من تاريخ المعرفة لا يؤهل ذلك الشخص لتسنم القمة فيها . واتخاذ موقع القيادة منها إلى الابد ، حتى في المجال الذي نبغ فيه هذا الشخص نفسه.
لان مسيرة الانسان في المعرفة – عادة – متنامية ، ولهذا فان النتائج التي ينآلها احد الباحثين – مهما سمت – ستصبح قاعدة لجهود غيره في الانطلاق إلى ما هو اتم واكمل – حين يفسح لهذا الجهود مجال المتابعة ، مما يعني انها ستبلغ إلى نتائج اسمى مما بلغه الباحث الاول ، وان هي استخدمته منطلقا لمتابعتها ، وارتكزت عليه في دراستها . بل وسيصبح ذلك السبق والنجاح الذي بلغه ذلك الباحث مسألة تأريخية في ذلك الاختصاص.
وهذه الناحية معروفة في تاريخ العلوم والحضارات، فمبتكرات شخصية عبقرية مثل ( اديسون) في الكهرباء اليوم هي بدائية قديمة – ولا شك – وان كانت في وقتها فتحا كبيرا في الحضارة الانسانية.
ومن ناحية اخرى يلحظ أيضاً ، ان السبق الذي ينآله بعض الناس في احد جوانب المعرفة وفي أي مرحلة في تاريخها – لا يؤهل ذلك البعض – مهما بلغت درجته من السمو وكمال المعرفة – لان يتعالى على حدود المعرفة للقابليات الانسانية في التعامل مع القضايا والاشياء ... وهي حدود – كما قلنا سابقا لا تتجأوز في ادراكها للظواهر البارزة لها ، لانها هي مجال الحواس وأوليات الفكر ، وطرق الحدس.
كما لا يخرج هذا السبق نفسه عن ان يكون نتاجاً لتلك الحدود ، وان بدا من العظمة والاهمية بدرجة لم تطرأ على الفكر الانساني قبل تحققه .
فالفكرة السابقة غير مؤهلة لان تعطي قيمة الواقع ذاته ، أو ان تعطي شيئا من دلالاته وراء تلك الحدود والوسائل التي استعان بها الانسان ووعيه للوصول إلى تلك الفكرة . بل وما أكثر الفكر التي ينتهي اليها الانسان حول أمر من الامور ، أو حول حادثة من الحوادث ، فيراها مستقيمة تمام الاستقامة مع الواقع الذي تعبر عنه الا انها ماتفتأ أن يستبين فيها من مواضع الوهن والتفأوت ما يبعدها عن ذلك الواقع بمراحل كثيرة .
ومع التدقيق في هذه الناحية نرى أنها من أبرز دلائل القصور الانساني لأنها قضية يشهدها كل أحد من ذاته قبل أن يراها في غيره من الناس .. كما أنها من المسلمات الاولية في جميع العلوم حتى الطبيعية منها ، وكذلك نواحي المعرفة الاخرى .
ولهذا فالنظريات العلمية ـ حتى التجريبية منها ـ لا تدّعي لنفسها قيمة الواقعية الا على أساس رجحان احتمال مطابقتها للواقع ، ومدى ما تستقيم به مع الملاحظة والتجربة ، وهكذا فهي تتلاشى عن دورها حين ترد نظرية أخرى أرجح احتمالا ، واستقامة مع الواقع وملاحظة الانسان له وفهمه ايّاه .
وطبيعي أن يبرز قصور الانسان أكثر مع دقة الامور والقضايا التي يروم فهمها ، وابتعاد حقائقها عن ملاحظته وسموها عن حدود ما يملكه من وسائل المعرفة ، كما في عالم الحياة وشؤون الانسان النفسية والاجتماعية وغيرها ، اذ لا تعدو الفكرة والنتائج التي بلغتها جهود الانسان فيها مرحلة الافتراضات المبتورة التي تعتمد ـ في أكثرها ـ على أوليات وقناعات ذات صبغة شخصية ذاتية أو فلسفية قبل أن تعتمد على نفس الواقع الذي تحأول التعبير عنه ، أو حكايته . ويقول الدكتور ( الكسيس كاريل ) في هذا المعنى :
( وكل آرائنا عنه "الانسان " مشربة بالفلسفة العقلية ، وهذه الاراء جميعاً تنهض على فيض من المعلومات غير الدقيقة بحيث يرأودنا اغراء عظيم لنختار من بينها ما يرضينا ويسرنا فقط ، ومن ثم ، فان فكرتنا عن الانسان تختلف تبعاً لإحساساتنا ومعتقداتنا .
( فالشخص المادي والشخص الروحي يقبلان نفس التعريف الذي يطلق على بلورة من الكلوريد ، ولكنهما لا يتفقان ـ أحدهما مع الاخر ـ في تعريف الكائن الحي وعالم وظائف الاعضاء الذي يبحث في عمليات الجسم الميكانيكية وكذا عالم وظائف الاعضاء الذي يبحث في مذهب الحياة نفسه ، لا يمكن أن ينظر إلى الانسان من زأوية واحدة ... وكذا فان الكائن الحي ـ كما يراه (جاك لويب ) ـ يختلف اختلافاً عظيماً عما يراه ( هاتز وريش ) ([17]).
وهذه الناحية صادقة في مختلف العلوم الانسانية أنفسها ، فظلاً عن النظريات التي تنتزع منها لتبني عليها مذاهب سلوكية أو تربوية أو أخلاقية أو قانونية أو غيرها .
ولهذا فظاهرة انسانية واحدة ـ مثلاً ـ لا تتفق في تفسيرها مدرستان ، أو حتى مذهبان ضمن مدرسة واحدة ، كما هو معروف .
ولهذه النواحي مجتمعة ـ بل ـ ولغيرها مما لم نذكره ـ كان من المستحيل أن تعطى قيمة الحق المطلق لكلمة من الكلمات يقولها أحد من الناس ، أو لموقف من المواقف يأتيه ، أو اتجاه من الاتجاهات السلوكية يتخذه ، ـ وراء حدود البديهة العقلية ونتائجها القريبة اليقينية ـ مهما سما هذا الشخص في سلّم الكمالات الانسانية ، الا حيث ينتهل مايقوله وما يفعله من معين العلم اللامتناهي ، وهذا ليس مورد حديثنا هنا .
والتساؤل هنا : هو انّه ما لم تضمن الرعاية الالهية الخاصة لهذا الانسان سمة الحق وشرائطها كافّة فيما يقول ، وما يفعل كيف يمكن للاخرين أن يستلهموا منه هذه القيمة العليا في الحياة ، أو يقبسوا منه ما يستهدونه في شؤونهم وسلوكهم دون تفأوت عن أمر الله تعالى أو اختلاف عن مفتضيات حكمته .
لا ريب أنه سؤال سيبقى بلا جواب .
علم الانسان وشرائط الحق
نعم ، قد يندب شخص من الاشخاص ، أو حتى فئة من الناس ، لوضع صيغة مذهبية معينة ، وتشريع مناهج خاصة لتنظيم الحياة في بعض المجتمعات – مثلا – تحدد على اساسها الروابط والعلاقات والحدود الاجتماعية في هذا المجال من الحياة أو ذاك.
و طبيعي ان يبحث ذلك المنتدب – قدر ما يستطيع في استكمال تلك الصيغة المذهبية التي يراها جديرة القيام ، وينظر في شؤون ذلك المجتمع وحاجاته التي تتراءى له بمقتضى تلك الصيغة ، وما تتطلبه من مناهج واحكام وقيم اجتماعيه عامة لكي تتوحد لديه هذه الامور جميعها في كيان يراه خاليا – قدر المستطاع – من الثغرات والتهافت ، قريبا من تطلعات المجتمع نفسه ، مستقيماً مع الاهداف العامة التي يسعى اليها في حياته، وفي علقته مع ذلك المذهب .. وهكذا .
وقد يتوقع هذا المنتدب – وعلى اساس مما يراه في تطور المجتمع – حالاتت مستجدة ينبغي ان يحسب لها حسابها في التصور المذهبي ، أو في التشريعات والمناهج المنبثقة منه ليعدها – من ثم – لاستيعاب تلك الحالات المستجدة..
نعم ، وقد ينجح هذا المنتدب في اداء مهمته كما اراده لنفسه ، أو اريد منه وقد يصيب في توقعاته تلك أيضاً ، مما يعطي لجهوده درجات ايجابية في صالحه هو ، وصالح مذهبه ، والمجتمع الذي يمضي ضمن خطه في بعض فترات التأريخ.
الا انّ هذا النجاح – مهما سمت درجته – لا يعطي لتلك الشريعة ، ولا لقوانينها طبيعة الواقعية المطلوبة ، كما لا يعطي للنظريات التي انبثقت منها قيمة الحق المطلق ، بل ولا يعطيها نفس القيمة من النجاح في مجتمعات اخرى وفي بلدان اخرى ، بل لا يعطيها نفس القيمة من النجاح في جوانب اخرى من حياة ذلك المجتمع الذي وضعت له ، أو في ازمنة اخرى لم يتوقعها ذلك المنتدب في حسبانه.
وهكذا كان لابد من متابعة الجهود ، ومواصلة التعديل ، وكان لابد من ملاحظة ما يستجد على المجتمع من حالات ، وما يطرأ في المعرفة من قضايا يمكن ان يكون لها اثرها في الحياة الانسانية .
وقد يحتاج الامر إلى التراجع عن بعض الاحكام والقوانين ، أو حتى عن بعض الاصول المذهبية التي اعتمدتها حين يستبين فيها من السلبيات ما لا يمكن تلافيه حين يراد للمذهب أو القانون نوعا من الحيوية والبقاء ، كما هو المشهود في بعض القوانين الوضعية السائدة ، فهي جميعها محكومة بقصور الانسان وضيق خبرته وتأثره بالادوار والحالات الجارية في حياته.
امّا ان تكون لذلك الشخص أو الفئة المنتدبة للتشريع مهمة تمثيل الحق نفسه – وكما هو في واقعه المذهبي الذي اراده الله تعالى للانسان – وبما لشريعته من دور كامل ودقيق في الوجود التكويني عامة ، والانساني خاصة – كما هو الشأن في مورد الاصطفاء الالهي من الناس.
اما ان تجعل لذلك الشخص أو الفئة مهمة القيادة العامة للبشرية ، وهي تطمح إلى هداها ورشدها الاكمل في هذا الحياة .
اما ان يقر الله عزّ وجل لكل كلمة تصدر وكل موقف يتخذونه ، واي سلوك يقومون به وكل فكرة يطرحونها قيمة واقعية ، التي تبرز دلائل الحكمة الالهية في الخلق ، وتقرر الحكم الربّني الذي يتجلى به لطف الله تعالى بالانسان ورحمته به .
اما ان تعرف دلائل الحجة الالهية لهم بالاستقامة المطلقة في كلّ منحى من مناحي حياتهم ، وفي كل بعد من ابعادها .. تلك الاستقامة التي لا تحدد ضمن خصوص ما يبرز منهم من نواحي السلوك فقط حيث هو المستوى المطلوب من عامة الناس – وانما هبي الاستقامة الذاتية المطلقة التي تبرز بجلاء – عظمة الحكمة الالهية في تكوينهم الذاتي ، وفي الدين والتشريع الذي اصطفتهم له معاً.
اما ان تُناط بهم بصائر هدى الله بمعانيها العظمى ، وحدودها التامة التي لا تخصيص فيها ولا استثناء ، لافي ادوار حياتهم الشخصية فحسب ، وانما في كل زمن تشمله مسؤولياتهم في قيام الحق.
اقول : اما هذا كله – كما هو الشأن في الشخصيات التي ينتجبها الله سبحانه لهذه المهمات – فهو غير ممكن ابدا بدون مدد آلهي خاص من العلم والمعرفة يرتفع بهم إلى مستويات هذه الشؤون كافة ويفي لهم بمتطلباتها جميعا ، كما لم يكن ممكنا دون رعاية شاملة ترتفع بمكوناتهم الشخصية الاخرى إلى هذا المستوى أيضاً وتسدد منهم كل خطوة في أي سبيل من سبل الحياة ، وعلى أي صعيد ، كما لاحظنا في الباب السابق.
مدد آلهي من معين العلم والمعرفة ، يتجأوز بأولئك الاصفياء كلّ حدود القصور والانساني في هذا المجال ، ويسمو بطاقاتهم وملكاتهم كافة عن الوقوف في الادراك والتعامل مع الاشياء – عند خصوص الظواهر القريبة منها – كما هو الشأن في الانسان الاعتيادي.
قد يرتفع بهم إلى الاحاطة بواقع هذا الوجود نفسه، وبما له من أوليات تستند اليها تلك الظواهر ، سواء برزت تلك الاوليات للوعي الانساني العام ام لم تبرز ، ادراك الاخرون منها شيئا ام لم يدركوا.
.. مدد آلهي من العلم لا تحكمه العصور ولا اتجاهاتها في المعرفة ، ولا مستوياتها الخاصة في مجتمع من المجتمعات ، أو الحضارة من الحضارات.
اذ بدون هذا المدد يستحيل على احد من أولئك الاصفياء اداء مسؤوليته ، أو القيام بمهمته التي ارادها الله تعالى منه ، كما ارادها له ، وكما اقتضتها حكمته السامية فيه ، حينما اختارته موردا للاصطفاء .
وهكذا يبدو ان المدد الرباني من المعرفة والعلم الذي يكفل لأولئك الصفوة بلوغ تلك الغاية هو أيضاً ضرورة تستوجبها استقامة الحق في شخصياتهم وشمول لطف الله تعالى بالانسان، واطلاق الحكمة الربانية في مقتضياتها ، وهي تصطفيهم مثلا عليا للبشرية ، وحججا على الخلق ، وشواهد لقيام دين الله تعالى في هذه الارض، وألسنة للتعبير عن كلمته بين الناس .
اذن فعلم هؤلاء الاصفياء المنتجبين ( عليهم السلام ) ، وهذه المستويات العليا التي ذكرناها لهم ، وربّانية مصدرها كافة .. كلّ هذه الامور انّما هي ضرورات تنشأ من نفس المنطلقات السابقة التي ذكرناها في التزام الاسلام ( دين الله ) لعنصر الحق اساساً لوجوده ، وركناً لكل بعد من ابعاده ، ومحوراً لكل حقيقة من حقائقه ، بما فيها هؤلاء الاصفياء الذين ارتضاهم تعالى هداة له وامناء على كلمته ، وحجة له في بريته ، حيث علمنا استحالة ان يؤدي أي منهم دوره الكبير هذا دون ان يحيط بحقائق الامور التي تقع ضمن مسؤوليته ودلائل حكمة الله تعالى فيها دون خلل أو تفأوت.
وبهذا المعنى يقول الامام ابو عبد الله الصادق ( عليه السلام) لهشام بن الحكم من حديث:
( ويك يا هشام ، لا يحتج الله ( تبارك وتعالى ) على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون اليه ..) ([18])
كما يقول (عليه السلام ) في حديث اخر :
( اترون ان الله ( تبارك وتعالى ) افترض طاعة أوليائه على عبادة ،ثم يخفي عنهم اخبار السمأوات والارض ويقطع عنهم موارد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم ؟ ) ([19])
كما انّ هذا العلم – من جهة ثانية – ضرورة تنشأ من تلك الحدود العليا التي جعلها الله سبحانه لكلمته في أي مجلى من مجالي التكوين والتشريع معاً ، واي مظهر من مظاهرها .. اذ قال ( عزّ من قائل ) :
] وكلمة الله هي العليا .. [([20])
] وتمت كلمة ربكّ صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [([21])
فحين علمنا ان أولئك المصطفين هم الذين يتجسد بهم علو كلمة الله عزّ وجل في هذه الارض ، ويتحقق بهم تمامها في البشرية ، وكمآلها في مجالي التكوين والتشريع معا ، فمن الطبيعي ان تضمن فيهم الرعاية الالهية تلك الارصدة العلميةالتي تمكّنهم من تحقيق ذلك العلو والتمام ، كما ضمنت فيهم مختلف المطلقة مع الحق ، سواء في شؤونهم الذاتية ام في مواقفهم وكلماتهم التي تصدر منهم .
علم علي ( عليه السلام ) من خلال شرائط الحق
نعم ، من خلال هذه الافاق – خاصة – ينبغي ان نفهم ما تعنيه فضيلة العلم في علي ( عليه السلام)..
فعلي ( عليه السلام ) هو – وقبل أي شيء آخر – احد أولئك الاصفياء الذين انتجبهم الله تعالى لقيام الحق في هذه الارض ، فمن الطبيعي ان تتجلى فيه شرائطه وضروراته كافة. بما فيها هذا المدد الخاص من العلم الذي يمكنه من الاحاطة لا بخصوص مظاهر التكوين وحدها ، وانما بمقتضيات حكمة الله فيها أيضاً.
وعلي ( عليه السلام) كذلك هو احد مظاهر كلمة الله تعالى في البشرية بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )، فمن الطبيعي ان يتحقق فيه تمام هذه الكلمة وسموّها في أي مكونات شخصيته، وفي أي سلوك يصدر منه.
اذن فعلم علي ( عليه السلام ) فيض آلهي خاص لا تحدده طبيعة الانسان الاعتيادي ، ولا تحكمه ظروف الانية ولا مستوياته ولا الاتجاهات الشائعة لمعرفته في عصر من العصور أو حضارة من الحضارات ، وانما يحدده – قبل أي شيء آخر – اصطفاء الله تعالى له ، واختياره اياه علما لهداه ، وتحدده مسؤوليات هذا الاصطفاء ، ومهماته التي القاها عليه ، وألزمه بها هذه الحياة.
وهذا ما تؤكده نفس الروايات السابقة التي وردت عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعن علي ( عليه السلام ) اذ يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – وكما قرأناه في الطائفة الاولى - :
(( هذا اخي ووصيي وواعي علمي ، وخليفتي على من امن بي وعلى تفسير كتاب ربي))
(( فاسمعوا له واطيعوا ، فان الله مولاكم وعلي امامكم ... فما من علم الا وقد احصاه الله في ونقلته اليه .. ))
ويقول علي ( عليه السلام ) – كما قرأناه في الطائفة الثانية :
(( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الف باب من العلم واستنبطت من كل باب الف باب ))
(( اني احدث .. كنت اذا سألت أعطيت ، واذا سكت ابتدئت وبين الجوانح علم جم فاسألوني))
وهنا لا بد من القول بأن الانطلاق في فهم هذه السمة العليا .. علي ( عليه السلام ) من خلال هذين المنشأين خاصة ، وما تعنيه كل منها من مستلزمات ودلالات يجب ان يكون هو الاساس الاول في التعريف على معالم شخصية علي ( علي السلام ) بل ومعالم شخصيات غيره من موارد الاصطفاء الالهي والتعامل معهم ومع مواقعهم الكبرى في دين الله تعالى ، وحجته البالغة على العباد.
وقد قلنا في مقدمة هذا البحث ان الاصطفاء الالهي – بما له من مقتضات – هو المقوم الاساس لكيانات الاصفياء ، ويستحيل على احد من الناس ان يصل إلى فكرة سليمة حول أي فرد منهم ، أو حتى حول شأن من شؤونه ، دون ان يأخذ بالاعتبار هذا الاصطفاء نقطة ارتكاز مبدئية يعتمدها في ملاحظته واستنتاجه.
وطبيعي ان تختلف النتائج التي سيحصل عليها المرء في ملاحظته لهذه الفضيلة الكبرى لدى الاصفياء ، حين يبدأ فيها من هذا المنطلق ، كما سيتضح الكثير من الفروق ما بين آفاق هذه السمة العليا لديهم ، وآفاقها المحدودة لدى سائر الناس وان بلغوا من السمو فيها درجة كبيرة ملفتة للانظار .
ونحن هنا نقف عند نتيجتين من هذه النتائج ، كان لهما دورهما الكبير في أيضاًح معالم الحق في شخصية علي ( عليه السلام ) ، وفي بلورة موقف المسلم معه ، ومسؤوليته تجاهه ، وهو يستلهم معالم الهدى منه، ويتبع دلائلها في حياته ومواقفه وكلماته . وهاتان النتيجتان هما:
أولا : عنصر الشمولية في علم علي ( عليه السلام )..
ثانيا: علم علي ( عليه السلام ) بالغيب.
الشمولية في علم علي ( عليه السلام )
اما الشمولية في العلم الذي اتاه الله تعالى عليا ( عليه السلام ) فتجب ملاحظتها من خلال بعدين اثنين لكل منهما دلالاته في بيان ما تعنيه هذه الشمولية:
البعد الاول : دور الاسلام في قيام الحق في الوجود الانساني .
البعد الثاني : دور رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البشرية كخاتمة لرسالات الله تعالى في الناس.
الاسلام ومقتضيات الحكمة الربّانية
امّا البعد الاول فلابد – لفهم ما يعنيه دور الاسلام في قيام الحق – من مراجعة للمبدأ الذي اعتمدناه في هذا الحديث ، وهو الالتزام الاسلام لسمة الحق ، وان الحق في الاسلام انما يعني مطابقته الجدية والدقيقة لدلائل حكمة الله في الخلق ، واستقامته التامة مع مقتضيات هذه الحكمة في تسويتها للانسان خاصة حين رسمت له دوره الخاص في هذا الوجود ، واهلته لتسنم هذا الدور ، بما افاضت عليه من خصائص وطاقات .
فمن هذا المبدأ يجب فهم سعة معنى الحق في الاسلام ، وسعة الاسلام ذاته ، وسعة ما له من خصائص ومميزات وشرائط ، تمتد إلى كل حقيقة من حقائقه ، والى كل مجلى من مجاليه ، بما فيها أولئك الاصفياء ، انفسهم وما يملكون من مزايا ، ترتفع بهم إلى هذه القمة السامية.
بمعنى ان هذه السعة في جميع مجالاتها هذه – كما تنشأ من سعة آفاق تلك الحكمة الربّانية في الوجود وتجلياتها العامة في الخلق ، يجب ان تضطرد معها أيضاً في كل حقيقة من حقائق الاسلام وكل شأن من شؤونه.
ومهما يجب الالتفات اليه – بهذا الصدد – ان حكمة الله سبحانه هي اسمى من ان تقتصر على حدود ارادة الانسان واختياره ، واجل من ان تتناهى عند حدوده الفردية أو الاجتماعية أو النوعية. أو تتوقف عند المظاهر البارزة للخلق .
كلا أبداً!!.
فهذه الحكمة في واقعها هي احد مجالي الكمال الالهي المطلق ، الذي لا نقص فيه من جهة ، ولا حاجة فيه من جهة .. اذن فمن الضروري ان تبرز آثارها في كل ما يصدر عن هذا الكمال من امر ، وما يتحقق بسببه من وجود.
فهي في الموجودات التكوينية كافة فيوض عامة من الرحمة واللطف التي لا يحيد عنها موجود، ولا يخرج عنها ولو في بعض شؤونه وحالاته .
فهي حكمة شاملة محيطة بجنبات الوجود ، ونواحي الخلق كافة ، فهي تتراءى في كل مظهر من مظاهره وكل سمة من سماته ، وكل حال من احوآله . الدقيقة منه أو العظيم .. البسيط فيه أو المعقد.
وليس الانسان وما يملكه من خصائص ومميزات ، وما تتحقق به هذه الخصائص من مواقف وافكار سوى بعض تلك الافاق التي تتجلى بها تلك الحكمة وتبرز فيها ألطافها.
وحينئذ – لكي يحصل مفهوم الحق في دين الله العظيم – يجب ان لا يقصر هذا الدين الحنيف في مطابقته لمقتضيات حكمة الله سبحانه عن هذه السعة التي تستوعب الوجود كله ، وتشمله بكل ما فيه من جذور وعلاقات ومظاهر .
ولئن اقتضت حكمة التشريع صياغة الاسلام ضمن شخصيات منتجبة لها مثل عليا وتصورات فكرية ، واحكام ومناهج سلوكية تتناسب وطبيعة الاختيار الانساني وطاقاته ، الاان هذه الصياغة لا تعني ان هذا المدى وحده هو الاساس الذي تعتمده المبادئ الاولية للاسلام في تكوينه الذاتي ، وان هذه الحدود هي الجذور التي ينطلق منها كيانه في الحياة ، وان هذه الافاق وحدها هي مستند حكمة الله فيه.
كلا .. ابدا .. لان واقع الاختيار الانساني نفسه والذي شرع له الاسلام – لا ينتهي عند هذه الحدود فقط ، اذ هو لا يستقل في وجوده وأولياته عن غيره من مظاهر التكوين ، وان امتاز عما سواه ببعض المميزات .
كما ان الحكمة الالهية التي انشأت الاختيار في الانسان وانزلت الاسلام لهداه لم تقتصر في تجلياتها عند الحدود الذاتية لهما فحسب.
انها – وكما علمنا – حكمة واحدة شاملة عمت الوجود بلطفها ورحمتها .. فجميع ما في الكون انما هو تجل واحد لها ، فهي التي احكمته بتدبيرها ، واعدت فيه من السنن الموحدة المتكاملة ما يستقيم به وجوده ، ويحقق فيه مقتضياته في ايجاده وغاياته منه . وان تجلت هذه السنن في كل موجود بما يناسب طبيعته ، وينتظم به في دوره المعد له في ذلك آلهيكل الموحد للتكوين.
فتلك الحكمة الالهية هي التي تجلت رحمتها في جزئي الذرة السالب ، وهو يدور حول جزئيها الموجب بقوانين مرسومة ، استقام بها الوجود المادى للكون كله.
وتلك الحكمة هي التي تجلّت في العناصر المادية البسيطة منها والمركبة وهي تنسق بين العالم آلهائل من الذرات لصنع مختلف ما في الكون من مظاهر مادية..
و تلك الحكمة هي التي بدت في الخلية الحية وهي تمازج بين عنصر الحياة والمكونات المادية فيها وفق قوانين دقيقة لا تتخلف ولا تتفأوت .
وتلك الحكمة هي التي ظهرت معالمها في الجسم الحي ، وهو يضع كل خلية منه في موضعها المناسب من خلال عالم من السنن لم يحط العقل الانساني الا بالقليل منها حتى الان.
وتلك الحكمة هي التي سوت الانسان وميزته بخصائصه ومزاياه لتعده لدور الخلافة عن الله في هذه الارض من بين سائر الموجودات.
وتلك الحكمة الالهية نفسها هي التي تتجلى بالاسلام أيضاً كقانون اختياري شرعه الله تعالى للأخذ بيد هذا الانسان المريد – وبما يتناسب وطبيعته الخاصة كذلك – إلى الغايات الاولى لهذه الحكمة في انشائه ، بما له من ادوار وخصائص مميزة كواحد من اسمى تجلياتها في هذا الكون المشهود.
نعم ، والقرآن المجيد ليشير – في العديد من سياقاته المباركة – إلى هذه الناحية، وما ذكرناه لها من مستلزمات وآفاق ...
اذ هو يؤكد على الحكمة الالهية كمصدر عام لكل ما في هذا الوجود، وعلى الوحدة المضطردة لها في التكوين والتشريع معا وعلى توحّد الموجودات كلها في المباديء ، ووحدة ما في هذه الموجودات من السنن التي تحكمها ليبلغ كل منها إلى ما اعدته له هذه الحكمة من اهداف ثم لتنتهي إلى ان الاسلام واحد من تلك الضرورية لاستقامة الوجود ، وقد شرعته الحكمة الالهية ليبلغ بالانسان – وعن طريق اختياره وارادته – إلى ما عينته له من اهداف رفيعة في الحياة حينما انشأته قمة بين مظاهر التكوين ليصبح الاسلام – من ثم – هو القمة بين سنن الكون كافة.
ونقف هنا عند شاهدين اثنين من هذه السياقات القرانية الواردة في هذا المعنى – وهي كثيرة – ونقرؤهما دون شرح أو تعليق لوضوح دلالتها على ما ذكرناه ، ضمن هذه الافاق العامة التي ذكرناها فاستلهام المراد منها لا يحتاج لأكثر من قراءة متأنية مع قليل من التدبر والتأمل.
قال تعالى في سورة الانعام :
]إِنّ اللَّه فالق الحبِ والنَوى يخرِج الحي من الميِت ومخرِج الميِت من الحي ذلكم اللَّه فَأَنَّى تؤفكون. فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم .وهو الذي جعل لكم النجوم لتَهتدوا بِها في ظلمات البر والبحر قد فصلنَا الايات لِقوم يعلمون . وهو الذِي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايات لقوم يفقَهون.وهو الذي أَنزل من السماء ماءً فأخرجنَا بِه نَبات كل شيءٍ فَأخرَجْنَا مِنهُ خَضِرًا نخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا. وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [.
] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ. بَدِيعُ السَّمَأواتِ وَالارْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ. ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ آله الا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لاَ تُدْرِكُهُ الابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير.قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ[([22])
وقال تعالى في سورة الجاثية :
] تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّ فِي السَّمَأواتِ وَالارْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ[([23])
نعم هذه هي الارصدة المبدئية التي ينطلق منها وجود الاسلام ذاته ، وهذه هي الدعائم التي بنيت عليها حقائقه كافة ، وهذه هي الاصول التي يعتمدها في سنّ مناهجه وتشريع احكامه.
.. حكمة الله ربانية شاملة أوجدت الموجودات ، وكونت الكون ، ودبرت مافيه من مظاهر ، وحددت لكل مظهر منها غاياته ، واعدت له دوره ، ثم رسمت له ما يبلغ به إلى تلك الغايات من سنن يستحيل عليه ان يتخلف عنها ، كما يستحيل عليها هي ان تزيغ به عن آلهدف اذ لا عبث ولا عجز ولا جهل في تلك الحكمة البارئة المدبرة .
ثم جعلت هذه الحكمة من الوحدة والتكامل بين الموجودات رصيدا لتجلياتها فيها ..
اما الانسان فهو لا يعدو ان يكون بعض موجودات هذا الكون .. واما موقعه فيها فهو أحد المواقع التي يبرز به ذلك التكامل المضطرد فيما بينها . واما دوره فيها فهو احد الادوار التي تتجلى بها وحدتها . واما الاسلام فهو السبيل الذي يحقق به الانسان غايات تلك الحكمة فيه . فما كان ليبلغ هذه الغايات بدون منهج ينتظم به في سلوكه الاختياري مع المسيره العامة للكون ، ويستقيم به مع متطلباتها في الحياة .
ثم ما كان الاسلام ليبلغ بالانسان إلى هذه الغايات االرفيعة بدون الاستقامة مع تلك الوحدة، وذلك التكامل الشاملين.
علم الشخص المنتجب ومقتضيات الحكمة الربّانية
اذن ، فهذه الشمولية – وبهذه السعة المستوعبة لمظهر التكوين كافة ، ولدلائل حكمة الله فيها – هي رصيد الاسلام في أولياته المبدئية التي ينهض عليها كيانه ، وعليها يقيم دلائله وبيناته ، لتبلغ به حجة الله تعالى على العباد وتستقيم به كلمته في الارض ويظهر به لطفه العميم ورحمته الواسعة بالانسان.
وهذا يعني – وبوضوح لا لبس فيه ضرورة ان تؤخذ هذه الشمولية – وبهذه السعة أيضاً – في علم الشخص الذي يصطفيه الله تعالى لتبليغ أمره ، ويختاره لان يكون حجته القائمة لدينه في البشرية اذ بدون هذا المستوى من الاحاطة في علم المنتجب لا يضمن الاسلام لنفسه استقامة الحق فيه، بتلك الحدية التي ذكرناها في التمهيد الاول لهذا البحث .
علم تمتد آفاقه لا إلى الاحاطة بوجود الانسان وحياته واحوآله ومنزلته الخاصة بين الموجودات فحسب ، .. بل ولا إلى الاحاطة بهذا الوجود التكويني القائم وما فيه من مكونات ومظاهر كذلك .. وان كانت هذه الدرجات الرفيعة من العلم هي المطمح السامي الذي تقف دونه آمال البشرية كافة في الدراسة والبحث ، وترنو اليه ابصار العلماء وبصائرهم في مختلف فروع العلم والمعرفة على امتداد التأريخ الانساني .
كلا ، وانما هو علم يمتد إلى ما وراء الموجودات كافة ليستوعب ما تعنيه حكمة الله سبحانه فيها وما تقتضيه فيها من متطلبات وشؤون وما تستوجبه من سنن وقوانين . على ان يكون هذا الامتداد إلى المدى الذي يستوجب قيام حجة الله تعالى بذلك الشخص المرتضى ، وما يصدر عنه من مواقف واقوال لا في حدود عمره الشخصي فقط وانما في آفاق الدور الذي اتسعت له مسؤوليته في قيام دين الله تعالى – كما قلناه أكثر من مرة – فمن الواضح ان أي قصور يبدو في كلمة أو موقف يصدر من ذلك الشخص المرتضى عما رسمه الاصطفاء الالهي له من مهمات يعني – ودون أي ريب – نقصاً في قابلية هذا الشخص على أداء دوره المطلوب منه ، وهذا محال ، اذ هو سينعكس في دلالاته السلبية على ذات الاصطفاء الالهي له وعلى دين الله نفسه وعلى قيام حجته فيه.
وستأتي – ان شاء الله تعالى – الاشارة إلى ما يعنيه قوله تعالى في سورة الجن: ]..عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . الا من ارتضى من رسول ، فانّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربّهم واحاط بما لديهم ، واحصى كل شيء عددا [([24])
فانّ في هذه الايات المباركة تأكيداً على ان ابلاغ رسالات الله ضرورة في ارتضاء الله لرسله تستدعي امدادهم جميعا بكل ما يحتاجون اليه من مهمات وان كان هو العلم ببعض الغيوب .
لا بد ان يكون مصدر علم المنتجب ربّانياً نعم ، ولهذا الضرورة وجب ان يكون مصدر العلم في أولئك الاصفياء ، هو الله تعالى ، فالافاق التي ذكرناها مما يستحيل على الحدود الانسانية القاصرة بلوغها دون مدد ربّاني خاص يأخذ بها إلى ذلك المستوى الرفيع .
والايات الكريمة التي عرضت لرعاية الله سبحانه لرسله وانبيائه المطهرين نصت على ان سمة العلم هي بعض مجالي هذه الرعاية وآفاقها ..
فيقول تعالى في آدم ( عليه السلام ) – مثلا - : ] وعلّم آدم الاسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة [([25])
كما يقول عن نوح ( عليه السلام ) : ] قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين. ابلغكم رسالات ربي وانصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون [([26])
ويقول عن موسى ( عليه السلام ) : ] ولما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلماً وكذلك نجزي المحسنين [([27])
ويقول سبحانه عن محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ] وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [([28]) .. إلى آيات اخرى وردت في هذا المضمون .
وهو ما اكده الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيان ما في ذاته المقدسة من فضيلة العلم ، وقد قرأنا قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم غدير خم : (( فما من علم الا وقد احصاه الله فيّ..)).
كما يقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حديث آخر : ( أوتيت مفاتيح كل شيء الا الخمس: ]ان الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ان الله عليم خبير [([29]) ) ([30]).
وحين تكون صفة العلم لدى هؤلاء المنتجبين آلهية المنشأ ، ودون اكتساب حتى منهم أنفسهم فطبيعي ان لا يلحظ فيها قصور أو تفأوت عن الضرورات التي قلناها ، حيث يستحيل تصور احد هذين النقصين فيهم حينئذ فالله تعالى أجل واعز من ان يُرى في امره وهن ، أو يكون في قدرته عجز .
ولابد ان تكون هذه الافاق وهذه الشرائط هي اصول سمة العلم لدى علي ( عليه السلام)..
فهو ( عليه السلام ) أول من ارتضاهم الله تعالى لقيام حجته الكبرى في البشرية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وفي آفاق هذه الحجة حددت مسؤولياته العظمى في هذه الحياة . وحينئذ فمن المستحيل على حكمته تعالى ولطفه بالعباد ان لا يمدانه بما يحتاجه في اداء دوره هذا، وما يتطلبه استيفاؤه لشرائط الحق في دينه القويم ..
والروايات السابقة التي ربطت بين علم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلم علي (عليه السلام) .. وكذلك الروايات التي ربطت بين علم سائر الانبياء أو بعضهم وعلمه ( عليه السلام) واضحة الدلالة على هذه الناحية.
فهو علم آلهي المنشا، افيض عليه ( عليه السلام ) لتأهيله للقيام بمهماته الكبرى التي كلّف بها في دين الله سبحانه وفي ولايته العامة على الامة ... وطبيعي ان لا يقصر ضرورات هذه المهمة أو يحيد عنها .
(( علي عيبه علمي )) .. (( علي باب علمي )).. (( أنا مدينة العلم وعلي بابها )) ... (( أنا دار الحكمة وعلي بابها )) ... (( ما من علم الا وقد احصاه الله فيّ ونقلته اليه )) ... (( من أراد ان ينظر إلى آدم في علمه )) .. (( و وارث علم النبيين )).
دور رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البشرية
امّا البعد الثاني الذي ينبغي ان نقف عنده من عنصر الشمولية في علم علي ( عليه السلام) فهو الجانب الذي يتأتى من سعة الدور ، وعظم المهمات التي جعلها الله سبحانه لرسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هدى البشرية ، وارشادها إلى الصراط المستقيم .. هذه الرسالة التي كان لعلي ( عليه السلام ) موقعة الثاني فيها بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن أجلها تحقق إرتضاء الله عزّ وجل له ولياً على الناس ، فمن الطبيعي ان يكون لتلك السعة والعظمة دلائلها الواضحة في الشرائط والسمات التي تتجلى في اصفياء هذه الرسالة ، ومنتجبها كافة – بمن فيهم علي ( عليه السلام ) – لنفس المستلزمات التي ذكرناها سابقاً.
ونقف هنا عند جانبين من هذه السعة :
فمن المعلوم – أولا – ان الله تبارك وتعالى قد بعث محمداً نبراساً لدينه وهادياً للبشرية جمعاء فرسالته – ولا ريب – شاملة للبشرية جمعاء .. قال تعالى :
] قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعاً.. [([31])
] وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيراً[([32])
ومن المعلوم – ثانيا – ان الله سبحانه وتعالى قد جعله خاتما للنبيين فلا نبي بعده ، اذن فرسالته خاتمة الرسالات والنبوات كافة ، فلا رسالة ولا نبوة بعدها ، قال عز من قائل :
] ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [([33])
والمعنى القريب لهذين الجانبين من سعة رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ان الاسلام في رسالته المحمديه العصماء هو الدين الذي جعله الله تعالى هدى للبشرية كافة ، فلا يحده في مهمته بلد معين ، ولا لغة من اللغات ولا طائفة من الطوائف أو امة من الامم أو قومية من القوميات أو مستوى حضاري أو علمي خاص، أو اتجاه من الاتجاهات الفكرية أو العاطفية أو غيرها .
وان الاسلام في رسالته المحمديه هو الدين الخالد مع البشرية ما دام لها وجود في هذه الارض فلا يحدّه زمن من الازمنة ولا عصر من العصور منذ ان صدع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأول حقيقة من حقائق الرسالة ، وحتى يوم يقوم الحساب ، فلا استغناء لجيل من الاجيال عنه ، ولا فرد من الافراد ، ما دام هناك من يعمر البسيطة مهما تمادت الحقب وتواترت القرون .
وكلتا النقطتين هما من البداهة لا سلامية المعروفة.
وطبيعي ان ياخذهما دين الله اصلاً عاماً في حقائقه كافة ، وشرطاً مضطرداً في بيّناته ودلائله جميعاً اذ يستحيل التفأوت بين هذه الغاية الكبرى والواقع الفعلي في ذاته .. كما هو واضح .
والذي يعنينا من هاتين النقطتبن هو : ملاحظة ما كان لهما من آثار في الدلائل والبينّات الاسلامية وقيام حجة الله فيها ، ولا سيما تلك الدلائل التي اعتمدها في شخصيات أصفيائه المنتجبين ( عليهم السلام ).
وقد لا حظنا في البحث السابق ان السبب في ضرورة اعتبار سمة الشمولية واحدة من الشرائط الاساسية في علم الشخص المنتجب انما هو ضرورة التناسب المطلق بين حدود الاصطفاء الالهي والغايات المطلوبة منه ، مع وفاء الشخص المصطفى بمسؤولياته الكبرى فيه .. واستحالة التفأوت بينهما لحكمة الله تعالى وقدرته واحاطة علمه .
.. وكما كان هذا التناسب سببا في حاجة علم الاصفياء إلى المصدر الالهي ، لقصور الانسان .. مهما بلغ سمواً وكمالا .. عن الاستقلال بنفسه في الوصول إلى هذا المستوى ، دون مدد من العلم الربّاني المحيط ..
... وكما كان هذا التناسب أيضاً سببا لان يستوعب علم الاصفياء لجميع الاصول والمبادئ التي يستند اليها دين الله تعالى من مقتضيات الحكمة الالهية ذاتها ، وتجلياتها الكبرى في الوجود الانساني بشكل عام ..
.. كذلك يجب ان يكون هذا التناسب هو الرصيد الفعال في سعة هذا العلم لجميع آفاق مسؤوليات أولئك الاصفياء في ابلاغ كلمة الله تعالى إلى أسماع البشرية وبصائرها وقيام حجته عليها في جميع ازمنتها وامكنتها ومستوياتها العلمية والحضارية واتجاهاتها الثقافية التي أخذت في تلك المسؤوليات.
فهذا التناسب المضطرد هو الحاكم بضرورة ان تكون سمة العلم في منتجبين دين الله ( عليهم السلام ) بدرجة من الكمال والسمو تستوعب جميع ما يتصور بلوغ البشرية كافة اليه – وفي جميع الازمنة والامكنة والمجتمعات والحضارات – وما تصل اليه من مستوى فكري أو عملي وفي أي مجال من مجالات المعرفة وفي أي صعيد من اصعدة الحياة وعلى مدى التاريخ .
اذ كما استحال التفأوت في الاصول المبدئية التي يستند اليها الاسلام في الدلائل التي يقيم بها حجة الله على الناس ، مما استدعى الاستيعاب في علم منتجبيه لحقائق تلك الاصول ، منذ اعماقها الاولى ، كذلك يستحيل التفأوت في الغايات الالهية لهذا الدين في هدى الناس، وما في هذه الغايات من جوانب السعة والشمولية لمختلف المجالات والمهمات . مما يستوجب كمال دلائله وبيّناته بدرجة تسمو على جميع ما يمكن ان يبلغه الناس من حدود ، وتتنزه به عن التهافت أو الخلل ، أو القصور عن ابلاغ كلمة الله تعالى في عصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات.
بمعنى ان تكون هذه الدلائل والبينات شاملة الحجة في أي وجود بشري أو على أي مستوى يصل اليه الفكر الانساني .
وان تكون بالغة الحجة في كل مكان يعيش فيه احد من الناس على هذه البسيطة .
وهي ضرورة عامة في ألسنة الاعلام كافة، وفي جميع شواهد تصديقه .. من القران الكريم، إلى سنة الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والى تراث أوصيائه المنتجبين ( عليهم السلام) ، اذ الاساس في الجميع واحد ، والمقتضيات واحدة ، والمنهج واحد كما علمنا.
هكذا كان لكل ما صدر من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومن أوصيائه المطهرين جميع شرائط الحجة الالهية وعوامل بلوغها ، وسمو كلمتها مع العصور وفي أي وسط اجتماعي ، دون ان يحدّ هداها والزامها للبصائر حدود موضوعية أو فكرية ، أو شيء مما يحكم حياة الناس من اسبابه التفأوت والاختلاف ، أو شيء مما يمليه عامل الزمن من الفوارق في المستويات والاتجاهات بالرغم مما اقتضته ظروف الخطاب وحدود فهم الناس الذين خوطبوا بتلك الكلمات من طرائق وحدود فيها .
وهي نقطة فعلية وواضحة لنا في هذه الايام كما كانت بالامس .. من ذات الاسلام ، ومن دلائله وبيّناته كافة ، فسنّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعترته الطاهرة ( عليهم السلام) – كالقرآن العظيم – هي اليوم ، وكما كانت بالامس حجة الله بالغة واضحة النور والهدى لجميع الناس ، لا وهن في دلالتها ، ولا خلل في عطائها ، وستبقى بهذا المستوى من الوضوح والقوة والكمال مع الناس في حياتهم إلى القيامة ..
] إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون[([34]).
فرق ما بين المنتجب وغيره من الناس
ومن هنا كانت هذه الناحية بعض الفوارق الواضحة بين أولئك الاوصياء وغيرهم من الناس ، كما كانت ينبوعا من ينابيع الاعجاز الالهي في كلماتهم وافعآلهم ومواقفهم كافة..
اذ يستحيل على الشخص العادي من الناس بلوغ هذه السعة والمستوى في مداركه وطاقاته المحدودة ، مالم يرفده مدد رباني خاص..
فان لكل بلد من البلدان ، ولكل طائفة من الطوائف ، وكل حضارة من الحضارات تقاليد ومسلّمات واتجاهات سلوكية وعملية وثقافية خاصه تختلف بها عن غيرها من البلدان والطوائف والحضارات حتى في الزمن الواحد .
وكذلك فانّ لكل حقبة من حقب التأريخ ، ولكل زمن تمرّ به أجيال الناس ، أثرا كبيرا طرح نوع خاص من التوجهات والاهتمامات الفكرية والسلوكية ، وكذلك في الوصول إلى درجات خاصة من الخبرة يتفأوت به كل جيل عما تنآله الاجيال الاخرى حتى في البلد الواحد أو الشعب الواحد من الناس..
ولا ريب ان لكل من هذين الجانبين اثره في تحديد السمات العامة لشخصيات الناس ، فان الفرد وهو ينشأ في وسط اجتماعي أو ثقافي معين لابد ان يكتسب طابع البيئة التي يعيش فيها ، ويتأثر بالاجواء العامة التي تحكمها من حيث يشعر أو لا يشعر .
وقد قلنا أكثر من مرة ان الانسان وليد عصره وهو ابن بار للوسط الذي يعيش فيه ، وان سعى للانفصال عنه بخطوة إلى الامام أو الخلف أو إلى احد الجانبين
ومثل هذا التحديد مما لا يتصور في موارد الاصطفاء الالهي ، وبالاخص أولئك الذين اخذت الشمولية للبشرية وعصورها كافة في مسؤولياتهم ، وفي مقتضيات اصطفائهم كمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والنجباء من عترته المطهرين ( عليهم السلام ) .. أو من المستحيل تصور قصورهم عن الوفاء بتلك المسؤوليات وهذه المقتضيات – كما قلنا - .. فلابد ان تؤخذ تلك الشمولية – بكل ابعادها – في مجاري الفيوض الربّانية لهم في العلم والاحاطة بالامور أيضاً كما هو الشأن في الشرائط الاخرى لاصطفائهم ، وشرائط الحق الذي اعتمده هذا الاصطفاء لهم .
ومن هنا أوتي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مفاتيح كل شيء الا الخمس التي ذكرتها الاية الكريمة السابقة ..
كما أوتي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الكثير من الخصائص التي فضل بها حتى على غيره من انبياء الله ورسله ( عليهم السلام) لاختلاف ما بين مسؤولياته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن مسؤولياتهم ( عليهم السلام ) اذ كانت رسالاتهم محدودة الزمن أو المكان أو المجتمعات البشرية – كما هو معروف بينما لم تحدد رسالته باي من الحدود الموضوعية .
اذ يقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( فضلت على الانبياء بست . اعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ، وارسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيّون ) ([35])
ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً : ( اعطيت مالم يعطه احد من الانبياء . فقلنا: يا رسول الله وما هو ؟
قال ( صلى الله عليه وال هوسلم ) : نصرت بالرعب ، واعطيت مفاتيح الارض . وسميت أحمد ، وجعل لي التراب مسجدا وطهورا و جعلت أمتي خير الامم ..) ([36]) إلى روايات اخرى في هذه المضامين..
علي عليه السلام كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الشرائط
وعلي ( عليه السلام ) لا يختلف في هذه الناحية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) وان كان تبعاً له فيها ...
فالله سبحانه هو الذي اختاره وليا للامة بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وارتضاه هاديا لها بدينه القويم ونبراسا له في البشرية ومبلغا لامره ، وان لم يبلغ درجة النبوة بل أخذ هذه المهمات والمواقع والادوار من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وحديث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه : ( انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي ) ([37]) معروف متواتر.
وحيث لم تحدد مسؤولياته دون حدود رسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذاتها في البشرية فمن الطبيعي ان تؤخذ في اصطفائه ، وفي الفيوض الربّانية له ، نفس الشمولية التي اخذت مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اذ لا تفأوت في موازين الحق ومتطلباته. وقد قرأنا هذا في بعض احاديث الغدير ذاتها ، اذ يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم):
( فان الله قد نصبه لكم وليا واماما وفرض طاعته على كل احد . ماض حكمه . جائز قوله. ملعون من خالفه . مرحوم من صدقه . اسمعوا له واطيعوا . فان الله مولاكم وعلي امامكم ثم الامامة في ولدي من صلبه إلى القيامة . لا حلال الا ما احله الله ورسوله . ولا حرام الا ما حرمه الله ورسوله وهم ) ([38]).
ويؤيد هذه الشمولية كثير ما ورد عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حق علي (عليه السلام ) ، اذ كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يؤكد عليها في كل مناسبة ..
فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول – مثلا - : ( سألت الله فيك خمسا فاعطاني اربعا ومنعني واحدة ، سالته فاعطاني انك أول من تنشق الارض عنه يوم القيامة . وانت معي معك لواء الحمد ، وانت تحمله، واعطاني انك ولي المؤمنين بعدي ) ([39])
ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( انا وعلي حجة الله على عباده ) ([40])
ويقول كذلك – وقد راى عليا مقبلا - : ( انا وهذا حجة على امتي يوم القيامة ) ([41])
ويقول أيضاً كما عن انس بن مالك : يا انس ، قلت لبيك ، قال : ( هذا المقبل حجتي على أمتي يوم القيامة ) ([42])
والرصيد العلمي لعلي ( عليه السلام ) يجب ان لا يقصر بحال من الاحوال عن هذه الافاق أيضاً.
فالدلائل الالهية التي يقيمها في البشرية والبيّنات والبصائر الاسلامية التي يحققها في مواقفه وكلماته ، يجب ان تستوعب – بدورها – حدود البشرية كافة ، وتتجاوز عامل الزمن والمكان والاتجاهات العلمية والحضارية التي اخذت فيها ، دون ان تتأثر بحد من الحدود ، أو تقصر عن احتواء اتجاه أو تعجز عن بلوغ غاية ..
وكل هذا واضح من خلال التأمل في تلك الاطلاقات والعمومات الواردة في كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يبين ما لعلي ( عليه السلام ) من خاصة العلم فيه .. وفي الاحاديث المتقدمة التي قرأناها كفاية عن اقتباس مزيد منها وان كانت مصادر الحديث ملأى بمثل هذا المضمون ..
(( فما من علم الا وقد احصاه الله فيّ ونقلته اليه ، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به .. فهو افضل الناس بعدي .. ما نزل الرزق وبقي الخلق . ملعون من خالفه ، قولي عن جبرئيل عن الله..))
(( أعلم أمتي من بعدي علي بن ابي طالب ))..
(( علي عيبه علمي )) .. (( علي واعي علمي )) .. (( علي باب علمي )).. إلى آخره ..
ومحال ان لا تصح هذه الكلمات من الرسول في مورد فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، (لا ينطق عن آلهوى ان هو الا وحي يوحى ) بنص الكتاب العزيز .
و( قولي عن جبرئيل عن الله ) بالتزام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه ..
وضوح الاعجاز العلمي في دلائل دين الله تعالى
هذا ولعل البشرية في هذه العصور اقرب إلى ادراك ما تعنيه هذه الشمولية في دين الله تعالى وفي ابعادها المتقدمة المختلفة ، سواء في حججه البالغة ، ام في الارصدة العلمية والبيّانية التي تستند اليها وسائل تبليغه المصطفاة ..
.. هذه العصور التي قفزت فيها المعرفة درجات لم تكن بحسبان احد من الناس ، حتى في العصور القريبة من التأريخ – فضلا عما قبلها من حقب – وسارت فيها ركائب العلوم في كل اتجاه ، ومضى الانسان يجوب افاق الفضاء ، ويتأمل مكونات الذرة ، ويغور في الملاحظة إلى اعماق النفس الانسانية ، وينفذ إلى ادق دقائق الحياة ..
الا ان الانسان – ومع كل ما بلغه من افاق المعرفة هذه ، ومع كل ما يفرضه عليه التطور العلمي من نتائج حاسمة في الحياة – لم يجد أي وهن في دين الله تعالى ، أو انحراف عن الهدى والرشد في اصوله ومناهجه ، أو تصور في بيّناته عن كفاية اكبر العقول في قناعتها التامة ، واطمئنانها إلى سلامة الطريق وضمان النتائج التي يهدف اليها الاسلام في مختلف توجّهاته .
فرغم جميع هذه المستجدات المشهودة للإنسان يبقى هدى الاسلام هو الهدى ، وكلمته هي العليا ، ولا تزال حجته البالغة ، ولا تزال لتلك الكلمة وهذه الحجة قابليتها الاولى – والتي كانت لهما في العصور السابقة – في ملء البصائر وقيادة الحياة ، والاخذ بركائب الاجيال الانسانية إلى ما اراده الله سبحانه لها من رشد وصلاح ، والى ما اقتضته حكمة الايجاد للانسان من دور سام بين مظاهر هذا الوجود.
ومن الواضح ان هذا السمو والكمال في ذات الاسلام واتجاهاته وبيّناته – وبهذا المستوى الرفيع والواضح – ما كان ليتحقق دون ان تؤخذ الشمولية التي قلناها – واحدة من الارصدة المبدئية في العلوم التي تركن اليها وسائل التبليغ التي اختارها الله لاقامة كلمته في هذه الارض وارتضاها سبلا لابلاغ حجته إلى العباد.
.. الشمولية في استيعاب هذه الوسائل لجميع الاصول العميقة التي طلق منها الاسلام في اقامة كيانه دينا للحق ، معتمدا لمقتضيات حكمة الله تعالى في انشائها للخلق ، ومستقيما مع تجلياتها البارزة والخفية في مختلف جنبات الوجود .. بما فيه الانسان وحياته وشؤونه وعلاقاته الخاصة والعامة .
والشمولية في رؤية هذه الوسائل لجميع ادورا الانسان ومستوياته الفكرية ، وتطلعاته العلمية كفاية للهدى الاسلامي نفسه وفاعليته في الحياة ، وفي الخلود الابدي لكلمتها مع الزمن ، دون ان يؤثر فيها أي من عوامل التغيير ، أو تطورات الحقب ..
وكل هذه الابعاد من الشمولية واضح في بينات الاسلام وبصائر مصطفيه ، ويستطيع أي متدبر واع ادراكه مع اني تدبر لها ومتابعة لدلائلها في الحياة .
الاعجاز في علم علي عليه السلام
امّا علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالخصوص ـ حيث يعينه هذا الحديث بالذات من بين ألسنة الاسلام ومنتجبي حجته ـ فمن نافلة الحديث ان نقول : انه أحد أولئك الذين تجلت فيهم هذه الشمولية في مختلف أبعادها كذلك ...
ويكفينا من شواهد تصديقها ما تراه البشرية اليوم - عين ما رأته بالامس القريب والبعيد - من حيوية الدلائل الاسلامية التي أقامها في كلماته وأفعآله ، واعجاز ما اعتمده فيها من أوليات وقيم فكرية واخلاقية امتدت معه إلى شؤونه كافة ، وخلود النور والهدى في جميع ما أثرعنه في حياته المباركة كلّها .
وها هي حياة علي ( عليه السلام ) وما خلده التاريخ من وقائعها وأحداثها ..
وها هي كلمات علي ( عليه السلام ) وأقواله التي ألقاها على مسامع الاجيال حجة للإسلام بالغة مع الزمن .
وها هي حياة علي ( عليه السلام ) وها هي كلماته جميعها اليوم ـ وكما كانت في السابق نبراساً حياً يمد السائرين في طريق الحق بالروح والاستقامة ، ويهدي به السالكين في سبيل الرشاد ، بالرغم مما واكب تأريخه وتأريخ ولايته من غبن الاحقاد وانحراف الاهواء ، وجهود الضغائن في طمس منابع النور فيها . ولكن هذه الاحقاد ، وبالرغم مما تملكه من خبث الباطل - لم تجد في أي من تراث علي ( عليه السلام ) ثغرة يمكن أن تنفذ منها إلى مآربها معه ، أو هفوة تستطيع التسلق عليها إلى غاياتها الدنيئة فيه أو في إبعاد البصائر الحرّة عنه ، أو تفأوتاً عن حدود الاسلام وبيّناته الاخرى ، ليمكنها - من ثم - ان تتخذه ذريعة لنيل أهدافها مع ولايته .
وطبيعي أن لا أحاول الدخول في تفاصيل هذه النقطة من شؤون علي ( عليه السلام ) كما لا أحاول الاستعانة باقتباس بعض شواهد التصديق لها ، فهي وكما يرى القارئ اللبيب - أوسع من أن يستوعبها حديث مقتضب سريع ، كالحديث الذي نحن فيه ..
نعم ، يكفيني ان أشير إلى ما يراه الانسان في نفسه من قصور أزاء العظمة التي يجدها فيما أثر على علي ( عليه السلام ) من كلمات ومواقف ... فان المرء قد يرتضي من نفسه ما بلغته من درجات المعرفة والعلم ، بل وقد يكبر فيها هذه الدرجات ، الا انه ما ان يقف أمام كلمة قالها علي ( عليه السلام ) ضمن اختصاصه ، الا ويدرك انه لا يزال صغيراً ضئيلاً أزاء ما فيها من من عظمة ، وما فيها من دلائل العلم والمعرفة ؛ بل ويدرك ضرورة أن ينتظم في خطها ويستظل بظلالها ، أو يقبس من اشعاعها ، ان أراد لكفاءاته وقابلياته ودرجاته العلمية التي أوتيها أن تثمر ثمارها الطيبة في حياته أو في حياة الاخرين ..
ولا يختص هذا الشعور منه في بعض اتجاهات المعرفة دون بعض مما استوعبته كلمات علي (عليه السلام ) ومواقفه ، كما لا يختص ببعض الناس دون آخرين ، أو بمستوى علمي دون غيره ، ولهذا فيمكن القول بأن كل أحد من الناس يمكنه ان يلمس هذا الشعور من نفسه في أي اتجاه من المعرفة سلكه ، كان لعلي ( عليه السلام ) كلمة فيه أو استند اليه علي في بعض كلماته . وفي أي مستوى بلغه في هذا الاتجاه .
ومن الطبيعي ان يعلم المرء ان الاتجاهات المعرفية المختلفة ومستوياتها كافة ، لا تعدو هذه النتيجة أيضاً، والا لم تخف الايام ما استطاع احد من الناس ان يتجاوز به هذه الحدود المطلقة فيها ، ولا سيما مع ما عرفناه من سلبية مواقف التاريخ مع علي ( عليه السلام ) وولايته .
ويكفيني ان أشير أيضاً إلى اجماع المنصفين من باحثي حياة علي ( عليه السلام ) وسيرته على الاعتراف بقصورهم عن استيعاب افاق العظمة في شخصيته ، وفيها خلده التاريخ من موقفه والشؤون ،وتأكيدهم على وحدة المنابع والاصول التي أدركوها لتلك الافاق والماقف والشؤون مع مختلف دلائل الاسلام واتجاهاته واصوله ، دون ادنى وهن أو تفأوت .
واقول : المنصفين من باحثي حياة علي ( عليه السلام) ، لاني اعلم – حق العلم – انه ليس كل احد ممن دخل هذا المضمار كان رائده الحق ، أو كانت غايته الاستقامة معه ، أو كان يقصد الوفاء بمسؤوليته الالهيه والانسانية في استماع القول لا تباع احسنه ، ليستطيع – من ثم – ادراك منابع الرشد والهدى في هذه الشخصية العظمى أو حتى يرى مطالع انوارالله فيها .
بل ، واعلم ان الكثير ممن عني بدراسة حياة ، علي ( عليه السلام ) كان من ذوي النفوس المريضة ، وانه قد ارتكس على أم رأاسه في حمأة الباطل في جهوده بتلك الدراسة ، وهوى إلى دركات سحيقة من الضلال في النتائج التي بلغها فيها .. فعلي ( عليه السلام) وحياته لا يختلفان عن مصادر الاسلام وبصائر الاخرى في جهة فهمه ، هي من خصائص الاسلام ومعجزاته ، وهذه الجهة هي : ان المواقف السلبية مع الاسلام وحقائقه ستنتهي مع الانسان إلى ما لا يحمده لنفسه من النتائج ، والقران الكريم يشير إلى هذه الحقيقة من نفسه والنتائج المشينة لمواقف الناس السليبة من ذاته قبل غيره من تلك المصادر اذ يقول :
] الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلأوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون[([43])
] ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [([44])
إلى آيات كثيرة اخرى في هذا المضمون .
كما يقول القران أيضاً عن هذه الحقيقة من مواقف الناس من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والرسل السابقين عليه . اذ يقول : ] ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم اخذتهم فكيف كان عقاب [([45]) . إلى آيات اخرى كثيرة كذلك ، وردت في هذا المضمون.
ولهذا فليس غريبا ان يرتكس أولئك الحاقدون في مضلات النتائج حين يقفون من علي وابنائه (عليه السلام ) تلك المواقف السلبية أو الحاقده ويكفيني ان اشير أيضاً إلى ما قراناه سابقا من كلمات علي ( عليه السلام) في اعلامه للامة بما يملكه من علوم ربّانية المصدر ، وتحّديه للبشرية كافة بهذه العلوم .
(( سلوني قبل ان تفقدوني ، فاني لا أُسال عن شيء دون العرش الا اخبرت به ))
(( ألا أنّ ها هنا – وأشار إلى صدره – لعلماً جماً لو أصبت له حملة ..))
((كنت اذا سألت أعطيت ، وذا سكت ابتدئت ، وبين الجوانح علم جم . فسألوني ))
إلى كلمات اخرى في هذا المضمار .
نعم يكفينا منها هذا التحدي الخالد لجميع الكفاءات والقابليات البشريه على امتداد التأريخ دون جواب منها يقف به عند حد ، اذ بقي – حتى اليوم ، بل وسيبقى حتى اليوم الاخير في هذه الدنيا حيا متلألئا ، شامخاً، دون ان يستطيع احد التطأول عليه ببيّنة ، أو ينال منه هدفاً بكلمة .
وحتى تلك الضغائن والاحقاد التي علمنا ما لها من أدوار كبرى في صياغة حياة الامة المسلمة ، وكتابة تأريخها ، فهي – ومع عظم ادوارها هذه – لم تستطع ان تنال من هذا التحدي في اثبات شيء مما يكذب علياً ( عليه السلام) في كلماته هذه ، أو يوهن مدلولها في جانب من الجوانب التي عرضها في اقوآله وافعآله واحواله كافّة نعم لا شيء واحد اختلف فيه علي ( عليه السلام) عن الحق ، أو قصر عن دلائله أو تفاوت عن سبيله بالرغم من سعة الجوانب التي طرحها في كلماته ، والافاق التي تناولها في بيّناته.
علم علي ( عليه السلام) بالغيب
تمهيد
وفي هذا الخط أيضاً..
في ضرورة الاستقامة بين اركان الحق ومتطلباته..
وفي حتمية عدم التفأوت بين الاصطفاء الالهي وتحقق اهدافه في الشخص الذي يرد فيه..
في هذا الخط أيضاً يجب ان يفهم الجانب الغيبي من علم علي بن ابي طالب ( عليه السلام) ، علم الغيب الذي يتطلبه قيام الحق في دين الله سبحانه، ويحتاجه علي ( عليه السلام) نفسه في وفائه الكامل بمسؤولياته الكبرى فيه فبعد ان ثبتت ولاية الله الكبرى له ، وبعد ان اصطفاه الله تعالى لها ، فمن الضروري ان يمده بجميع ما يلزمه في الوفاء بمتطلّباتها ،وتحقيق شرائط الحق فيها منذ ادق دقيق فيها وحتى اظهر مظاهرها وضمن أي جانب من جوانبها .
ولا ريب ان العلم ببعض الغيوب هو احد تلك المتطلبات المفروضة واهمها ، لان دين الاسلام ذاته – والذي اصطفى علياً ( عليه السلام) لولايته – ليس الا صلة رابطة بين الغيب والشهادة فالمنتجب للقيام بدور خاص في هذا الدين لابد ان يرفد من هذا الرصيد بما يمكنه من اداء دوره هذا ، والاقصر عن الغاية ، وهذا محال ، كما سبقت الاشارة اليه اكثر من مرة ..
وعلي ( عليه السلام) لا يفترق عن غيره من اصفياء الله تعالى في هذه الناحية ، فهي – على اجمالها هذا – مما لا يتفاوت فيه الاصفياء كافّة ، وان اختلفت التفاصيل في كل منهم ، لا ختلافهم في المهمات الموكلة اليهم وفي حدود مسؤولياتهم في هذه المهمات.
ونحن – ومن اجل فهم مناسب لما يعنيه علم الغيب لدى علي ( عليه السلام) خاصة ، ولدى الاصفياء ( عليهم السلام) عامة – ينبغي ان نقف بشيء من التدبر – عند بعض النصوص التي عرضت له صراحة أو ضمناً ، لنستلهم منها بعض الدلالات المطلوبة لتحقيق غايتنا تلك .
والملاحظ في هذه النصوص انها من الاستفاضة والشهرة بدرجة اسمى من ان يرتاب في مضمونها العام ذو خبرة منصف وان نوقشت بعض الجزئيات فيها فهي مع شهرة روايتها ، وتواتر بعضها ، لا يختص ورودها في مصادر خاصة لمذهب معين ، ولا في اتجاه واحد من اتجاهات المعرفة الاسلامية فهي تملأ مختلف كتب الحديث والتفسير والتأريخ والسيرة والملاحم والمناقب وغيرها .
ولكي نستشف نحن فكرة واضحة متكاملة الخطوط يمكننا ان نستعرض طوائف اربع من هذه النصوص لكل منها دور بارز في أيضاًح جوانب مما تحتاجه في هذه الفكرة ، اضافة إلى بيان ما يعنيه علم الغيب في شخصية علي ( عليه السلام) وعظمتها ، وفي مدى وفائه ( عليه السلام) لمسؤولياته الكبرى في ولايته الاسلامية ولا في حدود زمان أو مكان معين ، وانما في كل زمان ومكان.
الطائفة الاولى :
وهي النصوص ما جمع فيه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا الجانب من علم علي (عليه السلام) إلى جوانبه الاخرى ، والنصوص التي وحّد فيها علوم علي ( عليه السلام) مع علومه وعلوم جميع الانبياء وبين ان مصدرها جميعا هو الله تعالى العليم الخبير...
ونحن قد قرأنا من هذه الطائفة ما قاله الرسول ( صلى الله عليه وآله و سلم) في مشهد الغدير نفسه ((فما من علم الا وقد احصاه الله في ونقلته ..))
كما قرأنا أقواله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( علي عيبه علمي )) ، ((علي وارث علمي)) ، ((علي باب علمي )).
وتتضح دلالة هذه الطائفة على المقصود أكثر حين نلتفت إلى ما سبق ان من قرأناه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم ): (( أوتيت مفاتيح كل شيء الا الخمس ..))
والى ما قآله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علي ( عليه السلام) : ( يا علي انت وصيي ووارثي وابو ولدي وزوج ابنتي .. امرك امري ، ونهيك نهيي اقسم بالله الذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية ، انك لحجة الله على خلقه ، وامينه على سره وخليفة الله على عباده ) ([46])
وما رواه انس بن مالك قال:
( بينما كنّا بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، اذ قال : يدخل عليكم من الباب رجل وهو سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين ، وقبلة العارفين، ويعسوب الدين ، ووارث علم النبيين .. إلى اخر الحديث )[47] وكان الداخل هو عليا ( عليه السلام)..
الطائفة الثانية:
وهي من النصوص ما ورد عن علي ( عليه السلام) نفسه في ابراز هذا الجانب من علمه (عليه السلام) وبيان الافاق المعجزة فيه ، ليلفت – من ثم – بصائر البشرية إلى ما له من موقع خاص في دين الله تعالى وما له من دور معدّ في قيادة الامة المسلمة بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
فهو ( عليه السلام) كان يستغل الفرص المناسبة لاثبات هذا الرصيد العلمي المعجز من نفسه ،وما يعنيه من دلالات في شخصيته وموقعه عند الله عزّ وجل ومهمته الكبرى في حياة الامة..
وطبيعي ان تدرك البشرية هذه الدلائل بوضوح ، فمن بدائة العقول الواضحة : ان مواهب الله عز وجل لا تكال جزافا ، أو محاباة ، فحكمة الله تعالى اجل من ان تتفأوت في امر أو تختلف في شأن.
وقد سبق ان قرأنا العديد من الروايات التي ترد ضمن هذه الطائفة ، ويمكننا ان نضيف اليها هنا أيضاً ما رواه الاصبغ بن نباته.. قال:
( سمعت امير المؤمنين ( عليه السلام) يقول : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علمني الف باب وكل باب يفتح الف باب فذلك الف الف باب حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ... وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب ) ([48])
كما نضيف اليها ما قآله ( عليه السلام) أيضاً:
( انا الذي عندي علم الكتاب ما كان وما يكون ) ([49])
وقوله ( عليه السلام) كذلك : ( انا الذي عندي مفاتيح الغيب لا يعلمها بعد محمد غيري ) ([50])
وقوله ( عليه السلام) : ( سلوني عن اسرار الغيوب ، فأني وارث علوم الانياء والمرسلين)([51])
ومن اقوآله ( عليه السلام) المشهورة كلمته الخالدة : ( لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا)([52])
ومنها ما ذكره في خطبته له اتفق على نقلها كثير من أئمة الحديث :
( اما بعد ، فاني فقأت عين الفتنة ، واني – وايم الله – لولا ان تتكلموا فتدعوا العمل لحدثتكم بما سبق عل لسان نبيكم – ثم قال ( عليه السلام) - : سلوني فانكم لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة الا أخبرتكم به ) ([53]) إلى غير هذه الاحاديث وهي أكثر من ان تحصى .
الطائفة الثالثة:
وهي النصوص التي اخبر فيها علي ( عليه السلام) عن حوادث لم تقع حتى زمانه، ثم صدّقه الواقع فيما اخبر به.
وهذه النصوص من الكثرة واستفضة الحديث بدرجة ملأت مصادر الحديث والسيرة والتأريخ الاسلامي.
وبهذا المعنى يقول ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عند استعراضه لمعنى قوله ( عليه السلام):
( فاسألوني قبل ان تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة الا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت موتا ..)
قال ابن أبي الحديد :
( واعلم انه ( عليه السلام) قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي بيده، انهم لا يسألونه عن امر يحدث بينهم وبين القيامة الا أخبرهم به ، وانه ما صح من طائفة من الناس يهتدي بها مائة من الناس وتضل بها مائة ، الا وهو مخبرهم – إن سألوه – برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ومن يقتل منها قتلا ، ومن يموت منها موتاً..
( وهذه الدعوى ليست منه ادعاء الربوبية ولا ادعاء النبوة ، ولكنه كان يقول : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) اخبره بذلك ، وقد امتحنا اخباره فوجدناه موافقا ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة، كاخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته([54])..
( واخباره عن قتل الحسين ابنه ( عليه السلام) ، وما قآله في كربلاء حين مر بها([55]) .
( واخباره بملك معاوية الامر من بعده ) ([56])..
( واخباره عن الحجاج وعن يوسف بن عمرو) ([57])..
( وما اخبره به امر الخوارج بالنهروان ([58]) وما قدمه إلى اصحابه بقتل من يقتل منهم وصلب من يصلب ..) ([59])
يستطرد ابن ابي الحديد بذكر نماذج كثيرة اخبره فيها امير المؤمنين ( عليه السلام) بامور غيبية صدقه فيها التأريخ .. إلى ان يقول :
( وكم له من الاخبار في الغيوب الجاريه هذا المجرى مما لو اردنا استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيرة السير تشتمل عليها مشروحة ) ([60]) . وما يقوله ابن ابي الحديد في هذه الناحية حق لا ريب فيه ، ولهذا فنكتفي بهذا المقدار .
الطائفة الرابعة :
وهي النصوص التي يشهد فيها أولئك الذين عاصروا عليا ( عليه السلام) من الناس بعد ان علموا صدقه في كل ما اخبر به من تلك المغيبات .. وهي طائفة كبيرة لا يحيط بها حصر ، ونحن نقتصر منها على نماذج قليلة كأمثلة سريعة منها :
ما رواه في كنز العمال قال: ( كان علي ( عليه السلام) يخطب فقام اليه رجل فقال : يا امير المؤمنين ؛ اخبرني عن اهل الجماعة ، ومن اهل الفرقة ، ومن اهل السنة ، ومن اهل البدعة؟..
فقال : ويحك ، اما اذا سألتني فافهم عني ، ولا عليك ان تسال عنها احدا بعدي .. وساق الحديث إلى ان قال : وتنادى الناس من كل جانب اصبت يا امير المؤمنين اصاب الله بك الرشاد والسداد.
فقام عمار فقال : يا ايها الناس ؛ انكم والله ان اتبعتموه واطعتموه لم يضل بكم عن مناهج نبيكم قيد شعرة – يعني قدر شعرة – وكيف لا يكون كذلك وقد استودعه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المنايا والوصايا وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران ، اذ قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انت مني بمنزلة هارون من موسى . فضلاً خصه الله به اكراما منه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اعطاه ما لم يعط احدا من خلقه .. الحديث ) ([61]).
وما نقله في المناقب المرتضوية قال:
( ان عليا ( عليه السلام) كان جالسا عند نخلة مع جمع من اصحابه ومنهم رشيد الهجري فقال له : انّك تصلب بعدي على خشبة هذه النخلة ، فكان رشيد بعد شهادته ( عليه السلام) يسقيها كل يوم حتى قطعوها .. فقال رشيد ، فارسل الي عبيد الله يحضرني فلما وصلت إلى داره رايت خشبة تلك النخلة على بابها . فلما راني عبيد الله قال : هات من اكاذيب ابي الحسن.
فقلت : والله ما كذب قط وقد اخبرني انك تقطع يدي ورجلي ولساني ثم تصلبني .
فقال : اني اقطع يدك ورجلك واصلبك ولا اقطع لسانك ليظهر كذبه.
فكان رشيد يروي من فضائل اهل البيت ( عليهم السلام) مصلوبا ويقول : اكتبوها قبل ان يقطعوا لساني فلما وصل ذلك عبيد الله امر بقطع لسانه) ([62]) إلى غير هذه الروايات.
ولا يقتصر هذه الشهادة على اتباعه ومريديه من الامة ، فحسب بل الكثير منها قد صدر من أولئك الذين جانبوا سبيله في الحياة ، أو حتى أولئك الذين جابهوه بالحرب وناجزوه القتال. الا ان تلك المجانبة أو هذه المجابهة لم تمنعهم من الاعتقاد الجازم والعلم القاطع بصدقه ( عليه السلام) فيما يخبر به من القضايا.
ولهذا فهو ( عليه السلام) حين اخبر اهل الكوفة بملك معاوية لها – كما سبق ان قرأناه – علم اهل الكوفة ان هذا حق ، ولابد من تحققه ، فكاتبوا معاوية سرا ، لعلهم بصيرورة الامر اليه – كما تنص الرواية التي نقلناها في هامش متقدم .
بل وكان معاوية بن ابي سفيان نفسه ممن يشهد لعلي ( عليه السلام) بهذا الجانب من العلم كما في رواية اخرى للحادثة السابقة تقول :
( ان معاوية قال لجلسائه : كيف يمكن المعرفة بأن علياً يموت قبلي ام لا؟.
فقالوا : لا ندري.
فقال : اني اعلمه .. استعلمه من علي .
فدعا ثلاثة من ثقاته وقال لهم : امضوا حتى تصيروا جميعا من الكوفة على مرحلة، ثم تواطوا على ان تنعوني بالكوفة، وليكن حديثكم واحد في ذكر العلة واليوم والوقت وموضع القبر ، ومن تولى الصلاة عليّ وغير ذلك ، حتى لا تختلفوا في شيء .. ثم ليدخل الثاني فليخبر بمثله ثم ليدخل الثالث .. وساق الحديث ، إلى ان قال : فلما اكثروا عليه قال امير المؤمنين ( عليه السلام) : كلا أو تخضب هذه من هذه ( يعني لحيته من هامته)، ويتلاعب بها ابن اكلة الاكباد.
فرجع الخبر بذلك إلى معاوية) ([63]).
ولم تقتصر هذه الشهادات على خصوص اولئك الذين عاصروا عليا من الناس وادركوا زمن حياته فقط ، بل هي وردت أيضاً من كثير من الذين تتبعوا تلك الموارد التي اخبر ( عليه السلام) بها عن تلك الحوادث وادركوا صدقه فيها . وقد قرأنا سابقا ما قاله ابن ابي الحديد في الطائف الثالثه حول هذا الجانب من علم علي ( عليه السلام) :
(( وقد امتحنا اخباره فوجدناه موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة..
ويمكن القول بان الايمان بوجود الجانب الغيبي من علم علي ( عليه السلام) وتصديقه بما اخبر به من المغيبات هو من المرتكزات العامة لدى المسلمين كافة في مختلف مشاربهم ومذاهبهم ، بل ولدى غيرهم ممن تتبع حياة علي ( عليه السلام) وكلماته ومواقفه.
ولا ريب ان هذا الارتكاز لم يكن لينشأ دون شهادة الواقع نفسه بتصديقه فيها اخبر به ..
وهنا لابد من الالتفات إلى بعض الدلالات المهمة فيما تعنيه هذه الحقيقة في علم علي ( عليه السلام) وشخصيته ، اذ من المحال انها لم تتحقق له دون رعاية الهية خاصة ، تؤهله لامر عظيم يتناسب وتفرد الاصفياء في هذه المواهبة ، لان الفيوض الربانية – وكما قلنا – لاتكال جزافا لاحد ، فحكمة الله تعالى اسمى من ان يتصور في حقها عبث.
وطبيعي ان يربط الفكر حينئذ بين هذا الامر العظيم ، واعلان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لولاية (عليه السلام) الكبرى في دين الله.. بين هذا الجانب من علم علي ( عليه السلام) وقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) فيه يوم غدير خم :
(( من كنت مولاه فعلي مولاه..))
الغيب والاسلام
هذه طوائف اربع مما عرض للجانب الغيبي من علم علي ( عليه السلام) من الاخبار .. وقد قلنا: ان ملاحظة هذا الجانب من علم علي ( عليه السلام) وغير علي من أصفياء الله ومنتجبيه ، يجب ان تكون من خلال الرؤية الاسلامية الخالصة . اذ هو يرد ضمن رعايات الله سبحانه وعناياته الخاصة ، لكي يحقق منتجبوه جميع ما يقتضيه فيهم انتجابه إياهم ، واصطفاؤه لهم هداه للبشرية ، وبصائر لدينه القويم .. لان الاسلام ذاته هو احد الصلات الرابطة بين الغيب والشهادة كما قلت .
ولفهم أوضح لهذه النقطة يمكننا العودة إلى نقاط اساسية وردت في احاديث سابقة..
اذ رأينا ان اعتماد الاسلام سمة الحق اساسا في تكوينه الذاتي ، وصبغة عامة في حقائقه كافة انما يعني استقامته المطلقة مع حكمة الله تعالى ، وتجلياتها العامة في التكوين بشكل عام ، وفي واقع الانسان بشكل خاص، وتطابقه المطلق مع ما رسمته للانسان من دور خاص بين مختلف مظاهر الوجود.
وواضح ان تلك التجليات انما هي غيبية المصدر ، كما ان مواردها لا تختص بعالم الشهادة فحسب..
وخصوصا اذا قلنا بان هذا العالم هو ما يقع في حدود قابليات الانسان ومداركه الاعتياديه ..
وخصوصا اذا اقتصرنا منه على حدود ما استوعبته المعرفة الانسانية العامة في زمن الرسالات الالهية أو في زمان حياة علي ( عليه السلام) فحسب ، حيث لم تكن تملك البشرية من هذه المعرفة وراء الملاحظات البدائية الا قضايا ضيقة الافاق محدودة النتائج ، اذ لا ريب أن ما وراء تلك القضايا كان غيبا وان استطعت البشرية ادراكه فيما بعد حيث اتسعت افاق المعرفة لديها.
نعم ، فحكمة الله تعالى انما تتجلى في واقع التكوين كما هو ، وفي مسيرة كل مظهر فيه نحو غاياته التي ارادها الله تعالى له ، سواء ادراك الانسان هذه التجليات ام لا .. امكنه مثل هذا الادراك ام لم يمكنه ، وسعتها قابلياته الفكرية ام لم تسعها ، فحدود الانسان أو غير الانسان من المخلوقات ادنى من ان تحدد تلك الحكمة في مورد من الموارد واقل من ان تقتصر بها عن امر من الامور التي تشاؤها.
وحين شاء الله تعالى لدينه القويم ان يصبح بعض هذه التجليات لحكمته العليا ، واحد موادرها في عالم الانسان، فمن الطبيعي ان لا يتصور فيه قصور عن هذه الغاية أيضاً ، أو وهن عن تحقيق شيء من مستلزماتها في أي حقيقة من حقائقه ، اذ تعالى الله منزله العظيم عن القصور أو التفأوت أو العجز.
فالغيب – من خلال هذه الملاحظة – لا يقف مع دين الله ، ولا مع اصفيائه عند حوادث معينة ذكرها هذا المصطفى ، أو ذلك المرتضى – حيث اقتبسنا بعض ما اثر عن امير المؤمنين ( عليه السلام) منها – كما لا يقتصر دور العلم به على خصوص الفات الانظار إلى ما يحمله الشخص المنتجب من سمات رفيعة ومميزات معجزة ، تثبت اتصآله المباشر بالمدد الالهي الاعظم من الحكمة والكمال دون غيره من الناس .. بل الغيب – قبل هذا هو الركن الاول الذي يعتمده وجود دين الله نفسه ، والاساس الذي يتخذه اساسا في قيام كل بعد من ابعاده وفي كل حقيقة من حقائقه ، وكل مظهر من مظاهره ، وكل حكم من احكامه ، وكل غاية من غاياته .. ويستحيل عليه ان يتجرد في أي منها عن مفهوم الغيب ، ما دام هذا الدين يعني انه التعبير عن ارادة الله سبحانه وكونه عنوانا لكلمته العليا ، ومجلى لحكمته في واقع الانسان.
.. وهي مسالة واضحة كل الوضوح ، ولا سيما بعد ان علمنا ما تعنيه استقامة الانسان مع مقتضيات حكمة الله تعالى من ضرورة في وجوده وحياته وتحقيقه لدوره المطلوب في هذه الدنيا.
وبعد ان علمنا أيضاً المدارك الانسانية في المعرفة ، وقصورها عن ان تنال حقيقة تلك الحكمة ، أو تحيط بجميع تجلّياتها في التكوين، ومقتضياتها في وجود الانسان ، وحياته حيث لم تتجاوز هذه المدارك حدود الظواهر القريبة من الحياة الدنيا.
مما يعني – وبكل بساطة – ان تلك الحكمة وسواء في واقعها ، ام في تجلياتها في المخلوقات أو حتى في مقتضياتها في سلوك الانسان الاختياري لا تعدو عالم الغيب بالنسبة للانسان، ولئن استطاع ان يدرك بعض مظاهرها القريبة من ملاحظته الا انه اعجز من ان يبلغ درجه الاحاطة بها ليستطيع التعامل معها من خلال هذا المنطق الواقعي لها ، مالم يرفده مدد ربّاني خاص.
ومن هنا كان عجز الانسان عن ان يشرع لنفسه منهج الحق والكمال..
ومن هنا كانت الحاجة في تشريع هذا المنهج إلى الله تعالى وحده دون سواه..
ومن هنا كانت الرعايه الالهية لهذا المنهج شرطا اساسيا فيه ككل ، وفي كل شأن من شؤونه، وفي كل افق من افاقه .. وفي كل شخصية من شخصياته المصطفاة، اذ كما تصدق تلك الحاجة على الاسلام بمجموعه تصدق على كل واحد من شؤونه وحقائقه هذه ، فقد علمنا انه كيان حيوي ، موحد الحقائق متكامل الخطوط ، تستحيل معه التجزئة والتفكيك.
ومن هنا لزم ان تكون سمة العلم في منتجبيه ( عليهم السلام) بعض المظاهر الاساسية لتلك الرعاية الشاملة حيث يقصر الانسان عن نيل تلك الافاق العليا دون فيوض ربانية خاصة..
ومن هنا كذلك لزم ان يستوعب علم الاصفياء ( عليهم السلام) جميع ما يستوجبه وفاؤهم الاكمل بمسؤولياتهم التي حددها الاصفياء الالهي لكل منهم ، ضمن موقعه الخاص من دين الله تعالى وفي دوره المعدّ له في قيام كلمته ، وبلاغ حجته في البشرية لما يستوجبه مفهوم الحق من شمولية في الرؤية ، تمتد إلى ما وراء حدود الانسان.
ولهذا فما لم ينهل أولئك المنتجبون من معين الغيب في علومهم لا يمكن لأي منهم القيام حتى بأبسط مسؤولياته في اقامة كلمة الله تعالى أو التعبير عن حجته ، ودفع مشعل هداه في كل قول يصدر منه أو فعل يقوم به .. لأن حكمة الله تعالى التي تعتمدها هذه الكلمة وتجلياتها التي يستند اليها هذا الهدى ذاتها هي من الغيوب ، وما لم ترفدهم رعاية الله تعالى بما يحتاجون اليه منها ، لم تتصل كلمتهم وعملهم بمبدئهما الالهي الاول وهذا محال ـ كما علمنا ـ فهو خلاف مقتضى اصطفائهم .
فرق ما بين المنتجب وغيره في إقامة الحق
وهذه الملاحظة ترشدنا إلى طبيعة الفرق في مسؤوليتي الفرد العادي من الناس والمنتجب الالهي لإقامة دينه القويم فحين يتطلب الحق في مسؤولية الانسان العادي غير المنتجب ـ الانطلاق من أوليات الفكرالتي فطر عليها عقله . ومن دلالات عالم الشهادة وحاجته في الوجود ، والبقاء ، إلى التدبر الغيبي لتنتهي هذه المسؤولية إلى الايمان بعالم الغيب نفسه ، والتسليم المطلق لأمره والانقياد لهداه لتستقيم حياة الانسان كما تريد لها حكمة الله تعالى أن تستقيم .. فان هذا الحق في مسؤولية حملة الاصطفاء الالهي إنما هو انتهال هذا الهدى من معين الغيب نفسه ، واعتماد دلائل حكمته في الوجود ، لبلورتها في عالم الانسان ، كلمة ربّانية عليا ، وحجة يقيمونها لله عز وجل على العباد، وببنات تسترشدها البصائر ، وأنواراً تستضي بها الالباب..
إذن فهما مسؤوليتان مختلفتا المبادي، متعاكسات الاتجاه في الوفاء الفعلي لهما، وان التقتا عند نقطة واحدة هي قيام الحق، وهي غناء التطلع الانساني للاستقامة معه ، والتسليم لأمره والانقياد الكامل لكلمته..
بمعنى إن مسؤولية الفرد غير المنتجب إنما تستوفي في إتباعه لدلائل العقل السليم ، ومنهجه ما بلغه الفكر من المعرفة بالواقع ، حيث دلته فطرته المستقيمة ، وما جبلت عليه هذه الفطرة من بدائه أولية ، أو ما استطاع إن يناله عقله من خبرة وفهم للأمور ، ليعلم – من ثم – ان هناك مبدأ أولا لما يشهده من الموجودات ، وان هناك قوة أزلية قادرة قاهرة لها مطلق الكمال والجلال، هي المتفردة في خلق المكونات كافة، والقيمة على تدبرها .. وليدرك أن هذا الكون ما كان ليتم له أمر لو لم تفض عليه هذه القوة المدبّرة من رحمتها وعنايتها مما يستقيم به أمره .. وما كان – بالمقابل – لينشأ له وجود أو ليستقيم له أمر ، لو لا خضوع كل شيء فيه لما رسمته له تلك القدرة بحكمتها – من سبل وسنن مضى عليها ذلك التدبير ، إذ لا يستطيع شيء ما أن يوجد أو ينال كماله الذاتي مع الخروج عن تلك السبل أو الانحراف عن تلك السنن..
ثم ليعلم الانسان بعدئذ انه لا يستطيع بلوغ ما أعده الله بحكمته له من الكمال والرفعة في حياته هذه ، وفي مجال سلوكه الاختياري دون انتظامه مع السنن التكوينية العامة إذ لا يستطيع التفرد في الوجود. وان حكمة الله التي آتت كل شيء هداه لابد أن تضع للإنسان نظام التكامل إذ من المحال أن تقتصر هذه الحكمة أو تتفاوت في شيء من الاشياء ، لتترك الانسان – من ثم – هملاً دون منهج يأخذ بيده إلى الغاية التي أعدتها له كأي مظهر آخر في هذا الملكوت.
وطبيعي أن ترشد كل هذه المقدمات إلى وجوب التسليم والاذعان لدلائل تلك الحكمة وبيّناتها في كلّ موقف يصدر منه، وفي كلّ حالة اختيارية يكون عليها.
أما ماذا وراء هذه المرحلة؟
إن على الانسان أن يقف ، وان ينتظر المدد والفيض والهدى مما وراء الحدود التي يملكها ، لان أي خطوة من الانسان وراء ذلك الحكم العقلي الواضح دون التسليم والاذعان – تعني الدخول في متاهات عمياء، لا يجد فيها هدى ، أو الارتكاس في مهاوي سحيقة من الضلال ليس لها قرار.
وهنا يبرز دور الاسلام دين الله القويم ومسؤولية منتجبيه ، وحاملي مشعل أنواره ، ومبلغي كلمته.
فدين الله هو القبس الهادي من عالم الغيب ، وقد تجلى مفاهيم وأحكاماً ومناهج وروحاً تأخذ بيد الانسان ـ بما يتناسب وقابليته الفكرية والعلمية والسلوكية إلى تلك الغاية الرفيعة التي أعدتها له حكمة التكوين .
ومنتجبوه هم الذين اصطفتهم هذه الحكمة نفسها لتجسيد هذا القبس شاهداً قائماً في حياة الانسان وإبلاغ حجة الله إلى العباد بكل ما يصدر عنهم من قول أو فعل ..
ولا ريب أن تحقق كل هذه المعاني في دين الله تعالى ، أو في منتجبيه ( عليهم السلام ) ، مستحيل ـ كلّ الاستحالة ـ دون مدد ربّاني من علم الغيب ، يخصهم الله تعالى به ، ليؤهل كلاً منهم إلى الاحاطة بمهماته في الحياة وإدراك دوره الخاص في تجليات حكمة الله سبحانه وما تفرضه عليه في إقامة دينه ، دون خلل أو نشوز عن الاستقامة .. تماماً كما استحال أن تتحقق منهم هذه المعاني دون إمدادهم بمعين يتناسب وهذه المهمات من العلوم الاخرى وإحاطتهم بمختلف شؤون الحياة ، ومجريات التكوين في عالم الشهادة .
ولما علمنا استحالة التفاوت بين مقتضيات الاصطفاء الالهي وتحققها في الوجود الفعلي ، فمن الطبيعي أن لا نتصور أي قصور في علوم أولئك الاصفياء من أي جهة قد تعيقهم عن أداء مهماتهم كافة ، سواء منها ما كان في جانب الغيب أم في جانب الشهادة ، وهي قضية واضحة لنا كل الوضوح ، ولا سيما بعد المقدمات السابقة .
وهذه القضية ترشدنا ـ في الوقت نفسه ـ إلى ضرورة العموم في المدد الرباني الذي يرفد الاصفياء ( علهم السلام ) من علوم الغيب والشهادة معاً في أي كلمة ينطقون بها وأي عمل يأتون به، وأي حالة يختارونها ، دون أي فرق بين بعضها والبعض الاخر ، وان لم يبعد منها ذلك الاتصال المباشر مع الغيب .
فهي جميعها ـ وكما يعنيه الاسلام واصطفاء الله تعالى إياهم لإقامة أمره وإبلاغ حجته ـ من هدى الله وبينات إلى العباد ، ودلائل حكمته في واقع الانسان .. فيجب أن لا تتفأوت فيهم كلمة ، ولا يهن منهم عمل ، ولا يختلف لهم قول .
فالاسلام ـ كما علمنا ـ كيان واحد ، متكامل الحقائق والاحكام والحجة ، وان الحيوية هي الصبغة العامة في العلاقة التي تحكم بين كل جزء وآخر فيه ، ومن هنا استحال تحقق الكمال فيه كله مع قصور بعض أجزائه عن سمة الحق ، أو انحرافه عن الغاية الالهية فيه .
بمعنى أن القصور أو الانحراف في بعض الاجزاء لا يقف في حدود معينة فحسب ، وإنما هو يشمل في آثاره السلبية جميع كيان الاسلام بجميع حقائقه وأجزائه .
فموقع أي كلمة تصدر من الوصي الاخير المرتضى لإقامة الرسالة هو في كيانها وتمام حجتها كموقع كلمة القرآن أو الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه فيها ، وكموقع سائر الاوصياء المنتجبين أيضاً .
وأثر حكم فرعي من أحكام الشريعة في تنظيم الحياة يرد على موضوع معين فيها هو نفس الاثرالذي جعل لأصل من أصول العقيدة في موضوعه أيضاً كما أن له نفس الضرورات التي تكفل استقامته مع الحق ودلائل حكمة الله تعالى فيه .
وحينئذ فأي قصور يتصور في كلمة تصدر من أي مرتضى لإقامة الرسالة وأي بعد عن الحق يرد في حكم شرعي لا يقف في آثاره السلبية عند حدود تلك الكلمة أو هذا الحكم ، بل ستنعكس هذه الاثار على كيان الرسالة كلّه ، بما فيه أصفياؤها المنتجبون ، بل وعلى نفس اصطفاء الله تعالى إياهم .. وكل هذه الاحتمالات مستحيلة التصور ـ كما علمنا ـ إذ تعالى الله سبحانه عن العجز أو العبث .
أمّا تمييز مابين حقائق الرسالة أو أحكامها أو منتجبيها ببعض الامور التي تجعل للبعض من الاهمية والفضل ما يفوق به غيره فهذا التفضيل إنما يرد بعد التحفظ على تلك الحقيقة المبدئية الاولى . وهو أمر آخر غير ما نحن فيه .
القرآن وعلوم الاصفياء بالغيب
هذا ما يعنيه المنطلق الاسلامي لملاحظة الجانب الغيبي من علوم أصفياء الله تعالى ومنتجبيه وهذا ما ينتهي إليه الفكر من نتائج قريبة المنال لا تكلف فيها ولا تمحل ، وهو يتابع دلائل الحق في سلسلته الموحدة المترابطة الحلقات .
نعم ، وهذا هو ما يمليه القرآن نفسه في هدى الانسان إلى ملاحظة هذا الجانب وبيان خصائص أولئك المنتجبين ، وما تعنيه رعايات الله تعالى فيهم ، وقد سبق أن قرأنا قوله تعالى:
] عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . الا من ارتضى من رسول ، فانّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً[([64]).
وهي ايات واضحة الدلالة على المقصود ، ولهذا فلا حاجة للاطالة ببيان ما تعنيه في هذا المجال ، وان كانت الجزيئيات التي عرضت لها هي من الاهمية بمكان. فهي مثلا تشير – فيما تشير اليه – إلى ( ان الذي استثنى في الاية من الاظهار على الغيب : اظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقيق ابلاغ رسالته ، اعم من ان يكون متن الرسالة، كالمعارف الاعتقادية وشرائع الدين، والقصص والعبر والحكم والمواعظ، أو يكون من ايات الرسالة والمعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الاخبار بالمغيبات ، كقول صالح ( عليه السلام) لقومه:
] تمتعوا في داركم ثلاثة ايام ذلك وعد غير مكذوب[([65]) .
وقول عيسى ( عليه السلام) لبني اسرائيل:
] وانبئكم بما تاكلون وما تدّخرون في بيوتكم ، ان في ذلك لاية لكم .. [([66]).
( وكذلكما ورد من مواعد الرسل وما ورد في الكتاب من الملاحم ، كل ذلك من اظهارهم على الغيب )([67]) .
ولا ريب ان شوهد التصديق هذه للرسل من الايات والمعجزات هي من متطلبات اصطفائهم فهي كذلك مما لا بد افاضته عليهم .
نعم هنا ملاحظة مهمة يجب الالتفات اليها في الاستشهاد بهذه الايات الكريمة السابقة من سورة الجن. هي ان هذه الايات قد خصت المرسلين من اصفياء الله باظهارهم على الغيب دون غيرهم حتى من الانبياء والاوصياء على الرسالات، ولا ريب انه تخصيص يستدعيه الموقع المتقدم لأولئك الرسل في حمل كلمة الله تعالى وابلاغ هداه إلى الناس.
فمعروف ان للرسل مواقع الصدارة في تحمل مسؤولية تلك الكلمة والهدى، فمن الطبيعي ان يكون لهم القسط الاكبر في هذا الاظهار، ولهم دور المباشرة في افاضة الله تعالى عليهم بعلم ما تحتاجه مهماتهم من الغيوب كما كانت لهم الادوارالاولى في الرعايات الالهية كافة، وبعدهم يأتي دور الانبياء لم يكلفوا بابلاغ نبوءاتهم إلى غيرهم من الناس.. امّا الاوصياء – وهم ورثة الرسل والانبياء – في اقامة الحق وحمل مشعل هداه – فمن الطبيعي ان يكون علمهم بالغيب وراثة عنهم أيضاً ، كما يرثون غير هذا الجانب من العلم ، ومن مستلزمات الوفاء بتلك المسؤولية الكبرى.
وقد سبق ان قرأنا ما قاله الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم) في علم علي ( عليه السلام) : من انه ( عليه السلام) وارث علمه ( صلى الله عليه واله وسلم) ، وانّه ما من علم الا وقد احصاه الله فيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو الذي نقله إلى علي ( عليه السلام) ، وان عليا وارث علم النبيين.
كما سبق ان قرانا ما قاله علي ( عليه السلام) في علم نفسه: ( علمني رسول الله ( صلى الله عليه السلام) الف باب وكل باب يفتح الف باب ) وانه ( عليه السلام) وارث علم الانبياء والمرسلين.
وهناك كثير من الروايات التي توضح هذه الناحية أيضاً منها ما أورده السيد الرضي (قدس سره) في نهج البلاغة عن امير المؤمنين ( عليه السلام) بعد كلام له يذكر فيه بعض الملاحم :
( فقال له بعض اصحابه: لقد اعطيت – يا امير المؤمنين – علم الغيب:
فضحك ( عليه السلام) وقال للرجل – وكان كلبيا - : يا اخا كلب !، ليس هو بعلم غيب ، وانما تعلّم من ذي علم ، وانمّا علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله : { ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان الله عليم خبير }[68].
فيعلم الله سبحانهه ما في الارحام من ذكر أو انثى ، وقببيح أو جميل . سخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان مع النبيين مرافقا،فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه احد الا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه ، ودعا لي بان يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي) [69].
وطبيعي ان تمتد سلسلة التوارث هذه مع سلسلة الاصطفاء الالهي للوصاية على الحق ، اذ لابد ان يحمل كلّ منتجب ما يؤهله للوفاء بمسؤولياته الكبرى في قيام الحق ، واستقامة كيانه في الحياة ومن هذه المؤهلات – طبعا – ما تحتاجه مهماتهم تلك من العلم ببعض الغيوب ..
وبهذا المعنى يقول الامام الرضا ( عليه السلام) من حديث:
( أو ليس انه تعالى يقول : (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا الا من ارتضى من رسول ) ؟ ، فرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي اطلعه على ما يشاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ) [70].
كما يقول الامام ابو الحسن الكاظم – من حديث أيضاً :
( ان الله تعالى يقول : { وما من غائبة في السماء والامرض الا في كتاب مبين }[71] ، ثم يقول : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }[72] ، فنحن الذين اصفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شيء)[73].
إلى احاديث اخرى كثيرة واردة في نفس المضمون.
علم الاصفياء بالغيب ليس ذاتيّاً ولا محيطاً
وهكذا يبدوا ان علم الغيب لدى المنتجبين من اصفياء الله تعالى ليس علما ذاتيا – كما هو الشأن في علم الله سبحانه ليقول قائل – من ثم – ان الاعتقاد به نوع من الغلو بهؤلاء الاصفياء ، أو من الشرك عزّ وجل ، كما يحلو للبعض ان يذهب .
كلا ابدا ، انما هو فيض ربّاني يجري معهم مجرى اللطف والرحمة بهم كحمله لمشعل الحق ، اذ يستحيل على أي منهم الوفاء بمسؤولياته الالهية دون ذلك المدد الخاص من الله تعالى .. واللطف والرحمة بالعباد الذين امروا باتباعهم والاقتداء بهم والاستهداء بما يصدرعنهم من بصائر ودلائل ، هي بصائر دين الله تعالى ودلائله.
] ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربّهم [([74]).
ويقول الامام ابو عبد الله الصادق ( عليه السلام) لعمار الساباطي حين سآله عن الامام : يعلم الغيب ؟
( لا، ولكن اذا اراد ان يعلم الشيء اعلمه الله ) ([75])
وفي رواية اخرى : ( كان المفضل عند ابي عبد الله ، فقال له المفضل : جعلت فداك ، يفرض الله طاعته على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟
قال ( عليه السلام) : لا ، الله اكرم وارحم وأرأف بعباده من ان يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحا ومساءا) ([76])
وعن ابي جعفر الباقر ( عليه السلام) انّه قال – وكان عنده ناس من اصحابه - : (عجبت من قوم يتولونا ويجعلونا ائمة ، ويصفون ان طاعتنا مفترضه عليهم كطاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم يكسرون حجتهم ويخصمون انفسهم بضعف قلوبهم ، فينقصونا حقنا ، ويعيبون ذلك على من اعطاه الله برهان حق معرفتنا ، والتسليم لامرنا .. اترون ان الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفى عنهم اخبار السمأوات والارض ، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم .. الحديث)[77] .
كما سبق ان قرانا قول الامام الصادق ( عليه السلام) لهشام بن الحكم من حديث : (( ويك ياهشام؛ لا يحتج الله - تبارك وتعالى – على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون اليه .. )) إلى احاديث اخرى .
كما يبدو من تلك الاية الشريفة وهذه الاحاديث المباركة أيضاً : ان علم أولئك الصفوة ليس علماً محيطاً ، كما هو الشان في علم الله جلا وعلا وانّما هو محدود بحدود حاجتهم في اقامة هدى الله وابلاغ امره حيث اقتضاه ارتضاء الله لهم .
] ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربّهم [([78])
(( اذا اراد ان يعلم اعلمه الله ))
(( اترون ان الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفي عنهم اخبار السمأوات والارض ويقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم )).
من النتائج القريبة لهذا المنطلق في فهم علم الاصفياء
من هذا المنطلق الاسلامي الذي ترشد اليه مصادر الاسلام ـ كما يرشد اليه العقل في بداهته ـ يجب أن يلحظ علم الغيب لدى أصفياء الله ومنتجبيه ـ بمن فيهم علي بن ابي طالب (عليه السلام)ـ فبهذا المنطلق تتكامل جميع زوايا الملاحظة ، وتتضح الرؤية السليمة لهذا العلم دون أدنى ثغرة يمكن أن توردها الاتجاهات الاخرى التي لا تملك مثل هذا التكامل والوضوح .
كما أن لهذا المنطلق نتائجه المهمة في فهم الانسان لدلائل المواقف والكلمات التي تصدر من أولئك الصفوة في مختلف الحالات والمناسبات .
فما أكثر المواقف والكلمات التي خلدها التاريخ عنهم مما لا يستطاع تفسيره الا من خلال هذا المنطلق المتكامل الرؤية والنتائج ، حيث تتداخل علوم الغيب والشهادة جميعها في أصولها وبلورتها ، وأيضاًح غاياتهم الاسلامية الرفيعة منها .
ولهذا المنطلق نتائجه البارزة في فهم الواقع الفعلي المشهود لحجة الله تعالى وقيامها على العباد وسمو كلمتها في الحياة الانسانية في جميع ما صح عن أولئك الاصفياء ( عليهم السلام ) من أقوالهم وأفعالهم وما اختاروه لانفسهم من صفات وأحوال . بل وخلود وضوح هذه الحجة الالهية وقربها من الوعي البشري ، بالرغم من مرور هذه الحقب الطويلة من الزمن ، واختلاف الظروف ، والفوارق الاجتماعية والنفسية والحضارية التي تفصل بين عهودهم ( عليهم السلام ) والعهود المتأخرة ولا سيما في هذه العصور التي نعيش فيها نحن .
إذ لو لا هذا التكافؤ الدقيق بين ما تقتضيه مسؤولياتهم الكبرى في خاتمة الرسالات ـ التي لم يحدد لخلودها زمان دون نهاية البشرية في هذه الارض ، ولم يخصص عمومها بمكان أو طائفة من الناس والمدد الرباني من العلم ـ بما فيه العلم بالغيوب التي يحتاجونها في الوفاء بمسؤولياتهم تلك ـ لما أمكنهم أن يجعلوا في كلماتهم وافعالهم ذلك الاشعاع الرباني المشرق الذي بقي حتى الان ، بل ويبقى حتى الابد هو النبراس الخالد لدين الله تعالى امام بصائر العباد ، وينبوع حجته على الناس جميعاً .
ولهذا فلم يستطع الزمان ولا تمادي القرون ولا تطور المجتمعات ، أو تفاوت الحضارات وتقدم جوانب المعرفة .. لم تستطع كل هذه أن تثبت وهناً في كلمة صدرت عن صفي من أصفياء الله تعالى ، أو أنحرافاً عن الحق في موقف ، أو اختلافاً عنه في علاج .
وبهذه الملاحظة ندرك انه ما كان لمفهوم الشمولية في دين الله أن يتحقق ـ في مداه الاسلامي المطلوب ، وفي اتجاهاته ندرك انه ما كان لمفهوم الشمولية في دين الله ان يتحقق – في مداه الاسلامي المطلوب ، وفي اتجاهاته الزمانية والانسانية كافّة – لو لم يكن – لدى اصفيائه من ارصدة العلم بالغيب مما يحتاجونه في قيامهم على شؤون هذا الدين، والاحاطة بما تتطلبه من تجليات الحكمة الربّنية، ودلائلها في المخلوقات كافّة – بما فيها الانسان وشؤون حياته الاختيارية ، فقد قلنا : انّ هذه التجليات غيبية المصدر والنتائج ، وان برزت بعض مواردها امام الادراك الانساني ، فاستطاع التعرف عليها في بعض ظواهر الوجود.
كما ندرك انه ما كان لهذه الشمولية ان تتحقق ، لو لم يحط هؤلاء الاصفياء بالافاق والمستويات والاتجاهات الفكرية والعلمية والحضارية التي ستنالها البشرية أو ستهيمن على حياتها حتى الابد حيث رسم الاصطفاء مهماتهم وحدد مسؤولياتهم في هذه الارض، وواضح انها افاق ومستويات واتجاهات كانت في عصورهم ضمن مجال الغيب .
فبوجود هذا الجانب المهم من العلم بقيت كلمات المصطفين ومواقفهم وتاريخهم ، وستبقى ابد الدهر هي الروح التي تمد الانسان بالحياة، وهي المنار الذي يملأ وعيه بالهدى والرشاد، مهما بلغ في درجات السمو الحضاري والعلمي..
.. وكانت وستبقى كذلك هي الشفاء الالهي الذي لم تجد ولن تجد الالباب والقلوب عنه بديلاً وان بعدت بها سبل الحياة وتمادت بها الاتجاهات.
[1] - فضائل الخمسة من الصحاح السته ج 2 ص 233 عن عدة مصادر .
[2] - ن . م ، ص 252 عن كنز العمال ج 6 ص 156.
[3] - ن . م . 250.
[4] - ن . م . 248.
[5] - ن. م . ص 244 عن كنز العمال : ج 6 ص 156.
[6] - ن . م : ص 249 عن حلية الاولياء : ج 1 ص 64 ومصادر اخرى .
[7] - ن . م :ص 129 عن الرياض النضرة ج 2 ص 218 .
[8] - ن . م : ص 231 عن تفسير الرازي في ذيل تفسيره لقوله تعالى : ( ان الله اصطفى ادم ونوحا ..) .
[9] - ن . م : ص 232 عن كنز العمال : ج 6 ص 405 .
[10] - ن . م : ص 233 عن تفسير الرازي في ذيل تفسيره لقوله تعالى : ( وامّا بنعمة ربك فحدث ) .
[11] - ن . م : ص 233 عن تاريخ بغداد : ج 6 ص 379.
[12] - احقاق الحق : ج 8 ص 240 عن كتاب ( در بحر مناقب )
[13] - يراجع في مصادر هذا الكلمات واشباهها كتاب ( فضائل الخمسه من الصحاح الستة ) ج 2 ص 273 وما بعدها كما يراجع الجزء الثامن من كتاب ( احقاق الحق وازهاق الباطل ).
[14] - الغدير ج 8 ص 219 عن العاصمي في ( زين الفتى في شرح سورة هل أتى )
[15] - فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 2 ص 305. عن الاستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 463.
[16] - احقاق الحق ج 7 ص 360 عن فرائد السمطين . وقريب منه عن مناقب الخوارزمي ص 272 ط . تبريز.
[17] ـالإنسان ذلك المجهول ـ الكسيس كاريل : ص 17 .
[18] - اصول الكافي – محمد بن يعقوب الكليني ج 1 ص
[19] - المصدر السابق.
[20] - التوبة : 40.
[21] - الانعام : 115.
[22] - الانعام : 95 – 104 .
[23] - الجاثية : 2 – 6 .
[24] - الجن : 26 – 28.
[25] - البقرة : 31.
[26] - الاعراف: 61 – 62 .
[27] - القصص : 14.
[28] - النساء : 113.
[29] - لقمان : 34.
[30] - مجمع الزوائد – للهيثمي : ج 8 ص 463.
[31] - الاعراف : 158.
[32] - سبأ: 28.
[33] - الاحزاب : 40.
[34] - الحجر :9.
[35] - صحيح مسلم : كتاب المساجد ج 7.
[36] - مسند الامام أحمد بن حنبل : ج 1 ص 98.
[37] - مسند الامام احمد بن حنبل : ج 1 ص 98.
[38] - يراجع كتاب ( فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 1 ص 299 وما بعدها لمعرفة مصادر حديث المنزلة.
[39] - فضائل الخمسه من الصحاح الستة : ج 2 ص 6 من كتاب ( تاريخ بغداد ) ج 4 ص 339 وغيره.
[40] - المصدر السابق : ج 2 ص 6 عن كتاب ( كنوز الحقائق ) ص 43.
[41] - ن. م ، عن (تاريخ بغداد ) ج 2 ص 81.
[42] - ن. م . عن الرياض النظرة للمحب الطبري : ج 2 ص 193.
[43] - البقرة : 121.
[44] - البقرة : 176.
[45] - الرعد:32.
[46] - احقاق الحق ، ح 4 ، ص 82 عن كتاب ( ينابيع المودة ) ص 53 ط استانبول.
[47] - ن . م ، ص 122 عن كتاب ( در بحر مناقب).
[48] - ن ، م . ج 7 ص 597 عن ينابيع المودة ص 77.
[49] - ن . م . ج 7، ص 608 عن كتاب ( المناقب المرتضوية ) ص 133 ط . بمبي
[50] - احقاق الحق ، ج 7.
[51] - اقاق الحق ، ج 7 ص 63 عن ينابيع المودة ص 418 ط . استانبول.
[52] - ممن نقل هذا الحديث الخطيب الخوارزمي في مناقبه ص 260 ، وابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة في عدة مواضع.
[53] - نهج البلاغة والشرف المؤبد للشيخ يوسف النبهاني ص 113 ط القاهرة.
[54] - يشير إلى ما تواتر نقله عن علي (ع) كما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ، ج 9 ص 138 عم ابي الطفيل قال : ( دعاء علي عليه السلام إلى البيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكما قد رآه قبل ذلك مرتين ثم قال : ما يحبس اشقاها والذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذه – يعني لحيته من رأسه – ثم تمثل بهذين البيتين:
اشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيكا ولا تجزع من الموت فان الموت لافيكا
واكد عليه السلام هذا المعنى في مواقف اخرى كثيرة احصي منها ( احقاق الحق) ج 8 ص 109 – 141 اربعة عشر موردا من غير مصادر الشيعة ، اضافة إلى موارد اخرى اخبر فيها عن ان ابن ملجم هو قائله ، وموارد ذكر فيها بعض ما يصاحب مقتله من امور.
[55] - يشير ابن الحديد بهذا إلى ما رواه المؤرخون مستفيضا عنه ( عليه السلام) في اخباره هذا ، كما نقله نصر بن مزاحم ، في كتاب (صفين ) ص 158 – تحقيق عبد السلام محمد هارون بسنده عن ابي جحيفة قال:
جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله وانا اسمع ، فقال : حدثتنيه عن علي بن ابي طالب . قال : نعم ، بعثني مخنف بن سليم إلى علي فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده ويقول : ها هنا .. ها هنا فقال له رجل : وما ذلك يا امير المؤمنين ؟ فقال : ثقل لال محمد ينزل ها هنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم ، فقال له رجل ما معنى هذا الكلام يا امير المؤمنين ؟ قال : ويل لهم منكم تقتلونهم وويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم إلى النار ).
ونقل في كتاب صفين ايضا عن هرثمة بن سليم قال :
( غزونا مع علي بن ابي طالب ( عليه السلام) غزوة صفين ، فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاة ، فلما سلّم رفع اليه من تربتها فشمها ثم قال : واها لك ايتها التربة ، ليحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب..
فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته وهي ( جرداء بنت نمير ) وكانت شيعة لعلي فقال لها هرثمة : الا احجبك من صديقك ابي الحسن .. لما نزلنا كربلاء رفع من تربتها فشمها وقال: واه لك يا تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب وما علمه بالغيب ؟
فقالت : دعنا منك ايها الرجل فان امير المؤمنين لم يقل الا حقا.
فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن علي ( عليه السلام) واصحابه .. قال: كنت فيهم في الخيل التي بعثت اليهم . فلما انتهيت إلى القوم وحسين واصاحبه ، عرفت المنزل الذي نزله فيه والبقعة التي رفع اليه من تربتها ، والقول الذي قاله، فكرهت مسيري ، فاقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين ، فسلمت عليه ، وحدثته بالذي سمعته من ابيه في هذا المنزل.
فقال الحسين ( ع ) : معنا انت ام علينا؟
فقلت : يا ابن رسول الله لا معك ولا عليك . تركت اهلي وولدي اخاف عليهم من ابن زياد.
فقال الحسين ( ع) : فول هربا حتى لا ترى لنا مقتلا فو الذي نفس محمد بيده ، لا يرى مقتلنا رجل ولا يعيننا الا ادخله النار.
فاقبلت في الارض هاربا حتى خفي علي مقتله ) .. إلى احاديث اخرى مشابهة...
[56] - يشير بهذا إلى ما رواه عدة من المؤرخين منهم ابن اثير في نهاية ، ج 2 ص 15 قال :
( وفي حديث علي ، سيظهر بعدي عليكم رجل مندحق البطن ) – أي واسعها كأن جوانبها قد بعد بعضها عن بعض فاتسعت-
ومنهم السكندري في كتاب ( مفتاح الفلاح ومصباح الارواح ) ، كما نقل عنه في ( احقاق الحق ) ص 163 ج 8 :
( ذكر الاخباريون انه ارجف بالكوفة ان معاوية قد مات ، فقال علي ( رضي الله عنه) اذ بلغه : والله ما مات ولن يموت حتى يملك تحت قدمي هاتين، وانما اراد ابن هند ان يشيع ذلك حتى يستتر علمي فيه).
.. إلى روايات اخرى ، ويرجع للاستزداد كتاب ( احقاق الحق ) ، ج 8 ص 162 – 167 حيث يذكر عدة احاديث في هذا المضمون مع مصادرها.
[57] - روى ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة ، ج 2 ص 289 ط الاولى تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم عن اسماعيل بن رجاء قال: ( قام اعشى باهله – وهو غلام يومئذ حديث – إلى علي ( عليه السلام) وهو يخطب ويذكر الملاحم . فقال : يا امير المؤمنين ما اشبه هذا الحديث بحديث خرافة !! فقال علي ( عليه السلام) ان كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت . فقام رجال فقالوا . ومن غلام ثقيف يا امير المؤمنين ؟
قال : غلام يملك بلدتكم هذه ، لا يترك حرمة لا انتهكها بضرب عنق هذا الغلام بسيفه .
فقالوا : كم يملك يا امير المؤمنين ؟ .. قال ( عليه السلام) : عشرين .. ان بلغها.
قالوا فييقتل قتلا ام يموت موتا قال : بل يموت حتف انفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه .
قال اسماعيل بن رجاء : فوالله لقد رايت بعيني اعشى باهله ، وقد احضر جملة الاسراء الذين اسروا من جيش عبد الرحمن بن الاشعث بين يدي الحجاج ، فقرّعه ووبّخه ، واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب . ثم ضرب عنقه في ذلك المجلس). ويراجع كتاب ( احقاق الحق ) ج 8 ص 162- 167 للتعرف على العديد من الروايات الواردة في هذا المضمون مع مصادرها .
[58] - روى ابن ابي الحديد في شرحه لنهج البلاغة ج 2 ، ص 277 بسنده عن يزيد بن رويم قال : قال علي ( عليه السلام) : تقتل اليوم اربعة الاف من الخوارج احدهم ذو الثديه ، فلما طحن القوم ورام استخراج ذا الثدية فاتبعه ، امرني ان اقطع له اربعة الاف قصبة وركبت بغلة رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وقال: اطرح على كل قتيل منهم قصبة ، فلم ازل كذلك وانا بين يديه ، وهو راكب خلفي ، والناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحد ة، فتظرت اليه واذا وجهه اربد ، واذا هو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، فاذا خرير ماء عند موضع دابته . فقال : فتش هذا ففتشته ، فاذا قتيل قد صار في الماء ، واذا رجله في يدي ، فجذبتها ، وقلت هذا رجل انسان فنزل عن البفلة مسرعا ، فجذب الرجل الاخرى ، وجررناه حتى صار على التراب ، فاذا هو المخدج . فكبر علي ( عليه السلام) باعلى صوته ، ثم سجد لله فكبر الناس كلهم .
كما روى ابن ابي الحديد ايضا : ج 1 ، ص 273 من حديث:
( وما الف منهم - الخوارج إلى جهة ابي ايوب الانصاري وكان على ميمنة علي ( عليه السلام) ، فقال علي ( عليه السلام) لاصحابه: احملو عليهم ، فوالله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشره.
فحمل عليه فطحنهم طحناً ، قتل من اصحابه ( عليه السلام) تسعة ، وافلت من الخوارج ثمانيه).
[59] - لرؤية ما قدمه لاصحابه في قتل من يقتل منهم وصلب من يصلب منهم تراجع سيرة هؤلاء كرشيد الهجري وميثم التمار وكميل ابن زياد وعمر بن الحمق الخزاعي وجويرة بن مسهر العبدي وغيرهم ، كما يراجع شرح النهج ، ص 290 – 295.
[60] - شرح نهج البلاغة ، ج 7 ص 47 – 50.
[61] - فضائل الخمسة من الصحاح السته : ج 2 ص 235 عن كنز العمال : ج 8 ص 215.
[62] - احقاق الحق : ج 8 ص 156 عن مناقب المرتضوية ص 267 ط بمبئي.
[63] - احقاق الحق : ج 8 ص 122 عن كتاب ( ارجح المطالب) ص 678 ط لاهور ، و ( المناقب المرتضوية ( : ص 253، ط مصر .
[64] - الجن : 26 – 28.
[65] - هود: 65.
[66] - ال عمران: 49.
[67] - الميزان في تفسير القران : ج 20 ، ص 58 ط ن2 مؤسسة الاعلمي بيروت سنة 1394.
[68] - لقمان: 34.
[69] - نهج البلاغة . تحقيق الدكتور صبحي الصالح ، ص 186 . ط بيروت.
[70] - الميزان في تفسير القران : ج 20 ص 58 عن كتاب الخرائج والجرائح.
[71] - النحل : 77.
[72] - فاطر : 26.
[73] - اصول الكافي : ج 1 ، ص 226.
[74] - الجن : 28.
[75] - اصول الكافي : ج 1 ، ص 226.
[76] - المصدر السابق ، ص 261.
[77] - المصدر السابق : ص 262.
[78] - الجن : 28.