الباب السادس
الولاية في التزام المؤمن
حدود مسؤولية المؤمن
امّا ولاية علي ( عليه السلام ) في التزام المؤمن ، وهو يتمسك بعروة الحق ويتبع هداه ويستضيء بأنواره ..
.. اما الولاية في التزام المؤمن الحق ، فلا اعتقد ان غموضا قد بقي في شيء من مفهومها أو في حدودها أو في عمقها المطلوب في ذات الانسان .
فقد قرانا في احاديث مشهد الغدير نفسها ان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد وحّد بين ولايته وهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وولاية علي بن ابي طالب في المصدر والمفهوم والحدود ، والموقع الخاص لهما في دين الله ، والنتائج في اقامة صرحه .
(( ان الله مولاي ، وانا مولى المؤمنين ، وانا أولى بهم من انفسهم .. من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه ))
(( الستم تزعمون اني أولى بالمؤمنين من انفسهم ؟ .. قالوا : بلى ؛ يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ))
(( ايها الناس ؛ انا أولى بالمؤمنين من انفسهم ، ليس لهم معي امر ، وعليّ بعدي أولى بالمؤمنين من انفسهم ليس لهم معه امر ))
كما انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا المشهد نفسه قد بيّن جانباً كبيراً من حدودها ومسؤولياتها اذ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
(( فان الله قد نصبه لكم واليّاً واماماً ، وفرض طاعته على كلّ احد ، ماض حكمه ، جائز قوله ، ملعون من خالفه ، مرحوم من صدّقه ، اسمعوا واطيعوا ، فان الله مولاكم وعلي امامكم .. فلا تضلوا عنه ، ولا تستنكفوا منه ، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به . لن يتوب الله على احد انكره ، ولن يغفر له ، حتماً على الله ان يفعل ذلك )).
وتتواتر الاحاديث الواردة عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا الخط ، اذ كان (صلى الله عليه وآله وسلم ) يغتنم كل فرصة مناسبة لبيان طبيعة هذا المتولي وحدوده ومداه الاسلامي المطلوب في مسؤوليته المؤمن .. وقد سبق ان قرانا الكثير منها ، ونضيف اليها هنا ما روي عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
( من يريد ان يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربي فليتول عليّ بن ابي طالب ، فانّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة) ([1])
( من سره ان يحي حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي وليوال وليه ، وليقتد بالائمة من بعدي ، فانهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، وويل للمكذبين بفضلهم من امتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا انالهم الله شفاعتي )[2]
( من اطاعني فقد اطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن اطاع علياً فقد اطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني ) ([3])
( ستكون من بعدي فتنة ، فاذا كان ذلك فالزموا علي بن ابي طالب ، فانه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصديق الاكبر ، وهو فاروق هذه الامة يفرق بين الحق والباطل ، وهو يعسوب المؤمنين ) ([4])
إلى روايات اخرى كثيرة وردت في هذا المضمار .
ولم يتفرد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيان هذا المعنى لولاية علي ( عليه السلام) في مسؤولية المؤمن أو جعل هذه الحدود لتوليه ايّاه ، فالقران – قبل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) – قد وحّد بين ولاية الله تعالى وولاية الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وولاية علي ( عليه السلام) ، وجعل بولاية علي ( عليه السلام ) كما ولايتهما واناط بتوليه توليهما اذ قال تعالى :
] ومن يتول الله ورسوله والذين امنوافانّ حزب الله هم الغالبون [([5])
والمراد بالذين امنوا في هذه الاية الكريمة هو علي بن ابي طالب ( عليه السلام) بنص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) :
فقد اخرج السيوطي في الدر المنثور – من حديث - :
.. اذ نزلت هذه الاية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : { انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } ، ونودي بالصلاة ، صلاة الظهر وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال للسائل : اعطاك احد شيئا ؟ . قال : نعم . قال : من ؟ . قال : ذلك الرجل القائم . قال : على أي حال اعطاكه ؟ . قال : وهو راكع . قال: وذاك هو علي بن ابي طاللب .
فكبّر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يقول ] ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا فان حزب الله هم الغالبون [([6]).
والمعنى القريب لتلك الاحاديث الشريفة وهذه الاية المباركة – وكما اشرنا اكثر من مرة – وهو وحدة ما بين ولاية علي بن ابي طالب ( عليه السلام) وولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مسؤولية المؤمن كوحدة ما بينهما – جميعاً في كيان الاسلام واستقامة امره ، وان موقف المسلم تجاه علي بن ابي طالب ( عليه السلام) يجب ان يكون امتداداً لموقفه تجاه بارئه تعالى ، وتجاه رسوله ( صلى آله عليه وآله وسلم ) في التبعية والانقياد والطاعة ، وما لم يتم المسلم طاعته لله تعالى ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بطاعته لعلي ( عليه السلام) لا يمكنه ان يستكمل ايمانه .. بل ولا اسلامه أيضاً.
والواقع ان هذا المعنى للولاية والتولي وهذه الحدود الالهية لهما هي من الموضوع بدرجة لا تحتاج منا إلى مزيد من البيان أو التاكيد ، ولا سيما بعد هذه المسيرة الطويلة من الحديث ، اذ كان فصل من فصوله ، ولكل فقرة من فقراته من الدلالة ما يضفي عليها مزيد من الجلاء.
بل نحن – من خلال هذا الحديث أيضاً – قد ادركنا – وبدون ادنى مجانبة للحقيقة – ان هذا المعنى .. الاسلامي الخاص للولاية والتولي لعلي بن ابي طالب ( عليه السلام) وطاعته والانقياد لامره هي من الشيوع لدي المسلمين كافة ، ومن الوضوح بدرجه لا تخفى على احد منهم، وان وقفت دون ابرازه احن الضلال ومنعت تحقيقه في السلوك العلمي في الحياة موانع معروفة .
وها هو التأريخ يذكر ما كان يفعله الخلفاء الذين سبقوا عليا ( عليه السلام) في تسنم مراكز السلطة في الامة ومراجعتهم اياه في المهمات ، وقد سبق ان قرانا تصريح الخليفة الثاني بانه كان يعتبر قول علي ( عليه السلام) من السنة . وقوله لعبد الله بن عباس : (( .. والله ما نقطع امرا دونه ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه )) نعم ، (( نستاذنه )) فهو صاحب الحق واليه الامر في الواقع..
اذن فلا داعي للافاضة في هذه الناحية باكثر مما ذكرناه ، أو اقتباس المزيد من دلائلها فان الحديث فيها سيصبح تطويلا دون طائل .
العمق في مسؤولية المؤمن تجاه الولاية
نعم ، ان الذي ينبغي الوقوف عنده هنا ، هو موقع هذا المعنى الاسلامي لتولي علي بن ابي طالب ( عليه السلام) ، وطاعته والانقياد المطلق اليه ، وادراك ما لهذه المفاهيم من اعماق ودلالات في ذات الانسان من خلال المنهج الذي انتهجناه في هذا البحث ، لان هذا المنهج – وكما في القضايا السابقة من شؤون الولاية التي عرضنا لها خلال الحديث – يعتبر اقرب الطرق ، واسهل الوسائل لبلوغ العطاء الاسلامي في هذه المفاهيم ، التي هي عنوان العلاقة المطلوبة مع تلك الولاية و وليّها العظيم ( عليه السلام) .
وفي الوقت نفسه ، فان الحديث في هذا المنهج لا يكتمل ولا يعطي ثماره المرضية دون التعرف على دلالاته في هذه العلاقة مع ولي الله ( عليه السلام ) كواقع فعلي في الحياة الاسلامية.
وللوصول إلى النتيجة المطلوبة لا بد من استحضار عدة نقاط رئيسية سبق الحديث عنها مكرراً:
الاولى : قلنا ان الله سبحانه قد خلق الانسان كما خلقه وحيث شاءت حكمته المتعالية في تكوينه عاقلاً مختاراً مريداً ، وجعلت له موقعه الخاص في هذا الملكوت ، وهيأت لبلوغ هذا الموقع بأختياره ، ثم ألقت عليه مسؤلية السعي إلى ذلك الموقع الرفيع بين المخلوقات ..
وحينئذ فلا بد للانسان من هذا السعي والمثابرة الدائبة ، لينال ما أعدته له تلك الحكمة السامية من الغايات وما هيء له من الكمال والسعادة في حياته فما كان ليحقق لنفسه هذه النتيجة مع التواني في السعي أو الانحراف عن قويم السبيل .
الثانية : ان هذه الحكمة الالهية ـ ولرأفتها بالانسان ولطفها به ـ قد أودعت في أعماق فطرته من أرصدة الاستقامة مع أمرها ، ومع مقتضياتها فيه ، ما يمكنه من الوفاء بتلك المسؤوليات ، فبنت عليها أصول عقله وارادته ووجدانه ، لتصبح عوامل ذاتية تأخذه بيده حين يجد به السير نحوها ، وتستقيم به السبل نحوها .
الثالثة : ان هذه الحكمة الالهية ـ ولرأفتها بالانسان أيضاً ـ قد أنزلت له الاسلام ، ليكون ـ وبما يحويه ـ من حقائق فكرية وأحكام منهجيه ـ هو ذلك السبيل الرشيد الذي يصل بالانسان إلى تلك الغاية الرفيعة ، حيث تقصر به قابلياته وأمكاناته عن الاستقلال برسم مثل هذا السبيل .
وحينئذ فالاسلام هو الدين الذي يحقق للانسان ما يصبوا اليه ـفي ذاته وهو في مقومات تكوينه ـ من الاستقامة مع مقتضيات حكمة الله فيه ، بمعنى انه هو دين الحق ، وهو دين الفطرة ومنهج أرصدتها الذاتية العميقة في تطلعها إلى الكمال والسعادة الحقيقية ..
وبعبارة أخرى : ان الاسلام هو الضرورة التي تستشعرها فطرة الانسان ، وهي ترنو ببصيرتها اليه في اعماقها ، قبل أن يملي عليها كمنهج محدد ، وحقائق مقررة .
وهذه السمة ذاتية في الاسلام ، وقد بني عليها كيانه كله ، فمن الطبيعي أن تتجلى حينئذ في كل فكرة منه ، وفي كل حكم من أحكامه ، وكل حد من حدوده ، ومن ثم في كل منتجب من منتجبيه الذين ارتضاهم الله تعالى شواهد لحجته ، وقائمين على أمره ، وعنواناً لدلائله في عالم الانسان ، وتشخيص حقائقه وأحكامه في هذه الحياة .
وهذه المسؤولية العظمى المقررة على أولئك المنتجبين كانت ـ وكما علمنا ـ هي السبب في ضرورة رعايات الله تعالى الخاصة لهم ، ومن أجلها أو جدت حكمته فيهم تلك الخصائص والمميزات الاعجازية التي تميزوا بها بين الناس .
اذن .. فكما كانت هذه الاعماق الاولى للانسان هي مبدأ علاقته بالاسلام ، وبما فيه من حقائق ، وعلى أساسها يجب أن يمضي في تعامله السليم معها جميعاً ، فلابد أن تكون هذه الاعماق نفسها هي مبدأ العلاقة بالمصطفين من شخصيات الاسلام ، وعلى أساس واضح من هذه الاعماق أيضاً يجب ان ينطلق الانسان في التعامل معهم ومع كل اثر من آثارهم . فهم المثل الشاخصة للاسلام ، وآثارهم هي حقائقه المتجسدة، وحجته القائمة .
فالاصول الاولى لعلاقة الانسان مع هؤلاء الاصفياء ( عليهم السلام ) هي نفس الاصول الذاتية التي وثقت ما بين الانسان وحقائق الاسلام كافة ، كما أنها ـ في الوقت ذاته ـ نفس الاصول التي تربطه بالحق الذي بذرت حكمة الله تعالى بذرته في أعماق ذاته ، وجعلته صبغة عامة في تكوينها الاولى ، قبل أن تحيد بها صوارف الانحراف في الحياة عن مسارها الصحيح ، كما جعلته اتجاهاً عميقاً ومكيناً فيها أيضاً لتمضي عليه في توجهها الفطري نحو الكمال ، اذا لم تستجب لداعي الاهواء ومضلات الشيطان .
ومن هنا أصبح للحق دلائله الواضحة ومقاييسه القريبة من وعي الانسان ليستطيع التعرف بها بسهولة ـ اذا عاد اليها ـ وعلى ما في المواقف والاشخاص من عناصر الاستقامة معه والانحراف عنه .
اذن فهناك وحدة قائمة بين ركائز الحق في ذات الانسان ، ودين الله كمنهج للوصول اليه ، ومنتجبي هذا الدين كشواهد حية شاخصة لحقاتقه واحكامه .
.. تطلعّ ذاتي عميق في الانسان إلى النور الذي يضيء له مسالك الحياة ، وضمان رباني لهذا النور في الاسلام دين الله القويم وتشخيص قائم له في منتجبيه الاصفياء .
..حاجة تكوينية في الانسان إلى الهدى والرشد ، وتعهد الهي لهما في كل فكرة أملاها لطف الله تعالى في دينه القويم وفي كل حقيقة وضعها فيه ، وكل حكم شرّعه ، وكل سلوك يصدر من مصطفيه .
فاقة شديدة في الانسان إلى الرشد ، والسعادة والكمال في الحياة ، والتزام من الله العلي القدير أن يشرع له واضح السبل إلى تصورات وسنن محددة في الاسلام ، وان يجسّدها في أوليائه مثلاً قائمة تتراءى منهم في كل موقف وكل كلمة أثرت عنهم .
نعم ، هذه هي روح العلاقة بين الانسان ومنتجبي الاصطفاء الالهي ( عليهم السلام ) ، ومن الطبيعي ان تتجلى هذه الروح في الحدود والمفاهيم والاحكام التي ذكرتها النصوص السابقة في بيان أبعاد هذه العلاقة وشؤؤنها ، لتصبح هذه الابعاد سمات بارزة لها ، دون أدنى تفأوت أو خلل.
فالتولي والتبعية والطاعة والانقياد ـ وأمثالها من المفاهيم التي وردت في المصادر الاسلامية ـ يجب ان تنطلق من هذه الاصول نفسها ، لتصبح ـ وبما لها من آفاق ـ هي اساس وجود المؤمن والحاكمة المطلقة في بناء شخصيته والمهيمنة على جميع توجهاتها وأحوآلها وسلوكها .
والقرآن الكريم ليشير إلى هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى :
] النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم [ ([7]) .
] فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما [ ([8]).
ويؤكد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا المعنى نفسه بالنسبة إلى تولّيه هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتولّي وصيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعترته الطاهرة بقوله في موقف الغدير نفسه .
(( أيُها الناس ، أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معي أمر ، وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر ، ثم ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس لهم معه أمر إلى اخره )).
والمعنى القريب لهذه الاولوية المطلقة : ان هؤلاء الاصفياء هم مثل الحق ، وما يصدر عنهم هو عنوانه الذي يهدف الانسان في مسعاه ويرنو اليه في أعماق ذاته ، فلا غرو حينئذ ان يصبح نبراساً له في التطلع إلى الكمال ونوراً يستهدي به في الحياة ..
وهكذا يبدو عمق ولاية الاصفياء في كيان الانسان كما تبدو بعض متطلبات الوفاء بمسؤولياتها الكبرى لدى المؤمن .
فالتولي لهؤلاء الاصفياء ليس قضية مفروضة على الانسان يحدها التزامه ببعض الامور التي يلتزمها في حياته مما هو وراء ذاته .
وهو ليس سلوكاً عملياً يجسد فيه المرء انقياده لتلك الامور فيما تفرضه عليه ..
كلا أبداً .. وانما هو ـ قبل هذا وذاك ـ بعد ذاتي في تكوين الانسان نفسه ، وركن عميق من أركان شخصيته ، ورصيد مبدئي في مكوناتها ، حيث فطرها الله على الحق ، وعلى التطلع اليه والاستمساك بهداه ..
ومن هنا اختلفت النتائج التي تنعكس على أعماق شخصية الانسان ذاتها ، في موقفه تجاه هؤلاء الاصفياء ايجاباً أو سلباً في الاتباع لهديهم أو عدم الاتباع ، وفي الطاعة لأمرهم أو العصيان .. وهو اختلاف يبرز في هذه الاعماق ذاتها ، وفي استقامة الشخصية وصحتها ، قبل أن تبرز في الحياة العامة وسلامتها في المجتمع .
ولا محيص عن هذا الاختلاف بعد أن كانت الولاية ـ كسائر حقائق الاسلام وكبعد دخيل فيها جميعاً ـ ذات أرصدة تكوينية قبل ان تصبح أحكاماً تكليفية أو التزاماً فكرياً أو عملياً .
اذن ، فالمؤمن ـ ولكي يضمن لنفسه بلوغ الغاية المرجوة له في توليه لأولئك الاصفياء والنجباء ( عليهم السلام ) عليه أن يجعل من أعماق ذاته محتوى لأنوارهم ، ويبني على رصيد كامل منها جميع مكونات وجوده وشخصيته ، قبل أن ينطلق منها في التعامل مع مختلف جوانب الحياة التي يعيشها ، ويستقيم في سبيل الكمال الذي يطلبه .
وحق للولاية أن تكون احدى أهم القواعد الاساسية في بنية المؤمن ، بل وحتى أن تكون هي القاعدة الوحيدة في هذا البناء المحكم ، حين تؤخذ بمفهومها الاسلامي ـ الذي يمتد إلى حقائق الاسلام كافة ـ اذ لابد أن تصاغ من خلآلها جميع مكونات الذات ، ويطبع بطابعها كل ما يصدر عنها من مواقف وتصورات .
فعليها يجب أن يقوم جميع ما يملكه الانسان من طاقات فكرية ونفسية ووجدانية ، قبل ان تتمحور عليها توجهاته وأخلاقه والتزاماته وسلوكه . لأن أولئك الاولياء النجباء ( عليهم السلام) ـ كما علمنا ـ هم المظهر القائم لدين الله تعالى والشواهد الحية للمعاني الرفيعة التي يستكمل الانسان بها وجوده في هذه الحياة ككائن رشيد ميزه الله عزّ وجل بالعقل والاختيار ، وأعده لخلافته في هذه الارض .
وسيجد الانسان حينئذ ـ بهذه الولاية الاسلامية وهؤلاء الاولياء المصطفين ـ وحدة القيم العليا التي يتطلع اليها في حياته ووجوده ، فقد شاء الله تعالى ان يكون هؤلاء الاصفياء ( عليهم السلام ) شواهد كمآله في الانسان ، ومجلى عظمته في الخلق ، ودلائل لحكمته في الايجاد والتدبير .
وسيرى أن كل موقف من مواقفهم ، وكل حالة من حالاتهم ، وكل سمة شخصية فيهم ، هي مظهر لذلك الكمال والعظمة والحكمة .
وهكذا يبدو المدلول الحقيقي لمودة ذوي القربى ، وحب أهل البيت ( عليهم السلام ) عامة ، وحب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) خاصة ، حيث تؤكده نصوص الاسلام في كل مناسبة .
كما تبدو العوامل التي من أجلها جعل الله تعالى لتلك المودة وهذا الحب نتائجها الكبرى التي ذكرتها مصادر الاسلام في سلامة الانسان وسعادته في حياته الدنيا والاخرة ، مقابل النتائج والاثار السلبية التي سيقع فيها مع استكمال لتلك المودة وذلك الحب أو في بغضه لأولئك النجباء.
( يا أيها الناس ! أوصيكم بحب ذي أقربها : أخي وابن عمي علي بن أبي طالب ، فانّه لا يحبه الا مؤمن ولايبغضه الا منافق . من أحبه فقد أحبني ، ومن إبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني عذبه الله عزّ وجل ) ([9]) .
( يا علي ! أنت سيد في الدنيا وسيد في الاخرة . حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله ، والويل لمن أبغضك بعدي ) ([10]) .
( واني رسول الله اليكم غير محاب لقرابتي ، هذا جبرئيل يخبرني أن السعيد ـ حق السعيد ـ من أحب علياً في حياته وبعد موته ، وان الشقي كل الشقي من أبغض علياً في حياته وبعد موته ) [11] .
( عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب ) ([12]) .
( حب علي حسنة لا تضر معها سيئة ..) ([13]).
(ما ثبت الله حب علي في قلب مؤمن فزلت به قدم الا ثبت الله قدميه يوم القيامة على الصراط) ([14])
( حب علي يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب ) ([15]) .
نعم وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
وواضح ـ حينئذ انه ليس ذلك الحب الذي لا يتجأوز آفاق العاطفة من نفس الانسان ، وانّما هو الحب الذي بنيت عليه جوانح الانسان كافة ، فكان أساساً لوجودها ، ومحوراً لما يصدر منها إلى الجوارح ، من تصورات وإرادات ومواقف وكلمات وأحوال .. إلى آخره .
وانّما هو النور الذي تضيء به آفاق شخصية الانسان فلا يرى ولا يسمع ، ولا يمضي الا حيث هداه والا حيث رشده وبصائره في الحياة ..
وطبيعي ان تتخذ الولاية حينئذ دورها في الاخذ بيد الانسان إلى حيث رسمه الله تعالى له من استقامة مع الحق وكمال في سبيله فهي المظهر السامي للطف الله ورحمته بالعباد ..
وسلام على أولياء الله ومنتجبيه ..
والحمد لله أولاً واخراً وله الشكر والمنة ..
[1] - المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 128.
[2] - فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 2 ، ص 214 عن كتاب ( حلية الاولياء ) : ج 1 ص 86.
[3] - المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 151.
[4] - اسد الغاب : ج 5 ص 317 ومصادر اخرى .
[5] - المائدة : 56.
[6] - فضائل الخمسه من الصحاح الستة : ج 2 ص 15 ، عن تفسير الدر المنثور للسيوطي في تفسيره.
[7] ـ الأحزاب :6 .
[8] ـ النساء : 64 .
[9] ـ فضائل الخمسة من الصحاح السته : ج2 ، ص199 ، عن كنز العمال : ج7 ، ص140 .
[10] ـ المستدرك على الصحيحين : ج 3، ص 127 ـ 128 .
[11] ـ مجمع الزوائد : ج 9 ، ص 132 .
[12] ـ فضائل الخمسه من الصحاح السته : ج 2 ، ص 218 ، عن تاريخ بغداد : ج 4 ، ص 410 .
[13] ـ المصدر السابق : ج 2 ، ص 219 ، عن كنوز الحقائق : ص 26 .
[14] ـ المصدر السابق : ص 220 ، عن كنز العمال : ج 6 ص 158 .
[15] ـ المصدر السابق : ص 219 ، عن الرياض النضرة : ج 2 ، ص 215 .