الباب الثاني
الولاية والواقعية الإسلامية
تمهيد
بعد استكمال الحديث في وضوح ولاية علي عليه السلام وما يعنيه من دلالات نقف في هذا الباب عند الشرطين الآخرين من شرائط الحق في دين الله تعالى حيث علمنا ضرورة تجليها أي حقيقة في
الإسلام وهذان الشرطان هما:
أولا: ضرورة اضطراد التطابق الإسلامي مع الواقع في هذه الولاية,وانتظامه مع حكم الله فيها.
ثانيا: استقامته العامة معه كذلك منها دون خلل أو تفاوت.
فبهذين الشرطين يستكمل الإسلام التزامه لولاية علي عليه السلام,كواحدة من حقائقه الكبرى.
إلا إننا_ وقبل الدخول في الحديث حول هذين الشرطين ينبغي إن نلتفت إلى طبيعة هذه الولاية في بعض جوانبها المهمة,ونقف هنا عند جانبين منها,لهما أهميتهما الخاصة في الموضوع:
الجانب الأول:
للولاية بعدان:
معروف أن الولاية الإسلامية كيان مكون من بعدين مختلفين ، لكل منهما خصائصه ومميزاته ولكل منهما ضروراته ومستلزماته.
البعد الأول: الانتساب إلى الله عز وجل.
فالولاية –كما علمنا- هي إحدى الحقائق الإسلامية الكبرى، فهي ترد ضمن دعائم الإسلام التي يعتمد عليها وجوده في حياة الإنسان.. فهي - بهذه الملاحظة- احد مجالي اللطف الإلهي بالإنسان، ومظهر من مظاهر رحمته بالعباد، ورعايته لهم بكفاية حاجاتهم من مناهج الحق وسبل الرشد والهدى.
وحينئذ فلابد من الإيمان باستحالة القصور فيها عن أي متطلبات الحق، إذ هو القاعدة التي أقيم عليها كيان الإسلام ذاته ، وامتناع تفاوتهما مع شيء من مقتضياته، لا في مفهومهما ولا في حدودهما ، ولا في شؤونهما وأحكامهما ، ولا في أدوارها الكبرى في دين الله ، أو في حياة الإنسان. لأن أي قصور أو تفاوت يتصور فيهما مما ينعكس على الكمال في ذات الله سبحانه الذي انزل هذا الدين وضمن رعايته، وهذا محال- كما نعلم- إذ تعالى الله عن اي نقص وتعالت حكمته عن أي تفاوت.
وهي قضية تمضي – بجميع دقائقها أبعادها - مع سعة رسالة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه واله، وشمولها للبشرية كافة في جميع أزمنتها وأمكنتها وحضاراتها ومستوياتها الفكرية والعملية. حيث أخذت هذه السعة في ولاية علي عليه السلام كذلك ، وفي كل شأن من شؤونها العامة والخاصة. كما علمنا.
البعد الثاني:المظهر الإنساني.
فمع ان الولاية إحدى الحقائق الإسلامية،إلا انها في واقعها الفعلي - كالرسالة نفسها- منصب إنساني، ولا بد أن تستند في وجودها ومهماتها إلى شخص من الناس، حيث يستحيل تحققها بدونه.. وهنا تكمن المفارقة..
فقصور الإنسان عن استشراف جميع معالم الحياة أوضح من أن يحتاج إلى بيان، وقد سبق أن أشرنا إلى بعض جوانبه في بداية هذا المبحث، ومن أهم أسبابه التي ينبغي أن نقف عندها هنا:
1- أن الإنسان إنما يتعامل مع الوقائع والأمور من خلال ما يملكه حولها من تصور، ومعروف أن تصور الإنسان كما يتأثر بواقع هذه الأمور يتأثر كذلك بالطاقات والإمكانات الذاتية التي يحملها الإنسان نفسه، وهي - كما نعلم - محدودة الآفاق والفاعلية اذ هي - وبالرغم مما تتفوق به على مثيلاتها في غير الإنسان من مخلوقات هذه الأرض - أقصر من أن تطال كل شيء، وأضيق من أن تستوعب كل شيء دون رفد من المد الرباني الخاص.
2- أن الإنسان وليد عصره ،وهو ابن بار للوسط الذي يعيش فيه، وهذا هو المشهود في عامة الناس ، مما يعني إن للعصر الذي يعيش فيه الإنسان والمستوى العام للمعرفة، واتجاهاتها الغالبة في ذلك الوسط ،أحكامها المؤثرة في تربية طاقات الفرد وتوجهاته ، كما كان لها آثارها في تكوين السمات الأخرى لشخصيته ومزاياها.
ومما يلاحظ- في تأثر الإنسان بما حوله من العوامل- انه كما يكون شعوريا في بعض الأحيان حيث يجري في حدود الخبرة والوعي، يكون في أحيان اخرى لا شعورياً ، إذ يمضي في توجيه الشخصية ومكونتاها ، وموافقتها مما وراء ذلك.
وللدراسات النفسية الحديثة خطواتها الجيدة في إدراك ما للشعور من تأثير في شخصية الإنسان وهيمنته عليها، فهو في بعض الحالات أخطر عليها من الشعور نفسه،حين ينحرف عن قويم السبيل، لعدم دخوله في مجال رؤية الإنسان، وعدم إمكان المتابعة لسلبياته وتجنبها ، أو معالجة مكامنه في النفس إلا بعد عناء وجهد.
وهذا الاقتران بين كلا البعدين في مفهوم الولاية الإسلامية وفي تحققها الفعلي مثار للعديد من الأسئلة المهمة التي لا بد أن تتصور لها إجابة كافية تتناسب ووضوح الولاية في دين الله تعالى.
إذ كيف يمكن اقتران ذلك البعد المطلق للحق وشرائطه مع هذه الحدود الإنسانية القاصرة؟
وكيف يمكن لهذه الحدود أن تستوعب تلك الشرائط كافة ، بما لها من حدية يستحيل فيها التفاوت والانحراف؟.
وطبيعي ان لا تستبعد الإجابة حدود الإدراك الإنساني كواع لهذه الولاية، وركن أساس في مسئولية الإنسان في الأيمان بها ،و الاستجابة لمقتضياتها والانقياد إليها...
وان لا تستبعد كذلك المجتمع الإسلامي كوسط تجري فيه فاعلية الولاية وقيادتها للحياة.
كما لا تستبعد اختلاف السبل و الاتجاهات الإنسانية في الحياة، على امتداد التاريخ الإسلامي ، وتفاوت مابين الناس في الاستجابة لهذه الولاية، وإذعانهم لما تحمله من دلائل الحق ورشده.
وكل هذه الآفاق تستدعي أن تكون الإجابة ضمن حدود ما جبل عليه الإنسان في تصوره وفهمه للأمور لا بدرجات ارفع أو أخفى.
الجانب الثاني:
الطبيعة الحيوية الإنسانية لهذه الولاية:
وهذه الطبيعة هي احد الفوارق الكبيرة ليس بين خصوص الولاية وغيرها من حقائق الإسلام فحسب، وإنما بين جميع المناصب الإسلامية الكبرى وغيرها من الحقائق ...
فهذه الحقائق -في الغالب - هي من نوع التصورات والأحكام والمناهج والتعاليم وأشباها، وهي جميعها مفاهيم وموضوعات أحكام يكفي في اعتبارها وقيام الحجة الإسلامية بها نفس تشريعاتها، أو اعتبارها وتبليغها إلى الناس بما هو متعارف في مثل هذا التبليغ من الوسائل، مع غض النظر عن موقف الناس منها ،واستجابتهم أو عدم استجابتهم لها ، فبعد قيام الحجة الإلهية بها ، يترك شأن الاستجابة لها إلى نفس الإنسان ، فهو الذي يحدد موقفه إزاءها ايجاباً او سلباً، اذ لا اثر لموقفه على هدى الله تعالى وبيناته ، ولكنه هو الذي يحيي أن استجاب بعد قيام البينة عليه، وهو الذي يهلك إن زاغ عن طريق بعد البينة كذلك.
أما الولاية وغيرها من المناصب الإسلامية العامة ، فهي- وكما قلت- ذات صبغة حيوية إنسانية، تتجلى طبيعتها وحدودها وآثارها مع كل موقف يصدر من صاحبها المرتضى ، ومع كل عمل يأتيه، وكل كلمة ينطق بها - وفي المقابل كذلك- فان تولي المؤمن وإتباعه لحدود تلك الولاية إنما يتحقق مع كل استجابة منه لهداها ، ومع كل استرشاد يستلهمه من كلمة الحق التي تلقيها، ومع كل انقياد يحققه لأمر الله فيها .
إذن فكل من الولاية والتولي واقع إنساني ، ذو صبغة حيوية، يتجلى من خلال الممارسة العملية والسلوك في الحياة حيث يستحيل فيه الاقتطاع والتجزئة في أي موقف من المواقف، وفي أي حالة من الحالات...
وهذه الملاحظة تستوجب أن تحمل شرائط الحق في هذه المناصب نفس هذه الصبغة التي تمضي مع المصطفى في كل موقف،وكل كلمة وكل حالة يكون عليها، دون أي قصور، و إلا لم يستوف في شخصيته ومواقفه أيا من تلك الشرائط. وهذا محال بعد الاصطفاء الإلهي له .
ولكن أنى للإنسان - مع ذلك القصور الذاتي قيه – أن يستوعب في ذاته تلك الشرائط كافة يجسدها بتلك الحدود والأعماق التي علمناها لقيمة الحق ودينه العظيم؟
ضرورة الرعاية الإلهية للولاية ومجاليها
وهنا تبرز أهمية نتائج الحديث في الباب السابق حول وضوح دلائل الحق في هذه الولاية..
إذ بعد ثبوت الالتزام الإسلامي لها ووضوحه، وسواء في قيام الحجة بها ،أم في مفهومها وحدودها أم في موقعها من دين الله – يستحيل حينئذ تصور انه تعالى سيهمل أمرها في أيٍّ من شرائطها تلك ،أو انه سيترك شأنها لقصور الإنسان وضيق حدوده أو انه سيخلّي بينها وبين أهواء الناس، واختلاف مشاربهم وانحرافاتهم ، فكل هذا مما يستحيل في حكمته تعالى ونفوذ علمه وسلطان قدرته.
إذن فلابد من رعاية إلهيه خاصة تكفل استقامة الحق في هذه الولاية وتفي لشرائطه تلك جميع ما تتطلبه، سواء في ذات مفهومها، أم في الشخص المرتضى لها ، أم فيما يصدر عنه من هدى ،أم في غير هذا من مستلزماتها.
نعم ، أن في هذه الولاية اصطفاء الهياً اقتضته حكمة الله تعالى المطلقة، وان فيها اختبارا اعتمده اللطف الرباني العميم ، وأن هناك ارتضاءً من الرحمة الواسعة ذات العلم المحيط ، والقدرة المهيمنة والسلطان الذي لا تحيد عنه ذرة في الأرض ولا في السماء ، والسمع الذي لا تخفى عليه وساوس الصدور...
.. إذن فمن المحال أن توجد حينئذ ثغرات أو التواءات تستوجب أي خلل في كلمة الله تعالى وهي تتجسد بالولاية ،أو يحصل منها وهن ينال من استقامة الحق فيها ...
ومن هذه الضرورة يمكن فهم ما تعنيه هذه الرعاية الإلهية المتصورة هنا، ومعرفة مواردها في ذات الولاية وشخصية الولي وعمقها فيهما وفيما يكتنفها من شؤون.
فهي تعني أولا أن هذه الرعاية نوع من الفيوض الربانية الخاصة التي يستوجبها عموم الحكمة الإلهية ولطفها بالعباد، ومجلى لضمان قدرة الله سبحانه لوحدة الحق ،و استقامته في حقائق دينه، وهي تتجلى في هذه الولاية وفي الشخص المرتضى لها.
إذن، فهي شأن الهي خاص، يستحيل أن يتدخل فيه احد من الناس او يمليه على الله تعالى احد منهم حتى الولي نفسه ، بل ويستحيل أن يدرك احد منه إلا ما يبرز من آثاره ،أو المقدار التي تورده الحجة الإلهية القاطعة، والبلاغ المبين من جوانبه.
كما تعني تلك الضرورة - ثانيا- استيعاب هذه الرعاية للولاية والوالي معا، ولكل ما يمت اليهما بصلة وحيث يتطلبه قيام الحق فيهما.. إذ القصور عن هذا الاستيعاب مما يوهنهما عن الارتفاع إلى مستوى شرائط الحق ، ويعيقهما عن أداء دورهما المعّين لهما في دينه.
وتعني من جهة ثانية - وجوب استمرار هذه الرعاية ودوام مددها مع الزمن الذي اقتضته حكمة الله للولاية والولي ، واستوجبته المهمة الملقاة عليهما في رسالته، إذ يستحيل عليهما الوفاء بتلك المهمة في زمن خلا من ذلك المدد الذي يكفل لهما ذلك الارتفاع.
إذن، فمن غير الممكن تحديد هذه الرعاية في مجال خاص من مجالات هذا المنصب العظيم، أو في أفق معين من آفاق شخصية الولي ، أو في زمن محدد دون أزمنة مهماتهما الكبرى في دين الله ، لان مسؤوليتهما تمتد إلى جميع المجالات والآفاق في الأزمنة التي عينها لهما الاصطفاء الإلهي.
ولا غرابة في كل هذا ، فالحكمة مطلقة ، والعلم محيط، والقدرة مهيمنة، واللطف عميم.
ولا تختص ضرورة هذه الرعاية -بما لها من تجليات- بولاية علي عليه السلام خاصة من بين مناصب دين الله عز وجل، ولا برسالة محمد صلى الله عليه واله من بين رسالاته ، ولا بعلي عليه السلام وحده من بين الأصفياء ، بل هي - وكما رأيناها - واحدة من مستلزمات أي منصب إسلامي، وأي اصطفاء الهي لأحد من الناس لتوليها، لأنها من شؤون الحق نفسه، ومن بعض شرائط قيامه في هذا الوجود.
وفي الوقت نفسه ، فان ولاية علي عليه السلام لا يمكن إن تستثنى من هذه الرعاية مباشرة ، فهي -كأي منصب آخر في دين الله- يجب أن لاتقتصر- في واقعها أو متطلباتها - عن الشرائط العامة للحق ..ومعلوم أن استيفاء تلك الشرائط غير ممكن بدون تلك الرعاية وامدادها ، سواء في طبيعة هذه الولاية أم في نصوع حجتها، أم في موقعها الخاص من دين الله ،أم في دورها الكبير في البشرية ، أم في استشرافها على الزمان والمكان والمشخصات الموضوعية كافة ، أم في المستوى الرفيع في الكمال الإنساني لشخصية الولي وهو يجسد حقائق الإسلام في وجوده وحياته ، وفي كل موقف يصدر منه ، أم في مسؤولية الأمة المسلمة - بل والإنسانية كافة- إزاءها وإزاء وليها،أم في أي شان من شؤونها الأخرى الخاصة أو العامة.
وهكذا يبدو ما تعنيه هذه الرعاية الإلهية لعلي عليه السلام وولايته، فهي القاعدة المكينة التي ينطلقان منها، في كل شان من شؤونها، حيث يستوجب استيعابهما لشرائط الحق كافة، و ما يعلمه الناس منهما ، وما يجهلون، وما يدركه الناس من هذه الشرائط وما لا يدركون.
بل وحتى الوضوح الذي تقدم الحديث فيه ، فهو - بدوره- مجلي لهذه الرعاية، فلولاها لما تمت لهما الصفة على الوجه الأكمل ، الذي تجلت به حجة الولاية، ومستلزماتها كافة.
وهكذا يمكن القول بأن اعتماد هذه الرعاية هي السبيل الأجدى في فهم جميع شرائط الحق في هذه الولاية، والأقرب في استيضاح ا بعادها المختلفة، سواء فيها ذاتها أم في شخص علي عليه السلام أم في مسؤولية الأمة تجاههما.
فها هنا أبعاد ثلاثة ينبغي الوقوف عند كل منهما بشي من التفصيل،ولاسيما في البعدين الأولين منها
البعد الأول : وهي رعاية الله تعالى للولاية الإسلامية ونقف منها هنا على أمرين مهمين:
أولهما: وضوح حاجة الإسلام إلى الولاية في وجوده وكماله وارتباطه المطلق مع الواقع.
ثانيا: عصمتها من ان تنال منها الأهواء مطمعاً.
وواضح ان البعد هو الرصيد الأول لسائر مظاهر هذه الرعاية ، في أي شان من شؤونها ، وشؤون وليها العظيم عليه السلام ،لأهمية مورده بين تلك الشؤون.
البعد الثاني: رعاية الله سبحانه لشخصية الإمام علي عليه السلام ونعرض فيه ثلاث نواحي منها:
1- التكوين الذاتي لعلي عليه السلام وصياغة شخصيته - بما لها من أصول عميقة - على أسس الحق وشرائطه.
2- سعة الآفاق العلمية التي يمتلكها،للوفاء بمسؤوليات ولايته الكبرى. 3-امتلاكه لمختلف الوسائل التي يحتاجها لهذا الوفاء.
البعد الثالث: وهي رعاية الله للإنسان المؤمن وهو يتولى علياً عليه السلام في حياته ، وينتهج اتباعه سبيلاً لحياته ،سواء في فكره أم في سلوكه.
الولاية والإسلام
سبق ان علمنا ما لولاية علي عليه السلام من موقع خاص في دين الله تعالى، ومالها من دور في وجوده وكماله:
] وان لم تفعل فما بلغت رسالته[([1])
]اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا[([2])
(( من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وادر الحق معه حيثما دار))
فهذه النصوص واشبهاها تعني - بوضوح، وكما علمنا- :
إن الولاية من الاركان الاولى لوجود الاسلام ذاته، وانها- ودون اي فرق- كولاية رسول الله صلى الله عليه وآله، ركيزة من ركائزه المبدئية الثابته التي لا يمكن ان ينهض له كيان بدونها او بدون وليها العظيم عليه السلام، ومن هذا المنطلق بنيت ادوارهما الخاصة في دين الله، ومسؤليتاهما في قيام امره، ومسؤولية الأمة المسلمة تجاههما كذلك.
اذن، فمن المستحيل على الاسلام (نفسه) ان يستغني عن هذه الولاية ووليها بحال من الاحوال، او في شان من الشؤون، ويمتنع ان يتجرد عنها في جميع حقائقه ومهماته في حياة الانسان.
وهذا التوحّد بين علي عليه السلام وولايته وسائر اركان الاسلام ومكوناته لم يؤخذ فيه حد معين في الزمان او المكان، او أحد القيود الاخرى ، دون وجود الاسلام ذاته، ودون دوره الأتم في الحياة ودون خصائصه وسماته كافة.
فكما لم توجد رسالة محمد صلى الله عليه وآله دون الولاية في عهد التبليغ، فان هذه الرسالة لايمكن ان توجد الآن او في اي زمان آخر بدون الولاية بعد ذلك العهد ، مابقي على هذه البسيطة انسان ، شاءت حكمة الله تعالى بان تقيم عليه الحجة بهذا الدين العظيم، وتأخذ بيده في سبيل الخير والهدى بواسطة هداه.
ومع ان هذه النتيجة دقيقة جداً، وحساسة جداً، ولاسيما مع ملاحظة الادوار التاريخية المتمادية ذات المواقف السلبية المعروفة من الولاية ومن صاحبها العظيم عليه السلام، الا انها- وعلى اي حال- هي المدلول الصريح لتلك النصوص، التي لاحظنا تواتر مضمونها المشترك، حيث لم يرد في اي منها ولو واحد من القيود التي تحدد هذه النتيجة،في زمان خاص،او في مكان معين، او مستوى علمي، او اتجاه حضاري، وراء ذات الاسلام نفسه، ودوره في البشرية.
اذن فبهذه النتيجة- وبالحدية والحسم اللذين يفرضهما مفهوم الحق واستقامته- يجب ان تفهم الرعاية الالهية لهذه الولاية الكبرى ايضا.
فالقران الكريم حين اناط وجود رسالة محمد صلى الله عليه وآله بولاية علي عليه السلام وحين جعلها اكمالاً لدين الله سبحانه واتم بها نعمته على العباد، واعلن بها رضاه بالاسلام ديناً للبشرية، كان لابد ان تكون الولاية هي الوفاء الاتم لهذه الادوار والمواقع والمهمات كافة.
والرسول صلى الله عليه وآله حين جمع بين ولايته هو صلى الله عليه وآله والتى جعلها الله تعالى له ولاية علي عليه السلام كان يعني ان كلتا الولايتين ينبعان من مصدر واحد، ويجريان في خط واحد ،نحو مصب واحد، فلا غناء لاحداهما عن الاخرى ، فبهما معاً تتكامل ادوار الرسول صلى الله عليه واله وعلي عليه السلام وبهما- معاً- تتضح معالم هدى الله سبحانه وبيناته.
ولم يكن القران - كتاب الله الخالد وحجته الناطقة- ولم يكن رسول الله صلى الله عليه واله- الذي لا ينطق عن الهوى- ليحيدا عن الحق قدر أنملة، فهو محور وجودهما، وهو جوهر حقيقتهما في هذه الارض...ولم يكن الحق- من جانبه- ليختلف في دينه العظيم بين موقع واخر،او بين حكم واخر،او اصطفاء واخر كذلك، وهو يمتلك ذلك الرصيد الاكبر من الارتباط بالله العظيم، والاستقامة التامة مع حكمته ولطفه.
اذن فلا بد ان تكون هذه النتيجة هي مجرى رعاية الله سبحانه لولاية علي عليه السلام، ورعايته له نفسه، بكل مالها من جوانب ومميزات وخصائص ومستلزمات، اذ القصور عن هذه الغاية مما يستحيل على حكمته سبحانه،لما يعنيه من تفاوت ونقص جلت عنهما ذاته المقدسة.
وكذلك فلابد ان تكون هذه النتيجة هي المعيار الذي توزن به جميع الشخصيات التي تنتسب الى الاسلام، ويقاس به مايصدر عنها من مواقف. وان تكون هي الرصيد الذي تحاكم به التصورات والمناهج التي تنتهي اليها مختلف الدراسات والجهود التي تدّعي الانطلاق من الاسس الاسلامية.
كما لابد ان تجعل هذه النتيجة هي الاساس الذي ينطلق فيه المؤمن في تعامله،لا مع الولاية فحسب ، وانما مع دين الله ككل،فهي - كما نراها- جذر اسلامي مشترك،يمتد رفده وعطاؤه في اي بُعد اسلامي آخر، فأي التزام من الانسان لا يبنى على اساس ثابت من مقتضيات هذه الولاية ليس بذي معنى يرتضيه الاسلام نفسه لمتبعي هداه..
] ورضيت لكم الاسلام دينا[([3])
لا طمأنينة للإيمان بدون الولاية
ومما يجري في هذا المضمار من رعاية الله سبحانه لولاية علي عليه السلام: عدم امكان قناعة الفكر الواعي واطمئنانه بإيمان رشيد بالإسلام، متكامل الأصول والحلقات والمواقع بدونها.. فهي حاجة أساسية يقوم عليها كل اصل من اصول الاسلام،وكل بينة من بيناته، قبل ان تتبلور هذه البينات في تصوراته واحكامه كافة.
وهي حاجة- والحق يقال- واضحة كل الوضوح حين يتجرد الانسان عن ضيق النظرة المذهبية المحدودة، التي تضع العوائق امام العقول لئلا تنطلق في آفاق الرؤية الاسلامية المتكاملة.
(( واني سائلكم - حين تردون عليّ - عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الاكبر كتاب الله، طرف بيد الله وطرف بايديكم، فاستمسكوا به،لا تضلّوا ولا تبدّلوا...عترتي اهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))
(( افهموا محكم القرآن ولاتتبعوا متشابهه، ولن يفسر ذلك لكم الا من انا اخذ بيده وشائل بعضده))
(( النور من الله فيّ، ثم في علي، ثم النسل منه الى القائم المهدي ))
ولهذا فان اي مذهب فكري او اعتقادي او فقهي،او غير ذلك من المذاهب الاسلامية حين ينطلق في بناء ذاته بعيداً عن الولاية وعما لها من موقع خاص في دين الله، وحين يحاول ان يقيم مفاهيمه ومناهجه، ومعالجته للامور بدون رصيد كافٍ منها، فان هذا الابتعاد منه عن الولاية سيُصبح ثغرة واسعة الهوه فيه وسبباً للوهن في كل ما يطرحه امام البصائر من القضايا وعلى اي صعيد، فهولا يستطيع- حينئذ- استيعاب اصول التكامل في الرؤية المطلوبة لمصادر الاسلام وبيناته، ومن ثم عاجز عن بلورة ايٍّ من تلك القضايا من خلال المنظار الاسلامي السليم، وهو قصور واضح لا يستطيع أي من هذا النوع من المذاهب تجنبه في واقعه،وان لم يعترف به صراحة، ويمكن لاي باحث نزيه ملاحظته في جميع المذاهب الاسلامية التي جانبت الولاية ولم تتخذ من هدى اهل البيت عليهم السلام اساساً في اقامة صرحها ونوراً تتبعه في كل خطوة تخطوها.
على ان مثل هذه المذهب يعجز في الوقت نفسه عن وضع اجابات محددة وواضحة عن جميع الاسئلة التي اخذت تملا جوانب الفكر والحياة، حين يسلمان امرهما ومسيرتهما الى رسالة محمد صلى الله عليه واله، بعد ان بدات جذوة هداها وانوارها تنمو وتتسامى معالمها في واقع الانسان، ومن المنتظر ان تضع لكل حالة تصورها، ولكل امر مستجد حكمه،ولكل مسلك هداه.
..اجابات واضحة، تركن الى هدى الاسلام ذاته، والى وصوله وبيناته وحدها فحسب، دون ادني تدخل من الذاتيات العاطفية فيها او التنازلات العمياء عن كلمة الحق.
نعم، فالرسول صلى الله صلى الله عليه واله كان خاتم أنبياء الله ورسله،فلا نبي بعده ولا رسول.
وكانت رسالته العظمى هي خاتمة الرسالات الالهية،فلا رسالة بعدها.
اذن فهي الغناء الالهي الابدي للبشرية في طموحها نحو الكمال، بعد ان بلغت مراحل نضجها العليا، وهذا واضح في خصائص هذه الرسالة ومميزاتها، بل هو من بدائهها التي اعتمدتها في كل تصور وفي كل تشريع..
ولكن في الوقت نفسه علينا ان نلتفت الى ان الرسول صلى الله عليه واله لم يل من امر الحق الذي بعث بدينه سوى حقبة قصيرة من الزمن،لم يتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة بعد بعثته صلى الله عليه واله..هل ياترى ان هذه السنوات القلائل كانت كافية في تحقيق الغرض الالهي من هذه البعثة، وقيام حجته بها الى الابد، دون قيّم اخر تمتد به سلسلة هذه الولاية على الخلق ودون رافع اخر لمشعل انواره امام السائرين في ظلمات الحياة؟!
فهل ان تلك الفترة القصيرة من الزمن كانت كافية في تخليد الاسلام مع الزمن، نقي الهدى ، صافي الآفاق، واضح البرهان، بالغ الحجة، لا تكدر صفاءه الأهواء، ولا تنال منه الاطماع، وان لم يكن له ولي يضع اموره كافة في انصبتها المناسبة؟
وماهو الضمان الأكيد في ابديّة الاسلام مشعلاً هادياً ينير دروب الحياة الانسانية في مختلف اصعدتها ما لم يكن هناك استمرار دائم لتعهد معصوم، ياخذ على عاتقه مسؤولية هذا الضمان.
وماهو وجه الحكمة في ان تترك معالم الحق هكذا بايدي العبث، وتقاذف الاهواء؟..
افهل هناك قصور في حكمة الله سبحانه؟،ام هناك عجز في قدرتها عن ان تبلغ ماتشاء؟،ام جهل باوجه المصلحة التي لاتخفى على ابسط الناس؟!
واين هي دلائل اللطف الرباني في فتح منافذ النور لحظة من لحظات الزمن،ثم اسلام ثقل الحق كله الى كلفة غير ماموني الشطط؟
وماهي مواقف دين الحق ازاء مستجدات الحياة،حيث يجب ان يقول فيها كلمته الواضحة في كل زمن لاتمام نور الله فيها؟
واخيرا،ماهو الموقف السليم من كل تلك الأدلة التي اقامها الاسلام على هذه الولاية، والشواهد التصديقية المتواترة في صحة مدلولها الاسلامي،وارتضاء علي عليه السلام لها دون غيره من الناس بعد الرسول صلى الله عليه واله، ثم لتمتد منه الي ابنائه الطاهرين عليهم السلام؟
وهذه واشبهاها اسئلة ليس لها جواب مقنع يمكن ان يركن اليه احد،او يطمئن به قلبه بدون ولاية علي عليه السلام، كحلقة ثانية بعد رسول الله صلى الله عليه واله، لتمتد السلسلة الى الولي الاخير المنتظر عليه السلام.
وهذا يعني ان شعور المؤمن بحاجته الى ولاية علي عليه السلام من الدعائم الاولى لايمانه، وبتعبير اخر: انه بدون هذه الولاية يستحيل ان يستكمل استمساك الانسان بدين الله ووجوده وثباته في الوعي ، واستقراره في النفوس دون وهن او قصور.
وهو امر تشعر به جميع العقول المتفتحة، وهي تتطلع الى معالم الحق في دينه القويم، وتسمو بانفسها عن ضيق النظرات الجانبية التي تزيغ بالبصيرة عن بينات الهدى في اصوله.
ولا ريب ان هذا الشعور نفسه، واثاره في دفع الانسان الى تتبع معالم كلمة الاسلام في امر الولاية،هو بعض دلائل تلك الرعاية الالهية لها، حيث يبدو للبصائر دورها في اقامة كيان الايمان في النفس،والاستمساك به ،اذ لا يستتم هذا الايمان معالمه الاسلامية الرشيدة واستيعابه لشرائط الحق الا بها ،والا باتخاذها ركنا في هذا الاستمساك.
الولاية والواقع الإسلامي القائم
وهي قضية يؤيدها الواقع الفعلي المشهود من دين الله..
ونحن اليوم - وبعد هذه القرون المتمادية من بزوغ شمسه- ادرى بصدقها، حتى من اولئك الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه واله او جاؤوا بعده في زمن العصمة.
فها نحن نرى ان ولاية علي عليه السلام - وما استتبعها من ولاية ابنائه المطهرين الأحد عشر عليهم السلام - هي المجلى الواضح لحجة الإسلام وكماله، وتمام كلمته في البشرية ،واستقامته الأبدية مع الواقع،رغم عواصف الزمن، وتحكم الصراع في جميع مجالات الحياة، ودقة القضايا التي استجدت بعد عهد الرسول صلى الله عليه واله. إذ ما كان عطاء الإسلام ليستتم فيها لولا أولئك الأولياء والأصفياء عليهم السلام، ولولا بيناتهم التي بثوها في الناس، وهدهم الذي حاولوا أن يضعوه أمام البصائر،رغم كل المواقع والعقبات التي وضعتها في طريقهم حقب طويلة سوداء من الأحقاد والأطماع والأهواء.
ولا احاول الدخول في التفصيل من هذه الناحية المهمة، فهي أوسع من أن يحاط بها في مجال ضيق كالذي نحن فيه. وماهذه الأطروحات التي أملاها الإسلام في بيناته، الا شواهد بارزة لهذه القضية، حيث يبرز فيها ما لهذه الولاية من دور كبير في اتمام كلمة الله تعالى واثبات هداه وبرهانه للعقول، دون خلل او تفاوت، ولا في عصر خاص من تاريخ الاسلام، ولا في صعيد معين من اصعدة الحياة،وانما في جميع العصور والاصعدة والمستويات.
فكل ما اُثر عن علي عليه السلام،أو عن احد أبنائه المنتجبين عليهم السلام هو شاهد قائم على هذا الدور الخاص للولاية وعلى رعاية الله لها،وتعهده باكمال دينه بها.
اذ بينما يلحظ الوهن والخلل في جميع الآراء والجهود التي حاولت دراسة الاسلام بعيدا عن الولاية ودلائلها، وما وضعته للبصائر من هدى، ولا سيما في مستجدات الفكر والحياة، فان أحداً لم يستطع ملاحظة أي وهن أو انحراف عن استقامة الإسلام المطلقة في أي من كلمات منتَجَبِي الولاية،أو سلوكهم أو رؤيتهم للأمور.
وهذا الامتداد الإسلامي في الولاية ودلائلها هو مما يَعلمه كل مسلم، بل ومما يعلمه كل متتبع لقضايا الإسلام، وان لم يكن من اتباعه، لأنه قضية موضوعية قائمة، قبل أن تصبح مورداً للالتزام، وقد اعترف بها حتى أولئك الذين ناوؤوا علياً وبنيه عليهم السلام، واتخذوا من ولايتهم موقفاً اقل ما يقال عنه بأنه سلبي، وسلّموا بها- ولو عملياً أو في بعض حالات الصفاء أو ضعف النفوس أمام الحق - كواحدة من الحقائق التي لامحيص عن التسليم بها، حتى أصبح ذلك الاعتراف وهذا التسليم من الشيوع بدرجة لا يستنكرها احد منهم.
وقد سبق أن قرأنا أن عمر بن الخطاب كان يرى بأن علياً أولى بالخلافة منه ومن أبي بكر.
بل وكان يرى بأن قول علي عليه السلام هو من السنة..اذ روى الشعبي:
( أتى عمر بن الخطاب بامرأة تزوجت في عدتها، فأخذ مهرها فجعله في بيت المال، وفرق بينهما وقال: لا يجتمعان.وعاقبهما.
فقال علي عليه السلام: ليس هكذا، ولكن هذه الجهالة من الناس ولكن يفرّق بينهما، ثم تستكمل بقية العدة من الأول، ثم تستقبل عدة اخرى، وجعل لها علي المهر بما استحل من فرجها.
قال: فحمد الله عمَر واثنى عليه، ثم قال: ردوا الجهالات إلى السنة ) ([4])
كما ورد مثل هذا الاعتراف والتسليم عن أبي بكر أيضاً قبل عمر، كما رواه اَنَس في حديث طويل قال:
(فعند ذلك خرج ابو بكر ورقى المنبر وقال: اقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم.
قال: فعند ذلك خرج اليه عمر، وقال: يا أبا بكر ما هذا الكلام؟، قال: فقد ارتضيناك لأنفسنا،ثم انزله عن المنبر..) ([5])
ولا نطيل باقتباس مثل هذه الأحاديث فهي اكثر من أن تحتاج إلى مزيد اقتباس.
انعقاد الألسن مع الولاية
ومما يجري من رعاية الله سبحانه في هذا المضمار أيضاً الجام الألسن وانعقاد حجتها في مواجهة الولاية وأوليائها المنتجبين، حيث تنعدم كل حجة، ويزيغ كل برهان لاثبات أي صلة بين المواقف المناوئة والإسلام.
وهو كذلك امر معروف منذ عصر الرسالة والأيام الأولى للولاية وحتى اليوم، اذ لم يستطع أحد حتى ممن حملوا لواء منازعة أولئك الاولياء عليهم السلام ان يبرر مواقفه تلك بحجة يستند فيها إلى بينه إسلامية ثابتة يلتزمها الإسلام ذاته بالرغم من مجانبة جميع الحقب لهذه الولاية، وبالرغم من كتابة التأريخ بأيدٍ لا تعترف لها بمقامها المناسب قي دين الله...
ولعل فيما قرأناه من المحاورات السابقة بين علي عليه السلام وطلحة بن عبيد الله، وبين عمر بن العاص والفتى من همدان، وبين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وغيرها خير دليل على مثل هذا الالجام.
و أوضح منها - جميعا - حديث عمر بن الخطاب مع حارثة بن زيد، بعد أن اخبره بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه واله في ولاية علي وخلافته،اذ قال حارثة بن زيد له:
ويحك ياعمر! كيف تقدمتموه وقد سمعت ذلك من رسول الله؟
فقال: ياحارثة، بامر كان.
فقال:من الله،ام من رسوله،ام من علي؟
فقال:لا، بل الملك عقيم، والحق لابن ابي طالب.
نعم،الملك عقيم، ولا شيء آخر وان كان الحق لابن ابي طالب، وهو اعتراف بالالجام أقرب من ان يكون حجة على موقفه، ولو ملك عمر ان يقول غير هذا في الرد على حارثه لما فاته ان يقوله.
وهذا الموقف من عمر يشبه موقف عائشة ام المؤمنين، حينما دخلت عليها امرأتان من نسائها فسألتاها عن علي عليه السلام،فقالت:
(عن أي شيء تسألن عن رجل وضع من رسول الله صلى الله عليه واله موضعاً.فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه،واختلفوا في دفنه، فقال: ان أحب البقاع إلى الله مكان يقبض فيه نبيه؟
قالتا : فلما خرجت عليه؟
قالت:أمر قضي، ووددت ان أفديه ما على الأرض من شيء ) ([6])
اذن، فلا حجة اسلامية يمكن أن يركن قادة هذا الاتجاه اليها في تعليل مواقفهم المناوئة للولاية،اذ كان من الحريّ ان تذكر في مثل هذه المحاورات لو وجد بعضها بشكل أو بآخر، وحين يكون موقف هؤلاء القادة المبرزين بمثل هذا الضعف، فمن الطبيعي أن لا تؤمل القوة في موقف اتباعهم، فالى كلماتهم تنتهي الكلمات، والى حجتهم تنتهي الحجج، ومحال أن تكتسب القوة من الضعف،لان فاقد الشيء لا يعطيه، كما هو معلوم.
بل ولأن إلجام الألسن تجاه الولاية قد أصبح من المرتكزات المعروفة بين المسلمين عامة، فقد أمكن لبعض الناس أن يستخدمه لتحقيق مآرب سياسة خاصة، كما فعل عمرو بن العاص حينما طلب منه معاوية أن يرسل اليه خراج مصر، بعد ان ولاه عليها، فأرسل اليه جواباً فيه قصيدته المعروفة بالجلجلية، اذ يقول فيها:
وعن سبل الحق لا تعدل
على أهلها يوم لبس الحلي
على النبأ الأعظم الأفضل
نزلنا الى أسفل الاسفل
وصايا مخصصة في علي
يبلّغ والركب لم يرحل
ينادي بأمر العزيز العلي
س بأولى؟ فقالوا: بلى فافعل
من الله مستخلف المنحل
فهذا له اليوم نعم الولي
وعاد معادي أخي المرسل
فقاطعهم بي لم يوصل
عرى عقد حيدر لم تحلل
فمدخله فيكم مد خـــــــلي
لفي النار في الدرك الاسفل
من الله في الموقف المخجل
ويــــــــعتز بالله والمرسل
ونحن عن الحق في معزل
لك الويل منه غداً ثم لي
بعهد عهدت ولم توف لي
يسير الحطام من الاجزل
م لك الملك من ملك محول
تذود الظماء عن المنـــهل
معاوية الحال لا تجهل
نسيت احتيالي في جلّق
إلى أن يقول فيها:
نصرناك من جهلنا يا بن هند
وحيث رفعناك فوق الرؤوس
وكم قد سمعنا من المصطفى
وفي يوم خم رقى منبراً
وفي كفه كفه معلناً
ألست بكم منكم في النفو
فانحله امرة المؤمنين
وقال:فمن كنت مولى له
فوال وليه يا ذا الجلال
ولا تنقضو العهد من عترتي
فبخبخ شيخك لما راى
فقال ويلكم فاحفظوه
و إنّا وما كان من فعلنا
وما دم عثمان منج لنا..
وان علياً غداً خصمنا
يحاسبنا في امور جرت
فما عذرنا يوم كشف الغطا
الا يابن هند ابعت الجنان
واخرت اخراك كي ما تنال
واصبحت بالناس حتى استقا
وكنت كمقتضٍ في الشراك
إلى أخر القصيدة التي يذكر منها في كتاب الغدير ستة وستين بيتا اقتبسها من مختلف المصادر. ([7])
ويروى الاسحاقي في لطائف أخبار الدول: انه كتب معاوية إلى عمرو بن العاص:
( انه قد تردد كتابي لك بطلب خراج مصر، و انت تمتنع وتدافع،ولم تسيره، فسيره لي قولاً واحداً وطلباً جازماً.
فكتب إليه عمرو بن العاص جواباً وهي القصيدة الجلجلية المشهورة .. الى أن يقول- بعد ذكره لابيات منها - : فلما سمع معاوية هذه الابيات لم يتعرض له ([8]) -
وواضح انه لولا ان عمرو بن العاص كان يعلم ان معاوية لا يستطيع مقابلة هذه الحقائق بحجة مقنعة لم يكتب له ما كتب، ولم يكن ليتم له ما أراد،اذ ليس معاوية من الوهن والضعف أمام عمرو بن العاص بهذه الدرجة التي جعلته يستكين لعمر بهذا الشكل السريع، فمعاويه أدهى وأمكر من أن يغلب بهذه السهولة لولا تلك الحقائق التي طرحها عمرو واستخدمها لتحقيق مآربه معه.
الولاية والفطرة الإنسانية
و مجلى آخر من مجالي رعاية الله تعالى لولاية علي عليه السلام ترد ضمن هذا التوحّد الذي اخذته النصوص السابقة بين هذه الولاية وغيرها من حقائق الإسلام ومكوناته.
ولفهم هذا المجلى من رعاية الله بشكل واضح نستذكر مرة أخرى ما يعنيه عنصر الحق في التزام الإسلام كقيمة مطلقة تتمحور عندها جميع القيم والمفاهيم و الاحكام الاسلامية.
اذا قلنا سابقاً، ان الحق في دين الله يعني تطابقه الكامل مع واقع الانسان، كما خلقه الله وسواه، وكما شاءته حكمته فيه، دون أدنى تفاوت أو خلل،أو فرض حكم أو مفهوم عليه لا يستقيم مع اتجاهاته الفطرية و اصوله الذاتية.
فحكمة الله تعالى حين شاءت ان توجد الانسان بالشكل الذي أوجدته به، وملّكته من المميزات والخصائص مالم تملكه لغيره من موجودات الأرض، وحين شاءت أن تجعل منه واعياً متبصراً لما يحيط به من ظواهر الوجود، وان تعطيه عقلاً مميزاً،وقوى مختارة مريدة، يستطيع أن يحقق بها خلافته لله في هذه الارض.. فحينئذ كان لابد لهذه الحكمة أن تتحفظ على هذه النعم في الانسان، وهي تشرّع له نهجه في الحياة، وان لا تحيد عن أي منها في حكم من أحكامها، لأنّ أيّ تجاوزٍ لواحد من هذه الخصائص الانسانية يعني خروج تلك الحكمة عن مقتضياتها في خلقها للانسان، وتفاوتاً بين غايات الايجاد وغايات التشريع،وهذامن المحال كما هو واضح.
اذن فالتزام الاسلام لعنصر الحق يعني - في أحد دلالاته القريبه- ان دور الاسلام في البشرية ومهمته في قيادة الانسان نحو أهدافه العليا، انما ترد ضمن آفاق معاني كلمات الهدى والنور والبرهان وشبهها، و الأخذ بيد من شاء من الناس إلى حيث الشفاء والرشد، وهي جميعها معان تشترك في تحفظها على الاختيار الانساني وعلى حريته في أخذ ما يأخذ، وترك ما يترك، دون قسر أو إكراه.
كما يعني هذا الالتزام أن دلائل الاسلام وبيناته، وحجة الله فيه انما ترد ضمن مفهوم ابلاغ كلمته إلى البصائر، وقيام برهانه بين الناس، وملء وعيهم وقناعتهم بتلك الكلمة والبرهان بشكل لا يسلب ما للاختيار من دور، ومل للبصيرة من مهمة في قيادة السلوك وفي قبول ما يقبله الانسان من الأمور ونبذ ما ينبذه منها، دون الجاء أو اجبار.
ومهمات الرسل و الانبياء و اصفياء الله كافة عليهم السلام انما تأتي ضمن هذا الخط أيضاً،وفي مدى هذه الحدود، فمسؤولية أيٍّ منهم لا تعدو مفاهيم الابلاغ والتبشير والانذار، وتشخيص كلمة الله تعالى شواهد حية قائمة بين الناس في السلوك والتصور، فلا جبر منهم لأحد من الناس على اتخاذ موقف معين ، ولا اكراه لهم بشكل لا يستقيم مع اختيارهم وارداتهم، و انما هو النور والبرهان وإقامة الحجة
] وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين [ ([9]).
] ولقد ارسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [([10])
فتحقق التبشير و الانذار من رسل الله عز وجل، وبلاغهم لبيناته، واقامتهم لحجته شاهداً قائماً أمام البصائر هي المهمات المطلوب تحقيقها من أولئك المصطفين عليهم السلام، حينما أوكلت اليهم امور دين الله تعالى، وانيطت بهم مسؤولياته الكبرى في هذه الحياة. كما أنها هي المقياس الذي تقاس به جهودهم،انفسهم في الوفاء بها. كمدى استجابة الناس لهم،وكثرة متبعيهم مثلاً، فهي أمور لا ترتبط بمسؤولياتهم ولا أثر لها في وفائهم بها.
وهي نواح واضحة، تستبين من الآيات السابقة، وغيرها كقوله تعالى:
]ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون [ ([11]).
]وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعاً فان الله غني حميد [ ([12])
ومن الطبيعي أن لاتخرم هذه القاعدة أيضاً في محمد صلى الله عليه واله نفسه من بين رسل الله عليهم السلام، فمهمته في الحياة كذلك لم تعدُ التبشير و الانذار واقامة رسالة الله في هذه الأرض شاهدا حيا، ينير للبشرية دروبها في مختلف أصعدة الحياة.
] يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً [ ([13])
]فان تولوا فإنما عليه ما حملّ وعليكم ما حمّلتم وان تطيعوا تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين [[14] )
الا أن هذه الفسحة التي أعطيت للإنسان في الاختبار، وفي قبول أو نبذ كلمة الاسلام، ومكنته من أن يتعامل معه من خلال مميزاته الإنسانية لا تعني أن النتائج التي سيحصل عليها واحدة في جميع الحالات، وفي كل من موقفي السلب و الإيجاب معاً، و ان الثمرة التي سيجنيها متشابهة في كلا الاتجاهين.
كلا، أبداً، فهناك فارق عظيم بين االنتجيتين لفارق ما بين سببيهما.
ان الفارق بينهما هو فارق مابين النور والظلام .. مابين الاستقامة مع الحق والتيه في ضلال الباطل.
ولا شك ان السلوك في سبيل واضح المعالم، مستقيم الاتجاه، مع دليل مأمون العثرات والانحراف، نحو غاية معلومة للسالك مطلوبة له، يختف - في آثاره ونتائجه - عن السير الأعمى في متاهات و مفازات لا يعلم السائر فيها مبدأ من منتهى، ولا يدرك منها حتى مواقع أقدامه، وتكتنفه المهالك في كل خطوة .. قال تعالى:
] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم. الله ولي الذين آمنوا يخرجوهم من الظلمات إلى النور. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون [ ([15])
نعم، هذا هو الفارق بين اتباع الاسلام في نهجه القويم، و اتباع غيره من السبل التي يراها المرء في مختلف جوانب الحياة والفكر، وان صورت هذه السبل في ملامح أخّاذة ومناهج منتظمة وخطوط موحّدة المشارب، الا ان النتائج انما هي تبع للواقع لا للمظاهر وللدعاوى الفارغة. كما هو معلوم.
و الإسلام حين التزم في بيناته المختلفة سمة الحق قيمة مطلقة، وتحدى العقول كافة بهذا الالتزام، إنما قصد أن يجعل القيمة هي الميزان العام الذي تحاكم به الحقائق كافة، و الأساس الذي تعتمده جميع الآثار والنتائج التي تتأتى منه أو من غيره في حياة الإنسان، وهو يسلم قياده إلى مذهب من المذاهب،أو يتبع ديناً من الأديان كما علمنا- وكما قلنا كذلك- فان التزام الإسلام لهذه السمة ليس دعوى فارغة منه لا رصيد لها في ذاته، و إنما هو الواقع، و إنما هي الحقيقة التي دعى العقول والبصائر إلى تأملها وادراك معالمها في كل كلّيّة أو جزئيّة في شؤونه ومكوناته.
اذن، فهناك رشد أو غي، هدى أو ضلال، صلاح أو فساد، حياة أو هلاك، كرامة من الله سبحانه أو مهانة.. ثم وبعد الموت والنشور جنة عرضها السماوات و الأرض، أو نار((أحاط بهم سرداقها، وان يستغيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقاً ))
من مجالي رعاية الله سبحانه لدينه العظيم
أما الرعاية الإلهية التي تتجلى للإنسان في دين الله من هذه الناحية بالذات،وتبرز لوعية مع أدنى التفات، فيمكننا ان نقف منها عند مجليين:
الأول: ذلك القرب المباشر في حقائق الاسلام كافة من فطرة الانسان ذاته..وهو عنوان واقعية الاسلام التي يستحيل ان ينالها مذهب من المذاهب او دين من الاديان سواه.
فهو قرب يمزج بين هذه الحقائق(بما تحويه من تصورات واحكام ومُثُل انسانية وغيرها) مع تطلع الانسان نفسه الى الحق،وطموحه الذاتي الى الاستواء،والى استقامة الوجود،لا في جانب خاص من جوانبه،وإنما في جميع الجوانب الفكرية والسلوكية والأخلاقية وغيرها..
وهي ميزة التزمها الله تعالى مشرع الاسلام،واخذها على نفسه حين تعهد للانسان أن يجعله دين الفطرة وصبغته التي انشأ عليها تكوينه هو،بل وتكوين جميع مظاهر الخلق..قال تعالى:
] فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم [ ([16])
]صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ ([17])
وشواهد هذا القرب الفطري لحقائق دين الله من الانسان يجدها كل فرد من نفسه،وهو يتبع بصائر الله تعالى ويسترشد بيناته في سلوكه نحو غاياته الرفيعة في الحياة،قبل أن يلمس دلائلها وآثارها في الحياة الانسانية واستقامتها في مسيرتها نحو اهدافها الفطرية العليا،وسعادتها وكمالها الساميين.
الثاني: ذلك المدد الرباني الذي يعضد المؤمن وهو يستمسك بعروة الاسلام الوثقى،فلا تزل له قدم في مسرى،وذلك النور الذي يملأ بصيرته،وهو يسترشد هداه،فلا يزيغ به هوى في تصور او سلوك،وذلك العون ومدد القوة اللذان يثبّتانه على الحق في كل موقف.
وهو كذلك التزام اخذه الله تعالى على نفسه للاسلام وهو يقدمه للانسان مناراً له في الحياة ورصيداً ابدياً لاستقامته التامة فيها نحو الكمال،قال تعالى:
]يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة... [ ([18])
]والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم [[19]
]والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين[([20])
الولاية والواقع التكويني والانساني
وعليه فحين اعتبر الاسلام ولاية علي عليه السلام واحدة من أهم أصوله وحقائقه،فمن الطبيعي أن تتراءى فيها هذه المطابقة التامة مع واقع الوجود التكويني والانساني،وكما اقتضته حكمة الله فيه.كما يتراءى فيها نفس الدور الذي انيط بالاسلام والمهمات التي اضطلع بها مصطفوه المنتجبون عليهم السلام عامة،ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه واله منهم خاصة.
وبالفعل،فهذا هو ما دلت عليه دلائل الولاية من نصوص الاسلام كافة. فالحجة الالهية فيها لم تَعْدُ التبشير بها و الانذار من مجانبتها، فهي لم تكره أحداً من الناس على اتّباعها،ولم تقسره على التزامها وراء اختياره وقناعته...
" من كنت مولاه فعلي مولاه.."
" فان الله مولاكم وعلي امامكم، ثم الامامة في ولدي من صلبه الى القيامة"
ولكن- كما في سائر حقائق الاسلام الاخرى- فان النتائج المترتبة على التزام الانسان لهذه الولاية تختلف عن النتائج المنتظرة من مجانبتها والصد عنها،واثار كل من النهجين تتفاوت عن آثار النهج الآخر، تفاوت مابين الهدى والضلال...ومابين الاستقامة في سبيل الله تعالى والانحراف عنه...
" اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله"
"فلا تضلوا عنه ولا تستكنفوا منه فهو الذي يهدي الى الحق ويعمل به.لن يتوب الله على انكره ولن يغفر له،حتماً على الله ان يفعل ذلك ويعذبه عذبا نكراً ابد الآبديين"
كما يتجلى في هذه الولاية أيضاً ذلك القرب المباشر من الفطرة الانسانية حيث اخذه الله عز وجل على نفسه حين شرع مختلف حقائق الاسلام وبيناته.
وهي رعاية ربانيه خاصة لا يرتاب فيها احد ،ويدركها كل متتبع لمعالم الحق في هذه الولاية...
وقد سبق آن لاحظنا أن مختلف الاسئلة التي ترد على الفكر في إتمام كلمة الاسلام،وقيام حجته بعد الرسول صلى الله عليه واله وعظمة حكمة مشرعة كلها لا تجد جوابها المقنع بدون هذه الولاية...
كما لاحظنا أن اطمئنان القلب بالايمان لا يتحقق بدونها.
ورأينا استحالة ان تكتمل جميع حقائق الاسلام وتنتظم بيناته بدون هذه الولاية وبدون ان تؤيد برعايتها وقوامتها،اذ الولاية نفسها هي المظهر الاسمى لتلك الحقائق كافة ومنبع تلك البينات جميعا.
وهذا يعني ان هذه الولاية وشؤونها ليست قريبة من ذات الانسان وفطرته فحسب،وانما هي واحدة من العناصر المهمة لهذا القرب في اي حقيقة اسلامية اخرى- كما هو واضح مع ادني تأمل- اذ بالولاية تستكمل مختلف حقائق الاسلام استقامتها مع الروح الاسلامية العامة،وهو امر يستشعره كل احد يقارن بين ما يرده من الحقائق الاسلامية من خلال نهج الولاية وما يرده منها من خلال سبل اخرى بعيدة عنا اذ سيرى من الاستقامة والتكامل ووضوح الواقعية الاسلامية مع اتباع ذلك النهج ما لا يكمن ان يراه في أي من هذه السبل الاخرى.
و من هنا كان لمذهب أهل البيت عليهم السلام مزايا ه المعروفة،وخصائصه الفكرية والمنهجية المتكاملة،التي لم يستطع بلوغها مذهب آخر من المذاهب الاسلامية.كما كان لهذا المذهب استقامته الفريدة مع كلمة الرسول الله صلى الله عليه اله والقرآن ومع شواهد الاسلام الأخرى، فلا ادعاء دون أصل،ولاتمحل في فكرة، ولاتفاوت في حكم،وهي مسألة يشهدها كل متتبع لهذه النواحي...كما يشهد بها حتى اولئك الذين ابتعدوا عن علي عليه السلام وحاولوا الاستقلال بأنفسهم في التزامهم بدين الله دون الرجوع اليه،أو أشركوا غيره معه في هذا الالتزام بعد الرسول صلى الله عليه وآله.
وقد راينا أن عمر بن الخطاب نفسه كان يرى آن قول علي عليه السلام هو من السنة..
ولا اطيل باقتباس مزيد من شواهد هذه المسألة،اذ ما اكثر المواقف التي عمل بها المسلمون بقول علي عليه السلام، بعد أن اوقفتهم الحيرة،وتلك المواقف التي رجعوا فيها الى قوله عليه السلام بعد أن زلت بهم الأقدام ولم يستكنف آيٌّ منهم عن هذا الرجوع بعد آن لمس من نفسه الوقوع في الخطأ،او النكول عن الحق،وعن نهج الاسلام المستقيم.
وناحية اخرى يبرز بها ذك القرب الفطري للولاية وشؤونها،ايضا..
انه توحّد البنية الاسلامية في مذهب أهل البيت عليهم السلام..
ففي هذا المذهب تتكامل أصول الاسلام وفروعه ،وتصوراته وتشريعاته،وتتوحد جميعها في خط موحد المعالم والقضايا،مع العطاء القرآني وسنة الرسول صلى الله عليه واله من جهة،ومع التطلع الذاتي للانسان الى الحق والى دلائله الواضحة في دينه العظيم من جهة اخرى،وهو ما لم يرق اليه مذهب من المذاهب الاسلامية المعروفة سواه.
وفي هذه الولاية أيضاً يتجلى توفيق الله للانسان المؤمن بما يعضده من مدد وهو يستمسك بهذا النور الالهي، ويثبته وهو يستقيم في سبيله، ويعينه على تحمل مسؤولياته الكبرى فيه،مع كل حال وعلى اي صعيد:
" اللهم وال من والاه....وانصر من نصره...."
" مرحوم من صدّقه "
وقد سبق ان لاحظنا عدم اطمئنان القلب في ايمانه بدين الله ذاته،مالم ينطلق فيه الولاية.
كما ان هذا المدد والتثبيت السديد الرباني لحملة راية الولاية من أبناء الاسلام ومخلصيه هو العنصر البارز في مختلف المواقف التي وقفوها حتى في أحلك الظروف،وأشد الأحوال، فلم تهن لهم حجة، ولم تزغ بهم كلمة، ولم يتفاوت لهم قول يمكن للآخرين أن ينفذوا منه الى ذات الولاية،أو الى وضوح كلمتها، أو الى قيام حجة الله فيها،مع غض النظر عما ينال أشخاصهم من نتائج،اذ نحن لا نتكلم هنا عن الامتحان الالهي لحملة الحق،ولا نتكلم عن مدى نجاحهم أو فشلهم في هذا الامتحان، ولا نتكلم عن مدى قوة أو ضعف ايمان كل منهم، فكل هذا مما لا يمس حديثنا من قريب أو بعيد.فان ما يعنينا هنا هو اثر تلك المواقف على ذات الولاية واتمام كلمة الله فيها.
اذ بينما تتأثر مختلف المذاهب – الاسلامية منها وغير الاسلامية- بمواقف المخلصين من أتباعها ومريديها وكلماتهم ومعالجاتهم للامور سلباً أو ايجاباً،فان الولاية- مثلها مثل الرسالة المحمدية التي اعتمدتها- أرفع من أن تتأثر بموقف أحد، دون ذويها الذين ارتضاهم الله لها، وان كانت هي في نفسها مدداً من القوة الالهية والروح الرابنية والعطاء الاسلامي تمد كل كلمة من كلمات مخلصيها،وكل موقف من مواقفهم بالقوة والروح والعطاء.
وما يذكره التأريخ لأولئك المؤمنين بالولاية من مناظرات ومواقف كلها شواهد قريبة على هذه الرعاية والتسديد الربانيين،ولعل في مواقف حجر بن عدي ورشيد الهجري وسعيد بن جُبير وغيرهم من حملة الولاية الأوائل خير غناء لمن يريد الاطلاع على هذه الناحية.
اما حين تهن القوة في أحد أولئك المريدين،وتضعف لديه الكلمة لسبب من الأسباب، فان الفشل الذي يصاب به انما يقتصر عليه وحده،اذ سيتبين له هو- قبل غيره من الناس- ان هناك خللاً في اخلاصه للولاية او انحرافاً عن نهجها،او زيغا عن هداها فيما قال او فعل،لتبقى هي- كما تبقى رسالة محمد صلى الله عليه واله التي التزمها بعيدة عن اي سلبية وقع فيها، سامية على أي فشل أصيب به.
عصمة الولاية من الناس
أما عصمة الله تعالى لولاية علي (عليه السلام) من الناس،وتعّهده للذود عنها،ومنعة أمرها، فهو- وكما قرأنا- صريح قوله تعالى في آية التبليغ:
]والله يعصمك من الناس [([21])
فهو تعد رباني لابد من الوفاء به كأكمل ما يمكن الوفاء،لا في الحدود الشخصية الخاصة للرسول( صلى الله عليه واله)، وصيانة حياته من عتوّ بعض العتاة،وتمرد بعض المردة الذين لم يرق لهم اعلان هذه الولاية على الاشهاد، و لا في نفي الريب عن صدقه في هذا الإعلان يوم غدير خم فحسب،و انما عصمته هو،وعصمة رسالته في تشريع هذا المنصب الرفيع من أساس، واسناده لعلي عليه السلام، واعتبارها احد الأركان التي يعتمدها دين الله في وجوده،مع غض النظر عن عامل الزمن أو الظروف أو الأحوال..
وهو عموم يَدل على سياق الآية المباركة نفسه، قبل أي شاهد آخر عليه...
]يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس[([22])
فمضافاَ إلى ما سبق أن أشرنا إليه في العديد من المواضع من دلالة هذه الآية المباركة على مكانة هذه الولاية في دين الله، ودورها الكبير في قيام صرحه، فان اختيار السياق لكلمة (الرسول) من أسماء النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وصفاته يعني جمع شخص الرسول ورسالته معاً في الخطاب والمسؤوليّات...ثم في هذا التعهد الرباني بالعصمة من الناس أيضاً. فما كان شخص الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) - كرسول لله تعالى- ليعصم من الناس لو استطاع اخذ النيل من قدس رسالته،كما لم يكن كيان رسالته كذلك لو أمكن لأحد أن يطال قدس الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بشيء يوهنه أمام البصائر.
ويؤكد هذا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) مستفيضاً في بيان وحدة مابين رسالته هو ( صلى الله عليه واله وسلم ) وولاية علي (عليه السلام ) و أبنائه المنتجبين(عليهم السلام)، و ما بينه هو وبينهم من رابطة وثيقة عنوانها وحدة المنهج والسير والهدف والنتائج كقوله (صلى الله عليه واله و سلم ):
(علي مني وانا من علي) ([23])
إضافة إلى ما سبق ان قرأناه في أحاديث وحدة طينتي الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) وعلي (عليه السلام ) ووحدة شجرتهما،و انهما كانا نوراً بين يدي الله قبل خلق آدم...وغيرهما.
كما يؤكده دعاء الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لعلي (عليه السلام ) حينما أعلن ولايته على الأمة:
(( اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)).
فهو دعاء يستحيل أن يُرد فالرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) أسمى عند الله من أن يرد له دعاء، والولاية اعظم في دينه واجل من أن يتهاون في أمرها ولو بصغير من الأمور.
والواقع أنّّ أي ملاحظة لأمر هذه الولاية وخلود حجتها مع الزمن لتؤكد- دون ريب- أن الله سبحانه وفى لرسوله (صلى الله عليه واله وسلم ) ما تعهّده له من العصمة، وانّه قد استجاب له دعاءه أكمل استجابته... سواء في إستقامة الولاية ذاتها مع نهج الإسلام ، بل واستقامة الإسلام نفسه بالولاية كما علمنا،أم في العصمة الذاتية لعلي (عليه السلام ) و أبنائه المنتجبين،وانتظام حياتهم المطلق مع الحق ودلائله، فلا زيغ ولا إنحراف، ولا خطأ ولا نسيان يمكن أن ينفذ منه المتطاولون على قدس الرسالة أو الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم )، أم في قيام الحجة الإلهية بهذه الولاية، وذود الله (عزّوجل) عنها نيل النائلين وكيد الكائدين،وإمداده إياها بمختلف عوامل الحياة والاستقامة الأبديين رغم ما بذله الباذلون من جهود،ووضعه الواضعون في مسارها من عبقات وشبهات...
...انّها لرعاية إلهية خاصة، واضحة البرهان،يعلم طبيعتها وخصائصها كل من قرأ في تأريخ الإسلام وعرف شيئاً مما حاولته أيدي الإحن والضغائن من عبث، و اطفاء لأنوار كلمة الله بها...
ضرورة الحسم الالهي
ولكي يتضح لنا بعض ما تعنيه هذه الرعاية لابد من العودة إلى ما لاحظناه من اعتماد البعد الاختياري في الالتزام بدين الله...
فالحكمة الربانية التي انشأت الإنسان، و أفاضت عليه مميزاته وخصائصه وقواه المعروفة،انّما أنزلت الإسلام من أجل الوفاء بحاجته إلى الهدى، وسداد فاقته إلى الإستقامة مع سمة الحق في هذه الحياة من خلال هذه المميزات والخصائص والقوى خاصة.
ولكن وكما لم يعن هذا الإعتماد على الإختيار في قبول أو رفض هذا الدين،انّ النتائج التي سيكسبها الإنسان في كل من الموقفين واحدة،لا يعني كذلك أن هناك ضعفاً في قدرة الله تعالى عن تحقيق ما شاءته حكمته من أمر،فهي قدرة مطلقة مهيمنة يستحيل أن ينالها ضعف وتحدها حدود.
و لا يعني أيضاً ايكال كلمة الله في هذا الدين وحجته إلى الناس، وتفويض أمرها إليهم دون ضمان الهي، بتعهد إتمام نورها، وبلوغ رشدها إلى العباد، فهذا بعض حدود الله وشؤونه الخاصة،ويستحيل أن يهملها،أو يسلم أمرها إلى أيد غير مأمونة التصرف دون سند من قوته ومنعته سبحانه.
ولهذا فانّ افساح مجال الإختيار للإنسان في أن يقبل أو لا يقبل دين الله تعالى،أو يتمثل أو لا يتمثل بعض حدوده وأحكامه،ولا يعني تمكينه من التطاول على حجته أو اسلام هذه الحجة إليه ،دون سند حافظ من قوّة الله تعالى ومدده.
كلا...أبداً،إذ لابد من التفرقة بين ما هو من شأن الله سبحانه من إتمام نوره وإقامة هداه في هذه الأرض، وما هو من شأن الإنسان في قبول أو رفض هذا الهداى والإستهداء أو عدم الاستهداء بذلك النور...
فحين يوكل هذا الإختيار إلى الإنسان ذاته، بعد اقامة الحجة عليه،لأنه مقتضى حكمة الله سبحانه في انزال دينه. فانّ ذلك الإتمام مما يجب آن تتعده رعاية إلهية خاصة، تحقق لكلمة الله علوها، ولحجته بلوغها،ولا يجوز أن يوكل أمرها إلى أحد سواه ،دون مدد من تلك الرعاية،أو سند يكلؤها من أيدي العبث،و أدران الجهالات ،وشطط الأهواء،فتعالى الله عن العجز،وتعالت كلمته عن القصور.
والقضية بهذه الحدود العامة من المسلمات المعروفة،وقد ايدها الكثير من النصوص الإسلامية، القرآنية منها وغير القرانية... قال تعالى:
] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون[([24])
]انّ الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الاذلين. كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز[([25])
الى غير هذه الآيات.
من تجليات العناية الربانية لكلمة الله
نعم،لابد من الالتفات هنا إلى أمرين مهمين متداخلين:
احدهما: انّ الموضوع الذي يتحقق به سمو كلمة الله في الإسلام وتمامها إنما هو الإنسان وحياته الفعلية الجارية،إذ الإسلام انّما انزله الله لهدى الإنسان نفسه وكفاية حاجته من النور والرشد، وبلوغ درجات السعادة والكمال، فسمو كلمة الله في دينه القويم انّما يتأتى من خلال سمو شواهدهما من أفراد بني الإنسان أو مجتمعاته الذين يلتزمون نهجه ويتبعون سبيله.
ثانيهما: الطبيعة الاختيارية لدين الله تعالى وبصائره،اذ هو لا يفرض مفاهيمه وحقائقه وأحكامه على الإنسان من خارج اختياره.
وتداخل كلا الأمرين بما يستوجب اشراك الإنسان في إقامة هذه الكلمة،بما لها من سمو وتمام في واقع حياته شواهد حية، ولو كعنوان لواقعيتها ونبراس اقتداء تستهديه البشرية في حياتها... وهي مسؤولية حملة الايمان في كل جيل....
وفي هذه الحدود يجب أن ترد الرعايات الإلهية التي تكفل العون لحملة الإيمان وهم يمضون في مسؤولياتهم الكبرى تلك، فمنعة الحق وعزة الايمان- رغم كل العوادي والعقبات- ،وتأثير الأهواء -نقطه لا مسامحة فيها ولا تهاون.
وهي قضية واضحة أكدها الإسلام في مختلف دلائله ونصوصه...
فالله سبحانه هو الضامن لتثبيت الذين آمنو في الحياة الدنيا وفي الآخرة على الحق والهدى،حين يجعلون من الإيمان عنواناً لوجودهم ومواقفعم.
]يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة[([26])
وهو جلّ وعز الكافل لزيادة الذين اهتدوا هدى و ايتائهم تقواهم
]ويزيد الله الذين اهتدوا هدى[([27])
وهو مع الذين اتّقوا ومع المحسنين يمدهم بالقوة والمنعة والسداد في الخطى والرشد في الأعمال:
]واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتكن في ضيق مما يمكرون.انّ الله مع الّذين اتقوا والّذين هم محسنون[([28])
وحين يكتسب المؤمن قوته من الإعتماد على الله عزّ وجل وحده فإنّه سيصبح في مأمن حتّى من الشيطان ومكره وخدعه، اذ لا سلطان له عليه حينئذ ولا تأثير.
] فاذا قرأت القران فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.انّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.انّما سلطانه على الّذين يتولونه والّذين هم به مشركون[([29])
وهو المتعهد بنصرة من ينصره ويحمل راية الهدى والنور،حسب طاقته وقدرته.
]اننا لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الاشهاد[([30])
] ولينصرنّ الله من ينصره انّ الله لقوي عزيز[([31])
ولا ننسى- بهذا الصدد- ما لكلمة الإسلام ذاتها من قرب للفطرة الإنسانية، واعماق جبلّتها اذ هي -بهذا القرب- تكتسب من القوة و المنعة الذاتية مالا تناله كلمة أخرى كما سبق أن علمنا، وقد تتجاوز الرعاية الإلهية الحدود الطبيعية للإنسان.
والنقطة المشتركة في المجالي السابقة من رعاية الله سبحانه لكلمته: انّها تجري - في الغالب -ضمن حدود طبيعة الانسان، وقابليته الاختيارية في الاستقامة مع الهدى، و امداده بالقوة الذاتية أو الصمود على حمل مشعل أنواره، وظهوره على المناوئين في الصراع ليستطيع الوفاء بمسؤوليته-ضمن الحدود التي ذكرناها- في اتمام كلمة الله في حياته وسموها في واقعة دون وهن أو ضعف.
اما حيث تقصير الحدود الذاتية للانسان عن القيام بهذه المهمة،ولو مع هذه الامدادات ذات الصبغة الطبيعية اما لعدم توفر الموضع الكافي من حملة الإيمان لهذا القيام، و اما لعدم مناسبة الظروف الاجتماعية له، واما لوجود شبهة تمنع بصائر الناس عن إدراك الحق في المواقف والتعامل معه،أو لغير هذه من الأسباب. أقول:..امّا حيث تقصر حدود الإنسان عن القيام بهذه المهمة،فانّ لحكمة الله سبحانه سبلها الخاصة في تحقيق غايتها كافة، وان تجاوزت هذه السبل تلك الحدود الطبيعية للإنسان.واستوجبت المباشرة في التدخل الإلهي الحاسم لإتمام نور الحق وإقامة حجته، وقطع يد الباطل عن أن تنال بعض مبتغياتها من كمال ذلك النور أو تطال شيئاً من سمو تلك الكلمة.
فقد قلنا: انّ هذا الحسم شأن الهي خاص، يقتضيه الحق ذاته،ويستحيل أن يوكل الأمر فيه إلى غير الله تعالى دون ضمان منه.
ولا يقف هذا التدخل الإلهي المباشر عند نموذج واحد فقط ، ولا في صعيد خاص، ولا في حدود موضوعية فحسب، و انّما هو يجري في موارده حسب مقتضيات الحكمة، وما تتطلبه ضروراتها في أي حد وفي أي شكل وأي صعيد....
ولهذا فهو قد يبرز كمؤيد رباني لدعوى القيّم على الحق في ارتباط كلمته بالله تعالى واصطفائه له، حيث تحتاج العقول إلى ما يثبت هذه الدعوى وصدقها دون أدنى ريب.
وفي هذا النوع تندرج معاجز الرسل ولأنبياء والأوصياء في دعواهم الأولى من الإصطفاء الإلهي وسفارتهم عن الله تعالى. كما تندرج فيها اشراقتهم الخارقة على النفوس، والسبل التي يمتلكونها في انفاذ كلمة الحق اليها دون عناء. وهي رعاية إلهية لابد منها لإثبات صدق هؤلاء الأصفياء (عليهم السلام ) دون أي ريب يمكن أن يعتري النفوس، وثم في مضيهم لتحقيق ما اسند اليهم من مهمات،فبهذه الرعاية تتم لكلمة الله تعالى عزتها ومنعتها واستقامتها نحو غاياتها، دون وهن أو اختلاف.
وفي هذا النوع كذلك يجري التأييد الخارق للعادة الجارية في اسناد مخلصي كلمة الله في مواقف اقتضت الحكمة نصرهم فيها في حين تضعف قوتهم من تحقيق مثل هذا النصر والغلبة في الموازين الاعتيادية الجارية،كما سجله القرآن في أحداث بدر شاءت حكمة الله تعالى أن تفتح به صحيفة جديدة للإسلام، بينما لم تكتمل للمسلمين- بعد- وسائل القوة والمنعة الكافية لتحقيق مثل هذه العناية التي لم تؤخذ فيها حدود ذلك العصر وحده، و انّما في كل عصور البشرية التي انزل لها هذا الدين،فكان لابد لهم من أمثال هذا التأييد الرباني المباشر،قال تعالى:
] كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وانّ فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. واذ يعدكم الله احدى الطائفتين انّها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. اذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلاّ بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلاّ من عند الله انّ الله عزيز حكيم. اذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام. اذ يوحي ربك إلى الملائكة أنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان.. [([32]) إلى آخر السياق المبارك..
واضح أنّ العناية الربّانية التي حكتها هذه الآيات المباركة والآيات التي بعدها من السياق، قد مازجت بين النوع السابق من تجلياتها كتغشية النعاس للمؤمنين، وانزال الماء من السماء .والربط على القلوب،وهذا النوع الخارق للعادة كإنزال ألف من الملائكة المردفين،حيث كانت طبيعة الموقف تقتضي تواتر هذه العنايات وتكاملها لقصور الظروف الطبيعية الموجودة عن تمكين المؤمنين من تحقيق ذلك النصر المبين دون توفر مثل هذا الاسناد الإلهي المباشر،هذا بينما ]يريد الله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون[([33])
فكان من ذلك المزيج المتكامل لرعايات الله تعالى – مع اخلاص حملة الايمان في ذلك اليوم الخالد ، هذا النصر المبين الذي فتح به الله لدينه أبواباً أبدية في قيام الحجة وظهور الأمر ، وتمام الكلمة ، وعزتها ، وقطع دابر الكافرين.
ولا نحاول الإطالة باقتباس مزيد من الشواهد – وهي كثيرة في القران – بعد وضوح المطلوب في الشواهد السابقة .
وقد يبرز هذا التدخل الربّاني المباشر – في حالات أخرى – بشكل يتكفل هو وحده الدور الأكبر في إقامة كلمة الله وإثبات حجته ، وإيضاح برهانه ، حيث يتضاءل الدور الإنساني معه إلى درجة ثانوية في تحقيق تلك العناية ، وهذا النوع من الرعاية الإلهية يرد في موارد تنقطع فيها البصائر عن إدراك معالم الحق إلاّ من هذا السبيل المعجز.
وقد ذكر القرآن بعض أمثلة هذا النوع أيضاً، كما حدث ليوسف ( عيله السلام) حين برّأه الله من دواني الأخلاق وموهنات الأعمال كما قال تعالى :
] وراودته التي هو في بيتها عن نفسها وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله انّه ربي أحسن مثواي انّه لا يفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها لولا أن راى برهان ربّه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين . واستبقا الباب وقدّت قميصه من دبر والفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من اراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم . قال هي راودتني عن نفسها وشهد شاهد من أهلها ان كان قميصه قدّ من قُبلٍ قصدقت وهو من الكاذبين . وان كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلمّا راى قميصه قدّ من دبر قال انّه من كيدكن انّ كيدكنّ عظيم [([34]).
وكما هو الشأن ايضاً مع مريم إبنة عمران حينما ولدت عيسى ( عليه السلام) وتنقية شرفها وشرف وليدها ( عليه السلام) عن ان تلوكه ألسنة السوء وهي تلده لا عن زوج . قال تعالى :
] ... فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً. يا أخت هارون ما كان أبوك إمرأ سوء وما كانت أمك بغياً. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً. قال انّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً اين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيا ً[([35]) . إلى كثير من هذه الامثلة القرانية .
امّا في السنة فأمثلة هذا النوع والنوعين السابقين من التدخل الالهي والرعاية الربّانية لكلمة الحق هي أكثر من أن تحصى ، سواء في إثبات صدق أحد المصطفين في دعواه لإصطفاء الله تعالى له أم عن ظهر من مظاهر الرسالة التي يحملها أم في الدفاع عن شخصية من شخصياتها.
ومن هذه الأمثلة ما ذكره الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الرحمن بن ابي بكر، قال:
( كان ( فلان ) يجلس مع النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) فاذا تكلم النبي بشيء اختلج بوجهه . فقال له النبي ( صلى الله عليه واله وسلم) : كن كذلك . فلم يزل يختلج حتى مات)([36]).
وما ذكره ابن سعيد في طبقاته (( ضمن روايته لقصة هجره الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة )).
قال : (( وكان خروج رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) من الغار ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول ، فقال ( يعني نام القيلوله ) يوم الثلاثاء بقديد ، فلما رحلوا منها عرض لهم سراقة بن مالك بن جشعم ، وهو على فرس له ، فدعا عليه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) فرسخت قوائم فرسه . فقال : يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك . واردّ ما ورائي .
ففعل ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فاطلق ، ورجع فوجد الناس يلتمسون رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فقال : ارجعوا فقد استبرأت لكم ما ها هنا وقد عرفتم بصري بالأثر فرجعوا عنه) ([37]). إلى قضايا كثيرة اخرى .
وبهذا يتفق حكم العقل بضرورة هذه الرعاية الالهية لكلمة الحق في تجلياتها المختلفة ، مع هذا المأثورات الاسلامية الواردة في موردها.
ضمان الله لعصمة الولاية من الناس
والوعد الذي قطعه الله على نفسه المقدسة بضمان العصمة للرسول ( صلى الله واله وسلم ) من الناس في إعلانه للولاية يوم غدير خم انّما يرد ضمن هذا الخط أيضاً. فهو تعهد برعايته الخاصة لكلمته في هذه الولاية ووليها العظيم ( عليه السلام) ، وإبقاء هذه الكلمة عليا رغم عواتي الزمن ، وعوادي الاحن. والتي ستستمر مع الولاية منذ نزول الامر بها وحتى الزمن الاخير من حياة الانسان على هذه الارض.
فحين امر الله تعالى رسوله الكريم ( صلى الله عليه واله وسلم ) بإعلان ولاية علي (عليه السلام) على الناس، وحين لبىّ الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) هذا الامر من ربه ، فبلّغها للامة، اصبحت هذه الولاية – ومع غض النظر عن مواقف الناس منها – احدى حقائق الاسلام الكبرى وواحدة من المظاهر البارزة لكلمة الله فيه. وهذا هو المدلول القريب لذلك الاعلان – كما قلنا أكثر من مرة _ .
فمن الطبيعي – حينئذ – ان تحصى هذه الولاية برعاية تتناسب ودورها المهم في قيام صرح دينه، وعنايته من الله خاصة تبقيها ابد الدهر سامية الوجود ، بينه الدلائل، قائمة الحجة ، فهي – بعد هذا الالتزام – مما يستحيل ان يهمل ، او يترك هدفاً للاهواء او عرضه لصراع الاراء والمذاهب ، دون تأييد من الله عزّ وجل وسند من قوته يسمو بها عن أي وهن او خلل ، رغم الظروف والاحوال .
ولا يجدي القول هنا : بأن تضييع امر هذه الولاية انما كان من قبل الناس انفسهم ، بعد اتمام الحجة عليهم في زمن تشريعها كما ضيعوا الكثير من حقائق الاسلام واحكامه ، فلا مانع من ان يوكل امرها اليهم حينئذ بعد ذلك الزمن فان مثل هذا القول انما يصح حيث لا يكون الولاية بمثل هذه الدرجة العظمى التي جعلها الله تعالى لها في دينه القويم ، فهي – كما علمنا – احد الاركان الاساسية في صرح الاسلام ، فعليها تعتمد حقائقه كافة ، وهي اساس مكين لاي حقيقة اسلامية اخرى فهي كالتوحيد والرسالة تماماً في موقها ونتائجها..
] وان لم تفعل فما بلغت رسالته[([38]).
(( افهموا محكم القران ولا تتبعوا متشابهه، ولن يفسر ذلك لكم الا من انا آخذ بيده وشائل بعضده))
(( اللهم إنك أنزلت عند تبيين ذلك في علي (( اليوم أكملت لكم دينكم )) بإمامته فمن لم يأتم به وبمن كان من ولدي في صلبه إلى القيامة فاولئك الذين حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون))
لان تضييع أمر الولاية وإهمال شأنها يعني تضييع مختلف الحقائق الاسلامية وشؤونها وهذا مستحيل في حكمة الله تعالى .
والواقع ان ملاحظة الولاية من خلال هذا المنطلق بالذات تجعلها في غنى حتى عن الحاجة إلى هذا التصريح الوارد في الاية الكريمة بضمان العصمة من الناس، فعصمة الله تعالى للاسلام كله وللرسول ( صلى الله عليه واله وسلم) خاصة معلومة التحقق في الموازين العقلية ، وفي الدلائل الاسلامية الثابتة ايضا ، منذ أول امر نزل للرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) في تبليغ رسالته والصدع بها ، حتى اخر كلمة له في حياته ( صلى الله عليه واله وسلم ) وحتى الايات الواردة بضمان هذه العصمة كثيرة في القران كما قرأناه في مباحث سابقة ..
] إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون[([39])
] فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم [([40])
] واصبر لحكم ربك فإنّك باعيننا.. [([41])
ولكن أهمية الولاية في دين الله وامتداد الرسالة ذاتها بها ، واستمرار مهماتها في واقع الانسان ، جعل من الضروري ان تسند بمثل هذا الضمان الصريح ، تماما كما كان الامر مع الرسالة والرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) في الايات السابقة ومع ان هذا الضمان هو من احكام العقل اليقينية ، ومن مستلزمات حكمة الله المطلقة ، وكمالها في التشريع والتدبير .
اذ لابد ان نلتفت إلى تأثير الاهواء ومداخل الشيطان ومخارجه بين الناس ..
والى موقع الولاية البارز في دين الله ، وهو موقع يجعلها من أوائل اهداف الصراع بعد الرسالة كما هي من اوائل مناصب الاسلام بعدها ..
والى طموحات الطامحين بها بعد الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، فهي اسمى موقع في كيان الامة بعد الرسالة يستحق ان يبذل فيه الباذلون كل جهد ، وان يرتكب في سبيله المرتكبون كل صعبة..
اذن فالولاية – في علم الله المحيط – هدف لصراع مرير ، ودائم في تأريخ الامة المسلمة لا ينتصر فيه التطاول على خصوص مقام الولاية او وليها فحسب ، وانما قد يمضي التطاول بسبها إلى ذات الرسالة كمصدر انتهت منه الولاية سموها ومهماتها في الحياة وفي دين الله تعالى . وكقاعدة اعتمدتها الولاية في وجودها واستمراريتها بعد الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) بل وقد يتناول هذا التطاول قدس الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) نفسه حيث كان هو الصادع بها عن امر ربه ، والمبلغ لاحكامها في دينه.
وحينئذ كان لابد ان يعلن القران بنفسه هذا الاسناد الالهي الخاص للرسول ( صلى الله عليه واله وسلم) في ادائه لهذه المهمة الكبرى بالخصوص ، ليقطع السبيل امام تخرصات المتخرصين ، واهواء المنحرفين وليقف بكل منها عند حد يشعرها هي قبل غيرها بأنها اقصر من ان تنال في جهدها مطمعاً من الولاية او الولي ( عليه السلام) او الرسالة او الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) رغم كلّ ما يطرأ من مواقف ويستجد من امور وما يمضي من حقب التاريخ .
وليكون هذا الضمان – من ثم – احد مجالي الاعجاز الابدي للقران والرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) والولاية ذاتها
] والله يعصمك من الناس [([42]).
من دلائل عصمة الله للولاية من الناس
وبالفعل ، فقد واكبت رعاية الله محمداً ورسالته ، والغدير وولايته ووليه المرتضى(عليه السلام ) ، وعصمت الجميع من الناس ، منذ اليوم الذي صدع فيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالأمر وحتى اليوم ، ضمن ذلك المستوى الرفيع لتمام كلمة الله سبحانه واستيفائها لشرائط الحق كافة .
والشاهد القريب والملموس لهذه الرعاية هو نفس خلود ولاية علي ( عليه السلام ) حتى اليوم ، وقيام حجتها واضحة جلية ، كما أمر الله تعالى لها كل هذه الحقب الطويلة من القرون ، ورغم ما تميزت به من مواقف سلبية وصراع مرير مع هذه الولاية ، ومع كل ما ينتمي إليها من قريب أو بعيد .
فهذا هو الغدير ، وها هو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وها هي ولايته شواهد إسلامية قائمة في هذا العصر ، كما كانت في عصر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكما هي في كل عصر اخر ، تملأ كل وعي ، وتنير كل بصيرة ، كأي حقيقة إسلامية كبرى ، ولم تخف منها حجة ولم يقلل منها برهان ، ولم تقصر عن واحدة من شرائط الحق ، رغم كل ما أعدته لها الأهواء من مفازات مهلكة ، ورغم ما وضعه الباطل لدلائلها من معوقات عن الوصول إلى البصائر ، وما استخدمه ضد أنوارها من تعتيم .
وقد سبق أن لاحظنا ما أحصاه صاحب الغدير ( قدس سره ) في هذا الشأن من شواهد هذا الثبوت مما يعلم معه مدى وضوح هذه الولاية لا في أزماننا المتأخرة فقط ، وانّما في مراحل التأريخ الإسلامي كافة ما سبق منها وما لحق .
ومع أن هذا الخلود والوضوح لم يتجاوز الطبيعة الإنسانية في مثل هذه الأمور ، ولم يعدُ الصيغة المتعارفة بين الناس في نقل الحوادث و الأخبار وأقوال البارزين في المجتمع ، إلا أننا نعلم ما للرعاية الإلهية المباشرة دور في هذا الخلود والموضوع ، حين نلتفت إلى ما أعدته حقب التأريخ المختلفة للغدير ، وللولاية ولصاحبها العظيم ( عليه السلام ) ولمتوليه كذلك من سبل الاستئصال والفناء ، فهي ـ كما نعلم ـ من أولى النقاط المستهدفة في الصراع ومحاولات الإبادة ، والكبت في مختلف الأصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية ، بل ويمكن القول ـ دون مغالاة ـ بأن الولاية كانت محور معظم ما جرى في تأريخ الإسلام من صراع داخلي مرير.
ومع أن التعرض لهذه الناحية ليس من صلب حديثنا في هذا البحث ، ومع أن شواهدها مما يمكن لأي أحد له اطلاع في تأريخ الأمة المسلمة السياسي والاجتماعي والفكري ، بل وفي مختلف العلوم الإسلامية المعروفة الا اننا واستكمالاً لرؤيتنا إلى مدى العناية الربانية للولاية ووليها العظيم ( عليه السلام ) ـ نقبس بعض شواهد التأريخ مما استخدمه بعض ذوي النفوذ في مواجهتهما ، كنماذج سريعة ندرك من خلالها تلك الظروف الصعبة التي مرت بها قضيتهما .
يذكر إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة نقلاً عن شيخه أبي جعفر الاسكافي قال :
( انّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه .... منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير... ) ([43]).
إلى أن يقول : قال ابو جعفر :
( وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ] ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الدّ الخصام . واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد[ ([44]).
( وان الاية الثانية نزلت في إبن ملجم وهي قوله تعالى : } ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله { ([45]).
( فلم يقبل "سمرة " ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل وروى ذلك ..)
( وقال : وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام وعاقبوا على ذلك الراوي له ، حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه ، فيقول : عن أبي زينب .
( وروي عطاء عن عبد الله بن شداد بن لهاد قال : ( وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب يوماً إلى الليل ، وان عنقي هذه ضربت بالسيف ) ([46]).
ونقل ابن أبي الحديد أيضاً عن أبي الحسن المدائني في كتابه ( الأحداث ) انّه قال :
( كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضائل أبي تراب وأهل بيته .
( فقامت الخطباء من كل كورة ، وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة ـ وهو بهم عارف ، لانه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) ـ فقتلهم تحت كل شجر ومدر ، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم من العراق ، فلم يبق بها معروف منهم .
( وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ، الا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.
( وكتب اليهم ، أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ، وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل مايروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .
( ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه اليهم معاوية من الصلات والكساء والجباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حيناً .
( ثم كتب معاوية إلى عماله : ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، وفي كل وجه وناحية ، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب الا وتأتوني بمناقض له في الصحابة . فان ذلك أحب اليّ وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم في مناقب عثمان وفضله .
( فقُرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى ، حتى شادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله .
ثم كتب إلى عماله نسخة واحده إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة انه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع بذلك نسخة أخرى ، من اتهمتموه بمولاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره .
( فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه .
( فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء والمراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان ، فقلبوها ورووها ، وهم يظنون انها حق ، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها .
فلم يزل المر كذلك ، حتى مات الحسن بن علي ( عليه السلام ) فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل الا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض .
( ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولي عبد الملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ولي عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي ، وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس انّهم اعداؤه ، فاكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي ( عليه السلام ) وعيبه والطعن عليه ، والشنآن له ، حتى أن انساناً وقف للحجاج ، ويقول : أنه جدّ الأصمعي عبد الملك من قريب ـ فصاح به : أيها الأمير ، انّ أهلي عقوني فسموني علياً ، وأني فقير بائس ، وأني إلى صلة الأمير محتاج ( فتضاحك الحجاج وقال : للطف ما توسلت به فقد وليتك موضع كذا ...) ([47]).
وروى المقري :
( كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه . فبلغ ذلك رباحا ً فقال : هو ـ يعني ولده ـ عُليٌ ـ بالتصغير ـ وكان يغضب على من سماه به .
( كما روى ابن حجر في تهذيب التهذيب : انّ علي بن رباح قال : لا أجعل في حل من سماني علي ، فان اسمي علي ـ بالتصغير ـ ) ([48]).
ويحدث أبو حنيفة ( إمام المذهب المعروف بإسمه ) قصة حدثت له عندما دعاه أحد الأمويين ليسأله عن مسألة فقهية ، قال :
( فاسترجعت في نفسي لأني أقول فيها بقول علي ( رضي الله عنه ) وأدين الله به فكيف أصنع ؟ ثم عزمت أن أصدقه وأفتيه بالدين الذي أدين الله به ، وذلك ان بني أميه كانوا لا يفتون بقول على ولا يأخذون به ـ إلى أن يقول ـ : وكان علي لا يذكر في ذلك بإسمه ، وكان العلامة بين المشايخ أن يقولوا : قال الشيخ . وكان الحسن البصري يقول فيه : أخبرنا أبو زينب ) ([49]).
ولم يقتصر هذا الاتجاه المتعادي للولاية على خصوص الدولة الأموية فحسب بل امتدا العداء منها إلى ما جاء بعدها من عصور ودول أيضاً .
فالعباسيون مثلاً ، ومع انهم في بداية أمرهم قد اتخذوا من الولاية والقرابة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) عوناً لهم على تحصيل مآربهم من السلطة ، ولكنهم ما ان استتب لهم الأمر، الا وقد انتهجوا نفس المسلك في التعرض للولاية ولأصفيائها المنتجبين (عليهم السلام)، وشيعتهم وتتبعهم تحت كل حجر ومدر ، واستئصالهم ، ومنع الناس من التحدث في مناقبهم أو رواية ما قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيهم ، وافتعال أحاديث في مقابلهم وهكذا .
وقضايا هذا العداء أيضاً لها شهرتها في كتب التأريخ عامة حيث يمكن لأي متتبع أن يراها دون عناء اما نحن فيكفينا ان نقرأ من نماذجه ما ذكره الطبري في تأريخه اذ قال :
( لما عزم المنصور على الحج دعا ربطة بنت أبي العباس أمرأة المهدي ـ وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد ، وعهد اليها مفاتيح الخزائن ، وتقدم اليها وأحلفها ووكد الايمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن ، ولا تطلع عليها أحداً ، لا المهدي ولا هي إلا أن يصح عنده موته ، فاذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة .
( فلما قدم من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح ، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم اليها أن لا يفتحه ولا يطلع عليه أحداً حتى يصح عند موته .
( فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور ، وولي الخلافة فتح الباب ومعه ربطة فاذا زجّ كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين ، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ، واذا فيهم أطفال ورجال وشباب ومشائخ عدة كثيرة ) ([50]).
ونموذج آخر يرويه ابن حجر في كتابه ( تهذيب التهذيب ) قال :
( عن عبد الله بن أحمد : لما حدث نصر بن علي بهذا الحديث ـ يعني حديث علي بن أبي طالب ـ : انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخذ بيد حسن وحسين فقال : " من أحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة ".
أمر المتوكل بضربه ألف سوط ، فكلمه فيه جعفر بن عبد الواحد ، وجعل يقول له : إن هذا من أهل السنة ، فلم يزل به حتى تركه ([51]).
التاريخ والولاية
هذه أمثلة قليلة مما يذكره التأريخ من مواقف حقب معروفة في تاريخ الإسلام .
ولا نطيل في اقتباس أمثلة أخرى ، ففيما ذكرناه كفاية في الدلالة على المقصود..
ويجدر بنا أن نلفت إلى أن هذا التأريخ نفسه قد كتب بنفس تلك الأيدي التي جانبت علياً وابناءه عليهم السلام ، و ولايتهم ، بل وكانت بعضها ممن ناصبهم العداء ، فطبيعي أن لا يهتم التاريخ بذكر الحقائق التي لا ترتضيها تلك الأيدي ، ولئن فرضت بعض الحقائق نفسها عليه لشهرتها ووضوحها ، فطبيعي أن يكون ذكره لها بشكل لا ينال من بريق تلك الصورة التي يضعها لأوليائه وقادة خطه المعادي لعلي وأبنائه عليهم السلام و ولايتهم ، وهو أقل ما يمكن أن يقال حول التاريخ في هذه الناحية .
ولكن لأبي جعفر الاسكافي كلمة صادقة يذكرها عنه تلميذه ابن أبي الحديد في شرحه نهج البلاغة بعد نقله ما تقدم أن اقتبسناه عنه قال :
( فالأحاديث الواردة في فضله ـ يعني علياً ـ لو لم تكن في الشهرة والإستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة لا نقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان ، مع طول المدة وشدة العداوة ، ولو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سراً يعلمه من يعلمه ولو يرو في فضله حديث ، ولا عرفت له منقبة ، ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ونسي اسمه ، وصار ـ وهو موجود ـ معدوماً وهو حي ـ ميتاً ) ([52]).
نعم ، صدق أبو جعفر الاسكافي ، فلو لا أن لله في علي عليه السلام سراً يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث ، ولا عرفت له منقبة ، ولكن ، وبالرغم من جميع تلك الجهود التي بذلت لطمس معالم الحق في علي عليه السلام وولايته وبالرغم مما استعمله الحاقدون ضدهما من تعتيم وكبت ، واستئصال لهما ، ولكل ما يمت اليهما بصلة .
.. بالرغم من كل هذا بقي علي عليه السلام وبقيت ولايته ، وبقي غدير خم ، وبقيت كلمة الله العليا فيه مشعلا ً أبدياً في دينه القويم ، وسناء خالداً في حجته الواضحة وبرهانه الثابت .
وما كان بعض هذا الخلود ليتحقق لو لا تلك الرعاية الإلهية المباشرة للولاية والضمان الرباني لإستقامة دين الله فيها ، وتعهده بعصمتها من الناس ...
(( والله يعصمك من الناس )) ([53]).
الحسم الإلهي والولاية
ولا تقف هذه الرعاية الربانية لولاية علي عليه السلام عند تهيئة الأسباب الطبيعية لخلودها ، وبيان عظمة صاحبها فقط وفرض كل منها على الحياة الانسانية في مختلف مجالاتها من خلال ما تعاهده الناس في نقل الكلمات والوقائع التاريخية فحسب .
فقد قلنا : ان هذا النوع من مظاهر رعاية الله سبحانه انما تأتي في الموارد التي يمكن التحفظ فيها على إبقاء كلمة الله عليا كما هي ، وسامية الموقع والدلائل كما أراد الله تعالى لها . فلا تحتاج لأن يبلغ معها هذا التدخل الرباني المباشر إلى أكثر من فرضها على تلك الإتجاهات العامة في المعرفة ، وتنظيم مختلف نواميس الحياة وقوانينها بشكل يضمن ذلك السمو والرفعة لكلمة الله .
اما حيث تقصر هذه النواميس والسنن الطبيعية والإنسانية ذاتها عن أن تفي لكلمة الله تعالى تلك الدرجة من السمو والوضوح ، فطبيعي أن تنال ولاية علي عليه السلام ما تناله أي حقيقة إسلامية كبرى أخرى في مثل هذه الحال ، اذ لابد أن يتخذ التدخل الإلهي حينئذ مشارب أخرى ، خارجة عن تلك النواميس والسنن في إحقاق الحق وازهاق الباطل .
اذ يلحظ أن الأدوار والمواقف التي جرت بها هذه الولاية ، ولا سيما في موارد صراعها الحاد والطويل مع الباطل لم تكن كلها مما يمكن لتلك الاتجاهات المتعارضة في المعرفة أن تحقق لها الشرائط المعتبرة لكلمة الله فيها ، فهناك مواقف يضعف فيها حملة الحق أن يثبتوا له سمو هذه الكلمة أمام العقول ، أو يحققوا لها وضوح الحجة في البصائر ، كما لو استحكمت الشبهة في الأذهان ، أو كان للباطل شوكته التي قد تعمي العيون عن رؤية منافذ النور وتصم الآذان عن الاستماع إلى صوت الحق .
وحينئذ كان لا بد أن تتخذ حكمة الله تعالى سبل الحسم المباشر في اثبات الحق ، وقطع الريب عن هذا الصرح العظيم ولاسيما في تلك الموارد التي يكون لها حسابها في مسار تأريخ الولاية ، وخلود حجة الله تعالى ووضوحها فيها وإن تجاوزت هذه السبل تلك الحدود الطبيعية المتعارفة من وسائل البيان والإيضاح ، لتستوفي الولاية شرائط الحق كاملة ، بعيداً عن تطاول المتطاولين ، وتقولات المتقولين .
وقد سبق أن قرأنا من أمثلة هذا الحسم قضية جابر بن النضر بن كلدة العبدلي " هذا العنيد الذي جاء إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ بعد أن صدع ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بولاية على عليه السلام في يوم الغدير ـ فقال : ( يا محمد ؛ أمرتنا من الله أن نشهد أن لا اله الا الله ، وأنك رسول الله ، وبالصلاة والصوم والحج والزكاة فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضع ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فهذا شيء منك أم من الله ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : والله الذي لا إله إلا هو انّ هذا من الله " .
وهذا هو قمة ما تتطلبه الحدود الطبيعية في الإنسان الاعتيادي المتطلع إلى الحق ليؤمن كأقوى وأسمى ما يمكن الايمان .
محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيد الرسل ( عليه السلام ) الذي لا ينطق عن الهوى ، ولا يقول عن الله تعالى ما لم يأمره بقوله .. وخاتم الأنبياء الذي زودته العناية الربانية بكل شواهد التصديق ، ودلائله التي ترفع ـ والحق يقال ـ أي ريب من النفوس السليمة بصحة ما يقول عن الله تعالى ..
محمد هذا هم الذي يخبر بأن ما قاله يوم الغدير وما فعله انما كان من عند الله تعالى وحده ، فهو الذي أنزل عليه هذه الولاية ، وهو الذي أوجب عليه تبليغ ما أنزل عليه فيها ، بل وهو الصادق الأمين ـ يؤكد هذا بيمين ما بعده يمين : " والله الذي لا إله إلا هو ان هذا من الله " .
ولكن حيث تعمى البصائر عن إدراك منابع النور ، وحيث ترتكس الرؤوس إلى الهاوية ، وحين تشاء أهواء بعض الناس أن تخرج بهم حتى عن مفهوم الإنسانية ذاته ، فطبيعي أن يتخذ اللطف الالهي بالعباد منهج الحسم المباشر سبيلاً يقطع به دابر كل فتنه ، ويزيح به عن الأبصار كل غاشية ، ويزيل عن البصائر كل ريب ، فالله تعالى يعلم ما لذلك الموقف من أثر في النفوس ، ومواقفها من الولاية ، بل والرسالة ذاتها لا في حدود أولئك الشهود للحادث فحسب ، وانما لدى كل من يبلغه موقف الغدير على أمتداد التاريخ الاسلامي وحتى الأبد .
وهكذا فما أن ولي هذا العنيد يريد راحلته وهو يقول " اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم "
" فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره " .
وهناك الكثير من المواقف الأخرى التي يرويها التأريخ مما كان للتدخل الإلهي فيه حسمه المباشر في نصرة الولاية وإقامة حجتها ..
ويمكننا أن نشير هنا إلى ما جرى في يوم الرحبة حيث استشهد علي عليه السلام بعض من حضر لديه من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن إعلانه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لولايته يوم غدير خم ، ونكران بعضهم لعلمهم بهذا الإعلان ، أو نسيانهم إياه وهم كاذبون .
اذ يروى زر بن حبيش قال ( خرج علي من القصر ، فاستقبله ركبان متقلدي السيوف ، وعليهم العمائم حديثي عهد بسفر فقالوا :
السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته .. السلام عليك يا مولانا .
فقال علي ـ بعد ما ردّ السلام ـ : من ها هنا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) .
فقام اثنا عشر رجلاً منهم خالد بن زيد ( أبو ايوب الانصاري ) ، وخزيمة بن ثابت ( ذو الشهادتين ) ، وقيس بن ثابت بن شماس ، وعمار بن ياسر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وحبيب بن بديل بن ورقاء ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم غدير خم يقول : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) الحديث .
فقال علي لأنس بن مالك والبراء بن عازب : ما منعكما أن تقوما فتشهدوا ، فقد سمعتما كما سمع القوم ؟
فقال : اللهم إن كانا كتماها معاندة فابلهما .
فامّا البراء فعمي ، فكان يسأل عن منزله فيقول : كيف يرشد من أدركته الدعوة ؟
وامّا أنسفقد برصت قدماه .
وقيل : لما استشهده علي ( عليه السلام ) قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ، فاعتذر بالنسيان فقال عليه السلام : اللهم إن كان كاذباً فاضربه ببياض لا تواريه العمامة .
فبرص وجهه فسدل بعد ذلك برقعاً على وجهه ) ([54]).
ومناشدة أخرى يرويها أبن أبي الحديد عن أبي اسرائيل بسنده ( انّ علياً نشد الناس من سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : " من كنت مولاه فعلي مولاه " فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ـ وكان يعلمها ـ فدعا علي عليه السلام عليه بذهاب البصر ، فكان يحدث الناس بالحديث بعدما كفّ بصره ) ([55]).
وقد روى جمع كثير من المؤرخين هذه المناشدات كابن قتيبه والبلاذري وابن عساكر وغيره([56]).
ولا يقتصر الحسم الرباني في نصرة الولاية ووليها العظيم عليه السلام عند هذه الحدود فحسب ، بل هو قد يمضي معهما إلى تاييد المنتصر لهما وإن لم يكن ضمن خط العصمة حين تقتضي الحاجة إلى مثل هذا التأييد ، كالموقف الذي الذي يرويه الحاكم في المستدرك بسنده عن قيس بن أبي حازم قال :
( كنت بالمدينة فبينما أنا أطوف ي السوق إذ بلغت أحجار الزيت ، فرأيت قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابته وهو يشتم علي بن أبي طالب عليه السلام ، والناس وقوف حواليه ، إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فوقف عليهم فقال : ما هذا ؟
فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب .
فتقدم سعد فا فرجوا له حتى وقف عليه فقال :
يا هذا على مَ تشتم علي بن أبي طالب ؟ ألم يكن أول من أسلم ؟ ألم يكن أول من صلى مع رسول الله ؟ ألم يكن أزهد الناس ؟ ألم يكن أعلم الناس ؟ وذكر حتى قال : ألم يكن ختن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أبنته ؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزواته ؟
ثم أستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم انّ هذا يشتم ولياً من أوليائك فلا تفرق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك .
قال قيس : فو الله ما تفرقنا حتى ساخت دابته ، فرمته على هامته في تلك الصخور فانفلق دماغه) ([57]).
وهناك الكثير من الحوادث التي يرويها المؤرخون وأصحاب السنن . إلا اننا نقف عند هذا القدر من الروايات ، ففيه كفاية في بيان ما تعنيه العصمة الإلهية للولاية من الناس واتخاذها مختلف السبل الطبيعية وغير الطبيعية من أجل خلود حجتها وتمام كلمتها مع الزمن .
كما نقف عند هذا الحد من تجليات الرعاية الإلهية لهذا المنصب الإسلامي العظيم ، والركيزة الإسلامية المكينة ، والتعهد الرباني الذي ضمن لهذه الولاية استيعابها لشرائط الحق كافة وإثبات سموها مع الزمن ، وقيام صرحها في الحياة البشرية .
[1] - المائدة : 67.
[2] - المائدة: 3.
[3] - المائدة : 3.
[4] - سنن البيهقي ج 7 ص 442.
[5] - احقاق الحق ج 8 ص 38 عن كتاب ( در بحر مناقب).
[6] - مجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 112.
[7] - الغدير ج 2 ص 102- 105.
[8] - الغدير ج 2 ص 106 عن كتاب ( لطائف اخبار الدول ).
[9] - الانعام : 48.
[10] - الحديد: 25.
[11] - المؤمنون: 76.
[12] - ابراهيم : 7.
[13] - الاحزب: 45.
[14] - النور: 45.
[15] - البقرة: 256- 257.
[16] - الروم : 30.
[17] - البقرة : 138.
[18] - ابراهيم: 27.
[19] - محمد : 17.
[20] - العنكبوت:69.
[21] - المائدة:67.
[22] - المائدة:67.
[23] - يراجع ( فضائل الخمسة من الصحاح الستة ) ج 1 ص 337- 344 لمعرفة مصادر هذا الكلمة.
[24] - الصف: 8- 9.
[25] - المجادلة : 20.
[26] - ابراهيم : 27.
[27] - مريم : 76.
[28] - النحل : 127- 128.
[29] - النحل : 98 – 100.
[30] - غافر: 51.
[31] - الحج: 40.
[32] - الانفال : 5- 12.
[33] - الانفال :7- 8.
[34] - يوسف : 23- 28.
[35] - مريم : 27 – 32.
[36] - المستدرك على الصحيحين: ج2 ص 62.
[37] - الطبقات الكبرى لابن سعد : ج1 ص 132ط بيروت : 138 – 1960.
[38] - المائدة : 67.
[39] - الحجر : 9.
[40] - البقرة : 137.
[41] - الطور : 48.
[42] - المائدة : 67.
[43] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ـ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ج 4 ، ص63 ـ سنة 1959 ـ ن دار احياء الكتب العربية ،مصر
[44] ـ البقرة : 204 ـ 205 .
[45] ـ البقرة : 217 .
[46] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ، ص 72ـ73 .
[47] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 11 ، ص 44 ـ 46 .
[48] ـ تهذيب التهذيب : ج 7 ـ ص 119 .
[49] ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ـ أسد حيدر : ص 79 ـ 80 ، ج 2 . ط الأولى \ النجف عن مناقب أبي حنيفة للمكي ج 1 ، ص71.
[50] ـ تاريخ الطبري ج 6 ، ص 343 ـ 344 . ط 2 مطبعة الاستقامة ـ القاهرة سنة 1358 .
[51] ـ تهذيب التهذيب : ج 10 ، ص 430 .
[52] ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ، ص 73 .
[53] ـ المائدة : 67 .
[54] ـ الغدير : ج 1 ، ص 175 ، عن كتاب ( الاربعين ) لجمال الدين عطاء الله بن فضل الشيرازي ع 1 ، ص 211 ، وع 2 ص 137 .
[55] ـ شرح نهج البلاغة ج1 ص 362 ، ط الأولى ( عن الغدير ج 1 ص 153 ) .
[56] ـ يراجع لمعرفة مصادر هذه المناشدات كتاب ( الغدير ) ج 1 ، ص 153ـ 179 .
[57] ـ المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 500 .