الفصل 3: آية الشهادة:

و من الآيات الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام و تقدمه على جميع الأنام،سوى نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم هي قوله تعالى عز شأنه:/و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب (1) ./

إن الله تعالى أخبر و حكى عن الكفار أنهم أنكروا كون محمد صلى الله عليه و آله و سلم نبيه مرسلا من جهته،و هو جل جلاله لقن رسوله صلى الله عليه و آله و سلم في رد قولهم الإحتجاج عليهم بأمرين:الأول شهادة الله على رسالته.و الثاني شهادة من عنده علم الكتاب .

معنى شهادة الله تعالى:

أما شهادة الله تعالى فبالدلائل الواضحة و الحجج القاطعة من إظهار المعجزات و خوارق العادات على يدي رسوله صلى الله عليه و آله و سلم لصدق رسالته،فعلى هذا تكون شهادة الله تعالى فعليا،لا قوليا،و هذه الشهادة مقصودة في قوله تعالى:/شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم/ (2) ،و هو عزشأنه و جل جلاله شهد على وحدانية نفسه من عجيب خلقه و لطيف حكمته و وضع ميزانه فيما خلق.و الشاهد على ذلك كون«قائما بالقسط»في الآية حالا من اسم الجلالة،كما في التفاسير .

فالقيام بالقسط إشارة إلى البرهان على صدق شهادته تعالى في الآفاق و الأنفس،فإن وحدة النظام تدل على وحدة واضعه،و لعلك لو تأملت ذيل الآية تتجلى لك الحقيقة،و هو قوله تعالى :/لا إله إلا هو العزيز الحكيم/تفرد بالالوهية و كمال العزة و الحكمة،فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط و العدل و وضع كل شي‏ء على وفق حكمته.فإذا ظهرت لك الحقيقة من أن شهادته عز و جل على وحدانيته قيامه بالقسط و عدله على وفق الحكمة،و شهادته عز و جل على صدق رسالة رسوله إظهار المعجزات و خرق العادات على يده،فاعلم أن من جملة المعجزات،بل من أعظمها إنزال القرآن عليه بحيث تحدى به العرب،و عجزت الفصحاء و البلغاء عن الإتيان بسورة من مثله.و من الواضح قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب،تعالى الله عن ذلك.

إن قلت:لعل الآية الكريمة نزلت تسلية لرسول الله،يعني أن الله تعالى يعلم إنك رسوله فلا يضرك تكذيب الكفرة،كقول القائل في مقام تسلية نفسه:إن الله يعلم و يشهد بصدق إدعائي،فعلى هذا لا يلزم من شهادة الله تعالى على رسالة رسوله إظهار المعجزات و خوارق العادات على يده.

قلنا:بين المقامين فرق واضح،لأن الآية نزلت في رد الكفار المعاندين و في مقام الإحتجاج عليهم،فلا يتم الإحتجاج إلا بظهور المعجزات و خوارق العادات،و فى الآية تلويح بل للمنصف تصريح بذلك،لأن الآية لو كانت هكذا كفى بالله شهيدا و من عنده علم الكتاب لاحتمل أن تكون في مقام التسلي لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقط دون الإحتجاج و الرد عليهم،و لكنها مع ذكر«قل»في صدرها،و ضم«بيني و بينكم»إليها تدل على أنها في مقام الإحتجاج و الرد عليهم،و لكنها مع ذكر«قل»في صدرها،و ضم«بيني و بينكم»إليها تدل على أنها في مقام الإحتجاج و الرد عليهم،و ذلك لا يمكن إلابالمعجزات و خوارق العادات.

معنى شهادة من عنده علم الكتاب:

و أما شهادة«من عنده علم الكتاب»و كيفيتها فستتضح لك بعد أن تعلم المراد من الموصول في الآية الشريفة.و اعلم أن الله تعالى اكتفى في إثبات رسالة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم بشهادة نفسه و شهادة من عنده علم الكتاب،و جعلها في عرض شهادته و جعله عديلا لنفسه و قرينا لساحة قدسه،و من البديهي أنه ليس انضمام شهادة من عنده علم الكتاب إلى شهادة الله تعالى من قبيل ضم شهادة عدل إلى شهادة عدل آخر،أو دليل ظني الى آخر لأن الرسالة و النبوة من الاصول لا تثبت إلا بالعلم و اليقين،فعلى هذا يكون ضم شهادة من عنده علم الكتاب إلى شهادة الله تعالى ضم برهان مستقل إلى برهان مستقل آخر،و هذا متوقف على ثبوت عصمة الشاهد و إلا لا يحصل للإنسان يقين.

أخى العزيز!فتعال معي نلاحظ الأخبار و الأحاديث التي جاءت من طريق العامة و الخاصة في شأن«من عنده علم الكتاب»حتى يتضح الأمر،إن شاء الله تعالى.

فمن طريق العامة:

1ـقال العلامة سليمان بن إبراهيم الحنفي القندوزي في تفسير قوله:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب/:الثعلبي و ابن المغازلي بسنديهما عن عبد الله بن عطاء قال:«كنت مع محمد الباقرـرضى الله عنهـفي المسجد فرأيت ابن عبد الله ابن سلام،قلت :هذا ابن الذي عنده علم الكتاب.قال:إنما ذاك علي بن أبي طالب (3) ».ـالثعلبي و ابو نعيم بسنديهما عن زاذان،عن محمد بن الحنفية،قال:«من عنده علم الكتاب علي بن أبي طالب».

3ـعن الفضيل بن يسار،عن الباقر عليه السلام،قال:«هذه الآية نزلت في علي عليه السلام،إنه عالم هذه الامة».و في رواية عنه عليه السلام قال:«إيانا عنى خاصة،و علي أفضلنا و أولنا و خيرنا بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم».

4ـعن عمر بن اذينة،عن جعفر الصادق عليه السلام قال:قال أمير المؤمنينـصلوات الله عليهـ :«ألا إن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام من السماء إلى الأرض و جميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله و سلم».

5ـو قال الصادق عليه السلام:«علم الكتاب كلهـو اللهـعندنا،و ما اعطي وزير سليمان بن داود عليه السلام إنما عنده حرف واحد من الاسم الأعظم و علم بعض الكتاب كان عنده،قال تعالى:/قال الذي عنده علم من الكتابـأي بعض الكتابـأنا أتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك (4) /.قال تعالى لموسى عليه السلام:/و كتبنا له في الألواح من كل شى‏ء موعظة/ (5) بمن التبعيض.و قال في عيسى عليه السلام:/و لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه/ (6) بكلمة البعض.و قال في علي:/و من عنده علم الكتاب/أي كل الكتاب،و قال:/و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين (7) /،و علم هذا الكتاب عنده عليه السلام».

6ـعن عطية العوفي،عن أبي سعيد الخدريـرضى الله عنهـقال:«سألت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن هذه الآية الذي عنده علم من الكتاب قال:ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه السلام.و سألته عن قول الله عز و جل:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من‏عنده علم الكتاب/قال:ذاك أخي علي بن أبي طالب».

7ـعن محمد بن مسلم،و أبي حمزة الثمالي،و جابر بن يزيد،عن الباقر عليه السلام،و روي(عن)علي بن فضال و الفضيل بن يسار و أبي بصير،عن الصادق عليه السلام،و روى أحمد بن محمد الحلبي و محمد بن فضيل،عن الرضا عليه السلام،و قد روي عن موسى بن جعفر و عن زيد بن علي عليه السلام و عن محمد بن الحنفية،و عن سلمان الفارسي و عن أبي سعيد الخدري و إسماعيل السدي أنهم قالوا في قوله تعالى:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب/،هو علي بن أبي طالب عليه السلام».

8ـو سئل سعيد بن جبير:/و من عنده علم الكتاب/عبد الله بن سلام؟قال:لا،و كيف و هذه السورة مكية،و عبد الله بن سلام أسلم في المدينة بعد الهجرة».

9ـو ابن عباسـرضي الله عنهماـقال:/من عنده علم الكتاب/إنما هو علي،لقد كان عالما بالتفسير و التأويل و الناسخ و المنسوخ».

10ـو عن محمد بن الحنفيةـرضى الله عنهـقال:«عند أبي أمير المؤمنين عليـصلوات الله عليهـعلم الكتاب الأول و الاخر».

11ـعن قيس بن سعد بن عبادة،قال:/و من عنده علم الكتاب/علي.قال معاوية بن أبي سفيان:هو عبد الله بن سلام،قال قيس:أنزل الله:/إنما أنت منذر و لكل قوم هاد/ (8) ،و أنزل:/أفمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه/ (9) ،فالهادي من الاية الاولى،و الشاهد من الثانية علي،لأنه نصبه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الغدير و قال:«من كنت مولاه فعلي مولاه»و قال:أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».فسكت معاوية و لم يستطع أن يردها».

قال بعض المحققين:«إن الله تبارك و تعالى بعث خاتم أنبيائه و أشرف رسله وأكرم خلقه بمنه و فضله العظيم بسابق علمه و لطفه بعد أخذه العهد و الميثاق على أنبيائه و عباده بمحمد صلى الله عليه و آله و سلم بقوله:/لتؤمنن به و لتنصرنه/ (10) و لما فتح الله أبواب السعادة الكبرى و الهداية العظمى برسالة حبيبه على العرب و قريش و خصوصا علي بني هاشم بقوله تعالى:/و أنذر عشيرتك الأقربين/ (11) و رهطك المخلصين اقتضى العقل أن يكون العالم بجميع أسرار كتاب الله لابد أن يكون رجلا من بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنه أقرب به من سائر قريش،و أن يكون إسلامه أولا ليكون واقفا على أسرار الرسالة و بدء الوحي،و أن يكون جميع الأوقات عنده بحسن المتابعة ليكون خبيرا عن جميع أعماله و أقواله،و أن يكون من طفوليته منزها عن أعمال الجاهلية ليكون متخلفا بأخلاقه و مؤدبا بآدابه و نظيرا بالرشيد من أولاده،فلم يوجد هذه الشروط لأحد إلا في علي عليه السلام.و أما عبد الله بن سلام لم يسلم إلا بعد الهجرة،فلم يعرف سبب نزول السور التي نزلت قبل الهجرة،و لما كان حاله هذا لم يعرف حق تأويلها بعد إسلامه،مع أن سلمان الفارسى الذى صرف عمره الطويل ثلاث مائة و خمسين سنة في تعلم أسرار الإنجيل و التوراة و الزبور و كتب الأنبياء السابقين و القرآن لم يكن من عنده علم الكتاب لفقده الشروط المذكورة،فكيف يكون من عنده علم الكتاب ابن سلام الذي لم يقرأ الإنجيل،و لم يوجد فيه الشروط،و لم يصدر منه مثل ما صدر من علي يعسوب الدين من الأسرار و الحقائق في الخطبات،مثل قوله:«سلوني قبل أن تفقدوني،فإن بين جنبي علوما كالبحار الزواخر»،و مثل ما صدر من أولاده الأئمة الهداةـعليهم سلام الله و بركاتهـمن المعارف و الحكم في تأويلات كتاب الله و أسراره (12) ».

12ـقال القرطبي في تفسيره:«قال عبد الله بن عطاء:قلت لأبي جعفر بن علي بن‏الحسين بن علي بن أبي طالبـرضي الله عنهمـ:زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام،فقال :انما ذلك علي بن أبي طالبـرضى الله عنهـ،و كذلك قال محمد بن الحنفية (13) ».

13ـقال ابو حيان الاندلسي المغربى في تفسيره:«قال قتاده:كعبد الله بن سالم و تميم الداري و سلمان الفارسي».و قال مجاهد:عبد الله بن سلام خاصة.و هذان القولان لا يستقيمان إلا أن تكون الآية مدنية،و الجمهور على أنها مكية.و قال محمد ابن الحنفية و الباقر عليه السلام:هو علي بن أبي طالب (14) ».

14ـقال الالوسي في تفسيره:«قال محمد ابن الحنفية و الباقر عليه السلام:المراد ب«من»علي كرم الله تعالى وجهه (15) ».

و من طريق الخاصة:

15ـقال العلامة الفيض القاساني في تفسيره:«و في الإحتجاج:سأل رجل علي بن أبي طالبـصلوات الله عليهـعن أفضل منقبة له،فقرأ الاية و قال:إياي عنى بمن عنده علم الكتاب (16) ».

16ـعلي بن إبراهيم القمي،عن الصادق عليه السلام:«الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين عليه السلام.و سئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب؟فقال:ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر (17) ».ـو عن الصادق عليه السلام:«علم الكتاب و الله كله عندنا،و الله كله عندنا (18) ».

18ـالعياشي،عن الباقر عليه السلام:«أنه قيل له:هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب/،قال عليه السلام :كذب،هو علي بن أبي طالب عليه السلام (19) ».

أخي المكرم!فبعد ما لاحظت الأخبار و الأحاديث،و علمت بمعونتها أن المراد من الموصول فى الاية:«و من عنده علم الكتاب»هو سيد الوصيين أمير المؤمنين عليه السلام فجدير بك أن تعلم أن شهادته عليه السلام على صحة الرسالة فعلية و قولية.أما القولية فالإقرار باللسان عمن هو المثل الأعلى في المعارف.و أما الفعلية فبمتابعته له و الاتباع لأمره و الانتهاء بنهيه.

و يعجبني جدا ما قاله العلامة سماحة الحجة،الآية الله العظمى،السيد الخوئي في تفسيره في تصديق علي عليه السلام الرسالة.قال رحمه الله:«إن تصديق علي عليه السلامـو هو على ما عليه من البراعة في البلاغة و المعارف و سائر العلومـلاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهى،فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل و الاغترار،كيف و هو رب الفصاحة و البلاغة،و إليه تنتهي جميع العلوم‏الإسلامية،و هو المثل الأعلى في المعارف،و قد اعترف بنبوغه و فضله المؤالف و المخالف؟و كذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال،كيف و هو منار الزهد و التقوى،و قد أعرض عن الدنيا و زخارفها،و رفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين،و هو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية،و إذن فلا بد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقتا مطابقا للواقع ناشئا عن الإيمان الصادق.و هذا هو الصحيح و الواقع المطلوب (20) ـانتهى».

و قال الواقدي المورخ في شهادة علي عليه السلام على إثبات الرسالة نظير ما قاله العلامة الحجة الخوئي رحمه الله،قال:ابن النديم في«الفهرست» (21) :«روى(الواقدي)أن عليا عليه السلام كان من معجزات النبي صلى الله عليه و آله و سلم كالعصا لموسى عليه السلام و إحياء الموتى لعيسى بن مريم عليه السلام».

إن قلت:المنكر للأصلـو هو النبي صلى الله عليه و آله و سلمـفلا تكون شهادته قاطعة للخصومة بالنسبة إلى النبوة،فكيف يستشهد الله عز و جل بشهادته على ثبوت النبوة و يحتج بها على منكري النبوة و الرسالة؟

يقال:إنما لا يجوز الاكتفاء بشهادة الفرع إذا كان القبول مستندا إلى مجرد الإقرار و الاعتراف مع قطع النظر عن ظهور مقامه و درجته من كونه عالما بالكتاب،واقفا على كل شي‏ء،قادرا على إظهار المعجزات و خوارق العادات الملازم للعصمة و الصدق عقلا،و أما إذا كان الاستشهاد به من حيث كونه كذلكـكما في المقامـحيث لم يذكر الشاهد باسمه بل بوصفه لينظر المنكر في شأنه ويراجع إليه و يظهر عنده ثبوت آثاره فينكشف عنده ثبوت الوصف للشاهد و أحقية المشهود به فهو قاطع للخصومة و مثبت للدعوى بالضرورة و إن لم يتعرف به المنكر عنادا .

فبما أوضحناه و بيناه ظهر و اتضح أن شهادة علي عليه السلام على إثبات الرسالة فعلية و قولية،و أنها صارت كالمعجزة لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.و أيضا أن المراد من الموصول في«و من عنده علم الكتاب»هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.و في الموصول أقوال اخر ينبغي أن نلفت النظر إليها و إلى ردها.قال بعض:«المراد من الموصول هم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام و تميم الدارمي و سلمان الفارسي»و هذا القول مردود بأن السورة مكية،و هؤلاء أسلموا بالمدينة.و أن شئت زيادة توضيح فلاحظ أقوال المفسرين في ذيل الآية:

قال ابو حيان الاندلسي في تفسيره:«و الجمهور على أنها مكية (22) ».

و قال الطبري في تفسيره:«عن أبي بشر قال:قلت لسعيد بن جبير و من عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام؟قال:هذه السورة مكية فكيف يكون عبد الله بن سلام؟ (23) ».

و قال القرطبي في تفسيره:«قال ابن جبير:السورة مكية و ابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة،فلا يجوز أن تحمل هذه الاية على ابن سلام (24) ».

و قال الالوسي في تفسيره:«و اجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون:إن السورة مكية و بعض آياتها مدنية،فلتكن هذه من ذلك.و أنت تعلم أنه لا بد لهذا من نقل.و في البحر:أن ما ذكر(يعنى كون الاية في شأن ابن سلام)لا يستقيم إلا أن تكون هذه الاية مدنية و الجمهور على أنها مكية؟.و الشعبي أنكر أن يكون‏شي‏ء من القرآن نزل فيه (25) ».

و قال الفخر الرازي في تفسيره:«إثبات النبوة بقول الواحد و الاثنين مع كونهما غير معصومين من الكذب لا يجوز،و هذا السؤال واقع (26) ».

إن قلت:ما تقول في الآية التي تصرح على أن أحدا من بنى إسرائيل شهد على صحة الرسالة و النبوة و هي قوله تعالى في سورة الأحقاف(الآية 10):/قل أرأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين/؟قلنا:و إن قال بعض المفسرين إن الشاهد هو عبد الله بن سلام،إلا أن هذا القول مردود لأن سورة الأحقاف كلها مكية،و عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة.

و قال الطبري في تفسيره:«قوله:/و شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله/اختلف أهل التأويل فى تأويل ذلك،فقال بعضهم:و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله،و هو موسى بن عمران عليه السلام،على مثله يعني على مثل القرآن،قالوا:و مثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة».و قال أيضا:«سئل داود عن قوله /قل أرأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به/ـالآية،قال داود:قال عامر:قال مسروق:و الله،ما نزلت في عبد الله بن سلام،ما نزلت إلا بمكة و ما أسلم عبد الله إلا بالمدينة،و لكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه و آله و سلم بها قومه.قال:فالتوراة مثل القرآن،و موسى مثل محمد صلى الله عليه و آله و سلم فآمنوا بالتوراة و برسولهم و كفرتم (27) ».

أقول:و بالجملة لا شاهد لتفسيره بعبد الله بن سلام،بل الشاهد موجود على خلافه و هو نزول السورة بمكة،و توهم أن السورة مكية إلا هذه الاية استنباط من القائل،لأن العقل يستقل بقبح الإحتجاج بما لا حجية له،فكيف يحتج الله تعالى‏شأنه بما لا يكون حجة و يجعلها حجة و كافية قاطعة للخصومة.و قال بعضهم:«إن كون الاية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به»،و فيه أي معنى لأن يحتج على قوم يقولون:لست مرسلا،بأن يقال لهم:صدقوه اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون عليه.

إن قلت:ذكر بعضهم أن المراد بالموصول هو الله عز و جل فكأنه قيل:كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا.

يقال:هذا من عطف الذات و هو الموصول مع صفته(علم الكتاب)إلى نفس الذات و هو الله تعالى،و هذا قبيح غير جائز،و مضافا إلى ذلك أن هذا القول مناف لأخبار كثيرة تقول:إن المراد من الموصول في«و من عنده علم الكتاب»هو أمير المؤمنين عليه السلام.

فقد اتضح مما ذكرناه أن الاية لا ينطبق على أحد من علماء اليهود كعبد الله بن سلام و نظرائه و إخوانه،لأن هؤلاء أسلموا بعد الهجرة و الحال أن السورة مكية باتفاق الجمهور،فأذا لم يصدق الموصول على عبد الله بن سلام و أمثاله ثبت صدقه على أمير المؤمنين عليه السلام لأن الأقوال لا يزيد عن أربعة،فإذا بطل ثلاثة ثبت الرابع بلا ريب.

و أما المراد من الصلة(علم الكتاب)،فقال بعضهم:هو التوراة و الانجيل،و هذا قول من قال :إن المراد من«من»الموصول علماء أهل الكتاب،و قد علمت أن السورة مكية و أن علماء اليهود و النصارى أسلموا في المدينة.و قال بعضهم:هي التوراة بالخصوص و هو كما ترى كسابقه.و قال بعضهم:هو اللوح المحفوظ.و هذا قول من اعتقد أن المراد من الموصول هو الله تعالى،و قد علمت أنه من قبيل عطف الذات مع صفته إلى الذات و هو غير جائز.و قال بعضهم:إن المراد بها هي القرآن يعني من تحمل هذا الكتاب و تحقق بعلمه و اختص به و يعلم تأويله و تنزيله،و ظهره و بطنه،و ناسخه و منسوخه،و محكمه و متشابه،و مطلقه و مقيده،و مجمله و مبينه.

إن قلت:من أين هذا العموم و الإستغراق؟قلت:إضافة العلم إلى الكتاب تفيد العموم،فيكون المراد العلم بكل الكتاب الذي لم يفرط فيه من شي‏ء،و لا رطب و لا يابس إلا فيه و هذا ملازم لكمال العصمة و تمام القدس.

أخى العزيز!إن العلم بظهر الكتاب و بطنه لا يحصل بالإكتساب و إنما هو موهبة جليلة لا يليق بها إلا من اجتمعت فيه الفضائل الكريمة منها العصمة و الطهارة يؤتيها الله من يشاء حسب مراتب استعداده،و لذا اختلف نصيب الأنبياء في العلم و الكمال،فمنهم من اوتي حرفا واحدا،و منهم اوتي حرفين أو ثلاثة أو أزيد،و لم يؤت الجميع أحد من الأنبياء و أوصيائهم عليه السلام إلا نبينا و أوصياؤهـصلى الله عليهم أجمعينـ.و لم يكن منع الجميع من بخل من المبدأ الفياضـتعالى عن ذلك علوا كبيراـبل من جهة عدم استعدادهم لهـو هذا يدل على ارتفاعهم عليهم السلام درجات الكمال ظاهرها و باطنها و أولها إلى آخرها ألف ألف مرة بحيث لا يتصور فوقها درجة و مرتبة،«فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين،و أعلى منازل المقربين،و أرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق،و لا يفوقه فائق،و لا يسبقه سابق،و لا يطمع في إدراكه طامع (28) ».

فعلى هذا إن الاية الكريمة تدل على أن علم الكتاب كله عند مولانا أمير المؤمنين و الأئمة المعصومين من ذريتهـسلام الله عليهم أجمعينـ،و أيضا تدل على أنهم أعلم و أفضل من أولي العزم من الأنبياء عليهم السلام لأن علومهم محدودة و ليس عندهم علم الكتاب كله.و الشاهد على ذلك آيات و روايات،و من الآيات التي تصرح بذلك هي الآية التي جاءت في شأن سليمان بن داود و وزيره و وصيه عليهما السلام و هي قوله تعالى:/قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني‏مسلمين*قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي أمين*قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فان ربي غني كريم*/ (29)

و المراد من الموصول«الذي»آصف بن برخيا،وزير سليمان عليه السلام كما يظهر من الروايات،و عنده علم بعض الكتاب لا كله،كما هو واضح من كلمة«من»البعضية،سواء كان المراد من الكتاب اللوح المحفوظ أو جنس الكتب المنزلة أو كتاب سليمان.

فعن أبي سعيد الخدريـرضى الله عنهـقال:«سألت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن هذه الآية/الذي عنده علم من الكتاب/قال:ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليهما السلام و سألته عن قول الله عز و جل:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب/قال صلى الله عليه و آله و سلم:ذاك أخي علي بن أبي طالب عليه السلام (30) ».

و عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل:«فأيما أكرم على الله نبيكم،أم سليمان عليه السلام؟فقالوا:بل نبينا أكرم يا أمير المؤمنين.قال:فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان عليه السلام،و إنما كان عند وصي سليمان من اسم الله الأعظم حرف واحد سأل اللهـجل اسمهـفخسف له الأرض ما بينه و بين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين،و عندنا من اسم الله الأعظم اثنان و سبعون حرفا،و حرف عند الله تعالى استأثر به دون خلقه.فقالوا:يا أمير المؤمنين!فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية و غيره و استنفارك الناس إلى حربه ثانية؟فقال عليه السلام:/بل عباد مكرمون*لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون*/ (31) إنما أدعوهؤلاء القوم إلى قتاله ليثبت الحجة و كمال المحنة (32) ».

و سئل الصادق عليه السلام عن الذي علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب.فقال عليه السلام:«ما كان الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر (33) ».

و عن عبد الله بن الوليد السمان،قال:قال أبو عبد الله عليه السلام:«ما يقول الناس في اولي العزم و صاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام؟قال:قلت:ما يقدمون على اولي العزم أحدا .قال:فقال ابو عبد الله عليه السلام:إن الله تبارك و تعالى قال لموسى عليه السلام:/و كتبنا له في الألواح من كل شي‏ء موعظة/ (34) و لم يقل:كل شي‏ء،و قال لعيسى عليه السلام:/و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه/ (35) و لم يقل:كل شي‏ء،و قال لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام:/قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب/ (36) و قال الله عز و جل:/و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين/ (37) ،و علم هذا الكتاب عنده عليه السلام (38) ».

و عنه قال:قال لي ابو عبد الله عليه السلام:«أي شي‏ء تقول الشيعة في عيسى و موسى و أمير المؤمنين عليهم السلام؟قلت:يقولون:إن عيسى و موسى أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام .فقال عليه السلام:أتزعمون أن أمير المؤمنين عليه السلام قد علم ما علم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم؟قلت:نعم،و لكن لا تقدمون على أولى العزم أحدا،فقال ابو عبد الله عليه السلام:فخاصمهم بكتاب الله،قلت:و في أي موضع منه اخاصمهم؟...»فذكر عليه السلام عين ما تقدم (39) .

تعليقات:

1ـالرعد،13: .43

2ـآل عمران،3: .18

3ـالقندوزي:ينابيع المودة،الباب الثلاثون.

4ـالنمل،27: .40

5ـالاعراف،7: .145

6ـالزخرف،43: .63

7ـالانعام،6: .59

8ـالرعد،13: .7

9ـهود،11: .17

10ـآل عمران،3: .81

11ـالشعراء،26: .214

12ـالقندوزي:ينابيع المودة،صص 102 الى .105

13ـالجامع الاحكام القرآن،ج 9:ص .336

14ـابو حيان:البحر المحيط،ج 5:ص .401

15ـالآلوسي:روح المعانى،ج 13:ص .158

16ـالفيض القاساني:تفسير الصافى،ج 3:ص .77

17ـعلي بن إبراهيم:تفسير القمي،ج 1:ص 367،الفيض القاساني:تفسير الصافى/ذيل الآية.

18ـعلي بن إبراهيم:تفسير القمي،ج 1:ص 367،الفيض القاساني:تفسير الصافى/ذيل الآية.

19ـالسمرقندي:تفسير العياشي،ج 2:ص .220

و ليعلم أن معنى«من عنده علم الكتاب»معنى عام ينطبق على كل من كان له تلك الصفة،و المراد بالكتاب إن كان هو القرآن فظاهر كون«من عنده»على عليه السلام دون سائر الناس،امثال ابن سلام و أضرابه.و إن كان المراد التوراةـكما هو الظاهر من السياقـفكون علمها عند عبد الله بن سلام لا ينافي كونها عند على عليه السلام.و الحق،أن المراد بمن عنده علم الكتاب في هذه الامة على بن أبي طالب عليه السلام،لا غير.و من امة موسى عليه السلام عبد الله بن سلام.فإن كان المراد بالكتاب مطلق الكتب السماوية فلا خلاف فى كون المراد بمن عنده على عليه السلام،و إن كان خصوص التوراة فعبد الله بن سلام أيضا يعلمها،و لو كان حينذاك في المدينة و لم يسلم بعد،فلا مانع من شهادته بصدق النبى لبشارة التوراة و المطلوب هنا شهادة المخالف لا الموافق فلا منافاة بين الاخبار و الاقوال.(الغفارى).

20ـالخوئي:البيان في تفسير القرآن،ص .91

21ـالخوئي:البيان في تفسير القرآن،ص .111

22ـابو حيان:البحر المحيط،ج 9:ص .401

23ـالطبري:جامع البيان،ج:ص .104

24ـالجامع الاحكام القرآن،ج 9،ص .336

25ـالآلوسي:روح المعانى،ج 13:ص .158

26ـالفخر:التفسير الكبير،ج 19:ص .70

27ـالطبري:جامع البيان،ج 26:ص .6

28ـالزيارة الجامعة الكبيرة.

29ـالنمل،27:40ـ .38

30ـالقندوزي:ينابيع المودة،الباب 30:ص .103

31ـالانبياء،21:26 و .27

32ـالبحراني:تفسير البرهان،ج 3:ص .205

33ـالفيض القاساني:تفسير الصافى/ذيل الاية.

34ـالاعراف،7: .145

35ـالزخرف،43: .63

36ـالرعد،13: .43

37ـالانعام،6: .59

38ـالحويزي:تفسير نور الثقلين،ج 2:ص .68

39ـالمصدر.