٣٠١ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
كانت الأيّام الأخيرة من عمر رسول الله ½ أيّاماً عجيبةً ، فقد كانت لعلىّ ¼ أيّاماً حافلةً بالغموم ، زاخرةً بالآلام ، مليئة بالمتاعب والمحن ، وكانت للسّاسة آنذاك أيّام عمل ، ومثابرة وتخطيط للاستحواذ علي الخلافة وسعي لرسم السياسة القادمة ، وتفكير بالغد وبما يليه . . . أمر رسول الله ½ بتجهيز الجيش لحرب الروم ، فتعبّأ الجيش وفيه وجوه بارزة ، وعقد ½ اللواء بنفسه ودفعه إلي اُسامة بن زيد . وكان صغر سنّه قد شكّل ذريعة بأيدى الساسة للاعتراض عليه إخفاءً للبواعث الحقيقيّة التى كانت تدفعهم إلي التلكّؤ والتباطؤ فى الحركة فى وقت كان النبىّ ½ علي فراش المرض يعانى من الحمّي . ولمّا علم بتثاقلهم قام من فراشه ، وتوجّه نحو المسجد بجسم محموم ورأس معصوب ، وأنبأ المسلمين بالتّبعات الذميمة الشاذّة لفتورهم وتقاعسهم ، ثمّ قال : "أنفِذوا جيش اُسامة"(١) . بَيْد أنّ ساسة الدنيا حالوا دون الإنفاذ من ٣٠٢ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
خلال توقّف دام أكثر من خمسة عشر يوماً(١) . وكان رسول الله ½ يطوى اللحظات الأخيرة من حياته . ووهب الإمام عليّاً ¼ درعه ، ولواءه ، وجعله وصيّه(٢) ، ونقل إليه علوماً لا تُحصي عبر نجوي طويلة(٣) . وبينا كان يلفظ كلمته الأخيرة : "لا ، مع الرفيق الأعلي" فاضت روحه المقدّسة الطاهرة وهو فى حجر الإمام ¼ . وعرجت تلك الروح الزكيّة المطهّرة نحو الرفيق الأعلي من صدر حبيبه ونجيّه ورفيق دربه وحاميه وحافظ سرّه والذابّ عنه بلا منازع : أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ¼ (٤) . إنّه الإمام ¼ ـ والغمّ متراكم جاثم علي صدره ، والعيون عَبري ، والقلب حزين ، ملىء غصّةً لفقد رسول الله ½ ـ مَن يلى غسله والملائكة أعوانه ، والفضل بن عبّاس معه(٥) . . . ثمّ كفّنه ، وكشف عن وجهه ، وبينا كانت دموعه تنهمر علي خدّيه ، ناداه بصوت حزين وهو يغصّ فى عبرته ، والحزن يعصر قلبه : "بأبى أنت واُمّى ، طبتَ حيّاً وميّتاً . . ." . وصلّي علي جثمانه الطاهر ، ثمّ صلّي عليه الصحابة جماعةً ، جماعةً . ودفنه حيث فاضت روحه المقدّسة الشريفة(٦) ، وعاونه علي الدفن جماعة منهم أوس (١) الطبقات الكبري : ٢ / ١٨٩ ـ ١٩١ ; تاريخ اليعقوبى : ٢ / ١١٣ وفيه "و اعتلّ أربعة عشر يوماً" . ٣٠٣ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
ابن خولّي ، والفضل بن عبّاس(١) . ٣٠٦ ـ الإرشاد : كان أمير المؤمنين لا يفارقه [ ½ ] إلاّ لضرورة ، فقام فى بعض شؤونه ، فأفاق ½ إفاقة فافتقد عليّاً ¼ ، فقال ـ وأزواجه حوله : ادعوا لى أخى وصاحبى . وعاوده الضعف فأصمَت . فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر ، فدُعى ، فدخل عليه فقعد عند رأسه ، فلمّا فتح عينه نظر إليه وأعرض عنه بوجهه ، فقام أبو بكر وقال : لو كان له إلىّ حاجة لأفضي بها إلىّ . فلمّا خرج أعاد رسول الله ½ القول ثانيةً وقال : ادعوا لى أخى وصاحبى . فقالت حفصة : ادعوا له عمر ، فدُعى ، فلمّا حضر رآه النبىّ ½ فأعرض عنه ، فانصرف . ثمّ قال ½ : ادعوا لى أخى وصاحبى . فقالت اُمّ سلمة : ادعوا له عليّاً ; فإنّه لا يريد غيره . فدُعى أمير المؤمنين ¼ ، فلمّا دنا منه أومأ إليه ، فأكبّ عليه ، فناجاه رسول الله ½ طويلاً ، ثمّ قام فجلس ناحيةً حتي أغفي رسول الله ½ ، فقال له الناس : ما الذى أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال : علّمنى ألف باب ; فتح لى كلُّ باب ألفَ باب ، ووصّانى بما أنا قائم به إن شاء الله . ثمّ ثَقُل ½ وحضره الموت وأمير المؤمنين ¼ حاضر عنده ، فلمّا قرب خروج نفسه قال له : ضع رأسى يا علىّ فى حِجرك ; فقد جاء أمر الله عزّ وجلّ ، فإذا فاضت نفسى فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثمّ وجِّهنى إلي القبلة ، وتولَّ أمرى ، وصلِّ علىَّ أوّل الناس ، ولا تفارقنى حتي توارينى فى رمسى ، واستعِن ٣٠٤ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
بالله تعالي . فأخذ علىّ ¼ رأسه فوضعه فى حِجره ، فاُغمى عليه ، فأكبّت فاطمة £ تنظر فى وجهه وتندبه وتبكى وتقول :
ففتح رسول الله ½ عينيه ، وقال بصوت ضئيل : يا بُنيّة ، هذا قول عمّك أبى طالب ، لا تقوليه ، ولكن قُولى : ³ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ² (٢) . فبكت طويلاً ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت ، فأسرّ إليها شيئاً تهلّل له وجهها . ثمّ قضي ½ ويد أمير المؤمنين ¼ اليمني تحت حَنَكه(٣) ، ففاضت نفسه ½ فيها ، فرفعها إلي وجهه فمسحه بها ، ثمّ وجّهه ، وغمّضه ، ومدّ عليه إزاره ، واشتغل بالنظر فى أمره(٤) . ٣٠٧ ـ كنز العمّال عن حذيفة بن اليمان : دخلت علي رسول الله ½ فى مرضه الذى قُبض فيه ، فرأيته يتساند إلي علىّ ، فأردت أن اُنحّيه وأجلس مكانه ، فقلت : يا أبا الحسن ، ما أراك إلاّ تعبت فى ليلتك هذه ، فلو تنحّيتَ فَأعنتُك ، فقال رسول الله ½ : دَعْه ; فهو أحقّ بمكانه منك(٥) . ٣٠٨ ـ الطبقات الكبري عن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علىّ بن أبى طالب عن (١) الثِّمال : المَلْجأ والغِياث . وقيل : هو المُطْعِم فى الشِّدّة (النهاية : ١ / ٢٢٢) . ٣٠٥ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
أبيه عن جدّه : قال رسول الله ½ فى مرضه : ادعوا لى أخى . قال : فدُعى له علىّ . فقال : ادنُ منّى . فدنوت منه ، فاستند إلىّ فلم يزل مستنداً إلىّ وإنّه ليكلّمنى حتي إنّ بعض ريق النبىّ ½ ليصيبنى ، ثمّ نُزِل برسول الله ½ وثَقُل فى حِجرى ، فصحتُ : يا عبّاس ، أدرِكْنى فإنّى هالك ! فجاء العبّاس ، فكان جَهدُهما جميعاً أن أضجعاه(١) . ٣٠٩ ـ مسند ابن حنبل عن اُمّ موسي عن اُمّ سلمة : والذى أحلف به ، إن كان علىٌّ لأقرب الناس عهداً برسول الله ½ ، قالت : عُدْنا رسول الله ½ غداةً بعد غداة يقول : "جاء علىّ ؟" مراراً . قالت : وأظنّه كان بعثه فى حاجة ، قالت : فجاء بعدُ فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب ، فكنت من أدناهم إلي الباب ، فأكبّ عليه علىّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قُبض رسول الله ½ من يومه ذلك ، فكان أقرب الناس به عهداً(٢) . ٣١٠ ـ الإرشاد : أقبل [ ½ ] علي أمير المؤمنين ¼ فقال له : يا أخى ، تقبلُ وصيَّتى وتُنجِز عِدَتى وتقضى عنّى دَينى وتقوم بأمر أهلى من بعدى ؟ قال : نعم يا رسول الله . فقال له : ادنُ منّى . فدنا منه ، فضمّه إليه ، ثمّ نزع خاتمه من يده فقال له : خذ هذا فضعه فى يدك . ودعا بسيفه ودرعه وجميع لاَْمَته(٣) فدفع ذلك إليه ، (١) الطبقات الكبري : ٢ / ٢٦٣ . ٣٠٦ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
والتمس عصابة كان يشدّها علي بطنه إذا لبس سلاحه وخرج إلي الحرب ، فجىء بها إليه ، فدفعها إلي أمير المؤمنين ¼ ، وقال له : امضِ علي اسم الله إلي منزلك(١) . ٣١١ ـ الإمام علىّ ¼ : لقد قُبض رسول الله ½ وإنّ رأسه لعلي صدرى ، ولقد سالت نفسه فى كفّى فأمررتها علي وجهى . ولقد وُلِّيتُ غُسله ½ والملائكة أعوانى ، فضجّت الدار والأفنية ; ملأٌ يهبط ، وملأٌ يعرج ، وما فارقتْ سمعى هَيْنَمةٌ(٢) منهم ، يصلّون عليه حتي وارَيناه فى ضريحه(٣) . ٣١٢ ـ الإمام زين العابدين ¼ : قُبض رسول الله ½ ورأسه فى حِجر علىّ(٤) . ٣١٣ ـ الطبقات الكبري عن الشعبى : توفّى رسول الله ½ ورأسه فى حِجر علىّ . وغسله علىّ ، والفضل محتضنه ، واُسامة يناول الفضلَ الماءَ(٥) . ٣١٤ ـ الطبقات الكبري عن أبى غَطَفان : سألت ابن عبّاس : أ رأيتَ رسول الله ½ توفّى ورأسه فى حِجر أحد ؟ قال : توفّى وهو لمستند إلي صدر علىّ . قلت : فإنّ عروة حدّثنى عن عائشة أنّها قالت : توفّى رسول الله ½ بين سَحْرى(٦) ونَحْرى ! فقال ابن عبّاس : أ تَعقِلُ ؟ ! والله لتُوُفّى رسول الله ½ وإنّه لمستند إلي صدر علىّ ، (١) الإرشاد : ١ / ١٨٥ ، قصص الأنبياء : ٣٥٩ / ٤٣٣ ، إعلام الوري : ١ / ٢٦٦ كلاهما نحوه . ٣٠٧ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
وهو الذى غسّله وأخى الفضل بن عبّاس(١) . ٣١٥ ـ الطبقات الكبري عن عبد الله بن الحارث : إنّ عليّاً لمّا قُبض النبىّ ½ قام فأرتَجَ(٢) البابَ . قال : فجاء العبّاس معه بنو عبد المطّلب فقاموا علي الباب ، وجعل علىّ يقول : بأبى أنت واُمّى طِبت حيّاً وميّتاً ! قال : وسطعت ريح طيّبة لم يجدوا مثلها قطّ . قال : فقال العبّاس لعلىّ : دَعْ خَنِيناً(٣) كخنين المرأة وأقبِلوا علي صاحبكم ! فقال علىّ : ادخلوا علي الفضل . قال : وقالت الأنصار : نناشدكم الله فى نصيبنا من رسول الله ½ ! فأدخلوا رجلاً منهم يقال له أوْس بن خَوْلىّ يحمل جَرّةً بإحدي يديه . قال : فغسله علىّ يُدخل يده تحت القميص ، والفضل يمسك الثوب عليه ، والأنصارى ينقل الماء ، وعلي يد علىّ خرقة تَدخُل يدُه وعليه القميص(٤) . ٣١٦ ـ الطبقات الكبري عن عمر بن علىّ بن أبى طالب : لمّا وُضع رسول الله ½ علي السرير قال علىّ : ألا يقوم عليه أحد لعلّه يؤمّ ؟ هو إمامكم حيّاً وميّتاً ! فكان يدخل الناس رَسَلاً رَسَلاً(٥) فيصلّون عليه صفّاً صفّاً ، ليس لهم إمام ، ويكبّرون وعلىّ قائم بحيال رسول الله ½ يقول : سلامٌ عليك أيّها النبىّ ورحمة الله وبركاته ! اللهمّ إنّا نشهد أن قد بلّغ ما اُنزل إليه ، ونصح لاُمّته ، وجاهد فى سبيل الله ، حتي (١) الطبقات الكبري : ٢ / ٢٦٣ ، فتح البارى : ٨ / ١٣٩ عن ابن عبّاس نحوه ، كنز العمّال : ٧ / ٢٥٣ / ١٨٧٩١ . ٣٠٨ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
أعزّ الله دينه وتمّت كلمته ! اللهمّ فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل الله إليه ، وثبِّتنا بعده ، واجمع بيننا وبينه ! فيقول الناس : آمين آمين ! حتي صلّي عليه الرجال ثمّ النساء ثمّ الصبيان(١) . ٣١٧ ـ تاريخ الطبرى عن ابن إسحاق : كان الذى نزل قبرَ رسول الله ½ علىُّ بن أبى طالب والفضل بن العبّاس وقُثَم بن العبّاس وشُقران مولي رسول الله ½ ، وقد قال أوس بن خَولىّ : أنشُدك الله يا علىّ وحَظّنا من رسول الله ! فقال له : انزِل . فنزل مع القوم(٢) . ٣١٨ ـ الطبقات الكبري عن ابن جُريج عن أبى جعفر محمّد بن علىّ : غُسِل النبىّ ½ ثلاث غَسَلات : بماء وسدر ، وغُسل فى قميص ، وغُسل من بئر يقال لها الغَرْس لسعد بن خَيثمة بقُباء(٣) ، وكان يشرب منها . ووَلِىَ علىّ غسلته ، والعبّاس يصبّ الماء ، والفضل محتضنه(٤) . ٣١٩ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كلام له قاله وهو يلى غسل رسول الله ½ وتجهيزه ـ : بأبى أنت واُمّى يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والإنباء وأخبار السماء . خَصَّصتَ حتي صرتَ مسلِّياً عمّن سواك ، وعَمَّمتَ حتي صار الناس فيك سواء ، ولولا أنّك أمرتَ بالصبر ونهيتَ عن الجزع ، لاَنفدْنا (١) الطبقات الكبري : ٢ / ٢٩١ ، البداية والنهاية : ٥ / ٢٦٥ ، كنز العمّال : ٧ / ٢٢٨ / ١٨٧٤١ . ٣٠٩ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الرابع عشر : العروج من صدر الوصيّ
عليك ماء الشُّؤون(١) ، ولكان الداء مُماطِلاً(٢) ، والكَمَد مُحالِفاً(٣) ، وقَلاّ(٤) لك ! ولكنّه ما لا يُملَك ردُّه ، ولا يُستطاع دفعُه ! بأبى أنت واُمّى ! اذكرنا عند ربّك ، واجعلنا من بالِك ! (٥) (١) الشُّؤون : عُروق الدُّموع من الرأس إلي العين (لسان العرب : ١٣ / ٢٣٠) . إرجاعات ٨٤ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام عليّ / الفصل الثاني : عليّ عن لسان النبيّ / المنزلة عند النبيّ / حبيبي
١٩٨ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام عليّ / الفصل الثالث : عليّ عن لسان عليّ / المكانة عند رسول الله / كنت آخر الناس عهداً به
|
||