الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد الأول

 
 ١٥٧ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

 

قال الله تعالي : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ  ²  (١) .

انتشر دين الله فى شبه الجزيرة العربيّة شيئاً فشيئاً ، وعلا الأذان المحمّدى ، وانعكس صداه فى أرجاء منها ، وكانت "يثرب" من المدن التى سمعت نداء الحقّ ، وقد التقي عدد من أهلها برسول الله  ½ فى موسم الحجّ ، وعاهدوه سرّاً(٢) .

ومن جهة اُخري زاد المشركون ظلمهم وجورهم ، وبلغوا ما بلغوا فى تعذيبهم واضطهادهم وإرهابهم للناس ، واشتدّ أذاهم للمسلمين ، فأمر النبىّ  ½ بالهجرة إلي يثرب .


(١) البقرة : ٢٠٧ .
(٢) السيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ٣٠١ ، الطبقات الكبري : ١ / ٢٢١ ، دلائل النبوّة للبيهقى : ٢ / ٤٣٠ ـ ٤٣٣ .

 ١٥٨ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

من هنا ، هاجر المسلمون إلي يثرب تخلّصاً من جور المشركين واضطهادهم ، وقد بذل المشركون قصاري جهدهم للحؤول دون الهجرة ، بيد أنّ رجالاً كثيراً تركوا ما عندهم فى مكّة وغادروها علي عجل ، ففزع المشركون لذلك ; لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه إذا اجتمع خلق غفير من أهل يثرب ، وحصل المسلمون علي دعم من بعضهم ، وخرج النبيّ  ½ من مكّة والتحق بهم ، فسيشكّلون قوّة عظيمة تهدّد أمنهم وخاصّه قوافلهم التجاريّة . ولذا عزموا علي تدبير مكيدة لإنهاء أمر رسول الله  ½ الذى كان لا يزال بمكّة .

فاجتمعوا وتشاوروا ، فتصافقوا علي قتله  ½ ; إذ لم يكن إخراجه أو حبسه مجدياً . واطّلع  ½ علي مؤامرتهم المشؤومة عن طريق الوحى ، فكُلِّف بالخروج من مكّة(١) ³ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ  ²  (٢) .

وقد قام المشركون بتطويق داره  ½ ، بعد تداولهم فى خطّة قتله وكيفيّة التنفيذ ، فإذا قَصَد الخروج فستتلقّاه سيوفهم وينتهى أمره إلي الأبد .

فاقترح  ½ علي عليّ  ¼ أن يبيت فى فراشه تلك الليلة ، فسأله : أ وَتسلم يا رسول الله ؟ قال : نعم . فرحّب الإمام  ¼ بهذا الاقتراح موطّناً نفسه للقتل عند مواجهة المشركين صباحاً(٣) ، وسجد سجدة الشكر علي هذه الموهبة العظيمة(٤) .


(١) الطبقات الكبري : ١ / ٢٢٧ ; الأمالى للطوسى : ٤٦٥ / ١٠٣١ .
(٢) الأنفال : ٣٠ .
(٣) الأمالى للطوسى : ٤٤٧ / ٩٩٨ وح ٩٩٩ ، تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٣٩ وراجع المناقب للكوفى : ١ / ١٢٤ / ٦٩ والمستدرك علي الصحيحين : ٣ / ٥ / ٤٢٦٤ .
(٤) الأمالى للطوسى : ٤٦٥ / ١٠٣١ ، المناقب لابن شهر آشوب : ١ / ١٨٣ .

 ١٥٩ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

والتحف بالبرد اليمانىّ الأخضر الذى كان يلتحف به النبيّ  ½ عند نومه ، ونام مطمئنّاً فى فراشه  ½ (١) .

لقد عبّر الإمام  ¼ بهذا الموقف عن غاية شجاعته ، وجسّدها وصدع بها عمليّاً ; إذ عرّض بدنه الأعزل للسيوف المسلولة ، وهذا اللون من الشجاعة امتاز به دون غيره .

وقد دفع هذا الإيثار الرائع الملائكة الكروبيّين إلي الاستحسان والإعجاب به .

وباهي الله سبحانه ملائكته بهذا المشهد العجيب لنكران الذات(٢) ، فأنزل الآية الكريمة : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ . . .  ²  لتخليد هذه المنقبة ، وتكريم هذا الإيثار وهذه الفضيلة الرفيعة فى أروقة التاريخ .

وبعد تلك الليلة كان  ¼ يذهب إلي غار "ثور" ليُوصل ما يحتاج إليه النبىّ  ½ ورفيقه(٣) . فأوصاه رسول الله  ½ بردّ الأمانات ، واللحاق به فى المدينة(٤) .


(١) تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٧ و٦٨ ، المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ٥ / ٤٢٦٣ ، الطبقات الكبري : ٢٢٨١ ; الأمالى للطوسى : ٤٤٥ / ٩٩٥ .
(٢) مجمع البيان : ٢ / ٥٣٥ ، تأويل الآيات الظاهرة : ١ / ٨٩ / ٧٦ ، الفضائل لابن شاذان : ٨١ ، تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٣٩ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٦٥ ، العمدة : ٢٤٠ / ٣٦٧ ، تنبيه الخواطر : ١ / ١٧٣ ، إرشاد القلوب : ٢٢٤ .
(٣) تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٨ ; المناقب للكوفى : ١ / ٣٦٤ / ٢٩٢ .
(٤) السنن الكبري : ٦ / ٤٧٢ / ١٢٦٩٧ ، الطبقات الكبري : ٣ / ٢٢ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٨ ، اُسد الغابة : ٤ / ٩٢ / ٣٧٨٩ ; أنساب الأشراف : ١ / ٣٠٩ ، تاريخ الطبرى : ٢ / ٣٨٢ ، السيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ١٢٩ ; الأمالى للطوسى : ٤٦٧ / ١٠٣١ .

 ١٦٠ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

وبعد مدّة ترك  ¼ مكّة قاصداً يثرب ومعه الفواطم ; اُمّه فاطمة بنت أسد ، والسيّدة فاطمة الزهراء ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب . فعلمت قريش بذلك ، وعزمت علي منعه فبعثت ببعض فرسانها خلفه ، بيد أنّهم اصطدموا بموقفه الشجاع الجرىء ورجعوا خائبين(١) . وكان النبىّ  ½ ينتظره فى "قبا" ، حتي إذا لحق به ، توجّهوا نحو يثرب(٢) .

١١٦ ـ الأمالى للطوسى عن أنس : لمّا توجّه رسول الله  ½ إلي الغار ومعه أبو بكر أمر النبىّ  ½ عليّاً  ¼ أن ينام علي فراشه ويتوشّح ببردته ، فبات علىّ  ¼ موطّناً نفسه علي القتل ، وجاءت رجال قريش من بطونها يُريدون قتل رسول الله  ½ ، فلمّا أرادوا أن يضعوا عليه أسيافهم لا يشكّون أنّه محمّد  ½ ، فقالوا : أيقظوه ليجد ألم القتل ويري السيوف تأخذه ، فلمّا أيقظوه ورأوه عليّاً  ¼ تركوه وتفرّقوا فى طلب رسول الله  ½ ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ  ²  (٣) .

١١٧ ـ تاريخ اليعقوبى : أجمعت قريش علي قتل رسول الله ، وقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات أبو طالب ، فأجمعوا جميعاً علي أن يأتوا من كلّ قبيلة بغلام نَهْد(٤) ، فيجتمعوا عليه ، فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد ، فلا يكون لبنى هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش .


(١) الأمالى للطوسى : ٤٧٠ / ١٠٣١ .
(٢) الطبقات الكبري : ٣ / ٢٢ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٩ .
(٣) الأمالى للطوسى : ٤٤٧ / ٩٩٨ . راجع : القسم التاسع / علىٌّ عن لسان القرآن / الذى يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله .
(٤) أى شابّ قوىّ ضخم (النهاية : ٥ / ١٣٥) .

 ١٦١ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

فلمّا بلغ رسول الله أنّهم أجمعوا علي أن يأتوه فى الليلة التى اتّعدوا فيها خرج رسول الله لمّا اختلط الظلام ومعه أبو بكر ، وإنّ الله عزّ وجلّ أوحي فى تلك الليلة إلي جبريل وميكائيل أنّى قضيت علي أحدكما بالموت فأيّكما يواسى صاحبه ؟ فاختار الحياة كلاهما ، فأوحي الله إليهما : هلاّ كنتما كعلىّ بن طالب ، آخيت بينه وبين محمّد ، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر ، فاختار علىٌّ الموت ، وآثر محمّداً بالبقاء ، وقام فى مضجعه ؟! اهبطا فاحفظاه من عدوّه .

فهبط جبريل وميكائيل ، فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوّه ويصرفان عنه الحجارة ، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا بن أبى طالب ، من مثلك يباهى الله بك ملائكة سبع سماوات ؟ !

وخلّف عليّاً علي فراشه لردّ الودائع التى كانت عنده ، وصار إلي الغار فكمن فيه ، وأتت قريش فراشه فوجدوا عليّاً ، فقالوا : أين ابن عمّك ؟ قال : قلتم له : اخرج عنّا ، فخرج عنكم . فطلبوا الأثر فلم يقعوا عليه(١) .

١١٨ ـ مجمع البيان ـ فى ذكر مبيت علىّ  ¼ علي فراش النبىّ  ½ : روى أنّه لمّا نام علي فراشه قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجبرائيل ينادى : بخ بخ من مثلك يابن أبى طالب يباهى الله بك الملائكة!(٢)


(١) تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٣٩ وراجع العمدة : ٢٤٠ / ٣٦٧ وتنبيه الخواطر : ١ / ١٧٣ والفضائل لابن شاذان : ٨١ والمناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٦٥ واُسد الغابة : ٤ / ٩٨ / ٣٧٨٩ وإحياء علوم الدين : ٣٧٩٣ .
(٢) مجمع البيان : ٢ / ٥٣٥ ، الأمالى للطوسى : ٤٦٩ / ١٠٣١ ، العمدة : ٢٣٩ / ٣٦٧ ، الفضائل لابن شاذان : ٨١ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٦٥ ، تأويل الآيات الظاهرة : ١ / ٨٩ / ٧٦ ; تذكرة الخواصّ : ٣٥ ، شواهد التنزيل : ١ / ١٢٣ / ١٣٣ كلّها نحوه .

 ١٦٢ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

١١٩ ـ الأمالى للطوسى عن ابن عبّاس : اجتمع المشركون فى دار الندوة ; ليتشاوروا فى أمر رسول الله  ½ ، فأتي جبرئيل  ¼ رسول الله  ½ وأخبره الخبر ، وأمره أن لا ينام فى مضجعه تلك الليلة ، فلمّا أراد رسول الله  ½ المبيت أمر عليّاً  ¼ أن يبيت فى مضجعه تلك الليلة ، فبات علىّ  ¼ وتغشّي ببرد أخضر حضرمى كان رسول الله  ½ ينام فيه ، وجعل السيف إلي جنبه فلمّا اجتمع اُولئك النفر من قريش يطوفون ويرصدونه ويريدون قتله ، فخرج رسول الله  ½ وهم جلوس علي الباب ، عددهم خمسة وعشرون رجلا ، فأخذ حفنة من البطحاء(١) ، ثمّ جعل يذرّها علي رؤوسهم [و](٢) هو يقرأ ³ يس  ± وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ  ²  حتي بلغ ³ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ  ²  (٣) .

فقال لهم قائل : ما تنظرون قد والله خبتم وخسرتم ، والله لقد مرّ بكم وما منكم رجل إلاّ وقد جعل علي رأسه تراباً . فقالوا : والله ما أبصرناه ! قال : فأنزل الله عزّ وجلّ ³ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ  ²  (٤) (٥) .

١٢٠ ـ مسند ابن حنبل عن ابن عبّاس ـ فى قوله تعالي : ³ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ  ²  : تشاورت قريش ليلة بمكّة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ـ يريدون النبىّ  ½ ـ وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع


(١) هو الحصي الصغار (لسان العرب : ٢ / ٤١٣) .
(٢) ما بين المعقوفين زيادة منّا يقتضيها السياق .
(٣) يس : ١ و٢ و٩ .
(٤) الأنفال : ٣٠ .
(٥) الأمالى للطوسى : ٤٤٥ / ٩٩٥ ، بحار الأنوار : ١٩ / ٥٤ / ١١ .

 ١٦٣ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

الله عزّ وجلّ نبيّه علي ذلك ، فبات علىّ علي فراش النبىّ  ½ تلك الليلة ، وخرج النبىّ  ½ حتي لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليّاً يحسبونه النبىّ  ½ ، فلمّا أصبحوا ثابوا إليه ، فلمّا رأوه عليّاً ردّ الله مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ قال : لا أدرى ! فاقتصّوا أثره ، فلمّا بلغوا الجبل خلط عليهم فصعدوا فى الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا علي بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت علي بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال(١) .

١٢١ ـ الإمام علىّ  ¼ : إنّ قريشاً لم تزل تخيّل الآراء وتعمل الحيل فى قتل النبىّ  ½ حتي كان آخر ما اجتمعت فى ذلك يوم الدار ـ دار الندوة ـ وإبليس الملعون حاضر فى صورة أعور ثقيف ، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتي اجتمعت آراؤها علي أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجل ، ثمّ يأخذ كلّ رجل منهم سيفه ثمّ يأتى النبىّ  ½ وهو نائم علي فراشه فيضربونه جميعاً بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، وإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلّمها ، فيمضى دمه هدراً .

فهبط جبرئيل  ¼ علي النبىّ  ½ فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التى يجتمعون فيها والساعة التى يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج فى الوقت الذى خرج فيه إلي الغار ، فأخبرنى رسول الله  ½ بالخبر ، وأمرنى أن أضطجع فى مضجعه وأقيه بنفسى ، فأسرعت إلي ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسى بأن اُقتل دونه ، فمضي  ¼ لوجهه ، واضطجعت فى مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة فى أنفسها أن


(١) مسند ابن حنبل : ١ / ٧٤٤ / ٣٢٥١ ، المصنّف لعبد الرزّاق : ٥ / ٣٨٩ / ٩٧٤٣ ، المعجم الكبير : ١١ / ٣٢٢ / ١٢١٥٥ ، الدرّ المنثور : ٤ / ٥٠ ; مجمع البيان : ٤ / ٨٢٦ .

 ١٦٤ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

تقتل النبىّ  ½ ، فلمّا استوي بى وبهم البيت الذى أنا فيه ناهضتهم بسيفى ، فدفعتهم عن نفسى بما قد علمه الله والناس(١) .

١٢٢ ـ الطبقات الكبري عن عائشة وابن عبّاس وعائشة بنت قدامة وعلىّ  ¼ وسراقة بن جعشم ـ دخل حديث بعضهم فى حديث بعض ـ : أتي جبريل رسول الله  ½ ، فأخبره الخبر [أى اجتماع قريش علي قتل رسول الله  ½ ] وأمره أن لا ينام فى مضجعه تلك الليلة . . . وأمر عليّاً أن يبيت فى مضجعه تلك الليلة ، فبات فيه علىّ وتغشّي بُرداً أحمر حضرميّاً كان رسول الله  ½ ينام فيه ، واجتمع اُولئك النفر من قريش يتطلّعون من صِيْر(٢) الباب ويرصدونه يريدون ثيابه ويأتمرون أيّهم يحمل علي المضطجِع صاحب الفراش ، فخرج رسول الله  ½ وهم جلوس علي الباب ، فأخذ حفنة من البَطحْاء فجعل يذرّها علي رؤوسهم ويتلو : ³ يس  ± وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ  ²  (٣) حتي بلغ : ³ وَسَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ  ²  (٤) ومضي رسول الله  ½ .

فقال قائل لهم : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمّداً ، قال : خبتم وخسرتم ، قد والله مرّ بكم وذرّ علي رؤوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ! وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، وهم : أبو جهل والحكم بن أبى العاص وعقبة بن أبى مُعَيط والنضر ابن الحارث واُميّة بن خلف وابن الغيطلة وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدىّ ، وأبو لهب واُبىّ بن خلف ونبيه ومُنبه ابنا الحجّاج ، فلمّا أصبحوا قام علىّ عن


(١) الخصال : ٣٦٦ / ٥٨ عن جابر الجعفى عن الإمام الباقر  ¼ .
(٢) الصِّيْر : شِقّ الباب (النهاية : ٣ / ٦٦) .
(٣) يس : ١ و٢ .
(٤) يس : ١٠ .

 ١٦٥ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

الفراش ، فسألوه عن رسول الله  ½ فقال : لا علم لى به(١) .

١٢٣ ـ المستدرك علي الصحيحين عن ابن عبّاس : شري علىّ نفسه ولبس ثوب النبىّ  ½ ثمّ نام مكانه . قال : وكان المشركون يرمون رسول الله  ½ وقد كان رسول الله  ½ ألبسه بردة ، وكانت قريش تريد أن تقتل النبىّ  ½ ، فجعلوا يرمون عليّاً ويرونه النبىّ  ½ وقد لبس بردة ، وجعل علىّ   ¢ يتضَوّر(٢) ، فإذا هو علىّ فقالوا : إنّك للئيم ; إنّك لتتضوّر وكان صاحبك لا يتضوّر ، ولقد استنكرناه منك(٣) .

١٢٤ ـ مسند ابن حنبل عن ابن عبّاس : شري علىّ نفسه ; لبس ثوب النبىّ  ½ ثمّ نام مكانه ، قال : وكان المشركون يرمون رسول الله  ½ ، فجاء أبو بكر وعلىّ نائم ، قال : وأبو بكر يحسب أنّه نبىّ الله ، فقال : يا نبىّ الله ، قال : فقال له علىّ : إنّ نبىّ الله  ½ قد انطلق نحو بئر ميمون فأدرِكه ، قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ، قال : وجعل علىّ يُرمي بالحجارة ـ كما كان يُرمي نبىّ الله ـ وهو يتضوّر ، قد لفّ رأسه فى الثوب لا يخرجه ، حتي أصبح ، ثمّ كشف عن رأسه ، فقالوا : إنّك للئيم ; كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر ، وقد استنكرنا ذلك(٤) .

١٢٥ ـ تاريخ الطبرى: أصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله  ½ ، فدخلوا الدار ، وقام علىّ  ¼ عن فراشه ، فلمّا دنوا منه عرفوه ، فقالوا له : أين صاحبك ؟


(١) الطبقات الكبري : ١ / ٢٢٧ و٢٢٨ .
(٢) التَّضَوُّر : الصياح والتلوّى عند الضرب أو الجوع (مجمع البحرين : ٢ / ١٠٨٨) .
(٣) المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ٥ / ٤٢٦٣ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٨ ، تفسير الحبرى : ٢٤٢ / ٩ وفيهما "لنائم" بدل "للئيم" ، تفسير فرات : ٦٦ / ٣٣ كلّها نحوه .
(٤) مسند ابن حنبل : ١ / ٧٠٩ / ٣٠٦٢ ، فضائل الصحابة لابن حنبل : ٢ / ٦٨٤ / ١١٦٨ ، المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ١٤٣ / ٤٦٥٢ وص ٥ / ٤٢٦٣ نحوه ، خصائص أمير المؤمنين للنسائى : ٧٢ / ٢٣ ، تفسير العيّاشى : ١ / ١٠١ / ٢٩٣ .

 ١٦٦ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

قال : لا أدرى ، أ وَرقيباً كنتُ عليه ؟ ! أمرتموه بالخروج فخرج . فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلي المسجد ، فحبسوه ساعة ثمّ تركوه(١) .

١٢٦ ـ الأمالى للطوسى عن هند بن هالة وأبى رافع وعمّار بن ياسر ـ فى ذكر اجتماع قريش علي قتل رسول الله  ½ وعزمه علي الهجرة إلي المدينة : دعا رسول الله  ½ عليّاً  ¼ وقال له : يا علىّ ، إنّ الروح هبط علىَّ بهذه الآية آنفاً ، يخبرنى أنّ قريشاً اجتمعوا علي المكر بى وقتلى ، وأنّه أوحي إلىّ ربّى عزّ وجلّ أن أهجر دار قومى ، وأن أنطلق إلي غار ثور تحت ليلتى ، وأنّه أمرنى أن آمرك بالمبيت علي ضجاعى ـ أو قال : مضجعى ـ ليخفي بمبيتك عليه أثرى ، فما أنت قائل وما صانع ؟

فقال علىّ  ¼ : أ وَتسلم بمبيتى هناك يا نبىّ الله ؟ قال : نعم ، فتبسّم علىّ  ¼ ضاحكاً ، وأهوي إلي الأرض ساجداً شكراً بما أنبأه رسول الله  ½ من سلامته ، وكان علىّ صلوات الله عليه أوّل من سجد لله شكراً ، وأوّل من وضع وجهه علي الأرض بعد سجدته من هذه الاُمّة بعد رسول الله  ½ ، فلمّا رفع رأسه قال له : امضِ لما اُمرت فداك سمعى وبصرى وسويداء قلبى ، ومُرنى بما شئت أكن فيه كمسرّتك ، وأقع منه بحيث مرادك ، وإن توفيقى إلاّ بالله . . . .

فلمّا غلق الليل أبوابه وأسدل أستاره وانقطع الأثر ، أقبل القوم علي علىّ صلوات الله عليه يقذفونه بالحجارة والحَلَم(٢) ، ولا يشكّون أنّه رسول الله  ½ حتي إذا برق الفجر وأشفقوا أن يفضحهم الصبح ، هجموا علي علىّ صلوات الله عليه ،


(١) تاريخ الطبرى : ٢ / ٣٧٤ ، الكامل فى التاريخ : ١ / ٥١٦ نحوه .
(٢) جمع حَلَمة : نبات ينبت بنجد فى الرمل ، لها زهر ، وورقها اُخيشن ، عليه شوك (لسان العرب : ١٢ / ١٤٨ و١٤٩) .

 ١٦٧ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

وكانت دور مكّة يومئذ سوائب لا أبواب لها ، فلمّا بصر بهم علىّ  ¼ قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، وكان يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب له علىّ  ¼ فختله وهَمَز يده(١) ، فجعل خالد يقمِص(٢) قِماص البَكْر(٣) ، ويرغو رغاء الجمل ، ويذعر ويصيح ، وهم فى عرج الدار من خلفه ، وشدّ عليهم علىّ  ¼ بسيفه ـ يعنى سيف خالد ـ فأجفلوا(٤) أمامه إجفال النَّعم إلي ظاهر الدار ، فتبصّروه فإذا هو علىّ  ¼ ، فقالوا : إنّك لعلىّ ؟ قال : أنا علىّ ، قالوا : فإنّا لم نردك ، فما فعل صاحبك ؟ قال : لا علم لى به وقد كان علم ـ يعنى عليّاً  ¼ ـ أنّ الله تعالي قد أنجي نبيّه  ½ بما كان أخبره من مُضيّه إلي الغار واختبائه فيه ، فأذكت قريش عليه العيون ، وركبت فى طلبه الصعب والذلول ، وأمهل علىّ صلوات الله عليه حتي إذا أعْتَم(٥) من الليلة القابلة انطلق هو وهند بن أبى هالة حتي دخلا علي رسول الله  ½ فى الغار ، فأمر رسول الله  ½ هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين ، فقال أبو بكر : قد كنت أعددت لى ولك يا نبىّ الله راحلتين نرتحلهما إلي يثرب . فقال : إنّى لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ بالثمن . قال : فهى لك بذلك ، فأمر  ½ عليّاً  ¼ فأقبضه الثمن ، ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته .

وكانت قريش تدعو محمّداً  ½ فى الجاهليّة الأمين ، وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك من يقدم مكّة من العرب فى الموسم ، وجاءته النبوّة والرسالة والأمر كذلك ، فأمر عليّاً  ¼ أن يقيم صارخاً يهتف


(١) خَتَلَهُ : أى داورَه وطلبه من حيث لا يشعر (النهاية : ٢ / ١٠) ، والهَمْز : العصر (لسان العرب : ٥ / ٤٢٦) .
(٢) القِماص : هو أن لا يستقرّ فى موضع ، تراه يقمِص فيَثب من مكانه من غير صبر (لسان العرب : ٧ / ٨٢) .
(٣) البَكْر : الفَتىُّ من الإبل ، بمنزلة الغلام من الناس (النهاية : ١ / ١٤٩) .
(٤) جَفَلَ : إذا أسرع وذهب فى الأرض (مجمع البحرين : ١ / ٣٠٠) .
(٥) أعْتَمَ الرجل : صار فى العَتَمة ; وهى ثلث الليل الأوّل بعد غيبوبة الشَّفَق (لسان العرب : ١٢ / ٣٨١) .

 ١٦٨ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

بالأبطح غدوةً وعشيّاً : ألا من كان له قِبَل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلتؤدَّ إليه أمانته .

قال : وقال النبىّ  ½ : إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا علىّ بأمر تكرهه حتي تقدم علىَّ ، فأدّ أمانتى علي أعين الناس ظاهراً ، ثمّ إنّى مستخلفك علي فاطمة ابنتى ومستخلف ربّى عليكما ومستحفظه فيكما ، وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ، ومن أزمع(١) للهجرة معه من بنى هاشم . . . .

وقال رسول الله  ½ لعلىّ وهو يوصيه : وإذا أبرمت ما أمرتك فكن علي اُهبة الهجرة إلي الله ورسوله ، وسر إلىّ لقدوم كتابى إليك ، ولا تلبث بعده . . . .

ولمّا ورد رسول الله  ½ المدينة نزل فى بنى عمرو بن عوف بقُباء ، فأراده أبو بكر علي دخوله المدينة وألاصَهُ(٢) فى ذلك ، فقال  ½ : ما أنا بداخلها حتي يقدم ابن عمّى وابنتى ; يعنى عليّاً وفاطمة    ¤ . . . ثمّ كتب رسول الله  ½ إلي علىّ بن أبى طالب  ¼ كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه وقلّة التلوّم(٣) ، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثى ، فلمّا أتاه كتاب رسول الله  ½ تهيّأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسلّلوا ويتخفّفوا إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلي ذى طوي ، وخرج علىّ  ¼ بفاطمة بنت رسول الله  ½ واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب ـ وقد قيل هى ضُباعة ـ وتبعهم أيمن ابن اُمّ أيمن مولي رسول الله  ½ ، وأبو واقد رسول رسول الله  ½ ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم .


(١) أى أجمعَ الرأى وعزمَ عليه (مجمع البحرين : ٢ / ٧٨١) .
(٢) أى أدارهُ وراودهُ (النهاية : ٤ / ٢٧٦) .
(٣) التَّلَوُّم : الانتظار والتلبّث (لسان العرب : ١٢ / ٥٥٧) .

 ١٦٩ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

فقال علىّ صلوات الله عليه : ارفق بالنسوة يا أبا واقد ; إنّهنّ من الضعائف . قال : إنّى أخاف أن يدركنا الطالب ـ أو قال : الطلب ـ فقال علىّ  ¼ : ارْبَعْ(١) عليك ; فإنّ رسول الله  ½ قال لى : يا علىّ ، إنّهم لن يصلوا من الآن إليك بما تكرهه ، ثمّ جعل ـ يعنى عليّاً  ¼ ـ يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول :

ليس إلاّ الله فارفع ظنّكا يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا

وسار فلمّا شارف ضَجَنان(٢) أدركه الطلب ، وعددهم سبعة فوارس من قريش مستلئمين(٣) ، وثامنهم مولي لحرب بن اُميّة يدعي جناحاً ، فأقبل علىّ  ¼ علي أيمن وأبى واقد ، وقد تراءي القوم ، فقال لهما : أنيخا الإبل واعقلاها ، وتقدّم حتي أنزل النسوة ، ودنا القوم فاستقبلهم  ¼ منتضياً سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : أظننت أنّك يا غُدَرُ(٤) ناج بالنسوة ؟ ! ارجع لا أبا لك . قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعنّ راغماً ، أو لنرجعنّ بأكثرك شعراً وأهون بك من هالك ، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوّروها ، فحال علىّ  ¼ بينهم وبينها ، فأهوي له جناح بسيفه ، فراغ(٥) علىّ  ¼ عن ضربته وتختّله علىّ  ¼ فضربه علي عاتقه ، فأسرع السيف مضيّاً فيه حتي مسّ كاثبة(٦) فرسه ، فكان  ¼ يشدّ علي قدمه شدّ الفرس ، أو الفارس علي فرسه ، فشدّ عليهم بسيفه وهو يقول :


(١) أى ارفق بنفسك وكُفّ (الصحاح : ٣ / ١٢١٢) .
(٢) جبل بناحية تهامة علي بريد من مكّة ، وهناك الغميم ، فى أسفله مسجد صلّي فيه رسول الله  ½ (معجم البلدان : ٣ / ٤٥٣) .
(٣) استلأم الرجل : إذا لبِس ما عنده من عُدّة ; رمح وبيضة ومِغفَر وسيف ونَبل (لسان العرب : ١٢ / ٥٣٢) .
(٤) غُدَر : معدول عن غادر للمبالغة (النهاية : ٣ / ٣٤٥) .
(٥) أى حادَ (لسان العرب : ٨ / ٤٣١) .
(٦) هى من الفرس مُجتمع كتفيه قُدّام السرج (النهاية : ٤ / ١٥٢) .

 ١٧٠ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

خلّوا سبيل الجاهد المجاهدِ آليت لا أعبد غير الواحدِ

فتصدّع عنه القوم وقالوا له : اغن عنّا نفسك يابن أبى طالب . قال : فإنّى منطلق إلي ابن عمّى رسول الله  ½ بيثرب ، فمن سرّه أن اُفرى لحمه واُريق دمه فَليَتعقّبنى أو فَليَدنُ منّى .

ثمّ أقبل علي صاحبيه أيمن وأبى واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما .

ثمّ سار ظاهراً قاهراً حتي نزل ضَجْنان ، فتلوّم بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم اُمّ أيمن مولاة رسول الله  ½ ، فظلّ ليلته تلك هو والفواطم ـ اُمّه فاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت رسول الله  ½ ، وفاطمة بنت الزبير ـ طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلي جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتي طلع الفجر فصلّي  ¼ بهم صلاة الفجر ، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهم ممّن صحبه حتي قدموا المدينة(١) .

١٢٧ ـ تاريخ دمشق عن أبى رافع : إنّ عليّاً كان يجهّز النبىّ  ½ حين كان بالغار ويأتيه بالطعام ، واستأجر له ثلاث رواحل ; للنبىّ  ½ ولأبى بكر ودليلهم ابن اُريقط ، وخلّفه النبىّ  ½ ، فخرج إليه أهله ، فخرج ، وأمره أن يؤدّى عنه أمانته ووصايا من كان يوصى إليه ، وما كان يؤتمن عليه من مال ، فأدّي أمانته كلّها .

وأمره أن يضطجع علي فراشه ليلة خرج ، وقال : إنّ قريشاً لن يفقدونى ما رأوك ، فاضطجع علىّ علي فراشه ، فكانت قريش تنظر إلي فراش النبىّ  ½


(١) الأمالى للطوسى : ٤٦٥ ـ ٤٦٩ / ١٠٣١ وراجع المناقب لابن شهر آشوب : ١ / ١٨٢ ـ ١٨٤ وكشف الغمّة : ٢ / ٣٠ ـ ٣٢ .

 ١٧١ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

فيرون عليه رجلاً يظنّونه النبىّ  ½ ، حتي إذا أصبحوا رأوا عليه عليّاً ، فقالوا : لو خرج محمّد خرج بعلىّ معه ، فحبسهم الله عزّ وجلّ بذلك عن طلب النبىّ  ½ حين رأوا عليّاً ولم يفقدوا النبىّ  ½ .

وأمر النبىّ  ½ عليّاً أن يلحقه بالمدينة ، فخرج علىّ فى طلبه بعدما أخرج إليه أهله ، يمشى من الليل ويكمن من النهار حتي قدم المدينة ، فلمّا بلغ النبىّ  ½ قدومه قال : ادعوا لى عليّاً . قيل : يا رسول الله ، لا يقدر أن يمشى ، فأتاه النبىّ  ½ ، فلمّا رآه النبىّ  ½ اعتنقه وبكي رحمة لما بقدميه من الورم ، وكانتا تقطران دماً ، فتفل النبىّ  ½ فى يديه ثمّ مسح بهما رجليه ، ودعا له بالعافية ، فلم يشتكهما علىّ حتي استشهد(١) .

١٢٨ ـ الإمام علىّ  ¼ : لمّا خرج رسول الله  ½ إلي المدينة فى الهجرة أمرنى أن اُقيم بعده حتي اُؤدّى ودائع كانت عنده للناس ، ولذا كان يسمّي الأمين ، فأقمت ثلاثاً فكنت أظهر ، ما تغيّبت يوماً واحداً ، ثمّ خرجت فجعلت أتّبع طريق رسول الله  ½ حتي قدمت بنى عمرو بن عوف ورسول الله  ½ مقيم ، فنزلت علي كلثوم بن الهدم وهنالك منزل رسول الله  ½ (٢) .

١٢٩ ـ الأمالى للطوسى عن مجاهد : فخرت عائشة بأبيها ومكانه مع رسول الله  ½ فى الغار ، فقال عبد الله بن شدّاد بن الهاد : وأين أنتِ من علىّ بن


(١) تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٨ / ٨٤١٦ ، اُسد الغابة : ٤ / ٩٢ / ٣٧٨٩ نحوه وفيه من "و خلّفه النبىّ  ½ " ; المناقب للكوفى : ١ / ٣٦٤ / ٢٩٢ ، إعلام الوري : ١ / ٣٧٤ .
(٢) الطبقات الكبري : ٣ / ٢٢ عن عبيد الله بن أبى رافع ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٩ وراجع السنن الكبري : ٦ / ٤٧٢ / ١٢٦٩٧ وأنساب الأشراف : ١ / ٣٠٩ وتاريخ الطبرى : ٢ / ٣٨٢ والسيرة النبويّة لابن هشام : ٢ / ١٢٩ .

 ١٧٢ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت

أبى طالب حيث نام فى مكانه وهو يري أنّه يُقتل ؟ ! فسكتت ولم تُحِرْ جواباً(١) .

١٣٠ ـ الطبقات الكبري عن محمّد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت : قدم علىّ للنصف من شهر ربيع الأوّل ورسول الله  ½ بقُباء لم يَرِمْ(٢) بعدُ(٣) .

١٣١ ـ الأمالى للطوسى عن اُمّ هانئ بنت أبى طالب : لمّا أمر الله تعالي نبيّه  ½ بالهجرة وأنام عليّاً  ¼ فى فراشه ووشّحه ببرد له حضرمى ، ثمّ خرج فإذا وجوه قريش علي بابه ، فأخذ حفنة من تراب فذرّها علي رؤوسهم ، فلم يشعر به أحد منهم ، ودخل علىَّ بيتى ، فلمّا أصبح أقبل علىَّ وقال : أبشرى يا اُمّ هانئ ; فهذا جبرئيل  ¼ يخبرنى أنّ الله عزّ وجلّ قد أنجي عليّاً من عدوّه .

قالت : وخرج رسول الله  ½ مع جناح الصبح إلي غار ثور ، وكان فيه ثلاثاً ، حتي سكن عنه الطلب ، ثمّ أرسل إلي علىّ  ¼ وأمره بأمره وأداء أمانته(٤) .

راجع : القسم العاشر / الخصائص الأخلاقيّة / كمال الإيثار .


(١) الأمالى للطوسى : ٤٤٧ / ٩٩٩ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٥٧ .
(٢) رامَ يَرِيْمُ إذا برح (لسان العرب : ١٢ / ٢٥٩) أى والنبىّ  ½ بقباء لم يغادرها بعدُ .
(٣) الطبقات الكبري : ٣ / ٢٢ ، اُسد الغابة : ٣ / ٣٩ / ٢٥٣٨ عن أبى زكريّا بن يزيد بن إياس وفيه "النصف من ربيع الأوّل" .
(٤) الأمالى للطوسى : ٤٤٧ / ١٠٠٠ .


إرجاعات 
١٥٧ - المجلد التاسع / القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ / الفصل الثاني : الخصائص الأخلاقيّة / كمال الإيثار

 ١٧٣ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت / نقل ونقد

ذكرنا مراراً عند نقلنا للأحاديث المرتبطة بالفضائل العلويّة أنّ إنكار فضائل الإمام  ¼ والسعى لمحوها من صفحات التاريخ وأذهان الناس ـ لبواعث مختلفة وأسباب متنوّعة ـ دأب أعداء الحقّ علي مرّ التاريخ . وقد كان عمرو بن بحر الجاحظ (م ٢٥٥ هـ ) ممّن عزف علي وتر هذه النغمة اللاموزونة ـ بشأن هذه الفضيلة العظيمة ـ وحاول أن يُنكر فضيلة المبيت علي فراش النبىّ  ½ ، ويسعي إلي تقليل وهجها الباهر المتألّق بزعمه وظنّه الباطل ; فقد قال فى رسالته الصغيرة المسمّاة بالعثمانيّة :

لم يكن له فى ذلك كبير طاعة ; لأنّ الناقلين نقلوا أنّه  ½ قال له : "نَم ; فلن يخلص إليك شىء تكرهه"(١) .

ومنهم ابن تيميّة الذى لم يألُ جهداً ، ولم يدّخر وسعاً فى تقليل شأن فضائل الإمام  ¼ وآل الله ، فعطف علي ما سبق قوله :

وأيضاً فإنّ النبىّ  ½ قد قال : "اتّشحْ ببردى هذا الأخضر ، فنم فيه ; فإنّه لن يخلص إليك منهم رجل بشىء تكرهه" فوعده ـ وهو الصادق ـ أنّه لا يخلص إليه


(١) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٦٢ .

 ١٧٤ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت / نقل ونقد

مكروه ; وكان طمأنينته بوعد الرسول  ½ (١) .

ولنا عليهما :

١ ـ إنّ الآية الكريمة : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي . . .  ²  كما ذكرنا مصادرها الكثيرة فى تضاعيف كتابنا نزلت فى علىّ  ¼ (٢) ، لتدلّ علي عظمة هذه الحادثة ، وهذا ما لا يدع مجالاً للشكّ والترديد . وهكذا أطلق الله تعالي علي عمل الإمام  ¼ تعبير "شراء النفس" ، ودعا الملائكة لملاحظة هذا الإيثار الرائع ، بَيْد أنّ الجاحظ ، وابن تيميّة اجتهدا فى مقابل النصّ ، ولم يعدّا ذلك "شراء نفس" ، وأنكرا كونه فضيلةً ، بذريعة واهية تتلخّص فى أنّه  ¼ كان يعلم أنّه لا يصل إليه مكروه .

٢ ـ إنّ الكلام الذى تشبّث به هذان الشخصان وهو قوله : "إنّهم لن يصلوا إليك بشىء تكرهه" لم يرد فى معظم المصادر التاريخيّة المهمّة التى يشار إليها بالبنان ، كما لم يرد فى المصادر الشيعيّة . وسنذكر أنّ النبىّ  ½ قال له هذا القول بعد المبيت ، وبعدما أوصاه بأداء الأمانات فى الغار . وهكذا يستقيم كلام الإسكافى المعتزلى ويصمد شامخاً ، إذ قال فى نقد كلام الجاحظ :

"هذا هو الكذب الصراح ، والتحريف والإدخال فى الرواية ما ليس منها . . ."(٣) .

٣ ـ ذكرنا سابقاً أنّ رسول الله  ½ قال هذا الكلام وأمر عليّاً  ¼ بأداء الأمانات فى إحدي ليالى إقامته فى الغار ، بعد حادثة المبيت ، ونقل الشيخ الطوسى


(١) منهاج السنّة : ٧ / ١١٦ .
(٢) راجع : القسم التاسع / علىّ عن لسان القرآن / الذى يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله .
(٣) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٦٣ .


إرجاعات 
٣٧ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام عليّ / الفصل الأوّل : عليّ عن لسان القرآن / الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله

 ١٧٥ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت / نقل ونقد

رضوان الله عليه هذا القسم من الحادثة بالشكل الآتى :

فأمر  ½ عليّاً  ¼ ، فأقبضه الثمن ، ثمّ أوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته . . . وقال : " . . . إنّهم لن يصلوا من الآن إليك يا علىّ بأمر تكرهه . . ."(١) .

٤ ـ فى ضوء بعض المعلومات التاريخيّة : لمّا هجم المشركون علي الدار صباحاً ، ورأوا عليّاً  ¼ فى الفراش ، وأيِسوا من مؤامرتهم المشؤومة ، اصطدموا بالإمام  ¼ ، وقبل ذلك رموه بالحجارة غير مرّة . قال الإسكافى :

ولو كان هذا صحيحاً لم يصل إليه منهم مكروه ، وقد وقع الاتّفاق علي أنّه ضُرب ورُمىَ بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتي تضوّر ، وأنّهم قالوا له : رأينا تضوّرك ; فإنّا كنّا نرمى محمّداً ولا يتضوّر(٢) .

وقال الطبرى : فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلي المسجد فحبسوه ساعةً ثمّ تركوه(٣) .

فإذا كان عدم وصول المكروه إليه بوعد من رسول الله  ½ قبل مبيته فى فراش النبىّ  ½ لكان ينبغى عدم وصول شىء من الضرر والأذي إليه أصلا!

وأشار الإمام  ¼ فى كلام له إلي هذا الاصطدام وقال : "و أمرنى أن أضطجع فى مضجعه وأقيه بنفسى ، فأسرعتُ إلي ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسى بأن اُقتل دونه"(٤).


(١) الأمالى للطوسى : ٤٦٧ و٤٦٨ / ١٠٣١ .
(٢) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٦٣ .
(٣) تاريخ الطبرى : ٢ / ٣٧٤ ، الكامل فى التاريخ : ١ / ٥١٦ ، تاريخ الخميس : ١ / ٣٢٥ ، بحار الأنوار : ١٩ / ٣٩ / ٦ ، الصحيح من سيرة النبىّ : ٤ / ٣٨ .
(٤) الخصال : ٢ / ١٤ ، بحار الأنوار : ١٩ / ٤٦ / ٧ .

 ١٧٦ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثالث : الإيثار الرائع ليلة المبيت / نقل ونقد

وأوضح من ذلك كلّه شعر لطيف للإمام  ¼ نفسه فى وصف هذه الفضيلة الرفيعة :

وقيتُ بنفسى خيرَ من وطئ الحصا ومن طافَ بالبيتِ العتيق وبالحِجْرِ
رسول إله خاف أن يمكروا بهِفنجّاهُ ذو الطول الإله من المكْرِ
وبات رسولُ اللهِ فى الغارِ آمناً موقّيً وفى حفظ الإله وفى ستْرِ
وبتُّ اُراعيهم ولم يتّهموننى وقد وطنتْ نفسى علي القتل والأسْرِ(١)

نلحظ الإمام  ¼ فى هذه الأبيات يصرّح بمبيته فى فراش النبىّ  ½ ، واستعداده للقتل ، والأسر ، وتفانيه فى سبيل المحافظة علي حياته  ½ .


(١) المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ٥ / ٤٢٦٤ ، تذكرة الخواصّ : ٣٥ ; الغدير : ٢ / ٤٨ .