٢٣٩ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الثالث : علم التاريخ
٣ / ١ ٥٦١٣ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من وصيّة له لابنه الحسن ¼ كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين ـ : أى بُنَىّ ، إنّى وإن لم أكن عُمّرت عُمْر مَن كان قبلى ; فقد نظرت فى أعمالهم ، وفكّرت فى أخبارهم ، وسرت فى آثارهم ، حتي عدتُ كأحدهم ، بل كأنّى ـ بما انتهي إلىّ من اُمورهم ـ قد عمّرت مع أوّلهم إلي آخرهم ; فعرفت صفوَ ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نَخيلَه(١) وتوخّيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت ـ حيث عنانى من أمرك ما يعنى الوالد الشفيق ، وأجمعتُ عليه من أدبك ـ أن يكون ذلك وأنت ٢٤٠ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الثالث : علم التاريخ / تأكيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ
مُقبِل العمر ومقتَبَل الدهر ، ذو نيّة سليمة ونفس صافية(١) . ٣ / ٢ تأكيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ ٥٦١٤ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من خطبة له ¼ تُسمّي بالقاصعة ـ : احذروا ما نزل بالاُمم قبلكم من المَثُلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال . فتذكّروا فى الخير والشرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم . فإذا تفكّرتم فى تفاوت حالَيْهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنَهم ، وزاحت الأعداءُ له عنهم ، ومدّت العافية فيه عليهم ، وانقادت النعمة له معهم ، ووصلت الكرامة عليه حبلهم ، من الاجتناب للفرقة ، واللزوم للاُلفة ، والتحاضّ عليها ، والتواصى بها ، واجتنبِوا كلّ أمر كسر فِقْرَتهم ، وأوهن مُنَّتهم(٢) . من تضاغن القلوب ، وتشاحن الصدور ، وتدابر النفوس ، وتخاذل الأيدى ، وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ، كيف كانوا فى حال التمحيص والبلاء ; أ لم يكونوا أثقل الخلائق أعباء ، وأجهد العباد بلاء ، وأضيق أهل الدنيا حالاً ؟ اتّخذتهم الفراعنة عبيداً ، فساموهم سوء العذاب ، وجرّعوهم المُرار ، فلم تبرح الحال بهم فى ذلّ الهلكة وقهر الغلبة . لا يجدون حيلة فى امتناع ، ولا سبيلاً إلي دفاع . حتي إذا رأي الله سبحانه جدّ الصبر منهم علي الأذي فى محبّته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ; جعل لهم من مضايق البلاء فرجاً ; فأبدلهم العزّ مكان الذلّ ، والأمنَ (١) نهج البلاغة : الكتاب ٣١ ، تحف العقول : ٧٠ ، كشف المحجّة : ٢٢٣ عن عمر بن أبى المقدام عن الإمام الباقر عنه ¤ ، بحار الأنوار : ٧٧ / ٢٠١ ; ينابيع المودّة : ٣ / ٤٣٩ / ١٠ ، كنز العمّال : ١٦ / ١٦٩ / ٤٤٢١٥ . ٢٤١ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الثالث : علم التاريخ / تأكيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ
مكان الخوف ، فصاروا ملوكاً حكّاماً ، وأئمّة أعلاماً ، وقد بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تذهب الآمال إليه بهم . فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة ، والأهواء مؤتلفة ، والقلوب معتدلة ، والأيدى مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة . أ لم يكونوا أرباباً فى أقطار الأرضين ، وملوكاً علي رقاب العالمين ؟ فانظروا إلي ما صاروا إليه فى آخر اُمورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتّتت الاُلفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحاربين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غَضارة نعمته . وبقى قصص أخبارهم فيكم عِبَراً للمعتبرين . فاعتبِروا بحال وُلْد إسماعيل وبنى إسحاق وبنى إسرائيل (ع) ; فما أشدّ اعتدال الأحوال ، وأقرب اشتباه الأمثال ! تأمّلوا أمرهم فى حال تشتّتهم وتفّرقهم ليالى كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم ، يحتازونهم عن رِيف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا إلي منابت الشِّيح ، ومهافى(١) الريح ، ونَكَد المعاش . فتركوهم عالة مساكين ، إخوان دَبَر(٢) وَوَبر ، أذلّ الاُمم داراً ، وأجدبهم قراراً . لا يأوون إلي جناح دعوة يعتصمون بها ، ولا إلي ظلّ اُلفة يعتمدون علي عزّها . فالأحوال مضطربة ، والأيدى مختلفة ، والكثرة متفرقة ; فى بلاءِ أزْل(٣) ، وإطباق جهل ! من بنات موؤودة ، وأصنام معبودة ، وأرحام مقطوعة ، وغارات مشنونة . فانظروا إلي مواقع نِعَم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً ، فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع علي دعوته اُلفتهم ; كيف نشرت النعمة عليهم جناحَ كرامتها ، وأسالت لهم (١) مهافى : جمع مهفيً ; وهو مَوضِع هبوبِها فى البَرارى (النهاية : ٥ / ٢٦٧) . ٢٤٢ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الثالث : علم التاريخ / تأكيد الإمام علي الاعتبار بالتاريخ
جداول نعيمها ، والتفّت الملّة بهم فى عوائد بركتها ، فأصبحوا فى نعمتها غَرِقين ، وفى خُضرة عيشها فَكِهين . قد تربّعت الاُمور بهم فى ظل سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلي كنف عزّ غالب . وتعطّفت الاُمور عليهم فى ذري ملك ثابت . فهم حكّام علي العالمين ، وملوك فى أطراف الأرضين . يملكون الاُمور علي من كان يملكها عليهم . ويُمضون الأحكام فيمن كان يُمضيها فيهم . لا تُغمَز لهم قناة ، ولا تُقرَع لهم صَفاة(١) . ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة . وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة . فإنّ الله سبحانه قد امتنّ علي جماعة هذه الاُمّة ـ فيما عقد بينهم من حبل هذه الاُلفة التى ينتقلون فى ظلّها ، ويأوون إلي كنفها ـ بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ; لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر(٢) . (١) الصَّفاة : الصخرة والحجر الأملس . والكلام هنا تميل ; أى لا ينالهم أحدٌ بسوء (النهاية : ٣ / ٤١) . ٢٤٣ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة
٤ / ١ ٥٦١٥ ـ نهج البلاغة : من خطبة له ¼ وهى كلمة جامعة للعظة والحكمة : فإنّ الغاية أمامكم ، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم . تخفّفوا تَلحقوا(١) ; فإنّما يُنتظَر بأوّلكم آخرُكم . قال السيّد الشريف : أقول : إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله ½ بكلّ كلام لمال به راجحاً ، وبرز عليه سابقاً . فأمّا قوله ¼ : "تخفّفوا تلحقوا" فما سُمع كلام أقلّ منه مسموعاً ولا أكثر محصولاً ، وما أبعد غورها من كلمة ، وأنقع نطفتها(٢) من حكمة ! وقد نبّهنا فى كتاب الخصائص علي (١) أى تخفَّفوا من الذنوب تَلحَقوا مَن سبَقكم فى العمل الصالح (مجمع البحرين : ١ / ٥٣٠) . ٢٤٤ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الطريق الواضح
عظم قدرها ، وشرف جوهرها(١) . ٤ / ٢ ٥٦١٦ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كلام له ¼ يعظ بسلوك الطريق الواضح ـ : أيّها الناس ! لا تستوحشوا فى طريق الهدي لقلّة أهله ; فإنّ الناس قد اجتمعوا علي مائدة شبعها قصير ، وجوعها طويل . أيّها الناس ! إنّما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنّما عقر ناقة ثمود رجلٌ واحد ، فعمّهم الله بالعذاب لما عمُّوه بالرضا ، فقال سبحانه : ³ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ² (٢) فما كان إلاّ أن خارت(٣) أرضهم بالخسفة خوار السِّكَّة(٤) المُحماة فى الأرض الخوّارة(٥) . أيّهـا الناس من سلـك الطريق الواضـح ورد الماء ، ومن خالف وقع فى التِّيْه !(٦) (١) نهج البلاغة : الخطبة ٢١ ، روضة الواعظين : ٥٣٧ ، عيون الحكم والمواعظ : ٢٠٣ / ٤١٢٠ وفيه "تخفّفوا ; فإنّ الغاية أمامكم ، والساعة من ورائكم تحدوكم" ، بحار الأنوار : ٦ / ١٣٥ / ٣٦ . ٢٤٥ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / صفات المتّقين
٤ / ٣ ٥٦١٧ ـ نهج البلاغة : من خطبة له ¼ يصف فيها المتّقين . روى أنّ صاحباً لأمير المؤمنين ¼ يقال له : همّام كان رجلا عابداً ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، صف لى المتّقين حتي كأنّى أنظر إليهم . فتثاقل ¼ عن جوابه ثمّ قال : يا همّام ! اتّقِ الله وأحسِن فـ ³ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّ الَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ² (١) فلم يقنع همّام بهذا القول حتي عزم عليه ، فحمد الله وأثني عليه ، وصلّي علي النبىّ ½ ، ثمّ قال ¼ : أمّا بعد ; فإنّ الله سبحانه وتعالي خلق الخلق حين خلقهم غنيّاً عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ; لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه ، ولا تنفعه طاعة من أطاعه . فقسَم بينهم معايشهم ، ووضعهم من الدنيا مواضعهم . فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل ; منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع . غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم ، ووقفوا أسماعهم علي العلم النافع لهم . نزلت أنفسهم منهم فى البلاء كالتى نزلت فى الرخاء . ولولا الأجل الذى كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم فى أجسادهم طرفة عين ; شوقاً إلي الثواب ، وخوفاً من العقاب . عظُمَ الخالق فى أنفسهم ; فصغُر ما دونه فى أعينهم ، فهم والجنّةُ كمن قد رآها ; فهم فيها مُنعَّمون ، وهم والنارُ كمن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون . قلوبهم محزونة ، وشرورهم مأمونة ، وأجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة . صبروا أيّاماً قصيرة ، أعقبتهم راحة طويلة . تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم . (١) النحل : ١٢٨ . ٢٤٦ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / صفات المتّقين
أرادتهم الدنيا فلم يُريدوها ، وأسَرَتهم ففدَوا أنفسهم منها . أمّا الليلُ فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يُرتّلونها ترتيلاً . يُحزِّنون به أنفسَهم ، ويستثيرون به دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً ، وظنّوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها فى اُصول آذانهم ; فهم حانون علي أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم ورُكَبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلي الله تعالي فى فَكاك رقابهم . وأمّا النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء . قد براهم الخوفُ بَرْىَ القِداح(١) ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضي وما بالقوم من مرض ، ويقول : قد خولطوا ! ، ولقد خالطهم أمر عظيم ! لا يرضَون من أعمالهم القليلَ ، ولا يستكثرون الكثير . فهم لأنفسهم متّهِمون ، ومن أعمالهم مشفِقون . إذا زُكِّى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسى من غيرى ، وربّى أعلم بى من نفسى . اللهمّ لا تؤاخذْنى بما يقولون ، واجعلنى أفضل ممّا يظنّون ، واغفر لى ما لا يعلمون . فمن علامة أحدهم أنّك تري له قوّة فى دين ، وحزماً فى لين ، وإيماناً فى يقين ، وحرصاً فى علم ، وعلماً فى حلم ، وقصداً فى غنيً ، وخشوعاً فى عبادة ، وتجمّلاً فى فاقة ، وصبراً فى شدّة ، وطلباً فى حلال ، ونشاطاً فى هديً ، وتحرّجاً عن طمع . يعمل الأعمال الصالحة وهو علي وَجَل . يُمسى وهمّه الشكر ، ويُصبح وهمّه الذِّكر . يبيت حذِراً ، ويُصبح فرِحاً ; حذِراً لما حُذِّر من الغفلة ، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة . إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يُعطِها سؤلها (١) القِداح : جمع قِدْح ; السهم قبل أن ينَصَّل ويُراشَ (لسان العرب : ٢ / ٥٥٦) . ٢٤٧ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / صفات المتّقين
فيما تُحِبّ . قُرّة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقي . يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل . تراه قريباً أملُه ، قليلاً زللُه ، خاشعاً قلبُه ، قانعةً نفسه ، منزوراً(١) أكله ، سهلاً أمرُه ، حريزاً دينُه ، ميّتة شهوته ، مكظوماً غيظه . الخير منه مأمول ، والشرّ منه مأمون . إن كان فى الغافلين كُتب فى الذاكرين ، وإن كان فى الذاكرين لم يُكتَب من الغافلين . يعفو عمّن ظلمه ، ويُعطى من حرمه ، ويصل من قطعه . بعيداً فُحشُه ، ليّناً قوله ، غائباً مُنكَره . حاضراً معروفه ، مقبلاً خيره ، مدبراً شرّه . فى الزلازل وقور ، وفى المكاره صبور ، وفى الرخاء شكور . لا يحيف علي من يُبغِض ، ولا يأثم فيمن يُحبّ . يعترف بالحقّ قبل أن يُشهَد عليه . لا يُضِيع ما استُحفِظ ، ولا ينسي ما ذُكِّر ، ولا ينابِز بالألقاب ، ولا يضارّ بالجار ، ولا يَشمَت بالمصائب ، ولا يدخل فى الباطل ، ولا يخرج من الحقّ . إن صمت لم يغمّه صمته ، وإن ضحك لم يعلُ صوته ، وإن بُغِى عليه صبر حتي يكون الله هو الذى ينتقم له . نفسه منه فى عناء ، والناس منه فى راحة . أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من نفسه . بُعدُه عمّن تباعد عنه زهدٌ ونزاهة ، ودنوّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة . ليس تباعده بكِبْر وعظمة ، ولا دنوّه بمكر وخديعة . قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها . فقال أمير المؤمنين ¼ : أما والله لقد كنت أخافها عليه . ثمّ قال : أ هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ؟ فقال له قائل : فما بالك يا أمير المؤمنين ! فقال ¼ : ويحك ! إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه ، وسبباً لا يتجاوزه . فمهلاً لا تعُد ٢٤٨ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
لمثلها(١) ; فإنّما نفث(٢) الشيطان علي لسانك !(٣) . ٤ / ٤ ٥٦١٨ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من خطبة له ، وهى من الخطب العجيبة ، وتُسمّي الغرّاء ـ : الحمد لله الذى علا بحَوْله ، ودنا بطَوْله(٤) . مانح كلّ غنيمة وفضل ، . وكاشف كلّ عظيمة وأزل . أحمده علي عواطف كرمه ، وسوابغ نعَمِه . واُؤمن به أوّلاً بادياً ، وأستهديه قريباً هادياً ، وأستعينه قاهراً قادراً ، وأتوكّل عليه كافياً ناصراً . وأشهد أنّ محمّداً ½ عبده ورسوله ; أرسله لإنفاذ أمره ، وإنهاء عذره ، وتقديم نُذُره . اُوصيكم عبادَ الله بتقوي الله الذى ضرب الأمثال ، ووقّت لكم الآجال . (١) قال ابن أبى الحديد : إنّما نهي أمير المؤمنين ¼ القائل : "فهلاّ أنت يا أمير المؤمنين !" لأنّه اعترض فى غير موضع الاعتراض ، وذلك أنّه لا يلزم من موت العامّى عند وعظ العارف أن يموت العارف عن وعظ نفسه ; لأن انفعال العامى ذى الاستعداد التامّ للموت عند سماع المواعظ البالغة أتمّ من استعداد العارف عند سماع نفسه أو الفكر فى كلام نفسه ; لأنَّ نفس العارف قويّة جدّاً ، والآلة التى يُحفر بها الطين قد لا يُحفر بها الحجر (شرح نهج البلاغة : ١٠ / ١٦١) . ٢٤٩ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
وألبسكم الرِّياش وأرفغ لكم المعاش(١) . وأحاط بكم الإحصاء(٢) ، وأرصد(٣) لكم الجزاء ، وآثركم بالنِّعَم السوابغ ، والرِّفَد الروافغ ، وأنذركم بالحجج البوالغ . فأحصاكم عدداً ، ووظَّف لكم مُدَداً ، فى قرارِ خِبْرَة ، ودار عِبْرَة ، أنتم مختبَرون فيها ، ومحاسبون عليها . فإنّ الدنيا رَنِقٌ(٤) مشربها ، رَدِغٌ(٥) مشرعها ، يُونِق منظرُها ، ويُوبِق مخبرها . غُرورٌ حائلٌ ، وضَوءٌ آفلٌ ، وظِلٌ زائل ، وسِناد مائل . حتي إذا أنِس نافرُها ، واطمأنّ ناكرُها ; قمَصت(٦) بأرجلها ، وقنَصتْ بأحبُلها ، وأقصدت بأسهمها ، وأعلقت المرءَ أوهاقَ(٧) المنيّة قائدةً له إلي ضنْك المضجع ، ووحشة المرجِع ، ومعاينة المحلّ ، وثواب العمل . وكذلك الخَلَف بِعَقْب السلف . لا تُقلِع المنيّة اختراماً(٨) ولا يرعوى الباقون اجتراماً . يحتذون مثالاً ويمضون أرسالاً(٩) ، إلي غاية الانتهاء ، وصَيّور الفناء . (١) أى أوسَع عليكم . وعَيشٌ رافغٌ : أى واسع (النهاية : ٢ / ٢٤٤) . ٢٥٠ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
حتي إذا تصرّمت الاُمور ، وتقضّت الدهور ، وأزِف(١) النشور ; أخرجهم من ضرائح القبور ، وأوكار الطيور ، وأوجِرة(٢) السباع ، ومطارح المهالك ، سراعاً إلي أمره ، مهطِعين(٣) إلي معاده . رعيلاً صُموتاً ، قياماً صفوفاً . ينفُذُهم البصر ، ويُسمِعهم الداعى . عليهم لَبوس الاستكانة ، وضرع الاستسلام والذلّة . قد ضلّت الحِيَل ، وانقطع الأمل . وهوَت الأفئدة كاظمةً ، وخشعت الأصوات مُهَينِمة(٤) . وألجَمَ(٥) العَرَقُ ، وعظُمَ الشَّفَق ، واُرعِدت الأسماع لزَبْرة الداعى إلي فصل الخطاب ، ومُقايضة الجزاء ، ونَكال العقاب ، ونوال الثواب . عبادٌ مخلوقون اقتداراً ، ومربوبون اقتساراً ، ومقبوضون احتضاراً ، ومُضَمَّنون أجداثاً ، وكائنون رُفاتاً(٦) . ومبعوثون أفراداً ، ومَدينون جزاءً ، ومميَّزون حساباً . قد اُمهلوا فى طلب المخرج ، وهُدوا سبيل المنهج ، وعُمِّروا مَهَلَ المستعتِب ، وكُشِفت عنهم سُدَف(٧) الرِّيَب ، وخُلُّوا لمضمار الجياد ، ورَوِيّة الارتياد ، وأناة المقتبِس المرتاد ، فى مدّة الأجل ، ومضطرب المَهَل . فيا لها أمثالاً صائبة ، ومواعظ شافية ، لو صادفت قلوباً زاكية ، وأسماعاً واعية ، وآراء عازمة ، وألبابا حازمة ! فاتّقوا الله تقيّة مَن سمعَ فخشع ، واقترف فاعترف ، ووجِل فعمِل ، وحاذَرَ (١) أزِفَ : أى دنا وقَرُبَ (النهاية : ١ / ٤٥) . ٢٥١ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
فبادَرَ ، وأيقنَ فأحسنَ ، وعُبِّر فاعتبر ، وحُذِّر فحذِر ، وزُجِر فازدَجر ، وأجاب فأناب ، وراجع فتاب ، واقتدي فاحتذي ، واُرِى فرأي ، فأسرع طالباً ، ونجا هارباً ، فأفاد ذخيرة ، وأطاب سريرة . وعَمَّر مَعاداً ، واستظهر زاداً ليوم رحيله ، ووجه سبيله ، وحال حاجته ، وموطن فاقته ، وقدّم أمامه ، لدار مُقامه . فاتقّوا الله عبادَ الله جهةَ ما خلقكم له ، واحذروا منه كُنْه ما حذّركم من نفسه ، واستحِقّوا منه ما أعدّ لكم بالتنجُّز(١) لصدق ميعاده ، والحذر من هول معاده . ومنها : جعل لكم أسماعاً لتعىَ ما عناها ، وأبصاراً لتجلوَ عن عَشاها ، وأشلاءً(٢) جامعة لأعضائها ، ملائمة لأحنائها(٣) ، فى تركيب صورها ومُدَد عمرها ، بأبدان قائمة بأرفاقها(٤) ، وقلوب رائدة لأرزاقها ، فى مُجلِّلات(٥) نِعَمه ، وموجبات مِنَنه ، وحواجز عافيته . وقدّر لكم أعماراً سترها عنكم ، وخلَّف لكم عِبَراً من آثار الماضين قبلكم ; من مُستمتَع خَلاقهم(٦) ، ومُستفسَح خَناقهم(٧) . أرهقتهم(٨) المنايا دون الآمال ، وشذّبَهُم عنها(٩) تخرّم الآجال . لم يَمْهَدوا فى (١) التنجّز : طلب شىء قد وُعِدتَه (لسان العرب : ٥ / ٤١٤) . ٢٥٢ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
سلامة الأبدان ، ولم يعتبروا فى اُنُف(١) الأوان . فهل ينتظر أهلُ بَضاضة(٢) الشباب إلاّ حوانىَ الهرم ؟ وأهل غَضارة(٣) الصحّة إلاّ نوازل السَّقَم ؟ وأهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء ؟ مع قرب الزِّيال ، واُزوف الانتقال ، وعَلَز(٤) القلق ، وألَم المَضَض وغُصَص الجَرَض(٥) ، وتَلَفُّت الاستغاثة بنصرة الحَفَدة والأقرباء والأعزّة والقُرَناء ! فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب ، وقد غودر فى محلّة الأموات رهيناً ، وفى ضيق المضجع وحيداً ، قد هتكت الهَوامّ جلدته ، وأبلت النواهك جِدَّته ، وعَفَت(٦) العواصف آثاره ، ومحا الحَدَثان(٧) معالمه ، وصارت الأجساد شَحِبةً بعد بَضَّتها ، والعظام نَخِرة بعد قوّتها ، والأرواح مرتَهنة بثِقَل أعبائها ، موقنة بغَيب أنبائها ، لا تُستزاد من صالح عملها ، ولا تُستعتب من سيّئ زَلَلها ! أ وَلستم أبناء القوم والآباء ، وإخوانهم والأقرباء ، تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قِدَّتهم(٨) وتطؤون جادّتهم ؟ ! . فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة فى غير مضمارها ، كأنّ المعنِىّ سواها ، وكأنّ الرشد فى إحراز دنياها ! (١) اُنُف : أى مستأنف استئنافاً ، واُنْفة الشىء : ابتداؤه (النهاية : ١ / ٧٥) . ٢٥٣ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
واعلموا أنّ مجازكم علي الصراط ومزالق دَحْضِه(١) وأهاويل زَلَله ، وتارات أهواله . فاتّقوا الله عبادَ الله تقيّة ذى لبّ شَغَل التفكّرُ قلبَه ، وأنصب الخوفُ بدنَه ، وأسهر التهجُّد غِرار(٢) نومه ، وأظمأ الرجاء هواجر(٣) يومه ، وظَلَف الزهد شهواته(٤) ، وأوجف الذِّكرُ بلسانه(٥) ، وقدَّم الخوف لأمانه ، وتنكّب المَخالِج(٦) عن وَضَح السبيل ، وسلك أقصد المسالك إلي النهج المطلوب ، ولم تفتِله فاتلات الغرور ، ولم تعْمَ عليه مشتبهات الاُمور . ظافراً بفرحة البشري ، وراحة النُّعمي فى أنعم نومه وآمن يومه . قد عَبَر معبر العاجلة حميداً ، وقدّم زاد الآجلة سعيداً . وبادر من وَجَل ، وأكمش(٧) فى مَهَل . ورغِب فى طَلَب ، وذهب عن هرب ، وراقب فى يومه غده ، ونظر قُدُماً أمامه . فكفي بالجنّة ثواباً ونوالاً ، وكفي بالنار عقاباً ووَبالاً ! وكفي بالله منتقماً ونصيراً ! وكفي بالكتاب حجيجاً وخصيماً ! اُوصيكم بتقوي الله الذى أعذر بما أنذر ، واحتجّ بما نَهَج ، وحذّركم عدوّاً نفذ فى الصدور خفيّاً ، ونفث فى الآذان نجيّاً(٨) ; فأضلّ وأردي ، ووعد فمنّي ، وزيّن سيّئات الجرائم ، وهوّن موبقات العظائم . حتي إذا استدرج قرينته(٩) ، واستغلق (١) دحض : زلق (النهاية : ٢ / ١٠٤) . ٢٥٤ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
رهينته ، أنكر ما زيّن ، واستعظم ما هوّن ، وحذّر ما أمَّنَ . أم هذا الذى أنشأه فى ظلمات الأرحام ، وشُغُف(١) الأستار ، نطفة دِهاقاً(٢) ، وعَلَقة مِحاقاً ، وجنيناً وراضعاً ، ووليداً ويافعاً . ثمّ منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ; ليفهم معتبراً ، ويُقصِّر مزدجراً . حتي إذا قام اعتداله ، واستوي مثاله ; نفر مستكبراً ، وخبَطَ سادراً(٣) ، ماتِحاً فى غرب(٤) هواه ، كادحاً سعياً لدنياه ، فى لذّات طَرَبه ، وبَدَوات أرَبه(٥) ، ثمّ لا يحتسب رزيّةً ، ولا يخشع تقيّةً . فمات فى فتنته غريراً(٦) ، وعاش فى هفوته يسيراً . لم يُفِد عِوَضاً ، ولم يَقْضِ مُفترَضاً . دَهِمته فَجَعاتُ المنيّة فى غُبَّر(٧) جِماحه ، وسَنَن مِراحه ، فظلَّ سادراً ، وبات ساهراً ، فى غمرات الآلام ، وطوارق الأوجاع والأسقام ، بين أخ شقيق ، ووالد شفيق ، وداعية بالويل جزعاً ، ولادِمة(٨) للصدرِ قَلَقاً . والمرءُ فى سكرة مُلهِثة ، وغَمْرة(٩) كارثة ، وأنّة موجعة ، وجذبة مُكرِبة ، وسَوقة مُتعِبة . ثمّ (١) الشُّغُف : جمع شَغافِ القلب ، وهو حجابُه ، فاستعارَه لموضِع الوَلد (النهاية : ٢ / ٤٨٣) . ٢٥٥ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / الخطبة الغرّاء
اُدرِج فى أكفانه مُبلِساً(١) ، وجُذِب منقاداً سَلِساً . ثمّ اُلقى علي الأعواد رجيعَ وَصَب(٢) ، ونِضْوَ(٣) سَقَم ، تحمله حَفَدة الوِلدان ، وحَشدَة الإخوان ، إلي دار غربته ، ومنقطع زَورَته ، ومفرد وحشته . حتي إذا انصرف المشيِّع ، ورجع المتفجِّع ; اُقعِد فى حفرته ، نجيّاً لبَهْتَة السؤال ، وعثرة الامتحان . وأعظم ما هنالك بليّة نزول الحميم ، وتَصلِيَة الجحيم ، وفَوْرات السعير ، وسَوْرات(٤) الزفير . لا فترةٌ مريحة ، ولا دَعَة مُزِيحة ، ولا قوّة حاجزة ، ولا موتة ناجزة ، ولا سِنة مسلّية بين أطوار الموتات وعذاب الساعات ، إنّا بالله عائذون ! عباد الله ! أين الذين عُمِّروا فنعِموا ، وعُلّموا ففهِموا ، واُنظروا فلَهَوا وسُلِّموا فنسُوا ! . اُمهلوا طويلاً ، ومُنِحوا جميلاً ، وحُذِّروا أليماً ، ووُعِدوا جسيماً . احذروا الذُّنوب المورِّطة ، والعيوب المُسخِطة . اُولى الأبصار والأسماع ، والعافية والمتاع ! هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ ، أو فِرار أو مَحار(٥) أم لا ؟ ³ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ² (٦) ! أم أين تُصرَفون ! أم بماذا تغترّون ! وإنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطول والعرض قِيْدُ(٧) قَدِّه ، متعفّراً (١) المُبلِس : الساكت من الحزن أو الخوف . والإبلاس : الحيرة (النهاية : ١ / ١٥٢) . ٢٥٦ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / التحذير من الغفلة
علي خدّه ! الآنَ عبادَ الله والخناقُ مُهمَل ، والرُّوح مُرسَل ، فى فَينة(١) الإرشاد ، وراحة الأجساد ، وباحة الاحتشاد ، ومَهَل البقيّة ، واُنُف المشيّة ، وإنظار التوبة ، وانفساح الحَوْبة(٢) قبل الضَّنْك والمَضيق ، والرَّوع والزهوق ، وقبل قدوم الغائب المنتظر ، وإخذة العزيز المقتدر(٣) . ٤ / ٥ ٥٦١٩ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من خطبة له فى صفة الضالّ ـ : وهو فى مهلة من الله يهوى مع الغافلين ، ويغدو مع المذنبين ، بلا سبيل قاصد ، ولا إمام قائد . ... حتي إذا كَشف لهم عن جزاء معصيتهم ، واستخرجهم من جلابيب غفلتهم ، استقبلوا مُدبراً ، واستدبروا مُقبلاً ; فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ، ولا بما قضَوا من وَطَرهم(٤) . إنّى اُحذّركم ونفسى هذه المنزلة ; فلينتفع امرؤ بنفسه ; فإنّما البصير من سمع فتفكّر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعِبَر ثمّ سلك جَدَداً(٥) واضحاً يتجنّب فيه الصَّرْعة (١) الفَينَة : الحين والساعة (النهاية : ٣ / ٤٨٦) . ٢٥٧ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / المبادرة بالعمل الصالح
فى المهاوى ، والضلال فى المغاوى ، ولا يُعين علي نفسه الغواةَ بتعسّف فى حقّ ، أو تحريف فى نطق ، أو تخوّف من صدق . فأفِقْ أيّها السامع من سكرتك ، واستيقِظ من غفلتك ، واختصِر من عجلتك . وأنعِم الفكر فيما جاءك علي لسان النبىّ الاُمّىّ ½ ممّا لا بدّ منه ، ولا محيص عنه . وخالِفْ مَن خالف ذلك إلي غيره ، ودَعْهُ وما رضى لنفسه . وضَعْ فخرَك واحطط كِبرَك ، واذكر قبرك ; فإنّ عليه ممرّك ، وكما تَدين تُدان . وكما تزرع تحصد . وما قدّمتَ اليوم تقدَمُ عليه غداً ; فامهَدْ لِقَدمك ، وقدّمْ ليومك . فالحذرَ الحذرَ أيّها المستمع ! والجِدَّ الجِدَّ أيّها الغافل ! ³ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ² (١) (٢) . ٤ / ٦ ٥٦٢٠ ـ الإمام علىّ ¼ : فاتّقوا الله عباد الله ، وبادروا آجالَكم بأعمالكم ، وابتاعوا ما يبقي لكم بما يزول عنكم ، وترحّلوا فقد جُدّ بكم(٣) ، واستعدّوا للموت فقد أظلّكم ، وكونوا قوماً صِيح بهم فانتبهوا ، وعلموا أنّ الدنيا ليست لهم بدار فاستبدَلوا ; فإنّ الله سبحانه لم يخلقكم عبثاً ، ولم يترككم سدي ، وما بين أحدكم وبين الجنّة أو النار إلاّ الموت أن ينزل به . وإنّ غايةً تنقصها اللحظة ، وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدّة ، وإنّ غائباً يحدوه الجديدان ; الليلُ والنهارُ لحرىّ (١) فاطر : ١٤ . ٢٥٨ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / فى التزهيد من الدنيا
بسرعة الأوبة(١) ، وإنّ قادمّاً يقدم بالفوز أو الشِّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة . فتزوّدوا فى الدنيا من الدنيا ما تحرُزون به أنفسكم غداً . فاتّقي عبدٌ ربَّه نصحَ نفسه ، وقدّم توبته ، وغلب شهوته ; فإنّ أجله مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشيطان موكَّل به يُزيّن له المعصية ليركبها ، ويُمنِّيه التوبةَ ليُسوِّفها . إذا هجمت منيّته عليه أغفل ما يكون عنها . فيا لها حسرة علي كلّ ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجّة ، وأن تؤدّيه أيامه إلي الشِّقْوة ! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممن لا تُبطِره نعمةٌ ، ولا تُقَصِّر به عن طاعة ربّه غاية ، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة(٢) . ٤ / ٧ ٥٦٢١ ـ الإمام علىّ ¼ : اُوصيكم عبادَ الله بتقوي الله التى هى الزاد وبها المعاذ ; زاد مُبْلِغ ، ومعاذ مُنْجِح . دعا إليها أسمع داع ، ووعاها خير واع . فأسمَعَ داعيها ، وفاز واعيها . عبادَ الله ! إنّ تقوي الله حَمَت(٣) أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتي أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم . فأخذوا الراحة بالنَّصَب ، والرِّىّ بالظمأ . واستقربوا الأجل فبادروا العمل ، وكذّبوا الأمل فلاحَظوا الأجل . ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء وغِيَر وعِبَر ; فمِن الفناء أنّ الدهر مُوتِرٌ قوسَه ، (١) الأوبة : الرُّجوع (لسان العرب : ١ / ٢١٩) . ٢٥٩ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / فى التزهيد من الدنيا
لا تُخطئ سهامه ، ولا تُؤْسي(١) جراحه . يرمى الحىَّ بالموت ، والص حيح بالسَّقَم ، والناجى بالعَطَب . آكلٌ لا يشبع ، وشارب لا ينقع . ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن ، ثمّ يخرج إلي الله تعالي لا مالاً حمل ، ولا بناء نقل ! ومن غيرها أنّك تري المرحومَ مغبوطاً والمغبوط مرحوماً ، ليس ذلك إلاّ نعيماً زَلَّ(٢) ، وبؤساً نزلَ . ومن عِبَرها أنّ المرء يُشرِف علي أمله ، فيقطعه حضور أجله ; فلا أملٌ يُدرَك ، ولا مؤمَّلٌ يُترَك . فسبحان الله ! ما أعزّ سرورَها ! وأظمأ رِيَّها ! وأضحي فيئَها . لا جاء يُرَدّ ، ولا ماض يرتدُّ . فسبحان الله ! ما أقرب الحىَّ من الميِّت للحاقه به ، وأبعد الميِّت من الحىّ لانقطاعه عنه ! إنّه ليس شىء بشرّ من الشرّ إلاّ عقابه ، وليس شىء بخير من الخير إلاّ ثوابه . وكلُّ شىء من الدنيا سَماعه أعظم من عِيانه ، وكلُّ شىء من الآخرة عِيانه أعظم من سماعه ; فلْيكفكم من العِيان السماع ، ومن الغيب الخبر . واعلموا أنّ ما نقص من الدنيا ، وزاد فى الآخرة خير ممّا نقص من الآخرة ، وزاد فى الدنيا ; فكم من منقوص رابح ، ومزيد خاسر ! إنّ الذى اُمِرتم به أوسع من الذى نُهِيتم عنه . وما اُحلَّ لكم أكثر ممّا حُرِّم عليكم ; فذروا ما قلّ لما كثُر ، وما ضاق لما اتّسع . قد تكفّل لكم بالرزق واُمرتُم بالعمل ; فلا يكوننّ المضمون لكم طلبه أولي بكم من المفروض عليكم عمله ، مع أنّه والله لقد اعترض الشكّ ، ودَخِل اليقين ، حتي كأنّ الذى ضُمن لكم قد فُرض عليكم ، وكأنّ الذى قد فُرض عليكم قد وُضع عنكم . فبادِروا العمل ، وخافوا بغتة الأجل ; فإنّه لا يُرجي من رجعة العمر ما يُرجي من (١) أسا الجرحَ : داواه . والأسا : المداواة والعِلاج (لسان العرب : ١٤ / ٣٤) . ٢٦٠ - المجلد العاشر / القسم الحادى عشر : علوم الإمام علي / الفصل الرابع : قبسات من علمه / القبس الثالث : الفروع المختلفة من العلوم / الباب الرابع : علم الموعظة / نداء طالما نادي به أصحابَه
رجعة الرزق ; ما فات من الرزق رُجِى غداً زيادته ، وما فات أمسِ من العمُر لم يُرجَ اليوم رجعته . الرجاء مع الجائى ، واليأس مع الماضى .فـ ³ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ² (١) (٢) . ٤ / ٨ ٥٦٢٢ ـ الإمام علىّ ¼ : تجهّزوا رحمكم الله ! فقد نودى فيكم بالرحيل ، وأقِلّوا العُرْجة(٣) علي الدنيا ، وانقلِبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد ; فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً ، ومنازل مخوفة مهولة لابدّ من الورود عليها ، والوقوف عندها . واعلموا أنّ مَلاحِظ المنيّةِ نحوَكم دانية ، . وكأنّكم بمخالبها وقد نشبت فيكم ، وقد دَهَمتكم فيها مُفظِعات الاُمور ، ومُعضلات المحذور ; فقطِّعوا علائق الدنيا ، واستظهِروا بزاد التقوي(٤) . (١) نهج البلاغة : الخطبة ١١٤ وراجع الخطبة ١٠٣ و١١١ و١١٣ و١٣٢ و٢٠٣ و٢٢٦ وتحف العقول : ٢١٨ وعيون الحكم والمواعظ : ١٥٨ / ٣٤٢١ وص ٣٧٠ / ٦٢٤٢ . |