الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد الثاني

 

 

 ٣٨٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الوليّ

١١ / ١

طلب الصحيفة والدواة

٩٠٣ ـ صحيح البخارى عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس : لمّا حُضِر رسول الله  ½ ، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النبىّ  ½ : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده . فقال عمر : إنّ النبىّ  ½ قد غلب عليه الوجع ! ! ! وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ! ! فاختلف أهل البيت فاختصموا ; منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبىّ  ½ كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر . فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبىّ  ½ ، قال رسول الله  ½ : قوموا .

قال عبيد الله : فكان ابن عبّاس يقول : إنّ الرَّزِيّة(١) كلّ الرَّزِيّة ما حالَ بين


(١) الرَّزِيّة : المُصيبة (مجمع البحرين :٢ / ٦٩٥) .

 ٣٨٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / طلب الصحيفة والدواة

رسول الله  ½ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ; من اختلافهم ولَغطهم (١) .

٩٠٤ ـ صحيح البخارى عن ابن عبّاس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! ! اشتدّ برسول الله  ½ وجعه ، فقال : ايتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً . فتنازعوا ـ ولا ينبغى عند نبىٍّ تنازُع ـ فقالوا : ما شأنه ؟ ! أ هَجَرَ(٢) ؟ ! ! استفهِموه ! ! ! فذهبوا يَرُدّون عليه . فقال : دعونى ; فالذى أنا فيه خيرٌ ممّا تدعوننى إليه(٣) .

٩٠٥ ـ صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! ! ثمّ جعل تسيل دموعه ، حتي رأيت علي خدّيه كأنّها نِظام اللؤلؤ . قال : قال رسول الله  ½ : ايتونى بالكَتِف(٤) والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده


(١) صحيح البخارى : ٥ / ٢١٤٦ / ٥٣٤٥ وج ٤ / ١٦١٢ / ٤١٦٩ وج ٦ / ٢٦٨٠ / ٦٩٣٢ وفيه "قوموا عنّى" بدل "قوموا" وج ١ / ٥٤ / ١١٤ عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس نحوه وفيه "قوموا عنّى ، ولا ينبغى عندى التنازع" ، صحيح مسلم : ٣ / ١٢٥٩ / ٢٢ ، مسند ابن حنبل : ١ / ٧١٩ / ٣١١١ وص ٦٩٥ / ٢٩٩٢ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٤ وفيهما "قوموا عنّى" ، البداية والنهاية : ٥ / ٢٢٧ ; الأمالى للمفيد : ٣٦ / ٣ عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس .
(٢) قال ابن الأثير : أهْجَرَ فى مَنْطقه يُهْجِرُ إهْجاراً : إذا أفْحَشَ ، وكذلك إذا أكثر الكلام فيما لا ينبغى ، والاسم : الهُجْر ، بالضم . وهَجَر يَهْجُر هَجْراً ـ بالفتح ـ : إذا خَلَط فى كلامه ، وإذا هَذَي . ومنه حديث مَرضِ النبىّ  ½ قالوا : " ما شأنُه أ هَجَرَ ؟" أى اختَلف كلامُه بسبب المرض ، علي سبيل الاستفهام . أى هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ؟ وهذا أحسن ما يقال فيه . ولا يُجعل إخباراً فيكون إمّا من الفُحش أو الهَذَيان . والقائل كان عمر ، ولا يُظَنّ به ذلك (النهاية : ٥ / ٢٤٥ـ٢٤٦) .
(٣) صحيح البخارى : ٤ / ١٦١٢ / ٤١٦٨ وج ٣ / ١١٥٥ / ٢٩٩٧ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٢٥٧ / ٢٠ ، مسند ابن حنبل : ١ / ٤٧٧ / ١٩٣٥ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٢ ، تاريخ الطبرى : ٣ / ١٩٢ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٧ ، البداية والنهاية : ٥ / ٢٢٧ وفيهما "يهجر" بدل "أ هجر" ، الإيضاح : ٣٥٩ نحوه .
(٤) الكَتِف : عَظْم عريض يكون فى أصل كَتِف الحيوان من الناس والدَّوّاب ، كانوا يكتُبون فيه لِقِلّة القَرطِيس عِندهم (النهاية : ٤ / ١٥٠) .

 ٣٨٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / طلب الصحيفة والدواة

أبداً . فقالوا : إنّ رسول الله  ½ يهجُر ! ! !(١)

٩٠٦ ـ مسند ابن حنبل عن جابر : إنّ النبىّ  ½ دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلّون بعده ، فخالف عليها عمر بن الخطّاب حتي رفضها(٢) .

٩٠٧ ـ الإرشاد ـ فى قضيّة وفاة رسول الله  ½ ـ : . . . ثمّ قال [ رسول الله  ½ ] : ايتونى بدواة وكَتِف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً . ثمّ اُغمى عليه ، فقام بعض من حضر يلتمس دواةً وكَتِفاً ، فقال له عمر : ارجع ، فإنّه يهجُر ! ! ! فرجع . وندم من حَضَره علي ما كان منهم من التضجيع(٣) فى إحضار الدواة والكتف ، فتلاوموا بينهم فقالوا : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! لقد أشفقْنا من خلاف رسول الله .

فلمّا أفاق  ½ قال بعضهم : أ لا نأتيك بكتف يا رسول الله ودواة ؟ فقال : أ بعد الذى قلتم ! ! لا ، ولكنّنى اُوصيكم بأهل بيتى خيراً . ثمّ أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا ، وبقى عنده العبّاس والفضل وعلىّ بن أبى طالب وأهل بيته خاصّة .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نُغلَب عليه فأوصِ بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدى . وأصمت ، فنهض القوم وهم يبكون قد أيسوا من النبىّ  ½ (٤) .

٩٠٨ ـ شرح نهج البلاغة عن ابن عبّاس : خرجت مع عمر إلي الشام فى إحدي


(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٢٥٩ / ٢١ ، مسند ابن حنبل : ١ / ٧٦٠ / ٣٣٣٦ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٣ ، تاريخ الطبرى : ٣ / ١٩٣ .
(٢) مسند ابن حنبل : ٥ / ١١٥ / ١٣٧٣٢ ، مسند أبى يعلي : ٢ / ٣٤٧ / ١٨٦٤ وح ١٨٦٦ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٣ كلّها نحوه .
(٣) التَّضْجِيعُ فى الأمر : التَّقصِير فيه (لسان العرب : ٨ / ٢٢٠) .
(٤) الإرشاد : ١ / ١٨٤ ، إعلام الوري : ١ / ٢٦٥ نحوه .

 ٣٩٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / طلب الصحيفة والدواة

خرجاته ، فانفرد يوماً يسير علي بعيره فاتّبعته ، فقال لى : يابن عبّاس ، أشكو إليك ابنَ عمّك ; سألته أن يخرج معى فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً ، فيمَ تظنّ موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّك لَتعلم . قال : أظنّه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة . قلت : هو ذاك ; إنّه يزعم أنّ رسول الله أراد الأمر له . فقال : يابن عبّاس ، وأراد رسول الله  ½ الأمر له فكان ، ماذا إذا لم يُرِد الله تعالي ذلك ! إنّ رسول الله  ½ أراد أمراً وأراد الله غيره ، فنفذ مرادُ الله تعالي ولم ينفذ مرادُ رسوله ، أ وَكلّما أراد رسولُ الله  ½ كان ؟ ! إنّه أراد إسلام عمّه ولم يُرِده الله فلم يسلم !

وقد روى معني هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إنّ رسول الله  ½ أراد أن يذكره للأمر فى مرضه ، فصددتُه عنه خوفاً من الفتنة ، وانتشار أمر الإسلام ، فعلِم رسول الله ما فى نفسى وأمسك ، وأبي الله إلاّ إمضاء ما حتم(١) .

٩٠٩ ـ شرح نهج البلاغة عن ابن عبّاس : دخلت علي عمر فى أوّل خلافته ، وقد اُلقىَ له صاعٌ من تمر علي خَصَفة(٢) ، فدعانى إلي الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتي أتي عليه ، ثمّ شرب من جَرٍّ(٣) كان عنده ، واستلقي علي مِرْفقة له ، وطفق يحمد الله يكرّر ذلك ، ثمّ قال : من أين جئت يا عبد الله ؟ قلت : من المسجد . قال : كيف خلّفت ابن عمّك ؟ فظننته يعنى عبد الله بن جعفر ; قلت : خلّفته يلعب مع أترابه . قال : لم أعْنِ ذلك ، إنّما عنيت عظيمكم أهلَ البيت . قلت : خلّفته يَمْتَح بالغَرْب(٤) علي نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن . قال : يا عبد الله ،


(١) شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٧٨ .
(٢) الخَصَفَة : هى الجُلَّة التى يُكْنَز فيها التمر (النهاية : ٢ / ٣٧) .
(٣) الجَرُّ : آنية من خَزَف ، الواحدة جَرَّةٌ (لسان العرب : ٤ / ١٣١) .
(٤) الماتِح : المُسْتَقِى من البئر بالدَّلْو من أعلي البئر . والغَرْب : الدَّلْو العظيمة التى تُتَّخذ من جِلْد ثَوْر (النهاية : ٤ / ٢٩١ج ٣ / ٣٤٩) .

 ٣٩١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / طلب الصحيفة والدواة

عليك دماء البُدْن إن كَتَمْتنيها ! هل بقى فى نفسه شىء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم . قال : أ يزعم أنّ رسول الله  ½ نصّ عليه ؟ قلت : نعم ، وأزيدك ; سألت أبى عمّا يدّعيه فقال : صَدَق . فقال عمر : لقد كان من رسول الله  ½ فى أمره ذَرْوٌ(١) من قول لا يُثبت حجّة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يَرْبَع(٢) فى أمره وقتاً ما ، ولقد أراد فى مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطةً علي الإسلام ، لا وربِّ هذه البَنِيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً ! ولو وَلِيَها لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله  ½ أنّى علمت ما فى نفسه ، فأمسك ، وأبي الله إلاّ إمضاء ما حتم(٣) .


(١) الذَّرْوُ من الحديث : ما ارتَفَع إليك وتَرامَي من حَواشِيه وأطرافه ( النهاية : ٢ / ١٦٠ ) .
(٢) رَبَعَ : وَقَفَ وانتَظَرَ (النهاية : ٢ / ١٨٧) .
(٣) شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٢٠ ; كشف اليقين : ٤٦٢ / ٥٦٢ ، كشف الغمّة : ٢ / ٤٦ ، بحار الأنوار : ٣٨ / ١٥٦ .

 ٣٩٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / طلب الصحيفة والدواة

 ٣٩٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / منع كتابة الوصيّة بين التبرير والنقد

تعتبر واقعة عزم الرسول  ½ علي كتابة الوصيّة ، ومنع الخليفة الثانى إيّاه من كتابتها، واقعة غريبة ومثيرة .

فرسول الله  ½ الذي ³ مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ  ± إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ  ²  (١) قد قرّر فى آخر لحظات حياته بيان بعض الاُمور للاُمّة الإسلاميّة . وحتي لو كان الرسول شخصاً عاديّاً كان ينبغى تلبية طلبه ذاك ، ناهيك عن أنّه أعلن بأنّ هدفه من كتابة تلك الوصيّة هو أن لا تضلّ بعده الاُمّة أبداً ، وهذا هدف يطمح إليه كلّ إنسان .

المثير للدهشة فى هذا المجال هو أنّ الخليفة الثانى عارض ذلك الطلب البسيط الذى ينطوى علي نتيجة كبري . وأسباب تلك المعارضة واضحة طبعاً ، وصرّحت بها بعض المصادر التاريخيّة . وحتي لو لم يُشِر أىّ مصدر تاريخى إلي مراده ، فإنّ أىّ باحث منصف يدرك حقيقة الأمر من خلال وضع هذه الواقعة وواقعة السقيفة ، ووصول عمر إلي منصب الخلافة ، إلي جانب بعضها الآخر .


(١) النجم : ٣ و٤ .

 ٣٩٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / منع كتابة الوصيّة بين التبرير والنقد

ويستفاد من المصادر التاريخيّة بأنّ هناك فئة كانت تعاضد عمر وتؤازره فى موقفه ذاك . وهذا ما يدلّ علي وجود جماعة ضغط كان لها حضور حتي فى المجالس الخاصّة للرسول  ½ بحيث إنّ الجدل واللغط اشتدّ، وأصبحت كتابة الوصيّة غير ذات جدوي .

والأدهي من كلّ ذلك هو أنّ البعض حاول إثبات صحّة عمل الخليفة ولكن علي حساب الانتقاص من الرسول  ½ ، فقالوا :

"إنّه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ; لأنّه خشى أن يكتب  ½ اُموراً ربّما عجزوا عنها واستحقّوا العقوبة عليها ; لأنّها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها"(١).

فالرسول  ½ يقول لهم : اُريد أن أكتب لكم شيئاً لا تضلّوا بعده أبداً ، وهؤلاء يقولون : إنّ كتابة الرسول توجب العقاب ، ومعارضة عمر له دليل علي فقهه وفضله ودقيق نظره ! ! ونظراً لهذا التعارض الصريح بين رأى الرسول  ½ ورأى الخليفة الثانى ، كيف يمكن حينئذ تفسير هذه الإشادة بعمر ؟ !

والأعجب من ذلك هو التبرير الذى جاء به القاضى عيّاض لكلّ الواقعة ; إذ أنّه حرّفها عن صورتها الأصليّة ، وأوردها علي نحو مقلوب ، بقوله :

"أ هَجَر رسول الله  ½ ؟ هكذا هو فى صحيح مسلم وغيره : أ هَجَر ؟ علي نحو الاستفهام ، وهو أصحّ من رواية من روي : هجر أو يهجر ; لأنّ هذا كلّه لا يصحّ منه  ½ ; لأنّ معني هجر : هذي . وإنّما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنكار علي من قال : لا تكتبوا ; أى لا تتركوا أمر رسول الله  ½ وتجعلوه كأمر من هجر فى كلامه ;


(١) شرح صحيح مسلم للنووى : ١١ / ٩٩ هامش الحديث ١٦٣٧ .

 ٣٩٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

لأنّه  ½ لا يهجر ، وقول عمر : حسبنا كتاب الله ، ردٌّ علي من نازعه ، لا علي أمر النبىّ  ½ "(١).

فهل ثمّة تحريف أوضح من هذا ؟ ومن البديهى أنّ هذا النصّ لو لم يكن موجوداً فى صحيحى البخارى ومسلم ، لوصل إلينا بهذا الشكل المحرّف .

والبخارى وإن كان قد نقل هذا النصّ علي نحوين ، إلاّ أنّه أورده فى الموضع الذى صرّح فيه باسم القائل بلفظة "وجع" ، وهى تتضمّن معنيً أقلّ إساءة . وفى الموضع الذى حجب فيه اسم القائل أورد الكلمة القبيحة "أ هجر ؟" ، والظاهر أنّها الكلمة الأصليّة . ولعلّ مصدر هذا الاختلاف هو ابن عبّاس الذى بيّن ـ بذكاء خاصّ ـ حقيقة الأمر كاملة ، ولكن علي نحوين من النقل .

١١ / ٢

إنفاذ جيش اُسامة

٩١٠ ـ الطبقات الكبري عن عروة بن الزبير : كان رسول الله  ½ قد بعث اُسامة وأمره أن يُوطِئ الخيلَ نحو البَلْقاء(٢) حيث قُتل أبوه وجعفر ، فجعل اُسامة وأصحابه يتجهّزون وقد عسكر بالجُرْف(٣) ، فاشتكي رسول الله  ½ وهو علي ذلك ، ثمّ وجد من نفسه راحةً فخرج عاصباً رأسه ، فقال : أيّها الناس ! أنفذوا بَعْث اُسامة ـ ثلاث مرّات ـ ثمّ دخل النبىّ  ½ فاستُعِزَّ(٤) به ، فتوفّى رسول الله  ½ (٥) .


(١) الشفاء بتعريف حقوق المصطفي : ٢ / ١٩٤ .
(٢) البَلْقاء : كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادى القُري ، قصبتها عَمّان (معجم البلدان : ١ / ٤٨٩) .
(٣) الجُرْف : موضع علي ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (معجم البلدان : ٢ / ١٢٨) .
(٤) أى اشتَدَّ به المرض وأشرَفَ علي الموت (النهاية :٣ / ٢٢٨) .
(٥) الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٨ وراجع تاريخ اليعقوبى : ٢ / ١١٣ وإعلام الوري : ١ / ٢٦٣ .

 ٣٩٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

٩١١ ـ الطبقات الكبري عن ابن عمر : إنّ النبىّ  ½ بعث سريّةً فيهم أبو بكر وعمر ، واستعمل عليهم اُسامة بن زيد ، فكان الناس طعنوا فيه ـ أى فى صغره ـ فبلغ ذلك رسولَ الله  ½ ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثني عليه ، وقال : إنّ الناس قد طعنوا فى إمارة اُسامة ، وقد كانوا طعنوا فى إمارة أبيه من قبله ، وإنّهما لخليقان لها ، وإنّه لمن أحبّ الناس إلىّ آلاً ، فاُوصيكم باُسامة خيراً !(١)

٩١٢ ـ الطبقات الكبري عن حَنَش : سمعت أبى يقول : استعمل النبىّ  ½ اُسامة بن زيد وهو ابن ثمانى عشرة سنة(٢) .

٩١٣ ـ أنساب الأشراف : كان فى جيش اُسامة : أبو بكر ، وعمر ، ووجوه من المهاجرين والأنصار(٣) .

٩١٤ ـ المغازى ـ فى ذكر جيش اُسامة ـ : ولم يبقَ أحد من المهاجرين الأوّلين إلاّ انتدب فى تلك الغزوة ; عمر بن الخطّاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، وسعد بن أبى وقّاص(٤) .

٩١٥ ـ دلائل النبوّة للبيهقى : كان اُسامة بن زيد قد تجهّز للغزو ، وخرج فى نقله


(١) الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٩ وج ٤ / ٦٦ ، صحيح البخارى : ٣ / ١٣٦٥ / ٣٥٢٤ ، السيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ٢٩٩ عن عروة بن الزبير وغيره ، تاريخ دمشق : ٨ / ٦٠ / ٢٠٩٢ وص ٦٢ / ٢٠٩٧ عن عروة ، شرح نهج البلاغة : ١ / ١٥٩ ; الاحتجاج : ١ / ١٧٣ / ٣٦ عن أبى المفضّل محمّد بن عبد الله الشيبانى عن رجاله وكلّها نحوه .
(٢) الطبقات الكبري : ٤ / ٦٦ ، صحيح البخارى : ٤ / ١٦٢٠ / ٤١٩٨ عن سالم عن أبيه وليس فيه "و هو ابن ثمانى عشرة سنة" ، تاريخ دمشق : ٨ / ٦٤ وص ٥١ عن مصعب بن عبد الله الزبيرى .
(٣) أنساب الأشراف : ٢ / ١١٥ وراجع شرح نهج البلاغة : ٦ / ٥٢ والدرجات الرفيعة : ٤٤٢ .
(٤) المغازى : ٣ / ١١١٨ .

 ٣٩٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

إلي الجُرْف ، فأقام تلك الأيّام بشكوي رسول الله  ½ ، وكان رسول الله  ½ قد أمّره علي جيش عامّتهم المهاجرون ، فيهم عمر بن الخطاب(١) .

٩١٦ ـ الطبقات الكبري عن عروة : فى الجيش الذى استعمله [النبىُّ  ½ ] عليهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح(٢) .

٩١٧ ـ شرح نهج البلاغة : دخل اُسامة من معسكره يوم الإثنين ; الثانى عشر من شهر ربيع الأوّل ، فوجد رسول الله  ½ ومُفيقاً ، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ ، وقال : اغدُ علي بركة الله ، وجعل يقول : "أنفِذوا بعث اُسامة" ويكرّر ذلك ، فودّع رسول الله  ½ ، وخرج ومعه أبو بكر وعمر ، فلمّا ركب جاءه رسول اُمّ أيمن فقال : إنّ رسول الله  ½ يموت ، فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة(٣) .

٩١٨ ـ الطبقات الكبري عن هشام بن عروة : مرض رسول الله  ½ ، فجعل يقول فى مرضه : أنفِذوا جيش اُسامة ، أنفِذوا جيش اُسامة(٤) .


(١) دلائل النبوّة للبيهقى : ٧ / ٢٠٠ ، كنز العمّال : ١٠ / ٥٧١ / ٣٠٢٦٥ نقلاً عن ابن عساكر عن عروة نحوه .
(٢) الطبقات الكبري : ٤ / ٦٨ ، تاريخ دمشق : ٨ / ٦٣ ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ٥٢ عن عبد الله بن عبد الرحمن ; المناقب لابن شهر آشوب : ١ / ١٧٦ عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق  ¼ ، إعلام الوري : ١ / ٢٦٣ والثلاثة الأخيرة نحوه .
(٣) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٦٠ .
(٤) الطبقات الكبري : ٤ / ٦٧ ، تاريخ دمشق : ٨ / ٦٢ / ٢٠٩٨ وص ٦٥ / ٢١٠١ عن عروة ، شرح نهج البلاغة : ١ / ١٦٠ نحوه ; الاحتجاج : ١ / ٦٠٤ عن الإمام علىّ  ¼ وفيه "و كان آخر ما عهد به فى أمر اُمّته قوله : أنفذوا جيش اُسامة ، يكرّر علي أسماعهم إيجاباً للحجّة عليهم فى إيثار المنافقين علي الصادقين" ، المناقب لابن شهر آشوب : ١ / ١٧٦ عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق  ¼ .

 ٣٩٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

٩١٩ ـ رسول الله  ½ : جهِّزوا جيش اُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه !(١)

٩٢٠ ـ الإرشاد : . . . فلمّا سَلَّم [ النبىُّ  ½ من الصلاة ]انصرف إلي منزله ، واستدعي أبا بكر وعمر وجماعةً ممّن حضر المسجد من المسلمين ، ثمّ قال : أ لم آمُر أن تُنفِذوا جيش اُسامة ؟ قالوا : بلي يا رسول الله . قال : فلِم تأخّرتم عن أمرى ؟ فقال أبو بكر : إنّنى كنت خرجت ثمّ عدت لاُجدّد بك عهداً . وقال عمر : يا رسول الله ، لم أخرج لأنّنى لم اُحبّ أن أسأل عنك الركب .

فقال النبىّ  ½ : فأنفِذوا جيش اُسامة ، فأنفِذوا جيش اُسامة ـ يكرّرها ثلاث مرّات ـ ثمّ اُغمى عليه من التعب الذى لحقه والأسَف(٢) ، فمكث هُنَيْهة مغميً عليه ، وبكي المسلمون ، وارتفع النحيب من أزواجه وولده والنساء المسلمات ومن حضر من المسلمين(٣) .

٩٢١ ـ الإرشاد : عقد [النبىُّ  ½ ] لاُسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وندبه أن يخرج بجمهور الاُمّة إلي حيث اُصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه  ½ علي إخراج جماعة من متقدّمى المهاجرين والأنصار فى معسكره ; حتي لا يبقي فى المدينة عند وفاته  ½ من يختلف فى الرئاسة ، ويطمع فى التقدّم علي الناس بالإمارة ، ويستتبّ الأمر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه فى حقّه منازع ، فعقد له الإمرة علي من ذكرناه .


(١) الملل والنحل : ١ / ٢٣ ، شرح نهج البلاغة :٦ / ٥٢ عن عبد الله بن عبد الرحمن وفيه "أنفذوا بعث اُسامة . . ." ; الرواشح السماويّة : ١٤٠ .
(٢) الأَسَف : المبالغة فى الحُزْن والغَضَب (لسان العرب : ٩ / ٥) .
(٣) الإرشاد : ١ / ١٨٣ ، إعلام الوري : ١ / ٢٦٥ نحوه .

 ٣٩٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

وجدَّ ـ عليه وآله السلام ـ فى إخراجهم ، فأمر اُسامةَ بالبروز عن المدينة بمعسكره إلي الجُرْف ، وحثّ الناسَ علي الخروج إليه والمسير معه ، وحذّرهم من التَّلوُّم(١) والإبطاء عنه .

فبينا هو فى ذلك ، إذ عَرضت له الشَّكاةُ(٢) التى توفّى فيها(٣) .

٩٢٢ ـ السيرة النبويّة عن عروة بن الزبير وغيره : إنّ رسول الله  ½ استبطأ الناس فى بَعْث اُسامة بن زيد وهو فى وجعه ، فخرج عاصباً رأسه حتي جلس علي المنبر ـ وقد كان الناس قالوا فى إمرة اُسامة : أمَّرَ غلاماً حَدَثاً علي جِلَّة المهاجرين والأنصار ! ـ فحمد الله وأثني عليه بما هو له أهل ، ثمّ قال : أيّها الناس ! أنفِذوا بعث اُسامة ، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله ، وإنّه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقاً لها !

ثمّ نزل رسول الله  ½ ، وانكَمَش(٤) الناس فى جهازهم ، واستَعزَّ برسول الله  ½ وجعُه ، فخرج اُسامة وخرج جيشه معه حتي نزلوا الجُرْف ـ من المدينة علي فرسخ ـ فضرب به عسكره ، وتَتامَّ(٥) إليه الناس ، وثَقُل(٦) رسول الله  ½ ، فأقام


(١) التَّلَوُّم : الإنتظار والتَّلَبُّث (لسان العرب : ١٢ / ٥٥٧) .
(٢) الشَّكاة : المَرَض (النهاية : ٢ / ٤٩٧) .
(٣) الإرشاد : ١ / ١٨٠ .
(٤) اِنْكَمَشَ فى هذا الأمر : أى تَشَمَّرَ وجَدَّ (النهاية : ٤ / ٢٠٠) .
(٥) تَتامُّوا : أى جاؤوا كُلُّهم وتَمُّوا . وفى الحديث : "تَتامَّتْ إليه قُريش" أى أجابَتْهُ وجاءَتْهُ مُتَوافِرَة مُتَتابِعة (تاج العروس : ١٦ / ٧٩) .
(٦) ثَقُلَ الرجُلُ : اشتَدَّ مرَضُه (لسان العرب : ١١ / ٨٨) .

 ٤٠٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

اُسامةُ والناس لينظروا ما الله قاض فى رسول الله  ½ (١) .

٩٢٣ ـ الإمام علىّ  ¼ : أمر رسول الله  ½ بتوجيه الجيش الذى وجّهه مع اُسامة ابن زيد عند الذى أحدث الله به من المرض الذى توفّاه فيه ، فلم يَدَع النبىّ أحداً من أفناء(٢) العرب ، ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممّن يخاف علي نقضه ومنازعته ، ولا أحداً ممّن يرانى بعين البغضاء ممّن قد وترتُه بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه ، إلاّ وجّهه فى ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلّفة قلوبهم والمنافقين ; لتصفو قلوب من يبقي معى بحضرته ، ولئلاّ يقول قائل شيئاً ممّا أكرهه ، ولا يدفعنى دافع من الولاية والقيام بأمر رعيّته من بعده .

ثمّ كان آخر ما تكلّم به فى شىء من أمر اُمّته أن يمضى جيش اُسامة ، ولا يتخلّف عنه أحد ممّن اُنهض معه ، وتقدّم فى ذلك أشدّ التقدّم ، وأوعَزَ(٣) فيه أبلغ الإيعاز ، وأكّد فيه أكثر التأكيد .

فلم أشعر بعد أن قُبض النبىّ  ½ إلاّ برجال من بعث اُسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم ، وأخلوا مواضعهم ، وخالفوا أمر رسول الله  ½ فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدّم إليهم ; من ملازمة أميرهم ، والسيرِ معه تحت لوائه ، حتي ينفذ لوجهه الذى أنفذه إليه !


(١) السيرة النبويّة لابن هشام : ٤ / ٢٩٩ وراجع تاريخ الطبرى : ٣ / ١٨٤ وص ١٨٦ والكامل فى التاريخ : ٢ / ٥ .
(٢) أى لم يُعْلَم مِمَّن هو (النهاية : ٣ / ٤٧٧) .
(٣) الوَعْز : التَّقْدِمة فى الأمر والتَّقَدُّمُ فيه (لسان العرب : ٥ / ٤٢٩) .

 ٤٠١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

فخلّفوا أميرهم مقيماً فى عسكره ، وأقبلوا يتبادرون علي الخيل ركضاً إلي حلّ عقدة عقدها الله عزّ وجلّ لى ولرسوله  ½ فى أعناقهم فحلّوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ! وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجّت به أصواتهم ، واختصّت به آراؤهم ، من غير مناظرة لأحد منّا بنى عبد المطّلب ، أو مشاركة فى رأى ، أو استقالة(١) لما فى أعناقهم من بيعتى !(٢)


(١) تَقايَلَ البَيِّعان : تَفاسَخا صَفْقَتَهما . وتكون الإقالَةُ فى البَيْعة والعهد . والاستِقالَة : طلَب الإِقالَة (لسان العرب : ١١ / ٥٧٩ وص ٥٨٠) .
(٢) الخصال : ٣٧١ / ٥٨ عن جابر الجعفى عن الإمام الباقر  ¼ ، الاختصاص : ١٧٠ عن جابر عن أبى جعفر عن محمّد ابن الحنفيّة ، شرح الأخبار : ١ / ٣٤٦ / ٣١٥ عن محمّد بن سلام بإسناده عنه  ¼ نحوه .

 ٤٠٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة

 ٤٠٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

اكتملت الفصول لهذا المبحث العظيم الذى حمل بين طيّاته آخر جهود رسول الله  ½ ، تلك الجهود الحافلة بالآلام والمشاقّ .

ونعود هنا لإلقاء نظرة اُخري ـ عطفاً علي ما سبق ذكره ـ لنفصح بإيجاز عن سرّ عدم تحقّق آخر جهوده  ½ .

لقد بيّنتْ هذه الفصول بكلّ جلاء بأنّ الولاية العلويّة قد واكبت الرسالة المحمّديّة فى الإبلاغ والتصريح ، وأنّ الرسول حينما كان يصدح بالرسالة ، كان يجاهر أيضاً بالحديث عن ديمومة الرسالة فى قالب الولاية ، ويسمّى علياً "وصيّاً" و"خليفة" و"وزيراً" و"صاحباً" و"رفيقاً" . وإضافة إلي كلّ ذلك فإنّه كان يتحدّث عن القيادة المستقبليّة فى المناسبات المختلفة بما يتناسب والظروف السياسيّة والثقافيّة التى كانت سائدة آنذاك . وكان يصف أمير المؤمنين  ¼ بأنّه الشخص الأكثر مقدرة علي قيادة الاُمّة وانتشالها من تلاطم أمواج الفتن والانحرافات . وقد أوردنا هذه الحقائق بين طيّات هذه الموسوعة

 ٤٠٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

استناداً إلي الكمّ الهائل من الروايات المنقولة من طريق الفريقين ، وجري التأكيد علي أنّ ذروة ذلك الإبلاغ وقعت فى "حجّة الوداع" أو بتعبير آخر فى "حجّة البلاغ" وفى غدير خمّ .

وهكذا فإنّ تأكيد رسول الله  ½ علي كتابة الولاية من بعده فى آخر ساعات عمره المبارك ، كان بلا شكّ يمثّل آخر جهوده ومساعيه لوضع حلّ يضمن سلامة المجتمع ، ويقى الاُمّة من الانحراف من بعده . ومن هذا المنطلق أمر الرسول  ½ ـ وهو فى فراش المرض، وبدنه الشريف يلتهب من شدّة الحُمّي ـ بتجهيز جيش بقيادة الشابّ اُسامة بن زيد ، وأكّد علي الخروج فيه ، ولعن المتخلّفين عنه . وكان كلّما فتح عينيه سأل عن مجريات اُمور ذلك الجيش .

لكنّ العجب كلّ العجب أنّ البعض امتنع عن الالتحاق بذلك الجيش اجتهاداً منهم أمام النصّ الصريح من رسول الله  ½ . وفضلا عن ذلك اتّهموا الرسول الذى لم يكن يقول إلاّ الحقّ ، ولا يتكلّم إلاّ بالوحى(١) ، بأنّه يهجر ; أى يهذى ! ! وهكذا بقيت كتابة الوصيّة بلا أثر ، ولم تُفلح آخر جهود الرسول  ½ لإعداد الأرضيّة الكفيلة بتوطيد "حاكميّة الحقّ" .

ليس هناك أدني شكّ فى أنّ المراد من هذه الوصيّة هو التصريح بالقيادة ، والتأكيد عليها، وجلب الأنظار إلي ما جاء من إبلاغ الحقّ علي مدي عشرين سنة، ونودى به فى كلّ حدب وصوب(٢).

ولكن يبقي ثمّة سؤال; وهو لماذا لم يصرّ الرسول  ½ علي كتابة الوصيّة رغم


(١) ³ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ  ± إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ  ²  النجم : ٣ و٤ .
(٢) راجع : المراجعات : ٣٥٤ ، وكلام مفتى الحنفيّة فى صُوْر الحاج داود الددا ، فى الموضع نفسه . وراجع أيضاً : معالم الفتن : ١ / ٢٦٢ الذى أشار إلي تنبّه بعض محدّثى السنّة إلي هذه المسألة .

 ٤٠٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

اللغط الذى أثاروه فى حينها ؟ ولماذا لم يبادر إلي هذا الإجراء الأساسى مسبقاً وفى أيّام صحّته ؟ ولماذا لم يُقدِم علي كتابة الوصيّة رغم الاقتراح الذى قدّمه البعض بالإتيان بأدوات الكتاب، مع أنّه بقى علي قيد الحياة أربعة أيّام بعد طرح هذه القضيّة ؟ ولماذا لم يُقدم علي هذا الإجراء ليحول دون وقوع الاُمّة فى الضلال; وهو الذى يصفه القرآن بالحرص علي هداية الاُمّة ؟ !(١)

لعلّ التأمّل فى وضع المجتمع الإسلامى حينذاك ، وطبيعة تركيب مجتمع المدينة، ومكانة الإمام علىّ  ¼ يساعد فى العثور علي جواب لهذا السؤال ، لقد قام الرسول  ½ بالكثير من الغزوات والمعارك فى سبيل القضاء علي الشرك وإزالة العراقيل الحائلة دون إبلاغ الرسالة . وقد قُتل فى تلك المعارك الكثير من قادة الشرك والاستكبار ، وكان لسيف علىّ  ¼ الدور الأكبر فيها، وهذه حقيقة لا يشكّ فيها من لديه أدني اطّلاع علي تاريخ الإسلام . وفى السنوات الأخيرة من عمر الرسول  ½ التحق الكثير من ذوى اُولئك القادة بمعسكر الإسلام ، إلاّ أنّ الإسلام لم يدخل فى قلوبهم ، ولم يكونوا علي استعداد للقبول بقيادة الإمام علىّ  ¼ ، هذا من جهة .

ومن جهة اُخري فإنّ الكثير من الصحابة البارزين ما كانوا يرون ـ لسبب أو آخر ـ المصلحة فى وجود الإمام علىّ  ¼ علي رأس قيادة الاُمّة ، فلم يَرُق لهم أمر كتابة الوصيّة ; وذلك لأنّ كتابة الوصيّة كانت تغلق عليهم باب كلّ الأعذار والتبريرات . أمّا فى الظروف العادية فإنّ إقدام النبىّ  ½ علي مثل هذا الإجراء يهيّئ كان الأجواء لبثّ الفرقة والتناحر فى داخل المعسكر الإسلامى .


(١) كما جاء فى الآية ١٢٨ من سورة التوبة .

 ٤٠٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

بينما فى آخر لحظات عمر الرسول  ½ فإنّ الوصيّة كانت تلقي أجواءً أفضل للقبول ، ومن الطبيعى أنّ القائد الذى شارف علي الرحيل من هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد فى سبيل توطيد ركائز الدين ، لابدّ أنّ يضع خطّة للمستقبل يضمن فيها بقاء الدين ومصلحة الاُمّة ، ولو أنّ الوجوه البارزة ما كانت لتثير الاختلاف واللغط وتعكّر صفو الماء لكان الاحتمال قويّاً بأن لا يجد الذين أسلموا حديثاً فرصة للمناورة .

وعلي هذا المنوال عزم الرسول  ½ علي أصل الوصيّة وكتابتها من جهة، وسعي من جهة اُخري من خلال أمره بتجهيز سريّة اُسامة لإبعاد أصحاب الادّعاءات ومثيرى الضجيج عن الساحة فى سبيل توفير الأجواء لطرح المسألة نهائيّاً . ولا شكّ أنّ سريّة اُسامة لو كانت سارت علي وجهتها ، واُبعد مثيرو الشغب عن الساحة لكانت الوصيّة قد كُتبت ، والخلافة الحقّة قد استُتبّت ، ولقُضى علي كل ما يُعكّر صفو الأجواء ، قبل عودتهم(١) .

ولكن لماذا لم يُصرّ النبىّ  ½ علي ما طلب ، ولم يستثمر الفرصة المتبقّية لكتابة الوصيّة ؟

يكفى النظر إلي ما قيل حول المسألة للعثور علي الجواب، وسبب ذلك يعود ـ كما صرّح به مفكّر بارع(٢) ـ إلي أنّهم جرّدوه من العصمة من الضلال بقولهم : "هجر" ! ! ولهذا قال لهم فيما رواه ابن عبّاس بعد أن هدأت الضجّة وقالوا له : أ لا نأتيك بما طلبتَ ؟ قال :


(١) انظر فى هذا المجال قول عمر " فكرهنا ذلك أشدّ الكراهة " مجمع الزوائد : ٨ / ٦٠٩ / ١٤٢٥٧ .
(٢) سعيد أيّوب فى معالم الفتن : ١ / ٢٦٣ .

 ٤٠٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

أ بَعدَ الذى قلتم ؟ ! ...أ وَبَعد ماذا ؟ !

يا للعجب ويا للأسف ! ! فهل هناك موضع للكتابة بعد أن اتّهموا الرسول  ½ بأنّه يهجر ؟ فإذا كان قول الرسول يُتجاهل، ويوصف بالهذيان فى حياته، وهو الذى نزّهه القرآن عن الخطأ بقوله : ³ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ  ± إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ  ²  (١) فلا بدّ وأن يكون سائر كلامه موضع تشكيك من بعد وفاته . ويظهر من هذا الكلام والأجواء التى تمخّضت عنه ، ما يلى :

١ ـ إنّ المعارضين لخلافة الإمام علىّ  ¼ كانوا جادّين فى موقفهم ، ولم يتوّرعوا حتي عن النيل من الرسول  ½ فى سبيل هذه الغاية .

٢ ـ لم يكن للكتابة تأثير حينذاك ، وذلك لأنّهم كانوا سيُشيعون هذا الكلام وهذا الرأى بين الناس ، ويُبطلون بذلك أىّ أثر لكتابة الصحيفة .

٣ ـ لعلّ أهمّ ما كان يتمخّض عن ذلك هو أن لا يصل الإمام إلي الخلافة ، بل وكانت تضيع كلّ تعاليم الرسول ، ويقع التشكيك فى حجّيّتها ، وتضمحلّ أوامره ونواهيه فى خضمّ الأخذ والردّ . والحقيقة هى أنّ اتّهام الرسول  ½ بالهذيان يعتبر من أكثر الحوادث مثاراً للحزن والألم والمرارة فى تاريخ الإسلام . ولعلّ أبلغ ما يعبّر عن ذلك هو كلام ابن عبّاس الذى كان يبكى ويقول :

"إنّ الرزيّة كلَّ الرزيّة ما حال بين رسول الله  ½ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب !"

والأمر المثير أنّه بعد سنتين من ذلك التاريخ حينما كان أبو بكر فى اللحظات الأخيرة من حياته يعيش فى حالة إغماء ولا قدرة له علي الكلام نصّب عمر بن


(١) النجم : ٣ و٤ .

 ٤٠٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل الحادى عشر : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / بحث حول آخر قرارات النبيّ

الخطّاب خليفة من بعده بكتابة تلقينيّة من عثمان، غير أنّ أحداً لم يتّهمه بالهذيان !(١)

وهكذا فقد وقعت تلك الإهانة، ولم تُكتب تلك الوصيّة، ووُضعت اُسس انحراف القيادة ، وحلَّ بالاُمّة ما لم يكن ينبغى أنّ يحلّ بها . وتبلور تاريخ المسلمين علي نحو آخر حافل بكثير من الاضطرابات(٢).


(١) راجع : القسم الرابع / عهد عمر بن الخطّاب .
(٢) راجع : النصّ والاجتهاد : ١٢٥ ـ ١٣٨ ، معالم الفتن : ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٥ .


إرجاعات 
٨١ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام عليّ بعد النبيّ / الفصل الثاني : عهد عمر بن الخطّاب