٢٧٣ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
تمخّضت الشوري التى عيّنها الخليفة الثانى عن اختيار عثمان خليفة للمسلمين الذى امتاز عهد خلافته وخاصّة السنوات الأخيرة منه بأهمّية استثنائيّة . فقبل ذلك عاش المجتمع الإسلامى حالة من الاستقرار فى عهد خلافة الخليفة الثانى . وأكثر ما يُعزي هذا الاستقرار إلي غلظته الممزوجة بالاستبداد . فتحوّل ذلك المجتمع الهادئ بين ليلة وضحاها إلي مجتمع يموج بالاضطراب ويعجّ بالاعتراضات ضدّ الخليفة . فكيف تبلورت هذه القضيّة ؟ ومن أين نشأت تلك الاضطرابات والاحتجاجات الموجّهة ضدّ الخليفة ؟ وممّا لا ريب فيه إنّ الناس الذين اجتمعوا فى المدينة من مختلف الأمصار للتظلّم لدي الخليفة لم يكونوا يمثّلون فئة خاصّة ولا ولاية أو مدينة بعينها ، بل كانوا من مختلف بقاع العالم الإسلامي. فيا تري ما هى أسباب هذه الثورة ؟ وكيف يُحاصَر خليفة المسلمين ـ الذى كانت له صلة قربي مع الرسول ½ ـ ولا يهبّ أحد لنجدته ؟ ! لقد طال الحصار ولم يأتِ أحد لمناصرته من خارج المدينة . وحتي استنجاده ٢٧٤ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
بمعاوية ـ الذى اتّخذ من قضيّة المطالبة بدمه ذريعة لتحقيق مآربه ـ بقى بلا طائل . فمعاوية الذى جنّد فى حرب صفّين جيشاً قوامه مائة ألف ، لم يرسل ولا حتي الف رجل لنصرته . ولكن يا تُري لماذا لم يفعل ذلك ؟ ومن السذاجة أن ينسب المرء حادثة بمثل هذه السعة إلي مجهول أو إلي تيّار عابر . فالتأمّل فى التساؤلات المذكورة والغور فى أعماق النصوص والمصادر من أجل العثور علي إجابات عنها ينتهى بالباحث فى تاريخ الإسلام إلي الاهتداء إلي مسائل ونكات أعمق ممّا طرحه أصحاب الرؤي الساذجة وسعوا إلي إظهاره وكأنّه حقائق ثابتة . ويمكن القول باختصار بأنّ ثورة المسلمين علي عثمان تعود فى جذورها إلي أعمال عثمان والمحيطين به . ويمكن التنقيب فى هذه المسألة بشكل أعمق . فقد كان عثمان من أشراف مكّة ، وكان أقرباؤه بنو اُميّة من ألدّ أعداء الإسلام . فقد كانوا من قادة رؤوس الكفر الذين حاربوا الإسلام ، ولم يدخلوا فيه حتي رأوا سيفه مصلَتاً علي رؤوسهم ، فاُرغموا علي الاستسلام أثناء فتح مكّة ، واُطلقوا علي أساس الرأفة الإلهيّة ; إذ عفا عنهم رسول الله ½ ، وصاروا يعرفون من بعد ذلك باسم "الطُّلَقاء" . وهكذا فإنّهم لم تكن لهم وجاهة دينيّة ، ولا مركز اجتماعى . وإذا ألقينا نظرة أكثر عمقاً علي سلوك عثمان نلاحظ ما يأتى : ١ ـ إدناؤه الطُّلَقاء لما تسلّم عثمان الخلافة أدني أقاربه ـ الطُّلَقاء ـ واتّخذ منهم بطانة وأعواناً مع ٢٧٥ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
أنّ بعضهم كان طريد رسول الله ½ كما هو الحال بالنسبة للحَكَم وابنيه مروان والحارث ; وأصبح مروان ـ طريد رسول الله ½ ـ فى عهد خليفة المسلمين عثمان ، كاتباً خاصّاً للخليفة ! وأصبحت رئاسة السوق بيد الحارث ! وبذلك هيمنوا علي شؤون السياسة والاقتصاد دفعة واحدة . فمعاوية كان فى الشام ، وعبد الله بن عامر ـ شاب عمره ٢٥ سنة من بنى اُميّة ـ فى البصرة ، وعبد الله بن أبى سرح ـ مع ما كان من ارتداده ـ فى مصر ، وسعيد بن العاص فى الكوفة ، والأشعث بن قيس فى أذربيجان وكان أكثرهم من أقارب عثمان ، وهؤلاء هم الذين كانوا يحكمون الاُمّة الإسلاميّة بدلاً من صحابة الرسول ½ والوجوه البارزة فى المجتمع الإسلامى . وكانوا يضيّقون الخناق علي الناس بدعم من الخليفة . ولم يكن تظلّم الناس وصيحاتهم تعود عليهم بطائل . وعندما كان كبار صحابة رسول الله ½ يحتجّون علي تلك الأوضاع ، كان عثمان يغلظ عليهم ويعاملهم باُسلوب بعيد عن الإنصاف ; فقد نفي أبا ذرّ إلي الربذة ، وبقى فيها إلي أن مات غريباً مظلوماً . وداسَ بقدمه عمّار بن ياسر ـ مع ما له من ماض وضّاء ـ حتي اُصيب بفتق . ونفي عبد الله بن مسعود ومنعه عطاءه من بيت المال ، وما إلي ذلك من الأحداث والمواقف التى يمكن للقارئ الاطّلاع عليها بين دفّتى هذا الكتاب . ٢ ـ البذخ فى العطاء اتّبع عثمان سياسة اقتصاديّة تدعو إلي العجب ! فقد كان يتصرّف ببيت المال وكأنّه ملْكٌ مطلق له ، وقد وردت أخبار كثيرة عن كثرة بذله وجزيل عطائه لأقاربه حتي إنّ قبح هذا السخاء لم يبقَ خافياً عن أنظار الباحثين السُّنّة ; فقد ٢٧٦ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
وهب للحكم وأبى سفيان ومروان وغيرهم الكثير من الأموال ، ولم يستجب لاحتجاجات المسلمين . والغريب أنّه كان يُسمّى كلّ هذا الهبات من بيت المال صلة للرحم . وقد أدّي عثمان بأعماله هذه إلي إيجاد فوارق طبقيّة فاحشة فى المجتمع الإسلامى . كما أدّت هذه الأعمال والهبات المنافية للأحكام الإسلاميّة إلي توسيع رقعة السخط والاحتجاج بين الناس ، حتي تحوّلت إلي حركة عامّة وثورة عارمة ضدّ عثمان . ٣ ـ موقفه من مبادئ الدين النقطة المهمّة والتى بقيت خافية عن أنظار الباحثين وهى جديرة بالاهتمام ، هى التلاعب بالدين ، وتحريف الأحكام الإلهيّة ، وكانت هذه المسألة ظاهرة بكلّ جلاء فى كلمات وشعارات معارضى الخليفة . فسخاء الخليفة وكثرة هباته من بيت المال وتعيينه لأقاربه فى المناصب والولايات بعيداً عن الموازين الشرعيّة وبدون أن تتوفّر فيهم الكفاءة المناسبة لشغل هذه المناصب من جهة ، وسعى المؤرّخين من جهة اُخري إلي حماية الشخصيّات التاريخيّة بدلاً من حماية التراث التاريخى كلّ ذلك أدّي إلي عدم ظهور ممارسات الخليفة التى ربّما كان لها أكبر الأثر فى انتفاض المسلمين ضدّه . نورد فيما يلى بعض الأمثلة عن هذا الموضوع : روى عن زيد بن أرقم أنّه قيل له : بأىّ شىء أكْفرتم عثمان ؟ قال : بثلاثة : جعلَ المال دُولة بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ½ بمنزلة من حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله(١) . ٢٧٧ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
ومن المعارضين لسياسة عثمان : عمّار بن ياسر الذى عرف بوقوفه مع الحقّ ، وكان له دور مشهود فى التحريض علي عثمان ، وخطب فى صفّين خطبة حثّ فيها الناس علي مقاتلة معاوية ، وقال فيما قال : انهضوا معى عباد الله إلي قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه ، الحاكم علي عباد الله بغير ما فى كتاب الله ، إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت دنياهم ولو درس هذا الدين : لِمَ قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . . .(١). وجاءت بين كلمات الصحابة فيما يخصّ مقتل عثمان تعابير حول أعماله من قبيل : "بدّل دينكم" ، و"أحدث أحداثاً" ; فقد خوطب بالقول : "إنّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها" ، "أراد أن يُغيّر ديننا" ، "أحدث الأحداث وخالف حكم الكتاب" ، "النابذ لحكم القرآن وراء ظهره" ، "غيّرتَ كتاب الله" ، وما شابه ذلك من التعابير الكثيرة(٢) . ومن الواضح أنّ هذه التعابير تنمّ عن تحريف الدين وتغيير الأحكام ، وتبديل السُنّة المحمّديّة ، وهذا ما حصل فى عهد حكومة عثمان ; فقد ورد فى بعض كتب الصحابة إلي الولايات : "دين محمّد قد اُفسِد" . وعلي كلّ حال لم يمرّ زمن طويل علي عهد رسول الله ½ ، ولا يستطيع المسلمون أن يَروا دين الله يتعرّض للتحريف والتلاعب ، وتُسخّر أحكام الله لمآرب شخصيّة ، ويسكتوا عن ذلك . (١) وقعة صفّين : ٣١٩ . ٢٧٨ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
٤ ـ المستشارون الفاسدون يؤدّى المستشارون دوراً حاسماً فى إدارة الاُمور وبلورة الوقائع . والحقيقة هى أنّ المستشار يأخذ علي عاتقه دوراً تكميليّاً بل وأساسيّاً فى إدارة دفّة الاُمور بالنسبة لمدير ذلك المجتمع . وهكذا يتّضح أنّ اختيار المستشار يتّصف بحسّاسيّة فائقة . هذا من جانب ، ومن جانب آخر هناك مسألة مهمّة ; وهى كيفيّة استفادة القائد منهم ، وكيفيّة إشارتهم عليه ، ودرجة فهمهم ، ومدي إخلاصهم للقائد . ومن المؤسف أنّ عثمان كانت كلّ مواقفه فى هذا المجال غير سويّة ، وقد سبقت الاشارة إلي كيفيّة اختياره للأفراد ، فالمقرّبين منه ; أى بطانته ، ما كانوا يحظون بمكانة اجتماعيّة ولا بوجاهة دينيّة . أضف إلي كلّ ذلك أنّ الخليفة كان شخصاً عديم الإرادة وضعيفاً أمام آراء بطانته ، كما أنّ مستشاريه لم يكونوا علي فكر صائب ; ولا هم من أهل الدين والتقوي . ومن البديهى ـ والحال هذه ـ أنّ جميع آرائهم التى كانوا يفرضونها علي عثمان كانت تصبّ فى صالح أهوائهم وفى اتّجاه الصدام مع الثائرين ، وليس فى صالح الاُمّة والخلافة والخليفة . فالبطانة التى كانت مقرّبة من عثمان لم تكن علي علاقات طيّبة مع الأنصار ، وليس لها مواقف حسنة مع المهاجرين . وهكذا فقد ساقت عثمان فى اتّجاه انتهي بمقتله . يقول شيخ سياستهم أبو سفيان الذى اشتهر صيت عدائه للإسلام فى الآفاق : ٢٧٩ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
"إنّ الأمر أمرُ عالميّة ، والملكَ ملكُ جاهليّة ، فاجعل أوتاد الأرض بنى اُميّة" . حسناً ، لقد فعل عثمان ذلك . ولكن إلي أين وصلوا به ؟ لقد كانت جميع الأعمال التى تُفعل باسم عثمان ، بيد مروان ، وهو ذلك الشابّ الذى لم يكن يعرف شيئاً من تعاليم الإسلام ، وكان طريد رسول الله ½ . وبعدما عاد من منفاه ووطأت قدمه أرض المدينة أفرغ ما فى قلبه من حقد متراكم خلال تلك السنين ، فى ظلّ السلطة التى منحها إيّاه خليفة المسلمين ، فأخذ يوجّه الإهانات لجميع المهاجرين والأنصار ، وكان لعمله ذاك تأثير واضح فى إثارتهم ضدّ عثمان . أصبح الخليفة أداة طيّعة بيد مروان بن الحكم ، سواء عندما أعلن توبته أمام الملأ ، وأرغمه مروان علي نقض توبته ، أم عندما وافق علي عزل والى مصر ، لكنّه رضخ فى أعقاب ذلك لإرادة مروان ، وأصدر أمره بقتل ونفى وتعذيب الثوّار الوافدين من هناك . لقد كان مروان هو الذى يُملى علي عثمان ما يريد ، وكان يسعي فى جرّه إلي اتّخاذ مواقف متزمّتة ، حتي إنّ زوجته نائلة بنت الفرافصة قالت له : "فإنّهم والله قاتلوه ومؤثِّموه . . . وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء" . وكان سائر مستشارى عثمان من هذا القبيل ; فعندما جمعهم للتشاور معهم فى أمر سخطِ الناس عليه ، أشار عليه معاوية باستخدام القوّة ضدّهم لإسكاتهم ، فيما أشار عليه عبد الله بن عامر قائلاً : "أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمّرهم فى المغازى حتي يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه" . أمّا سعيد بن العاص فقد أشار عليه قائلاً : "إنّ لكلّ قوم قادة متي تهلك يتفرّقوا ، ولا يجتمع لهم أمر" . ٢٨٠ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
وعرض عليه معاوية فى هذا المجال أن يقتل عليّاً وطلحة والزبير . فإذا وُجدت كلّ هذه القلوب الفاسدة والنفوس المريضة والتوجّهات الجائرة المثيرة للسخط ، فما الداعى بعدئذ للتساؤل عن أسباب تبلور تلك الثورة ؟ إنّ الشخص الوحيد الذى كان يُشير حينذاك علي عثمان باخلاص رغبة فى صيانة هويّة الاُمّة الإسلاميّة ، ويحذّره من عواقب الاُمور ، ويسعي ـ رغم كلّ ما نزل به من ظلم ـ إلي أن لا تصل الاُمور إلي هذا الحدّ ، هو الإمام علىّ ¼ . ويا ليت عثمان كان يُصغى لنصائحه ويَفى بالعهود التى قطعها علي نفسه للناس . وللإمام علىّ ¼ كلام جميل عن موقفه أزاء تلك الأحداث ، وعن موقف بطانة عثمان ، جاء فى بعض منه : "و الله ما زلت أذبّ عنه حتي إنّى لأستحى ، ولكنّ مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد بن العاص هم صنعوا به ما تري . فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّنى حتي جاء ما تري" . كانت هذه العوامل وعوامل اُخري غيرها هى التى دفعت إلي الثورة علي عثمان ، ومهّدت للانتقاض ضدّ الحكومة المركزيّة . ذكر المسعودى فى مروج الذهب أسباب السخط علي عثمان قائلاً : "فى سنة خمس وثلاثين كثر الطعن علي عثمان وظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من فعله ، منها : ما كان بينه وبين عبد الله بن مسعود ، وانحراف هذيل عن عثمان من أجله . ومن ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتق والضرب ، وانحراف بنى مخزوم عن عثمان من أجله . ومن ذلك فعل الوليد بن عقبة فى مسجد الكوفة . . . ومن ذلك ما فعل بأبى ذرّ(١) . ٢٨١ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
بينما ذكر اليعقوبى أسباب الثورة علي النحو الآتى : "نقم الناس علي عثمان بعد ولايته بستّ سنين ، وتكلّم فيه من تكلّم ، وقالوا : آثر القرباء ، وحمي الحِمي ، وبني الدار ، واتّخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين ، ونفي أبا ذّر صاحب رسول الله وعبد الرحمن بن حنبل ، وآوي الحكم بن أبى العاص وعبد الله بن سعد بن أبى سرح طريدَى رسول الله ، وأهدر دم الهرمزان ; ولم يقتل عبيد الله بن عمر به ، وولّي الوليد بن عقبة الكوفة ، فأحدث فى الصلاة ما أحدث ، فلم يمنعه ذلك من إعاذته إيّاه . وأجاز الرجم ; وذلك أنّه كان رجم امرأة من جهينة دخلت علي زوجها فولدت لستّة أشهر ، فأمر عثمان برجمها . فلمّا اُخرجت دخل إليه علىّ بن أبى طالب فقال : إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ³ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ² (١) وقال فى رضاعه : ³ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ² (٢) ، فأرسل عثمان فى أثر المرأة ، فوُجدت قد رُجمت وماتت . واعترف الرجل بالولد"(٣) . وأشار الطبرى فى تاريخه إلي بعض من تلك العوامل ، متجاهلاً العوامل الاُخري ، قائلاً : "قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التى ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعةً إلي قتله ، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلي الإعراض عنها"(٤) . كان الكلام إلي الآن يدور حول أسباب الثورة علي عثمان . بَيد أنّ النكتة (١) الأحقاف : ١٥ . ٢٨٢ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
الأكثر أهمّية هى دراسة ماهيّة الأفراد والفصائل المشاركة فى الثورة . من الواضح أنّ الذين شاركوا فى تلك الواقعة لم يكونوا كلّهم علي هدف واحد ، وكان لبعضهم غايات اُخري تختلف عن غايات الآخرين . ولكن يمكن علي العموم تلخيص العوامل المشتركة بينهم بما يلى : أ . الناقمون والثائرون العارفون بالسُّنّة شاركت فى هذه الحركة شخصيّات بارزة من الصحابة والمؤمنين المخلصين . والحقيقة هى أنّ حشود هائلة من الجماهير الثوريّة كانت تتحرّك بزعامتهم ، وهذه الشخصيّات ليست من النوع الذى يمكن التشكيك بإخلاصها وصدقها ورسوخ عقيدتها . ونشير فيما يلى إلي بعض هذه الشخصيّات كالآتى : ١ ـ عمّار بن ياسر : كان عمّار من المسلمين الأوائل ومن المجاهدين الأشدّاء . وقد اعتبره رسول الله ½ معياراً للحقّ بقوله : "إذا اختلف الناس كان ابن سُميّة مع الحقّ"(١) و"ما خُيّر عمّار بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما"(٢) و"ملئ عمّار إيماناً إلي مُشاشه(٣)"(٤) ، "يزول مع الحقّ حيث يزول"(٥) . (١) المعجم الكبير : ١٠ / ٩٦ / ١٠٠٧١ ، سير أعلام النبلاء : ١/٤١٦/٨٤ ، البداية والنهاية : ٦/٢١٤ ، كنز العمّال : ١١/٧٢١/٣٣٥٢٥. ٢٨٣ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
كان عمّار الحائز لهذه المكانة عند رسول الله ½ من جملة الناقمين الأساسيّين والأوائل علي عثمان ، وكان يسعي بجدّ علي هذا السبيل . ذكر ابن كثير فى هذا المجال : "كان عمّار يحرّض الناس علي عثمان ولم يقلع ولم يرجع ولم ينزع"(١) . وبسبب هذه الاعتراضات والانتقادات تعرّض عمّار للضرب من قبل الخليفة وبطانته حتي اُغمى عليه واُصيب بعاهة(٢) . ٢ ـ زيد بن صَوحان : وكان من كبار الزهّاد ، ومن الوجوه البارزة فى تاريخ الإسلام ، وقد اعتُبر من "الأبدال(٣)" . وكان من خُلّص أصحاب علىّ ¼ ، بل إنّ البعض يعتبره من صحابة رسول الله ½ ; وذلك لوجود رواية عن الرسول ½ بشأنه ; قال فيها : "من سرّه أن ينظر إلي رجل يسبقه بعض أعضائه إلي الجنّة ; فلينظر إلي زيد بن صوحان"(٤) . وقد عُدّ هذا الرجل فى عداد أكابر الزهّاد والأبدال(٥) . وكان عمر بن الخطّاب يُكرمه ويُثنى عليه كثيراً . أمّا عثمان فقد نفاه إلي الشام ، ثمّ استشهد لاحقاً فى معركة الجمل ، وقد خاطبه أمير المؤمنين ¼ بالقول : "قد كنت خفيف المؤونة ، عظيم المعونة" . (١) البداية والنهاية : ٧ / ١٧١ . ٢٨٤ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
٣ ـ جبلة بن عمرو الأنصارى : وهو من الفقهاء ومن أجلاّء الصحابة(١) . شهد معركة اُحد(٢) . كان يؤاخذ عثمان بشدّة علي اتّخاذه مستشارين سيّئى الطِّباع وخبيثى النوايا بطانةَ سوء . وكان يخاطبه خطاباً مرّاً لاذعاً ويقول له : "يا نعثل ! والله لأقتلنّك ، ولأحملنّك علي قلوص جرباء ، ولاُخرجنّك إلي حرّة النار"(٣) . ٤ ـ جهجاه الغفارى : من صحابة رسول الله ½ ، وممّن شهدوا بيعة الرضوان ، روي عنه البخارى ومسلم(٤) . ٥ ـ عمرو بن الحمق : من صحابة رسول الله ½ ، أسلم بعد الحديبيّة(٥) . ٦ ـ عبد الرحمن بن عُدَيس : من أصحاب رسول الله ½ ، ومن المبايعين تحت الشجرة(٦) . وشارك فى هذه الوقائع أيضاً رجال صالحون من ذوى الشخصيّات البارزة كمالك الأشتر ، ومحمّد بن أبى بكر ، ومحمّد بن أبى حذيفة ، وحكيم بن جبلّة (١) اُسد الغابة : ١ / ٥١١ / ٦٨٦ ; رجال الطوسى : ٥٩ / ٥٠١ ذكره ضمن من روي عن أمير المؤمنين ¼ . ٢٨٥ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
و. . . وكان لهم فيها دور فاعل . يتبيّن من خلال التأمّل فى هذه الشخصيّات وفى كلماتهم وشعاراتهم أنّ هذه الحركة كانت ذات أبعاد واسعة . وانطلاقاً من الحضور الجادّ للصحابة فى هذه الحادثة ; حيث يمكن النظر إلي مشاركتهم هذه علي أنّها بمثابة توجيه للجماهير المؤمنة ; يمكن تسمية الثورة علي عثمان باسم "ثورة الصحابة" . جاء فى تاريخ الطبرى : "لمّا رأي الناس ما صنع عثمان ، كتب مَن بالمدينة من أصحاب النبىّ ½ إلي مَن بالآفاق منهم . . . أنّ دين محمّد قد اُفسِد"(١) . ب . الاستغلاليون ولم يغب عن تلك الحشود الغفيرة بعض محترفى السياسة ، فركبوا أمواج الاعتراض أو ساعدوا علي توسيع مداها طمعاً فى نيل مكانة أفضل . ومن الطبيعى أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص لم يكونوا يُدركون أوضاع الناس وما كانوا يأبهون لها ، ولكنّهم : ١ ـ كانوا يشعرون وكأنّهم نُحُّوا إلي الوراء فى ظلّ الامتيازات والمناصب التى منحها عثمان لأقاربه . ٢ ـ أخذوا يشعرون بعد اتّساع رقعة الثورة أنّ الفرصة قد أصبحت مؤاتية لنيل مآربهم الدنيويّة ، والحقيقة هى أنّهم لم يُدركوا ما ستؤول إليه الأوضاع بعد مقتل عثمان . ٢٨٦ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
إذاً فمعارضتهم لعثمان لم تكن نابعة من حرصهم علي المصلحة العامّة ، ولا من باب الغيرة الدينيّة واستشعار الوظيفة الشرعيّة . ومعني هذا أنّهم كانوا يتطلّعون إلي الجاه والرئاسة . نشير علي سبيل المثال إلي أنّ طلحة كان واحداً منهم ، وقد كتب إلي أهل الكوفة بالقدوم إلي المدينة من أجل وضع حدٍّ لتصرّفات عثمان ، ويبدو أنّه لم يكن يتوقّع بعد مقتل عثمان سوي تسلّم منصب الخلافة . وكان بعض أنصاره علي مثل ظنّه . فبعد ما انتهي سودان بن حمران من قتل عثمان ، خرج من الدار ونادي : "أينَ طلحة بن عبيد الله ؟ لقد قتلنا ابن عفّان"(١) . وفى معركة الجمل رماه مروان بسهم من خلفه وقتله ; لأنّه كان يعتبره هو قاتل عثمان . وهكذا الحال بالنسبة لعائشة أيضاً ; فقد كانت تأمل أن تكون الغلبة لأقاربها ; فكانت تقول : "اقتلوا نعثلاً ; فقد كفر !" ، ولكن بعدما انقلبت الاُمور ، وآلت إلي مآل آخر ، غيّرت موقفها . وهذا ينمّ عن أنّها كانت ترمى إلي شىء آخر غير الحقّ ; فعندما أخذوا يسائلونها فى وقعة الجمل عن السبب الذى جعلها تحرّضهم قبل ذاك علي قتل عثمان ، ثمّ أصبحت تطلب بثأره ، قالت : "قد قلتُ وقالوا ، وقولى الأخير خير من قولى الأوّل"(٢) . ومن هؤلاء الانتهازيّين أيضاً عمرو بن العاص الذى فقد منصبه فى عهد ٢٨٧ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
عثمان ، وكان يعزّ عليه أن يري بلاد مصر التى فتحها هو قد أصبحت الآن بيد عبد الله بن أبى سرح . ومن هنا فهو كان يسعي لتعجيل الثورة ضدّ عثمان ، وقد أشرنا إلي بعض مساعيه فى هذا الاتّجاه ، وكان يقول : "أنا أبو عبد الله ، إذا حككتُ قرحة نكأتها ! إن كنت لاُحرّض عليه ، حتي إنّى لاُحرّض عليه الراعى فى غنمه فى رأس الجبل"(١) . وهكذا الحال بالنسبة إلي الزبير أيضاً ; فهو كان مسايراً لطلحة ، ويطمع فى انتهاز فرصة الثورة لتحقيق ما تصبو إليه نفسه ، وكان يعتبر نفسه قائداً لهذه الجماعة . ج . الأعوان الانتهازيّون هناك أشخاص كانوا مسايرين لعثمان ويرون رأيه ، ولكنّهم فى هذه الحادثة لم ينصروه بل خذلوه ، وصاروا عليه عوناً ـ ولو بشكل غير مباشر ـ وهذا من عجائب عِبَر الدنيا . وأبرز نموذج لهذه الطائفة معاوية ; فقد كان هو وزمرته تجسيداً حقيقيّاً لهذا التوجّه . والواقع أنّه كان له يد طولي فى قتل عثمان . فقد كان بإمكانه أن يرسل من الشام سريّة لحماية الخليفة أو مواجهة المعارضين . بَيد أنّه لم يفعل ! وحتي بعدما استنصره عثمان ، جاء إلي المدينة بمفرده . وقد أدرك عثمان الغاية من قدومه ، فقال له : ٢٨٨ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
"أردتَ أن اُقتل فتقول : أنا ولىّ الثأر"(١) . عندما كتب عثمان كتاباً يستحثّه فيه علي نصرته ، أخذ يسوّف ويتعلّل إلي أن ذهبت الفرصة أدراج الرياح . لننظر إلي هذا النصّ التاريخى : "فلمّا جاء معاوية الكتاب تربّص به وكره اظهار مخالفة أصحاب رسول الله وقد علم اجتماعهم" . وهكذا يمكن القول بأنّ معاوية كانت له يد فى قتل عثمان بشكل غير مباشر . وكان لتلك اليد تأثيرها كما أشار الإمام علىّ ¼ إلي هذا المعني فى إحدي كلماته . وعلي كلّ حال فقد تظافرت التيّارات المنبثقة من أربعة نقاط مهمّة فى الخلافة الإسلاميّة آنذاك ، وصنعت ثورة شاملة ضدّ عثمان . ومن الطبيعى أنّ حضور جموع غفيرة من المسلمين فى المدينة ، واعترافهم الصريح علي أعمال عثمان ، لم يدفعه هو وبطانته لإعادة النظر فى الماضى ، بل عمدوا بدلاً من ذلك إلي تجاهل الاُمور ، ومعاملة الثائرين بأساليب غير مُرضية ، ممّا أدّي إلي تأزيم الأوضاع ومهّد الظروف لقتل عثمان . يتّضح ممّا مرّ ذكره أنّ ما نقله سيف بن عمر وحاول فيه تجاهل الأسباب والعوامل المذكورة أعلاه تجاهلاً تامّاً ، ونسبة الأحداث التى وقعت ضدّ عثمان إلي شخص كعبد الله بن سبأ ، بعيد عن الحقيقة وعن الواقع التاريخى . وقد وصفت المصادر الرجاليّة سيف بن عمر بالكذب ، وطعنت فيه . وهذا ما يوجب عدم التعويل علي أخباره . وفضلاً عن كلّ ذلك فحتّي لو كان صادقاً ، فإنّ ٢٨٩ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / تحليل لأسباب الثورة علي عثمان
ما نقله من الأخبار جاء علي نحو لا يمكن التصديق به علي الإطلاق ، ومن الواضح أنّ دور عبد الله بن سبأ فيها موضوع ولا صحّة له . وسوف نبحث هذه المسألة فى البيان الآتى . ٢٩٠ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
عبد الله بن سبأ وجه مشبوه ٢٩١ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
تحدّثت مصادر التاريخ الإسلامى عن شخص يدعي عبد الله بن سبأ . بَيد أنّ الأخبار المتناقضة عن شخصيّته وتأثيره فى الأحداث ومقدرته الفكريّة ومكانته الاجتماعيّة والسياسيّة ألقت هالة من الغموض علي صورته الحقيقيّة . فقد ذهب بعض الباحثين(١) إلي تضخيم دوره ـ بناءً علي ما ورد بشأنه من أخبار ـ فى وقائع صدر الإسلام بشكل مذهل ، بل وحتي إنّهم نسبوا إليه ـ من غير تروٍّ ـ رؤية خاصّة فى الثقافة الإسلاميّة ، وعزوا إليه بعض الحوادث من قبيل الثورة علي عثمان . هذا من جهة ، ومن جهة اُخري صرّح مفكّرون آخرون بعدم وجود مثل هذه الشخصيّة أساساً ، معلنين بأنّه ليس إلاّ اُسطورة(٢) ، أو أنّهم شكّكوا (١) مثل محمود محمّد شاكر فى "الخلفاء الراشدون" ، وفى مجلّة الرسالة : العدد ٧٦١ ـ ٧٦٣ ، وسعيد الأفغانى فى "عائشة والسياسة" ، وعبد الرحمن بدوى فى "مذاهب الإسلاميّين" ، وإحسان إلهى ظهير فى "الشيعة والسُنّة" . ٢٩٢ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
بوجوده علي الأقل(١) . ونحن فى هذا المدخل لسنا بصدد تقصّى جميع الأخبار الواردة بشأن هذه الشخصيّة ، ونكتفى بإلقاء نظرة سطحيّة عليه ; وننفى تبعاً لذلك دوره فى الثورة علي عثمان ، ونعلن بأنّ الخبر المتعلّق بتلك الواقعة لا يمكن التعويل عليه من حيث السند والمضمون . نقل الطبرى عن السرى عن شعيب عن سيف بن عمر قال : "كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء ، اُمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل فى بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم ; فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام . . . حتي أتي مصر"(٢) . يُستشفّ من هذا الخبر أنّ ابن سبأ كان يهوديّاً وأسلم بقصد نشر الضلال بين صفوف المسلمين . ثمّ أخذ يطوف فى البلاد والسواد بهدف تحقيق غايته . ويبدو أنّ نقل الطبرى هذا أقرب إلي القصّة المختلقة منه إلي الخبر التاريخى . فكيف يمكن لرجل أسلم حديثاً ودخل دائرة الثقافة الإسلاميّة من دائرة اُخري أن يتنقّل بين كلّ هذه البلاد بهذه السرعة فى ظلّ ظروف السفر الصعبة آنذاك ؟ وماذا كان عساه أن يقول حتي ينشر الضلال فى الآفاق ؟ ! وردت فى المصادر التاريخيّة أخبار كثيرة عن عبد الله بن سبأ ، ونُسبت إليه أعمالٌ نشير إلي جملة منها : ١ ـ هو الذى طرح فكرة وصاية علىّ ¼ ، ومسألة غصب الخلافة من قبل (١) مثل طه حسين فى كتاب "علىّ وبنوه" ، وجواد على فى مجلّة الرسالة : العدد ٧٧٤ ـ ٧٧٨ . ٢٩٣ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
عثمان . ٢ ـ التأثير فى مواقف كبار أصحاب الرسول ½ كأبى ذرّ وعمّار ، وشخصيّات بارزة اُخري كمالك الأشتر ومحمّد بن أبى بكر ، وما إلي ذلك . ٣ ـ دعوة الناس للثورة علي عثمان فى الكوفة والبصرة ومصر . ٤ ـ النهوض ضدّ عثمان وتزعّم الثورة التى انتهت بمقتله . ٥ ـ تأجيج نار معركة الجمل بعدما كادت الاُمور أن تُفضى إلي الصلح . ولا بأس أن نمحّص هاهنا الرواية الآنف ذكرها من حيث السند والدلالة : سندها : يعتبر سند الرواية ضعيفاً من وجهة نظر المصادر الرجاليّة المهمّة . فقد قال ابن حجر : "سيف بن عمر التميمى البُرجُمى ، ويقال : السعدى ، ويقال : الضبعى ، ويقال : الأسدى الكوفى ، صاحب كتاب الردّة والفتوح . قال ابن معين : ضعيف الحديث . وقال مرّة : فُلَيس خير منه . وقال أبو حاتم : متروك الحديث ، يشبه حديثه حديث الواقدى . وقال أبو داود : ليس بشىء . وقال النسائى والدارقطنى : ضعيف . وقال ابن عدىّ : بعض أحاديثه مشهورة وعامّتها منكرة ; لم يُتابَع عليها . وقال ابن حبّان : يروى الموضوعات عن الأثبات ، قال : وقالوا : إنّه كان يضع الحديث . قلتُ : بقيّة كلام ابن حبّان : اتُّهم بالزندقة . وقال البرقانى عن الدارقطنى : متروك . وقال الحاكم : اتُّهم بالزندقة ، وهو فى الرواية ساقط . قرأت بخطّ الذهبى : مات سيف زمن الرشيد"(١) . (١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٤٦٦ و٤٦٧ / ٣١٨٤ ، تهذيب الكمال : ١٢ / ٣٢٦ / ٢٦٧٦ . ٢٩٤ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
وقال العلاّمة الأمينى فى ذكر السرى : "ابن حجر يراه : السرى بن إسماعيل الهمدانى الكوفى ، الذى كذّبه يحيي بن سعيد ، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ . ونحن نراه : السرى بن عاصم الهمدانى ، نزيل بغداد ، المتوفّي ٢٥٨ هـ ، وقد أدرك ابن جرير الطبرى شطراً من حياته يربو علي ثلاثين سنة ، كذّبه ابن خراش ، ووهّاه ابن عدىّ ، وقال : يسرق الحديث . وزاد ابن حبّان : ويرفع الموقوفات لا يحلّ الاحتجاج به . وقال النقّاش فى حديث : وضعه السرى . فهو مشترك بين كذّابين لا يهمّنا تعيين أحدهما . . . ولا يحسب القارئ أنّه السرى ابن يحيي الثقة لقِدَم زمانه ، وقد توفّى سنة ١٦٧ قبل ولادة الطبرى ـ الراوى عنه المولود سنة ٢٢٤ ـ بسبع وخمسين سنة . وفى الإسناد شعيب بن إبراهيم الكوفى المجهول ، قال ابن عدىّ : ليس بالمعروف . وقال الذهبى(١) : راوية كتب سيف عنه ، فيه جهالة"(٢) . مضمون الرواية يمكن الطعن بصحّة هذه الرواية من خلال أدني تأمّل فى مضمونها وصياغتها . والنقاط التى تتبادر إلي الذهن لأوّل وهلة عند النظر إليها : ١ ـ كيف يمكن التصديق بأنّ رجلاً يمنيّاً أسلم حديثاً أن يستجمع لنفسه كلّ هذه القوّة فى مدّة لا تزيد عن العشر سنوات ، ويدبّر هذه الثورة الكبري ضدّ خليفة المسلمين ؟ ! (١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٧٥ / ٣٧٠٤ ، لسان الميزان : ٣ / ١٤٥ / ٥١٧ . ٢٩٥ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
٢ ـ المذكور هو أنّ الفترة الممتدّة من اعتناق هذا الرجل للإسلام إلي أيّام الثورة علي عثمان لا تربو علي عشر سنوات قضاها ـ وفقاً لروايات الطبرى ـ يجوب البلاد الإسلاميّة بمدنها وقراها . فما هى المقدرة الكلاميّة التى كان يجيدها هذا الرجل بحيث استطاع خلال هذه المدّة القصيرة ـ إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّه جاب كلّ هذه البلدان فى مدّة عشر سنوات ـ إثارة أهالى بلاد كمصر والحجاز والبصرة والكوفة مع ما يوجد بين هذه البلاد من اختلافات فى الثقافات والاتّجاهات الفكريّة ؟ ! وكيف تسنّي له الكلام ضدّ الخليفة بدون أن يقف بوجهه أحد ؟ ! ولماذا لم تذكر المصادر التاريخيّة شيئاً عن مواقفه مع أهالى أىّ من تلك البلدان ، ولا عن مواقف أهالى تلك البلدان معه ؟ ! ٣ ـ هل يمكن التصديق بأنّ بعض الصحابة الكبار من أمثال أبى ذرّ الذى وصفه رسول الله ½ بأنّه أصدق الناس لهجة ، وعمّار الذى وصفه رسول الله ½ بأنّه مع الحقّ ; يقعون تحت تأثير كلامه ؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء الرجال الذين لم يزعزعهم كلام الخليفة الأوّل ولا الخليفة الثانى ولا الخليفة الثالث عن مواقفهم ، أن يزعزعهم كلام رجل أسلم حديثاً إضافةً إلي كونه مجهول النسب ؟ ! كان أبو ذرّ يحتجّ علي عثمان لأخذه برأى كعب الأحبار اليهودى ، فكيف يأخذ هو برأى عبد الله بن سبأ ولا تعيب عليه الحكومة وغيرها ذلك ؟ ! ونضيف إلي ذلك بأنّ العلماء والمفكّرين من الإخوة السُنّة الذين يبجّلون صحابة رسول الله ½ ، كيف يبيحون لأنفسهم أن يُظهروهم ـ عند تحليلهم لواقع الأحداث ـ بهذه الدرجة من السذاجة الفكريّة بحيث يشهرون سيوفهم علي خليفتهم ، ويثيرون تلك الفتنة الكبري تحت تأثير كلام رجل يهودى ؟ ! ٤ ـ ذكروا أنّه كان له فى معركة الجمل دور بارز ، فلماذا لا يوجد عنه أىّ خبر ٢٩٦ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
بعد انتهاء المعركة ؟ ! والشخص الذى يستطيع أن يفعل ما فعل بالخليفة ، لماذا لا يفعل شيئاً فى ذروة عزّه واقتداره ؟ ! ولماذا لم يذكر التاريخ حتي اسمه ؟ ! ٥ ـ لماذا لم يتحقّق معاوية الذى كان يعتبر نفسه وليّاً لدم عثمان ، ويري حتي الصحابة الذين كانوا فى المدينة ولم ينهضوا لنجدة عثمان مستحقّين للقتل(١) ، لماذا لم يتحقّق فى المسبّب الأصلى لتلك الواقعة ؟ ! ولماذا لم تذكر المصادر التاريخيّة ولا خبراً واحداً عن ملاحقة معاوية لعبد الله بن سبأ ؟ ! ٦ ـ وأخيراً ; من هو عبد الله بن سبأ ؟ وما هو نسبه ؟ وأين كان قومه ؟ ومن أبوه واُمّه ، وأين كانا يعيشان ؟ وما هى القبيلة التى ينتمى إليها ؟ هذه التساؤلات لا يوجد جواب عنها . وكيف لم يدوّن العرب الذين كانوا يعيرون أهمّية فائقة لعلم الأنساب شيئاً عن رجل كان له مثل هذا الصيت الذائع ؟ ! ولماذا لم يشيروا إلي ذكر أحد من قومه ؟ ! إنّ أمثال هذه التساؤلات تجعل شخصيّة هذا الرجل تبدو وكأنّها مغمورة فى هالة من الغموض ، حتي اعتبر بين الباحثين المتأخّرين ـ كما سبقت الإشارة ـ شخصيّة مشبوهة . فقد شكّك بعض المستشرقين مثل فرد لندر ، وبرنارد لويس ، وكيتانى ، وباحثون سُنّة من أمثال طه حسين من خلال نقد وتحليل الأخبار المتعلّقة بعبد الله بن سبأ بوجود مثل هذا الشخص ، ونفوا جملة وتفصيلاً دوره الاُسطورى فى الوقائع المتعلّقة بمقتل عثمان . صرّح طه حسين بأنّ عبد الله بن سبأ شخصيّة اختلقها خصوم الشيعة ، واعتبر ٢٩٧ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
التأكيد علي أصله اليهودى تعريضاً بالمذهب الشيعى . والنقطة المهمّة التى يؤكّدها طه حسين هى أنّ البلاذرى ـ وعلي الرغم من دقّة نقله للأحداث التى وقعت فى عهد عثمان ـ لم يذكر شيئاً عن عبد الله بن سبأ ودوره فى تلك الوقائع . وقد التفت العلاّمة الأمينى إلي هذه المسألة وأشار اليها فى كتابه "الغدير"(١) . ومن أوسع البحوث التى جرت فيما يخصّ نقد وتمحيص الأخبار الواردة بشأن عبد الله بن سبأ ، هى البحوث التى أجراها العلاّمة مرتضي العسكرى . وعند تقصّيه لمصادر تلك الأخبار ; توصّل إلي أنّ مصدرها هو تاريخ الطبرى . ثمّ يثبت أنّ الدور الاُسطورى لعبد الله بن سبأ لم ينقله أحد من المؤرّخين سوي سيف بن عمر ! ! يتّضح من خلال التمعّن فى الأخبار التى نقلها سيف بن عمر بشأن الأحداث التى وقعت بعد رسول الله ½ ، بأنّه كان قصّاصاً ماهراً ، وأنّه كان يسعي بلا توان وبشكل مقصود إلي تنزيه الحكّام الاُمويّين أو (العدنانيّين حسب تعبير العلاّمة العسكري) من جميع القبائح والمفاسد . وقد عمد فى هذا السياق إلي تزييف التاريخ كى لا يبقي ثمّة غبار يشوّه صورة عثمان ومعاوية وطلحة والزبير . وقد ذكر العلاّمة العسكرى بأنّ هذا الشخص تحدّث عن مائة وخمسين صحابيّاً مختلقاً ليس لهم وجود إلاّ فى ذهنه ، ولم يردّ ذكر أحد منهم فى أىّ مصدر تاريخى آخر . وصف علماء رجال السُنّة سيف بن عمر بكلمات من قبيل : ليس بشىء ، كذّاب ، ضعيف ، فَلس خير منه ، متروك الحديث ، عامّة أحاديثه ٢٩٨ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
منكرة ، يروى الموضوعات عن الأثبات ، كان يضع الحديث ، وما شابه ذلك . وكلّها تعكس صورته الكاذبة القبيحة . يعتقد السيّد العسكرى بأنّ عبد الله بن سبأ ليس له وجود خارجى ، وإنّما هو شخصيّة خياليّة اختلقها سيف بن عمر ودسّها فى المصادر التاريخيّة . وعلي كلّ الأحوال فإنّ ما يمكن التوصّل إليه بشأن عبد الله بن سبأ يتلخّص فى رأيين متناقضين تماماً ، هما : ١ ـ إنّه شخصيّة بارعة وقادرة علي اصطناع المواقف والوقائع وما شابه ذلك . ٢ ـ إنّه شخصيّة وهميّة ومختلقة ابتدعها الخيال المريض لسيف بن عمر . تمحيص هذين الرأيين : الرأى الأوّل يتبنّاه السُنّة وهو أمر مشهور لدي مؤرّخيهم . ولا شكّ فى أنّ هذا الرأى لا يتّسم بالرصانة ; فالتساؤلات التى اُثيرت هاهنا حول هذا الرأى لا يوجد عنها جواب ، وهى كافية لإبطاله . كما أنّ المؤاخذات التى عرضها العلاّمة العسكرى وتأكيده علي تفرّد سيف بن عمر بذكر شخصيّة عبد الله بن سبأ ودوره فى الأحداث المتعلّقة بمقتل عثمان ، تعتبر مؤاخذات دامغة وكفيلة بتفنيد هذا الرأى . ومن هنا لا يبقي مجال للشكّ فى بطلان الرأى الذى يذهب إلي القول بأنّه شخصيّة بارعة قادرة علي اختلاق الأحداث والوقائع . ذكرنا فيما سبق بأنّ أكثر من أكّد علي وهميّة وجود هذه الشخصيّة هو العلاّمة العسكرى . والرأى الذى أدلي به فى هذا المجال يتطلّب مزيداً من التأمل . فالدور القيادى لعبد الله بن سبأ وتأثيره الاُسطورى فى الوقائع لا أساس له من ٢٩٩ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
الصحّة . وهذا الكلام لا يعنى طبعاً أنّ هذا الرجل لم يكن له أىّ وجود خارجى . ولو أنّ الأخبار التى نقلها سيف بن عمر تختصّ بهذا الرجل وحده لكان من الجائز تأكيد صحّة هذا الرأى . ولكن النكتة الجديرة بالتأمّل هى أنّ الكثير من النصوص التاريخيّة والحديثيّة ـ الواردة عن غير طريق سيف بن عمر ـ تحدّثت عن وجود شخص باسم "عبد الله بن سبأ" . أظهرت الكثير من النصوص عبد الله بن سبأ كشخصيّة مغالية . فقد ذكرت بعض المصادر بأنّ الإمام علىّ ¼ أحرقه لغلوّه فيه وتأليهه إيّاه : ١ ـ توجد فى كتاب رجال الكشّى خمس روايات عن عبد الله بن سبأ ومعتقداته ، ثلاث منها ذات سند صحيح(١) . ٢ ـ جاءت فى كتاب من لا يحضره الفقيه وتهذيب الأحكام رواية يسأل فيها عبد الله بن سبأ عن حكمة رفع اليدين أثناء الدعاء(٢) . ٣ ـ ورد فى كتاب الاعتقادات للشيخ الصدوق أنّ زرارة سأل الإمام الصادق ¼ : إنّ رجلاً من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض(٣) . ٤ ـ فى رجال الطوسى اُشير إلي اسم عبد الله بن سبأ فى عداد أصحاب الإمام علىّ ¼ وجاء فيه : عبد الله بن سبأ ، الذى رجع إلي الكفر وأظهر الغلوّ(٤) . ٥ ـ وفى كتاب الغيبة للطوسى اُشير إلي السبئيّة عند ذكر الاعتقاد بالإمام (١) رجال الكشّى : ١ / ٣٢٣ / ١٧٠ وح ١٧١ وص ٣٢٤ / ١٧٢ وح ١٧٣ و١٧٤ . ٣٠٠ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
المهدى ¼ والتيّارات التى تنكر هذا المعتقد فقال : أ ليس قد خالف جماعة . . . وفيهم من قال من السبائيّة : هو علىّ ¼ لم يمت . . .(١) . ٦ ـ جاء فى كتاب المحبّر لمحمّد بن حبيب النسّابة (م ٢٤٥ هـ ) فى باب أبناء الحبشيّات : عبد الله بن سبأ صاحب السبائيّة(٢) . ٧ ـ قال ابن قتيبة (م ٢٧٦ هـ ) فى كتاب المعارف : السبئيّة من الرافضة ، يُنسبون إلي عبد الله بن سبأ ، وكان أوّل من كفر من الرافضة وقال : علىّ ربّ العالمين ; فأحرقه علىّ وأصحابه بالنار(٣) . ٨ ـ قتل أعشي همدان عام ٨٣ هـ علي يد الحجّاج . وقد قال أعشي همدان عن المختار وكرسيّه الذى كان يقدّسه ويدّعى أنّ عليّاً جالس عليه :
وهناك أخبار اُخري وردت فى كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الأشعرى (م ٣٠١ هـ ) ، وفى كتاب فرق الشيعة للنوبختى (م ٣١٠ هـ ) ، وفى كتاب مقالات الإسلاميّين لعلىّ بن إسماعيل (م ٣٣٠ هـ ) ، وفى كتاب التنبيه والرد لأبى الحسين الملطى (م ٣٧٧ هـ ) وفى كتاب الفرق بين الفِرَق لعبد القادر البغدادى (م ٤٢٩ هـ ) عن عبد الله بن سبأ أو فرقة السبئيّة(٥) . وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الأخبار ودرجة اعتبارها فهى تنمّ من غير شكّ (١) الغيبة للطوسى : ١٩٢ / ١٥٤ . ٣٠١ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
عن أنّ الأخبار المتعلّقة بعبد الله بن سبأ والسبئيّة لم يتفرّد بنقلها سيف بن عمر وحده أو الطبرى وحده . وخلاصة القول هى : ١ ـ يُستفاد من المصادر الموجودة بأنّ شخصاً اسمه "عبد الله بن سبأ" كان موجوداً بين أصحاب الإمام علىّ ¼ . ٢ ـ هناك احتمال قوى بأنّه كان رجلاً مغالياً . ٣ ـ كان له أتباع استمرّوا علي الاعتقاد برأيه من بعده . ٤ ـ لا توجد أخبار مقبولة عن دوره ضدّ عثمان وتحريض الناس عليه سوي ما نقله سيف بن عمر الكذّاب . ٥ ـ سيف بن عمر رجل مختلق للأكاذيب والأساطير وغير موثوق ، وقد وصفته المصادر الرجاليّة صراحة بالكذّاب . ٦ ـ لم يُشر أىّ من المؤرّخين إلي وجود طائفة باسم طائفة السبئيّة خلال أحداث عام ٣٠ ـ ٣٦ هـ . ٧ ـ من المؤكّد أنّ الدور الاُسطورى الذى نسبه سيف بن عمر إلي عبد الله بن سبأ كذب محض . ٨ ـ الدور القيادى لعبد الله بن سبأ فى مقتل عثمان ، وتأثّر الصحابة وعامّة المسلمين بآرائه كذب صريح . وحتي لو أنّ مؤرّخين معتبرين نقلوا تلك الأخبار ، لكان واقع المسلمين والصورة الناصعة للصحابة كفيلة بدحضها . ٩ ـ سبقت الإشارة إلي أنّ سيف بن عمر ـ كما جاء فى أقوال علماء الرجال ـ كذّاب ومطعون فيه . ونضيف هنا أنّ سيف بن عمر حتي لو كان وجهاً مقبولاً ، فإنّ ٣٠٢ - المجلد الثالث / القسم الرابع : الإمام علىّ بعد النبىّ / الفصل الخامس : الثورة علي عثمان / عبد الله بن سبأ وجه مشبوه
هذه المنقولات غير قابلة للتصديق من حيث المضمون . فإنّ طرح الأحداث علي هذا النحو الساذج لا يمكن أن يُقنع مؤرّخاً بل ولا حتي إنساناً عاديّاً . النكتة الاُخري هى أنّ هذه الأخبار قد صنعت من عبد الله بن سبأ وجهاً بارزاً ومؤثّراً إلاّ أنّها بالغت فى تصوير سلوك بعض الشخصيّات علي نحو لا يمكن معه حتي للإنسان العادى ان يقوم بمثل ذلك السلوك ، فما بالك بالشخصيّات البارزة ذات الوعى السياسى العالى ؟ ! ١٠ ـ ومهما يكن الحال فإنّ وجود مثل هذين الرأيين المتناقضين فى الإفراط والتفريط أمر غير مستساغ ; أى لا دوره الخارق مقبول ، ولا القول بأنّه شخصيّة وهميّة . فقد كان شخصاً عاديّاً مع احتمال أن تكون له آراء مغالية . نشير إلي أنّ العلاّمة العسكرى علي بيّنة من وجود هذه الأخبار . وقد طرحها علي بساط البحث وناقشها ، ولابدّ أنّه اقتنع بعدم صحّتها . إلاّ أنّ المجال لا يتّسع هنا لمناقشة هذه المباحث . بَيد أنّنا نظنّ بأنّ هذه الأخبار تنمّ عن وجود هذا الشخص ، ولكنّه كان شخصاً عاديّاً عاش فى المجتمع الإسلامى كأىّ مواطن آخر . |
||