٣٣٥ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة
٣ / ١ ذكرنا سابقاً أنّ اُولي الأعمال التى اتّخذها الإمام علىّ ¼ بعد مبايعة الناس له علي طريق الشروع بالإصلاحات هو عزل عمّال عثمان(١) . وكان الساسة من أصحاب الإمام لا يرون من المصلحة عزل شخصين ، هما : معاوية وأبى موسي الأشعرى . وأخيراً وبعد الكثير من التوضيحات وفى أعقاب وساطة مالك الأشتر ، وافق أمير المؤمنين ¼ علي إبقاء أبى موسي الأشعرى . أمّا بالنسبة الي معاوية فلم تفلح جميع الجهود التى بذلت لإقناع الإمام بإبقائه فى منصبه ، إذ كان لا يري جواز إبقائه والياً ولو لحظة واحدة . (١) راجع : القسم الخامس / الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان . ٣٣٦ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / عزل معاوية
أمّا بالنسبة إلي معاوية فهو لم يبايع الإمام ولم يترك أهل الشام يبايعونه . وبدأ منذ اليوم الأول لخلافة الإمام بالتآمر عليه ، ممهّداً بذلك الأجواء للصدام العسكرى . وأوّل سؤال يُثار فى هذا المجال هو كيف يمكن تبرير عمل الإمام هذا من الوجهة السياسيّة ؟ أ لم يكن من الأفضل أن يُبقى الإمامُ معاوية فى منصبه فى بداية خلافته إلي حين استتباب الاُمور ، وإلي أن يبايع هو وأهل الشام ، ثمّ يعزله من بعد ذلك لكى لا تقع حرب صفّين ولكى تستقرّ الحكومة الإسلاميّة بقيادته ؟ أ لم يكن الحفاظ علي وحدة كلمة الاُمّة وديمومة النظام الإسلامى وهما من أوجب الواجبات ، يقضيان بإبقاء معاوية علي ولاية الشام ولو مؤقّتاً ؟ ٣٣٧ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / دفاع عن سياسة عزل معاوية
استناداً إلي ما يتبنّاه الإمام فى سياسة وإدارة النظام الاسلامى التى سبق شرحها(١) يمكن الردّ علي هذه التساؤلات بكلّ سهولة . بَيدَ أنّ هذه السياسة توجد بشأنها اُمور مهمّة لابدّ من الإشارة إليها هاهنا : دافع ابن أبى الحديد عن هذه السياسة بالتفصيل ، ونحن نورد النقاط المهمّة فيها : استدلّ ابن أبى الحديد ابتداءً من خلال المصادر والوثائق التاريخيّة علي أنّ معاوية ما كان يبايع الإمام فى أيّة ظُروف كانت . ثمّ أشار إلي المبادئ الدينيّة التى كان يسير عليها الإمام فى تعيين وعزل الولاة والعمال . ثمّ أورد فى ختام المطاف تحليلاً رصيناً لعالم يدعي ابن سنان بيّن فيه عدم امكانيّة إبقاء معاوية فى الظروف التى بايع فيها الناس عليّاً من بعد قتل عثمان ; لأنّها ستجعل الإمام يواجه فى أوّل حكومته أوضاعاً كالتى انتهي إليها عثمان فى اُواخر حكمه . (١) راجع : القسم الخامس / السياسة فى المدرستين / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة . ٣٣٨ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / دفاع عن سياسة عزل معاوية
١ ـ إبقاء معاوية فى منصبه لا يدعوه إلي البيعة نقل ابن أبى الحديد فيما يخصّ انتقاد سياسة الإمام بعزل معاوية : "منها قولهم : لو كان حين بويع له بالخلافة فى المدينة أقرّ معاوية علي الشام إلي أن يستقرّ الأمر له ويتوطّد ويبايعه معاوية وأهل الشام ثمّ يعزله بعد ذلك ، لكان قد كُفى ما جري بينهما من الحرب . والجواب : إنّ قرائن الأحوال حينئذ قد كان علم أمير المؤمنين ¼ منها أنّ معاوية لا يبايع له وإن أقرّه علي ولاية الشام ، بل كان إقراره له علي إمرة الشام أقوي لحال معاوية وآكد فى الامتناع من البيعة ; لأنّه لا يخلو صاحب السؤال إمّا أن يقول : كان ينبغى أن يطالبه بالبيعة ويقرن إلي ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معاً ، أو يتقدّم منه ¼ المطالبة بالبيعة ، أو يتقدّم منه اقراره علي الشام وتتأخّر المطالبة بالبيعة إلي وقت ثان . فإن كان الأوّل فمن الممكن أن يقرأ معاوية علي أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكّد حاله عندهم ، ويقرّر فى أنفسهم : لولا أنّه أهل لذلك لما اعتمده علىّ ¼ معه ، ثمّ يماطله بالبيعة ويحاجزه عنها . وإن كان الثانى فهو الذى فعله أمير المؤمنين ¼ . وإن كان الثالث فهو كالقسم الأوّل ، بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف والعصيان . وكيف يتوهّم من يعرف السير أنّ معاوية كان يبايع له لو أقرّه علي الشام وبينه وبينه ما لا تبرك الابل عليه من التِّرات القديمة والأحقاد ، وهو الذى قتل حنظلة أخاه ، والوليد خاله ، وعتبة جدّه ، فى مقام واحد ! ! ثمّ ما جري بينهما فى أيّام ٣٣٩ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / دفاع عن سياسة عزل معاوية
عثمان حتي أغلظ كلّ واحد منهما لصاحبه ، وحتي تهدّده معاوية وقال له : إنّى شاخص إلي الشام وتارك عندك هذا الشيخ ـ يعنى عثمان ـ والله لئن انحصّت منه شعرة واحدة لأضربنّك بمائة ألف سيف ! ! . . . وأمّا قول ابن عبّاس ـ له ¼ : ولّه شهراً واعزله دهراً ـ ، وما أشار به المغيرة بن شعبة فإنّهما ما توهّماه وما غلب علي ظنونها وخطر بقلوبهما . وعلىّ ¼ كان أعلم بحاله مع معاوية ، وأنّها لا تقبل العلاج والتدبير ، وكيف يخطر ببال عارف بحال معاوية ونكره ودهائه وما كان فى نفسه من علىّ ¼ من قتل عثمان ومن قبل قتل عثمان أنّه يقبل إقرار علىّ ¼ له علي الشام ، وينخدع بذلك ، ويبايع ويعطى صفقة يمينه ! إنّ معاوية لأدهي من أن يُكاد بذلك ، وإنّ عليّاً ¼ لأعرف بمعاوية ممّن ظنّ أنّه لو استماله بإقراره لبايع له . ولم يكن عند علىّ ¼ دواء لهذا المرض إلاّ السيف ; لأنّ الحال إليه كانت تؤول لا محالة ، فجعل الآخر أوّلاً(١) . ٢ ـ إبقاء معاوية كان يزعزع الحكومة المركزيّة لم يكن إبقاء معاوية علي ولاية الشام يقوّى ركائز حكومة الإمام ، بل إنّه كان يؤدى الي زعزعتها منذ البداية . وقد جاء تحليل ابن سنان فى هذا المضمار علي النحو التالى : إنّا قد علمنا أنّ أحد الأحداث التى نقمت علي عثمان وأفضت بالمسلمين إلي ٣٤٠ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / دفاع عن سياسة عزل معاوية
حصاره وقتله تولية معاوية الشام مع ما ظهر من جوره وعدوانه ، ومخالفة أحكام الدين فى سلطانه ، وقد خوطب عثمان فى ذلك فاعتذر بأنّ عمر ولاّه قبله ، فلم يقبل المسلمون عذره ، ولا قنعوا منه إلاّ بعزله ، حتي أفضي الأمر إلي ما أفضي . وكان علىّ ¼ من أكثر المسلمين لذلك كراهية ، وأعرفهم بما فيه من الفساد فى الدين ، فلو أنّه ¼ افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام وإقراره فيه ، أ ليس كان يبتدئ فى أوّل أمره بما انتهي إليه عثمان فى آخره ، فأفضي إلي خلعه وقتله ؟ ! ولو كان ذلك فى حكم الشريعة سائغاً والوزر فيه مأموناً لكان غلطاً قبيحاً فى السياسة ، وسبباً قويّاً للعصيان والمخالفة ، ولم يكن يمكنه ¼ أن يقول للمسلمين : إنّ حقيقة رأيى عزل معاوية عند استقرار الأمر وطاعة الجمهور لى ، وإنّ قصدى بإقراره علي الولاية مخادعته وتعجيل طاعته ومبايعة الأجناد الذين قِبله ، ثمّ أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقّه من العزل ، وأعمل فيه بموجب العدل ; لأنّ إظهاره ¼ لهذا العزم كان يتّصل خبره بمعاوية ، فيفسد التدبير الذى شرع فيه ، وينتقض الرأى الذى عوّل عليه(١) . ٣ ـ إبقاء معاوية يتعارض مع المبانى السياسيّة للإمام قدّم ابن سنان ردّاً آخر علي الطعن بسياسته فى عزل معاوية ، وفيه إشارة إلي مبانيه السياسيّة فى الحكم(٢) ، ويسمّيه جواباً حقيقيّاً ويقول فيه : واعلم أنّ حقيقة الجواب هو أنّ عليّاً ¼ كان لا يري مخالفة الشرع لأجل السياسة ، سواء أ كانت تلك السياسة دينيّة أو دنيويّة ; أمّا الدنيويّة فنحو أن يتوهّم الإمام فى إنسان أنّه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقيناً ; فإنّ عليّاً ¼ لم يكن يستحلّ (١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٤٧ . ٣٤١ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / رفض سياسة المداهنة
قتله ولا حبسه ، ولا يعمل بالتوهّم وبالقول غير المحقّق . وأمّا الدينيّة فنحو ضرب المتّهم بالسرقة ; فإنّه أيضاً لم يكن يعمل به ، بل يقول : إن يثبت عليه بإقرار أو بيّنة أقمتُ عليه الحدّ ، وإلاّ لم أعترضه . وغير علىّ ¼ قد كان منهم من يري خلاف هذا الرأى ، ومذهب مالك بن أنس العمل علي المصالح المرسلة ، وأنّه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الاُمّة لإصلاح الثلثين ، ومذهب أكثر الناس أنّه يجوز العمل بالرأى وبغالب الظنّ ، وإذا كان مذهبه ¼ ما قُلناه ، وكان معاوية عنده فاسقاً ، وقد سبق عنده مقدّمة اُخري يقينيّة ، هى أنّ استعمال الفاسق لا يجوز ، ولم يكن ممّن يري تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة . فقد تعيّن مجاهرته بالعزل ، وإن أفضي ذلك إلي الحرب(١) . ٣ / ٢ ٢٣٦٧ ـ مروج الذهب عن ابن عبّاس : قدمت من مكّة بعد مقتل عثمان بخمس ليال ، فجئت عليّاً أدخل عليه ، فقيل لى : عنده المغيرة بن شعبة ، فجلست بالباب ساعة ، فخرج المغيرة ، فسلّم علىَّ ، وقال : متي قدمت ؟ قلت : الساعة ، ودخلت علي علىّ وسلّمت عليه . . . قلت : أخبرنى عن شأن المغيرة ، ولِمَ خلا بك ؟ قال : جاءنى بعد مقتل عثمان بيومين ، فقال : أخلنى ، ففعلت ، فقال : إنّ النصح رخيص ، وأنت بقيّة الناس ، وأنا لك ناصح ، وأنا اُشير عليك أن لا تردّ عمّال ٣٤٢ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / رفض سياسة المداهنة
عثمان عامك هذا ، فاكتب إليهم بإثباتهم علي أعمالهم ، فإذا بايعوا لك ، واطمأنّ أمرك ، عزلتَ من أحببت ، وأقررتَ من أحببت . فقلت له : والله ، لا اُداهن فى دينى ، ولا اُعطى الرياء فى أمرى . قال : فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت ، واترك معاوية ; فإنّ له جرأة وهو فى أهل الشام مسموع منه ، ولك حجّة فى إثباته ، فقد كان عمر ولاّه الشام كلّها . فقلت له : لا والله ، لا أستعمل معاوية يومين أبداً . فخرج من عندى علي ما أشار به ، ثمّ عاد ، فقال : إنّى أشرت عليك بما أشرت به وأبيت علىَّ ، فنظرت فى الأمر وإذا أنت مصيب لا ينبغى أن تأخذ أمرك بخدعة ، ولا يكون فيه دلسة . قال ابن عبّاس : فقلت له : أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك ، وأمّا الآخر فقد غشّك(١) . ٢٣٦٨ ـ مروج الذهب عن ابن عبّاس ـ لعلىّ ¼ ـ : أنا اُشير عليك أن تثبت معاوية ، فإن بايع لك فعلىَّ أن أقلعه من منزله . قال : لا والله لا اُعطيه إلاّ السيف ، ثمّ تمثّل :
فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنت رجل شجاع ، أ ما سمعت رسول الله ½ يقول : الحرب خدعة ؟ ! فقال علىّ : بلي . قلت : أما والله ، لئن أطعتنى لأصدرنّ بهم بعد ٣٤٣ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / الإمام يدعو معاوية إلي البيعة
ورود ، ولأتركنّهم ينظرون فى أدبار الاُمور ، ولا يدرون ما كان وجهها ، من غير نقص لك ، ولا إثم عليك . فقال لى : يابن عبّاس ، لست من هنياتك ولا هنيات معاوية فى شىء تشير به علىَّ برأى ، فإذا عصيتك فأطعنى . فقلت : أنا أفعل ، فإنّ أيسر ما لك عندى الطاعة ، والله ولىّ التوفيق(١) . ٣ / ٣ ٢٣٦٩ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كتاب له إلي معاوية لمّا بويع ¼ بالخلافة ـ : من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلي معاوية بن أبى سفيان : أمّا بعد ، فقد علمت إعذارى فيكم ، وإعراضى عنكم ، حتي كان ما لابدّ منه ولا دفع له ، والحديث طويل ، والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر ، وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك ، وأقبل إلىَّ فى وفد من أصحابك . والسلام(٢) . ٢٣٧٠ ـ شرح نهج البلاغة : لمّا بويع علىّ ¼ كتب إلي معاوية : أمّا بعد ، فإنّ الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّى ، وبايعونى عن مشورة منهم واجتماع ، فإذا أتاك كتابى فبايع لى ، وأوفد إلىَّ أشراف أهل الشام قبلك(٣) . (١) مروج الذهب : ٢ / ٣٦٤ ، تاريخ الطبرى : ٤ / ٤٤١ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٠٧ نحوه وراجع البداية والنهاية : ٧ / ٢٢٩ . إرجاعات
١١٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام علي / الفصل الثاني : الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان
٣٤٤ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / سياسة معاوية فى جواب الإمام
٣ / ٤ ٢٣٧١ ـ تاريخ الطبرى ـ فى ذكر كتاب الإمام إلي معاوية وأبى موسي ـ : وكان رسول أمير المؤمنين إلي معاوية سبرة الجهنى ، فقدم عليه فلم يكتب معاوية بشىء ، ولم يجِبه ، وردّ رسوله ، وجعل كلّما تنجّز جوابه لم يزِد علي قوله :
وجعل الجهنى كلّما تنجّز الكتاب لم يزِده علي هذه الأبيات ، حتي إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان فى صفر دعا معاوية برجل من بنى عبس ثمّ أحد بنى رواحة يدعي قبيصة ، فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه : من معاوية إلي علىّ ، فقال : إذا دخلت المدينة فاقبض علي أسفل الطومار ، ثمّ أوصاه بما يقول وسرّح رسول علىّ . وخرجا فقدما المدينة فى ربيع الأوّل لغرّته ، فلمّا دخلا المدينة رفع العبسى الطومار كما أمره ، وخرج الناس ينظرون إليه ، فتفرّقوا إلي منازلهم وقد علموا أنّ معاوية معترض ، ومضي يدخل علي علىّ ، فدفع إليه الطومار ففضّ خاتمه فلم يجد فى جوفه كتابة ، فقال للرسول : ما وراءك ؟ قال : آمن أنا ؟ قال : نعم إنّ الرسل أمنة لا تقتل . قال : ورائى إنّى تركت قوماً لا يرضون إلاّ بالقود . قال : ممن ؟ قال : من خيط نفسك ، وتركت ستين ألف شيخ يبكى تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق . فقال : منّى يطلبون دم عثمان ! أ لست ٣٤٥ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / تعيين الوالى للشام وإرجاعه
موتوراً كتِرة عثمان ؟ ! اللهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان(١) . ٣ / ٥ ٢٣٧٢ ـ تاريخ الطبرى : قال [علىّ ¼ ] لابن عبّاس : سِر إلي الشام فقد ولّيتُكَها . فقال ابن عبّاس : ما هذا برأى ; معاويةُ رجلٌ من بنى اُميّة ، وهو ابنُ عمّ عثمان وعامله علي الشام ، ولست آمن أن يضرب عُنُقى لعثمان ، أو أدْني ما هو صانعٌ أن يحبسنى فيتحكّم علىّ . فقال له علىّ : ولم ؟ قال : لقرابة ما بينى وبينك ، وإنّ كلّ ما حمِل عليك حمِل علىّ ، ولكن اكتب إلي معاوية فمنِّه وعِدهُ . فأبي عليّ وقال : والله لا كان هذا أبداً(٢) . ٢٣٧٣ ـ تاريخ الطبرى عن محمّد وطلحة : بعث علىّ عمّاله علي الأمصار فبعث . . . سهل بن حُنَيف علي الشام ، فأمَّا سهل فإنّه خرج حتي إذا كان بتَبوك(٣) لقيته خيلٌ ، فقالوا : من أنت ؟ قال : أمير . قالوا : علي أىّ شىء ؟ قال : علي الشام ، قالوا : إن كان عثمان بعثك فحيهلاً بك ، وإن كان بعثك غيرُه فارجع ! قال :أ وَما سمعتم بالذى كان ؟ قالوا : بلَي ; فرجع إلي علىّ (٤) . ٣ / ٦ إشخاص جرير بن عبد الله إلي معاوية ٢٣٧٤ ـ تاريخ الطبرى : وجّه علىّ عند منصرفه من البصرة إلي الكوفة وفراغه (١) تاريخ الطبرى : ٤ / ٤٤٣ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣١٠ . ٣٤٦ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / إشخاص جرير بن عبد الله إلي معاوية
من الجمل جرير بن عبد الله البجلى إلي معاوية يدعوه إلي بيعته ، وكان جرير حين خرج علىّ إلي البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملا عليها كان عثمان استعمله عليها ، وكان الأشعث بن قيس علي آذربيجان عاملا عليها كان عثمان استعمله عليها ، فلمّا قدم علىّ الكوفة منصرفاً إليها من البصرة كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له علي مَن قبلهما من الناس والانصراف إليه . ففعلا ذلك ، وانصرفا إليه . فلمّا أراد علىّ توجيه الرسول إلي معاوية ، قال جرير بن عبد الله : . . . ابعثنى إليه فإنّه لى ودّ حتي آتيه فأدعوه إلي الدخول فى طاعتك ، فقال الأشتر لعلىّ : لا تبعثه ، فو الله إنّى لأظنّ هواه معه . فقال علىّ : دعه حتي ننظر ما الذى يرجع به إلينا . فبعثه إليه وكتب معه كتاباً يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار علي بيعته ، ونكث طلحة والزبير وما كان من حربه إيّاهما ، ويدعوه إلي الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته ، فشخَص إليه جرير ، فلمّا قدم عليه ماطله واستنظره ، ودعا عمراً فاستشاره فيما كتب به إليه ، فأشار عليه أن يرسل إلي وجوه الشام ، ويلزم عليّاً دم عثمان ، ويقاتله بهم ، ففعل ذلك معاوية(١) . ٢٣٧٥ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كتاب له ¼ إلي معاوية ـ : بسم الله الرحمن الرحيم . أمّا بعد ، فإنّ بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ; لأنّه بايعنى القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علي ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشوري للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا علي رجل فسمّوه إماماً ، كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ٣٤٧ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / معاوية يبدّد الوقت استعداداً للحرب
ردّوه إلي ما خرج منه ، فإن أبي قاتلوه علي اتّباعه غيرَ سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّي ويُصليه جهنّم وساءت مصيراً . وإنّ طلحة والزبير بايعانى ، ثمّ نقضا بيعتى ، وكان نقضهما كردّهما ، فجاهدتهما علي ذلك حتي جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون . فادخل فيما دخل فيه المسلمون ; فإنّ أحبّ الاُمور إلىَّ فيك العافية ، إلاّ أن تتعرّض للبلاء ، فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت الله عليك . وقد أكثرتَ فى قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثمّ حاكم القوم إلىَّ أحملك وإيّاهم علي كتاب الله . فأمّا تلك التى تريدها فخدعة الصبى عن اللبن ، ولعمرى لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّى أبرأ قريش من دم عثمان . واعلم أنّك من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشوري ، وقد أرسلت إليك وإلي من قبلك : جرير بن عبد الله وهو من أهل الإيمان والهجرة ، فبايع ولا قوّة إلاّ بالله(١) . ٣ / ٧ معاوية يبدّد الوقت استعداداً للحرب ٢٣٧٦ ـ وقعة صفّين عن الجرجانى : كان معاوية أتي جريراً فى منزله فقال : يا جرير ! إنّى قد رأيت رأياً . ٣٤٨ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / أصحاب الإمام يُشيرون عليه بالاستعداد للحرب
قال : هاته . قال : أكتب إلي صاحبك يجعل لى الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة فى عنقى ، واُسلّم له هذا الأمر ، واكتب إليه بالخلافة . فقال جرير : اكتب بما أردت ، وأكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلي علىّ . فكتب علىّ إلي جرير : أما بعد ، فإنّما أراد معاوية ألاّ يكون لى فى عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحبّ ، وأراد أن يُريثك حتي يذوق أهل الشام . وإنّ المغيرة بن شعبة قد كان أشار علىَّ أن أستعمل معاوية علي الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه . ولم يكن الله ليرانى أتّخذ المضلّين عضداً ، فإن بايعك الرجل ، وإلاّ فأقبِل(١) . ٣ / ٨ أصحاب الإمام يُشيرون عليه بالاستعداد للحرب ٢٣٧٧ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كلام له وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير بن عبد الله البجلى إلي معاوية ـ : إنّ استعدادى لحرب أهل الشام وجريرٌ عندهم إغلاق للشام وصرف لأهله عن خير إن أرادوه . ولكن قد وَقّتُّ لجرير وقتاً لا يُقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو عاصياً . والرأى عندى مع الأناة ، فأروِدوا(٢) ولا أكره لكم الإعداد . ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعينه ، وقلّبت ظهره وبطنه ، فلم أرَ لى فيه إلاّ القتال أو الكفر بما جاء محمّد ½ . إنّه قد كان علي الاُمّة وال أحدث أحداثاً (١) وقعة صفّين : ٥٢ ; تاريخ دمشق : ٥٩ / ١٣١ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١١٥ و١١٦ كلاهما نحوه . ٣٤٩ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / استعداد الإمام لحرب معاوية قبل حرب الجمل
وأوجد الناس مقالاً ، فقالوا ثمّ نقموا فغيّروا(١) . ٢٣٧٨ ـ تاريخ دمشق عن الكلبى : كان علىّ استشار الناس ، فأشاروا عليه بالقيام بالكوفة غير الأشتر ، وعدىّ بن حاتم ، وشُرَيح بن هانئ الحارثى ، وهانئ بن عروة المرادى ، فإنّهم قالوا لعلىّ : إنّ الذين أشاروا عليك بالمقام بالكوفة إنّما خوّفوك حرب الشام ، وليس فى حربهم شىء أخوف من الموت ، وإيّاه نريد ، فدعا علىّ الأشتر وعديّاً وشُريحاً وهانئاً فقال : إنّ استعدادى لحرب الشام ، وجرير بن عبد الله عند القوم صرف لهم عن غىّ إن أرادوه ، ولكنّى قد أرسلتُ رسولاً ، فوقّت لرسولى وقتاً لا يقيم بعده ، والرأى مع الأناة فاتَّئدوا ولا أكره لكم الأعذار(٢) . ٣ / ٩ استعداد الإمام لحرب معاوية قبل حرب الجمل ٢٣٧٩ ـ تاريخ الطبرى عن محمّد وطلحة : استأذن طلحة والزبير عليّاً فى العمرة فأذن لهما فلحقا بمكّة وأحبّ أهل المدينة أن يعلموا ما رأي علىّ فى معاوية وانتقاضه ، ليعرفوا بذلك رأيه فى قتال أهل القبلة أ يجسر عليه أو ينكل عنه . . . . فدسّوا إليه زياد بن حنظلة التميمى ـ وكان منقطعاً إلي علىّ ـ فدخل عليه فجلس إليه ساعة ثمّ قال له علىّ : يا زياد تيسّر . فقال : لأىّ شىء ؟ فقال : تغزو الشام . (١) نهج البلاغة : الخطبة ٤٣ ، بحار الأنوار : ٣٢ / ٣٩٣ / ٣٦٤ . ٣٥٠ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / استعداد الإمام لحرب معاوية قبل حرب الجمل
فقال زياد : الأناة والرفق أمثل . فقال :
فتمثّل علىّ وكأنّه لا يريده :
فخرج زياد علي الناس والناس ينتظرونه فقالوا : ما وراءك ؟ فقال : السيف يا قوم ، فعرفوا ما هو فاعل . ودعا علىّ محمّد ابن الحنفيّة فدفع إليه اللواء ، وولّي عبد الله بن عبّاس ميمنته ، وعمر بن أبى سلمة ـ أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ـ ولاّه ميسرته ، ودعا أبا ليلي بن عمر بن الجرّاح ابن أخى أبى عبيدة بن الجرّاح فجعله علي مقدّمته ، واستخلف علي المدينة قثم بن عبّاس ، ولم يولّ ممّن خرج علي عثمان أحداً ، وكتب إلي قيس بن سعد أن يندب الناس إلي الشام ، وإلي عثمان بن حنيف والي أبى موسي مثل ذلك ، وأقبل علي التهيّؤ والتجهّز ، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلي النهوض فى قتال أهل الفرقة وقال : إنّ الله عزّ وجلّ بعث رسولاً هادياً مهدياً بكتاب ناطق وأمر قائم واضح لا يهلك عنه إلا هالك ، وإنّ المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلاّ من حفظ الله ، وإنّ فى سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملويّة ولا مستكره بها ، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثمّ لا ينقله إليكم أبداً حتي يأرز الأمر إليها ، انهضوا إلي هؤلاء القوم الذين يريدون يفرقون جماعتكم ، لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذى عليكم . فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكّة بنحو آخر وتمام علي خلاف ، فقام ٣٥١ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث : السياسة العلويّة / استعداد الإمام لحرب معاوية قبل حرب الجمل
فيهم بذلك فقال : إنّ الله عزّ وجلّ جعل لظالم هذه الأمة العفو والمغفرة ، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنجاة ، فمن لم يسعه الحقّ أخذ بالباطل ، ألا وإنّ طلحة والزبير واُمّ المؤمنين وقد تمالؤوا علي سخط إمارتى ، ودعوا الناس إلي الإصلاح ، وسأصبر ما لم أخف علي جماعتكم ، وأكفّ إن كفّوا ، وأقتصر علي ما بلغنى عنهم . ثمّ أتاه أنّهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح ، فتعبّي للخروج إليهم وقال : إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين ، وما كان عليهم فى المقام فينا مؤونة ولا إكراه ، فاشتدّ علي أهل المدينة الأمر فتثاقلوا(١) . |
||||||||||||