روي عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة، نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مِدْرَعَةٌ من صُوف وحمائلُ سيفه لِيفٌ، و في رجليه نعلان من لِيف، وكأنّ جبينه ثَفِنَةُ بعير. فقال(عليه السلام):
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الاَْمْرِ. نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ، وَنَوَامِي فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً، وَإِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً. وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ، وَاثِق بِدَفْعِهِ، مُعْتَرِف لَهُ بِالطَّوْلِ، مُذْعِن لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ. وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً، وَأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً، وَخَنَعَ (خضع) لَهُ مُذْعِناً، وَأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً، وَعَظَّمَهُ مُمَجِّداً، وَلاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً.
لَمْ يُولَدْ سُبْحانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً. وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلاَ زَمَانٌ، وَلَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ. فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَات بِلاَ عَمَد، قَائِمَات بِلاَ سَنَد. دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات، غَيْرَ مُتَلَكِّئَات وَلاَ مُبْطِئَات; وَلَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَلاَئكتِهِ، وَلاَ مَصْعَدَاً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ. جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الاَْقْطَارِ. لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَلاَ اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلاَْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ. فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَق دَاج، وَلاَ لَيْل سَاج، فِي بِقَاعِ الاَْرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ،
وَالْحَمْدُ لِلّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ. لاَ يُدْرَكُ بِوَهْم، وَلاَ يُقَدَّرُ بِفَهْم، وَلاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ. وَلاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ، وَلاَ يَنْظُرُ بِعَيْن، وَلاَ يُحَدُّ بِأَيْن، وَلاَ يُوصَفُ بِالاَْزْوَاجِ، وَلاَ يُخْلَقُ بِعِلاَج، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ. الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً; بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَات، وَ لاَ نُطْق وَ لاَ لَهَوَات. بَلْ اِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ، فَصِفْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ، مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَالاَْدَوَاتِ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ. فَلاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلاَم، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ; فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلا، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيَْمانُ بْنُ دَاوُودَ (عليه السلام)، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالاِْنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ. فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً!
أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ!
ــــــــــــــــــــــــــــأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ!
أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ، وَأَطْفَؤُوا سُنَنَ (سير) الْمَرْسَلِينَ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ، وَهَزَمُوا بِالاُْلُوفِ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ!
ومنها : قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا، وَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا; فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا. فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاِْسْلاَمُ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ، وَأَلْصَقَ الاَْرْضَ بِجِرَانِهِ، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ.
ثم قال(عليه السلام): أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الاَْنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الاَْوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا. لِلّهِ أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ؟ أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلا، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللهِ الاَْخْيَارُ، وَبَاعُوا قَلِيلا مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى بِكَثِير مِنَ الاْخِرَةِ لاَ يَفْنَى.
مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وَهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ! قَدْ ـ وَاللهِ ـ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الاَْ مْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ. أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ!
قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء، ثم قال(عليه السلام):
أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ.
ثم نادى بأعلى صوته :
الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمِي هذَا; فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ!
قال نوفٌ: وعقد للحسين(عليه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله، فتراجعت العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كل مكان!
الْحَمْدُ لِلّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَة. خَلَقَ الْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَاسْتَعْبَدَ الاَْرْبَابَ بِعِزَّتِهِ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ; وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الاِْنْسِ رُسُلَهُ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا، وَلِيُحَذِّرُ وهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا، وَ لِيُبَصِّرُ وهُمْ عُيُوبَهَا، وَلِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَر مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَأَسْقَامِهَا، وَحَلاَلِهَا وَحَرَامِهَا، وَمَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة وَنَار، وَكَرَامَة وَهَوَان. أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً، وَلِكُلِّ قَدْر أَجَلا، وَلِكُلِّ أَجَل كِتَاباً.
منها : فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ. حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ. أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ، وَارْتَهَنَ
وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ، وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ. إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ; قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلاَ يُثْبِتُونَ بِاطِلا. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ ( مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(1) مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنْزِ لْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِي دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ; ظِلُّهَا عَرْشُهُ، وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ; فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وَسَابِقُوا الاْجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الاَْمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الاَْجَلُ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ. فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيل، عَلَى سَفَر مِنْ دَار لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِْرْتِحَالِ، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا. أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَار، ضَجِيعَ حَجَر، وَقَرِينَ شَيْطَان! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ
ــــــــــــــــــــــــــــفَاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ. فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا. أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ، وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ، وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحانَهُ : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )(1) وَقَالَ تَعَالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ). فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ. اسْتَنْصَرَكُمْ وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».(2) وَاسْتَقْرَضَكُمْ : (وَلَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ : (يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا). فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ. رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وَأَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ، وَأَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَار أَبَداً، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً: (ذلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).(3) أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَ اللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ، وَ هُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ!.
قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: «لا حكم إلا لله»، وكان من الخوارج:
ــــــــــــــــــــــــــــاسْكُتْ قَبَحَكَ اللهُ يَا أَثْرَمُ، فَوَاللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلا شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ; حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ.
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لاَ تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ، وَلاَ تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ، وَلاَ تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ (أشباههم) عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ.
الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ، وَارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، وَقَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ، وَعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ. مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الاَْشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ، وَبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ. وَاحِدٌ لاَ بِعَدَد، وَدَائِمٌ لاَ بِأَمَد، وَقَائِمٌ لاَ بِعَمَد. تَتَلَقَّاهُ الاَْذْهَانُ لاَ بِمُشَاعَرَة، وَتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لاَ بِمُحَاضَرَة. لَمْ تُحِطْ بِهِ الاَْوْهَامُ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا، وَبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا حَاكَمَهَا. لَيْسَ بِذِي كِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النَّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً، وَلاَ بِذِي عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً; بَلْ كَبُرَ شَأْناً، وَعَظُمَ سُلْطَاناً.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّد اًعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّفِيُّ (المصطفى)، وَأَمِينُهُ الرَّضِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ، وَظُهُورِ الْفَلَجِ، وَإِيضَاحِ الْمَنْهَجِ; فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا، وَحَمَلَ عَلَى الَْمحَجَّةِ دَالاًّ عَلَيْهَا، وَأَقَامَ أَعْلاَمَ الاِْهْتِدَاءِ وَمَنَارَ الضِّيَاءِ، وَجَعَلَ أَمْرَاسَ الاِْسْلاَمِ مَتِينَةً، وَعُرَا الاِْيمَانِ وَثِيقَةً.
وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجِسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ! أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ! انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ (النّظر)، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وَصُبَّتْ (ضنّت) عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا. تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا. مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا; لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ. وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ (النّحلة)، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء، وَغَامِضِ اخْتِلاِفِ كُلِّ حَيٍّ (شىء). وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ، وَالثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ، وَكَذلِكَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ. فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ. وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، وَالاَْلْسُنِ الُْمخْتَلِفَاتِ. فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ، وَجَحَدَ الْمُدَبِّرَ!
زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ; وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى حُجَّة فِيما ادَّعَوْا، وَلاَ تَحْقِيق لِمَا أَوْعَوْا. وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَان؟!
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ، وَ
حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا. وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً.
فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي (يَسْجُدْ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً، وَيُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَضَعْفاً، وَيُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً! فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ; أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَالنَّفَسَ، وَأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَالْيَبَسِ; وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا، وَأَحْصَى أَجْنَاسَهَا.
فَهذَا غُرَابٌ وَهذَا عُقَابٌ. وَهذَا حَمَامٌ وَهذَا نَعَامٌ. دَعَا كُلَّ طَائِر بِاسْمِهِ، وَكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ. وَأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا. فَبَلَّ الاَْرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا.
في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ، وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ. كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِم فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ. فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَة. لاَ تَصْحَبُهُ الاَْوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ الاَْدَوَاتُ; سَبَقَ الاَْوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وَجُودُهُ، وَالاِْبْتِدَاءَ أَزَلُهُ. بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاَْشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ (الجرور) بِالصَّرَدِ. مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُقَارِنٌ (مقارب) بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ
الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الاُْفُولُ.
لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ (فيصير) مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً. جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الاَْبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ. لاَ تَنَالُهُ الاَْوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ، وَلاَ تَلْمِسُهُ الاَْيْدِي فَتَمَسَّهُ. وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَال، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الاَْحْوَالِ. وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامُ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالضَّلاَمُ. وَلاَ يُوصَفُ بِشَيْء مِنَ الاَْجْزَاءِ، وَلاَ بِالْجَوَارِحِ وَالاَْعْضَاءِ، وَلاَ بِعَرَض مِنَ الاَْعْرَاضِ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاَْبْعَاضِ. وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ، وَ لاَ انْقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ; وَلاَ أَنَّ الاَْشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ.
لَيْسَ فِي الاَْشْيَاءِ بِوَالِج، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج. يُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهَوَات، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُرُوق وَأَدَوَات. يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ، وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ، وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ. يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّة، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة. يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكُونُ)، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ، وَلاَ بِنِدَاء يُسْمَعُ; وِإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ.
لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً. لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الُْمحْدَثَاتُ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَالْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ. خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ. وَأَنْشَأَ الاَْرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الاَْوَدِ وَالاِْعْوِجَاجِ، وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَالاِْنْفِرَاجِ. أَرْسَى أَوْتَادَهَا، وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا، وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا، وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا; فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ. هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْء مِنْهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ. لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَال فَيَرْزُقَهُ. خَضَعَتِ الاَْشْيَاءُ لَهُ، وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ، لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ، وَلاَكُفْءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ. هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا.
وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا. وَكَيْفَ وَلَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَسَائِمِهَا، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا، عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَة، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجادِهَا، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتَاهَتْ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا! وَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ. كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلاَ مَكَان، وَلاَ حِين وَلاَ زَمَان. عُدِمَتْ عِنْدَ ذلِكَ الاْجَالُ وَالاَْوْقَاتُ، وَزَالَتِ السِّنُونَ وَالسَّاعَاتُ. فَلاَ شَيْءَ إِلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ
لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَان، وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان، وَلاَ لِلاِْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِر، وَلاَ لِلاِْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر، وَلاَ لِلاِْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ، وَلاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ، وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا. ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لاَ لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَلاَ لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شِيْء مِنْهَا عَلَيْهِ. لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بِقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، وَلكِنَّهُ سُبْحانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ. ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلاَ اسْتِعَانَة بِشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا، وَلاَ لاِنْصِرَاف مِنْ حَالِ وَحْشَة إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاس، وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْل وَعَمًى إِلَى حَالِ عِلْم وَالِْتمَاس، وَلاَ مِنْ فَقْر وَحَاجَة إِلَى غِنًى وَكَثْرَة، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة إِلَى عِزٍّ وَقُدْرَة.
عقائدية ، سياسية ، تاريخية ، اخلاقية ، اجتماعية
(وهي في ذكر الملاحم)أَلاَ بِأَبِي وَأُمِّي، هُمْ مِنْ عِدَّة أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَفِي الاَْرْضِ مَجْهُولَةٌ. أَلاَ فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ، وَانْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ، وَاسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ. ذاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ. ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي.
ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَاب، بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَالنَّعِيمِ، وَتَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَار، وَتَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاج (إحواج). ذاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلاَءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ، غَارِبَ الْبَعِيرِ. مَا أَطْوَلَ هذَا الْعَنَاءَ، وَأَبْعَدَ هذَا الرَّجَاءَ!
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلْقُوا هذِهِ الاَْزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الاَْثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ، وَلاَ تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّواغِبَّ فِعَالِكُمْ. وَلاَ تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِنَارِ الْفِتْنَةِ، وَأَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا، وَخَلُّوا قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا: فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ، وَيَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ. إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ، يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا. فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا، وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا (تفقهوا).
أُوصِيكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، بِتَقْوَى اللهِ وَكَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلاَئِهِ إِلَيْكُمْ، وَنَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ، وَبَلاَئِهِ لَدَيْكُمْ.
فَكَمْ خَصَّكُمْ (خصمكم) بِنِعْمَة، وَتَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَة! أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ، وَتَعَرَّضْتُمْ لاَِخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ!
وَأُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَإِقْلاَلِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ. وَكَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ، وَطَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ! فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ، حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبِينَ، وَاُنْزِلُوا فِيها غَيْرَ نَازِلِينَ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً، وَكَأَنَّ الاْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً. أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ، وَأَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا، وَأَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا. لاَ عَنْ قَبِيح يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالا، وَلاَ فِي حَسَن يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً. أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ، وَوَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ.
فَسَابِقُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا، وَالَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا، وَدُعِيتُمْ إِلَيْهَا.
وَاسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالُْمجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ (الايّام) قَرِيبٌ. مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَ أَسْرَعَ الاَْيَّامَ فِي الشَّهْرِ، وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ (السّنة) فِي الْعُمُرِ!
فَمِنَ الاِْيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ،(إِلَى أَجَل مَعْلُوم).(1) فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَد فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ.
وَالْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الاَْوَّلِ. مَا كَانَ لِلّهِ فِي أَهْلِ الاَْرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الاِْمَّةِ وَمُعْلِنِهَا.
لاَ يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَد (الاّ) بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الاَْرْضِ. فَمَنْ عَرَفَهَا وَأَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ.
وَلاَ يَقَعُ اسْمُ الاِْسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَوَعَاهَا قَلْبُهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــإِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لاَ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ للاِْيمَانِ، وَلاَ يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ، وَأَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ.
أَيُّهَا النَّاسُ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَلاََنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الاَْرْضِ، قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا، وَتَذْهَبُ بِأَحْلاَمِ قَوْمِهَا.
أَحْمَدُهُ شُكْراً لاِِنْعَامِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ، عَزِيزَ الْجُنْدِ، عَظِيمَ الَْمجْدِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ، وَقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ، لاَ يَثْنِيهِ عَنْ ذلِكَ اجْتَِماعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَالِْتمَاسٌ لاِِطْفَاءِ نُورِهِ.
فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّ لَهَا حَبْلا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ. وَبَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ، وَامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ: فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ; وَكَفَى بِذلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ، وَمُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ! وَقَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الاَْرْمَاسِ، وَشِدَّةِ الاِْبْلاَسِ، وَهَوْلِ الْمُطَّلَعِ، وَرَوْعَاتِ الْفَزَعِ، وَاخْتِلاَفِ الاَْضْلاَعِ، وَاسْتِكَاكِ الاَْسْمَاعِ، وَظُلْمَةِ اللَّحْدِ، وَخِيفَةِ الْوَعْدِ، وَغَمِّ الضَّرِيحِ، وَرَدْمِ الصَّفِيحِ. فَاللهَ اللهَ عِبَادَ اللهِ! فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَن، وَأَنْتُمْ وَالسَّاعَةُ فِي قَرَن، وَكَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا، وَأَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا، وَوَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا (سراطها). وَكَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلاَزِلِهَا،
فِي مَوْقِف ضَنْكِ الْمَقَامِ، وَأُمُور مُشْتَبِهَة عِظَام، وَنَار شَدِيد كَلَبُهَا، عَال لَجَبُهَا، سَاطِع لَهَبُهَا، مُتَغَيِّظ زَفِيرُهَا، مُتَأَجِّج سَعِيرُهَا، بَعِيد خُمُودُهَا، ذَاك وُقُودُهَا، مَخُوف وَعِيدُهَا، عَم قَرَارُهَا، مُظْلِمَة أَقْطَارُهَا، حَامِيَة قُدُورُهَا، فَظِيعَة أُمُورُهَا.
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).(1) قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ، وَانْقَطَعَ الْعِتَابُ; وَزُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ، وَرَضُوا الْمَثْوَى وَالْقَرَارَ. الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً، وَأَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً، وَكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً، تَخَشُّعاً وَاسْتِغْفَاراً; وَكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلا، تَوَحُّشاً وَانْقِطَاعاً فَجَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً، وَالْجَزَاءَ ثَوَاباً، (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا)(2) فِي مُلك دَائِم، وَنَعِيم قَائِم. فَارْعَوْا عِبَادَ اللهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ، وَبِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ. وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ; فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ، وَمَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ. وَكَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الَْمخُوفُ، فَلاَ رَجْعَةً تَنَالُونَ، وَ لاَ عَثْرَةً تُقَالُونَ. اسْتَعْمَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَعَفَا عَنَّا وَعَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
الْزَمُوا الاَْرْضَ، وَاصْبِرُوا عَلَى الْبَلاَءِ. وَلاَ تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ، وَلاَ تَسْتَعْجِلُوا بِمَالَمْ يُعَجِّلْهُ اللهُ لَكُمْ. فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً، وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَاسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلاَتِهِ لِسَيْفِهِ; فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْء مُدَّةً وَأَجَلا.
ــــــــــــــــــــــــــــالْحَمْدُ للهِ الْفَاشِي فِي الْخَلْقِ حَمْدُهُ، وَالْغَالِبِ جُنْدُهُ، وَالْمُتَعَالِي جَدُّهُ. أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ، وَآلاَئِهِ الْعِظَامِ. الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا، وَعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى، وَعَلِمَ مَا يَمْضِي وَمَا مَضَى، مُبْتَدِعِ (مبتدى) الْخَلاَئِقِ بِعِلْمِهِ، وَمُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ، بِلاَ اقْتِدَاء وَلاَ تَعْلِيم، وَلاَ احْتِذَاء لِمِثَالِ صَانِع حَكِيم، وَلاَ إِصَابَةِ خَطَأ، وَلاَ حَضْرَةِ مَلاَ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَة، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَة. قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ، وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ.
عِبَادَ اللهِ! أُوصِيكُمْ بَتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَالْمُوجِبَةُ عَلَى اللهِ حَقَّكُمْ، وَأَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللهِ، وَتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللهِ: فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَالْجُنَّةُ، وَفِي غَد الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ. مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ، وَسَالِكُهَا رَابِحٌ، وَمُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ. لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الاُْمَمِ الْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَالْغَابِرِينَ، لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً. إِذَا أَعَادَاللهُ مَا أَبْدَى،وَأَخَذَ مَاأَعْطَى، وَسَأَلَ عَمَّا أَسْدَى، فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا، وَحَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا! أَولئِكَ الاَْقَلُّونَ عَدَداً، وَهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللهِ سُبْحانَهُ إِذْ يَقُولُ: ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).(1) فَأَهْطِعُوا (فانقطعوا) بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا، وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا، وَاعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَف خَلَفاً، وَمِنْ كُلِّ مُخَالِف مُوَافِقاً. أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ، وَاقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ، وَأَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ. وَارْحَضوا بِها ذُنُوبَكُمْ وَدَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ وَبَادِرُوا بِها الْحِمَامَ وَاعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا، وَلاَ يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا أَلاَ فَصُونُوهَا وَتَصَوَّنُوا بِهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــوَكُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً، وَإِلَى الاْخِرَةِ وُلاَّهاً. وَلاَ تَضَعُوا (تقعوا) مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى، وَلاَ تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا. وَلاَ تَشِيمُوا بَارِقَهَا، وَلاَ تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا، وَلاَ تُجِيبُوا نَاعِقَهَا، وَلاَ تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا، وَلاَ تُفْتَنُوا بِأَعْلاَقِهَا (اغلاقها). فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ، وَنُطْقَهَا كَاذِبٌ، وَأَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ، وَأَعْلاَقَهَا مَسْلُوبَةٌ. أَلاَ وَهِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ، وَالْجَامِحَةُ الْحَرُونُ، وَالْمَائِنَةُ الْخَؤُونُ، وَالْجَحُودُ الْكَنُودُ، وَالْعَنُودُ الصَّدُودُ، وَالْحَيُودُ الْمَيُودُ. حَالُهَا انْتِقَالٌ، وَوَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ، وَعِزُّهَا ذُلٌّ، وَجِدُّهَا هَزْلٌ، وَعُلْوُهَا سُفْلٌ. دَارُ حَرَب وَسَلَب، وَنْهَب وَعَطَب. أَهْلُهَا عَلَى سَاق وَسِيَاق، وَلَحَاق وَفِرَاق قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا، وَأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا، وَخَابَتْ (خانت) مَطَالِبُهَا; فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ، وَلَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ، وَأَعْيَتْهُمُ الَْمحَاوِلُ.
فَمِنْ نَاج مَعْقُور، وَلَحْم مَجْزُور، وَشِلْو (شلق) مَذْبُوح، وَدَم مَسْفُوح، وَعَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ، وَصَافِق بِكَفَّيْهِ، وَمُرْتَفِق بِخَدَّيْهِ، وَزَار عَلَى رَأْيِهِ، وَرَاجِع عَنْ عَزْمِهِ; وَقَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ، وَأَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ، (وَلاَتَ حِينَ مَنَاص).(1) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ، وَذَهَبَ مَا ذَهَبَ، وَمَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا، (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــعقائدية ، تاريخية ، سياسية ، اخلاقية ، علمية
(تسمى القاصعة)الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّوَ الْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمًى وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ، وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لَِيمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ).(1) اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ.
وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لاَِصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنَازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ. أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الاْخِرَةِ سَعِيراً؟!
وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور يَخْطَفُ الاَْبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ، وَطِيب يَأْخُذُ الاَْنْفَاسَ عَرْفُهُ، لَفَعَلَ. وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الاَْعْنَاقُ خَاضِعَةً (خاشعة)، وَلَخَفَّتِ (لحقّت) الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ. وَلكِنَّ اللهُ سُبْحانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالاِْخْتِبَارِلَهُمْ، وَنَفْياً لِلاِْسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُمْ. فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ،
ــــــــــــــــــــــــــــكَلاَّ مَا كَانَ اللهُ سُبْحانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً. إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الاَْرْضِ لَوَاحِدٌ. وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ.
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللهِ عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنَدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ. فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بَالنَّزْعِ الشَّدِيدِ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَان قَرِيب، فَقَالَ: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)،(2) قَذْفاً بِغَيْب بَعِيد، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيب، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ. حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ، فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الاَْمْرِ الْجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ (ولجاب) الذُّلِّ، وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وَأَوْطَؤُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ، وَسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ. فَاَصْبَحَ أَعْظَمَ فِى دِيْنِكُمْ حَرْجاً وَأَوْرَى فِى دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ.
فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ، وَلَهُ جَدَّكُمْ، فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَوَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَان، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَان. لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَة، وَلاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَة، فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ، وَحَلْقَةِ ضِيق، وَعَرْصَةِ مَوْت، وَجَوْلَةِ بَلاَء. فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ
ــــــــــــــــــــــــــــأَلاَ وَقَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ، وَأَفْسَدْتُمْ فِي الاَْرْضِ، مُصَارَحَةً لِلّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ، وَمُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالُْمحَارَبَةِ. فَاللهَ اللهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ، وَمَنَافِخُ الشَّيْطَانِ، الَّتِي خَدَعَ بِهَا الاُْمَمَ الْمَاضِيَةَ، وَالْقُرُونَ الْخَالِيَةَ. حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، وَمَهَاوِي ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلا عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُساً فِي قِيَادِهِ. أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.
أَلاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ! الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقُوا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لاِلاَئِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً، وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً. وَلاَ تُطِيعُوا الاَْدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَل، وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَدُخُولا فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً (نثّاً) فِي أَسْمَاعِكُمْ.
فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ، وَمَوْطِئَ قَدَمِهِ، وَمَأْخَذَ يَدِهِ.
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الاُْمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ. فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لاَِحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ; وَلكِنَّهُ سُبْحانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالاَْرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا قوْماً مُسْتَضْعَفِينَ. قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللهُ بِالَْمخْمَصَةِ، وَابْتَلاَهُمْ بِالَْمجْهَدَةِ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالَْمخَاوِفِ، وَمَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ. فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَالسُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالاِْخْتِبَارِ (اختيار) فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَالاِْقْتِدَارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحانَهُ وَتَعَالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَال وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ؟ بَلْ لاَيَشْعُرُونَ).(1)
فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ. وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ(عليهما السلام)عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ ـ إِنْ أَسْلَمَ ـ بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَدَوَامَ عِزِّهِ (سلطانه); فَقَالَ: «أَلاَ تَعْجَبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَبَقَاءَ الْمُلْكِ; وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَب؟.»
إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ! وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحانَهُ لاَِنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الاَْرَضِينَ لَفَعَلَ. وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الاَْنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الُْمحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ الاَْسْمَاءُ مَعَانِيهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــوَلكِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّة فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيَما تَرَى الاَْعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَة تَمْلاَُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنًى، وَخَصَاصَة تَمْلاَُ الاَْبْصَارَ وَالاَْسْمَاعَ أَذًى. وَلَوْ كَانَتِ الاَْنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّة لاَ تُرَامُ، وَعِزَّة لاَ تُضَامُ، وَمُلْك تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الاِْعْتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الاِْسْتِكْبَارِ (الاستكثار)، وَلاَمَنُوا عَنْ رَهْبَة قَاهِرَة لَهُمْ، أَوْ رَغْبَة مَائِلَة بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً. وَلكِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاِْتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالاِْسْتِكَانَةُ لاَِمْرِهِ، وَالاِْسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لاَ تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ. وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَالاِْخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَزَاءُ أَجْزَلَ.
أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ، اخْتَبَرَ الاَْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ (عليه السلام) ، إِلَى الاْخِرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ; بِأَحْجَار لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً.
ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الاَْرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الاَْوْدِيَةِ قُطْراً.
بَيْنَ جِبَال خَشِنَة، وَرِمَال دَمِثَة، وَعُيُون وَشِلَة، وَقُرىً مُنْقَطِعَة; لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ، وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ. ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ(عليه السلام)وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ (اغطافهم) نَحْوَهُ. فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ. تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الاَْفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَار سَحِيقَة وَمَهَاوِي فِجَاج عَمِيقَة، وَجَزَائِرِ بِحَار مُنْقَطِعَة، حَتَّى يَهُزُّ وامَنَاكِبَهُمْ ذُلُلا يُهَلِّلُونَ (يهلّون) لِلّهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ. قَدْنَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ. وَلَوْ أَرَادَ سُبْحانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّات وَأَنْهَار، وَسَهْل وَقَرَار، جَمَّ الاَْشْجَارِ دَانِيَ الِّثمَارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّة سَمْرَاءَ، وَرَوْضَة خَضْرَاءَ، وَأَرْيَاف مُحْدِقَة، وَعِرَاص مُغْدِقَة، وَرِيَاض نَاضِرَة، وَطُرُق عَامِرَة، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. وَلَوْ كَانَ الاِْسَاسُ
فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتَهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ.
وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الاَْيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تَسْكِيناً لاَِطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لاَِبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلا لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً (تخضيعاً) لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، وَلِمَا فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالاَْرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلا; مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الاَْرْضِ وَغَيْرِ ذلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ. انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الاَْفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وَقَدْعِ (قطع) طَوَالِعِ الْكِبْرِ!
وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْء مِنَ الاَْشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّة تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّة تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ ; فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لاَِمْر مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ
« أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ ». وَأَمَّا الاَْغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الاُْمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لاِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَـ ( قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).(1) فَإِنْ كَانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الاَْفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الاُْمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الُْمجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيِبِ الْقَبَائِلِ; بِالاَْخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَالاَْحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالاَْخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَالاْثَارِ الَْمحْمُودَةِ. فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالاَْخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالاِْعْظَامِ لِلْقَتْلِ، وَالاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الاَْرْضِ.
وَاحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالاُْمُمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ بِسُوءِ الاَْفْعَالِ، وَذَمِيمِ الاَْعْمَالِ. فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ. فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْر لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ (حالهم)، وَزَاحَتِ الاَْعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الاِْجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلاُْلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا. وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْر كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ; مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وَتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الاَْيْدِي. وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ الَّتمْحِيصِ وَالْبَلاَءِ. أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالا. اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع، وَلاَ سَبِيلا إِلَى دِفَاع. حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ سُبْحانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الاَْذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَالاِْحْتَِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً،
ــــــــــــــــــــــــــــفَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولا ، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ: كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا. فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ (فاكهين).
قَدْ تَرَبَّعَتِ الاُْمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِب، وَتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت. فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الاَْرَضِينَ. يَمْلِكُونَ الاُْمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الاَْحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلاَ
أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ، بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الاُْمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُْلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الَْمخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لاَِنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ أَحْزَاباً، مَا تَتَعَلُّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الاِْيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ. تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الاِْسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وَأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ. وَإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ.
ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلاَ مِيكَائِيلُ وَلاَ مُهَاجِرُونَ وَلاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ. وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الاَْمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَقَوارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلا بِأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ (بسطه)، وَيَأْساً مِنْ بَأْسِهِ. فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَلَعَنَ اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَالْحُلَمَاءَ (الحكماء) لِتَرْكِ التَّنَاهِي! أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاِْسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.
أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالنَّكْثِ وَالْفَسَادِ فِي الاَْرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَة سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَرَجَّةُ صَدْرِهِ، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لاَُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلاَدِ (الارض) تَشَذُّراً (تشذّذاً)!
أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلاَكِلِ (كَلْكَلِ) الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ. وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ (وليدٌ) يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ.
وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَلِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْل. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْم مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً، وَيَأْمُرُنِي بِالاِْقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ (حرّاء) فَأَرَاهُ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي. وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ (رَنَة) الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ. إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، وَلكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر».
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)لَمَّا أَتَاهُ الْمَلاَُ مِنْ قُرَيْش، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ(صلى الله عليه وآله وسلم): «وَمَا تَسْأَلُونَ؟» قَالُوا : تَدْعُو لَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذلِكَ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَإِنِّي لاََعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَى خَيْر، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاَْحْزَابَ». ثُمَّ قَالَ(صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ; حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الاَْعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)وبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلى مَنْكِبى وَكُنْتُ عَنْ يَمَينِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ، قَالُوا ـ عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً ـ : فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا. فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَال وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم). فَقَالُوا ـ كُفْراً وَ عُتُوّاً ـ :
فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم)فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ; إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ، وَإِجْلاَلا لِكَلِمَتِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصِدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هذَا! (يَعْنُونَنِي)
وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الاَْبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَمَنَارُ النَّهَارِ. مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ; يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ; لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ، وَلاَ يَغُلُّونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ. قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ!
اخلاقية ، اجتماعية
(يصف فيها المتقين)روي أن صاحباً لأمير المؤمنين(عليه السلام) يقال له همام كان رجلا عابداً، فقال له: يا أمير المؤمنين، صف لى المتقين كأنّي أنظر اليهم.
فتثاقل(عليه السلام) عن جوابه ثم قال: يا همام، اتق الله و أحسن فَـ: «انّ الله مع الذين اتقوا و الذين هم مُحسِنون». فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد الله و أثنى عليه، وصلى على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لاَِنَّهُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ. فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ. فَالْمُتَّقُونَ فِيهَاهُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ: مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاِْقْتِصَادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ. غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ. نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ. وَلَوْلاَ الاَْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ. صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً. تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلا. يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوابِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ. قَدْ بَرأَهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض; وَيَقُولُ: لَقَدْ خُولِطُوا! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌعَظِيمٌ! لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ. فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً فِي غِنًى، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجَمُّلا فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشَاطاً فِي هُدًى، وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَع. يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل. يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ. يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً; حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلا زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلا أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلا خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِي الزَّلاَزِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ. لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ. يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لاَ يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزِ بِالاَْلْقَابِ، وَلاَ يُضَارُّ بِالْجَارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ
قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها.
فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أَهكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا ؟ فقال له قائل: فما بالك يا أميرالمؤمنين؟ فقال(عليه السلام): وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَل وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ، وَ سَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ. فَمَهْلا، لاَ تَعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!
سياسية ، اخلاقية
(يصف فيها المنافقين)نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَنَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وَبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَة، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّة. وَقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الاَْدْنَوْنَ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الاَْقْصَوْنَ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا، مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ، وَأَسْحَقِ الْمَزَارِ.
أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْواناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً. وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد وَيَرْصُدُونَكُمْ (يسدّونكم) بِكُلِّ مِرْصَاد قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ. يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَّاءَ. وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ،
لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ، وَإِلَى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْو دُمُوعٌ. يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ: إِنْ سَأَلُو (ساقوا) أَلْحَفُوا، وَإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا. قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلا، وَلِكُلِّ قَائِم مَائِلا، وَلِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلا، وَلِكُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْل مِصْبَاحاً. يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنْفِقُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ. يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ. قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ (الدّين)، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ، فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ، وَحُمَةُ النِّيرَانِ: (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).(1)
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَجَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ، وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةَ إِيمَان وَإِيقَان، وَإِخْلاَص وَإِذْعَان. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ وَأَعْلاَمُ الْهُدَى دَارِسَةٌ، وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ، فَصَدَعَ بِالْحَقِّ; وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ، وَهَدَى إِلَى الرُّشْدِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وَاعْلَمُوا، عِبَادَ اللهِ، أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَلَمْ يُرْسِلْكُمْ (يترككم) هَمَلا، عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، وَأَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ، فَاسْتَفْتِحُوهُ، وَاسْتَنْجِحُوهُ، وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَمْنِحُوهُ (واستميحوه)، فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ، وَلاَ أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ. وَإِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَان، وَفِي كُلِّ حِين وَأَوَان، وَمَعَ كُلِّ إِنْس
ــــــــــــــــــــــــــــقَرُبَ فَنَأَى، وَعَلاَ فَدَنَا، وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، وَدَانَ وَلَمْ يُدَنْ. لَمْ يَذْرَإِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَال، وَلاَ اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلاَل.
أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَالْقِوَامُ، فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا، وَاعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا، تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ وَأَوْطَانِ السَّعَةِ، وَمَعَاقِلِ (مناقل) الْحِرْزِ وَمَنَازِلِ (منال) الْعِزِّ «يَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الاَْبْصَارُ» وَتُظْلِمُ لَهُ الاَْقْطَارُ، وَتُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ. وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَة، وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَة، وَتَذِلُّ (تدكّ) الشُّمُّ الشَّوَامِخُ، وَالصُّمُّ الرَّوَاسِخُ، فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً، وَمَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً، فَلاَ شِفِيعٌ يَشْفَعُ، وَلاَ حَمِيمٌ يَنْفَعُ، وَلاَ مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ.
بَعَثَهُ حِينَ لاَ عَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ. أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوص، وَمَحَلَّةُ تَنْغِيص، سِاكِنُهَا ظَاعِنٌ، وَقَاطِنُهَا بَائِنٌ، تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ، وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الاَْمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَك، وَمَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَك! عِبَادَ اللهِ، الاْنَ فَاعْلَمُوا، وَالاَْلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالاَْبْدَانُ صَحِيحَةٌ، وَالاَْعْضَاءُ لَدْنَةٌ، وَالْمُنْقَلَبُ (المتقلّب)
وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللهِ وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ. وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الاَْبْطَالُ، وَتَتَأَخَّرُ فِيهَا الاَْقْدَامُ، نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا.
وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم)وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)وَالْمَلاَئِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ وَالاَْفْنِيَةُ: مَلاٌَ يَهْبِطُ، وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ، وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ. فَوَالَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ!