سياسي
(و ذلك حين منعه سعيد بن العاص حقه)إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُراثَ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)تَفْوِيقاً، وَاللهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لاََنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ!
ويروى «التراب الوَذَمَة»، وهو على القلب. و قوله(عليه السلام) «لَيُفَوِّقُونَني» أي: يعطونني من المال قليلا كفُواق الناقة، وهو الحلبة الواحدة من لبنها. والوِذامُ: جمع وَذَمة، وهي الحُزّة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض.
عقائدية ، معنوية
(وَمِنْ كَلِمات كان(عليه السلام)، يدعو بها)
اللَّهُمَّ اغْفِر لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي، وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْلِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي، ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الاَْلْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الاَْلْفَاظِ، وَشَهَوَاتِ الْجَنَانِ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ.
عقائدي ، علمي
قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، وقد قال له: إن سرت يا أميرالمؤمنين، في هذا
الوقت، خشيت ألا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم فقال(عليه السلام)
أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟ وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنى عَنِ الاِْسْتِعَانَةِ بِاللهِ فِي نَيْلِ الَْمحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ. وَتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ، لاَِنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ، وَأَمِنَ الضُّرَّ ! !
أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَتَعَلُّمَ النُّجُومِ، إِلاَّ مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْر، فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ، وَالْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَالْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ كَالْكافِرِ! وَالْكافِرُ فِي النَّارِ! سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ.
علمي ، اخلاقي
(بعد فراغه من حرب الجمل)مَعَاشِرَ النّاسِ، إِنَّ النِّساءَ نَواقِصُ الاِْيمانِ، نَواقِصُ الْحُظُوظِ، نَواقِصُ الْعُقُولِ، فَاَمّا نُقْصانُ اِيمانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلوةِ وَالصِّيامِ فِي اَيّامِ حَيْضِهِنَّ، وَاَمّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوارِيثُهُنَّ عَلى الاَْنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ.
فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ، وَكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَر، وَلاَ تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ.
اخلاقي
أَيُّهَا النَّاسُ، الزَّهَادَةُ قِصَرُ الاَْمَلِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ (عن) النِّعَمِ، وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ الَْمحَارِمِ، فَإِنْ عَزَبَ ذلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ، وَلاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ، فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَج مُسْفِرَة ظَاهِرَة، وَكُتُب بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَة.
اخلاقي
(في صِفَة الدّنيا)مَا أَصِفُ مِنْ دَار أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ! فِي حَلاَلِهَا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ. مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ.
أقول: وإذا تأمل المتأمل قوله(عليه السلام): «وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بصّرَتْهُ» وجد تحته من المعنى العجيب، والغرض البعيد،ما لاتُبلغ غايته ولا يدرك غوره، لاسيما إذا قرن إليه قوله:«وَمَنْ أَبْصَرَ إلَيْهَا أعْمَتْهُ» فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحاً نيراً، وعجيباً باهراً! صلوات الله وسلامه عليه.
عقائدية ، اخلاقية
(و هى الخطبة العجيبة و تسمّى «الغرّاء»)
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي عَلاَ بِحَوْلِهِ، وَدَنَا بِطَوْلِهِ، مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَة وَفَضْل، وَكَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَة وَأَزْل. أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ، وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ، وَأُؤْمِنُ بِهِ أَوَّلا بَادِياً، وَأَسْتَهْدِيهِ قَرِيْباً هَادِياً، وَأَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ لاِِنْفَاذِ أَمْرِهِ، وَإِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَتَقْدِيمِ نُذُرِهِ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي ضَرَبَ الاَْمْثَالَ، وَوَقَّتَ لَكُمُ الاْجَالَ، وَأَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ، وَأَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ، وَأَحَاطَ (أحاطكم) بِكُمُ الاِْحْصَاءَ، وَأَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ، وَآثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ، وَالرِّفَدِ الرَّوَافِغِ، وَأَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ، فَأَحْصَاكُمْ عَدَدَاً، وَوَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً، فِي قَرَارِ خِبْرَة، وَدَارِ عِبْرَة، أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا، وَمُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا.
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا، رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، يُونِقُ مَنْظَرُهَا، وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا. غُرُورٌ حَائِلٌ، وَضَوْءٌ آفِلٌ، وَظِلٌّ زَائِلٌ، وَسِنَادٌ مَائِلٌ، حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا، وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا، وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا (أجبلها)، وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا، وَأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ، وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ، وَمُعَايَنَةِ الَْمحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ. وَكَذلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ، لاَ تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً، وَلاَ يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً، يَحْتَذُونَ مِثَالا، وَيَمْضُونَ أَرْسَالا، إِلَى غَايَةِ الاِْنْتِهَاءِ، وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ.
حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الاُْمُورُ، وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ، وَأَزِفَ النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ، وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ، وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ، وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ، سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ، مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ، رَعِيلا صُمُوتاً،قِيَاماً صُفُوفاً، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الاِسْتِكَانَةِ، وَضَرَعُ الاِسْتِسْلاَمِ وَالذِّلَّةِ. قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ، وَانْقَطَعَ الاَْمَلُ، وَهَوَتِ الاَْفْئِدَةُ كَاظِمَةً، وَخَشَعَتِ الاَْصْوَاتُ مُهَيْمِنَةً، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ، وَأُرْعِدَتِ الاَْسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ، وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ، وَنَكَالِ الْعِقَابِ، وَنَوَالِ الثَّوَابِ.
عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً، وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً، وَمَقْبُوضُونَ احْتِضَارَاً، وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً، وَكَائِنُونَ رُفَاتاً، وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً، وَمَدِينُونَ جَزَاءً، وَمُمَيَّزُونَ حِسَاباً. قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الَْمخْرَجِ، وَهُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ; وَعُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ، وَكُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ، وَخُلُّو الِمِضْمَارِ الْجِيَادِ (الخيار)، وَرَوِيَّةِ الاِرْتِيَادِ، وَأَنَاةِ الْمُقْتَبَسِ (المقتبين) الْمُرْتَادِ (المتقين)، فِي مُدَّةِ الاَْجَلِ، وَمُضْطَرَبِ الْمَهَلِ.
فَيَالَهَا أَمْثَالا صَائِبَةً، وَمَواعِظَ شَافِيَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً، وَأَسْمَاعاً وَاعِيَةً، وَآرَاءً عَازِمَةً، وَأَلْبَاباً حَازِمَةً! فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ، وَحَاذَرَ فَبَادَرَ، وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ، وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ، وَحُذِّرَ فَحَذِرَ، وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ، وَأَجَابَ فَأَنَابَ، وَرَاجَعَ (رجع) فَتَابَ، وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى، وَأُرِيَ فَرَأَى، فَأَسْرَعَ طَالِباً، وَنَجَاهَا رِباً، فَأَفَادَ ذَخِيرَةً، وَأَطَابَ سَرِيرَةً، وَعَمَّرَ مَعَاداً، وَاسْتَظْهَرَ زَاداً، لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَوَجْهِ سَبِيلِهِ، وَحَالِ حَاجَتِهِ، وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ، وَقَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ. فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَاللهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ، وَاحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ
و منها : جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا، وَأَشْلاَءً جَامِعَةً لاَِعْضَائِهَا، مُلاَئِمَةً لاَِحْنَائِهَا، فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَان قَائِمَة بِأَرْفَاقِهَا، وَقُلُوب رَائِدَة (بائدة) لاَِرْزَاقِهَا، فِي مُجَلِّلاَتِ نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ (جوائز) عَافِيَتِهِ. وَقَدَّرَلَكُم أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ، وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ، مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلاَقِهمْ، وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ. أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَادُونَ الاْمَالِ، وَشَذَّبِهمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الاْجَالِ لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلاَمَةِ الاَْبْدَانِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الاَْوَانِ. فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلاَّ حَوَانِيَ الْهَرَمِ؟ وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلاَّ نَوَازِلَ السَّقَمِ؟ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلاَّ آوِنَةَ (اوبة) الْفَنَاءِ؟ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ (الزّوال)، وَأُزُوفِ الاِنْتِقَالِ، وَعَلَزِ الْقَلَقِ وَأَلَمِ الْمَضَضِ، وَغُصَصِ الْجَرَضِ وَتَلَفُّتِ الاِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَالاَْقْرِبَاءِ، وَالاَْعِزَّةِ وَالْقُرَنَاءِ! فَهَلْ دَفَعَتِ الاَْقَارِبُ ؟! أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ ؟ !
وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الاَْمْوَاتِ رَهِيناً، وَفِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً، قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ، وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ، وَعَفَتِ الْعَواصِفُ آثَارَهُ، وَمَحَا الْحَدَثَانِ مَعَالِمَهُ، وَصَارَتِ الاَْجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا، وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا، وَالاَْرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا، مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا، لاَ تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا، وَلاَ تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّىءِ زَلَلِهَا! أَوَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالآبَاءَ، وَإِخْوَانَهُمْ وَ الاَْقْرِبَاءَ؟ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ، وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُم، وَ تَطَؤُونَ جَادَّتَهُمْ ؟ ! فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا، لاَهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا، سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا! كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا، وَكَأَنَّ الرُّشْدَفِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا. وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ (السّراط) وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ، وَأَهَاوِيلِ زَلَلِهِ، وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ، وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ، وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ، وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ، وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ، وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لاَِمَانِهِ (أبانة)، وَتَنَكَّبَ الَْمخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ، وَسَلَكَ أَقْصَدَ المَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ. وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ، وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الاُْمُورِ، ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى، وَرَاحَةِ النُّعْمَى، فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ، وَ آمَنِ يَوْمِهِ. وَقَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً، وَقَدَّمَ زَادَ (ذات) الاْجِلَةِ سَعِيداً، وَبَادَرَ مِنْ وَجَل، وَأَكْمَشَ فِي مَهَل، وَرَغِبَ فِي طَلَب، وَذَهَبَ عَنْ هَرَب، وَرَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ، وَنَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ. فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَنَوَالا، وَكَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالا! وَكَفَى بِاللهِ مُنْتَقِماً وَنَصِيراً! وَكَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَخَصِيماً!
أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ، وَحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً، وَنَفَثَ فِي الآذَانِ نَجِيّاً، فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى، وَوَعَدَ فَمَنَّى، وَزَيَّنَ سَيِّئَاتِ (النيّات) الْجَرَائِمِ، وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ، حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ، وَاسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ، أَنْكَرَ مَازَيَّنَ، وَاسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ، وَحَذَّرَ مَا أَمَّنَ.
أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْحَامِ، وَشُغُفِ الاَْسْتَارِ، نُطْفَةً دِهَاقاً (دفاقاً ـ ذهاقاً)، وَعَلَقَةً مِحَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعاً، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لاَفِظاً، وَبَصَراً لاَحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً. حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَى مِثَالُهُ، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وَخَبَطَ سَادِراً، مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ، كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ، فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ، وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ; ثُمَّ لاَ يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً، وَلاَ يَخْشَعُ تَقِيَّةً; فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً (اسيراً)، لَمْ يُفِدْ عِوَضاً (غرضاً)، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً. دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ (غبرة) جِمَاحِهِ.
فَظَلَّ سَادِراً، وَبَاتَ سَاهِراً، فِي غَمَرَاتِ الاْلاَمِ، وَطَوَارِقِ الاَْوْجَاعِ وَالاَْسْقَامِ، بَيْنَ أَخ شَقِيق، وَوَالِد شَفِيق، وَدَاعِيَة بِالْوَيْلِ جَزَعاً، وَلاَدِمَة لِلصَّدْرِ قَلَقاً; وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَة مُلْهِثَة، وَغَمْرَة كَارِثَة، وَأَنَّة مُوجِعَة، وَجَذْبَة مُكْرِبَة، وَسَوْقَة مُتْعِبَة. ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً (ملبساً)، وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً، ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الاَْعْوَادِ رَجِيعَ وَصَب، وَنِضْوَ سَقَم، تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ، وَحَشَدَةُ الاِْخْوَانِ، إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ، وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ، وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ. حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ، وَرَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ (مفجّ)، أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ، وَعَثْرَةِ الاِمْتِحَانِ. وَأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ، وَتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ، وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ، وَسَوْرَاتُ الزَّفِيرِ (السّعير)، لاَ فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ، وَلاَ دَعَةٌ مُزِيحَةٌ، وَلاَ قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ، وَلاَ مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَلاَ سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ، بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ، وَعَذَابِ السَّاعَاتِ! إِنَّا بِاللهِ عَائِذُونَ!
عِبَادَ اللهِ، أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُ وافَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا! أُمْهِلُوا طَوِيلا، وَمُنِحُوا جَمِيلا، وَحُذِّرُوا أَلِيماً، وَوُعِدُوا جَسِيماً (جميلا)! احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ، وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ.
أُولِي الاَْبْصَارِ وَالاَْسْمَاعِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ، هَلْ مِنْ مَنَاص أَوْ خَلاَص؟، أَوْ مَعَاذ؟ أَوْ مَلاَذ؟، أَوْ فِرَار أَوْ مَحَار! أَمْ لاَ ؟ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ! » أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ! أَمْ بمَاذَا تَغْتَرُّونَ! وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الاَْرْضِ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قِيدُ قَدَّهِ، مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ! الاْنَ عِبَادَ اللهِ وَالْخِنَاقُ مُهْمَلٌ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ، فِي فَيْنَةِ الاِْرْشَادِ، وَرَاحَةِ الاَْجْسَادِ، وَبَاحَةِ الاِحْتِشَادِ، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ، وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ، وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ، وَانْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ، قَبْلَ الضَّنْكِ وَالْمَضِيقِ، وَالرَّوْعِ وَالزُّهُوقِ، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ وَأَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ.
و في الخبر: أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، و بكت العيون، و رجفت القلوب، و من الناس من يسمي هذه الخطبة: «الغراء».
سياسية ، تاريخية
(في ذكر عمرو بن العاص)
عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لاَِهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وَأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ: أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلا، وَنَطَقَ آثِماً. أَمَا وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ، وَيَخُونُ الْعَهْدَ، وَيَقْطَعُ الاِْلَّ; فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِر وَآمِر هُوَ! مَالَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا، فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقِرْمَ (القوم) سُبَّتَهُ.
أَمَا وَاللهِ اِنِّي لََيمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وَإِنَّهُ لَيمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الاْخِرَةِ، إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً.
عقائدية ، اخلاقية
وفيها صفات ثمان من صفات الجلال
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ : الاَْوَّلُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالاْخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ، لاَ تَقَعُ الاَْوْهَامُ لَهُ عَلى صِفَة، وَلاَ تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّة، وَلاَ تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلاَ تُحِيطُ بِهِ الاَْبْصَارُ وَالْقُلُوبُ.
و منها : فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ، وَاعْتَبِرُوا بِالاْيِ السَّوَاطِعِ، وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ، وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخالِبُ الْمنيَّةِ وَانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلائقُ الاُْمْنِيَّةِ وَدَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الاُْمُورِ، وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ، فـَ (كُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)(1): سَائِقٌ يَسُوقُهَا إلِى مَحْشَرِهَا; وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا.
دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَ لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَ لاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا، وَلاَ يَبْأَسُ (ييأس) سَاكِنُهَا.
عقائدية ، اخلاقية
قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمَائِرَ، لَهُ الاِْحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْء، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْء، وَالْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْء.
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ، قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ، وَفِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ، وَفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ، وَلُْيمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَقَدَمِهِ، وَلْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ. فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ، فِيَما
ــــــــــــــــــــــــــــعِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ; وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ; وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، وَالْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»، وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ «يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ» وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلاِْيمَانِ، وَمَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ. جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاة وَكَرَامَة، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاة وَ مَهَانَة. وَلاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاِْيمانَ «كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»، «وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ»; وَاعْلَمُوا أَنَّ الاَْمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ. فَأَكْذَبُوا الاَْمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ.
عقائدية ، اخلاقية ، سياسية
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ اِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ; فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ. نَظَرَ فَأَبْصَرَ (فأقصر)، وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَى مِنْ عَذْب فُرَات سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلا، وَسَلَكَ سَبِيلا جَدَداً. قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ، إِلاَّ هَمّاً وَاحِدَاً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى. قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ.
وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الاُْمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِد عَلَيْهِ، وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْع إِلَى أَصْلِهِ. مِصْبَاحُ ظُلُمَات. كَشَّافُ عَشَوَات (غشوات)، مِفْتَاحُ مُبْهَمَات، دَفَّاعُ مُعْضِلاَت، دَلِيلُ فَلَوَات، يَقُولُ فَيُفْهِمُ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ. قَدْ أَخْلَصَ لِلّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ. قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا، وَلاَ مَظِنَّةً إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ.
وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال، وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ (حبال) غُرُور، وَقَوْلِ زُور; قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ (رأيه) ; وَعَطَفَ الْحَقَّ
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ (وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ! وَالاَْعْلاَمُ قَائِمَةٌ، وَالاْيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ! وَكَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ! وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَعْلاَمُ الدِّينِ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ!
فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ. أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّت، وَيَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَال» فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَ تَعْرِفُونَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقَّ فِيَما تُنْكِرُونَ ،
وَاعْذِرُوا مَنْ لاَ حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ ـ وَهُوَ أَنَا ـ، أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الاَْكْبَرِ! وَأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الاَْصْغَرَ! قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الاِْيمَانِ، وَوَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي، وَفَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الاَْخْلاَقِ مِنْ نَفْسِي، فَلاَ تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيَما لاَ يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ، وَلاَ تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ.
و منها : حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ; تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ هـذِهِ الاُْمَّةِ سَوْطُهَا وَلاَ سَيْفُهَا، وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ. بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً !
اخلاقية ، سياسية
أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَقْصِمْ (يفصم) جَبَّارِي دَهْر قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيل وَرَخَاء; وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَد مِنَ الاُْمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْل وَبَلاَء; وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْب وَمَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْب مُعْتَبَرٌ! وَمَا كُلُّ ذِي قَلْب بِلَبِيب، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْع بِسَمِيع، وَلاَ كُلُّ نَاظِر بِبَصِير. فَيَا عَجَباً! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا؟ ! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ. الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلاَتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ (المبهمات) عَلَى آرَائِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ امْرِىء مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيَما يَرَى بِعُرًى ثِقَات (وثيقات ـ موثقات)، وَأَسْبَاب مُحْكَمَات.
عقائدية ، اخلاقية ، سياسية
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَة مِنَ الاُْمَمِ وَاعْتِزَام مِنَ الْفِتَنِ، وَانْتِشَار مِنَ الاُْمُورِ، وَتَلَظٍّ (تلظّى) مِنَ الْحُرُوبِ، وَالدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ; عَلَى حِينِ اصْفِرَار مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاس مِنْ ثَمَرِهَا، وَاغْوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لاَِهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا. ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ.
فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ، وَاذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ، وَعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ. وَلَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَلاَبِهِمُ الْعُهُودُ، وَلاَ خَلَتْ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمُ الاَْحْقَابُ وَالْقُرُونُ (الدّهور)، وَمَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْم كُنْتُمْ فِي أَصْلاَبِهِمْ بِبَعِيد. وَاللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ (أسماعكم) الرَّسُولُ شَيْئاً إِلاَّ وَهَا أَنَاذَا مُسْمِعُكُمُوهُ، وَمَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالاَْمْسِ، وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الاَْبْصَارُ، وَلاَ جُعِلَتْ لَهُمُ الاَْ فْئِدَةُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ، إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هـذَا الزَّمَانِ (الأوان). وَوَاللهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ، وَلاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ وَحُرِمُوهُ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلا خِطَامُهَا، رِخْواً بِطَانُهَا، فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، إِلَى أَجَل مَعْدُودِ.
عقائدية ، اخلاقية
الْحَمْدُ لِلّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة، وَالْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً; إِذْ لاَ سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاج، وَلاَ حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاج، وَلاَ لَيْلٌ دَاج، وَلاَ بَحْرٌ سَاج، وَلاَ جَبَلٌ ذُو فِجَاج، وَلاَ فَجٌّ ذُو اعْوِجَاج، وَلاَ أَرْضٌ ذَاتُ مِهَاد، وَلاَ خَلْقٌ ذُو اعْتَِماد: ذلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَوَارِثُهُ، وَإِلهُ الْخَلْقِ وَرَازِقُهُ، وَالشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ. يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيد، وَيُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيد. قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَحْصَى آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَعَدَدَ أَنْفُسِهِمْ، وَخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الاَْرْحَامِ وَالظُّهُورِ، إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ. هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَاتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لاَِوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ، قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ، وَمُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ، وَمُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ، وَغَالِبُ مَنْ عَادَاهُ. مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ.
عِبَادَ اللهِ! زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لاَ زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ.
عقائدية ، علمية ، معنوية
( تعرف بخطبة الأشباح، وهي من جلائل خطبه (عليه السلام) )روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد(عليهما السلام) أنه قال: خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) بهذه الخطبة على منبر الكوفة، وذلك أن رجلا أتاه فقال له: يا أميرالمؤمنين صف لنا ربنا مثلما نراه عياناً لنزداد له حبّاً وبه معرفة، فغضب ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون، فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم قال:
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ، وَلاَ يُكْدِيهِ الاِْعْطَاءُ وَالْجُودُ; إِذْ كُلُّ مُعْط مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِع مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ; وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ، وَعَوَائِدِ الْمَزِيدِوَ الْقِسَمِ عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ. الأَوَّلُ اَلَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَالاْخِرُ الَّذي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَىْءٌ بَعْدَهُ وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الاَْبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الاِْنْتِقَالُ. وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ، وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ، مِنْ فِلِزِّ (فلق) اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِي جُودِهِ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الاَْنْعَامِ مَالاَ تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الاَْنَامِ، لاَِنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤَالُ
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِىءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللهِ سُبْحانَهُ، فَإِنَّ ذلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الاِْقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الَْمحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ تَعَالى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَالَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً. فَاقْتَصِرْ عَلَى ذلِكَ، وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الاَْوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ، لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ، رَدَعَهَا وَهِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحانَهُ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لاَيُنَالُ بِجَوْرِ الاِعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ، وَلاَ تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلاَلِ عِزَّتِهِ. الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال امْتَثَلَهُ، وَلاَ مِقْدَار احْتَذَى عَلَيْهِ، مِنْ خَالِق مَعْبُود كَانَ قَبْلَهُ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ. فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ، وَأَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلا عَلَيْهِ; وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلاَلَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ. فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الُْمحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ نِدَّ لَكَ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّأَ التَّابِعِينَ مِنَ
و منها : قَدَّرَ مَاخَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الاِْنْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الاُْمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ؟ الْمُنْشِىءُ أَصْنَافَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْر آلَ إِلَيْهَا، وَلاَ قَرِيحَةِ غَرِيزَة أَضْمَرَ عَلَيْهَا، وَلاَ تَجْرِبَة أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَلاَ شَرِيك أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الاُْمُورِ. فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ، وَأَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ، لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِىءِ وَلا أَناةُ الْمُتَلَكِّىءِ، فَأَقامَ مِنَ الاَْشْيَاءِ أَوَدَها، وَنَهَجَ حُدُودَهَا، وَلاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا، وَوَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا، وَفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَات فِي الْحُدُودِ وَالاَْقْدَارِ، وَالْغَرَائِزِ وَالْهَيْئَاتِ، بَدَايَا خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا، وَفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَابْتَدَعَهَا!
وَنَظَمَ بِلاَ تَعْلِيق رَهَوَاتِ فُرَجِهَا، وَلاَحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهَا، وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ، وَالصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ، حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا، وَنَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ(2)، فَالْتَحَمَتْ
ــــــــــــــــــــــــــــثُمَّ خَلَقَ سُبْحانَهُ لإِسْكَانِ سَموَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الاَْعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلاََ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا (أجوابها)، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ، وَسُرَادِقَاتِ الَْمجْدِ. وَوَرَاءَ ذلِكَ الرَّجِيج (الزّجيج) الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الاَْسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُور تَرْدَعُ الاَْبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا، فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا. وَأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَر مُخْتَلِفَات، وَأَقْدَار مُتَفَاوِتَات (مؤتلفات)، «أُولِي أَجْنِحَة» تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ. (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).(2) جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الاَْمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ. وَأَمَدَّهُمْ بِفَوائِدِ الْمَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلا إِلَى تَمَاجِيدِهِ، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلاَمِ تَوْحِيدِهِ. لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُوصِرَاتُ الاْثَامِ، وَلَمْ تَرْتَحِلْهُمْ (تحلّهم) عُقَبُ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ، وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا (نوازغها) عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ
ــــــــــــــــــــــــــــوَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ، وَفِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ، وَفِي قَتْرَةِ الظَّلاَمِ الاَْيْهَمِ (أبهم)، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الاَْرْضِ السُّفْلَى، فَهِيَ كَرَايَات بِيض قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ.
قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ، وَوَصَلَتْ (وسّلت ـ مثّلت) حَقَائِقُ الاِْيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَقَطَعَهُمُ الاِْيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ. قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ، فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ، وَلَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ.
وَلاَ أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُمُ الاِْعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَاسَلَفَ مِنْهُمْ، وَلاَ تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الاِْجْلاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ. وَلَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُؤُوبِهِمْ، وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلاَتُ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ مَلَكَتْهُمُ الاَْشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ (الجار ـ الخبر) إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ (مقادم) الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ، وَلَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ، وَلاَ تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلاَدَةُ الْغَفَلاَتِ، وَلاَ تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ. قَدِْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ، وَيَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الَْمخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهِمُ الاِْسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَة مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ، لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ،
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ، وَلاَ تَوَلاَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ، وَلاَ تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرَّيْبِ، وَلاَ اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ (اختلاف) الْهِمَمِ. وَفَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَان لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيَغٌ وَلاَ عُدُولٌ وَلاَ وَنًى وَلاَ فُتُورٌ، وَلَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَاب إِلاَّ وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْسَاع حَافِدٌ، يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً.
كَبَسَ الاَْرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاج مُسْتَفْحِلَة، وَلُجَجِ بِحَارزَ اخِرَة، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا. فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا، وَذَلَّ (ظلّ) مُسْتَخْذِياً، إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا، فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ، سَاجِياً مَقْهُوراً، وَفِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً. وَ سَكَنَتِ الاَْرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِن نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَاعْتِلاَئِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِهِ وَسُمُوِّ (سموف) غُلَوَائِهِ، وَكَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ، فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ، وَلَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ. فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِن عَرَانِينِ أُنُوفِهَا، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ (الصُّم) مِنْ صَيَاخِيدِهَا، فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا، وَرُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الاَْرَضِينَ وَجَرَاثِيمِهَا.
وَفَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّوَ بَيْنَهَا، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا، وَأَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا. ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الاَْرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الاَْنْهَارِ (الارض) ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا، حَتَّى أَنْشَأَلَهَا نَاشِئَةَ سَحَاب تُحْيِي مَوَاتَهَا، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا. أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ، وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ، حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ، وَ الَْتمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ، وَلَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ، وَمُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّاً (شمحاً) مُتَدَارِكاً، قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ، تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَدُفَعَ شَآبِيبِهِ. فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الَْمحْمُولِ (الثقيل) عَلَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَ امِدِ الاَْرْضِ النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ (زعن) الْجِبَالِ الاَْعْشَابَ.
فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا، وَتَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ (شمطت) بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا، وَجَعَلَ ذلِكَ بَلاَغاً لِلاَْنَامِ، وَرِزْقاً لِلاَْنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا، وَأَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا.
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ(عليه السلام)خِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيَما نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَالُْمخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ. فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً (موافقة) لِسَابِقِ عِلْمِهِ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ، مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً; حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ.
وَقَدَّرَ الاَْرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَقَلَّلَهَا. وَقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَالسَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذلِكَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَا. ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا، وَبِسَلاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا، وَبِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا (أبزاحها) وَخَلَقَ الاْجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا، وَوَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لاَِشْطَانِهَا، وَقَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا.
عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ، وَنَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ، وَعُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَغَيَابَاتُ (بابات) الْغُيُوبِ، وَمَا أَصْغَتْ لاِسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الاَْسْمَاعِ، وَ مَصَائِفُ الذَّرِّ، وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ، وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ، وَهَمْسِ الاَْقْدَامِ. وَمُنْفَسَحِ الَّثمَرَةِ مِنْ وَلاَئِجِ غُلُفِ الاَْكْمَامِ، وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَأَوْدِيَتِهَا، وَمُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الاَْشْجَارِ وَأَلْحِيَتِهَا، وَمَغْرِزِ الاَْوْرَاقِ مِنَ الاَْفْنَانِ، وَمَحَطِّ الاَْمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ (مشارب) الاَْصْلاَبِ. وَنَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَمُتَلاَحِمِهَا، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا، وَمَا تَسْفِي الاَْعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا، وَتَعْفُو الاَْمْطَارُ بِسُيُولِهَا، وَعَوْمِ (غموم) بَنَاتِ الاَْرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ، وَمُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الاَْجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ، وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ (النّطق) فِي دَيَاجِيرِ الاَْوْكَارِ، وَمَا أَوْعَبَتْهُ (اوعته ـ اودعته) الاَْصْدَافُ، وَحَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ، وَمَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْل، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَار، وَمَا اعْتَقَبَتْ (احتقبت) عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ; وَأَثَرِكُلِّ خَطْوَةِ، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَة، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَة وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَة وَمُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَة وَمِثْقالِ كُلِّ ذَرَّة، وَهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْس هَامَّة، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَة، أَوْ سَاقِطِ وَرَقَة، أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَة، أَوْ نُقَاعَةِ دَم وَمُضْغَة، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْق وَسُلاَلَة; لَمْ تَلْحَقْهُ فِي ذلِكَ كُلْفَةٌ. وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الاُْمُورِ وَتَدَابِيرِ الَْمخْلُوقِينِ مَلاَلَةٌ وَلاَ فَتْرَةٌ، بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ، وَ غَمَرَهُمْ
اَللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ، إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُول، وَإِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ (فاكرم) مَرْجُوٍّ. الَلَّهُمَّ وَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيَما لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ، وَلاَ أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَد سِوَاكَ، وَلاَ أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَعَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الاْدَمِيِّينَ; وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الَْمخْلُوقِينَ. اَللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْن عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاء، أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاء; وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ. اَللَّهُمَّ وَهذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ، وَلَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهـذِهِ الَْمحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ; وَبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فَضْلُكَ، وَلاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَجُودُكَ، فَهَبْ لَنَا فِي هذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الاَْيْدِي إِلَى سِوَاكَ. «إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ (ماتشاء)»!
سياسي ، عقائدي
(لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان)
دَعُونِي وَالَْتمِسُوا غَيْرِي; فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ; لاَ تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ. وَإِنَّ الاْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالَْمحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ (أحببتكم) رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ; وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!
سياسية ، عقائدية ، تاريخية
أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا (ظلمتها)، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا. فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْء فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَة تَهْدِي مِئَةً وَتُضِلُّ مِئَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلا، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً. وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الاُْمُورِ، وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ، لاََطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْؤُولِينَ.
وَذلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاق، وَضَاقَتِ (كانت) الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلاَءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الاَْبْرَارِ مِنْكُمْ. إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ; يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَت، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَات، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً.
أَلاَ وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ (وظلمة): عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا. وَأَصَابَ الْبَلاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاَءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا. وَايْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوْء بَعْدِي، كَالنَّابِ الضَّرُوسِ: تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا (لايكون) مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ. وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ، تَرِدُ
نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاة (نجاة)، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاة، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الاَْدِيمِ: بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْس مُصَبَّرَة لاَ يُعْطِيهِمْ إِلاَّ السَّيْفَ، وَلاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ الْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُور، لاَِقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ !
عقائدية ، اخلاقية
فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ حَدْسُ (حسّ) الْفِطَنِ، الاَْوَّلُ الَّذِي لاَ غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِيَ، وَلاَ آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ.
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَع، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ (تناسلتهم) كَرَائِمُ الاَْصْلاَبِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الاَْرْحَامِ; كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللهِ خَلَفٌ.
حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى إِلَى مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الاَْرُومَاتِ مَغْرِساً; مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ (انتخب) مِنْهَا أُمَنَاءَهُ. عِتْرَتُهُ خَيْرُ
اعْمَلُوا، رَحِمَكُمُ اللهُ، عَلَى أَعْلاَم بَيِّنَة، فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ، وَأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَب عَلى مَهَل وَفَرَاغ; والصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، والاَْقْلاَمُ جَارِيَةٌ، وَالاَْبْدَانُ صَحِيحَةٌ، وَالاَْلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ، وَالاَْعْمَالُ مَقْبُولَةٌ.
عقائدية ، تاريخية
بَعَثَهُ وَالنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَة; وَحَاطِبُونَ (خابطون) فِي فِتْنَة، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الاَْهْوَاءُ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاَءُ; حَيَارَى فِي زَلْزَال مِنَ الاَْمْرِ، وَبَلاَء (بلبال) مِنَ الْجَهْلِ، فَبَالَغَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي النَّصِيحَةِ، وَمَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَدَعَا إِلى الْحِكْمَةِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
عقائدية
الْحَمْدُ لِلّهِ الاَْوَّلِ فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالآخِرِ فَلاَ شَيْءَ بَعْدَهُ، وَالظَّاهِرِ فَلاَ شَيْءَ فَوْقَهُ، وَالْبَاطِنِ فَلاَ شَيْءَ دُونَهُ.
مُسْتَقَرَّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِت، فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ، وَمَمَاهِدِ السَّلاَمَةِ; قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الاَْبْرَارِ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الاَْبْصَارِ. دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغَائِنَ، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ. كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ.
سياسية ، اخلاقية ، عقائدية
وَلَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ، وَبِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لاَِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لاِِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ (باطلهم)، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الاُْمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُم سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا، أَشُهُودٌ كَغُيَّاب، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب! أَتْلُوعَلَيْكُمُ الْحِكَمَ
تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ. أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً، كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ (الحيّة)، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ. أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ. صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهُ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ. لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلا مِنْهُمْ!
يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثْنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاع، وَبُكْمٌ ذَوُو كَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ الْبَلاَءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الاِْبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيَما إِخَالُكُمْ: أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَحَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِب انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا. وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً.
انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ، وَاتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ، فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى، فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا، وَإِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا. وَلاَ تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا، وَلاَ تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا.
لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً
سياسي ، تاريخي
وَاللهِ لاَ يَزَالُونَ حَتَّى لاَ يَدَعُوا لِلّهِ مُحَرَّماً إِلاَّ اسْتَحَلُّوهُ، وَلاَ عَقْداً إِلاَّ حَلُّوهُ، وَحَتَّى لاَ يَبْقَى بَيْتُ مَدَر وَلاَ وَبَر إِلاَّ دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَنَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ (رعيّتهم)، وَحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ: بَاك يَبْكِي لِدِينِهِ، وَبَاك يَبْكِي (يَشكى) لِدُنْيَاهُ، وَحَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ، إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ، وَإِذَا غَابَ اغْتَابَهُ. وَحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا عَنَاءً (غنا ـ غناءً) أَحْسَنُكُمْ بِاللهِ ظَنّاً، فَإِنْ أَتَاكُمُ اللهُ بِعَافِيَة فَاقْبَلُوا، وَإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا، فَإِنَّ (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
اخلاقية
نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الاَْدْيَانِ، كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الاَْبْدَانِ.
عِبَادَ اللهِ، أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ لاَِجْسَامِكُمْ (أجسادكم) وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْر سَلَكُوا سَبِيلا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ. وَكَمْ عَسَى الُْمجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ، وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ وَ مُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً!
فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلاَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَإِنَّ زِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَال، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَاد (نِفاذِ)، وَكُلُّ مُدَّة فِيهَا إِلَى انْتِهَاء، وَكُلُّ حَىٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاء. أَوَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الاَْوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ، وَفِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ! أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجَعُونَ، وَإِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ! أَوَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ عَلَى أَحْوَال شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى. وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً، وَعائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُول عَنْهُ; وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي (الماضين) مَا يَمْضِي الْبَاقِي! أَلاَ فَاذْكُرُ واهَاذِمَ الَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الاُْمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ (المشاورة) لِلاَْعْمَالِ الْقَبِيحَةِ; وَاسْتَعِينُوا اللهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَالاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.