الصفحة 58
إلى القارىء من حيث لا يشعر أنّ هذا من أساطير الأوّلين بقوله: «قال قائل»، والحال كثير من المفسّرين الذين رجعت إلى تفاسيرهم يذكرون هذا المعنى بأنّ القرآن جمعت معارفه في سورة الحمد، حتّى الكاتب اعترف بذلك كما ذكرته لك.

ثمّ قال في تحديد الإسلام بكلمة واحدة، وكيف يحدّد الإسلام بكلمة واحدة ولا يكون أشبه بمن يحاول أن يدخل الكون بأرضه وسمائه في البيضة دون أن تكبر البيضة أو يصغر الكون؟ ثمّ كيف يحدّد الاسلام بالاستقامة، والقرآن لا يحدّد به؟ والحال أنّ القرآن هو كتاب الإسلام ومصدر تشريعه الأوّل، وهناك الجناح الثاني والثقل الآخر للإسلام، وهو السنّة المتمثّلة بقول المعصوم (عليه السلام) وفعله وتقريره، فكيف يحدّد الإسلام ـ الكتاب والسنّة ـ بكلمة واحدة ولا يحدّد جزئه بكلمة واحدة؟ أليس هذا من التهافت؟ ولو كان ما قاله (قدس سره) من عند اللّه، لما كان فيه اختلافاً، فإنّ الحقيقة نقطة كثّرها الجاهلون، وعلى كلّ حال فيقول في تحديد الإسلام بكلمة واحدة.

قرأت في جريدة الجمهورية المصرية ـ تأريخ 21 نيسان سنة 1967 ـ كلمة قال كاتبها ضياء الريّس: إنّه قرأ مقالا في مجلة أدبية لكاتب عربي شهير، قال فيه: إنّه ـ أي الكاتب ـ حين كان عضواً في البعثة العلمية بإنگلترا اشتبك في نقاش حادّ مع انگليزية مثقفة حول الإسلام والمسيحية، فقالت الانگليزية ـ متحدية جميع المسلمين بشخص الكاتب المسلم ـ إنّي اُلخّص مبادىء المسيحية كلّها بكلمة واحدة، وهي المحبّة، فهل تستطيع أنت ـ أيّها المسلم ـ أن تأتي بكلمة تجمع مبادىء الإسلام؟ فأجابها الكاتب المسلم: أجل إنّها كلمة التوحيد.

وبعد أن نقل الريّس هذا الحوار قال: لم يكن الجواب موفّقاً، وذكر أسباباً

الصفحة 59
وجيهة وصحيحة تدعم حكمه على الكاتب بعدم التوفيق، وبعد أن انتهى الريّس من حكمه وأسبابه الموجبة، قال: لو وجّه إليّ هذا السؤال لأجبت بأنّ هذه الكلمة هي الرحمة، واستدلّ على صحّة جوابه هذا بالعديد من الآيات والروايات مبتدئاً بـ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، إلى {وَما أرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}... الخ. وصدق الريّس في قوله: إنّ الكاتب لم يكن موفّقاً في جوابه. ولكن الريّس أيضاً لم يكن موفّقاً في اختياره كلمة الرحمة، لأنّه لم يزد شيئاً على ما قالته الإنگليزية، حيث أخذ كلمة المحبّة منها، وترجمها إلى كلمة الرحمة، وعلى هذا لا يكون للإسلام أية ميزة على المسيحية.

ولو كنت حاضراً مع البعثة العلمية بإنگلترا لأجبت بكلمة (الاستقامة); فإنّها الكلمة الجامعة المانعة الشاملة للاستقامة في العقيدة بما فيها التوحيد والتنزيه عن الشبيه، وأيضاً تشمل الاستقامة في الأعمال والأخلاق والأحكام وجميع التعاليم بما فيها الرحمة والمحبّة والتعاون، إنّ الرحمة من مبادىء الإسلام وليست الإسلام بكامله، كما إنّ التوحيد أصل من اُصوله لا اُصوله بأجمعها.

وبما أنّ الاستقامة تجمع المحبّة والرحمة والتوحيد وسائر الاُصول الحقّة والأعمال الخيرية والأخلاق الكريمة المستقيمة...

يعتقد الكاتب أنّ الاستقامة هي الكلمة الجامعة المانعة، فكأنّما أراد أن يعرّف الإسلام بتمام ماهيته وذاتياته بالاستقامة التي تكون جامعة لمفاهيم الإسلام ومانعة من غيرها، والحال إنّما عرف الإسلام بلازمه، وهذا من الرسم الناقص وليس تعريفاً تاماً، بل بنظري الكلمة الجامعة لمفاهيم الاسلام هو (التسليم)، التسليم في توحيد اللّه والتسليم للنبوّة والإمامة والمعاد والأخلاق وكلّ ما يقوله الإسلام وما جاء في مدارك أحكامه وقوانينه أي القرآن الكريم والسنّة الشريفة.


الصفحة 60
ثمّ كلمة التوحيد لو كانت تامة وبشرطها وشروطها ومنها النبوّة والإمامة وما صدر عنهما فإنّه تمام الإسلام أيضاً، كما قال ذلك الكاتب المسلم في جواب المثقفة المسيحية، بل الإسلام هو الرحمة الإلهية واللطف الإلهي، فكلّ ما فيه إنّما منشأه الرحمة الرحمانية والرحيمية، وبهذا الاعتبار يكون الإسلام عبارة عن الرحمة كما قالها كاتب المقالة.

إلاّ أنّ حقيقة الإسلام وماهيته وذاتياته إنّما هو التسليم كما قال ذلك جدّي أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل».

وقال (عليه السلام): غاية الإسلام التسليم، وغاية التسليم الفوز بدار النعيم.

وقال الرسول الأكرم: الإسلام أن تسلّم وجهك للّه عزّ وجلّ، وأن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): الإسلام حسن الخلق.

وهذا يعني أنّ الإسلام هو الرحمة والاستقامة وكلمة التوحيد، والجامع لكلّ مفاهيم الإسلام هو التسليم. وإذا كان الإسلام يجمعه ويحدّده كلمة واحدة، فلماذا لا يكون كلّ القرآن في فاتحته، وكلّ ما في الحمد واُمّ الكتاب في البسملة، وكلّ ما فيها في بائها، والإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) نقطة باء البسملة.

عزيزي القارىء:

ربما من خلال هذه المناقشة مع الشيخ المغنية (رحمه الله) أحسست بفتور وتضجّر،

____________

1- المصدر، عن كنز العمّال، خ 39.


الصفحة 61
وتراها من الحشو والذي لا طائل تحته، ومن القيل والقال الذي يبغضه اللّه سبحانه، كما ورد في الخبر الرضوي الشريف: «إنّ اللّه يبغض القيل والقال». فتعال معي لنحلّق في آفاق عرفانية مرّة اُخرى، ونعيش في سماء معالم سورة الحمد والبسملة، ونصغي إلى ما يقوله السيد الإمام الخميني (قدس سره) في كتابه القيّم (سرّ الصلاة) في الفصل السابع في القراءة (إشارة إجمالية إلى بعض أسرار سورة الحمد)، فقال:

إعلم أنّ أهل المعرفة يعتبرون (بسم اللّه) بسملة كلّ سورة متعلّقة بالسورة نفسها، وعليه يكون لبسملة كلّ سورة معنى غير ما لها للسورة الاُخرى، بل إنّ بسملة كلّ قائل تختلف عن غيرها في كلّ قول وفعل.

وتوضيح هذا المطلب على نحو الإجمال هو: إنّه قد ثبت ـ تحقيقياً ـ أنّ كلّ دار التحقّق من الغاية القصوى للعقول المهيمنة القادسة إلى منتهى النهاية لحذاء العالم الهيولاني والطبيعة، هو ظهور اسم اللّه الأعظم، ومظهر تجلّي المشيئة المطلقة وهي اُمّ الأسماء الفعلية كما قالوا: (ظهر الوجود ببسم اللّه الرحمن الرحيم)، فإذا لاحظنا كثرة المظاهر والتعيّنات، فإنّ كلّ اسم عبارة عن ظهور ذلك الفعل أو القول الذي يقع بعده.

والخطوة الاُولى لسير السالك إلى اللّه هو أن يفهم قلبه أنّ جميع التعيّنات ظاهرة باسم اللّه، بل إنّها جميعاً اسم اللّه، وفي هذه المشاهدة تختلف الأسماء وتتبع كلّ اسم وضيقه وإحاطته وعدم إحاطته، والمظهر والمرآة التي يظهر فيها.

واسم اللّه وإن كان مقدماً ـ بحسب أصل التحقّق ـ على المظاهر وهو مقوّمها وقيّومها، ولكنّه بحسب التعيّن متأخّراً عنها ـ كما هو مقرّر في محلّه ـ فإذا أسقط السالك الإضافات ورفض التعيّنات ووصل إلى بداية التوحيد الفعلي، تكون جميع السور والأقوال والأفعال (بسم اللّه) واحدة، ويكون للجميع معنىً واحد.


الصفحة 62
وبحسب الاعتبار الأوّل، ليس هناك اسم أكثر جامعية وإحاطة من (بسم اللّه) في سورة الحمد، كما يظهر من الحديث المشهور المنسوب إلى مولى الموالي، ذلك لأنّ متعلّقه أكثر إحاطة من سائر المتعلّقات، مثلما يقول أهل المعارف من أنّ (الحمد) إشارة إلى العوالم الغيبية العقلية، وهي صرف الحمد للّه ومحامده، ولسان حمدها لسان الذات; وأنّ (ربّ العالمين) إشارة إلى ظهور اسم اللّه في مرآة الطبيعة بما يناسب مقام الربوبية حيث رجع النقص إلى الكمال والملك إلى الملكوت، وهذا مختصّ بجوهر عالم الملك.

والرحمانية والرحيمية من صفات الربوبية، و (مالك يوم الدين) إشارة إلى الرجوع المطلق والقيامة الكبرى، فإذا طلع صبح الأزل، وتجلّى نور الظهور الأحدي لقلب العارف في طلوع شمس يوم القيامة، يحصل للسالك الحضور المطلق، فيصدع بالمخاطبة الحضورية في محفل الاُنس ومقام المقدس بـ (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين).

فإذا صحا من الجذبة الأحدية وحصل «الصحو بعد المحو» يطلب ـ عندها ـ مقام الهداية في هذا السير إلى اللّه له ولمرافقيه.

إذن، فسورة (الحمد) هي سلسلة الوجود بكاملها، عيناً وعلماً وتحقّقاً وسلوكاً ومحواً وصحواً وإرشاداً وهداية.

والإسم المظهر لها هو اسم اللّه الأعظم والمشيئة المطلقة «فهو مفتاح الكتاب ومختامه (مختمه) وفاتحته وختامه» مثلما أنّ اسم اللّه هو الظهور والبطون والمفتاح والمختم {اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأرْضِ}.

فتفسير هذه السورة على ذوق (مسلك) أهل المعرفة هو بهذه الصورة:

بظهور اسم (اللّه) وهو مقام المشيئة المطلقة. والإسم الإلهي الأعظم

الصفحة 63
والذي له مقام المشيئة الرحمانية ـ وهو بسط الوجود المطلق ـ والمشيئة الرحيمية ـ وهو بسط كمال الوجود (بظهور هذا الإسم) يكون «للّه» عالم الحمد المطلق وأصل المحامد ـ وهي من حضرة التعيّن الغيبي الأوّل إلى نهاية اُفق عالم المثال والبرزخ الأوّل ـ أي أنّه ثابت لمقام الاسم الجامع وهو (اللّه) وله مقام الربوبية وتربية العالمين وهو مقام السوائية وظهور الطبيعة.

ومقام الربوبية ظاهر بالرحمانية والرحيمية، والرحيمية هي الربوبية، حيث تبسط الفيض بالرحمانية في الموادّ المستعدّة، وتربّيها بظهور الرحيمية في المهد الهيولي وتوصلها إلى مقامها الخاصّ بها.

وذاك «مالك يوم الدين» الذي يقبض جميع ذرّات الوجود بقبضة المالكية، ويرجعها إلى مقام الغيب {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}(1)، وهذا هو تمام دائرة الوجود المذكور في {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} على نحو الإجمال، وفي «الحمد» بطريق التفصيل حيث هي خالصة للحقّ إلى {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} كما ورد في الحديث.

فإذا شاهد العبد السالك إلى اللّه بمرقاة «إقرأ وارقَ»(2)، والعارج بمعراج «الصلاة معراج المؤمن» رجوع جميع الموجودات وفناء دار التحقّق في الحقّ، وتجلّى له الحقّ بالوحدانية، يقول عندئذ بلسان فطرة التوحيد {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

ولأنّ نور فطرة الإنسان الكامل محيط بجميع الأنوار الجزئية; وعبادته وتوجّهه هو توجّه دار التحقّق يقول ذلك بصيغة الجمع «سبّحنا فسبّحت الملائكة،

____________

1- سورة الأعراف، الآية 29.

2- اُصول الكافي 4: 408، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، الحديث العاشر.


الصفحة 64
وقدّسنا فقدّست الملائكة، ولولانا ما سبّحت الملائكة»(1).

وإذا قدّم السالك نفسه وإنّيته وأنانيّته بصورة كاملة للذات المقدّسة، ومحا ومحق كلّ ما عدا الحقّ، تشمله الألطاف الأزلية لمقام الغيب الأحديّ بالفيض الأقدس، وترجعه إلى نفسه، فيحصل له الصحو بعد المحو والرجع إلى مملكة نفسه بالوجود الحقّاني.

ولكونه وقع في الكثرة، يصبح خائفاً من الفراق والنفاق، فيطلب لنفسه الهداية، وهي الهداية المطلقة (لأنّ سائر الموجودات هي من أوراق وأغصان الشجرة المباركة للإنسان الكامل) إلى صراط الإنسانية المستقيم ـ وهو السير إلى الإسم الجامع والرجوع إلى حضرة اسم اللّه الأعظم ـ الخارج عن حدّي الإفراط والتفريط (المغضوب عليهم) و (الضالّين)، أو أن يطلب الهداية إلى مقام البرزخيّة وهو مقام عدم غلبة الوحدة على الكثرة ولا الكثرة على الوحدة، وهو الحدّ الوسط بين الاحتجاب عن الوحدة بحجاب الكثرة وهي مرتبة (المغضوب عليهم) وبين الاحتجاب عن الكثرة بالوحدة، وهو مقام (الضالّين) والمتحيّرين في جلال الكبرياء.

وصل:

روي في التوحيد عن الرضا (عليه السلام) حين سُئل عن تفسير البسملة، أنّه قال: «معنى قول القائل (بسم اللّه) أي: أسِمُ على نفسي سمة من سمات اللّه وهي العبادة».

____________

1- عوالي اللآلي 4: 122، عيون أخبار الرضا 1: 262، بحار الأنوار 25: 1، كتاب الإمامة، روايات الباب الأوّل منه، أبواب خلقهم وطينتهم وأرواحهم.


الصفحة 65
قال الراوي: فقلت له: ما السمة؟! قال: «العلامة»(1).

ويظهر من هذا الحديث الشريف أنّ على السالك أن يتحقّق مقام اسم اللّه في العبادة، والتحقّق بهذا المقام هو حقيقة العبودية حيث الفناء في حضرة الربوبية.

وما دام (السالك) في حجاب الإنّية والأنانية، فهو ليس في لباس العبودية، بل هو مريد لنفسه، عابد لها، ومعبوده هو أهواؤه النفسانية {أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ}(2)، ونظره هو نظر إبليس اللعين الذي رأى نفسه وآدم (عليه السلام) في حجاب الأنانية، ففضّل نفسه عليه وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين}(3)، فطرد من الساحة القدسية لمقرّبي الحضرة.

فإذا جعل القائل (بسم اللّه) نفسه متّصفة بـ (سمة اللّه) و (علامة اللّه) ووصل هو نفسه إلى مقام الإسمية، وأصبح نظره نظر آدم (عليه السلام) الذي رأى عالم التحقّق ـ والذي كان هو نفسه خلاصة له ـ أنّه «اسم اللّه» {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها}(4)، ففي هذه الحالة تكون تسميته تسمية حقيقية، ويكون هو متحقّقاً بمقام العبادة (وهو مقام) التخلّي عن (الأنا) وعبادتها، والتعلّق بعزّ القدس والانقطاع إلى اللّه تحقيقاً لما ورد في ذيل حديث رزّام، عن الإمام جعفر الصادق، حيث يقول (عليه السلام): «يقطع علائق الاهتمام بغير من له قصد وإليه رفد ومنه استرفد... الخ».

فإذا تحقّق للسالك مقام الاسمية، رأى نفسه مستغرقاً في الاُلوهية

____________

1- التوحيد: 229، الباب 31، الحديث 1.

2- سورة الفرقان، الآية 43.

3- سورة الأعراف، الآية 12.

4- سورة البقرة، الآية 31.


الصفحة 66
«العبودية جوهرة كنهها الربوبية»(1)، ورأى نفسه اسم اللّه وعلامة اللّه وفانياً في اللّه، ورأى سائر الموجودات على هذه الحالة.

وإذا أصبح الوليّ كاملا أصبح متحقّقاً بالاسم المطلق ووصل إلى التحقّق بالعبودية المطلقة فصار عبداً حقيقياً للّه.

ويمكن أن يكون استخدام وصف (العبد) في الآية الكريمة {سُبْحانَ الذِّي أسْرى بِعَبْدِهِ}(2)، ناشئاً من كونه عروجاً ـ إلى معراج القرب واُفق القدس ومحفل الاُنس ـ (وذلك) بقدم العبودية والافتقار وإزاحة غبار (الإنّية) و (الأنا) والاستقلال.

(كما أنّ) الشهادة بالرسالة للنبيّ في التشهّد وبعد الشهادة بعبوديّته له (صلى الله عليه وآله)هي لكون العبودية مرقاة الرسالة.

والصلاة ـ هي معراج المؤمنين ومظهر معراج النبوّة ـ يكون البدء بها بعد رفع الحجب بـ (بسم اللّه) وذاك هو حقيقة العبودية (فسبحان الذي أسرى بنبيّه بمرقاة العبودية المطلقة) حيث جذبه (الحقّ) بقدم العبودية إلى اُفق الأحدية، وحرّره من مملكة الملك والملكوت، ومملكة الجبروت واللاهوت، وأصل سائر العباد ـ المستظلّين بظلّ ذلك النور الطاهر (النبيّ) ـ إلى معراج القرب بسمة من سمات اللّه وبمرقاة التحقّق باسم اللّه حيث إنّ باطن ذلك هو العبودية.

وإذا رأى السالك بقدر قدمه في السلوك أنّ دائرة الوجود هي اسم اللّه، أمكنه عندئذ أن يرد في فاتحة كتاب اللّه ويكون مفتاح كنز اللّه، وحينئذ يرجع

____________

1- مصباح الشريعة، الباب 100.

2- سورة الإسراء، الآية 1.


الصفحة 67
كلّ ثناء وكلّ المحامد إلى الحقّ بمقام الاسم الجامع، فلا يرى لأيّ من الموجودات فضلا ولا فضيلة، لأنّ إثبات فضيلة أو كمال لموجود ـ سوى الحقّ ـ يناقض رؤية «الإسمية».

وإذا قال: (بسم اللّه) على الحقيقة (بصدق)، أمكنه عندئذ أن يقول: (الحمد للّه) على الحقيقة (بصدق أيضاً).

أمّا إذا ظلّ محجوباً عن (مقام الإسم) وكان ـ مثل إبليس ـ في حجاب (الخلق) فلا يمكنه ـ والحال هذه ـ أن يُرجع المحامد للحقّ.

وما دام في حجاب الأنانية، فهو محجوب عن العبودية و (مقام) الإسمية، وما دام محروماً من هذا المقام، فلن يصل إلى مقام (الحامدية).

وإذا وصل إلى مقام (الحامدية) بقدم العبودية وحقيقة الإسمية، عرف حينئذ أنّ صفة الحامدية ثابتة للحقّ أيضاً، فيعتبر ويرى أنّ الحقّ هو الحامد وهو المحمود.

ولكنّه ما دام يرى نفسه الحامد، والحقّ هو المحمود، فليس هو حامد للحقّ، وإنّما حامد للحقّ والخلق، بل إنّه حامد لنفسه فقط، ومحجوب عن الحقّ وحمده.

وإذا وصل إلى مقام (الحامدية)، كان عندئذ قوله: (أنت كما أثنيت على نفسك)، فيخرج من حجاب (الحامدية) المقرون بالجدال، والملازم لإثبات (المحمودية)، وحينئذ تكون مقالة السالك في هذا المقام هي على هذا النحو (باسمه الحمد له، منه الحمد وله الحمد).

وهذه هي ثمرة التقرّب بالنوافل، وقد وردت إشارة إليها في الحديث (القدسي) الشريف: «فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه... الخ».

(ربّ العالمين) إذا كان (العالمون) هم صور الأسماء، وهي الأعيان الثابتة، فإنّ الربوبية تكون ذاتية، وتكون راجعة إلى مقام (الاُلوهية الذاتية) حيث اسم اللّه

الصفحة 68
الأعظم، وذلك لأنّ الأعيان الثابتة إنّما تحقّقت ـ بالتحقّق العلمي ـ من خلال التجلّي الذاتي في مقام (الواحدية) تبعاً للاسم الجامع المتعيّن بتجلّي الفيض الأقدس.

ومعنى الربوبية في ذلك المقام المقدّس هو: التجلّي بمقام الاُلوهية، وبهذا التجلّي يكون تعيّن جميع الأسماء، فتتعيّن أوّلا العين الثابتة للإنسان الكامل، ثمّ تكون الأعيان الاُخرى في ظلّه.

و (بـ) الرحمانية والرحيمية يكون إظهار هذه الأعيان من غيب الهوية إلى اُفق الشهادة المطلقة، و (بهما يكون) إيداع فطرة العشق والمحبّة للكمال المطلق في خميرة تلك الأعيان.

وبتلك الفطرة العشقية السابقة، وبتلك الجذبة القهرية المالكة التي تأخذ بناصيتها (الأعيان)، فتصل إلى مقام (الجزاء المطلق)، حيث الاستغراق في بحر كمال الواحدية {ألا إلى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُور}(1).

وبهذه الطريقة تكون الذات المقدّسة هي غاية آمال الموجودات ونهاية تحرّكها، ومنتهى مختلف أشكال اشتياقها ومرجعها، ومعشوقة الكائنات ومحبوبة العشّاق ومطلب المجذوبين، حتّى إنّهم وإن كانوا محجوبين عن هذا المطلوب، ويرون أنفسهم عبّاداً وعشّاقاً وطلاّباً ومجذوبين لاُمور اُخرى.

وهذا هو حجاب الفطرة الأكبر، الذي يجب على السالك إلى اللّه أن يخرقه بقدم معرفته، وما دام لم يصل إلى هذا المقام، فلا يحقّ له أن يقول: «إيّاك نعبد»، يعني (لا نطلب إلاّ إيّاك)، ولا نبحث عن سواك، ولا نريد غيرك، ولا نثني على سواك، ولا نستعين إلاّ بك في جميع الاُمور.

____________

1- سورة الشورى، الآية 53.


الصفحة 69
إنّنا جميعاً ـ سلسلة الموجودات وذرّات الكائنات، من أدنى مرتبة سفلية المادة، إلى أعلى مرتبة غيب الأعيان الثابتة ـ طلاّباً للحقّ وباحثون عنه (وكلّ منّا وفي كلّ مطلوب، إنّما يطلبه هو وإنّما يتأجّج عشقاً له مع أي محبوب {فِطْرَةَ اللّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}(1)، {يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ وَالأرْضِ}.

فإذا حصلت للسالك هذه المشاهدة، ورأى جميع كيانه وأجزائه الوجودية ـ من القوى الملكية إلى السرائر الغيبية ـ بل رأى جميع سلسلة الوجود، عاشقةً للحقّ طالبة له، وأظهر هذا العشق والمحبّة، عندها يستعين بالحقّ للوصول، ويطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو صراط ربّ الإنسان {إنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقِيم}(2)، وهذا هو صراط (المنعم عليهم) من الأنبياء الكمّل والصدّيقين، وهو عبارة عن (صراط) رجوع العين الثابتة إلى مقام اللّه والفناء فيه. وليس الفناء في الأسماء الاُخرى الواقعة في حدود القصور والتقصير، وينسب إلى الرسول الأكرم أنّه قال: «كان أخي موسى عينه اليمنى عمياء، وأخي عيسى عينه اليسرى عمياء، وأنا ذو العينين»، فالتكثّرات كانت غالبة على الوحدة لدى موسى (عليه السلام)، فيما الوحدة كانت غالبة على التكثّر لدى عيسى (عليه السلام)، أمّا الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله)، فلقد كان له مقام البرزخية الكبرى، وهو الحدّ الوسط والصراط المستقيم.

وإلى هنا، فإنّ تفسير السورة مستند إلى القول بأنّ (العالمين) هم حضرات الأعيان.

____________

1- سورة الروم، الآية 30.

2- سورة هود، الآية 54.


الصفحة 70
أمّا إذا كان (العالمون) هم حضرات الأسماء الذاتية، أو الأسماء الصفاتية، أو الأسماء الفعلية، أو العوالم المجرّدة، أو العوالم المادّية، أو كليهما أو جميعها، فإنّ تفسير السورة يختلف تبعاً لذلك عمّا تقدّم.

كما أنّه لو كان (اسم اللّه) في الآية الكريمة {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}غير مقام المشيئة، مقام آخر من (مقامات) الأسماء الذاتية وغيره من الأعيان الثابتة أو الأعيان الموجودة أو العوالم الغيبية أو الشهادتية أو الإنسان الكامل، فإنّ تفسير كامل السورة يختلف أيضاً، كما يختلف (تفسير الآية) أيضاً إذا كان (اللّه) هو (مقام) الاُلوهية الذاتية أو الظهورية، وفيما إذا كان (الرحمن الرحيم) في البسملة صفتين متعلّقتين بـ (اللّه) أو بالإسم، كما يظهر الكثير من الفروق (في تفسير الآية) إذا كانت (الباء) في البسملة هي للاستعانة عمّا إذا كانت للملابسة أو فيما إذا كانت متعلّقة بـ (ظهر) عمّا إذا كانت متعلّقة بالسورة نفسها أو أيّ من أجزائها.

كما إنّه سيختلف تفسير الآية بحسب مقامات القارئين من الوقوع في حجاب الكثرة أو غلبة الوحدة أو الصحو بعد المحو أو المقامات الاُخرى التي تقدّم ذكرها.

والإحاطة بجميع ذلك وبالتفسير الحقيقي للقرآن ـ وهو الكلام الإلهي الجامع ـ خارج عن وسع أمثال الكاتب «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»(1)، وما ذكر هو على سبيل الاحتمال واللّه الهادي.

____________

1- بحار الأنوار 46: 349، تأريخ الإمام محمد الباقر، الباب 20، الحديث 2.