الصفحة 30

من معالم سورة الحمد


سورة الحمد تسمّى بالسبع المثاني، قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ المَثانِيَ وَالقُرْآنَ العَظِيم}(1)، باعتبار آياتها سبعة مع البسملة، وأنّها نزلت مرّتين فهي مكّية نزلت عند وجوب الفريضة، ومدنية نزلت عند تحوّل القبلة من البيت المقدّس إلى الكعبة المشرّفة(2).

والروايات الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) في فضائلها وخواصّها أكثر منها في غيرها من السور القرآنية.

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كتابه (معاني الأخبار)، بإسناده، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): مَنَّ عليّ ربّي وقال لي: يا محمد، أرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود، ونصرتك بالرعب، وأحللت لك الغنيمة، وأعطيتك لك ولاُمّتك كنزاً من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): لو قرأت الحمد على ميّت سبعين مرّة ثمّ ردّت

____________

1- سورة الحجر، الآية 75.

2- تفسير البصائر 1: 11 و 25. وقد ثبت في الأخبار: أنّ السبع المثاني هي سورة الحمد، ومعنى المثاني: أنّها تثنى وتعاد في كلّ صلاة تقرأ فيها، وجاء في تفسير الكاشف (1: 31): اختلفوا في مكان نزولها فقيل: في مكة المكرمة، وقيل: بل في المدينة، وقال ثالث: نزلت مرّتين، في مكة أوّلا وفي المدينة ثانية تأكيداً لأهميتها ومبالغة في تشريفها، وأكثر المفسرين على أنّها نزلت في مكة. وهذا خلاف عقيم لا فائدة له، لأنّ هذه السورة الكريمة لا تحتوي على آية يختلف معناها باختلاف النزول.


الصفحة 31
الروح، ما كان عجباً.

وفي جامع الأخبار للشيخ الصدوق، بإسناده، عن رسول اللّه، أنّه قال: مَن قرأ فاتحة الكتاب اعطاه اللّه بعدد كلّ آية نزلت من السماء فيجزى بها ثوابها.

وروى البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى، قال: كنت اُصلّي، فدعاني النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فلم اُجبه، ثمّ قلت: يا رسول اللّه، إنّي كنت اُصلّي. قال: ألم يقل اللّه {اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلْرَسُولِ إذا دَعاكُمْ}(1)، ثمّ قال: ألا اُعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلمّا أردنا أن نخرج قلت: يا رسول اللّه، إنّك قلت: ألا اُعلّمك أعظم سورة في القرآن؟ قال: الحمد للّه ربّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي اُوتيته.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): اسم اللّه الأعظم مقطّع في اُمّ الكتاب.

فسورة الحمد تسمّى باُمّ الكتاب(2); لوجوه، أشهرها: إنّها جامعة لاُصول وأهداف القرآن الكريم ومقاصده المقدّسة، فتضمّ رؤوس المطالب والمعارف، والعرب يسمّون ما يجمع أشياء متعدّدة (اُمّاً)، كما يسمّون الجلدة الجامعة للدماغ

____________

1- سورة الأنفال، الآية 24.

2- لسورة الحمد أسماء بلغت (25) اسماً، أشهرها: 1 ـ الفاتحة; لأنّها أوّل سورة في كتابة المصاحف ولوجوب قراءتها في أوّل الصلاة. 2 ـ الحمد; لأنّه أوّل لفظها. 3 ـ اُمّ الكتاب واُمّ القرآن; لأنّها متقدمة على غيرها من السور ولو كتابة تقدّم الاُمّ على أبنائها، ولأنّها اشتملت على أصلين: ذكر الربوبية والعبودية، وعليهما ترتكز تعاليم القرآن. 4 ـ السبع المثاني; لأنّها سبع آيات وبقراءتها يثنى في الصلاة، أو لأنّها جمعت بين ذكر الربوبية والعبودية. ومهما يكن فإنّ التسمية تصحّ لأدنى شبه. (الكاشف 1: 32).


الصفحة 32
(اُمّ الرأس). ففي الفاتحة إجمال ما فصّل في الكتاب المجيد، فكان الكتاب نشأ من هذه السورة بالتفصيل بعد الاجمال، كما سمّيت مكة المكرمة باُمّ القرى; لأنّ الأرض دحيت منها.

كما إنّ الاُمّ بمعنى المقصود وما يقصده الإنسان، فأَمَّهُ أي: قَصَدَه. وفي هذه السورة مقصود الكتاب، وهي أوّل سورة يفتتح بها، فهي أصل الكتاب ومن ثمّ تضاف إليه، ويقال: فاتحة الكتاب.

فكلّ ما جاء في القرآن الكريم إنّما هو في سورة الحمد، فإنّها براعة استهلال رائعة للقرآن الكريم، فهي تحتوي على اُصول الدين وفروعه، فالحمد للّه: إنّما يدلّ على إثبات الصانع، وربّ العالمين: على صفاته. والرحمن الرحيم: على عدله، ومالك يوم الدين: على إثبات المعاد، والصراط المستقيم: على السعادة الدنيوية والاُخروية من الأعمال الصالحة والعبادات الصحيحة، وأنعمت عليهم: يدلّ على النبوّة والإمامة; فإنّ اللّه أنعم على الأنبياء والأولياء والشهداء والصالحين، وغير المغضوب عليهم ولا الضالّين: إنّما يدلاّن على المنحرفين وأصل الضلال والغضب والشقاوة في الدنيا والآخرة، وإشارة إلى قصص الأنبياء واُممهم السالفة.

ففي السورة تقرير الحمد للّه عزّ وجلّ وربوبيته للعالمين، فالإله الذي يؤمن به المسلمون إله واحد لا شريك له هو ربّ العالمين، ويجب عليهم حمده والثناء عليه، فإنّه الرحمن في الدنيا للمؤمن والكافر، فساواهما في الرزق والهداية والرحمة العامة، وجعل الإنسان مختاراً، فإمّا شاكراً وإمّا كفوراً، ثمّ خصّ رحمته بالمؤمنين الذين استجابوا للّه ولرسوله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُون}(1)، وفي

____________

1- سورة الأعراف، الآية 156.


الصفحة 33
السورة تعليم وتربية للإنسان أنّه إنّما يعبد اللّه وحده ويستعين به لا بغيره {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِين}، فقلب المؤمن يكون حرم اللّه وعرشه، فيدعو اللّه أن يهديه الطريق القويم والصراط المستقيم، وذلك صراط الذين أنعم اللّه عليهم من أنبيائه وأوليائه، كما يدعو أن يقيه عن الضلال وطريق المغضوب عليهم، فلكلّ واحد في الحياة طريقان: طريق الهداية وطريق الضلال، سبيل الحقّ وسبيل الباطل، طريق النور والجنّة، وطريق الظلمة والنار.

روى الشيخ الصدوق في (عيون الأخبار) و (علل الشرائع) بإسناده، عن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا (عليه السلام)، أنّه قال: فلِمَ اُمروا بالقراءة في الصلاة؟ لئلاّ يكون القرآن مهجوراً مضيّعاً، وليكون محفوظاً مدروساً، فلا يضمحلّ ولا يجهل. فإن قال: فلِمَ بدىء بالحمد في كلّ قراءة دون سائر السور؟ قيل: لأنّه ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد.

وذلك أنّ قوله: {الحَمْدُ لِلّهِ} إنّما هو أداء لما أوجب اللّه تعالى على خلقه من الشكر، وشكر لما وفّق عبده للخير.

{رَبِّ العالَمِين}; تمجيد له وتحميد وإقرار بأنّه هو الخالق المالك لا غيره.

{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}; استعطاف وذكر لآلائه ونعمائه على جميع خلقه.

{مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}; إقرار بالبعث والحساب والمجازاة وإيجاب له ملك الآخرة كما أوجب له ملك الدنيا.

{إيَّاكَ نَعْبُدُ}; رغبة وتقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ وإخلاص بالعمل له دون غيره.

{وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ}; استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم عليه

الصفحة 34
ونصره.

{إهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم}; استرشاد به واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة بربّه وبعظمته وبكبريائه.

{صِراطَ الذِّينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}; توكيد في السؤال والرغبة، وذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه، ورغبة في مثل تلك النِعَم.

{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}; استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفّين به وبأمره ونهيه.

{وَلا الضَّالِّينَ}; اعتصام من أن يكون من الضالّين الذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. فقد اجتمع فيه من جوامع الخير والحكمة في أمر الآخرة والدنيا ما لا يجمعه شيء من الأشياء.

وروى شيخنا الصدوق عليه الرحمة في (عيون الأخبار) و (الأمالي)، بإسناده، عن يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): قال اللّه تبارك وتعالى: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقّ عليّ أن اُتمّم له اُموره واُبارك له في أحواله. فإذا قال: {الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمِين}، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي وعلم أنّ النعمة التي له من عندي وأنّ البلايا التي إن دفعت عنه فبسطوتي، اُشهدكم أنّي اُضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة، وأرفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، فإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، قال اللّه جلّ

الصفحة 35
جلاله: شهد لي بأنّي الرحمن الرحيم، اُشهدكم لاُوفّرنّ من رحمتي حظّه، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال: {مالِكِ يَوْمِ الدِّين}، قال اللّه عزّ وجلّ: اُشهدكم كما اعترف أنّي أنا مالك يوم الدين، لاُسهلن يوم الحساب حسابه، ولأتقبّلن حسناته ولأتجاوزنّ عن سيّئاته. فإذا قال: {إيَّاكَ نَعْبُدُ}، قال اللّه عزّ وجلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد، اُشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ مَن خالفه في عبادته. فإذا قال: {وَإيَّاكَ نَسْتَعِين}، قال اللّه عزّ وجلّ: بي استعان والتجأ، اُشهدكم لاُعيننّه على أمره، ولأغيثنّه في شدائده، ولآخذنّ بيده يوم نوائبه. فإذا قال: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم} إلى آخر السورة، قال اللّه جلّ جلاله، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي وأعطينه ما أمل وآمنته ممّا منه وجل.

عزيزي القارىء: ليست هذه المقامات لكلّ من يقرأ الحمد حتّى ولو كان فاسد العقيدة، بل بشرطها وشروطها، ومن أهمّ شرائطها كما يدلّ عليه الخبر الشريف نفسه، أن يكون العبد عبد اللّه، لا عبد الهوى والنفس، {أفَمَنْ اتَّخَذَ إلـهَهُ هَواهُ}، وعبد الدنيا والدينار والجاه والمقام، ويطيع الطواغيت والجبابرة والظالمين، فليس لمثل هذا الذي يتولّى عدوّ اللّه وأئمة الضلال إلاّ النار، حتى ولو قرأ الحمد ليل نهار.

فعلينا أن نقرأ الحمد بإيمان كامل وعقيدة صحيحة وعمل صالح وعلم نافع، فإنّ في الحمد كلّ المعارف القرآنية، فإنّه على عظمته وشموخه في معارفه السامية وما يتفرّع عليها من الفروع والأحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والأخلاق والآداب والسنن، ومن الوعد والوعيد والقصص والحكم والأمثال وغير ذلك، كلّها ترجع إلى اُصولها الثلاثة: التوحيد والمعاد والنبوّة وما يتعلّق بها،

الصفحة 36
وإلى هداية الناس إلى ما فيه الخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وهذه السورة المقدّسة على اختصارها وقلّة كلماتها تحتوي على جميعها في أوجز لفظ وأوضح معنى، والغرض الأساس من الوحي والدين هو حفظ اُصوله، ثمّ فروعه ومعارفه.

وأوّل المعرفة وأوّل العلم معرفة اللّه جلّ جلاله، وتوحيده في الذات والصفات والأفعال، ثمّ المعرفة بصفاته وأفعاله، ثمّ معرفة يوم الدين، يوم جزاء المؤمن على طاعته والكافر على معصيته وكفره، وأنّ اللّه مالك ذلك اليوم وإليه الحساب، ومَن عرف المعاد صلح في عمله، فإنّ معرفة المعاد والإيمان به تحثّ المكلّف على الطاعة والعمل الصالح، وأفضل الأعمال العبادة، فهي فلسفة الحياة، وسرّ الخليقة، وإنّما يستحقّ العبادة ربّ العالمين; {إيَّاكَ نَعْبُدُ}، ولا تكون إلاّ إذا وثق العبد بربّه وتوكّل عليه واستعان به; {وَإيَّاكَ نَسْتَعِين}، إنّما تنقاد النفس إلى الطاعة بلطف من اللّه وعنايته فندعو اللّه; {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيم}، صراط محمد وآله، فيحتاج الإنسان إلى من يبيّن هذا الصراط، فلا بدّ من النبوّة والإمامة، وأشار بقوله: {صِراطَ الذِّينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وأنّ الناس في المعرفة باللّه والإيمان والعمل على طوائف ثلاثة: فمنهم: مَن وصل إلى ساحل المعرفة وعصر النور الذي يسعى بين أيديهم، فاستغرقوا في الطاعة والعمل، ومنهم: مَن عاند واستخفّ بأوامر اللّه ونواهيه وأعرض عن المعرفة، فغضب اللّه عليه، ومنهم: من تاه في الجهالة وبقي حيران في وادي الظلمات وظلّ الطريق. فالطائفة الاُولى: الذين أنعم اللّه عليهم، والثانية: المغضوب عليهم، والثالثة: الضالّين، كما كانت هذه الطوائف في الاُمم السالفة.

فهذه السورة الشريفة تحتوي رموزاً لكلّ ما جاء في القرآن الكريم من

الصفحة 37
المعارف والعلوم، ويجب على كلّ مسلم مكلّف في كلّ يوم وليلة أن يتلوها عشر مرّات في أهمّ أركان دينه وعموده، وهي الصلاة، ليعرف اُصوله وفروعه وحقائقه، ويعرف طريق الهدى والصراط المستقيم، ليهتدي ويسعد في الدارين، كما يعرف طريق الضلال والغضب ليتجنّبه وينجو من الشقاء والنار والخزي في الدنيا والآخرة.

«ومَن تتبّع آي الذكر الحكيم، وتدبّر معانيها، يجد وراءها مقسماً مشتركاً وإطاراً عاماً يربط بين جميع قواعده ومبادئه وسوره وآياته، وهذا الرابط هو الدعوة إلى أن يحيا الناس ـ كلّ الناس ـ حياة طيّبة يسودها الأمن والعدل ويغمرها الخصب والسلام: {يا أيُّها الذِّينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلْرَسُولِ إذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ}(1)»(2).

ومن فضائل سورة الحمد: ما قاله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب، اُعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن، واُعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كلّ مؤمن ومؤمنة»(3).

وعن جابر بن عبد اللّه، عنه (عليه السلام)، قال: «هي شفاء من كلّ داء إلاّ السامّ، والسامّ الموت»(4).

____________

1- سورة الأنفال، الآية 23.

2- تفسير الكاشف 1: 10.

3- جامع الجوامع 1: 15.

4- جامع الجوامع 1: 15.


الصفحة 38
وهناك روايات كثيرة في بيان فضائل سورة الحمد، كما أنّ الحديث حولها في علم التفسير والحديث واستخراج المعارف منها لكثير جداً، لم نطرق أبوابها طلباً للاختصار، وإنّ المقصود بيان نقطة باء البسملة، فتدبّر.


الصفحة 39

من معالم البسملة


لقد وردت في أخبارنا المروية عن النبي الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) أنّه: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، كما أنّ البسملة من الفاتحة، هذا ما اتّفق عليه المسلمون.

روى الصدوق، بإسناده، في أماليه والعيون، عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات، تمامها ببسم اللّه الرحمن الرحيم، سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ اللّه عزّ وجلّ قال لي: يا محمد {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ المَثانِيَ وَالقُرْآنَ العَظِيم}، فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإنّ اللّه عزّ وجلّ خصّ محمداً وشرّفه بها، ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان، فإنّه أعطاه منها بسم اللّه الرحمن الرحيم، ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت: {إنِّي اُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إنَّهُ مِنْ سُلَيْمان وَإنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ألا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله الطيبين، منقاداً لأمرهما، مؤمناً بظاهرهما وباطنهما، أعطاه اللّه عزّ وجلّ بكلّ حرف منها حسنة، كلّ واحدة منها أفضل له من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارىء يقرأها كان له قدر ثلث ما للقارىء، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فإنّه غنيمة لا يذهبنّ أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة».

وروى القمّي في تفسيره، عن ابن اُذينة، قال: قال أبو عبد اللّه الإمام الصادق (عليه السلام): بسم اللّه الرحمن الرحيم، أحقّ ما أجهر به، وهي الآية التي قال

الصفحة 40
اللّه عزّ وجلّ: {وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُوراً}(1).

وقد أفتى الفقهاء باستحباب الجهر بالبسملة في الصلاة الاخفاتية ووجوبه في الجهرية، وقيل بوجوبه مطلقاً، والجهر بها في غيرها، وفيها: من علامات المؤمن، كما ورد في الخبر الشريف.

فالبسملة جزء من فاتحة الكتاب، هذا ما اتّفق عليه أهل القبلة، وأمّا في غيرها من السور إلاّ سورة البرائة فإنّها عند الشيعة الإمامية جزء من كلّ سورة، كما ورد في الروايات. وقال الشيخ الطوسي في تفسيره (التبيان): «عندنا بسم اللّه آية من الحمد ومن كلّ سورة». وقال الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان): «اتّفق أصحابنا أنّها آية من سورة الحمد ومن كلّ سورة، وإنّ من تركها في الصلاة بطلت صلاته، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلا، وأنّه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، ويستحبّ الجهر فيما يخافت فيه بالقراءة».

روى العياشي في تفسيره، عن علي (عليه السلام) أنّه بلغه أنّ اُناساً ينزعون بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال: هي آية من كتاب اللّه أنساهم إيّاها الشيطان.

وبإسناده، عن أبي جعفر الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: سرقوا أكرم آية في كتاب اللّه: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.

فأبناء العامة لا يقرأون البسملة في حمدهم في الصلاة، على أنّهم يقرأونها بنيّة الدعاء، زاعمين أنّها تشتمل على ذلك، وبعضهم يخفت فيها.

ثمّ في معنى باء البسملة، أقوال:

1 ـ للاستعانة، كما هو المشهور، أي: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} أقرأ أو أكتب

____________

1- سورة الإسراء، الآية 46.


الصفحة 41
وأعمل واُريد وأقول وغير ذلك من الاُمور مستعيناً به عزّ وجلّ. وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): {بِسْمِ اللّهِ} أي: أستعين على اُموري كلّها باللّه.

2 ـ للإلصاق، على أنّ المقصود من العلوم كلّها هو وصول العبد إلى ربّه، وأنّ العلوم في القرآن الكريم، وما في القرآن إنّما هو في الفاتحة، وعلومها مندرجة في البسملة، وما فيها في بائها، فالعبد بها يصل إلى ربّه، وهو نهاية المنى.

3 ـ للمصاحبة والملابسة، أي كلّ ما أفعله إنّما هو ملابساً بسم اللّه الرحمن الرحيم.

وفي لفظ الجلالة (اللّه) أقوال:

1 ـ إنّه ليس بمشتقّ، وإنّما هو اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال، وهو المشهور، وقد مرّ علينا بعض التحقيق في هذا الباب.

2 ـ عن ابن عباس: هو الذي يألهه كلّ شيء، ويعبده كلّ خلق، وهو ذو الاُلوهية والمعبودية على الخلق أجمعين، بناءً على اشتقاقه من أله بمعنى: عبد.

3 ـ عن المبرّد: إنّه مشتقّ من أله بمعنى: سكن، فإنّ النفوس لا تسكن إلاّ إليه، وإنّ العقول لا تقف إلاّ لديه، ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب.

4 ـ إنّه مشتقّ من وله، وهو ذهاب العقل وتحيّره في كنه ذاته وجلاله وعظمته.

5 ـ إنّه مشتقّ من لاه بمعنى: ارتفع; لأنّه جلّ وعلا ارتفع عن مشابهة كلّ شيء سواه.

6 ـ إنّه مشتقّ من لاه بمعنى: احتجب; لأنّه تعالى بكنه صمديته محتجب عن العقول لكمال ظهوره.

7 ـ إنّه مشتقّ من أله الفصيل إذا ولع باُمّه; فإنّ العباد إذا مسّهم الضرّ

الصفحة 42
مولعون منيبون بالتضرّع إليه، وهناك أقوال اُخرى بعيدة(1)، وذكرنا ما قاله العلاّمة الطباطبائي في تفسيره حول الاسم واسم الجلالة والرحمن الرحيم، وفيهما أقوال اُخرى لم نتعرّض لها طلباً للاختصار.

واعلم أنّ البسملة من كلمات اللّه المقدّسة وأذكاره الروحانية التي لها آثار وخواصّ في تربية النفوس البشرية من التزكية والفلاح والصلاح، ويطرد بها الشيطان الرجيم والنفاق، وإنّ اسم اللّه الأعظم أقرب إليها من سواد العين إلى بياضها، فهي شعار المسلمين وكلمة المعتصمين ومقالة المتحرّزين، يستفتحون بها أقوالهم وأعمالهم ويتبرّكون بها في سائر أفعالهم، وإنّها من سنّة الأنبياء ولا سيما خاتم المرسلين والنبيّين محمد (صلى الله عليه وآله)، بها تفتح سور القرآن، وتكون الأعمال مباركة لو قرنت بالبسملة، بل لو لم يذكر اسم اللّه على الذبيحة فإنّها تكون ميتة ويحرم أكلها، فما لم يذكر عليه اسم اللّه يكون بحكم الميتة يضرّ الروح والجسد، وعند أهل المعرفة وأولياء اللّه كلّ شيء لم يذكر عليه اسم اللّه، فإنّه يضرّ بالروح ويكون لها بحكم الميتة، والإمام السجّاد يستغفر اللّه من كلّ لذّة ليس فيها اسم اللّه {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}(2).

فنستعين عند افتتاح كلّ أمر صغير أو كبير باللّه الذي وسعت رحمته كلّ شيء، حتّى الكافر في الدنيا، وخصّت رحمته بالمؤمنين المتّقين المحسنين في الدنيا والآخرة.

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): إنّ اللّه منّ عليّ بفاتحة الكتاب من كنز الجنّة فيها:

____________

1- تفسير البصائر 1: 119.

2- سورة الأعلى، الآية 14 ـ 15.


الصفحة 43
{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، الآية التي يقول فيها: {وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُوراً}.

وفي توحيد الشيخ الصدوق، بإسناده، عن الحسن بن محمد (عليه السلام)، في قول اللّه عزّ وجلّ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، فقال: اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ مَن دونه وتقطّع الأسباب عن جميع ما سواه، يقول: بسم اللّه أي أستعين على اُموري كلّها باللّه الذي لا يحقّ العبادة إلاّ له المغيث إذا استُغيث، المجيب إذا دُعي.

قام رجل إلى عليّ بن الحسين (عليه السلام)، فقال: أخبرني ما معنى {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}؟ فقال الإمام علي بن الحسين: حدّثني أبي، عن أخيه الحسن، عن أبيه أمير المؤمين (عليه السلام) أنّ رجلا قام إليه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ما معناه؟ فقال: إنّ قولك (اللّه) أعظم اسم من أسماء اللّه عزّ وجلّ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، ولم يتسمّ به مخلوق، فقال الرجل: فما تفسير قوله (اللّه)؟ فقال: هو الذي يتألّه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع مَن دونه وتقطّع الأسباب من كلّ ما سواه. وذلك أنّ كلّ مترأّس في هذه الدنيا ومتعظّم فيها، وإن عظم غناؤه وطغيانه وكثرت حوائج مَن دونه إليه، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم، وكذلك هذا المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى اللّه عند ضرورته وفاقته، حتّى إذا كفى همّه عاد إلى شركه. أما تسمع اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ أرَأيْتَكُمْ إنْ أتاكُمْ عَذابُ اللّهِ أو أتَتْكُمُ السَّاعَةُ أغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ وَتَنْسُونَ ما تُشْرِكُونَ}، فقال اللّه جلّ جلاله لعباده: أيّها الفقراء إلى رحمتي، إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كلّ حال، وذلّة العبودية في كلّ وقت، فإليّ فافزعوا

الصفحة 44
في كلّ أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فإنّي إن أردت أن اُعطيكم لم يقدر غيري على منعكم، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحقّ مَن سئل، وأولى مَن تضرّع إليه. فقولوا عند افتتاح كلّ أمر صغير أو عظيم: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، أي أستعين على هذا الأمر باللّه الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث: إذا استغيث، المجيب: إذا دُعي، الرحمن: الذي يرحم، يبسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، وخفّف علينا الدين، وجعله سهلا خفيفاً، وهو يرحمنا.

ثمّ وردت روايات كثيرة تدلّ على فضل البسملة وعظمتها عند اللّه وآثارها في الدنيا والآخرة، فروى شيخنا الصدوق عليه الرحمة في عيون الأخبار بإسناده، عن محمد بن سنان، عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من سواد العين إلى بياضها.

وعن ابن مسعود، عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، من أراد أن ينجيه من الزبانية فليقرأ: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} تسعة عشر حرفاً ليجعل اللّه كلّ حرف منها جُنّة من واحد منها.

في الكافي، بسنده، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: أوّل كتاب نزل من السماء {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، فإذا قرأت {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}فلا تبالي أن لا تستعيذ، وإذا قرأت {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} سترتك فيما بين السماوات والأرض(1).

وأيضاً بسنده، عن جميل بن درّاج، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): لا تدع

____________

1- تفسير نور الثقلين 1: 6.