الصفحة 110
فيجب عند الذبح والنحر ذكر اللّه وبسم اللّه، وإلاّ فتكون الذبيحة ميتة ويحرم أكلها، قال أمير المؤمنين: «أنا النقطة»، فحلّية الذبيحة تحتاج إلى البسملة التي نقطتها علي المرتضى (عليه السلام)، وقد أفتى بعض الأعلام المعاصرين بعدم كفاية ذبيحة المخالف في الهدي في منى.

الواحد والعشرون : ـ

يجب الجهر بالبسملة في الصلوات الجهرية كالصبح، ويستحبّ في الاخفاتية كالظهرين(1)، ونقطة الباء أمير المؤمنين علي المرتضى،

____________

1- جاء في مجد البيان في تفسير القرآن: 259: عن القمي عن الصادق (عليه السلام)، أنّها: أحقّ ما يجهر به ـ بالبسملة ـ، وهي الآية التي قال اللّه عزّ وجلّ: (وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُوراً)، ولعلّ الوجه في رجحان الإجهار به كما في غيره من الأخبار أيضاً هو أنّ الإجهار نوع من الإظهار، وإظهار التحقّق بمقام البسملة في عالم الملك الإنساني والكبير موجب لظهور فيوضاتها وبركاتها ودفع الشياطين فيما ظهرت فيها، وفي كونه ذكراً للربّ وحده واشتمال مدلولها على كثير من معاني التوحيد كما يظهر ممّا أسلفناه، وفي تنفّرهم عنه وتولّيهم على أدبارهم نفرتهم عن التوحيد وإعراضهم عن هذه الأسماء والتحقّق بها والتخلّق بموجبها، وعمّن كان شأنه وصفته ذلك، كما أنّه يبعد بسبب قرائتها على وجه الحقيقة وأشباههم الداخلية في عالم القلب الإنساني.

والعياشي، عنه (عليه السلام)، قال: «ما لهم قاتلهم اللّه، عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها»، والظاهر أنّها تعريض بالعامة، المنكر ثلّة منهم لكونها جزءاً من السورة، وبعض للجهر بها في الصلاة، كما أنّ المنكرين للجزئية هم المراءون بما رواه عن الباقر (عليه السلام): «سرقوا أكرم آية في كتاب اللّه: بسم اللّه الرحمن الرحيم»، والوجه في كون البسملة أكرم آية وأعظم آية، يظهر ممّا قدّمناه وفصّلناه في تفسيرها، وممّا يأتي ـ إن شاء اللّه تعالى ـ.

=>


الصفحة 111

____________

<=

وروى البرقي في المحاسن، عن الصادق، أنّه قال: «ما نزل كتاب من السماء إلاّ وأوّله بسم اللّه الرحمن الرحيم».

وروى الشيخ الطوسي في الصحيح على الظاهر، عن محمد بن مسلم، أنّه قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم، أهي الفاتحة؟ قال: نعم، قلت: بسم اللّه الرحمن الرحيم من السبع المثاني؟ قال: هي أفضلهنّ».

وعن الكافي، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، أنّه قال: كتموا بسم اللّه الرحمن الرحيم، فنعم واللّه الأسماء كتموها، كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إذا دخل منزله واجتمعت عليه قريش يجهر بسم اللّه الرحمن الرحيم ويرفع بها صوته فتولّي قريش فراراً، فأنزل اللّه في ذلك: (وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُوراً).

وروى الشيخ عن أبي حمزة، أنّه قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «يا ثمالي، إنّ الصلاة إذا اُقيمت جاء الشيطان إلى قرين الإمام، فيقول: هل ذكر ربّه؟ فإن قال نعم، ذهب، وإن قال لا، ركب على كتفيه، فكان إمام القوم حتّى ينصرفوا. قال: فقلت: جعلت فداك، أليس يقرأون القرآن؟ قال: بلى، ليس حيث تذهب يا ثمالي، إنّما هو الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم».

وإنّما جعل البسملة في أوّل السورة لما روى الصدوق في العلل والكليني في الكافي بأسانيد معتبرة عن جماعة من أجلاّء أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) في ذكر صلاة ليلة المعراج بطوله:

«ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ قال: يا محمد، استقبل الحجر الأسود وهو بحيالي، وكبّرني بعدد حجبي، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعاً، لأنّ الحجب سبع، وافتتح القراءة عند انقطاع الحجب، فمن أجل ذلك صار الافتتاح سنّة، والحجب مطابقة ثلاثاً بعدد النور

=>


الصفحة 112
فمن الإيمان الكامل الجهر بمحبّته وولايته، وقد قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): «علائم المؤمن خمس: التختّم باليمين، وتعفير الجبين، وزيارة الأربعين، والصلاة إحدى وخمسين، والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم».

فكان التختّم باليمين في عصرهم من علائم التشيّع والإيمان الكامل، مخالفة لأصحاب معاوية وشيعته، الذين كان شعارهم التختّم باليسار إحياءً لقضية التحكيم في حرب صفّين، حيث خلع عمرو بن العاص حيلةً ومكراً أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)، ثمّ أخرج خاتمه من يمينه وجعله في يساره، وقال: خلعت علياً ونصبت معاوية للخلافة، كجعل الخاتم من يميني بيساري.

فصار التختّم باليسار شعار الأمويين، كما صار التختّم باليمين شعار العلويين.

وقال اللّه سبحانه: {قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةُ في القُرْبى}، والمودّة غير المحبّة، فإنّها المحبّة مع إظهارها وإعلانها والفداء دونها مالا ونفساً.

إلاّ أنّ المخالفين لعنهم اللّه، كما ورد في الخبر، سرقوا آية من كتاب اللّه أو أخفوها، فالمؤمن يجهر بالبسملة ونقطتها ويضحّي من أجل ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كميثم التمّار ورشيد الهجري وحجر وعمّار بن ياسر، واللعن الدائم

____________

<=

الذي اُنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرّات، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرات، فلأجل ذلك كان التكبير سبعاً والافتتاح ثلاثاً. فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح قال اللّه عزّ وجلّ: الآن وصلت إليّ، فسمّ باسمي، فقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فمن أجل ذلك جعل بسم اللّه الرحمن الرحيم في أوّل السورة... إلى آخر الحديث».

وهو مشتمل على معان تكلّ العقول عن إدراكها إلاّ قليلا، ومنها نشير إلى نبذة تتعلّق بهذه السورة في خلال التفسير بما يخطر تصوّره بالبال، واللّه العالم بحقيقة الحال، فيذكر بعض المطالب العرفانية الرفيعة، فراجع.


الصفحة 113
على من حذف النقطة من تحت الباء.

ومهما أراد الأعداء أن يكتموا فضائله (عليه السلام)، فإنّه لا يزال يرنّ صوت محمد ابن إدريس إمام الشافعية في مقولته المشهورة: «عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسداً وكتمها محبّوه خوفاً، وخرج ما بين ذين ما طبّق الخافقين»(1).

وأنشدنا الشيخ أبو بكر بن فضل اللّه الحلبي الواعظ لبعضهم:


يـا حبّذا دوحـة في الخلد ثابتةمـا فـي الجنان لها شبه من الشجر
المصطفى أصلها والفرع فاطمةثـمّ اللـقـاح عـلــي سيد البشر
والـهاشـمـيان سبطاها لهاشموالـشـيـعـة الورق الملتفّ بالثمر
هـذا حديث رسول اللّه جاء بهأهـل الروايـة في العالي من الخبر
إنّـي بـحبّهم أرجو النجاة غداًوالفوز مع زمرة من أحسن الزمر(2)

وروى القندوزي من أبناء العامة، بإسناده، عن علي (عليه السلام)، قال: إنّي لنائم يوماً إذ دخل رسول اللّه فنظر إليّ وحرّكني برجله، وقال: قم يفدى بك أبي واُمّي، إنّ جبرئيل أتاني فقال لي: بشّر هذا بأنّ اللّه تعالى جعل الأئمة من صلبه، وأنّ اللّه تعالى يغفر له ولذريّته ولشيعته ولمحبّيه، وإنّ من طعن عليه وبخس حقّه فهو في النار(3).

وروى الخوارزمي، بإسناده، عن أنس، قال: قال رسول اللّه: خلق اللّه تعالى من نور وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام) سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبّيه

____________

1- علي في الكتاب والسنّة 3: 26.

2- قادتنا كيف نعرفهم 2: 430، عن كفاية الطالب: 425.

3- المصدر.


الصفحة 114
يوم القيامة(1).

وروى السخاوي، بإسناده، أنّ رسول اللّه قال لعلي: أنت وشيعتك تردون عليّ الحوض رواءً مرويين مبيضّة وجوهكم، وإنّ عدوّكم يردون عليّ ضماءً مقمحين(2).

قال ابن حجر: أخرج مسلم، عن علي، قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنّه لعهد النبي الاُمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق. وقال: وأخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنّا نعرف المنافقين ببغضهم علياً(3).

وروى، بإسناده، عن ابن عمر، قال: سألت النبي عن علي بن أبي طالب كرّم اللّه تعالى وجهه، فغضب فقال: ما بال أقوام يذكرون من له منزلة كمنزلتي، ألا مَن أحبّ علياً فقد أحبّني، ومن أحبّني رضي اللّه تعالى عنه، ومن رضي اللّه عنه كافاه بالجنّة. ألا من أحبّ علياً يقبل صلاته وصيامه وقيامه واستجاب اللّه له دعاه، ألا ومَن أحبّ علياً استغفر له الملائكة وفتحت له أبواب الجنان، فدخل من أي باب شاء بغير حساب، ألا ومَن أحبّ علياً لا يخرج من الدنيا حتّى يشرب من الكوثر ويأكل من شجرة طوبى ويرى مكانه في الجنّة، ألا ومَن أحبّ علياً هوّن اللّه عليه تبارك وتعالى سكرات الموت وجعل قبره روضة من رياض الجنّة...

____________

1- المصدر.

2- المصدر.

3- المصدر 1: 263.


الصفحة 115
وهناك المئات من الأحاديث الشريفة الواردة في حبّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مصنّفات السنّة فضلا عن كتب الشيعة. فاعتبروا يا اُولي الأبصار، ولمثل هذا يضحّون أمثال ميثم التمّار وحجر بن عدي وشهداء الفضيلة على مرّ التأريخ، أرواحهم الزكية فداءً لمحبّة وعشق أمير المؤمنين أسد اللّه الغالب مولانا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهنيئاً لهم الشهادة المباركة ورزقنا اللّه ذلك وحشرنا في زمرتهم، آمين يا ربّ العالمين.

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لو أنّ عبداً عبد اللّه مثل ما قام نوح (عليه السلام) في قومه وكان له مثل جبل اُحد ذهباً فأنفقه في سبيل اللّه ومدّ في عمره حتّى حجّ ألف حجّة على قدميه، ثمّ قتل مظلوماً، ثمّ لم يوالِكَ يا علي، لم يشمّ رائحة الجنّة(1).

وقال (صلى الله عليه وآله): حبّ علي (عليه السلام) يأكل السيّئات كما تأكل النار الحطب.

وروى أبو عبد اللّه الحسين بن جبير في كتاب نخب المناقب لآل أبي طالب حديثاً مسنداً إلى الرضا (عليه السلام)، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى فليتمسّك بحبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وروى الصدوق، بإسناده، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر، عن أبيه علي، عن أبيه الحسين (عليه السلام)، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): حبّي وحبّ علي بن أبي طالب وحبّ أهل بيتي نافع في ستّة مواطن أهوالهنّ عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الميزان، وعند الصراط(2).

____________

1- بحر المعارف: 299.

2- المصدر: 398.


الصفحة 116

الثاني والعشرون : ـ

جاء في بحر المعارف، حينما يتحدّث المصنّف عن فضائل أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين ويعسوب الدين وقائد الغرّ المحجّلين مولانا أسد اللّه الغالب والشهاب الثاقب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال ما هذا لفظه: «وما علمنا من سرّ عظمته إلاّ نقطة هي الباب الدالّ على الجناب، وليس بينهما وبين اللّه من حجاب، فهي السرّ والحجاب، فعليّ صفة اللّه وقدرة اللّه وكلمة اللّه واسم اللّه العظيم، وإنّ ثقل قدرة اللّه وتحمّلها وتحمّل ثقل السماوات صحفاً والجنّ والإنس كتّاباً لنفذ المداد، والأرضين السبع وجبرئيل وغيره قد خلقوا من شعاع نور محمد وعلي، وهما خلقا من نور ذي الجلال. ولهذا قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لو كانت البحار مداداً والغياض أقلاماً والسماوات صحفاً والجنّ والإنس كتّاباً لنفد المداد وكلّت الثقلان أن يكتبوا معشار عشر فضائل عليّ. ويشهد للنبيّ كتاب الربّ العليّ، قال: {لَوْ كانَ البَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفَدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَد كِلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مِداداً}، وقد تقدّمت الأخبار أنّ أكبر كلمات اللّه وأعظمها علي (عليه السلام)، وأنّه آية اللّه العظمى، فله الفضائل والمناقب التي لا تحصى، فكيف يعرفه البرايا، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «يا علي، ما عرفك إلاّ اللّه وأنا، وما عرفني إلاّ اللّه وأنت، وما عرف اللّه إلاّ أنا وأنت»، فكيف يكون مثل الناس وهم يدّعون معرفته، وقد روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام): «مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه»، ومعرفة النفس هو أن يعرف الإنسان مبدأه ومنتهاه، من أين وفي أين وإلى أين؟ وذلك موقوف على معرفة الحقيقة التي هي الوجود المقيّد، وهو معرفة الفيض الأوّل الذي فاض عن حضرة ذي الجلال، ثمّ فاض عنه الوجود بأمر واجب الوجود وفيض الجود، وذلك هو النقطة الواحدة التي هي مبدأ الكائنات ونهاية الموجودات وروح الأرواح ونور الأشباح، وهو أوّل العدد وسرّ الواحد الأحد، وذلك لأنّ ذات اللّه غير معلومة للبشر،

الصفحة 117
فمعرفته بصفاته، والنقطة هي صفة اللّه، والصفة تدلّ على الموصوف، لأنّ بظهورها عرف اللّه، وهي لألاء النور الذي شعشع عن جلال الأحدية في سماء الحضرة المحمدية، وإليه الإشارة بقوله: «لولانا ما عرف اللّه، ولولا اللّه ما عرفنا»، فهو النور الذي أشرقت منه الأنوار، والواحد الذي ظهرت عنه الأحاد، والسرّ الذي نشأت عنه الأسرار، والعقل الذي فاضت منه العقول، والنفس الذي صدرت عنه النفوس، واللوح الحاوي لأسرار الغيوب، والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، والعرش العظيم المحيط لكلّ شيء عظمة وعلماً، والعين التي ظهر عنها كلّ عين، والحقيقة التي يشهد لها بالبدء كلّ موجود، كما شهدت هي بالأحدية لواجب الوجود، فتاه عرفان العارفين عن الوصول إلى محمد وعلي (عليهما السلام) بحقيقة معرفتهم، أو بمعرفة حقيقتهم، لكنّ ذلك الباب مستور بحجاب، وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا، وإليه الإشارة بقولهم (عليهم السلام): «إنّ الذي خرج إلى الملائكة المقرّبين من معرفة آل محمد (صلى الله عليه وآله) قليل من الكثير»، فكيف إلى عالم البشرية. ومن هذا المقام عنوا بقولهم في أخبار متواترة متقدّمة: «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ نبيّ مرسل أو مَلَك مقرّب أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان»، فمن اتّصل بشعاع نورهم فقد عرف نفسه، لأنّه قد عرف عين الوجود وحقيقة الموجود وفردانية ربّ المعبود، فمعرفة النفس هي حقيقة الوجود المقيّد، وهي النقطة الواحدة، التي ظاهرها النبوّة وباطنها الولاية، فمن عرف النبوّة والولاية بحقيقة معرفتهما، فقد عرف ربّه، فمن عرف محمداً وعلياً (عليهما السلام) فقد عرف ربّه...»(1).

«وروى ابن عبّاس، عن علي (عليه السلام)، أنّه شرح له في ليلة واحدة من حين

____________

1- بحر المعارف: 423.


الصفحة 118
أقبل ظلامها إلى حين أسفر صباحها واُطفي مصباحها في شرح الباء من (بسم اللّه) ولم يتعدّ إلى السين، وقال: لو شئت لأوقرت أربعين وقراً من شرح بسم اللّه». وفي بعض النسخ بعيراً بدل وقراً.

بيان عرشي:

لا يذهب عليك أنّ فهم هذا الحديث «وأنا النقطة تحت الباء»، لا بدّ من توضيح وبيان، وكذا قول أهل المعرفة: بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تمّ تميّز العابد عن المعبود، وذلك إشارة إلى تنزّل الحقّ وظهوره بصورة الخلق كتنزّل الألف وظهوره بصورة الحروف، لأنّ تعيّن الحقّ المطلق الذي هو المعبود بصورة الخلق المقيّد الذي هو العابد، ليس إلاّ بسبب النقطة التعيّنية الوجودية الإضافية المسمّاة بالإمكان والحدوث، التي تحت الوجود البائن الأوّلي الإمكاني المسمّى بالعقل الأوّل تارة وبالروح الأعظم اُخرى، المتميّز بها العابد الذي هو العبد عن المعبود الذي هو الربّ، وكذلك الحروف لأنّ تعيّن الألف المجرّد الذي هو بمثابة الذات بصورة الباء المقيّد، ليس إلاّ بسبب النقطة التعينية البائية تحت الباء، المتميّز بها الباء عن الألف، لأنّ الألف إذا نزل من حضرة إطلاقه إلى حضرة تقيّده في صورة البائية، التي هي أوّل مراتبه في عالم الكثرة، لم يكن تميّزه عنه إلاّ بالنقطة البائية المتميّز بها عن غيره من الحروف، وكذلك الحقّ تعالى، فإنّه إذا نزل من حضرة ذاته ومقام إطلاقه وصورة أحديّته إلى صورة تقيّده وتعيّنه المعبّر عنه بصورة الإمكان في حضرة واحديّته، لا يكون تميّز تلك الصورة المقيّدة عنه إلاّ بالنقطة القيدية الإمكانية الواقعة تحت تعيّنه، المتميّز بها عن غيره من الموجودات، وأوّل تلك الصورة المقيّدة تارة تسمّى بالعقل، وتارة بالروح، وتارة بالنور، إلى آخر الموجودات، كما يسمّى أوّل الصورة المقيدة الحروفية تارة بالباء وتارة بالجيم وتارة بالدال إلى آخر الحروف، ولعظمة الصورة المقيدة

الصفحة 119
الاُولى التي هي بإزاء الباء من الحروف، ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): «ظهر الموجودات من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم»، وبسبب أنّ تقييدها وتمييزها كان بالنقطة البائية التميّزية، أعني الإمكانية الحدوثية، ورد عن علي (عليه السلام): «أنا النقطة تحت الباء»، ورد عن الكملّ: «بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميّز العابد عن المعبود»، فلا سرّ أعظم من الباء، والنقطة بعد الألف أعني العقل الأوّل، وحقيقة الإنسان المعبّر عنهما بالباء، والنقطة بعد الذات الأحدية المعبّر عنها بالألف، ومن هنا قال علي (عليه السلام): «العلم نقطة كثّرها الجاهلون»، وكيفية الاطلاع من وجهين:

إمّا أن يكون من الوحدة إلى الكثرة، ومن المبدأ إلى المنتهى، الذي هو طريق النزول والظهور. وإمّا أن يكون من الكثرة إلى الوحدة، ومن المنتهى إلى المبدأ، الذي هو طريق الصعود والبطون، فإن كان الأوّل فهو أعظم فيجتهد في الاطلاع على النقطة أوّلا، ثمّ على ما صدر منها من النفس والهيولى والطبيعة والجسم الكلّي والأفلاك والعناصر والمواليد. وإن كان الثاني، وهو أظهر وأمتن، فيجتهد في الاطلاع على هذه الموجودات بعكس ذلك، وذلك لأنّ كلّ من اطّلع على النقطة الوجودية والذي تحتها، كمن اطّلع على الوجود كلّه، وعلى ما في ضمنه من الأسرار والحقائق، ولاطّلاع نبيّنا على الكتب السماوية وما في ضمنها من الأسرار والحقائق، ولاطّلاع نبيّنا (صلى الله عليه وآله) على النقطة الوجودية ليلة المعراج، قال: «علمت علوم الأوّلين والآخرين»، وقال: «اللّهم أرنا الأشياء كما هي»، ولاطّلاع علي (عليه السلام) عليها قال: «أنا النقطة تحت الباء»، وقال: «سلوني عمّا تحت العرش»، وهذه النقطة هي الموسومة عند القوم بعبادان، في قولهم: «ليس وراء عبادان قرية»، وهي التي عليها مدار الوجود، كالنقطة المركزية

الصفحة 120
التي إليها ينتهي خطوط الدائرة المحيطة بها، وذلك لأنّ الوجود بالاتفاق دوريّ لتقابل النقطتين المتقابلتين، اللتين هما نقطة المبدئية والنقطة المنتهائية {كَما بَدَأكُمْ تَعُودُونَ}، والأوّل والآخر والظاهر والباطن، أسمائه بهذين الاعتبارين، والأزل والأبد إشارة إليهما، {قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى} كذلك، لأنّ القوس إشارة إلى قطع الدائرة الوجودية بالخطّ الوهميّ بينهما، الفاصل بين المطلق والمقيّد والإمكان والوجوب في صورة الدائرة، والخطّ الوهمي باصطلاحهم، هو مقام القرب الأسمائي، باعتبار التقابل بين الأسماء في الأمر الإلهي، المسمّى بدائرة الوجودية، كالإبداء والإعادة، والنزول والعروج، والفاعلية والقابلية.

وهذه النقطة قد يعبّر عنها بنقطة النبوّة ونقطة الولاية اللتين هما مخصوصتان من حيث الاطلاق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)، لأنّ النبوّة المطلقة والولاية المطلقة مخصوصتان بهما، لقول النبي (صلى الله عليه وآله): «كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين»، وقول علي (عليه السلام): «كنت ولياً وآدم بين الماء والطين»(1).

الثالث والعشرون : ـ

ومن المعاني اللطيفة في نقطة الباء ما جاء بيانه عند السيد الإمام الخميني (قدس سره) في كتابه القيّم (الآداب المعنوية للصلاة)، فقال في الفصل الرابع في بعض آداب التسمية: روي في التوحيد عن الرضا (عليه السلام)حين سئل عن تفسير البسملة: «معنى قول القائل بسم اللّه، أي أسم على نفسي سمة من سمات اللّه وهي العبادة، قال الراوي: فقلت: ما السمة؟ قال: العلامة».

إعلم، جعلنا اللّه وإيّاك من المتّسمين بسمات اللّه، أنّ الدخول في منزل التسمية لا يتيسّر للسالك إلاّ بعد الدخول في منزل الاستعاذة واستيفاء حظوظ

____________

1- بحر المعارف: 457.


الصفحة 121
ذاك المنزل. ثمّ يشرح هذا المعنى وكيف يتّسم السالك بالعبودية. ثمّ في الفصل الخامس يذكر بياناً إجمالياً من تفسير سورة الحمد المباركة، ونبذة من آداب التحميد والقراءة، فيشرح معنى الباء وبأيّ شيء تعلّقه، هل للاستعانة أو الظهور وغير ذلك، ثمّ يقول: وأمّا أسرار الباء ونقطة الباء التي باطنها مقام الولاية العلوية ومقام جمع الجمع القرآني فيستلزم مجالا أوسع(1).

ثمّ يقول: إلهام عرشي: اعلم أنّ في باب العرش وحملته اختلافات، وفي ظواهر الأخبار الشريفة أيضاً اختلافاً، وإن كان الاختلاف منفياً على حسب الباطن، فإنّ العرش في النظر العرفاني والطريق البرهاني يطلق على معان كثيرة، وأحد تلك المعاني ولم أره في لسان القوم هو الحضرة الواحدية التي هي مستوى الفيض الأقدس، وحملته أربعة من اُمّهات الأسماء وهي: الأوّل والآخر والظاهر والباطن، والمعنى الآخر وما رأيته أيضاً في لسان القوم، الفيض المقدّس الذي هو مستوى الأسم الأعظم وحامله: الرحمن والرحيم والربّ والمالك، ومن إطلاقاته جميع ما سوى اللّه وحامله أربعة من الملائكة: إسرائيل وجبرائيل وميكائيل وعزرائيل، والمعنى الآخر هو جسم الكلّ وحامله أربعة أملاك وهي صور أرباب الأنواع وقد اُشير إليه في رواية الكافي، وربّما اُطلق على العلم، ولعلّ المراد من العلم، العلم الفعلي للحقّ الذي هو عبارة عن مقام الولاية الكبرى وحملته أربعة من الأولياء الكمّل في الاُمم السابقة وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهم السلام، وأربعة من الكمّل في هذه الاُمّة: الرسول الخاتم وأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام)، فإذا علمت هذه المقدمة، فاعلم:

____________

1- الآداب المعنوية للصلاة: 398، الطبعة الاُولى.


الصفحة 122
إنّه في السورة الشريفة الحمد بعد اسم اللّه الذي هو إشارة إلى الذات اختصّت بالذكر، هذه الأسماء الشريفة الأربعة وهي: الربّ والرحمن والرحيم والمالك، ويمكن أن يكون هذا الاختصاص لأنّ هذه الأسماء الشريفة الأربعة حملة عرش الوحدانية على حسب الباطن، ومظاهرها الملائكة الأربعة المقرّبون للحقّ تعالى حملة عرش التحقّق، فالإسم المبارك (الربّ) باطن ميكائيل وهو بمظهريته للرب موكل بالأرزاق ومربّي دار الوجود، والإسم الشريف (الرحمن) باطن إسرافيل منشىء الأرواح والنافخ في الصور وباسط الأرواح والصور، كما أنّ بسط الوجود أيضاً باسم الرحمن، والإسم الشريف (الرحيم) هو باطن جبرائيل الموكل على تعليم الموجودات وتكميلها، والإسم الشريف (المالك) هو باطن عزرائيل الموكل بقبض الأرواح والصور وإرجاع الظاهر إلى الباطن، فالسورة الشريفة إلى مالك يوم الدين، مشتملة على عرش الوحدانية وعرش التحقّق ومشيرة إلى حوامله، فجميع دائرة الوجود وتجلّيات الغيب والشهود التي ترجمانها القرآن، مذكورة إلى هذا الموضع من السورة، وهذا المعنى موجود جمعاً في بسم اللّه الذي هو الاسم الأعظم، وفي الباء التي هي مقام السببية، وفي النقطة التي هي سرّ السببية، وعلي (عليه السلام) هو سرّ الولاية، واللّه أعلم(1).

عزيزي القارىء:

هذا غيض من فيض، وقطرات من بحار فضائل أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ونبذة يسيرة في شرح نقطة باء البسملة.

ولا تنكر ما لا تستوعبه، فإنّ فوق كلّ ذي علم عليم، وقد علّمنا الحكماء

____________

1- الآداب المعنوية للصلاة: 428.


الصفحة 123
في مقولتهم الخالدة: «كلّ ما يقرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتّى تجد له دليلا».


نحن أبناء الدليلأينما مال نميل

فالحذار الحذار من المكابرة والإنكار، حينما لم نهضم ولا ندرك ولا نفهم ولا نستوعب ما جاء في بطون الكتب ومتون الأسفار.

وربّ معلومات شامخة تتوقّف على علوم اُخرى، وربّ معارف سامية لا يدركها إلاّ من حاز مرتبة البلوغ، وإنّ الطفل هيهات أن يدرك لذّة الجماع ما لم يصل إلى حدّ البلوغ، فلا تعادي ما لا تعلمه، ولا تنكر ما كنت جاهله، بل اغدو عالماً ربانياً، أو متعلّماً على سبيل النجاة، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.