الصفحة 135


الفصل الثالث
ميزات.. وخصائص





الصفحة 136

الصفحة 137

الغباء.. والسطحية:

وبعد.. فإن نظرة فاحصة على بعض ما كان للخوارج من مميزات وخصائص؛ تجعلنا نخرج بحقيقة: أنهم كانوا، حتى بعد مرور عشرات بل مئات السنين لايزالون أعراباً جفاةً، يهيمن عليهم الجهل. والأمية والقسوة، ومن سماتهم الغلظة، والجفاء، ويتميزون بسذاجة وسطحية، جعلتهم يفقدون المناعة الكافية في مقابل خصومهم، الذين وُجِد فيهم من يعرف كيف يستغل هذه الجهالة وتلك السذاجة، ويستفيد من تلكم السطحية؛ كحربة ماضية، وسيف قاطع ضدهم، فترى المهلب كان يكثر من الأكاذيب، التي تفرق كلمتهم، وتشتت شملهم حتى عرف بذلك(1) وحتى ليقول الزمخشري:

«راح يكذب، لقب المهلب، لأنه كان يضع الحديث أيام «الخوارج»، فإذا رأوه قالوا: راح يكذب.

قال وائلة السدوسي:


أعور مشنوء يخالف قولهكما وصفوه: إنه راح يكذب (2)

____________

(1) راجع: ترجمة المهلب في: وفيات الأعيان ج2 ص146 وفي تهذيب التهذيب ج10 ص330 والكامل للمبرد ج3 ص319/318 والإصابة ج3 ـ ص36 وتقريب التهذيب ج2 ص280.

(2) ربيع الأبرار ج2 ص369/370 وراجع: فجر الإسلام ص261 عن شرح نهج البلاغة

=>


الصفحة 138
نعم.. هذا هو حالهم، مع ان من شأن المواجهة الطويلة مع الخصوم أن تصقل الفكر العقائدي لأية فرقة كانت، وتؤثر على سلوكها، وأخلاقياتها، وتركز فيها ـ ولو شكلياً ـ حالة من النضج التنظيمي، والسلوكي، والفكري والسياسي، وإدراك المناورات السياسية.. ولكن «الخوارج» لم يدخلوا تحت هذه القاعدة؛ حيث إنهم، رغم تطاول الزمن عليهم، ومرور عشرات بل مئات السنين على ظهورهم، لم يسجلوا تقدماً يذكر في أي من هذه المجالات..

لا جامعة فكرية أو عقائدية:

ومن جهة أخرى.. فإن من المعلوم والواضح: أن «الخوارج» لم تكن تجمعهم أصالة فكرية عقائدية، لعدة أسباب وعوامل، نذكر منها:

1ـ إنهم كانوا شكاكاً.

2ـ إنهم كانوا أصحاب أطماع دنيوية، وإن كانت ملونة بلون الإيمان وملبسة بلباس الدين.

3ـ إن الشيطان قد غرهم، وزين لهم المعاصي.

4ـ إن الشيطان قد زين لهم أنهم ظاهرون ومنتصرون.

5ـ إنهم محكومون لعصبياتهم القبلية، ولمفاهيمهم الجاهلية.

6ـ إنهم خيابون عيابون، حسبما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

7ـ إنهم كانوا أخلاطاً من الناس، لا تجمعهم رابطة، ولا يهيمن عليهم سلطان.

____________

<=

للمعتزلي ج1 ص386 ومصادر ذلك كثيرة، ولذا فلا حاجة إلى إيرادها.


الصفحة 139
8ـ إن مواقفهم كانت عفوية، ومرتجلة، لم يكن يسبقها تخطيط دقيق، لأنها كانت في الأكثر استجابة لحالات من الحنق والحقد، الذي أعمى بصائرهم قبل أبصارهم.

9ـ ثم هناك حالة الجفاء والغلظة التي كانت تقلل من فرص التفاهم والانسجام فيما بينهم.

10ـ يضاف إلى ذلك جهلهم الذريع، وأميتهم القاتلة، فلم يكونوا يستضيئون بنور العلم، ولا يستندون إلى ركن وثيق.

وهذا ما جعل الشعارات البراقة تستهويهم، وتدفع بهم إلى مزيد من التصلب والجرأة. وإن كانوا لا يفقهون كثيراً مما ترمي إليه تلك الشعارات، وليس لديهم القدرة على التعمق فيها، ولا على مناقشتها.

ويكفي أن نذكر: أنه قد «ظل صوت التحكيم يتردد في سماء معارك «الخوارج»، ويردده شعراؤهم، بعد أن استحوذ على عقولهم ومشاعرهم طوال العصر الأموي. فكانوا يشحذون به حماس عساكرهم، ويلهبون عواطف أصحابهم في كل موقعة، وعند كل لقاء»(1).

ولكن، هل درسوا هذا الشعار؟!

وهل فهموا ما قاله علي (عليه السلام) وأصحابه لهم حوله؟!

وهل أعدوا أجوبة على تلك النقوض التي أوردوها عليهم..

هذا ما لم يكن أبداً.

فكل تلك الأمور، وسواها مما لم نذكر تجعلنا نفهم بعمق حقيقة أنه لم يكن يجمعهم جامع جامع فكري، يحقق لهم أدنى حالة من الانسجام

____________

([1]) الخوارج في العصر الأموي ص257.


الصفحة 140
في مفاهيمهم، ولا كان يهيمن عليهم أصالة فكرية أو عقائدية تفيد في صقل شخصيتهم الإنسانية الفاعلة والمؤثرة في صياغة حياة اجتماعية أو دينية أو سياسية معقولة أو مقبولة.

بل إن ملاحظة تركيبهم، وخصائصهم، وواقعهم لا تدع مجالاً للشك. في أنه لم يكن ثمة تقارب في الأغراض والمآرب التي كانوا يتوخون تحقيقها في مجمل مواقفهم وحركاتهم.

ولأجل ذلك، ثم بسبب التدني الفاضح في مستوى وعيهم، كان من الطبيعي أن تكثر الانقسامات بينهم، فسرعان ما يتفرقون شيعاً، وأحزاباً لأتفه الأسباب(1).

حتى إنهم حينما حكّموا في صفين سأل عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقيل له: «القرّاء.

فقال: بل هم الخيابون العيابون»(2).

وحينما كتب نافع إلى ابن إباض، وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى مقالته، لم يقرأ ابن الصفار كتابه على أصحابه، خشية أن يتفرقوا، ويختلفوا. فلما قرأه ابن إباض وقع الخلاف بينه وبين ابن صفار(3).

ويقول آخر: «لم تكن للخوارج قط ـ كما رأينا ـ أية وحدة حقيقية في أعمالهم السياسية، أو العسكرية. ولم تكن لهم كذلك مجموعة متسقة من المبادئ. وتظهر لنا مذاهبهم وكأنها آراء خاصة(4).

____________

(1) فجر الإسلام ص261 وراجع ص259 وراجع: ضحى الإسلام ج3 ص333.

(2) المصنف للصنعاني ج10 ص150.

(3) الكامل في التاريخ ج4 ص168 والعقود الفضية ص123.

(4) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص474.


الصفحة 141
ويقول البعض: عرف «الخوارج» بعصبيتهم العربية، فقد انتشر مذهبهم في القبائل الربعية التي كان لها نزاع مع القبائل المضرية، وكان معظمهم من عرب البادية الربعيين. وقد عرفوا بالتعصب والحماسة، والإندفاع السريع في آرائهم. كما عرفوا بتمسكهم بظواهر الألفاظ، لا يتجاوزونها إلى المرمى والموضوع، وعرف عن «الخوارج» أيضاً التشديد في العبادة، وبالإخلاص الشديد لعقيدتهم، والشجاعة في حروبهم، وكانوا كثيراً ما يختلفون. ولعل هذا هو السبب في إخفاقهم في كثير من المعارك رغم شجاعتهم»(1).

أضف إلى ذلك: «.. أن «الخوارج» لم يكونوا يحتملون السلطة عليهم مدة طويلة»(2).

مواصفات «الخوارج» بنظر البعض:

ومهما يكن من أمر، فإننا نجد: أن البعض قد أجمل بعض خصائصهم وصفاتهم بقوله: «كان في جملة الخوارج لدد، واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت»(3).

وقال آخر: «فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، كثيرو التفرق شيعاً وأحزاباً، محدودو النظر، ضيقو الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم. وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة، صرحاء في أقوالهم وأفعالهم..

إلى أن قال: ثم هم لغلبة بداوتهم أبعد عن التطور الديني والعلمي،

____________

(1) الخوارج عقيدة، وفكراً، وفلسفة ص54و55 بتصرف وتلخيص.

(2) الخوارج والشيعة ص72.

(3) الكامل في الأدب ج3 ص220.


الصفحة 142
والاجتماعي..

إلى أن قال: وظلت حياتهم في معيشتهم، ونظرتهم للحياة، وحروبهم، ونحو ذلك حياة بسيطة بدوية، لم تتغير كثيراًَ بتغير الزمان»(1).

ونقول: إننا لا نوافق على بعض ما ذكروه، ونذكر على سبيل المثال ما يلي:

1ـ قول المبرد: كان في جملة الخوارج لدد واحتجاج.. لا يصح إذ أن هذا اللدد والاحتجاج قد ظهر مدى ضعفه حين اثار أمير المؤمنين (عليه السلام)، وابن عباس وصعصعة وغيرهم القضايا معهم، وحاججوهم فيها.

إلا أن يكون مراده: أن حجتهم على الأمويين كانت ظاهرة وموفقة وقوية.

ولكنه أمر غير صالح للتنويه به، فإن حال الأمويين في الفساد والإفساد أظهر من الشمس وأبين من الأمس، وإن أي إنسان يتهيأ له أن يفصح عن مراده في شأنهم، فإنه سيكون ظاهر الحجة عليهم، ولسوف يخصمهم، ويثبت فساد طريقتهم، وعوارها.

على أن ما أثر عن «الخوارج» من خطابة وشعر واحتجاج، لا يحمل في طياته معاني متميزة، ولا يعبر عن براعة خاصة، تنتج لهم الحجج والمعاني، وتظهر لهم المعاني القرآنية، أو تشير إلى تعمق مّا في أمور الفقه، وفي حقائق الدين والإيمان، أو التاريخ أو ما إلى ذلك.

بل هي مجرد عفوية وبداهة الإنسان العربي، وارتجال البدوي، الذي لا يحمّل كلامه شيئاً لافتاً من المعارف واللطائف، بل تجد فيه بعض

____________

(1) ضحى الإسلام ج3 ص333و332 وراجع: فجر الإسلام ص259 و261 و263 و264.


الصفحة 143
الجماليات العفوية التي تختزنها حياة أعراب البادية، أو حماس رعاع لا عهد لهم بالمكارم، والمآثر.. قد وجدوا الجرأة على المباهاة ببطولات صنعها لهم حب المقامرة، القائم على أساس تبييت الخصوم، وتوجيه ضربات خاطفة، يعقبها الإمعان في الهرب، والتحاشي للاشتباك المباشر، الذي غالباً ما ينتج لهم مر الهزيمة، والخيبة الأليمة.

2ـ وحديث المبرد: عن نفاذ بصيرتهم، وعن توطينهم أنفسهم على الموت، وحديث غيره عن شجاعتهم هو الآخر حديث مبالغ فيه، أو غير مفهوم على حقيقته على الأقل، فأين كانت شجاعتهم وقد كانوا ـ فيما يذكره أكثر المؤرخين ـ أربعة آلاف فارس في النهروان. ويقابلهم مثلهم تقريباً في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان غير راغب كثيراً في مواجهتهم، وهم كانوا مستميتين؟!.

نعم.. أين كانت هذه البصيرة، وتلك الشجاعة، وذلك التوطين آنئذ؟! وكيف قتلوا بأجمعهم، ولم ينج منهم عشرة، ولم يستشهد من أصحاب علي (عليه السلام) عشرة؟! وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وسيأتي إن شاء الله بعض الحديث عن شجاعتهم المزعومة في فصل مستقل.

3ـ وعن نفاذ بصيرتهم نقول: قد تقدم بما لامزيد عليه: أنهم في حربهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا شكاكاً، لا يملكون حجة، ولا يهتدون سبيلاً.

4ـ وأما عن صراحتهم إلى أقصى حدود الصراحة، فقد تقدم كيف أنهم يتسترون على علاقة أحد زعمائهم بامرأة حداد.. وقد ذكرنا في هذا الكتاب الشيء الكثير مما يدل على ممارساتهم للتقية إلى حدود

الصفحة 144
مشينة. وسيرة عمران بن حطان خير شاهد على ما نقول. وقد ذكرنا في هذا الكتاب بعضاً من فصولها..

بداوة «الخوارج»:

أما فلهوزن فيحاول هو وغيره إنكار بداوتهم، واعتبار هجرتهم إلى المدن كافية في نزع هذه الصفة عنهم، وصيرورتهم حضريين(1).

ولكنه غفل عن أن ذلك بمجرده لا يكفي في تغيير طبيعتهم وعقليتهم، ما لم يصل إلى حدّ التفاعل والانصهار في المجتمع الجديد، وليتبدل جهلهم إلى علم، وقسوتهم وشدتهم بالمرونة واللين، إلى غير ذلك مما لا مجال لذكره..

التقليد والمحاكاة:

هذا.. ولم يكن للخوارج تلك الأصالة الراسخة أو الاستقلالية الفكرية، بل كانوا يتخذون سبيل التقليد والمحاكاة حتى لعدوهم..

يقول ابن رسته: «أول من حذف الدواب يزدجرد، حين ورد أصبهان قاصداً لخراسان مرّ بمرج وكانت الدواب ترطَّم فيه، وتتعلق أذنابها بالطين فحذفها، ثم حذف المهلب بن أبي صفرة في محاربة «الخوارج»، فنظرت إليه «الخوارج»، وحذفوا أيضاً دوابهم»(2).

وقد قدمنا: كيف أنهم كانوا يحاولون تقليد ومحاكاة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في أحواله وأعماله، فتجدهم يصدرون التعليمات بعدم

____________

(1) راجع: الخوارج والشيعة ص33 وقضايا في التاريخ الإسلامي.

(2) الأعلاق النفيسة ص199.


الصفحة 145
البدأة بالقتال، مع أنهم في عامة حروبهم، وجل انتصاراتهم قد اعتمدوا فيها على عنصر البيات للعدو، ومهاجمة جنده، وهم غارون، ثم يعمدون إلى الفرار إلى جهة لا يتيسر معرفتها أو الوصول إليها بالسرعة المطلوبة، ولاسيما لجيش منظم يحمل أثقالاً مرهقة، تعجزه عن اللحاق بعصابات من الناس؛ تعمل على قاعدة اضرب واهرب. ولهم أيضاً حالات أخرى من التقليد والمحاكاة له (عليه السلام) في أمور لا تخرج في مضمونها عن هذا السياق الذي ذكرناه.


الصفحة 146

الصفحة 147


الفصل الرابع
شجاعة الخوارج





الصفحة 148

الصفحة 149

شجاعة «الخوارج»، وسر بعض انتصاراتهم:

لقد عرف «الخوارج» بالشجاعة والإقدام، وبالصراحة في أقوالهم واعمالهم(1) ـ كما زعموا ـ وكان الموالي ـ كما تقدم ـ أشجع «الخوارج» وأشدهم جسارة.

كما أن الملاحظ هو: أن خوارج الكوفة أقوى شكيمة، وأشد مراساً من خوارج البصرة(2).

وقد ذكر الجاحظ للخوارج امتيازات في حروبهم، وهي التالية:

1ـ صدق الشدة عند أول وهلة.

2ـ إنهم يصبرون على طول السرى، بحيث لا يظن أن أحداً يقطع تلك المسافة في ذلك المقدار من الزمان؛ فيفاجئون عدوهم، وهم غارون، فيوقعون بهم.

3ـ إن ضرب المثل بهم واستشهادهم بالقتل يرعب غيرهم.

____________

(1) ضحى الإسلام ج3 ص332 وراجع فجر الإسلام ص263/264.

(2) راجع: الخوارج في العصر الأموي ص124 عن الخربوطلي في كتابه: تاريخ العراق ص92.


الصفحة 150
4 ـ إنهم لا سلب لهم، ليرغب الجند في لقائهم، أو يثقل حركتهم في التنقل، كما هو الحال في جند غيرهم.

ولكن «الخوارج» إذا ولّوا فقد ولّوا، وليس لهم بعد الفر كرّ، إلا ما لا يعدّ. و«الخوارج» والأعراب ـ والخوارج منهم ـ ليست لهم رماية على ظهور الخيل(1).

5 ـ ويعرف عنهم قوتهم على كثرة الركض(2).

وزعموا أنهم يسيرون في ليلة ثلاثين فرسخاً وأكثر(3).

نعم.. إن ذلك هو بعض ما اعتبروه اسباباً فيما سجلوه من انتصارات على بعض الجيوش التي كانت تتصدى لحربهم.

«الخوارج» ليسوا شجعاناً:

ولكننا بدورنا نشك فيما يذكرونه من شجاعتهم، فإنهم كانوا طامعين بالدنيا، محبين للحياة، حتى إن فارسهم قطري بن الفجاءة قد اعترف في شعر له بما اصابه من خوف شديد من خصمه المهلب بن أبي صفرة(4).

ويعترف عمرو بن الحصين بخذلانه لأصحابه، فيقول:


كم من أولي مقةٍ صحبتهم شروافخذلتهم ولبئس فعل الصاحب(5)

وقال آخر منهم كان قد خذل أصحابه:

____________

(1) رسائل الجاحظ ج1 ص41 ـ 46.

(2) المحاسن والمساوئ ج2 ص391.

(3) المحاسن والمساوئ ج1 ص217 وفي هامشه عن المحاسن والأضداد ص129/130.

(4) راجع: الخوارج في العصر الأموي ص286.

(5) الخوارج في العصر الأموي ص281.


الصفحة 151

إخوان صدق أرجيهم وأخذلهمأشكوا إلى الله خذلاني لأصحابي(1)

وقال زيد بن جندب في الاختلاف الذي وقع بين الأزارقة:


قل للمحلين قد قرت عيونكمبفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناساً على دين ففرقناطول الجدال وخلط الجد باللعب
ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهمعن الجدال وأغناهم عن الخطب
إني لأهونكم في الأرض مضطرباًما لي سوى فرسي والرمح من نشب(2)

وحين حبسهم زياد بن أبيه، قبلوا بأن يقتل بعضهم بعضاً، مقابل أن يخرجهم زياد من السجن، وهكذا كان، ثم ندموا، وأخذوا يبكون على ما فعلوه بإخوانهم. ثم عرضوا الدية والقود على أولياء المقتولين، فرفضوا(3).

هذا كله.. عدا عن طلبهم الأمان من أعدائهم. واسترحامهم(4).

بل إن التحكم في صفين قد كان سببه أن الحرب طالت عليهم، واشتد البأس، وكثرت الجراح، وحلا الكراع(5).

____________

(1) المصدر السابق.

(2) البيان والتبيين ج1 ص42 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص205 والكامل في الأدب ج3 ص394 ونسب الأبيات فيه إلى الصلت بن مرة.

(3) الكامل في التاريخ ج3 ص516/517 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص144 وراجع: العقود الفضية ص108/109 لكنه زعم أن زياداً قد سجن الأحرار والموالي، ثم فتن بينهم فقتل الأحرار الموالي.

(3) مع وجود الفتنة لابد من حصول القتل في الطرفين لا في جانب واحد.

(4) راجع: الخوارج في العصر العباسي ص22 و123 و285 ونقل أيضاً الكامل في التاريخ، ج3 ص417 و418.

(5) راجع: بهج الصباغة ج7 ص161 عن ابن ديزيل في صفين، وتقدمت مصادر أخرى لذلك في بعض

الصفحة 152
وحين نادى الحجاج في أصحاب شبيب: «من جاء منكم فهو آمن..» كان كل من ليست له بصيرة في دين «الخوارج» ممن هزّه القتال وكرهه ذلك اليوم يجيء فيؤمّن.

وقبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب: «من جاءنا فهو آمن. فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه»(1).

شهرة فرار «الخوارج» في الحروب:

وفي بعض المواقع طلب عمرو القنا من أصحابه أن لا يترجلوا، ولا يعقروا دوابهم فقالوا له: «إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار»(2).

وفرارهم في المواقف الصعبة مشهور عنهم(3).

وقد قيل فيهم: إنهم إذا ولّوا فقد ولّوا، وليس لهم بعد الفرّ كرّ إلا ما لا يعد(4).

مع أن الفرار عندهم يوجب الكفر.

وقد قال البهلول الشيباني يحمس المتخاذلين الخائفين من الموت منهم بقوله:


فلا التقدم في الهيجاء يعجلنيولا الحذار ينجيني من الأجل

____________

(1) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص272 وتاريخ الأمم والملوك ج6 ص277 ط دار المعارف بمصر.

(2) الكامل في الأدب ج3 ص402.

(3) راجع: الكامل في الأدب، ج3 ص185 و337 و364 و365 و343 و348 و325 و396 و402 و330 و331 و335 والعقود الفضية ص220 والأغاني ط ساسي ج20 ص109و113 والبرصان والعرجان ص176 والعقد الفريد ج1 ص220و221 وشرح النهج للمعتزلي ج5 ص101و121 وج4 ص271و166 والخوارج والشيعة ص96 و101.

(4) الحيوان للجاحظ، ص41 ـ 46.


الصفحة 153
وكان أصحاب قطري بن الفجاءة يخشون أن يلبسهم العار من كثرة هروبه من وجه المهلب، حتى خاطبه أحدهم بقوله:


أيا قطري الخير إن كنت هارباًستلبسها عاراً وأنت مهاجر
إذا قيل: قد جاء المهلب أسلمتله شفتاك الفم والقلب طائر
فحتى متى هذا الفرار مخافةوأنت وولي الهلب كافر(1)

وقد تقدمت أبيات زيد بن جندب وفيها:


قل للمحلين: قد قرت عيونكمبفرقة القوم والبغضاء والهرب

وتقدم بعض شعر عمرو بن الحصين وغيره في ذلك.

العدة والعدد لدى «الخوارج»:

ونحن لا ننكر ظهور بعض نفحات الشجاعة فيهم، وأنهم قد حققوا أحياناً بعض الانتصارات، بسبب إقدامهم، ونكول خصومهم عنهم. وهي أمور طبيعية، ولها أسبابها الموضوعية والمعقولة، خصوصاً في حالات تبييت العدو، مع عدم وجود دوافع قوية لدى الناس لحربهم لأكثر من سبب كما سنرى.

نعم.. إننا لا ننكر ذلك، غير أننا نقول إن «الخوارج» كانوا يخفقون في تحقيق النصر حتى وهم يملكون مقوماته من العدة والعدد، فقد أظهر تاريخهم: أنهم كانوا يحصلون على الأموال اللازمة من جباياتهم للبلاد التي كانوا يسيطرون عليها(2).

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص275.

(2) راجع: الكامل للمبرد ـ الجزء الثالث ص239 وغيرها.


الصفحة 154
وتقدم: أن الجاحظ يذكر: أن قطري بن فجاءة كان يشتري السيف بعشرين ألف درهم.

ومما يشير إلى: حسن استعدادهم، وتوفر مقومات العمل العسكري الذي من شأنه أن يحقق لهم انتصارات قوية، قول المؤرخين عن حرب المهلب وقطري بن الفجاءة: «فخرج إليهم المهلب، فلما أحسّ به قطري يمم نحو كرمان. فأقام المهلب بالأهواز. ثم كرّ قطري عليه، وقد استعد؛ فكان «الخوارج» في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم، بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجُنَنِ، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز»(1).

فترى: أنهم رغم كونهم أحسن عدة؛ فإنهم لم يتمكنوا من تحقيق النصر، بل كانت الهزيمة من نصيبهم.

وفي مورد آخر: شخص إليهم عمر بن عبيد الله إلى أرجان، وكان عليهم الزبير بن علي السليطي، فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها، فألحقهم بأصبهان، فجمعوا له، وأعدوا واستعدوا ثم أتوا سابور، فسار إليهم عمر بن عبيد الله، فقاتلهم، وهزمهم أيضاً(2)، ثم لقيهم مرة أخرى فهزمهم كذلك.

وهذا ما يجعلنا نبحث عن أسباب تلك النفحات في غير هذا الاتجاه، فما هي يا ترى:

____________

(1) الكامل في الأدب ج3 ص347و348.

(2) راجع: الكامل في الأدب ج3 ص335 ـ 337.


الصفحة 155

اسباب بعض نفحات الشجاعة فيهم:

ونستطيع أن نذكر من أسباب ذلك:

1ـ أنهم كانوا يخوضون حروبهم غالباً على قاعدة اضرب واهرب. فكانوا يباغتون عدوهم ـ خصوصاً بالليل، وهو ما يسمونه بالبيات، فيضربون ضربتهم، ثم ينحسرون عن ساحة القتال، بل عن المنطقة كلها بسرعة، فائقة قبل أن يتمكن عدوهم من التقاط أنفاسه، وإعادة تنظيم صفوفه، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يقومون به من عمليات اغتيال مؤثرة(1) تثير الفزع والخوف لدى عامة الناس.

بل لقد أطلقوا على المهلب لقب الساحر(2)، حين رأوا أنه قد أفشل بحذره وتدبيره خططهم، ولم يقع في مأزق البيات، وجعلهم غير قادرين على تحقيق نصر يذكر، إذن فلم يكن لهم انتصارات كبيرة، يمكن نسبتها إلى تأثير عنصر الشجاعة فيهم. بل كانوا يمنون بالهزائم المتتالية، كما تقدمت الإشارة إليه في الأشعار التي يخاطب فيها ذلك الرجل قطري بن فجاءة. وكما تدل عليه الوقائع التاريخية، التي تظهر هزائمهم المتتالية في مقابل المهلب، وفي مقابل عمر بن عبيد الله، وغير ذلك.

2 ـ قد كانت هناك اتهامات متبادلة، فيما بين أجهزة السلطة التي تحارب «الخوارج» تتمحور حول أمر واحد، وهو أن يكون ثمة تعمد لمطاولتهم في الحرب من قبل قادة الحرب باعتبار أن قتالهم اصبح سبباً للشهرة، وللحصول على المال.

____________

(1) راجع: كتاب الحيوان للجاحظ ج1 ص41 فما بعدها.

(2) الكامل للمبرد ج3 ص351 وفيه: لأنهم كانوا يدبرون الأمر، فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم ـ وراجع ص341.


الصفحة 156
وقد قال عبد بن صبح للمهلب حين وجه ولده المغيرة إلى قتالهم فارس: «أيها الأمير، إنه ليس برأي قتل هذه الأكلب، والله، لإن قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم، وكُلْ بهم...»(1).

وكان الحجاج يتهم المهلب بن أبي صفرة بذلك، فقد كتب إليه يقول له:

«إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم»(2).

وكتب إليه أيضاً: «ولكنك اتخذت أكلاً، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم»(3).

ويمكن تأييد هذه الحقيقة بما يظهره التاريخ من حسد، ومن منافسات(4) على مقام تولي قتالهم، ليفوز بالمقام وبالسمعة، وبالموقع، وما إلى ذلك.. فراجع.

3ـ قد كانت هناك جماعات يتم إجبارها على قتال «الخوارج»، دون أن يكون لديها قناعة في حرب كهذه، لأن «الخوارج» كانوا يرفعون شعار الاعتراض على الحكام في ظلمهم للناس، وجورهم، ومخالفاتهم لأحكام الدين، ويتظاهر «الخوارج» بالعبادة والزهد، والعزوف عن الدنيا، ويركزون على هذه النواحي في أشعارهم وخطبهم، ومجادلاتهم، فكان لذلك تأثيره في بعض الناس، من حيث إنه يقلل من حدة الاندفاع إلى قتالهم، بل هو يثير في الكثيرين ميلاً إلى مسالمتهم، بل والإنضواء تحت لوائهم،

____________

(1) الكامل في الأدب ج3 ص365.

(2) الكامل في الأدب ج3 ص373.

(3) الكامل في الادب ج3 ص377.

(4) راجع: الكامل في الأدب ج3 ص353و358و359 وراجع أيضاً، ص 362 و363 و364 ففيها نصوص تدل على ذلك.


الصفحة 157
لحرب الأمويين، ومن شواهد ذلك أن أحد زعماء «الخوارج» وهو عبد الله بن يحيى: «رأى في اليمن جوراً ظاهراً، وعسفاً شديداً وسيرة في الناس قبيحة.. فجمع أصحابه وبادر إلى محاربة الحاكمين»(1).

4ـ إن الناس لا يرون في الأمويين وفي غيرهم من الحكام باستثناء علي (عليه السلام) وأهل بيته من وما يستحق التضحية معه بالنفس، ولا يجدون ريح الشهادة في حربهم للخوارج، والتعرض لسيوفهم. فلا توجد دوافع قوية ولا حتى ضعيفة لدى الكثيرين في هذا الاتجاه.

5ـ قد عرف عن «الخوارج» عدم مبالاتهم بما يرتكبونه من جرائم، وإنه ليس لديهم ما يحدّ من اندفاعهم في هذا الاتجاه، بل تجدهم قد حاولوا تشريع ذلك، وتأصيل أصول عقيدية من شأنها أن تحتم عليهم التعاطي بهذا المستوى من العنف، وتسهّل عليهم سفك الدماء، دون أن يكون لديهم أية روادع إيمانية أو إنسانية، أو وجدانية وضميرية، بل هم يرون أن تنكيلهم بخصومهم حتى بالنساء والأطفال عبادة يثابون عليها، وتدخلهم الجنة بزعمهم.

وعلى كل حال: فإن نظرة فاحصة لمنطلقاتهم الفكرية تعطي أنهم لا يملكون أية ثوابت تحدد لهم اتجاه مسيرة تعاملهم مع الآخرين. بل هي مجرد لمعات تطلقها مشاعر من الهوى والعصبية، تنضح بالجهل، وتتسم بالارتجال، وتفيض بالجفاء والغلظة، وتتسربل بالبداوة والأعرابية، فيرتكبون جرائمهم، باندفاع، ويتظاهرون بالرضا، وبالاقتناع بذلك.

وأما الذين يحاربون «الخوارج» فهم في غالبيتهم من عامة الناس

____________

(1) الأغاني ط ساسي ج20 ص97 وج6 ص149 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص106.


الصفحة 158
العاديين الذين يريدون التصدي لحربهم، فتحكم حركتهم المبادئ، وقيم أخلاقية، وإنسانية، وتكليف شرعي، وقيود وحدود.

وعلى الأقل لم تصبح الجريمة هي القيمة لديهم، وهي الفرض الشرعي عليهم، وإن كان حكامهم الذين يسوقونهم لهذه الحرب عتاةً وطغاةً وجبارين، لا يرجعون إلى دين، ولا ينطلقون من ضمير أو وجدان.

ومن الطبيعي أن تكون حركة هذا النوع من الناس محدودة.

وهم حتى لو طلب منهم حكامهم ممارسة هذا النوع من الجريمة، فسيجدون في أنفسهم الكثير من الحرج والتردد في امتثال الأوامر التي يصدرونها إليهم.

وحين تدور رحى حرب بين فريقين، لهما هذه النظرة المختلفة، فإن الفريق الأول سيكون جارحاً ومؤثراً في الفريق الثاني نفسياً وروحياً، حتى على صعيد الانطلاق في حركة المواجهة على أرض الواقع.

وقد أشار المهلب إلى هذا الأمر حين خطب أصحابه محرضاً لهم على قتال عدوهم، فقال: «قد عرفتم مذهب هؤلاء «الخوارج»، إنهم وإن قدروا عليكم فتنوكم دينكم وسفكوا دماءكم»(1).

ويتعمق الشعور بالعقدة لدى هذا الفريق الثاني، حين يفرض عليه أن يحارب إخوانه، وابناء عشيرته، وقومه، ولن يجد في نفسه ذلك الاندفاع القوي نحو ذلك.

أما الفريق الآخر، فهو قد تجاوز موضوع النسب والعشيرة، حين انساق وراء تصورات اعتبرها عقيدة لنفسه،

____________

(1) الكامل في الأدب ج3 ص315.


الصفحة 159
فرضت عليه الحكم بكفر الطرف الآخر، ولزوم التخلص منه.

ومما يشير إلى وجود العقدة العشائرية: ما ذكره المبرد من أن «الخوارج» قاتلوا خصومهم يوماً إلى الليل، دون كلل أو ملل، ثم قالوا: من أنتم؟!

قالوا: تميم.

قالت «الخوارج»: ونحن بنو تميم.

فلما امسوا افترقوا.

وفي اليوم التالي تقاتل فريقان حتى اعتموا، فقالت «الخوارج»: ارجعوا.

فقالوا: بل ارجعوا أنتم.

فقالوا: ويلكم من أنتم؟

فقالوا: تميم.

قالوا: ونحن تميم(1).

6ـ إن «الخوارج» كانوا ـ في الأكثر ـ من القبائل العراقية، التي تعتبر رابطة الدم هي الأقوى. وكان الحجاج، وغيره من الحكام يمارسون ضغوطاً على الناس ليدفعوهم إلى حرب إخوانهم..

يضاف إلى ذلك: عوامل أخرى كانت تفرض عليهم هذه الحرب، مثل دفع شرهم. أو لأجل الحفاظ على تجارتهم، وزراعتهم. أو تزلفاً وطمعاً. وقليلون جداً أولئك الذين كانوا يحاربونهم تديناً، أو إيماناً

____________

(1) راجع: الكامل للمبرد، ج3 ص375 و376.