الصفحة 323


الفصل الخامس
شقيق عاقر ناقة صالح





الصفحة 324

الصفحة 325

علي (عليه السلام) يعرف قاتله، وكيف يقتله:

عن عبيدة قال: إن علياً (عليه السلام) كان إذا رأى ابن ملجم قال:


أريد حباءه ويريد قتليعذيرك من خليلك من مراد(1).


وعن أبي الطفيل قال: كنت عند علي بن أبي طالب، فأتاه عبد الرحمن بن ملجم، فأمر له بعطائه.

ثم قال: ما يحبس أشقاها أن يخضبها من أعلاها، يخضب هذه من هذه، وأومأ إلى لحيته، ثم قال علي:


أشدد حيازيمك للموتفإن الموت آتيكا
ولا تجزع من القتلإذا حل بواديكا (2)

وعن زيد بن وهب، قال: قدم على علي قوم من «الخوارج»، فيهم رجل يقال له: الجعد بن نعجة، فقال له: اتق الله يا علي، فإنك ميت.

فقال علي (عليه السلام): بل مقتول، ضربة على هذه تخضب هذه ـ

____________

(1) منتخب كنز العمال، مطبوع بهامش مسند أحمد ج5 ص61 عن ابن سعد، وعبد الرزاق، ووكيع في الغرر، وحياة الصحابة ج3 ص75 عن المنتخب.

(2) منتخب كنز العمال ج5 ص59 عن ابن سعد، وأبي نعيم، وحياة الصحابة ج3 ص75 عن المنتخب.


الصفحة 326
وأشار إلى رأسه ولحيته بيده ـ قضاء مقضي، وعهد معهود، وقد خاب من افترى.

ثم عاتب علياً (عليه السلام) في لباسه، فقال: لو لبست لباساً خيراً من هذه؟!

فقال: مالك وللباسي؟! إن لباسي [هذا] أبعد [لي] من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلمون(1).

ويذكر المعتزلي: أن علياً (عليه السلام) التقى الزبير في حرب الجمل، فذكّره قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرجع الزبير إلى أصحابه نادماً واجماً، ورجع علي (عليه السلام) إلى أصحابه جذلاً مسروراً، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تبرز إلى الزبير حاسراً، وهو شاكٍ في السلاح، وأنت تعرف شجاعته؟!

قال: إنه ليس بقاتلي، إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب، غيلة في غير مأقط حرب، ولا معركة رجال. ويلُمه [ويل أمة] أشقى البشر! ليودّن أن أمه هبلت به. أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن(2).

ويتعذر علينا إحصاء النصوص والمصادر التي تحدثت عن إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن قاتله هو ابن ملجم، وأن ذلك يكون بضربة على رأسه يخضب منها لحيته..

____________

(1) كنز العمال ج11 ص284 ورمز لذلك بـ [ط.وابن أبي عاصم في السنة.عم.حم في الزهد. والبغوي في الجعديات.ك.ق في الدلائل. ض] ومنتخب العمال ج5 ص435 وترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق [بتحقيق المحمودي] ص 278، وفي هامشه عن كتاب الفضائل رقم 32 والزهد والرقائق ص 361 و132 ومسند الطيالسي رقم 157 ج1/23 ومستدرك الحاكم ج3 ص143 ـ ومسند أحمد ج1 ص91 وكفاية الطالب ص460 ـ وتذكرة الخواص ص173.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج1 ص235.


الصفحة 327
وربما يكون ذلك منه (عليه السلام) يهدف إلى تحصين الناس من دعوات «الخوارج» وغيرهم، والربط على قلوب المؤمنين، من خلال تلمسهم صدق إخباراته الغيبية، الأمر الذي يرسخ اعتقادهم بالإمامة، على أساس أن الغيب هو أحد أركان هذا المقام العظيم.

وعلى هذا يحمل ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنه بكى في آخر جمعة من شعبان، فسأله علي (عليه السلام) عن سبب هذا البكاء، فقال له: أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر. فقال له علي (عليه السلام): أفي سلامة من ديني.. قال (صلى الله عليه وآله): نعم..

فإن سؤال أمير المؤمنين لرسول الله (صلى الله عليه وآله): أفي سلامة من ديني، لا يعني أنه (عليه السلام) كان غير مطمئن لمصيره، لأن الإنسان قد يموت كافراً أو فاسقاً كما زعمه البعض(1).

بل هو (عليه السلام) يريد أن يعرفنا على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن قاتله هو الضال، المارق من الدين كما مرق السهم من الرمية. أما علي (عليه السلام)، فإنه على بيّنة من ربه، ولو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً..

فسؤاله (عليه السلام) لأجل أن يسمعنا على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) ما يجعلنا في حصانة ومأمن من الشبهة، لكي لا نغتر بما يظهره «الخوارج» من نسك وعبادة، فنشك في إمامنا ونهلك بسبب ذلك.

____________

(1) إن هذا البعض قد قال ذلك عبر إذاعة تابعة له تبث من بيروت وذلك ليلة 19 شهر رمضان المبارك سنة 1422 هـ.ق.


الصفحة 328

«الخوارج» يقتلون أوصياء الأنبياء:

ثم إن قاتل علي أمير المؤمنين (عليه السلام) هو عبد الرحمن بن ملجم، وهذا مما أجمعت عليه الأمة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص والمصادر لذلك غير أننا نكتفي هنا بما قاله ابن اعثم الكوفي، الذي ذكر أن علياً (عليه السلام) استشهد بعد وقعة النهروان بستة أيام.(1) وقد كان له (عليه السلام) معهم في النهروان عدة وقائع.

يقول ابن أعثم؛ بعد ذكره لأحداث النهروان: «وأقبل علي نحو الكوفة، وسبقه عبد الرحمن بن ملجم ـ لعنه الله ـ حتى دخل الكوفة؛ فجعل يبشر أهلها بهلاك الشراة(2).

قال: ومر بدار من دور الكوفة، فسمع فيها صوت زمر، وصوت طبل يضرب؛ فأنكر ذلك، فقيل له: هذه دار فيها وليمة، قال: فنهى عن صوت الزمر، والطبل قال: وخرجت النساء..»(3).

ثم يذكر قصة رؤية ابن ملجم قطاماً آنئذ، وأنه عرض عليها الزواج، فقبلت بشرط أن يكون مهرها ثلاثة آلاف درهم، وعبداً، وقينة، وقتل علي (عليه السلام)، ثم تنازلت له عما سوى قتل علي (عليه السلام)، لأنه كان قد قتل أباها، ثم رضيت منه بضربةٍ، على أن يكون سيفه رهينة عندها، فدفع إليها سيفه، وانصرف إلى منزله.

«.. وقدم علي كرم الله وجهه من سفره، واستقبله الناس، يهنئونه بظفره بـ«الخوارج»، ودخل إلى المسجد الأعظم، فصلى فيه ركعتين، ثم

____________

(1) وهو كلام غير صحيح.

(2) الفتوح ج4 ص136 و137.

(3) الفتوح ج4 ص133 و134 وراجع كشف الغمة ج2 ص62 والبحار ج32 ص263.


الصفحة 329
صعد المنبر، فخطب خطبة حسنة.

ثم التفت إلى ابنه الحسين، فقال: يا أبا عبد الله، كم بقي من شهرنا هذا، يعني شهر رمضان الذي هم فيه.

فقال الحسين: سبع عشرة يا أمير المؤمنين.

قال: فضرب بيده إلى لحيته، وهي يومئذٍ بيضاء، وقال: والله ليخضبنّها بالدم، إذا انبعث أشقاها.

قال: ثم جعل يقول:


أريد حياته ويريد قتليخليلي من عذيري من مراد

فسمع ابن ملجم لعنه الله؛ فكأنه وقع بقلبه شيء من ذلك؛ فجاء حتى وقف بين يدي علي (رض) فقال:

أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، فهذه يميني وشمالي بين يديك، فاقطعهما، أو اقتلني.

فقال علي كرم الله وجهه: وكيف أقتلك، ولا ذنب لك عندي، إني لم أردك بذلك المثل. ولكن خبرني النبي (صلى الله عليه وآله): أن قاتلي رجل من مراد، ولو أعلم أنك قاتلي لقتلتك، ولكن هل كان لك لقب في صغرك؟

فقال: لا أعرف ذلك يا أمير المؤمنين.

قال علي: فهل لك حاضنة يهودية، فقالت لك يوماً من الأيام: يا شقيق عاقر ناقة صالح؟!

قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين.

قال: فسكت علي، وركب، وصار إلى منزله»(1).

____________

(1) الفتوح ج4 ص136 و137 وكشف الغمة ج1 ص276.


الصفحة 330
ثم يذكر ابن أعثم: «أن ضربة ابن ملجم لعلي (عليه السلام) قد كانت في يوم ثالث وعشرين»(1).

وكان ابن ملجم قد بات في منزل قطام، وكان قد تناول نبيذاً تلك الليلة(2).

وقال: إنها سقته الخمر العكبري، وأن رفيق ابن ملجم نام، لكن ابن ملجم تمتع معها(3).

وبعد أن تذكر الرواية: تفصيلات ضربة ابن ملجم لعنه الله لأمير المؤمنين (عليه السلام).

تقول: «ثم احتمل علي إلى صحن المسجد، وأحدق الناس به، فقالوا: من فعل هذا بك يا أمير المؤمنين؟

فقال: لا تعجلوا؛ فإن الذي فعل بي هذا سيدخل عليكم الساعة من هذا الباب.. وأومأ بيده إلى بعض الأبواب.

قال: فخرج رجل من عبد القيس في ذلك الباب؛ فإذا هو بابن ملجم، وقد سدت عليه المذاهب، فليس يدري إلى أين يهرب، فضرب العبدي بيده إليه، ثم قال: ويحك، لعلك ضارب أمير المؤمنين؟

فأراد أن يقول: لا، فقال: نعم.

فكبه، وأدخله المسجد، فجعل الناس يلطمونه من كل ناحية، حتى أقعدوه بين يدي علي.

فقال له: أخا مراد؟ بئس الأمير كنت لك؟

____________

(1) الفتوح ج4 ص137.

(2) الفتوح ج4 ص139.

(3) البحار ج4 ص239 المناقب لابن شهر اشوب ج3 ص311 ـ المطبعة العلمية ـ قم.


الصفحة 331
قال: لا، يا أمير المؤمنين»(1).

وفي رواية: أنه قال له: «ولقد كنت أعلم أنك قاتلي، وإنما أحسنت إليك لاستظهر بالله عليك»(2).

وتذكر النصوص: أن قطاماً دعت بحرير فعصبت به صدر ابن ملجم ورفيقه، حينما تحركوا لتنفيذ جريمتهم بقتل سيد الوصيين (عليه السلام)(3).

وذكرت بعض النصوص أيضاً: أن ابن ملجم تزوج قطاماً، وبنى بها ثم طالبته بالوفاء بشرطها(4).

فزت وربِّ الكعبة:

وتقول الروايات: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) حين أحسّ بضربة ابن ملجم له قال: «فزت ورب الكعبة»(5).

وقد تحدثنا عن هذه الكلمة وما بمعناها في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)(6) وغيره. ولا نريد أن نعيد هنا ما كتبناه هناك. بل نكتفي بإحالة القارئ عليه. ونؤكد عليه بالرجوع إليه.

____________

(1) الفتوح ج4 ص140 و141.

(2) تذكرة الخواص ص177.

(3) روضة الواعظين ص133 وراجع ص134 والمناقب للخوارزمي ص276 ونظم درر السمطين ص144 وشرح النهج للمعتزلي ج6 ص116و118 ومقاتل الطالبيين ص33 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص313 ـ المطبعة العلمية.

(4) الثقات ج2 ص302 والبداية والنهاية ج7 ص329 و327 وتذكرة الخواص ص176 وأنساب الأشراف ج2 ص487 ـ 492.

(5) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص207 وترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج3 ص303. [تحقيق المحمودي] ومقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن أبي الدنيا [مطبوع في مجلة تراثنا سنة 3 عدد 3 ص96].

(6) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ج7 ص352 و361.


الصفحة 332

علي (عليه السلام) يخبر عن الغيب:

وقد مرت الاشارة عن قريب إلى أن امير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبرهم أن قاتله سيخرج عليهم من الباب الفلاني. وقد تحقق ما أخبره (عليه السلام) مباشرة. ويدخل ذلك في سياق سعيه (صلوات الله عليه) لتحصين الأمة من الوقوع في الشبهة فلا تغرهم ما يظهر «الخوارج» المارقون من عبادة وزهادة ونسك وخشوع وذلك عن طريق الإثبات الواضح بالإخبارات الغيبية القاهرة للعقل والملامسة للوجدان أنه (عليه السلام) يملك علم الإمامة الذي يفرض عليهم البخوع والانقياد له من دون أي شبهة أو ريب.

تاريخ الضربة:

وإن ما ذكره: ابن أعثم أن ضربة ابن ملجم لعلي (عليه السلام) كانت في الثالث والعشرين من شهر رمضان بخلاف ما هو معروف ومشهور من أن ذلك كان في التاسع عشر من شهر رمضان، ثم استشهد في الحادي والعشرين منه.

ولو أعلم إنك قاتلي:

وذكر ابن أعثم أيضاً: بأنه (عليه السلام) قال لابن ملجم: لو أعلم انك قاتلي لقتلك.. ولا يمكن قبول ذلك منه فإنه (عليه السلام) ما فتئ يخبر الناس تصريحاً وتلويحاً بأن ابن ملجم هو قاتله، حتى إن بعض النصوص: أنهم قالوا له: لما لا تقتله، فقال: لم يقتلني بعد.


الصفحة 333
وإن ادنى مراجعة لكتب الحديث والتاريخ كفيلة بإظهار هذه الحقيقة.

ابن ملجم يشرب الخمر، ويلبس الحرير:

ولسنا بحاجة إلى التأكيد على حقيقة أن «الخوارج» كان يتظاهرون بالتدين، دون أن يكون لهم دين في الواقع.. بل كانوا يرتكبون أعظم المآثم، حتى شرب الخمر والزنى إلى درجة الدعارة الظاهرة. وليس ابن ملجم في شربه للخمر ولبسه للحرير المحرم للرجال إلا المثال الذي تكثر نظائره فيهم. أخزاهم الله.

أصابع اليهود في قتل الوصي (عليه السلام):

وعلى كل حال، فقد كانت مربية ابن ملجم يهودية(1) بل كما ذكره المجلسي، وابن أعثم وغيرهما، لقد روي عن جوين الحضرمي، قال: عرض [على] علي الخيل، فمر عليه ابن ملجم، فسأله عن اسمه، أو قال: [عن] نسبه ـ فانتهى إلى غير أبيه.

فقال له: كذبت.

حتى انتسب إلى أبيه، فقال: صدقت. أما إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حدثني: أن قاتلي شبه اليهود!!! هو يهودي، فامضه(2).

____________

(1) البحار ج32 ص262.

(2) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ج3 ص293 بتحقيق المحمودي وكنز العمال ج15 ص174 وحياة الصحابة ج3 ص75 ومنتخب كنز العمال [بهامش مسند أحمد] ج5 ص62.


الصفحة 334
وتذكر نصوص أخرى ممالأة الأشعث بن قيس لابن ملجم، وتآمره معه على قتله (عليه السلام)(1).

«الخوارج» ينكرون قتل علي (عليه السلام):

ويذكر البعض: أن بعض مؤرخي «الخوارج» في هذا العصر ينكرون قتل «الخوارج» لعلي (عليه السلام) ويقولون: إن قبيلة بني مراد التي كان عبد الرحمن بن ملجم منها لم يكونوا في جملة «الخوارج».

وقد كذّب مؤرخ الإباضية [وهم من الخوارج] الشيخ سليمان بن داود بن يوسف اشتراك «الخوارج» في قتل علي، استناداً إلى ما ذكرناه آنفاً، ويرى أن الأشعث بن قيس هو قاتل علي (عليه السلام)، وقد يكون معاوية قد أشار إليه بذلك.

ثم هو ينكر تآمر «الخوارج» الثلاثة على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، بل هو ينكر حتى أصل وجود هؤلاء الأشخاص الثلاثة(2) فراجع كلامه.

كما ترى كلام غير منطقي وغير مقبول، بعد إطباق الأمة الإسلامية. وأصبح ذلك من المتواترات القطعية: أن ابن ملجم الخارجي هو قاتل علي (عليه السلام) سواء صدقت رواية تآمر الثلاثة على قتل معاوية وابن العاص، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، أم كذبت.. ولا ضرورة لإشغال أنفسنا في الرد على ترهات وأباطيل، تفقد أدنى فرصة للاحتمال المعقول، وحتى غير المعقول.

____________

(1) راجع: أنساب الأشراف ج2 ص493 و494.

(2) تحليلي أز تاريخ إسلام ـ القسم الأول ص133و134، ولم يظهر من المؤلف مخالفة لهم في هذا الرأي..


الصفحة 335

عقوبة قاتل علي (عليه السلام):

وقد جاء في بعض الروايات: لما ضرب علي (عليه السلام) قال: «ما فعل ضاربي؟ أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، فإن عشت، فأنا أولى بحقي، وإن مت فاضربوه ولا تزيدوه»(1).

وقال البلاذري: «يقال: إن الحسن ضرب عنقه، وقال: لا أمثل به»(2).

رواية أخرى قالت: «إنه لما ضرب ابن ملجم علياً (رضي الله عنه) الضربة، قال علي: افعلوا به كما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يفعل برجل أراد قتله، فقال اقتلوه، ثم حرقوه» وهذه هي رواية أحمد.

وحسب نص ابن شهر آشوب: «إن هلكت فاصنعوا به كما يصنع بقاتل النبي، فسئل عن معناه، فقال: اقتلوه ثم احرقوه بالنار»(3).

وفي نص آخر، قال علي (عليه السلام): «احبسوه، وأطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فعفو، أو قصاص. وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين».

لكنه عاد فأضاف قوله: «فمات علي بن أبي طالب غداة يوم الجمعة، فأخذ عبد الله بن جعفر، والحسن بن علي [ومحمد بن الحنفية(4) عبد الرحمن بن ملجم،

____________

(1) المناقب للخوارزمي ص280 و281.

(2) أنساب الأشراف ج2 ص505.

(3) مسند أحمد ج1 ص93.

(4) في هامش المصدر: زيد بناء على الطبقات 3/1/26.


الصفحة 336
فقطعوا يديه ورجليه، فلم يجزع، ولم يتكلم، ثم كحلوا عينيه بملمول محمى، ثم قطعوا لسانه، وأحرقوه بالنار»(1).

ونقول: الصحيح هو أن الناس هم الذين فعلوا فيه ذلك، فعن عمران بن ميثم: «لقد رأيت الناس حين انصرفوا من صلاة الصبح أتوا بابن ملجم لعنه الله، ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم سباع، وهم يقولون: يا عدو الله، ماذا فعلت؟! إلخ»(2).

ونص آخر يقول: «إن الحسن (عليه السلام)، قدمّه فقتله، فأخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار»(3).

وذكر ابن شهر آشوب، أنه (عليه السلام) قال لهم: «ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ونهى عن المثلة»(4).

وذكر نص آخر: «أن أم الهيثم بنت الأسود النخعية استوهبت جيفته من الإمام الحسن (عليه السلام)، فوهبها لها، فأحرقتها بالنار»(5).

والخلاصة: أننا لا نشك في أن الإمام الحسن (عليه السلام) لا يخالف وصية أبيه من جهة.

ولا يرتكب مخالفة لحكم شرعي وهو تحريم المثلة، ولو بالكلب العقور من جهة أخرى.

____________

(1) الثقات ج2 ص303 والأخبار الطوال ص215 وطبقات ابن سعد ج3 قسم1 ص25و26 وراجع أنساب الأشراف ج2 ص495 و502 و504.

(2) مقاتل الطالبين ص37.

(3) المناقب للخوارزمي ص280.

(4) مناقب آل أبي طالب ج3 ص312 ـ المطبعة العلمية ـ قم.

(5) مناقب آل أبي طالب ج3 ص313 المطبعة العلمية ومقاتل الطالبيين ص41.


الصفحة 337
فإن كان ابن ملجم قد تعرض لشيء من ذلك، فلابد أن لا يكون ذلك عن رضى من قبل الحسنين (عليهما السلام)، بل قد يكون فاعل ذلك هو الناس الذين أخذتهم حالة الهياج والحماس كما هو صريح كلام أبي الفرج.

أو أم الهيثم، كما ذكره أبو الفرج، وابن شهر آشوب.

ابن ملجم صحابي مصيب في قتل علي (عليه السلام):

وقال الحارثي الإباضي: «عدّ ابن حجر عبد الرحمن هذا من الصحابة. وذكر عن الإمام الشافعي: أنه لا يرى ابن ملجم مخطئاً في قتله، لأنه مجتهد. وكل مجتهد مصيب»(1). حتى على رأي علي نفسه كما زعم(2).

وقال ابن حزم: «إن الشافعيين والمالكيين لا يختلفون في أن من قتل آخر على تأويل، فلا قود في ذلك، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً (رضي الله عنه) إلا متأولاً مجتهداً، مقدراً على أنه صواب»(3).

إذن.. فابن ملجم عند هؤلاء مصيب في قتله علياً، وهو مأجور أيضاً أجرين على ذلك، لأنه مجتهد، وإذا أصاب المجتهد ـ عند هؤلاء أيضاً ـ فله أجران..

فكيف إذا كان ابن ملجم صحابياً، والصحابة عند هؤلاء كلهم عدول أتقياء، ولا يفسقون بما يفسق به غيرهم؟

كما أوضحناه في الجزء الأول من كتابنا الصحيح من سيرة النبي ـ ط ثانية..

____________

(1) العقود الفضية ص43و64.

(2) العقود الفضية ـ ص43 و64.

(3) المحلى ج10 ص482 والغدير ج1 ص325 عنه.


الصفحة 338
قال الأميني: «.. لكن ابن حزم لا يرضى أن يكون قاتل عمر، أو قتلة عثمان مجتهدين. ونحن أيضاً لا نقول به».

ثم ذكر (رحمه الله): «أن ما نسبه ابن حزم إلى الأمة لا يصح إلا ما عن الخوارج المارقين عن الدين»(1).

وذكر (رحمه الله) أيضاً: موافقة الناس على قتل ابن ملجم عقوبة له. وأن كلاً منهم يودّ أن يكون هو المباشر لقتله.

ثم أضاف قوله: إن فعل ابن ملجم لم يكن مما يتطرق إليه الاجتهاد، فضلاً عن أن يبرره الاجتهاد، ولو كان هناك اجتهاد، فهو في مقابل النصوص المتضافرة(2).

وأما حديث: أن كل مجتهد مصيب، ونسبة ذلك إلى علي (عليه السلام). فلا شك في أنه غير صحيح ولا يشك ذو مسكة أن علياً لا يقول في التصويب في الاجتهاد، ولهذا البحث مجال آخر.

قاتل علي (عليه السلام) هو معاوية:

هذا.. وقد روي ما يشير إلى أن معاوية كان بتآمره وكيده وراء قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) على يد ابن ملجم، وتدل على ذلك أبيات لأبي الأسود الدؤلي، فهو يقول:

____________

(1) الغدير ج1 ص326.

(2) الغدير ج1 ص328.


الصفحة 339

ألا بلّغ معاوية بن حربفلا قرّت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونابخير الناس طراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطاياببرّ خير من ركب السفينا

إلى أن يقول:


إذا استقبلت وجه أبي ترابرأيت البدر حار الناظرينا(1)

ولاتستبعد ذلك على معاوية الذي كان من أصول الشجرة الملعونة في القرآن...

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

____________

(1) قضايا في التاريخ الإسلامي ص85 وفي هامشه تاريخ الدولة العربية ص98/99 عن الطبري، وتذكرة الخواص ص181، ومناقب آل أبي طالب ج3 ص315 ـ المطبعة العلمية ـ قم ـ إيران..


الصفحة 340

الصفحة 341

كلمة أخيرة

كان ما ذكرناه في هذا الكتاب مجرد ملاحظات، ولمحات وتحليلات، تستند إلى الوقائع والنصوص، رأينا أنها جديرة بالتسجيل والعرض ضمن فصول، وأبواب، وفق منهجية اعتقدنا أنها تسهِّل لنا إيصال ما نرمي إليه، إلى القارئ الكريم، مع حفظ التسلسل الطبيعي لها قدر الإمكان.

وقد يجد البعض ملامح ومبررات، تخوله أن يطلق عليها اسم بحث أو دراسة، ولن نعترض نحن بدورنا على هذه التسمية، بل قد استخدمنا نحن هذا التعبير أيضاً، مادمنا لم نجد حرجاً ظاهراً في ذلك، غير أن علينا أن نتعرف بأننا لم نخطط لهذه الدراسة منذ البداية لتكون مستوعبة وشاملة، ولا لتأخذ هذه الصفة أو تلك.

وما نريد أن نشير إليه هنا هو: أن هذه الدراسة قد كتبت قبل سنوات لتقدم إلى أحد المؤتمرات، الذي توخى أن يبحث في جوانب موضوعات كثيرة، كان من بينها الحركات والثورات التي ظهرت في المجتمعات الإسلامية على مدى التاريخ.


الصفحة 342
وقد وافق ذلك بعض الميل لدي إلى التعرف على هذا الموضوع بالذات الذي يمثل حالة كامنة، طالما عانى منها أمير المؤمنين (عليه السلام).

لاعتقادي: أن ذلك يفيد في التعرف على المحيط، وما فيه من خصائص فكرية وحالات اجتماعية، وغيرها مما كان يهيمن على الناس الذين عاشوا في ذلك المحيط، وكان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يتعامل معهم.

ومن الواضح: أن مستوى وعينا لذلك كله يؤثر بصورة مباشرة على فهمنا لحيثيات التعامل السياسي والاجتماعي لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ثم هو يؤثر على ما نستخلصه من دروس وعبر من مواقفه (عليه السلام) ومن حركته، فإنه الإمام المعصوم الذي يمثل الأسوة والقدوة.

ولكن علينا أن لا ننسى: أن هذه الدراسة أو هذا البحث ربما لم يستطع أن يلم بكل الجوانب، فقد بقيت ثمة مجالات كثيرة لابد من التصدي للبحث فيها إن عاجلاً أو آجلاً، لكي تكتمل ملامح الصورة، وليمكن إصدار الأحكام بثقة أكثر، وباطمئنان أتم.

كما أن هذا البحث لم يتصدّ لمعالجة حركة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، بصورة تفصيلية إلى حد الإغفال لأمور هامة إلا في حدود الإشارة والإلماح والتوسع حيناً، وباختصار شديد أحياناً أخرى..

ولأجل ذلك: فإن المفروض هو القيام بدراسات أخرى تهدف إلى استقصاء مواقفه (صلوات الله وسلامه عليه)، للتعرف على خصوصياتها وجزئياتها، بصورة أجمع وأوضح، وأوفى..

وكل ذلك الذي ذكرناه: يجعلنا نؤكد على أن هذه الدراسة تمثل دراسة تمهيدية، وليست هي الغاية ولا النهاية.


الصفحة 343
والتأمل فيما ذكرناه وسواه، وملاحظة الوقائع التاريخية، التي ترتبط بظهور «الخوارج»، ومواقفه (عليه السلام) عنهم يجعلنا نخرج بحقيقة: أنه لم يكن لأمير المؤمنين (عليه السلام) لا في أصل نشأتهم ولا في الظروف والعوامل التي ساعدت على ظهورهم أي اختيار، أو دور على الإطلاق.

كما أن ذلك يوضح: أن هؤلاء القوم لم يكونوا من أصحابه الذين تربوا على أفكاره، ومفاهيمه، التي هي الإسلام الخالص، ولا عرفوا من الإسلام إلا بعض الشعارات والظواهر العامة.. ولم يتربوا تربية دينية صحيحة وكاملة.. بل بقيت عصبياتهم القبلية، ومفاهيمهم الجاهلية، ونزواتهم العاطفية، ومصالحهم الشخصية، وغير ذلك مما تقدم.. هي المنطلق والدافع لهم في مختلف تصرفاتهم ومواقفهم.

وكان لجهلهم، وللأحوال الاجتماعية، والأخلاقية، وحتى الاقتصادية، وكذلك طبيعة الأحداث التي عاشوها بعد الفتح الإسلامي وغير ذلك من أمور، كان لذلك كله حالة من الهيمنة على ذلك المجتمع آنذاك، وتأثير كبير على علاقاتهم بمحيطهم، و بقائدهم، ونوعية ارتباطهم بهذا وذاك..

نعم.. وقد أدرك معاوية والأمويون. أو فقل: أعداء أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بصورة عامة ذلك كله، واستفادوا منه ما أمكنهم في سبيل تحقيق أهدافهم اللاإنسانية، واللامشروعة.. إما بمواقفهم المباشرة أحياناً، أو عن طريق التآمر والدس إلى عملائهم، والميالين إليهم أحياناً أخرى.

وملاحظة أخيرة نسجلها هنا، وهي: أن ما جاء في هذا البحث، بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى، ألمحنا إلى شيء منها في سائر مؤلفاتنا

الصفحة 344
يمثل أنموذجاً، يفيدنا: أن علياً أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) هو العلم الفرد الذي حقق المعجزات الكبرى والخالدة في مجال التعامل السياسي.

ولن تجدي المحاولات المغرضة التي يبذلها خصوم وأعداء أمير المؤمنين علي (عليه السلام) منذ كان حياً، وكذلك المستشرقون الحاقدون والمغرضون، ثم أحفاد أولئك، وأذناب هؤلاء. للحط من شأن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتصغير منزلته، بدعوى أنه لم يكن له خبرة سياسية كافية، وإلا لكان استمال هؤلاء، وخدع وغدر بأولئك واتبع سياسة التمزيق والفتنة تجاه فريق، أو القهر والقوة تجاه آخرين، إلى غير ذلك من الأساليب السياسية الرخيصة التي نواجهها في هذه الأيام، فتستقيم له بذلك الأمور، ويقوى موقعه في الحكم.

فإنه (عليه السلام) في نفس الوقت الذي التزم فيه بمبادئه، وبأحكام دينه في كل مواقفه السياسية، وفي تعامله مع الأحداث، دون أن يحيد عنها قيد شعرة، قد حقق أهدافاً كبيرة يستحيل تحقيقها على أي من السياسيين الذين يستعملون مختلف الأساليب المنحرفة وغير الإنسانية في سياساتهم وفي مواقفهم.

وهذا هو ما تظهره الدراسة الموضوعية النزيهة، والمنصفة، وهذا هو ما يفرضه الوجدان العلمي، وفق ما توفره النصوص التاريخية والحديثية والرجالية وغيرها.

ودع عنك كل الادعاءات والافتراءات التي تهدف إلى التزييف والتزوير للحقيقة، مما تنتجه عقول شيطانية، ما عرفت من المعايير والقيم الأخلاقية والإنسانية، والتوجيهات الإلهية، إلا اسمها، من أجل أن

الصفحة 345
تستخدمها في عملياتها الخيانية للتاريخ وللأمة، فهي أشد من الوحوش الضارية في فتكاتها بالقيم، وبالأخلاق، وبالدين، وبإنسانية الإنسان في كل مجالاتها واتجاهاتها، دونما رحمة ودون هوادة.

وبعد.. فإننا نأمل من أولئك المخلصين الذين يغارون على دينهم، وعلى مثلهم وعلى مقدساتهم أن يضاعفوا من جهودهم في البحث والتحقيق، لإظهار الكثير الطيب مما تعمدت الأيدي الآثمة طمسه، أو إبعاده عن الأنظار.

وفي الختام: إنني أعتذر إلى القارئ الكريم عما يجده من إيجاز يكاد يكون مخلاً في موارد كثيرة.

وأسأله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعل ثوابه لشهيد المحراب الأول علي أمير المؤمنين صلوات ربي عليه وسلامه..

ولكل شهداء الإسلام..

في كل زمان

وكل مكان..

والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطيبين الطاهرين..


30 / محرم / 1411هـ.ق
قم المشرفة ـ إيران   
جـعفر مرتضى العاملي