4 - مصارع القرون عوامل انحطاط الأمم
«مصارع القرون» تعبير استعمله الإمام في إحدى خطبه فقال «واعتَبِرُوا بِما قد رأيتُم مِن مصارِع القُرُونِ قبلَكُم»1. ويريد به الأمم الماضية أو الأجيال الماضية، فالقرن في اللغة جماعة الناس في عصر واحد2. فالإمام في هذا التعبير يوجّه الأفكار نحو التأمل في مصائر الأمم والشعوب، وكيف ولماذا تضعف وتتفسخ ويصيبها الإنحطاط والتخلف ؟.
ويتساءل الإمام في خطبة أخرى - ربّما تكون آخر خطبة، أو في أواخر كلامه في حشد عام3 - عن مصير الدّول والشّعوب القديمة، فيقول مخاطباً أصحابه:
«... وإنَّ لكُم فِي القُرُونِ السّالِفةِ لعِبرةً، أين العمالِقةُ وأبناء العمالِقةِ ؟ أين الفراعِنةُ وأبناءُ الفراعِنةِ ؟ أين أصحابُ مدائنِ الرَّسِّ الّذين قتلُوا النَّبِيِّين، وأطفأُوا سُننَ المُرسلِين4، وأحيوا
__________________________________
1 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 161.
2 . وردت هذه الكلمة كثيراً في الكتاب الكريم في سور مكيّة ومدنية، والمراد بها، على الظاهر، هذا المعنى. وورد له في كلام بعض أهل اللغة تفسير زماني، فقيل: القرن مدة أغلب أعمار الناس، وهو سبعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: ثلاثون سنة. وقيل: القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم، قلّ زمانه أو كثُر - وهذا التفسير الأخير يلحلظ معنى حضارياً للكلمة.
3 . قال الشّريف في نهج البلاغة: «رُوي عن نوف البكالي، قال: خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي (ع) بالكوفة، وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، وعليه مِدرعة من صوف، وحمائل سيفه من ليف، وفي رجليه نعلان من ليف، وكأن جبينه ثفِنةُ بعير، فقال عليه السلام... قال: وعقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرّجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعتِ العساكر، فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذّئاب من كلّ مكان».
4 . ورد ذكر هؤلاء في الكتاب الكريم مرتين: في سورة الفرقان (مكّيّة - 25) الآية 38 «وعاداً وثمُود وأصحابَ الرَّسِّ وقُروناً =
102
سُننَ الجبَّارِينَ ؟ أين الّذِينَ ساروا بِالجُيوشِ، وهزمُوا بِالالُوفِ، وعسكرُوا العساكِر، ومدَّنُوا المدائن ؟»1.
*
لقد كان الوضع الذاخلي لمجتمع الإمام أثناء حكمه العاصف يقتضيه أن يستعين بالتاريخ ليواجه ما كان يتردّى فيه هذا المجتمع - في العراق بوجه خاص - من انقسامات قبلية، ومواقف عنصرية، وتسلط لرؤساء المجموعات القبلية على قبائلهم، وافتتان كثير من النابهين في المجتمع والقياديين في المجموعات القبلية بالسخاء الّذي كانوا يتسامعون به عن معاوية بالنّسبة إلى أنصاره السياسيين... وكان يرى ببصيرته النافذة أنّ هذه الطريق تؤدي بالمجتمع إلى الكارثة: ستنهكه النّزاعات الدّاخلية، وتخلخل بنيانه وتذهب بتماسكه، وتدفع بقياداته إلى خيانة مجتمعها والإرتماء في أحضان الحكم الأموي الإستبدادي في سوريا، وتفقد العراق دوره القيادي في دولة الخلافة، فتجعله تابعاً صغيراً للشام.
وكان الإمام علي يواجه هذا الخطر بشتى الأساليب، وعلى مختلف المستويات.
ومن الأساليب الّتي استعملها على المستوى الشعبي أسلوب التنظير بالتاريخ لحال مجتمعه، عاملاً على أن يكوّن لدى الناس العاديّين وعياً تاريخيّاً، ورؤيةً للحاضر واقعيةً تدرك ما فيه من خطورة وإحساساً بمخاطر الممارسات الّتي تسود المجتمع... كلّ ذلك لأجل أن يبعث في نفوسهم وعقولهم الحذر والتبصّر حين تعرض عليهم خيارات سبّبت للأمم الماضية نكبات أضعفتها أو حطمتها.
ومن الأمور الهامة الّتي يجب التّنبيه عليها أنّ الإمام في تصويره لانحطاط الأمم ومصارع القرون لا يردّ ذلك إلى أسباب غيبية، وإنّما يعرض أسباباً موضوعية لهذا الإنحطاط كما سنرى.
__________________________________
= بين ذلِك كثِيراً» وفي سورة ق (مكية - 50) الآية 12 «كذَّبت قبلهُم قومُ نُوحٍ وأصحابُ الرَّسِّ وثمُودُ». والرّس في اللّغة: البئر المطوية بالحجارة، والرّس اسم بئر كانت لبقية من ثمود - أو لقوم بعد ثمود - أرسل اللّه إليهم رسولاً فكذّبوه فأهلكهم اللّه. وقيل أنّ الرّسّ اسم نهر كان هؤلاء على شاطئه.
1 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 182.
103
وأفضل الأمثلة الّتي يحتويها نهج البلاغة في موضوعنا هو الخطبة المسماة «القاصعة»1 وهو يعرض فيها الآفات الّتي تعرّض مجتمع العراق للخطر، ويذكر النظائر التاريخيّة لذلك عارضاً أسباب الإنحطاط.
*
عالج الإمام في هذه الخطبة آفة شديدة الخطورة كانت تتعاظم وتستفحل في مجتمع العراق في ذلك الحين. تلك هي آفة الصّراع الدّاخلي الّذي كان يمزق وحدة المجتمع العراقي ويشلّ فاعليته وينعكس بآثاره السّيئة وتفاعلاته المشؤومة على سائر دولة الخلافة.
وقد كان هذا الصّراع يبدو للمراقب بوجوه متنوعة:
1 - الصّراع القبلي:
فقد نشطت الرّوح القبلية والقيم القبلية، وعادت إلى الظهور فارضة منطقها في رسم خريطة العلاقات الإجتماعية والسّياسيّة داخل المجتمع، وكان ظهور الرّوح القبلية نتيجة لجملة من الأخطاء الّتي ارتكبت في عهد إدارة الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكانت أخطاء في السّياسة، وفي الإدارة، وفي التنظيم الإقتصادي، وفي التّوجيه الثقافي العام.
ويبدو أنّ هذه الرّوح القبلية قد سبّبت تخريباً واسع النطاق داخل المجتمع العراقي، ونرجح أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يستغلّها للإمعان في تصديع وحدة مجتمع العراق.
ويبدا أنّ هذه الرّوح القبلية الّتي كان يذكّيها أصحاب المصالح الخاصة
__________________________________
1 . قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الكلمة:
«يجوز أن تسمى هذه الخطبة «القاصعة» من قولهم: قصعت الناقة بجرّتها، وهو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها لتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مردّدة من أوّلها إلى آخرها شبهها بالناقة الّتي تقصع الجرّة. ويجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه، وسكنه».
شرح نهج البلاغة - ج 13 / ص 128.
104
قد أفلحت إلى حدّ بعيد في تمزيق وحدة المجتمع، وإشاعة روح الشكّ والضغينة بين فئاته السّياسيّة، وداخل كلّ فئة أيضاً. يصوّر لنا ذلك نصّ في إحدى خطب الإمام يحذّر ويؤنّب فيه مجتمعه، قال:
«قدِ اصطلحتُم على الغِلِّ فيما بينكُم1 ونبت المرعى على دِفِنكُم2. وتصافيتُم على حُبِّ الآمالِ. وتعاديتُم فِي كسبِ الأموالِ. لقد استهام بِكُمُ الخبث3، وتاه بِكُمُ الغُرورُ4، واللهُ المُستعانُ على نفسِي وأنفُسِكُم»5.
وقد روى ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ما يصور التخريب والتمزيق اللّذين كانت تحدثهما هذه الرّوح القبلية، قال:
«وقيل أنّ أصل هذه العصبية وهذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين، وكانوا قبائل في الكوفة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنّخع! مثلاً، أو يالكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشّر، فيتألّب عليه فتيان القبيلة الّتي مرّ عليها، فينادون: يالتميم! ويالربيعة! ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها، فتسلّ السّيوف وتثور الفتن، ولا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض»6.
وما لا يرى ابن أبي الحديد له أصلاً نرى له أصلاً في دسائس معاوية أو عملائه الّذين نقدّر أنَّهم يشجّعون أمثال هذه الممارسات القبليّة، ويمدّونها بمزيد من أسباب
__________________________________
1 . الغل: الحقد، اتفقتم على تمكين الحقد في نفوسكم.
2 . الدّفن: جمع دفنة، ما يتجمد ويتلبد من الضابط وردت الماشية، ينبت عليه العشب ونبتت المرعى عليه: استر بظواهر النفاق الإجتماعي فيبدو ظاهره سليماً أخضر وواقعه بشع منفر. شهروا أحقادهم الّتي يسترونها بالنفاق فيما بينهم بهذه القذارة الّتي يسترها العشب فتبدو جملة تخدع بظاهرها وهي في الواقع قذرة نجسة.
3 . استهام بكم: تعلق بكم الشيطان فأغواكم.
4 . الغرور: ما يسبّب الإنخداع.
5 . نهج البلاغة - رقم الخطبة - 133.
6 . ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 13 ص 167 - 168.
105
الإثارة والهياج ليزيدوا مجتمع العراق إنهاكاً وتمزّقاً. وكذلك نرى لها أصلاً في سياسات رؤساء القبائل الّذين كان نهج عليّ السّياسيّ يهدّد سلطانهم ونفوذهم، فكانوا يشجّعون العامّة والبسطاء على أمثال هذه الممارسات ليثبّتوا سلطانهم على قبائلهم.
2 - الصّراع العنصري:
لقد كان مجتمع العراق، كغيره من بلاد الإسلام في ذلك الحين، يضمّ مجموعات كبرى من المسلمين غير العرب الّذين أدّى التّوسّع في الفتوح خارج شبه الجزيرة العربية إلى احتلال بلادهم في إيران ومستعمرات الإمبراطوريّة البيزنطيّة (مصر وسوريا، وغيرهما)، ومن ثم أدّى إلى دخول كثير منهم في الإسلام.
وقد كان هؤلاء - من الناحية النظرية - يتمتعون بحقوق مساوية لحقوق المسلمين العرب كما يتحملون واجبات مساوية. لقد ضمن لهم الإسلام مركزاً حقوقياً مساوياً تماماً للمسلمين العرب، ولكنهم كانوا من الناحية الواقعية يعانون من التمييز العنصري بسبب انطلاق الرّوح القبلية والعصبية العربية.
وقد ألغى الإمام علي فور تسلّمه السلطة جميع مظاهر التّمييز العنصري والعصبية العنصرية الّتي كان يعاني منها، بشكل أو بآخر، المسلمون غير العرب.
وقد أثار ذلك ردود فعل سلبيّة عند زعماء القبائل، فاحتجوا على التسوية في العطاء بينهم وبين الموالي (المسلمين غير العرب)، واندفعوا ينصحون الإمام عليّاً قائلين:
«يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من النّاس»1.
وكان هؤلاء ينظرون في نصيحتهم هذه وينطلقون في نظريتهم السّياسيّة هذه من التجربة الّتي كان يقوم بها معاوية بن أبي سفيان.
__________________________________
1 . ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة.
106
ولكنّ الإمام علياً كان ينطلق في ممارسته السّياسيّة من قاعدة أخرى، فأجابهم قائلاً:
«أتأمُرُونِّي أن أطلُب النَّصر بِالجورِ فِيمن وليتُ عليهِ ؟!! واللهِ لا أطُورُ1 بهِ ما سمر سمِير2، وما أمَّ نجم فِي السَّماء نجماً»3.
*
وتشتمل الخطبة القاصعة على عدّة شواهد تدلّ على أنّ ما كان يثير في نفس الإمام قلقاً عميقاً ليس الصّراع القبلي المستفحل وحده، بل الصّراع العنصري أيضاً.
هذا الصراع بوجهيه - القبليّ والعنصريّ - كان، بالإضافة إلى أنّه آفة في ذاته، يؤدّي إلى توليد آفات أخرى:
1 - يعمّق ويرسّخ الواقع الإجتماعي القبلي والتكوين الإجتماعي القبلي للمجتمع في الثقافة العامّة، والبنية النّفسية للفرد، وبذلك يحول دون تطوّر التركيب الإجتماعي من طور القبلية الّتي تقسم المجتمع إلى وحدات تقوم على علاقة الدّم إلى طور التّوحد على أساس العقيدة والشّريعة والمؤسسات والمصالح المشتركة، وهو يؤدّي بالتّالي إلى أن يكون معوّقاً حضارياً أيضاً يجمّد المجتمع في حالة التخلف على صعيد المؤسسات والإنجازات التنظيمية.
2 - يزيد ويعزّز سلطة رؤساء القبائل على قواعدهم القبلية، فيؤثر ذلك على فاعلية أجهزة السّلطة المركزية ويضعفها.
3 - يؤثر على تلاحم المجتمع - وهو في حالة حرب مع القوى الخارجة على الشّرعية في الشام، ومع الخوارج.
__________________________________
1 . أطور به: من طار يطور، بمعنى: حام حول الشّيء، وقاربه، يعني: لا أقارب الجور فيمن ولّيت عليه.
2 . ما سمر سمير: يعني مدى الدّهر.
3 . نهج البلاغة - رقم النص 126. ما أمّ نجم فِي السماء.. يعني مدى الدّهر. في هذا الموضوع راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) الطبعة الثانية، فصل (المجتمعات والطبقات الإجتماعيّة) وكتابنا (ثورة الحسين)، الطبعة الخامسة - ص 101 - 172.
107
4 - يعزّز إمكانات تسلل معاوية بن أبي سفيان إلى داخل التكوينات السياسية في مجتمع العراق، وهي القبائل.
*
وننتقل الآن إلى عرض الشّواهد من الخطبة القاصعة1.
بيّن الإمام أوّلاً أنّ الكبرياء من صفات اللّه تعالى. ومن ثمّ فليس للناس أن يتكبّر بعضهم على بعض.
ثم عرض، ثانياً، لكبرياء أبليس، وتعصّبه ضدّ آدم مفتخراً بأصله، وذكّر بأن كبرياء إبليس كانت كارثة عليه إذ قضت على منزلته العالية.
ثم قرن الإمام بين كبرياء إبليس وكبرياء البشر على بعضهم، واعتبر المتكبرين أتباعاً لإبليس في هذا الخُلق الذميم:
«صدَّقهُ بهِ أبناء الحمِيَّةِ2، وإخوانُ العصبيّةِ، وفرُسانُ الكِبرِ والجاهِليَّةِ، حتَّى إذا انقادت لهُ الجامِحَةُ مِنكُم3، واستحكمتِ الطَّماعِيّةُ مِنهُ فيكُم - فنجمتِ4 الحالُ مِن السِّرِّ الخفِيِّ إلى الأمر الجلِيِّ - استفحل سُلطانُهُ عليكُم5. فأصبحتُم أعظم في دينِكُم حرجاً، وأوروى فِي دُنياكُم قدحاً7 مِن الّذين أصبحتُم لهُم مُناصِبينَ وعليهِم مُتألِّبينَ».
وهكذا بيّن لهم الإمام أن الشرّ والفساد النّاشئين عن العصبيّة، والصّراع النّاتج منها لا يقتصر تأثيرها على الجانب الديني والإيماني فقط، وإنّما يتعدى ذلك إلى التّأثير
__________________________________
1 . نهج البلاغة - رقم الخطبة: 192.
2 . الحميّة: الأنفة والغضب.
3 . الجامحة: من جموح الفرس - أراد أنّ الفئة الّتي لم تطع إبليس وجمحت عنه عادت فأطاعته واتّبعت سبيله في الكبرياء. أو أنّ الفئة الّتي جمحت عن الشرع انقادت إلى إبليس.
4 . نجم: ظهر. أي أنّ العصبية بعدما كانت خفية في النّفوس ظهرت في ممارسات علنية.
5 . استفحل: قوي واشتدّ وصار فحلاً.
6 . الحرج: لغة في الحرج - بفتح الرّاء - وهو الإثم . يريد: إنّكم بطاعتكم لإبليس أصبحتم أعظم إثماً في دينكم. ورواية النّسخة المتداولة من النهج (فأصبح)، ولا يستقيم المعنى عليها، ورواية ابن أبي الحديد في شرحه (فأصبحتم) وقد اعتمدناها لأنّها أوفق بالمعنى.
7 . أورى: اشد قدحاً وتوليداً للنار. كناية عن تخريب دنياهم بالفتن والقلاقل.
108
على الوضع الحياتي الدّنيوي، لهذه العصبيّة (أورى في دُنياكم قدحاً) من هؤلاء الّذين تخافون منهم على امتيازاتكم المادّيّة فتتعصبون ضدّهم.
ثم أثار الإمام في أذهانهم ذكرى تاريخية يعرفونها من القرآن، هي قصة ابني آدم:
«ولا تكُونُوا كالمُتكبِّرِ على ابنِ أمِّهِ من غيرِ ما فضلٍ جعلهُ اللهُ فيه سِوى ما ألحقتِ العظمةُ بِنفسِهِ مِن عداوةِ الحسدِ، وقدحتِ الحميّةُ في قلبه من نارِ الغضب، ونفخ الشيطانُ في أنفِهِ من ريحِ الكِبرِ الّذي أعقبهُ اللهُ بهِ النَّدامةَ، وألزمهُ آثام القاتِلين إلى يومِ القيامةِ».
ثم يعود الإمام إلى تأنيب سامعيه على ما هم عليه من روح قبلية، وتعصب عنصري ذميم، مبيناً لهم أنّ هذه الآفة الخطيرة الوبيلة قد ابتليت بها الأمم الماضية وذاقت مرارتها:
«ألا وقد أمعنتُم في البغي1، وأفسدتُم في الأرضِ، مُصارحةً للّه بالمُناصبةِ2، ومُبارزةً للِمؤمنينَ بِالمُحاربةِ (يقصد بالمؤمنين أولئك الّذين توجّه ضدهم العصبيّة) فاللّه اللّه في كِبرِ الحمِيَّةِ، وفخر الجاهليَّةِ، فإنَّه ملاقِحُ الشَّنآنِ3 ومنافخُ الشيطانِ، الّتي خدعَ بِها الأُمم الماضِية والقُرُون الخالِية4. أمراً تشابهتِ القُلُوبُ فيه، وتتابعتِ القُرونُ عليهِ، وكِبراً تضايقتِ الصُّدُورُ بهِ».
ثم يوجّه الأنظار بصورة مباشرة إلى القيادات الّتي تغذّي هذه الآفة، وتؤجّج نارها وهم زعماء القبائل:
«ألا فالحذر الحذر مِن طاعةِ ساداتِكُم، الّذين تكبَّرُوا عن حسبِهِم وترفَّعُوا فوق نسبِهِم... فإنَّهُم قواعِدُ أساسِ العصبِيَّةِ، ودعائمُ أركانِ الفِتنةِ، وسُيُوف اعتِزاءِ5 الجاهِلية. فاتقُوا اللّه
__________________________________
1 . أمعنتم في البغي: بالغتم فيه، من أمعن في الأرض، أي ذهب فيها بعيداً.
2 . مصارحة للّه..: أي مكاشفة يعني الإعلان بالمعاصي، وعدم التستر في شأن العصبيّة والتكبر الجاهلي.
3 . ملاقح جمع ملقح، وهو المصدر من لقحت: والشّنآن: البغض يريد أنّ الكبر والفخر الجاهلي مكان البغضاء والحقد ومثارهما.
4 . منافخ الشيطان: جمع منفخ، مصدر من نفخ: يعني أن الكبر والفخر هما المكان الّذي ينفخ فيه الشّيطان من نفس الإنسان فيدفعها إلى الشّر والجريمة.
5 . اعتزاء الجاهلية: الإعتزاء هو الإنتساب، أي أنّهم يفتخرون بأنسابهم وآبائهم، كقولهم: يا لفلان، أو: يا لآل فلان.
109
ولا تكُونُوا لِنِعمِهِ عليكُم أضداداً، ولا لفضلِهِ عِندكُم حُسَّاداً، ولا تُطيعُوا الأدعياء الَّذِينَ شربتُم بصفوكُم كدرهُم1، وخلطتُم بصحَّتكُم مرضهُم، وأدخلتُم في حقِّكُم باطِلهُم، وهُم أساسُ الفُسُوقِ وأحلاسُ العُقُوقِ...»2.
ثم يعود الإمام إلى التنظير بالتاريخ، مذكّراً بالنهايات الفاجعة للأُمم والشعوب الّتي فتكت بها آفة التّعصب والتّناحر، مقابلاً ذلك بالنهج النبوي الإنساني البعيد عن الكبر:
«فاعتبِرُوا بِما أصابَ الأُمم المُستكبِرين مِن قبِلكُم مِن بأسِ اللّهِ وصولاتِهِ، ووقائعِهِ ومثُلاتِهِ واتّعِظُوا بِمثاوي خُدُودهِمِ ومصارع جُنُبوبِهِم... فلو رخَّص اللّه في الكِبر لأحدٍ مِن عِبادِهِ لرخّص فيه لِخاصَّةِ أنبيائهِ... ولقد دخل مُوسى بنُ عِمران ومعهُ أخُوهُ هارُون - عليهِما السّلام - على فِرعون وعليهِما مدارعُ الصُّوفِ5، وبِأيديهِما العِصِيُّ، فشرطا لهُ - إن أسلم - بقاءَ مُلكِهِ، ودوام عِزّهِ، فقالَ: (ألا تعجبُون مِن هذينِ يشرِطانِ لي دوامَ العِزِّ وبقاء المُلكِ، وهُما بِما ترونَ مِن حالِ الفقرِ والذُّلِ)».
ويستمرّ الإمام في التّنظير التّاريخيّ، داعياً مستمعيه إلى فحص المواقف التاريخيّة الّتي مرّت على الأمم السّابقة، وتجنّب الإختيارات والتّجارب الّتي أدّت إلى الإنحطاط والإنهيار، واختيار المسلكيّة الّتي ثبت بالتّجربة صلاحها:
«... واحذرُوا ما نزلَ بِالاُممِ قبلكُم مِن المثُلاتِ بِسُوءِ الأفعالِ وذميمِ الأعمال. فتذكّرُوا في الخير والشَّرِّ أحوالهُم، واحذرُوا أن تُكُونُوا أمثالهُم. فإذا تفكَّرتُم في تفاوُتِ حاليِهم، فالزمُوا كُلَّ أمرٍ لزِمتِ العِزَّةُ بهِ شأنهُم، وزاحتِ الأعداءُ لهُ عنهُم6. ومُدَّتِ العافيةُ بهِ عليهِم،
__________________________________
1 . المراد من هذه الجملة وما بعدها أنّ هؤلاء الزعماء يفسدون بنزعاتهم الشرّيرة حياتكم وإيمانكم وطهارة نفوسكم.
2 . الأحلاس: جمع حلس. وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكلّ ملازم أمر: هو حلس ذلك الأمر. فهؤلاء المغدون من رؤساء القبائل ملازمون للعقوق والتنكر لنعم اللّه ولأحكام الشرع وقواعد الأخلاق.
3 . المثلات والوقائع: يقصد بهما عقوبات اللّه الّتي استحقوها نتيجة لإنحرافاتهم.
4 . المثوى: المنزل. مواضع حدودهم بعد الموت على التراب، ومصارع جنوبهم: مواقعها بعد الموت على التّراب.
5 . مدارع الصّوف: جمع مدرعة - بكسر الميم - وهي كالكساء.
6 . زاحت: بعدت. وله: لأجله، يعني: الزموا كل أمر خافتهم الأعداء بسببه.
110
وانقادتِ النعمةُ لهُ معهُم، ووصلَتِ الكرامةُ عليهِ حبلهُم، مِن الإجتنابِ لِلفُرقةِ، واللُّزُوم للأُلفةِ، والتَّحاضِّ عليها1، والتَّواصي بِها.
«واجتنبُوا كُلَّ أمرٍ كسر فِقرتهُم2، وأوهنَ مِنّتهُم3 مِن تضاغُن القُلوبِ4، وتشاحُن الصُّدورِ، وتدابُرِ النُّفُوسِ وتخاذُلِ الأيدي...»5.
ويستمر الإمام في تنظيره التاريخي بتقديم أمثلة محددة من حياة الإسرائيليين والعرب، بعدما كان في تنظيره السّابق يذكر الأمم بشكل عام، دون أن يخصّ بالذّكر أمة بعينها:
«... وتدبَّرُوا أحوال الماضِين مِن المُؤمِنينَ قبلكُم: كيف كانُوا في حالِ التّمحِيص6 والبلاءِ. ألم يكُونُوا أثقلَ الخلائقِ أعباءً، وأجهد العِبادِ بلاءً7 وأضيق أهلِ الدُّنيا حالاً. اتخذتهُم الفراعِنةُ عبيداً فسامُوهُم سُوء العذابِ، وجرَّعُوهُمُ المُرار8، فلم تبرحِ الحالُ بِهم في ذُلِّ الهلكةِ وقهرِ الغلبةِ... حتَّى إذا رأى اللّه سُبحانهُ جدّ الصَّبر منهُم على الأذى في محبَّتهِ9، والإحتمالَ للمكرُوه من خوفِهِ، جعلَ لهُم في مضايقِ البلاءِ فرجاً، فأبدَلهُمُ العِزَّ مكان الذُّلِّ، والأمنَ مكان الخوف، فصاروا مُلوكاً حُكّاماً، وأئمَّةً أعلاماً... فانظُرُوا كيفَ كانُوا حيثُ كانتِ الأَمْلاءُ مجتمِعةً10، والأهواء مُؤتلِفةً، والقُلُوبُ مُعتدِلةً، والأيدى مُترادفِةً11، والسُّيوفُ مُتناحِرةً، والبصائرُ نافِذةً12، والعزائمُ واحِدةً، ألم يكُونُوا أرباباً في أقطارِ الأرضين،
__________________________________
1 . التحاض، صيغة تفاعل من الحض بمعنى الحث والترغيب، يعني أن يحث بعضكم بعضاً على الإتحاد والتعاون.
2 . الفقرة: واحدة فقر الظهر. ويقال لمن اصابته مصيبة شديدة: قد كسرت فِقرته. يعني اجتنبوا كلّ ما أضعف الأمم السّابقة وسبب لها الإنحطاط.
3 . المنة: القوة، ومعنى الجملة كسابقتها.
4 . تضاغن القلوب وتشاحن الصّدور بمعنى واحد: تبادل البغضاء بين فئات المجتمع.
5 . تخاذل الأيدي: ألا ينصر الناس بعضهم بعضاً ولا يتعاونون في حالات الخطر.
6 . التّمحيص: التّطهير والتّصفية.
7 . أجهد العباد: أكثرهم تعباً.
8 . المرار: شجر مر في الأصل، كناية عمّا أصابهم من العذاب والهوان على أيدي الفراعنة.
9 . رأى اللّه منهم جد الصّبر، أي أشد الصّبر.
10 . الأملاء: الجماعات، الواحد: ملأ، يريد اتحاد الفئات الإجتماعية وتعاونها.
11 . مترادفة: متعاونة.
12 . البصائر نافذة: الإرادة عازمة جازمة غير متردّدة للعلم بحقيقة الموقف أو الشّيء.
111
ومُلُوكاً على رِقابِ العالَمِينَ.
«فانظُرُوا إلى ما صارُوا إليه في آخرِ أمُورِهم، حين وقعتِ الفُرقَةُ وتشتَّتتِ الألفةُ، واختلفتِ الكلِمةُ والأفئدَةُ، وتشعَّبُوا مُختلِفين، وتفرَّقُوا مُتحارِبين، قد خلع اللّه عنهُم لِباس كرامتِهِ. وسلبهُم غضارَة نِعمتِهِ1، وبقي قصصُ أخبارِهِم فِيكُم عِبراً لِلمعُتبرين مِنكُم.
«فاعتبِروا بحالِ ولدِ إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل عليهِمُ السلامُ، فما أشدَّ اعتِدالَ الأحوالِ2 وأقربَ اشتِباه الأمثالِ.
«تأمَّلُوا أمرهُم فِي حالِ تشتُّتهِم وتفرُّقهم ليالِي كانت الأكاسرةُ والقياصِرةُ أرباباً لهُم. يختارُونهم عن ريفِ الآفاق3، وبحرِ العِراقِ4 وخُضرةِ الدُّنيا، إلى منابتِ الشِّيح ومهافِي الرِّيح5، ونَكد المَعاشِ6 فتركُوهُم عالةً مساكِينَ، إخوانَ دبرٍ ووبرِ7، أذلَّ الاممِ داراً، وأجدبهُم قراراً، لا يأووُن إلى جناحِ دعوةٍ يعتصِمُون بها، ولا إلى ظِلِّ ألفةٍ يعتمدُون على عِزِّها، فالأحوالُ مُضطرِبة، والأيدي مُختلفة، والكثرةُ متفرقة، في بلاءِ أزلٍ8 وأطباقِ جهلٍ9، من بناتٍ موؤودةٍ، وأصنام معبُودةٍ، وأرحامٍ مقطُوعة، وغاراتٍ مشنُونةٍ.
«فانظُروا إلى مواقِعِ نعمِ اللهِ عليهِم حينَ بعثَ إليهِم رسُولاً، فعقدَ بمِلِّتهِ طاعتهُم، وجمع على دعوتهِ أُلفتهُم كيف نشرتِ النِّعمةُ عليهم جناحَ كرامتِها، وأسالت لهُم جداول نعيمها. والتفَّتِ المِلَّةُ بهم في عوائد بركتِها، فأصبحُوا في نعمتها غرقين10 وفي خُضرةِ عيشِها فكهين11 قد تربَّعتِ الأمُورُ بهم12 في ظلِّ سُلطانٍ قاهرٍ وآوتهُمُ الحالُ إلى كنفِ عزٍّ غالبٍ13
__________________________________
1 . الغضارة: النّعمة اللّينة الطّيّبة.
2 . ما أشدّ اعتدال الأحوال: ما أشبه الأشياء بعضها ببعض.
3. الرّيف: الأرض ذات الخصب والزرع، والجمع أرياف.
4 . بحر العراق: دجلة والفرات. قال ابن أبي الحديد: 13 / 173 «أمّا الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق، وأمّا القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشّام وما فيه من المرعى والمنتجع».
5 . يقصد البادية الخالية مِن الزّرع والمياه والعمران.
6 . نكد المعاش: قلّته، وصعوبة الحصول عليه، وخشونته.
7 . عالة: فقراء (دبر ووبر) دبر البعير عقرة القتب. والوبر للبعير بمنزلة الصّوف للضأن. يريد أنّهم كانوا عالة فقراء يمثل البعير ثروتهم، ومرضه شغلهم الشاغل.
8 . الأزل: الضّيق والشّدّة، يريد بلاء شديداً شغلهم عن كلّ شيء.
9 . أطباق، جمع طبق. أي جهل متراكم بعضه فوق بعض.
10 - غرقين: من الغرق، مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة.
11 . فكهين: بمعنى ناعمين.
12 . تربّعت الأمور بهم، أي أقامت، من: ربع بالمكان أي أقام فيه، يعني استقرار أحوالهم السّياسيّة والمعيشيّة.
13 . آوتهم الحال: ضمتهم وأنزلتهم، والكنف: الجانب.
112
وتعطَّفتِ الأمُورُ عليهم في ذُرى ملكٍ ثابتٍ1 فهُم حُكّام على العالمين، ومُلُوك في أطرافِ الأرضين. يملِكُون الأمُور على من كان يملِكُها عليهم، ويُمضُون الأحكام فيمن كان يُمضِيها فيهم، لا تُغمزُ لهم قناة، ولا تُقرعُ لهم صفاة2...
«وإنَّ عندكُمُ الأمثالُ من بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيَّامهِ ووقائعهِ3، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بِأخذهِ وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسِهِ فإنَّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم إلا لتركِهم الأمرَ بالمعرُوف والنّهي عن المُنكرِ، فلعن اللّه السُّفهاء لرُكُوب المعاصي، والحُلماءَ لتركِ التناهي»4.
__________________________________
1 . تعطّفت.. كناية عن السّعادة والإقبال، يقال: تعطّف الدّهر على فلان، أي أقبل حظّه وسعادته، والذّرى الأعالي، جمع ذروة، كناية عن عزّهم وقوّتهم وامتناعهم.
2 . لا تغمز.. لا تقرع.. مثل يضرب لمن لا يجترأ عليه لعزته وقوته.
3 . الأمثال هي ما ورد في القرآن بما قصّه اللّه تعالى من أحوال الأمم القديمة وكيف نزلت بها الكوارث نتيجة لممارساتها المنحرفة.
4 . التّناهي مصدر تناهى القوم عن كذا، أي نهى بعضهم بعضاً. يقول: لعن اللّه الماضين من قبلكم لأنّ سفهاءهم ارتكبوا المعصية. وحلماءهم لم ينهوهم عنها وهذا من قوله تعالى في شأن بني إسرائيل (كانُوا لا يتناهَونَ عن مُنكرٍ فعلُوهُ لبِئسَ ما كانُوا يفعلونَ) سورء المائدة / 79.
5 - المعروف والمنكر والأكثرية الصّامتة
من فرائض الإسلام الكبرى فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وقد ورد تشريع هذه الفريضة في الكتاب الكريم والسّنّة الشّريفة في عدة نصوص دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على جميع المسلمين بنحو الواجب الكفائي1.
كما وردت نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسّنّة، منها ما يشتمل على بيان الشّروط التي يتنجز بها وجوب هذه الفريضة على المسلم. ومنها ما يضيء الجوانب السّياسية والإجتماعية لهذه الفريضة، كما يوضح المبدأ الفكري الإسلامي العام الّذي ينبثق منه هذا التّشريع، دلّ على وجوب هذه الفريضة من الكتاب الكريم قوله تعالى:
«ولتكُن مِنكُم أُمَّة يدعُون إلى الخيرِ ويأمُرُون بِالمعرُوفِ وينهون عن المُنكرِ، أُولئك هُمُ المُفلحُون»2.
فقد دلّت هذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من جهة دلالة لام الأمر في «ولتكن» على الوجوب.
__________________________________
1 . من جملة تقسيمات الواجب عند علماء أُصول الفقه تقسيمه إلى واجب عيني وواجب كفائي. ويعنون بالواجب العيني ما يتعلق بكلّ مُكلَّف ولا يسقط عن أحد من المكلّفين بفعل غيره. ويعنون بالواجب الكفائي ما يطلب فيه وجود الفعل من أيّ مكلّف كان، فهو يجب على جميع المكلّفين ولكن يكتفى بفعل بعضهم فيسقط عن الآخرين. نعم إذا تركه جميع المكلّفين فالجميع مذنبون. وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشّريعة منها تجهيز الميّت والصّلاة عليه، ومنها الحِرَف والصّناعات والمِهَن الّتي يتوقف عليها انتظام شؤون حياة النّاس ومنها الإجتهاد في الشّريعة، ومنها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
2 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 104.
114
كما أنّ ظاهرها أنّ الواجب هنا كفائي لا عيني، لأن مفاد الأمر تعلّق بأن تكون في المسلمين أُمّة تأمر وتنهى، لا بجميعهم على نحو العينيّة الإستغراقيّة وعليه فإذا قامت جماعة منهم بهذا الواجب سقط الوجوب عن بقيّة المكلّفين كما هو الشّأن في الواجب الكفائي.
ولم يحدّد في القرآن والسّنّة عدد مخصوص لأفراد هذه الأمّة، فيراعى في عدد الأفراد القائمين بالواجب مقدار الوفاء بالحاجة.
وقد جعل اللّه تعالى في كتابه الكريم وعي هذه الفريضة، وأدائها حين يدعو وضع المجتمع إلى ذلك، من صفات المؤمنين الصّالحين، فقال تعالى:
«والمُؤمِنُون والمُؤمِناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمُرُون بِالمعرُوفِ، وينهون عن المُنكرِ، ويُقيمُون الصَّلاةَ وُيؤتُون الزَّكاة ويُطيعُون اللّه ورسُولهُ اُولئك سيرحمُهُمُ اللّه إن اللّه عزيز حكيم»1.
فقد دلّت الآية المباركة على تضامن المؤمنين بعضهم مع بعض في عمل الخير والبرّ والتقوى، وأنّهم جميعاً من جنود هذه الفريضة حين يدعوهم الواجب إليها.
وسياق الآية الكريمة دالّ على وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، من حيث أن بقيّة ما ورد في الآية كلّه من الواجبات المعلومة في الشريعة (الصّلاة، والزّكاة، وطاعة اللّه ورسوله)2، وإن لم تكن الدّلالة السّياقيّة من الدّلالات الّتي لها حجيّة في استظهار الأحكام الشّرعية.
وكما ورد مدح المؤمنين والمؤمنات - كأفراد - في الآية الآنفة، فقد ورد في آية أخرى مدح المسلمين كافّة - كأمّة ومجتمع - من حيث وعيهم لهذه الفريضة وعملهم بها، وتلك هي قوله تعالى:
__________________________________
1 . سورة التّوبة (مدنيّة - 9) الآية: 71.
2 . ربّما يكون المراد من طاعة اللّه ورسوله، بعد ذكر الأمر والنّهي والصّلاة والزّكاة - الطاعة في الشّأن السّياسي، فلا يكون من ذكر العامّ بعد الخاص.
115
«كُنتُم خير أُمَّةٍ أُخرِجت لِلناسِ تأمُرُون بِالمعرُوفِ وتنهون عن المُنكرِ، وتُؤمنُون بِاللّه»1.
وقد مدح اللّه في كتابه الكريم المسلمين من أهل الكتاب، أتباع الأنبياء السّابقين قبل بعثة النّبيّ محمّد (ص) بوعيهم لهذه الفريضة والعمل بها، ممّا يكشف عن أنّها فريضة عريقة في الإسلام منذ أقدم عصوره وصيغهِ، وأنّها قد كانت فريضة ثابتة في جميع مراحله التّشريعيّة الّتي جاء بها أنبياء اللّه تعالى جيلاً بعد جيل. قال تعالى:
«ليسُوا سواءً مِن أهلِ الكتابِ أُمَّة قائمة يتلُون آياتِ اللهِ آناء الليلِ وهُم يسجُدُون. يُؤمنُون بِاللّه واليوم الآخرِ، ويأمُرُون بِالمعرُوف وينهون عن المُنكرِ، ويُسارعُون في الخيراتِ وأُولئك مِن الصّالحين»2.
*
وقد كان إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع من شواغل الإمام الدّائمة. وقد تناولها في خطبه وكلامه - كما تعكس لنا ذلك النّماذج الّتي اشتمل عليها نهج البلاغة - من زوايا كثيرة:
تناولها كقضيّة فكريّة لا بدّ أن توعى لتغني الشّخصية الواعية، وباعتبارها قضية تشريعية تدعو الأمّة والأفراد إلى العمل.
ومن هذين المنظورين عالجها بعدة أساليب.
*
لقد أعطاها منزلة عظيمة، تستحقها بلا شك، بين سائر الفرائض الشرعيّة، فجعلها إحدى شعب الجهاد الأربع:
«.. والجهادُ منها - من دعائمِ الإيمانِ - على أربعِ شُعبٍ: على الأمرِ بالمعرُوف والنَّهي عن المُنكرِ، والصِّدقِ في المواطن، وشنآن الفاسقينَ، فمن أمرَ بالمعرُوفِ شدَّ ظُهُور المؤمنين، ومن نهى عن المُنكرِ أرغم أنُوف الكافرين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن
__________________________________
1 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 110.
2 . سورة آل عِمران (مدنيّة - 3) الآية: 113 - 114.
116
شنِئ الفاسِقِين وغضِب للّه غضِب اللّهُ لهُ وأرضاهُ يوم القيامةِ»1.
وجعل الإمام هذه الفريضة، في كلام له آخر، تتقدم على أعمال البرّ كلّها، فقال:
«... وما أعمالُ البِرِّ كُلُّها، والجهادُ في سبيلِ اللّه عندَ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ إلا كنفثةٍ2 في بحرٍ لُجِّيٍّ...»3.
ومن السّهل علينا أن نفهم الوجه في تقدّم هذه الفريضة على غيرها إذا لاحظنا أنّ أعمال البرّ تأتي في الرّتبة بعد استقامة المجتمع وصلاحه المبدئي - الشّرعي والأخلاقي - وأنّ الجهاد لا يكون ناجعاً إلا إذا قام به جيش عقائدي، وهذه كلّها تتفرع من الوعي المجتمعي للشريعة والأخلاق، ومن الحد الأدنى للإلتزام المسلكي بهما.
*
في بعض كلماته بيّن الإمام جانباً من الأسباب الموجبة لهذا التّشريع، فقال:
«فرضَ اللّهُ... والأمرَ بالمعرُوفِ مصلحةً للعوامِّ، والنَّهي عن المُنكرِ ردعاً للسُّفهاءِ»4.
فعامّة النّاس الّذين قد يقعون في إثم ترك الواجبات لأنّهم لا يعرفونها على وجهها أو يجهلونها، يمكّنهم الأمر بالمعروف من التعلّم والتفقّه، بالإضافة إلى أولئك الّذين يقعون في إثم ترك الواجب وهم يعرفون الواجب والحرام حيث يردّهم الأمر بالمعروف إلى جادّة الصّواب والإستقامة، كما يرد إليها السّفهاء الّذين يتجاوزون في لهوهم وعبثهم حدود اللّه.
*
وللأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مراتب متدرجة من الأدنى إلى الأعلى، فهي
__________________________________
1 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 31.
2 . النفثة - كالنّفخة لفظاً ومعنى بزيادة ما يمازج النفس من الريق عند النّفخ.
3 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 374.
4 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 252.
117
فريضة مرنة تستجيب للحالات المتنوعة، وللأوضاء المختلفة. فربّ إنسان تنفع في ردعه الكلمة، وربّ إنسان لا ينفع في شأنه إلا العنف.
ولكلّ حالة طريقة أمرها ونهيها الّتي يقدّرها الآمر والنّاهي العارف، ويتصرّف بقدرها فلا يتجاوزها إلى ما فوقها حيث لا تدعو الحاجة إليه، ولا ينحطّ بها إلى ما دونها حيث لا يؤثّر ذلك في ردع السّفيه عن غيّه وحمله على الإستقامة والصّلاح.
وثمّة حالات من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا بدّ فيها من القتال، وهذه حالات تحتاج إلى أن يقود عملية الأمر والنهي فيها الحاكم العادل. وفي هذه الحالات الخطيرة جدّاً لا يجوز لآحاد الناس أو جماعاتهم أن يقوموا بها دون قيادة حاكم شرعي عادل.
وإذا كانت مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتدرج صاعدة من الإنكار بالقلب إلى الإنكار باللّسان إلى الإنكار باليد، وللإنكار باللّسان درجات، وللإنكار باليد درجات...
وإذا كانت الحالات العادية للأمر والنّهي تتفاوت في خطورتها وأهميتها بما يستدعي هذه المرتبة من الإنكار أو تلك...
فإنّ الحالات الكبرى الّتي لا بدّ فيها من تدخل الحاكم العادل والأمّة كلّها قد تبلغ درجة من الخطورة لا بدّ فيها من الإنكار بالقلب واللّسان وأقصى حالات الإنكار باليد - أعني القتال.
وهذا هو ما كان يواجهه المجتمع الإسلامي في عهد الإمام عليه السّلام، متمثلاً تارة في ناكثي البيعة الّذين خرجوا على الشرعيّة واعتدوا على مدينة البصرة، ولم تفلح دعوته لهم بالحسنى في عودتهم إلى الطاعة واضطروه إلى أن يخوض ضدّهم معركة الجمل في البصرة. أو المتمردين على الشرعية في الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان الّذي رفض جميع الصيغ السّياسيّة الّتي عرضها عليه الإمام ليعود من خلالها إلى الشرعية. أو المارقين الخوارج على الشّرعيّة والّذين رفضوا كلّ عروض السّلام الّتي قُدِّمت لهم، وأصروا على الفتنة ومارسوا الإرهاب ضدّ الفلاحين والآمنين والأطفال والنّساء...
118
في هذه الحالات وأمثالها على المسلم المستقيم أن يبرأ من الإنحراف في قلبه، وأن يدينه علناً بلسانه، وأن ينخرط في أيّ حركة يقودها الحاكم العادل لتقويم الإنحراف بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك.
قال عليه السلام، فيما يبدو أنه تقسيم لمواقف النّاس الّذين كان يقودهم من المنكر المبدئي الخطير الّذي كان يهدّد المجتمع الإسلامي كلّه في استقراره، وتقدمه، ووحدة بنيه:
«فمِنهُمُ المُنكرُ للمُنكرِ بيدِهِ ولسانهِ وقلبهِ، فذلك المُستكمِلُ لِخصالِ الخيرِ. ومنهُمُ المُنكِرُ بِلسانهِ وقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ فَذلِكَ مُتمسِّك بخصلتين من خصالِ الخيرِ ومُضيع خصلةً، ومنهُم المُنكِرُ بقلبهِ والتَّاركُ بيدهِ ولسانهِ فذلِكَ الَّذي ضيَّع أشرفَ الخصْلَتين من الثَّلاثِ وتمسَّك بِواحدةٍ. ومنهُم تارك لإنكارِ المُنكرِ بلسانهِ وقلبهِ ويدهِ فذلِك ميِّتُ الأحياءِ»1.
ونلاحظ أنّ الإمام سمّى التّارك، في هذه الحالة الخطيرة، لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر «ميّت الأحياء» ونفهم صدى هذا الوصف إذا لاحظنا أنّ إنساناً لا يستشعر الأخطار المحدقة بمجتمعه، ولا يستجيب لها أيّ استجابة، حتى أقل الإستجابات شأناً وأهونها تأثيراً، وأقلها مؤونةً وهي الإنكار بالقلب الّذي يقتضيه مقاطعة المنكر واعتزال أهله - أنّ إنساناً كهذا بمنزلة الجثة الّتي لا تستجيب لأيّ مثير، لأنّها خالية من الحياة الّتي تشعر وتستجيب.
ويقول عبد الرحمان بن أبي ليلى الفقيه، وهو ممّن قاتل مع الإمام في صفّين، أنّ الإمام كان يقول لهم حين لقوا أهل الشّام:
«أيُّها المؤمنُون. إنَّهُ من رأى عُدواناً يُعملُ بهِ، ومُنكراً يُدعى إليه فأنكرهُ بِقلبهِ فقد سلمَ وبَرئَ، ومن أنكرهُ بِلسانهِ فقد أُجِرَ، وهو أفضلُ من صاحبهِ. ومن أنكرهُ بالسَّيف لِتكُون كلِمةُ اللّه هي العُليا وكلِمةُ الظّالمين هي السُّفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهُدى وقام على الطَّريقِ، ونوَّر في قلبِه اليقينُ»2.
__________________________________
1 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النص: 374.
2 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص: 373.
119
ونلاحظ هنا أنّ الإمام وضع للإنكار بالسّيف - وهو أقصى مراتب الإنكار باليد - شرطاً، هو أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة اللّه لا العصبيّة العائلية أو العنصريّة، ولا المصلحة الخاصة، والعاطفة الشّخصية. وهذا شرط في جميع أفعال الإنسان، وفي جميع مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، إِلا أنّ الإمام عليه السّلام صرّح به في هذه المرتبة لخطورة الآثار المترتبة على القيام بها من حيث أنّها قد تؤدّي إلى الجرح والقتل.
*
ويقدّر الإمام أنّ كثيراً من الناس يتخاذلون عن ممارسة هذا الواجب الكبير فلا يأمرون بالمعروف تاركه ولا ينهون عن المنكر فاعله بسبب ما يتوهمون من أداء ذلك إلى الإضرار بهم: أن يعرضوا حياتهم للخطر، أو يعرضوا علاقاتهم الإجتماعية للإهتزاز والقلق، أو يعرضوا مصادر عيشهم للإنقطاع... وما إلى ذلك من شؤون.
وقد لحظ الشارع هذه المخاوف، فجعل من شروط وجوب الأمر والنهي عن المنكر عدم ترتب ضرر معتدٍّ به على الآمر والناهي.
ولكنّ كثيراً من الناس لا يريدون أن يمسّهم أيّ أذى أو كدر. وهذا موقف ذاتي وأناني شديد الغلوّ لا يمكن القبول به من إنسان يفترض فيه أنه ملتزم بقضايا مجتمعهِ كما هو شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فهو إنسان يستبدّ به القلق لأيّ انحراف يراه، ويدفعه قلقه وأخلاقه إلى أن يتصدّى للإنحراف بالشّكل المناسب، وهو الّذي قال فيه الامام في النّص السّابق «المستكمل لخصال الخير».
لقد نبّه الإمام - في موضعين من نهج البلاغة على أنّ التّخاذل عن الأمر والنهي خشية التعرض للأذى ناشئ عن أوهام ينبغي أن يتجاوزها المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه، فلا يجعلها هاجسهُ الّذي يشلّه فيحول بينه وبين الحركة المباركة المثمرة، فقال الإمام فيما خاطب به أهل البصرة في إحدى خطبه، وقد كانوا بحاجة إلى هذا التّوجيه، لما شهدته مدينتهم، وتورّط فيه كثير منهم من فتنة الجمل:
«وإنّ الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عنِ المُنكرِ لخُلُقان مِن خُلُق اللّه سُبحانهُ، وإنَّهُما لا يُقرِّبان مِن
120
أجلٍ، ولا ينقصانِ مِن رزقٍ»1.
ونوجّه النظر إلى قوله عليه السّلام أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه عزّ وجلّ، فاللّه هو الآمر بكلّ معروف، والناهي عن كلّ منكر، وإذن، فإنّ المؤمن الملتزم بقضية مجتمعه الواعي للأخطار المحدقة به، يمتثل - حين يأمر وينهى - للّه تعالى ويتبع سبيله الأقوم.
وقال الإمام في موقف آخر:
«وإنَّ الأمرَ بالمعرُوف والنَّهي عنِ المُنكرِ، لا يُقرِّبان من أجلٍ ولا ينقُصان من رزقِ»2.
*
قلنا إنّ إحياء هذه الفريضة، وجعلها إحدى هواجس المجتمع الدّائمة، وإحدى الطّاقات الفكرية الحيّة المحرّكة للمجتمع كان من شواغل الإمام الدّائمة.
وكان يحمله على ذلك عاملان:
أحدهما أنّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، ومن أعظم واجباته شأناً أن يراقب أمّته، ويعلّمها ما جهلت، ويعمّق وعيها مما علمت، ويجعل الشّريعة حيّة في ضمير الأمة وفي حياتها.
وثانيهما هو قضيته الشّخصيّة في معاناته لمشاكل مجتمعه الدّاخلية والخارجية في قضايا السّياسة والفكر.
فقد كان الإمام يواجه في مجتمعه حالة شاذة لا يمكن علاجها والتغلب عليها إِلا بأن يجعل كلّ فرد بالغ في المجتمع - والنّخبة من المجتمع بوجه خاص - من قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، في كلّ موقف تدعو الحاجة إليهما وخاصة في المواقف الخطيرة، قضية التزام شخصي واع وصارم.
لقد شكا الإمام كثيراً من النّخبة في مجتمعه، وأدان هذه النّخبة بأنّها نخبة فاسدة
__________________________________
1 . نهج البلاغة - رقم الخطبة 156.
2 . نهج البلاغة - باب الحكم - رقم النّص 374.
121
في الغالب لأنّها لم تلتزم بقضية شعبها ووطنها وإنّما تخلّت عن هذه القضية سعياً وراء آمال شخصية وغير أخلاقية...
أكثر من هذا: لقد اتّهم الإمام هذه النخبة مراراً بأنّها خائنة. ومن مظاهر عدم التزامها بقضية شعبها أو خيانته هو تخليها الّذي لا مبرّر له عن ممارسة واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذ يئس الإمام من التّأثير الفعّال في هذه النّخبة فقد توجّه بشكواه رأساً إلى عامة الشّعب محاولاً أن يحركه في اتجاه الإلتزام العملي بقضيته العادلة، موجهاً وعيه نحو الأخطار المستقبلية، محذراً له من تطلّعات نخبته.
نجد هذا التّوجه نحو عامة الشعب مباشرة ظاهراً في الخطبة القاصعة الّتي تضمّنت ألواناً من التّحذير، النّابض بالغضب، من السقوط في حبائل النّخبة.
وكانت قضية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر - فيما يبدو - والتراخي أو اللامبالاة الّتي تظهرها النّخبة نحو هذه القضية - إحدى أشدّ القضايا إلحاحاً على ذهن الإمام وأكثرها خطورة في وعيه.
وكان أسلوب التّنظير بالتاريخ إحدى الوسائل الّتي استعملها الإمام في تحذيره لشعبه وفي تعليمه الفكري لهذه الفريضة.
لقد كانت شكواه وتحذيراته المترعة بالمرارة والألم نتيجة لمعاناته اليومية القاسية من مجتمعه بوجه عام ومن نخبة هذا المجتمع بوجه خاص.
ولا بدّ أنّ هؤلاء وأولئك قد سمعوا من الإمام مراراً كثيرة مثل الشّكوى التّالية الّتي قالها في أثناء كلام له عن صفة من يتصدّى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل:
«إلى اللّه أشكُو مِن معشر يعيشُون جُهالاً ويمُوتُون ضُلالاً. ليس فيهم سِلعة أبورُ1 مِن الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوتهِ، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً مِن الكِتاب إذا حُرِّف عن مواضعهِ، ولا عندهُم أنكر من المعرُوف ولا أعرفُ من المُنكرِ»2.
__________________________________
1 . أبور - على وزن أفعل - من البور، الفاسد، بار الشيء أي فسد، وبارت السّلعة أي كسدت ولم تنفق، وهذا هو المراد هنا: أنّ العمل الحق بالقرآن كاسد لا يقبله الناس ولا يتعاملون معه.
2 . نهج البلاغة، الخطبة رقم: 17.
122
كان النّهج الّذي سار عليه الإمام في حكمه نهج الإسلام الّذي يستجيب لحاجات عامّة النّاس في الكرامة، والرّخاء، والحرّيّة.
وكان هذا النّهج يتعارض، بطبيعة الحال، مع مصلحة طبقة الأعيان وزعماء القبائل الّذِين اعتادوا على الإستماع بجملة من الإمتيازات في العهد السّابق على خلافة أمير المؤمنين علي (ع).
وقد كان لهذه الطّبقة ذات الإمتيازات أعظم الأثر في الحيلولة بشتّى الأساليب دون تسلّم الإمام للسّلطة في الفرص الّتي مرّت بعد وفاة رسول اللّه (ص)، وبعد وفاة أبي بكر، وبعد وفاة عمر، ولكنَّه بعد وفاة عثمان تسلّم السلطة على كراهية منه لها، وعلى كراهية من النّخبة له، فقد قبلت به مرغمة لأن الضغط الذي مارسته الأكثرية الساحقة من المسلمين في شتّى حواضر الإسلام شلّ قدرة النّخبة المالية وطبقة الأعيان على التأثير في سير الأحداث، فتكيّفت مع الوضع الجديد الّذي وضع الإمام علياً - بعد انتظار طويل - على رأس السّلطة الفعليّة في دولة الخلافة.
وقد كشفت الأحداث الّتي ولدت فيما بعد عن أنّ هذا التكيّف كان مرحليّاً، رجاء أن تحتال في المستقبل، بطريقة ما - لتأمين مصالحها وامتيازاتها.
وحين يئست طبقة الأعيان هذه من إمكان التّأثير على الإمام وتبدّدت أحلامهم في تغيير نهجه في الإدارة وسياسة المال وتصنيف الجماعات تغييراً ينسجم مع مصالحهم فيحفظ لها مراكزها القديمة، ويبوّئها مراكز جديدة ويمدّها بالمزيد مِن القوة والسّلطات على القبائل والموالي من سكّان المدن والأرياف... حين يئست هذه الطّبقة من كلّ هذا وانقطع أملها.. طمع كثير من أفراد هذه الطّبقة بتطلّعاته إلى الشّام ومعاوية بن أبي سفيان، فقد رأوا في نهجه وأسلوبه في التّعامل مع أمثالهم ما يتّفق مع فهمهم ومصالحهم... وتخاذل بعض أفرادها عن القيام بواجباتهم العسكرية في مواجهة النشاط العسكري المتزايد الّذي قام به الخارجون عن الشّرعية في الشّام، هذا النّشاط الّذي اتّخذ في النّهاية طابع الغارات السّريعة وحروب العصابات.
وكان تخاذلاً لا يمكن تبريره بجبنهم فشجاعتهم ليست موضع شك على الإطلاق.
ولا يمكن تبريره بقلّتهم، فقد كانت الأمّة قادرة على أن تزود حكومتها الشرعية
123
بجيوش جرّارة وجنود أقوياء مدربين جعلت منهم طبيعتهم، وثقافتهم، وحروب الفتح الّتي خاضوها مدة سنوات طويلة من خيرة المقاتلين في العالم.
ولا يمكن تبريره بنقص في التّسليح وعدة الحرب وعتادها، فقد كانت معامل السّلاح نشطة لتأمين إحتياطي ضخم من السّلاح لمجتمع كان لا يزال محارباً.
ولا يمكن تبريره بسوء الحالة الإقتصاديّة، فقد كان المال العام وفيراً بعد أن أصلحت الإدارة الماليّة في خلافة الإمام.
لم يكن إذن ثمة سبب للتّخاذل سوى الموقف السّياسي غير المعلن الّذي صممت النّخبة من الأعيان وزعماء القبائل على التّمسك به والتّصرّف في القضايا العامّة وفقاً له، إلى النّهاية، وذلك بهدف تفريغ حكومة الإمام علي من قوة السّلطة، وجعلها عاجزة عن الحركة بسبب عدم توفّر الوسائل الضّرورية لها، وهذا ما يؤدّي في النّهاية إلى انتصار التّمرّد على الشّرعية.
كان هذا الموقف السّياسي غير المعلن هو سبب التّخاذل.
وقد كان هذا الموقف غير معلن، بل كان قادة هذه النّخبة يوحون بإخلاصهم وتفانيهم، لأنّ هذه النخبة كانت تخاف، إذا أعلنت موقفها وكشفت عن نواياها وأهدافها البعيدة وأمانيها المخزية، من جمهور الأمّة أن يكتشف لعبتها ضد آماله ومصالحه، فيدينها ويعاقبها.
وقد حفظ لنا الشريف في نهج البلاغة نصوصاً كثيرة يلوم فيها الإمام نخبة مجتمعه لوماً قاسياً مرّاً على تراخيهم وتخاذلهم عن القيام بالتزاماتهم العسكرية في الدّفاع عن الشرعية، ولا شكّ أنّ الإمام في آخر عهده كان مضطرّاً للإكثار من هذا اللّوم والتقريع، كقوله في إحدى خطبه:
«ألا وإنّي قد دعوتُكم إلى قتالِ هؤلاءِ القوم ليلاً ونهاراً، وسِرّاً وإعلاناً، وقلتُ لكُم: اغزُوهُم قبل أن يغزوكُم، فو اللّه ما غُزي قوم قطُّ في عُقرِ دارهِم1 إلا ذلُّوا، فتواكلتُم وتخاذلتُم2،
__________________________________
1 . عُقر دارهم: أصل دراهم، والعُقر: الأصل، ومنه: العقار للنخل، كأنّه أصل المال.
2 . تواكلتم: من وكلت الأمر إليك ووكلته إليّ، أي لم يتوله أحد منا، ولكن أحال به كلّ واحد على الآخر.
124
حتّى شُنَّت1 عليكُمُ الغاراتُ، ومُلِكت عليكُمُ الأوطانُ...
فيا عجباً! عجباً واللّهُ يُميتُ القلب، ويجلبُ الهمَّ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلِهم، وتفرُّقِكم عن حقِّكم! فقُبحاً لكُم وترحاً2 حين صِرتُم غرضاً يُرمى: يُغارُ عليكم ولا تُغيرُون، وتُغزون ولا تغزُون، ويُعصى اللّه وترضون.
«فإذا أمرتُكم بالسَّيرِ إليهم في أيّامِ الحرِّ قلتُم: هذه حمارةُ القيظ أمهلنا يُسبخُ عنّا الحرُّ3، وإذا أمرتُكُم بالسير إليهم في الشتاء قلُتُم: هذه صبارَّةُ القُرِّ4... كُلُّ هذا فِراراً من الحرِّ والقُرِّ، فإذا كُنتُم مِن الحرِّ والقُرِّ تفرُّون، فأنتُم واللّهِ من السيف أفرُّ.
«يا أشباه الرِّجالِ ولا رجال ! حلُومُ الأطفالِ، وعُقُولُ ربَّاتِ الحجالِ5 لوددتُ أنّي لم أركُم ولم أعرفكُم معرفةً - واللّه - جرَّت ندماً وأعقبت سدماً6.
«قاتلكُمُ اللّهُ! لقد ملأتُم قلبي قيحاً، وشحنتُم صدري غيظاً، وجرعتُمُوني نُغب التَّهمامِ أنفاساً7 وأفسدتُم عليّ رأيي بالعصيانِ والخذلانِ، حتَّى لقد قالت قُريش: إن ابن أبي طالبٍ رجُل شُجاع ولكن لا عِلم لهُ بالحرب، للهِ أبُوهُم وهل أحد منهُم أشدُّ لها مراساً وأقدمُ فيها مقاماً منِّي لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين وهأنذا قد ذرَّفتُ8 على السِّتِّين! ولكن لا رأي لِمن لا يُطاعُ»9.
*
بهذه المرارة، وبهذا الغضب، وبهذه السّخرية، وبهذا الإحتقار كان الإمام يواجه هذه النخبة الّتي تخاذلت عن القيام بواجبها، أو خانت قضية شعبها.
ويبدو أن هذه الطبقة - أو فريقاً منها - كانت تحاول، ستراً لمواقفها الّتي عمل
__________________________________
1 . شُنّت الغارات: فرقت، أي نشبت الحروب الصّغيرة في أماكن متعدّدة (حرب العصابات).
2 . دعاء عليهم بالخزي والسّوء: القبح، والتّرح.
3 . حمارّة القيظ: شدّة حره. ويسبخ عنا الحر: بمعنى يخفّ، ويلطف الهواء.
4 . صبارّة الشّتاء: بتشديد الرّاء - شدة برد الشّتاء. وهذه هي الأعذار الّتي كانوا يبرّرون بها تخاذلهم ويلوذون بها دون كشف موقفهم السّياسي الّذي بيّناه.
5 . الحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزين بالسّتور، والثّياب، والأسرّة.
6 . السّدم: الحزن والغيظ.
7 . النّغب: جمع نغبة: وهي الجرعة، والتّهمام: الهمم، أنفاساً: جرعة بعد جرعة.
8 . ذرّفت: زدت على السّتين.
9 . نهج البلاغة - الخطبة رقم: 27.
125
الإمام على فضحها، أن تتظاهر في بعض الحالات بالغيرة والحميّة الدّينية، فتتخذ مواقف لفظية آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر دون أن تترجم ذلك إلى أفعال وممارسة عملية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين ممّن يسترون خياناتهم وأنانيتهم، وحرصهم على المتاع الدّنيوي بالمواقف الأخلاقية اللّفظية.
ولكنّ الإمام عليّاً كان يعرف هؤلاء، ومن السّهل معرفتهم في كلّ زمان، وكان يفضح هذه المواقف المنافية بقسوة، لأنها تضيف إلى جريمة الخيانة السّياسيّة رذيلة النّفاق والتّمويه على بسطاء النّاس، فيقول مبصِّراً مجتمعه بفساد العلاقات الناشئ من فساد النّخبة:
«... وهل خُلقتُم إلا في حُثالةٍ1 لا تلتقي إلا بذمِّهمُ الشَّفتان، استصغاراً لقدرهِم، وذهاباً عن ذكرهِم، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون.
«ظهر الفسادُ فلا مُنكر مُغيِّر، ولا زاجر مُزدجِر. أفبهذا تُريدُون أن تجاورُوا اللّه في دارِ قُدسهِ، وتكُونوا أعزَّ أوليائهِ عندهُ ؟ هيهات! لا يخدعُ اللّه عن جنَّتهِ، ولا تُنالُ مرضاتُهُ إلا بطاعتهِ.
«لعن اللّهُ الآمرين بالمعرُف التّاركين لهُ، والنّاهين عن المُنكر العاملين بهِ»2.
*
وإذا كانت مصلحة الحكم المستبد الطبقي أو الفئوي تقضي بأن يصمت الشعب ولا يرتفع منه صوت اعتراض أو احتجاج، أو إدانة مهما أصابه من مظالم، ومهما حلّ بحقوقه من انتهاكات، فإنّ مصلحة الحكم الشّعبي الملتزم بالمصالح الحقيقيّة للناس العاديّين البسطاء هي على العكس من ذلك... إنّ مصلحة هذا الحكم الّذي يستمدّ فاعليته وقوته من مجموع الشعب هي في أن يتكلّم النّاس في الشّأن السّياسي مؤيدين أو منتقدين لحماية مصالحهم الحقيقيّة في مواجهة البنى العليا في المجتمع الّتي تتبع سياسات مضادّة لمصالح مجموع الشعب على المدى القريب أو البعيد، والّتي تعمل
__________________________________
1 . الحثالة: الرديء من كلّ شيء.
2 . نهج البلاغة - الخطبة رقم 129.
126
باستمرار لتكوين حالات اجتماعية، ومشاغل واهتمامات فكريّة تصرف فئات الشعب عن مصالحها الجوهرية1 وتقعد بها عن مساعدة الحكم الشّعبي الّذي يمثل هذه المصالح ويعمل لتحقيقها، هذا إذا لم تفلح هذه البنى العليا في أن تؤلّب بعض فئات الشّعب - نتيجة للتّضليل - ضد هذا الحكم.
وسكوت الشّعب في حالة النّشاط المعادي الّذي تقوم به البنى العليا، أو عدم مبالاته، بترك السّاحة خالية أمام هذه القوى لتفسد على الحكم الشّعبي سياساته المستقبليّة دون أن تخشى عقاباً، لأنّ الحكم في هذه الحالة يقف في مواجهة تلك القوى وهو أعزل، وهذا يمنعها من التّغلب عليه أو من تجاوزه. وهذا ما كان يحدث في كثير من الحالات في عهد الإمام عليه السّلام، وكان يثير غضبه على النّخبة لفسادها، ويحمله على كشف عيوبها أمام أعين النّاس.
لقد كان الإمام عليه السّلام حريصاً أشدّ الحرص على أن يحرّك الجماهير ويدفع بها دوماً إلى أن تعبّر عن رأيها، وتعلن عن مواقفها.
وتعكس لنا النّصوص إدراك الإمام العميق للأهميّة الكبرى والحاسمة الّتي تبيّنها هذه المسألة في عمله السّياسي، وذلك في مظهرين:
الأوّل:
كثرة المناسبات الّتي أثار فيها الإمام موضوع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتنوّع الأساليب الّتي شرحه بها. وهذا أمر ملفت للنّظر بالنّسبة إلى حكم شرعي ثابت في القرآن الكريم والسّنّة النبوية ويعتبره الفقهاء من الأحكام القطعية الضّرورية، إنّ هذا الإهتمام المستمر على مسألة الأمر والنّهي يكشف عن أنّ الإمام كان يواجه في المجتمع حالة غفلة عن الحكم الشّرعي بوجوب الأمر والنهي، وحالة تراخ عن القيام
__________________________________
1 . في المؤتمر الّذي عقده الخليفة عثمان بن عفان، عند تعاظم موجة الإحتجاج والتّذمر - وجمع الولاة والعمال الكبار - لمعالجة الموقف المتفجّر بالغضب والنّقمة على سياسة الدّولة - كان اقتراح عبد اللّه بن عامر، حاكم ولاية البصرة أن تحبس الجيوش حيث هي (تجمر) ولا يؤذن لها بالعودة ليشغل الجنود بمشاكل حياتهم اليوميّة عن النشاط السّياسي - ومن المؤسف أنّ هذا الإقتراح هو الّذي تمّ العمل به فأدى إلى الفتنة الكبرى.
127
بهذه الفريضة الإسلامية على وجهها، وهذه الغفلة وهذا التّراخي حملاه على أن يذكّر المسلمين بفريضة الأمر والنّهي ما استطاع.
الثّاني:
عنف الأسلوب الّذي عبّر به الإمام عن أفكاره وعن معاناته حين كان يوجّه خطاباته إلى المسلمين في هذا الموقف أو ذاك مقرّعاً لائماً، أو مشجعاً حاثاً لهم على أداء هذه الفريضة... وهو ما يكشف عن أنّ الإمام يعاني من قلق عميق وغضب مكبوت نتيجة لما يراه في المجتمع من إهمال. وتراخ.
*
وقد حثّ الإمام المسلمين على الإلتزام العملي بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في حياتهم العامّة وعلاقاتهم الإجتماعية والسّياسيّة بأساليب متنوعة، ونظر إليها من زوايا متعدّدة.
ومن جملة الأساليب الّتي اتّبعها في تعليمه الفكري والسّياسي بِالنّسبة إلى هذه الفريضة أسلوب التّنظير التّاريخي، فمن ذلك قوله في الخطبة القاصعة:
«وإنَّ عِندكُمُ الأمثال مِن بأسِ اللّه وقوارعهِ، وأيّامهِ ووقائعهِ، فلا تستبطئُوا وعيدهُ جهلاً بأخذهِ، وتهاوُناً ببطشهِ، ويأساً من بأسهِ، فإنّ اللّه سُبحانهُ لم يلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم، إلا لتركِهمُ الأمر بالمعرُوف والنّهي عن المُنكر، فلعنَ اللّه السُّفهاء لِرُكُوبِ المعاصي، والحُلماء لترك التَّناهي»1.
نلاحظ أنّ الإمام عبّر في هذا النّص، كما في نصوص أخرى - عن إنكاره بشأن ما يراه في مجتمعه من تهاون وتراخ في امتثال فريضة الأمر والنّهي، بأسلوب شديد الوقع يتجاوز النصيحة الرّقيقة الهادئة إلى الإنذار الشّديد، والتّحذير من أهوال كبرى مقبلة، واستعان على تصوير ذلك بالتذكير بما حلّ في القرن الماضي من اللّعن نتيجة لإهماله هذه الفريضة أو تراخيه عن القيام بها.
__________________________________
1 . نهج البلاغة: الخطبة رقم: 192.
128
واللّعن هنا ليس عقاباً روحياً وأخروياً فقط، إنّه هنا يأخذ معنى سياسيّاً، إنّ اللّعن هو البعد عن رحمة اللّه ورعايته، وهذا يعني أنّ الملعون يتعرّض للنّكبات السياسيّة والإجتماعيّة الّتي تؤدي به في النهاية إلى الإنحطاط والإنهيار.
والظاهر أنّ الإمام يعني بالقرن الماضي الإسرائيليّين، فإنّ في كلامه هنا قبساً من الآية الكريمة:
«لُعِنَ الذينَ كفرُوا من بني إسرائيلَ على لِسانِ داوُد وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانُوا يعتدُونَ. كانوا لا يتناهونَ عن مُنكرٍ فعلُوهُ لبئسَ ما كانُوا يفعلُون»1.
*
في النّص التالي اتّبع الإمام أسلوب التّنظير بالتاريخ أيضاً في تعليمه الفكري لمجتمعه بشأن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، معيداً إلى أذهان مستمعيه قصة ثمود القرآنية، والنّكبة المرعبة الّتي أبادتهم حين عصوا أمر اللّه تعالى إليهم في شأن ناقة نبيهم صالح (ع).
وليس من همنا هنا عرض الحادث التاريخي القرآني، وإنّما نبغي الكشف عن استخدام الإمام للتاريخ في تعليمه الفكري.
والإمام في التّنظير الوارد في النّص التّالي يثير مسألة ذات أهمية بالغة في العمل السّياسي، وهي أنّ حركة التاريخ تقودها دائماً جماعة قليلة العدد من الناس تملك القدرة على الحركة فتبادر إلى اتخاذ المواقف، في حين أنّ غيرها من الناس يكون في حالة سكون، فتكوّن بحركتها وقائع جديدة تحمل الناس على قبولها، وتضع السّلطة أمام أمر واقع.
وحين تكون هذه الجماعة المتحركة القليلة العدد ملتزمة بقضايا مجتمعها، عاملة في سبيل مصلحته، فإنّ واجب المجتمع أن يساندها ويقدّم لها العون المعنوي والمادّي في جهادها.
__________________________________
1 . سورة المائدة (مدنيّة - 5) الآية: 78 - 79.
129
أمّا حين تعمل هذه الجماعة ضد مصالح المجتمع العليا والحقيقة - رغم ما توشّي به عملها من ألوان خادعة - فإنّ على المجتمع أن يتحرك ويقف في وجهها، ويلجم اندفاعها ذوداً عن مصالحه.
أمّا سكوت المجتمع وسكونه وسلبيته تجاه مواقف هذه الجماعة فإنّه جريمة يرتكبها في حق نفسه، لأن الكارثة حين تقع في النهاية نتيجة لأعمال الجماعة المتحركة لا تميّز بين المسبّبين لها وبين السّاكتين عنهم. إنّها حين تقع تصيب بشرورها المجتمع كلّه، بل لعلّها، في قضايا السّياسة والفكر، تصيب السّاكتين عنها أكثر ممّا تصيب المسبّبين لها، والّذين تكمن مصلحتهم في الإنحراف والتزوير.
ومن هنا فإنّ ما اصطلح عليه في لغة السّياسة في هذه الأيام باسم الأكثريّة الصّامتة، هذه الأكثريّة الّتي لا تبدي فيما يجري أمامها وعليها ولا تعيد، وإنما تقبل ما يقوم به الآخرون مختارة أو مرغمة، راضية أو ساخطة،... هذه الأكثريّة الصّامتة بموقفها هذا تقوم بدور الخاذل للحق أو المتواطئ على الجريمة.
وذلك لأن الصّمت في هذه الحالات ليس علامة على البراءة والطّيبة، وإنّما هو علامة الجبن والغفلة والفرار من المسؤولية.
وهذه السّلبية الّتي هي في مستوى الجريمة لا تعفى من العقاب، والعقاب في هذه الحالة لا تقوم به السّلطة وإنّما تقوم به القوانين الإجتماعية الّتي تصنع الكارثة، يقوم به القدر الّذي لا يميّز بين السّاكن والمتحرك وإنّما يجرف الجميع، يقوم به اللّه تعالى الّذي يؤاخذ الجميع بذنوبهم: المتحركين بذنب المعصية، والساكتين بذنب توفير أجواء الجريمة أمام المجرمين ليرتكبوا جرائمهم.
ولذا، فإنّ الأكثرية الصّامتة، من هذا المنظور، لا تضمّ أبرياء، وإنّما تضمّ متواطئين وجبناء، سبّبوا، بإيثارهم للسّلامة الشخصية العاجلة، كوارث عامّة مستقبليّة، وجبنهم الّذي يكشف عن أنانيتهم الرّخيصة والذلّيلة يكشف عن أنّهم ليسوا جيلاً صالحاً لأن يبني حياة مزدهرة.
إنّ الكوارث الإجتماعية، كالكوارث الطّبيعيّة، تجرف في طريقها، حين تقع النّبات النّافع والنّبات الضّار، ولا تميّز بينهما في الدّمار.
130
قال عليه السلام:
«... وإنّهُ سيأتي عليكُم من بعدي زمان ليس فيه شيء من الحقِّ، ولا أظهر من الباطلِ، ولا أكثر من الكذبِ على اللّه ورسُوله، وليس عند أهلِ ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تُلي حقَّ تلاوته، ولا أنفق منهُ إذا حُرِّفَ عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكرَ من المعرُوف ولا أعرف من المنكرِ، فقد نبذ الكتاب يومئذٍ حملتُهُ، وتناساهُ حفظتُهُ فالكِتابُ يومئذٍ وأهلُهُ طريدانِ منفيّانِ، وصاحبان مُصطحبان في طريقٍ واحدٍ لا يؤويهُما مؤو... فالكتابُ وأهلُهُ في ذلك الزمانِ في النّاسِ وليسا فيهم، ومعهُم وليسا معهُم، لأنّ الضَّلالةَ لا تُوافِق الهُدى وإن اجتمعا...»1.
وتصور الفقرة الأخيرة من هذا النّص أبلغ تصوير واقع الإنفصال بين الأمّة وبين قيادتها الفكريّة نتيجة لاغترابها الثقافي، وانفصالها - في مجال تكوين المفاهيم والتوجيه - عن أُصولها الفكريّة.
وهذا الإغتراب الثّقافي - الحضاري النّاشئ عن هجر الأصول - وليس عن التّفاعل مع الآخرين - يؤدّي إلى موقف في المنكر والمعروف خطير، فإنّ ثمّة مقياسينِ للقيم والمثل الأخلاقية. أحدهما المقياس الموضوعي، والآخر المقياس الذّاتي.
المقياس الموضوعي هو الّذي يجعل شريعة المجتمع وعقيدته منبعاً للقيم الأخلاقية ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، يكون منبع القيم هو العقيدة والشّريعة الإسلاميتان.
وكذلك الحال في مجتمع مسيحي مثلاً أو بوذي.
وهذا المقياس يقضي بأن يكون المجتمع ملتزماً بعقيدته وشريعته في مؤسساته ونظمه وعلاقاته بدرجة تجعله تعبيراً عن تلك العقيدة والشّريعة.
والمقياس الذّاتي هو الّذي يجعل منبع القيم الأخلاقية شخص الإنسان، فالإنسان في هذه الحالة هو الّذي يخترع أخلاقياته وقيمه الّتي تكيّف سلوكه تجاه المجتمع وعلاقاته في داخل المجتمع، ويستبعد هذا المقياس أي مصدر للقيم خارج الذّات للقيم والأخلاقيّات.
__________________________________
1 . نهج البلاغة - الخطبة رقم 147.
131
قال عليه السلام:
« أيُّها النّاسُ. إنَّما يَجمَعُ النّاسَ الرِّضَى والسُّخْطُ ،وَانَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُل وَاحِد، فَعَمَّهُمُ اللّه بِالعَذابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَى »1.
*
وقد حذر الإمام بجتمعه في إحدى استبصاراته نحو المستقبل من وضعية فكرية وثقافية تودّي إالى هجر الأصول الثقافية والفكرية التي تكوّن روح المجتمع الإسلامي وتسمه بطابعه الخاص المميّز له عن سائر التجمعات الثقافية - الحضارية ، وتعطيه دوره المميز والخاص في حركه التاريخ العالمي وبناء الحضارة ... وتؤدي به - نتيجة لاتبثاقه عن أصوله - إلى أن يكون نسخة من ثقافة أُخرى ، ووحدة من وحدات حضارة اخرى ، وتغدو الاصول الثقافية التي ترجع كلّها الى الكتاب والسنّة مجرّد أشكال يتداولها النّاس دون أن يكون لها دور في تكوين المفاهيم، وبناء الشخصية، ورسم طريق العمل.
إنّ المسلمين أنفسهم، يومئذٍ سينبذون الكتاب باعتباره مصدراً للمفاهيم الفكريّة، ويتّجهون نحو منابع غريبة عن ثقافتهم وحضارتهم، وعقيدتهم وشريعتهم، وتاريخهم، يستمدّون منها الغذاء العقلي والنفسي، والتوجيه السلوكي.
وننبّه هنا إلى أنّ الإغتراب الثقافي النّاشئ عن هجر الاُصول - وهو ما حذّر الإمام منه - غير الإنفتاح الثقافي- الحضاري الذي يتولّد من الطموح إلى التّفاعل مع الآخرين واكتشاف صيغهم الحضاريّة والتعرّف على فتوحهم الفكريّة مع الحفاظ على الأصول، والأمانة للذّات ومقوّماتها...فهذا الإنفتاح أمر مطلوب مرغوب، وقد مارسه المسلمون وكانوا سادة فيه حين أنشأواالحضارة الإسلاميّة العظيمة التي انفتحت على كلّ الإنجازات الخيّرة في الحضارات الأخرى، فاكتشفوها وكيّفوها وفقاً لقيم الإسلام، ومفاهيم الإسلام، وأخلاقيات الإسلام المستمدة من الكتاب والسّنّة والفقه.
_________________________
1- نهج البلاغة - رقم النص 201.
132
وحينئذٍ يقع التعارض بين عقيدة المجتمع الرّسمية وشريعته، وبين أخلاقيّات وقيم أفراده وفئاته، ففي مجتمع إسلامي، مثلاً، أو مسيحي أو بوذي، لا بّد أن نكتشف - في حالة شيوع المقياس الذاتي للقيم بين الأفراد - أن التزام المجتمع بعقيدته وشريعته التزام شكلي يرافق الإلحاد العملي.
والأثر الذي يترتب على التزام المقياس الموضوعي للقيم في المجتمع أو المقياس الذّاتي هام جداً.
أولاً:
يؤدّي اعتماد المقياس الموضوعي إلى نمو الفرد دون عُقد وتمزقات داخلية، لأنه يوفّر حالة التّجانس والتّكامل بين محتوى الضّمير والعقل وبين التعبير السّلوكي في العلاقات مع المجتمع وفي داخله.
أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى خلاف ذلك، لأنّ اتباع المقياس الذّاتي يحدث للفرد تمزقات داخلية وعُقداً في نفسه، لأنّه يجعله دائماً في حالة تعارض وتجاذب بين الزام العقيدة والشّريعة وبين رغبات الذّات باعتبارها مصدراً للقيم، ويؤدي ذلك إلى انعكاسات ضارة لا تقتصر على الأفراد، وإنّما تتجاوزهم إلى المجتمع نفسه.
وثانياً:
إنّ المقياس الموضوعي بما يوفّره من تجانس في داخل الفرد بين أخلاقياته من جهة ومعتقده وشريعته من جهة أخرى يؤدي إلى تلاحم واسع النطاق داخل المجتمع، ويكوّن لدى المجتمع نظرة إلى المشكلات، ويؤدّي أيضاً إلى تكوين مواقف واحدة أو متقاربة بين الجماعات تجاه التّحديات الّتي تواجه المجتمع.
أمّا اعتماد المقياس الذّاتي فإنّه يؤدّي إلى العكس من ذلك. إنّه يؤدّي إلى تخلخل البنية الإجتماعية، وتعدّد الفئات ذات المنازع الفكريّة والسّياسيّة المختلفة، ويكوّن مناخاً ملائماً لتولّد المشاكل الإجتماعية وتعاظمها، لأنّ المقياس الذّاتي لدى الأفراد والجماعات شديد التنوّع والإختلاف.
133
وهذا التّشرذم يؤدّي: أمّا إلى العجز عن اتخاذ مواقف موحّدة على الصّعيد القومي أو الوطني نتيجة لتعدّد الإرادات والميول، وأمّا إلى الإستسلام للدّعاية السّياسيّة الّتي يخطط لها وينفذها فريق من ذوي الأغراض والغايات الخاصة يخضع عقول الناس لمفاهيمه وقناعاته، ويحملها على قبول اختيارات قد لا تنسجم مع المصالح الحقيقية للأمّة، وإنّما تنسجم مع مصالح هذا الفريق الّذي يملك وسائل الدّعاية والإعلان والإعلام، وهذا هو ما يحدث في العصر الحديث، ويؤدّي إلى كوارث كبرى على الأصعدة الوطنية في بعض الحالات، وعلى الصعيد العالمي في بعض الحالات الأخرى، حيث يعرّض سلام العالم كلّه أو سلام قارّة بكاملها لمطامح ومطامع حفنة صغيرة من الناس تكيّف عقول شعوب بكاملها، دافعة بها إلى اتخاذ مواقف سياسيّة تناقض مصالحها الوطنية، ومصالح جميع الشّعوب، وقضية فلسطين أكبر شاهد على ما نقول.
لقد نبّه الإمام عليه السّلام إلى هذا الخطر، وحذّر منه مجتمعه، فقال:
«فيا عجباً، وما لي لا أعجبُ مِن خطإِ هذه الفرقِ على اختلاف حُججها في دينها، لا يقتصُّون أثر نبيٍّ، ولا يقتدُون بعملِ وصيٍّ، ولا يؤمنون بغيبٍ، ولا يعفُّون1 عن عيبٍ. يعملُون في الشُّبُهات ويسيُرون في الشَّهواتِ. المعروفُ فيهم ما عرفُوا والمُنكر عندهُم ما أنكروا. مفزعُهُم في المُعضلاتِ إلى أنفُسهم وتعويلُهُم في المُهمّاتِ على آرائهم، كأنَّ كُلَّ امرئٍ منهُم إمام نفسهِ، قد أخذَ منها فيما يرى بعُرىً ثقاتٍ وأسبابٍ مُحكماتٍ»2.
*
وأخيراً، لقد بلغ من خطورة فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عند الإِمام علي (ع) أنّه جعلها إحدى وصاياه البارزة الهامّة لابنيهِ الإمامين الحسن والحسين.
وقد تكرّرت هذه الوصية مرتين. إحداهما لابنه الإِمام الحسن في وصيته الجامعة
__________________________________
1 . ولا يعِفّون: أي يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليلٍ بيّن، أو شريعة واضحة. يثق كلّ منهم بخواطر نفسه، كأنّه أخذ منها بالعروة الوثقى على ما بها من جهل ونقص
2 . نهج البلاغة - الخطبة رقم 88.
134
الّتي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين. والأخرى في وصيته للإمامين الحسن والحسين في وصيته لهما وهو على فراش الإستشهاد بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي بالسّيف.
قال عليه السّلام في الوصية الأولى:
«... وأمُر بِالمعرُوفِ تكُن من أهلهِ، وانكرِ المُنكر بيدك ولِسانِك وباين1 من فعلهُ بجُهدك وجاهد في اللّه حقَّ جهادِه ولا تأخُذك في اللّه لومةُ لائمٍ2.
وقال عليه السّلام في الوصية الثّانية:
«... اُوصيكُما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغهُ كتابي... وعليكُم بالتّواصُلِ والتّباذُلِ، وإيَّاكُم والتّدابُر والتّقاطُع، لا تترُكُوا الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ فيُولى عليكُم شرارُكُم، ثُمَّ تدعُون فلا يُستجابُ لكُم»3.
*
سلام اللّه على عليّ في الخالدين.
__________________________________
1 . باين: أي باعِد وجانِب.
2 . نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النّص: 31.
3 . نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النّص: 47.
تمهيد
السّياسة لدى رجل العقيدة ورجل الدّولة الحاكم القائد - وهو ما كانه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - أداة للتّغلّب على سلبيات الماضي والحاضر من أجل التّوصل إلى أوضاع حياتية أفضل في المستقبل لأكبر قدر من النّاس.
والسّياسة، في الوقت نفسه، أداة للمحافظة على إيجابيّات الماضي والحاضر أمام عواصف التغيير والتقلّبات المفاجئة التي قد تحمل للمجتمع السّياسي في ثناياها نذر كارثة.
السّياسة، إذن، ليست فنّ التغيير فقط، إنّها فنّ الثّبات أيضاً.
إنّ السّياسي الأمين على قضية مجتمعه، يعيش في أبعاد الزّمان كلّها - ماضيه وحاضره ومستقبله - ويتعامل مع حقائق الماضي، وواقع الحاضر، وآمال ومخاوف ومطامح المستقبل، يقود، بحذر لا يبلغ الجمود ومغامرة لا تبلغ التّهوّر، مجتمعه نحو آفاق جديدة دون أن يبتر استمراريّته وبعده في الماضي.
نقول هذا في مواجهة دعاة التغيير منا في عصرنا هذا، التغيير الّذي يستهدف استئصال جذورنا لقذفنا في الفراغ تحت شعار: ريادة المستقبل، جاعلين منا ساحة لتجربة النّظريات والأفكار الّتي توضع في مراكز الحضارة الحديثة في أوربّا وأمريكا والإتحاد السّوفياتي.
138
نقول هذا داعين إلى إعادة النّظرة في هذا النهج لمصلحة نهج آخر أقلّ غلوّاً، وأكثر واقعية، وأوثق صلة بتكويننا العقيدي والحضاري والثّقافي، وأشدّ مواءمة لمصالحنا في الحاضر والمستقبل، وأوفق بدورنا الّذي نطمح إلى استعادته لنساهم به في إنقاذ الإنسان الحديث بتقويم الحضارة الحديثة، وتصحيح مسارها نحو وضعيّة ملائمة لتكوين الإنسان.
*
لقد كانت سياسة أمير المؤمنين علي (ع) - كما سنرى وجوهاً منها في الفصول التالية.. محكومة بهاجس واحد كبير ونبيل: تكوين الإنسان المسلم المتكامل القوي السّعيد، والمجتمع المسلم المتكامل القوي السّعيد، الإنسان والمجتمع المؤهلين ليكونا قوة خيّرة في العالم، يمثلان طموح الإنسانيّة الدّائم المتوهج نحو مثل أعلى.
وقد كانت، لذلك سياسة لا تستمد مقوّماتها من الحفاظ على الذّات وعلى مصالح الحاكم وأُسرته، فلقد كانت أُسرة أمير المؤمنين علي أكثر النّاس حرماناً من خيرات حكمه، وكان هو عليه السّلام أكثر حرماناً من أسرته.
وكانت سياسته تستضيء بنور الفكر، وتستهدي تعليم اللّه، وتنفلق من قيم الأخلاق والمناقب الّتي تشرّف الإنسان، ولذا فقد كانت سياسة الإمام إنسانية بكلّ ما لهذه الكلمة من محتوى.
لم تكن أبداً سياسة الأفعال وردود الأفعال، وحسابات الأرباح والخسائر للحاكم وآله وبطانته... هذه السّياسة التي تحمل روح الطيش والغريزة، وتوجّه بعقليّة مزيج من روح الغاية وروح التّجارة.
وقد كان أمير المؤمنين علي في سياسته أميناً لعقيدته، أميناً لشريعته، فلا ينحرف عنهما أبداً، ولا يتجاوزهما - كما لا يقصّر عنهما - في أمر من الأمور أو في حالة من الحالات.
أميناً لأخلاقيّاته القرآنيّة - النّبويّة، ولذا فقد جعل من العمل السّياسي ممارسة رفيعة للمناقب، أميناً لمجتمعه، فيشركه في اتخاذ القرارات بعد أن يبصّره بعواقب سوء الإختيار:
139
«... ولقد أصبحنا في زمانٍ قد اتخذَ أكثرُ أهلِهِ الغدر كَيساً1 ونسبهُم أهلُ الجهلِ فيهِ إلى حُسنِ الحِيلةِ. ما لهُم! قاتَلهُمُ اللّه! قد يرى الحُوَّلُ القُلَّب2 وجه الحِيلةِ ودُونها مانِع من أمرِ اللّه ونهيهِ، فيدعُها رأي عينٍ بعد القُدرةِ عليها، وينتهزُ فُرصتها من لا حريجة3 لهُ في الدِّينِ»4.
وقال في موقف آخر:
«واللّه ما مُعاويةُ بِأدهى مِنَّي، ولكُنَّهُ يغدِرُ ويفجُرُ. ولولا كراهِيةُ الغدرِ لكُنتُ مِن أدهى النّاسِ. ولكِن كُلُّ غُدرةٍ فُجّرة، وكُلُّ فُجّرَةٍ كُفرة «وِلِكُلِّ غادرٍ لِواء يُعرفُ به يوم القيامةِ»5 واللّه ما أُستغفلُ بالمكيدَةِ، ولا اُستغمَزُ6 بالشَّديدةِ»7.
*
وبعد هذا التمهيد، كيف تعامل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب مع التّاريخ في مجال تعليمه السّياسي.
__________________________________
1 . الكيس: الفطنة والذّكاء.
2 . الحوّل القلّب: هو البصير بتحويل الأمور وتقليبها.
3 . الحريجة: التحرج والتحرز من الآثام.
4 . نهج البلاغة - الخطبة رقم: 41.
5 . حديث مروي عن النّبي (ص).
6 . لا أستغمز على البناء للمجهول - لا يستضعفني الرّجل القوي. والغمز - بفتح الميم - الرّجل الضّعيف.
7 . نهج البلاغة - رقم النّص: 200.