1 - النّبوّات

أ - بداية العصر التّاريخي للإنسان:

يبدو لنا من كلمات أمير المؤمنين علي (ع) أنّ العهد التاريخي للإنسانية بدأ بظاهرة وجود النبوّات في المجتمع البشري. هذه النبوّات الّتي تقود مجتمعاتها نحو حياة أفضل، ووجود إنساني أكمل.

ما قبل التاريخ، إذن، بالنسبة إلى الإنسانيّة، هو ما قبل النبوّات، حيث كانت الإنسانية تعيش في حالة البراءة الفطرية، وكانت النفس الإنسانيّة لا تزال عذراء ساذجة، بدائية، خالية من أيّ تعليم... ولذا فلم تكن لدى الإنسانية في فترة ما قبل التاريخ هذه تجارب ومعاناة يعود عرضها بالفائدة التعليميّة والتربويّة لمجتمع متحضر، تامّ التكوين، على درجة عالية من التعقيد، يفترض فيه أنّه يبنى على هدى خاتمة الرّسالات، وخلاصة النبوّات، وهو مجتمع الأمة الإسلامية.

ولذا لا نجد في جميع الكلام الصادر عن أمير المؤمنين حديثاً عمّا قبل عهد النبوّات، ومن هنا استنتاجنا أنّه يعتبر إشراق النبوّة وظهور الأنبياء في المجتمعات البشريّة بداية العصر التاريخي للبشرية.

وقد بيّن اللّه تعالى في القرآن الكريم تاريخ بداية عهد النّبوّات في المجتمع البشري فقال سبحانه وتعالى:

«كَانَ النّاسُ أمّةً واحِدةً، فبَعثَ اللهُ النّبِيِّين مُبشّرِين ومُنذِرين، وأنزَلَ معهُمُ الكِتابَ بِالحقِّ

72

لِيحكُم بينَ النّاسِ فِيما اختلفُوا فِيهِ، وما اختلفَ فِيهِ إلا الذِين أُوتُوهُ مِن بعدِ ما جاءتهُمُ البَيّناتُ بغياً بينهُم، فهدَى اللهُ الّذيِنَ آمنوا لِما اختلفُوا فِيهِ مِن الحقِّ بِإذنِهِ، واللّهُ يهدِي مَن يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقِيمٍ»1.

«كانَ النّاسُ أمةً واحِدةً»... كان إنسان ما قبل التّاريخ، ما قبل النّبوّات يحيا في وحدة فطرية قائمة على أساس وحدة المصالح ووحدة الدّم من جهة، وعلى عامل سلبي من جهة أخرى هو عدم وجود ما يهدد حالة السكون والخمود الّتي تميّز هذه الحياة نظراً لبساطة الحاجات وتوفّر ما يلبيها ويشبعها في الطبيعة دون حاجة إلى مغالبة وصراع.

ولكن حركة الحياة النامية المتصاعدة، وتزايد عدد أفراد النوع، وتفاوت القدرات العقلية والجسمية... كل ذلك وما يشبهه من عوامل الإنقسام والتعقيد أدّى إلى نشوء خلافات داخل الجماعة البشرية النامية، ومغالبة وصراع بين أفرادها وفئاتها... وربّما كان من مظاهر ذلك أو أوّل مظهر من مظاهر ذلك خلفّيات الجريمة الأولى بين ابنَي آدم حيث قتل أحدهما أخاه، وقد قصّ اللّه تعالى نبأهما في القرآن الكريم2، وتردّدنا في أنّ هذه الجريمة هي من مظاهر ذلك أو أنّها أوّل مظهر من مظاهر ذلك ناشئ من وجود احتمال أنّ «آدم» القرآني لا يمثّل بداية الجنس البشري على الأرض، وإنّما يمثّل بداية النسل البشري الموجود الآن، ويكون، على هذا، قد وجد نسل سابق على النسل الموجود الآن من بداية يمثّلها آدم سابق على آدم القرآني، واللّه تعالى أعلم وعلى هذا تكون آية سورة البقرة (213) موضوع البحث تؤرخ لفترة من عمر البشريّة سابقة على الفترة التي بدأت بآدم القرآني.

وعلى أيّ حال، ففي هذه المرحلة من نموّ الإنسان لم تعد وحدة الدم كافية لتكوين وحدة المجتمع، ولم تعد ثمّة مصالح واحدة أو متّفقة، ولم تعد النفس الإنسانيّة عذراء، ساذجة، بدائية... ويستحيل على النوع الإنساني في أن ينمو - كما أراد اللّه في أوضاع كهذه تقوده فيها غرائزه فقط، ولا مرجح له في خصوماته ومراعاته إلا غرائزه... في هذه

__________________________________

1 . سورة البقرة (مدنيّة - 2) الآية: 213.

2 . سورة المائدة (مدنيّة - 5) الآيات: 27 - 31.

73

المرحلة من نمو الإنسان قضت حكمة اللّه ورحمته بإرسال الأنبياء حاملين إلى الإنسانية منهاج هدايتها الّذي يخرجها من عهد الغريزة إلى عهد العقل ومن منطق الصراع الّذي مرجعه الغريزة والقوة إلى منطق النظام ومرجعية القانون.

وقد حقّق الإنسان، بإشراق عهد النبوّات، قفزة نوعية عظيمة وحاسمة في تطوّره نحو الأعلى وتكامله، فقد خرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً حيوانياً - بيولوجياً إلى كونه ظاهرة عقلية - روحية.. لقد عقلنت النبوّات المجتمع الإنساني وروحنته.

وحقّقت النّبوّات للإنسان مشروع وحدة أرقى من وحدته الدّموية البيولوجية الّتي كانت سائدة قبل عهد الخلافات والإنقسامات والصراع... وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد، وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانية مرتفعة من علاقات المادّة إلى علاقات المعاني... بعهد النبوّات بدأ عهد الإنسان...

وتمضي الآية الكريمة، بعد التأريخ لهذه المرحلة، في بيان أنّ الإختلافات الّتي نشأت في النوع الإنساني، بعد إشراق عهد النّبوّات، غدت اختلافات في المعنى اختلافات في الدّين والمعتقد، إذ أنّ أسباب الصّراع والبغي من بعض الناس على بعض، واستغلال الأقوياء للضعفاء لم تلغ بالدين الّذي جاءت به النبوات، بل استمرّت وتنوّعت، ولكن المرجع لم يعد الغريزة وإنما غدا القانون هو المرجع، وإذا كان من المستحيل على الإنسانية أن تجد قاعدة لوحدتها وتعاونها عن طريق الغرائز، وعلاقات المادة، فإنّ من الممكن لها أن تجد قاعدة ثابتة لوحدتها وتعاونها وتكاملها عن طريق القانون الذي يتضمّنه الدّين وغير القانون من تربية الدّين وإغنائه لروحية الإنسان وأخلاقيّته، وذلك حين يستبدل الإنسان علاقات المادة بعلاقات المعنى. وعدم بلوغ الإنسانية إلى هذا المرتقى ليس ناشئاً، في عهد النّبوّات، من فقدان الوسائل، وإنما هو ناشئ من سوء الاختيار البشري، ومن سوء استخدام الحرية المعطاة.

لقد أفضنا في الحديث عن بعض جوانب الآية الكريمة لنضيء بها الفكرة التي عبّر عنها الإمام عليه السّلام في شأن النبوات وبداية العصر التاريخي للإنسان إذ قال:

74

«.. واصطَفى سُبحانَهُ... أنبياءَ أخذَ علَى الوحِي مِيثاقهُم، وعلى تبِليِغ الرسالةِ أمانتهُم، لمّا بدَّل أكثر خلقِهِ عهد اللهِ إليهم، فجهِلُوا حقَّه، واتخذُوا الأندادَ معهُ، واجتالتهُمُ1 الشياطِينُ عن معرِفته، واقتطعتهُم عن عِبادتِهِ، فبعثَ فيِهمُ رُسُلَه، وواترَ2 إليهم أنبياءه،... ولم يُخلِ اللهُ سُبحانهُ خلقهُ مَن نبيٍّ مُرسَلٍ أو كِتابٍ مُنزَلٍ، أو حُجَّةٍ لازِمةٍ أو محجَّةٍ3 قائمةٍ: رُسُل لا تُقَصِّر بِهم قِلّةُ عددِهِم، ولا كثرةُ المُكذِّبين لهُم مِن سابقٍ سُمِّي لهُ مَن بعدهُ، أو غابرٍ عرَّفهُ مَن قبلهُ، على ذلِك نسلتِ القُرونُ، ومضتِ الدّهُورُ، وسلفتِ الآباء، وخلفتِ الأبناءُ»4.

وهكذا يعبّر الإمام عن جوانب من أفق الآية الكريمة، فحين تعقّدت الحياة البشرية نتيجة لنمو المجتمع وتشابك العلاقات فيه، وحين أدّى ذلك إلى تصادم بين ما تقضي به الحياة الإجتماعية من تعاون وما تدفع إليه الغريزة والروح الفردية من استئثار. وحين ترافق هذا مع الإنحراف عن مقتضيات الفطرة المستقيمة العذراء - وإن تكن في ذلك الحين ساذجة - في إدراك الخالق سبحانه وتعالى... حين حدث في حياة الإنسانية كل هذا اقتضى لطف اللّه ورحمته إرسال الأنبياء ليضيئوا عقول الناس، ويرتفعوا بالمجتمع من علاقات المادة - البيولوجيا - إلى علاقات المعنى والقانون.

*

وقد تواترت حركة النّبوّات في تاريخ البشرية: تضيء عقولها، وتصوغ مفاهيمها، تغني حياتها، وتضعها رويداً رويداً على طريق التكامل... تواترت هذه الحركة في خطّ تصاعدي نحو الأكمل والأفضل والأجمل، مستجيبة في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري لحاجات تلك المرحلة، باذرة فيها بذور نموّ آخر في المستقبل يهيئ لمرحلة من التقدم والتكامل جديدة.. إلى أن بلغت حركة النبوات ذروتها في الرسالة الخاتمة الجامعة: رسالة الإسلام على لسان خاتم النبيّين محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

__________________________________

1 . اجتالتهم: صرفتهم عن اللّه.

2 . واتر: تابع.. أرسل الأنبياء يتبع أحدهم الآخر.

3 . المحجة: الطريق المستقيمة الواضحة، يريد هنا الشّريعة الّتي تتبع.

4 . نهج البلاغة - الخطبة الأولى.

75

قال عليه السلام:

«... إلى أن بعث اللّه سُبحانهُ مُحمّداً رسُولَ اللّه صلَّى اللّه عليِه وآلهِ وسلَّمَ لإنجازِ عِدتِهِ، وإتمامِ نُبوَّتهِ، مأخُوذاً على النّبيِّين مِثاقُهُ، مشهورةً سِماتُهُ1، كريماً مِيلادُهُ»2.

وقال في خطبة أخرى:

«.. بل تعاهدهُم - النّاسَ - بِالحُججِ على ألسُنِ الخِيرّة مِن أنبيائهِ ومُتحمِّلِي ودائِع رِسالاتِهِ قَرناً فقرناً، حتَّى تمّت بِنَبِيِّنَا مُحمَّدٍ صلَّى اللّه عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ حُجَّتُهُ، وبلغَ المقطعَ3 عُذرُهُ ونُذُرُهُ..»4.

ب - وظيفة النّبوّة

ما وظيفة النبوّة في المجتمع البشري ؟

إنّها فيما نفهم من كلمات أمير المؤمنين تتلخص في هدفين كبيرين:

الأول:

وهو أهمهما، إحياء الفطرة الإنسانية الصافية المستقيمة، هذه الفطرة الّتي يهتدي بها الإنسان إلى الإيمان الصحيح باللّه سبحانه وتعالى، ويدرك بها كونه مخلوقاً للّه، ومن ثمّ يدرك موقعه في الكون. ويترتب على هذا الإيمان الواعي تصحيح المسار الإنساني في طريق التكامل بجعل حركة الإنسان التاريخية وثيقة الصّلة بعقيدة التوحيد ومتفرعاتها.

الثاني:

وهو، من بعض الوجوه نتيجة للأوّل، تكوين الحوافز الروحية والنّفسية

__________________________________

1 . السّمة: العلامة، والمراد علامات النّبيّ محمّدٍ الّتي بشَر بها الأنبياء السابقون.

2 . نهج البلاغة - الخطبة الأولى.

3 . المقطع: النّهاية الّتي ليس عليها مزيد. أي أنّ أعذار اللّه وأنذاره تلقيا نهايتهما برسالة محمد (ص).

4 . نهج البلاغة - خطبة الأشباح، رقم: 91.

76

والإجتماعية لإنجاز عملية التقدّم العقلي والمادّي والإجتماعي في الحياة في صيغة تضمن التوازن بين النموّ الرّوحي - الأخلاقي والنموّ المادّي. وهذه الصّيغة الّتي توازن بين اتجاهي النموّ والنّشاط الإنساني هي الدّين.

وهذه هي وظيفة النبوّة كما تفهم من القرآن الكريم والسّنّة الشّريفة.

فالنّبيّ يخرج الناس من الظلمات إلى النّور في عقائدهم وعلاقاتهم الإجتماعية والسياسية، ويصحّح نظرتهم إلى موقعهم في الكون، ومن ثمّ يوجد الإنسان الصّالح الّذي يسعى نحو التكامل فيحقّق لنفسه التقدّم المتوازن في الشكل والمضمون، في الرّوح والمادّة.

وليس النّبيّ مخترعاً كبيراً ومخططاً عظيماً يبدع الآلات والمؤسسات، وليست النبوّة مركزاً للأبحاث والدّراسات وما إلى ذلك.

إنّ الّذي يخترع الآلات ويُنشئ المؤسسات ويبتكر الخطط هو عقل الإنسان بعد أن تتوفّر له دواعي النموّ والإنطلاق. فاذا تآخت معها قيم الروح والأخلاق حقق الإنسان إنجازات مادّيّة وتنظيمية تتّفق مع مُقتضيات الإيمان، وتوفّر للإنسان حياة سعيدة طيّبة، ورضوان اللّه والنجاة في الآخرة. وإذا لم تتآخ قيم الروح والأخلاق مع دواعي النموّ والإنطلاق في التعامل مع الكون المادّي حقّق الإنسان إنجازات مادّيّة وتنظيمية توفّرُ له القوة واللّذّة والرّخاء دون أن توفّر له السّعادة وطيب بالحياة.

*

وفهمنا لوظيفة النبوّة - كما تعكسها نصوص نهج البلاغة - مستفاد من النصوص الّتي تحدّث فيها الإمام عن حالة العالم عشية بعثة النبي محمّد (ص)، ذلك لأنّ النصوص الّتي تؤرخ للنّبوات السابقة لنبوّة محمد (ص) نادرة من جهة، وتشبه، من جهة أخرى، أن تكون في معظمها مجرد إشارات يغلب عليها طابع الإجمال.

ولكن هذا لا يؤثر شيئاً على سلامة فهمنا لوظيفة النّبوّة، فإنها وظيفة واحدة منذ بداية حركة النبوّات في فجر التاريخ الإنساني إلى ختام النبوّات بنبّوة محمّد (ص) ورسالة الإسلام. ولا توجد اختلافات جوهرية بين النبوّات من حيث وظيفتها

77

الأساسيّة، والإختلاف الأساسي الوحيد فيما بينها هو في درجة الشّمول والإتساع من حيث مساحة شمول التشريع للنشاط البشري من جهة، ومن حيث عُموم الرسالات بالنسبة إلى الشّعوب من جهة أخرى.

*

قال عليه السّلام:

«... فَبعثَ فيِهم رُسُلَهُ، وواترَ إليهم أنبياءهُ لِيستأدُوهُم مِيثاق فِطرتِه، ويُذكِّروهُم منسِيَّ نِعمتِهِ، ويحتجُّوا عليِهم بِالتّبليغ، ويُثيروا لهُم دفائنَ العُقولِ، ويُرُوهُم آياتِ المقدِرةِ: مِن سقفٍ فوقهُم مرفُوعٍ، ومِهادٍ تحتهُم موضُوعٍ، ومعايِش تُحييهِم، وآجالٍ تُفنِيهِم وأوصابٍ1 تُهرِمُهم، وأحداثٍ تتابعُ عليهِم..»2.

إحتوى هذا النّص الّذي يؤرخ للنّبوّات السّابقة على القضايا التّالية في معرض بيان الغاية من إرسال الأنبياء:

1 - ميثاق الفطرة:

وهذه القضية تعني مسألة الإيمان باللّه تعالى، وما يتفرع عن هذا الإيمان من قضايا أساسية تنبع منه وتتصل بكافة شؤون الحياة.

وما عبّر عنه الإمام هنا وفي مواضع أخرى من خطب وتوجيهات هو تعبير عن حقيقة كبرى من الحقائق القرآنية، ورد النّبي عليها أو الإشارة إليها في عدّة آيات منها قوله تعالى:

«وإذ أخذَ رَبُّكَ مِن بنِي آدمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرّيَّتهُم وأشهدَهُم على أَنفُسِهِم: أَلستُ بِربّكُم ؟ قالُوا: بلى شهِدنا، أن تقُولُوا يوم الِقيامةِ إِنَّا كُنّا عن هذا غافِلينَ. أَو تقُولُوا إِنَّمَا أشرك آباؤُنا مِن قبلُ، وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بعدِهِم، أفتُهلِكُنا بِما فعلَ المُبطِلُونَ»3.

__________________________________

1 . الأوصاب: المَتاعِب.

2 . نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

3 . سورة الأعراف (مكية - 7) الآية: 172 - 173.

78

وقد تكرّر ذكر هذه القضية الإيمانية الكبرى في جميع النصوص التي أرّخ فيها الإمام للنبوّات.

2 - إثارة دفائن العقول:

وهذه القضية تعني بعث القوى العقلية والنّفسية في الإنسان لإنجاز عملية التقدم الصحيح والتغيير الإيجابي في المجتمع عن طريق الحركة التاريخية المستبطنة للوعي الإيماني المستقيم.

3 - جعل الطّبيعة موضوعاً للبحث والنظرة:

هذه القضية دلّ عليها قوله: «... وَيُرُوهُم آياتِ المَقدِرَةِ...».

وهذه القضية تخدم القضيتين الأوليين، فإنّ مراقبة الطبيعة لفهمها، والتعامل معها واكتشافها تعزّز قضية الإيمان لأنها تقدِّم مزيداً من الأدلّة التجريبية على ما أدركته الفطرة السليمة من قضايا الألوهة. كذلك يعين التعامل مع الطبيعة بصورة مباشرة على إنجاز عملية التقدم، بل شرط أساسي لإنجاز التقدم المادّي، وإذ تتخذ قضية الإيمان في ذات الإنسان مع حركته التاريخيّة في الطّبيعة والمجتمع فيكون تقدم على هدى الإيمان وأخلاقيات الروح والعقل، ويكون إيمان يستجيب للحياة الدنيا ولا يقف منها موقف الرفض والعداء.

*

في نص آخر أرّخ الإمام للعالَم حين بعثة النبي محمد (ص) فقال:

«... إلى أن بَعثَ اللّه سُبحانَهُ مُحمّداً (ص)... وَأَهلُ الأرِض يومئذٍ مِلَلُ مُتفرِّقة، وأهواء مُنتَشِرة، وطرائقُ مُتَشتِّتَة، بينَ مُشَبِّهٍ للّه بِخلقِهِ أو مُلُحِدٍ فِي اسمِهِ، أو مُشِيرٍ إلى غيرِهِ، فهداهُم بِهِ مِن الضّلالَةِ، وأَنقذَهُم بِمَكانِهِ مِنَ الجهالَةِ...»1.

وقال في نصّ ثانٍ:

__________________________________

1 . نهج البلاغة - الخطبة الأولى.

79

«بَعثهُ والنّاسُ ضُلال فِي حَيرةً، وحاطِبُونَ1 فِي فِتنةٍ، قدِ استهوتهُمُ الأهواء، واستنزلتهُمُ الكِبرِياءُ2، واستخفَّتهُمُ3 الجاهِليّةُ الجهلاء. حيارى فِي زلزالٍ مِن الأمرِ وبلاءٍ مِن الجهلِ، فبالَغ (ص) فِي النّصِيحَةِ، ومضى على الطّرِيقة، ودعا إلى الحِكمَةِ والموعِظةِ الحسنَةِ»4.

وقال في نصّ ثالث:

«وأَشهدُ أنّ محمّداً عبدُهُ ورسُولُهُ، أرسلهُ بِالدِّينِ المشهُورِ... والنّاسُ فِي فِتنٍ انجذمَ5 فِيها حبلُ الدِّينِ، وتزعزعت سَوارِي6 اليقِنِ، واختلف النّجرُ7 وتشتَّت الأمرُ، وضاقَ المخرجُ وعمِيَ المصدَرُ، فالهُدى خامِل والعمى شامِل، عُصِي الرّحمانُ ونُصِرَ الشّيطانُ، وخُذِلَ الإيمَانُ، فانهارت دعائمُهُ، وتنَكّرت معالِمُهُ، ودرست سُبُلُهُ، وعفت شُرُكُهُ8 أطاعُوا الشّيطانَ فسلكُوا مسالِكَهُ، ووردُوا مناهِلهُ9، بِهِم سارت أعلامُهُ، وقام لِواؤُهُ، فِي فِتنٍ داستهُم بِأخفافِها، ووطِئتهُم بِأَظلافِها وقامت على سَنابِكِها10 فهُم فِيها تائهُون... حائرُون... جاهِلُون... مفتُونُون...»11.

أشار الإمام في هذه النّصوص إلى وجوه الفساد الّتي كان يعاني منها العالم عشية بعثة رسول اللّه (ص)، وهي وجوه الفساد الكبرى في كلّ عصر وفي كلّ أمّة، فإصلاحها هو وظيفة النّبوّة في حركتها الصاعدة منذ بدأت في مستهلّ التاريخ البشري إلى أن ختمت بمحمّد (ص).

__________________________________

1 . الحاطب هو الّذي يجمع الحطب، يقال لمن يأخذ بالصّواب والخطأ دون تمييز: حاطب ليلٍ، شبه للفتنة باللّيل الّذي تلتبس فيه الأشياء لظلامه حيث أنّ الحق يلتبس فيها بالباطل.

2 . استزلَّتهم: أوقعتهُم الكبرياءُ فِي الزّللِ والسّقوطِ، يعني بذلك فساد حياتهم الإجتماعية.

3 . استَخفَّتهُم: جَعلتهُم طائشينَ مُندفِعينَ وراء شهواتِهم الجسدية والنفسية دون كابح ورادع.

4 . نهج البلاغة، رقم الخطبة: 95.

5 . انجذم: انقطع.

6 . السّارية: هي العمود، يدعم بها السقف، والجمع سوارٍ.

7 . النّجر: الأصل، ومثله: النجار.

8 . درست واندرست بمعنى زالت وانطمست. والشّرك - بضم الرّاء - جمع شراك، وعفت شركه بمعنى انطمست.

9 . المناهل: جمع منهل، مورد النهر.

10 . الأخفاف جمع خُفّ، وهو للبعير كالقدم للإنسان، والأظلاف جمع ظِلْف للبقر والشّاء. والسّنابك جمع سُنبك: طرف الحافر.

11 . نهج البلاغة، رقم الخطبة: 2.

80

الأوّل:

الضّلال في العقيدة، فَالنّاسُ ضُلال فِي حَيْرَةٍ... وَحاطِبُون فِي فتنَةٍ، وَهُم حائرونَ لأنّه حيث لا يستقر الإنسان على عقيدة أو يؤدي به الفساد العام إلى عقيدة باطلة، فإنّه يشعر بالضياع ويشعر بانعدام الهدف... إِنعدام المعنى من وجوده، يشعر بالعبث حين يواجه نفسه بسؤال: مَن أنا ؟ لماذا أنا هنا ؟ ما المعنى لوجودي ؟ ... وهكذا يمضي هذا الإنسان الضائع في التماس الجواب حيث لا جواب، لأنّه «.. بين مشبّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره».

الثّاني:

الفساد السياسي والإجتماعي، فالناس قد أوقعتهم كبرياؤهم الّتي لا مبرّر لها في الزّلل والسّقوط الحضاري، فحملت أقوياءهم على احتقار ضعفائهم وفقرائهم... وخاصّتهم إلى الإستهانة بعامّتهم، فهانت كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وغدا مقياس الكرامة خاضعاً لعوامل غير إنسانية: للثّروة، أو للقوة، أو للنسب، وما إليها. لقد غدا الناس - نتيجة لذلك مَللاً متفرقةً متناحرةً، لكلّ ملّة مذهب وطريق، ولكلّ فئة هوى واتجاه، ولكلّ فريق منهج وغاية، والكل مفتون برأيه، مأخوذ بهواه، يعمل على شاكلته.

والنّبوّة تعالج وجوه الفساد كلّها في الإنسان والمجتمع، في الرّوح وفي المادة، والمؤسسات لتحقق الغاية العظيمة النبيلة، وهي تكوين الإنسان المتكامل.

وقد أعلن الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هدفهم هذا على مدى التاريخ، كلّ واحد منهم في المحيط الذي بعث إليه في الزّمان الّذي كان فيه.. إلى أن ختمت النبوّة بمحمد (ص) فكان هذا الهدف العظيم بحجم امتداد الرسالة الخاتمة في الزمان والمكان على مستوى البشريّة كلّها وعلى مدى المستقبل كله... إِلى نهاية الزمان: «فبالغ (ص) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة»... «... فهداهم به من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة».

وقد أثمر جهد الأنبياء العظيم النبيل وجهادهم ومن اتبعهم وجرى على سنتهم -

81

أثمر تحقيق هذا الهدف العظيم الذي هو وضع الإنسانية على طريق التكامل.

وربّما كان هذا القول مثيراً للدّهشة والتّعجب، والتّساؤل:

كيف حقّق الأنبياء الكرام هدفهم هذا ولم يؤمن بهم إِلا القليل، وأعرض عنهم أكثر الناس، بل حاربوهم ورفضوهم.. ؟

إنّ هدف النبوّة قد تحقق في كلّ عصر، وعلى عهد كلّ نبيّ في صورتين:

إحداهما: فيمن آمن بالنّبيّ وصدّق به واتبع منهاجه، فالتزم في حياته العامة والخاصة بالعقيدة والشريعة اللّتين اشتملت عليهما رسالته.

والصّورة الأخرى: تتمثّل في الجو الثّقافي والرّوحي العام الّذي اشاعته الرّسالة النّبوية في المجتمع نتيجة لتبليغ النبي وأتباعه، وللصراع الفكري والإجتماعي الّذي ولّدته الرّسالة في المجتمع، فإنّ هذا المناخ الثقافي يترك آثاره بلا شكّ على المفاهيم والمؤسسات والقيم والقناعات الّتي تسود المجتمع، ويدفع بها نحو التغيير بصورة لا شعورية، فينتقل المجتمع إلى حالة أفضل في علاقاته وقيمه ومؤسساته وحوافز العمل فيه، وإن كان أكثر هذا المجتمع كافراً برسالة النّبيّ.

ومن هنا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هم آباء الحضارة الإنسانيّة والمدنية الإنسانيّة. وما من خير بلغته وتمتعت به البشريّة في عقولها وأذواقها وقيمها ومؤسساتها وحوافز العمل من أجل التقدم المادي عندها إِلا وللأنبياء فيه فضل كبير، لأنّهم - على مدى التاريخ - أشاعوا، بما بثّوه من الوحي الإلهي في الناس، وحدة جديدة في كلّ مجتمع تنبثّ كالنّور... كالعافية فيه فتضيء، بدرجات متفاوتة، مناطق الظلمة، وتلمس - بدرجات متفاوتة - مناطق البؤس والمرض فيه. وكان تأثير هذه الروح النبويّة متفاوتاً بنسبة مقاومة قوى الشر حين تعي درجة تأثير الخير النبوي، وبقاء هذا الخير حراً في التأثير حين تغفل قوى الشرعية أو ترى لنفسها مصلحة فيه.

وهكذا، فمن هذا المنظور نفهم أنّ كلّ نبي قد هدى اللّه به الناس من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. فهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين آباء الإنسانية الكرام، وآباء الحضارة العظام.

82

وهذا نصّ آخر يضيء به الإمام جانباً آخر من جوانب وظيفة النبوّة في نطاق الهدفين العظيمين، قال عليه السّلام:

«قَد صُرِفَت نحوهُ أفئدةُ الأبرارِ، وثُنِيت إليهِ أزمَّةُ الأَبصارِ. دفنَ اللهُ بِهِ الضّغائنَ1 وأَطفأ بِهِ الثَّوائرَ2. ألَّفَ بِهِ إخواناً، وفرَّقَ بِهِ أقراناً. أعزَّ بِهِ الذِّلّةَ، وأذَلَّ بِهِ العِزَّة»3.

في هذا النّصّ كشف الإمام عن عمل النبوّة في تغيير القيم السائدة في المجتمع، هذه القيم الّتي تحكم وتوجه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقيم أخرى متّسقة في طبيعتها مع طبيعة الرّسالة النبوية لأنها مستمدة منها. وما يترتب على ذلك من تغيّر في المفاهيم والقناعات، ومن تبدل في نوع العلاقات نتيجة لتبدل القيم الجاهليّة بالقيم النبويّة.

لقد ثنيت أزمّة الأبصار نحو الرّسول الأكرم (ص) كما كانت تثنى نحو كل نبيّ في مجتمعه، لأنه قد أثار اهتمام الناس كلّهم، وأوجد هزّة راحت تنداح على المجتمع كلّه وتنفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضيء التحليل الّذي بيّنا فيه آنفاً أنّ أثر النبوّة الخيّرة لا يقتصر على المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإِنّما يتعداهم ليشمل ببركاته المجتمع كله.

لقد أدّت القيم الجديدة الّتي جاء بها النّبيّ إِلى تغيير المفاهيم، ومن ثمّ إِلى تغيير عميق وجذري في العلاقات الإجتماعيّة بين الأفراد والفئات، وإِلى إحداث التّبدّلات الإجتماعية.

لقد دفنت به الضغائن، لأن أسباب تولّدها قد زالت، ومن ثمّ فقد زالت أسباب تفجّرها فزالت الثوائر.

لقد نعم المجتمع كلّه بدرجة عالية من الإستقرار والطمأنينة بعد أن انخفضت إلى أدنى الدرجات مظاهر العنف والتوتر فيه نتيجة لتبدّل المفاهيم والقيم الّتي كانت

__________________________________

1 . الضّغائن: الأحقاد المكتومة.

2 . الثّوائر: الأحقاد المتفجّرة في أعمال عدائية عنفية ومعارك.

3 . نهج البلاغة، رقم الخطبة 96.

83

سائدة فيه بمفاهيم وقيم أخرى بثّتها النبوّة.

وقد أدّت القيم الجديدة إلى إيجاد علاقات جديدة:

فألّف اللّه بالنبي... بالقيم الّتي بشّر بها وأذاعها في الناس، إخواناً في الإيمان، وفرقت هذه القيم الإيمانية بين أقران اختلفت بهم الطريق حين هتف صوت النبوّة في المجتمع، فسلك بعضهم طريق الإيمان وبقي الآخر على طريقه القديمة، وقيمه القديمة، طريق الجاهلية وقيم الجاهلية.

كما أدّت هذه القيم الجديدة إلى تغيير في المراتب الإجتماعية، لأنّ القيم القديمة التي كانت تجعل أساس الترتيب في البنية الإجتماعية بين الأشخاص أو الفئات متمثلاً في المال، أو السلالة والنسب، أو القوة الحربية... هذه القيم قد زالت وحلّت محلها قيمة جديدة غدت هي الأساس الّذي يقوم عليه الترتيب الإجتماعي، وهي التّقوى1، ومن ثم فقد أعزّ اللّه بالنبي... بالقيم الّتي جاء بها الذّلة الّتي كانت تفرضها القيم الجاهلية القديمة على الفقراء والمستضعفين، وأذلّ به العزّة الّتي كانت تنشأ من قيم غير إيمانية.

من تاريخنا الإسلامي تحفل السيرة النبوية بمئات من الشّواهد والنّماذج.

فالأذلاء في الجاهلية كعمّار بن ياسر وبلال الحبشي غدوا أعزاء في المجتمع الجديد، لأنّ القيم الجاهليّة الّتي كانت تفرض عليهم أن يكونوا أذلاء في مرتبة اجتماعية متدنية قد زالت بالإسلام. وجاء الإسلام بقيم جديدة غيّرت موقعهم في المجتمع فجعلتهم من النخبة، والأعزاء في الجاهلية غدوا أذلاء لأنّ القيم الّتي كانوا يتكئون عليها ويستمدون منها اعتبارهم الإجتماعي ويتبوّؤن مركز النخبة فيه... هذه القيم قد زالت بالإسلام وحلّت محلّها قيمة جديدة هي التقوى، وحيث أنهم لم يتحلّوا بهذه القيمة الجديدة فقد غدوا من الأذلاء.

*

1 - في شرح مفهوم التقوى الإسلامي وبيان مكوّناته وأبعاده راجع كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) فصل: المجتمع والطبقات الإجتماعية.

84

وثمة نصوص في نهج البلاغة تحدث فيها الإمام عن حالة العرب بالنّسبة إلى تأثير النبوّة في أوضاعهم الحياتية والمعنوية.

ففي النص التالي صوّر أمير المؤمنين حالة المجتمع العربي الجاهلي عشية بعثة النبي محمد (ص)، في جميع وجوه حياته الّتي كان عليها من النّواحي الرّوحية والإجتماعية والأخلاقية. قال عليه السّلام:

«إنّ اللهَ بعثَ مُحمّداً (ص) نَذِيراً للعالَمِين، وأميناً على التَّنزيلِ، وأنتُم معشرَ العربِ على شرِّ دِينٍ وفِي شرِّ دارٍ مُنِيخون1 بينَ حِجارَةٍ خُشنٍ وحيَّاتٍ صُمٍّ2 تشربُون الكَدِر، وتأكُلُون الجشِبَ3، وتسفِكُون دِماءكُم وتقطعُون أرحامكُم، الأصنام فِيكُم منصوبَة والآثامُ بِكم معصُوبة4»5.

إنّهم كانوا على شرّ دينٍ.

كانت الأصنام فيهم منصوبة يتوجهون إليها بالعبادة والضراعة، كانوا، إذن، وثنيّين، وكانت وثنيّتهم، الّتي استعاروها من هنا وهناك، بدائية متخلفة خالية من الجمال الفنّي والذوق إضافة إلى خلوها، بطبيعة الحال، من كلّ مضمون روحي سليم وكانوا في شر دارٍ.

كانت دارهم البادية القاحلة المجدبة الّتي تفرض عليهم شروط حياة صعبة قاسية جعلت من حياتهم سلسلة من الأخطار والمتاعب وألوان الحرمان.

وكانوا - بسبب ما هم عليه من إفلاس روحي لأنهم على شرّ دين، ومن تخلف في حياتهم المادّيّة لأنهم في شرّ دار - ... بسبب هذا وذاك - كانوا على شرّ حال في حياتهم الإجتماعية وعلاقاتهم الإنسانية، فهم يقطعون أرحامهم، وهم يسفكون دماءهم.

__________________________________

1 . منيخون: مقيمون.

2 . خشن: من الخشونة. والحيّات الصّم أخبث أنواع الحيّات. كنى عن صعوبة مناخ البادية وقساوة العيش فيها.

3 . الكَدِر: الماء الذّي يخالطه الطين وغيره، والجَشب من الطعام: الغليظ الخشن كناية عن بؤس حياتهم وفقرها، وانعدام وسائل الراحة فيها.

4 . معصوبة: مشدودة، كناية عن استمرارهم على المعصية.

5 - نهج البلاغة: رقم الخطبة 26.

85

وهم - بالإجمال - يكدحون بأستمرار لتوفير حياة متخلفة، قاسية، فقيرة في الشكل والمضمون في ظل علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة فاسدة.

*

في نصّ آخر يؤرخ الإمام للتغيير الّذي أدخلته النبوّة على حياة العرب، ويسجّل ملامح عامة للحال الّتي انتقلوا منها وللحال الّتي صاروا إليها بعد الإسلام.

قال عليه السّلام:

«أمّا بعدُ فإنَّ الله سُبحانهُ بعثَ مُحمّداً (ص) وليس أحد مِن العربِ يقرأُ كِتاباً ولا يدّعِي نُبوَّةً ولا وحياً، فقاتلَ بِمن أطاعُ من عصاهُ، يسُوقُهُم إلى منجاتِهِم، ويُبادِرُ بِهِمُ السّاعة أن تنزِلَ بِهِم يحسِرُ الحسِيرُ ويقِفُ الكسِيرُ1 فَيُقِيم عليهِ حتى يُلحِقهُ غايتهُ، إلا هالِكاً لا خير فيِهِ، حتَّى أرأهُم منجاتُهم2 وبوّأهُم محلَّتَهُم3، فاستدارَت رحاهُم4 واستقامَت قناتَهُم»5.

كان العرب أمّيّين لا يقرأون ومن ثمّ فقد كان الجهل سائداً فيهم، وكانوا بعيدي عهد بالنبوّات ورسالات السماء ومن ثم فقد كانت حياتهم الروحية فقيرة هزيلة مشوّهة. وقد جهد رسول اللّه في إخراجهم من الظلمات... كلّ الظلمات: ظلمات الروح والعقل والحياة، إلى كلّ النور، من التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن العمى الرّوحي إلى نعمة الإيمان الكبرى.

وبذلك بلغهم ساحل النجاة في الدنيا والآخرة.

وبذلك أعطاهم دوراً عالمياً - بما هم مسلمون - يحملون فيه الهدى والنور والكرامة إلى جميع الأمم بعد أن كانوا كمية مهملة لا قيمة لها ولا قدر ولا دور.

__________________________________

1 . الحسير هو الّذي أصابه الإعياء والتعب. والكسير المكسور الّذي لا يقوى على السير، يريد أنّ النبي كان تحريضه على الإسلام وإشفاقه على المسلمين يلاحظ حال من حدثت عنده شبهة أو خالط قلبه ريب في الدّين فلا يزال يرشده برفق وحب حتى يزيل من قلبه الريب ويجلو عن عقله الشبهة.

2 . منجاتهم: ما به نجاتهم وهو الإسلام.

3 . محلتهم: مركزهم في المجتمع العالمي، وكونهم ذوي رسالة عالمية هي الإسلام.

4 . استدارة الرّحى كناية عن وفرة الأرزاق. واستقامة القناة كناية عن صلاح الحال واستقرار الحياة.

5 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 104.

86

وبذلك أعطاهم لين الحياة، وكرامة الحياة، واستقرار الحياة.

ولم تعد حياتهم قاسية صعبة، بل لقد استدارت رحاهم بالأرزاق.

ولم تعد حياتهم متوجسة متوحشة، بل لقد استقرت واطمأنت.

واستقامت قناتهم لم تعد مشرعة لأجل العدوان أو لأجل رد العدوان.

*

سلام اللّه وتحيّاته على جميع الأنبياء والمرسلين.

 

2 - وعي التّاريخ

من المؤكّد أن الإنسان العربي الجاهلي - قبيل الاسلام - كان يعوزه الوعي التاريخي بالمعنى الّذي عرفته الشعوب المتحضرة ذات الثقافة المدوّنة، وذات المؤسّسات السياسيّة والإدارية الرّاسخة العريقة. هذا فضلاً عن أن يكون الوعي التاريخي بالمعنى الّذي عرفه إنسان العصور الحديثة قد وجد لدى الإنسان العربي الجاهلي قبيل الإسلام.

وهذا الحكم ينطبق بوجه خاص على عرب الشّمال، وإن لم يكن عرب الجنوب - كما سنرى - أفضل حالاً منهم بكثير.

فقد كان العربي الجاهلي - قبيل الاسلام - يعيش حياة البداوة بما يلزمها من تنقل وارتحال طلباً للكلأ وللماء، ومن ثم لم يكن لدى العربي مؤسسات ثابتة، ونظم سياسية وإدارية.

وكانت الأمّية غالبة على هذا المجتمع، ومن ثم فلم يُنشئ ثقافة مدوّنة بأيّ نحو من الأنحاء إلا نقوشاً نادرة لا تبلغ أن تكون ثقافة مدوّنة تسهم في تكوين الشخصية الثقافية للإنسان - لا نستثني من ذلك عرب الجنوب الّذين كانوا قد فقدوا قبيل الإسلام - بانهيار نظام الرّي عندهم - الكثير من سماتهم كشعب متحضر له ماضٍ عريق، وغدوا أقرب إلى البداوة والأميّة.

وكانت الحياة من البساطة والسذاجة بحيث أن أحداثها البارزة كانت نادرة جداً، ومحدودة المدى جغرافياً وبشرياً، وهذه الأحداث هي الّتي شكّلت مادة ما يسمى «أيام العرب» الّتي سنعرض للحديث عنها بعد قليل.

كما لم يكن لدى العربي الجاهلي شعور بالزمن المستمر كمفهوم حضاري، كان

88

الزمن عنده مجرّد تعاقب للظواهر الفلكية والفصول. ومن المعلوم أنّه لم يكن لدى العربي الجاهلي تقويم.

ونتيجة لكل هذه العوامل لم تتكوّن لدى العربي أية خبرات تاريخية ماضية ذات شأن، ناشئة من وقوع الأحداث نفسها من ناحية والشعور بها من ناحية أخرى - لا أحداث مشتتة غير مترابطة - بل في نطاق نظام للتعاقب الزّمني وللعلاقات الداخلية فيما بينها.

وبعبارة أخرى: لم يكن لدى العربي الجاهلي شعور بأستمرار الأحداث وديمومتها، وتفاعلها الداخلي، وعلاقاتها بحاضره، وإمكانات تأثيرها في المستقبل على النحو الذي يصح أن يسمّى وعياً تاريخياً. لقد كان وعي الماضي على هذا النحو لدى العربي الجاهلي قبيل الإسلام معدوماً.

نعم، لقد كان ثمّة وميض من الشّعور بالماضي لدى العربي الجاهلي.

كانت الذّاكرة تحمل صوراً غامضة، هلاميّة الشّكل ومشوّهة لهذا الماضي ناشئة من القصص الّتي كانت تسمّى «الأيام»، ومن العناية بالأنساب. لقد كانت «الأيام» والأنساب كما «البعد التّاريخي» للإنسان العربي.

إنّ هذا الوميض من الشّعور بالماضي لا يرقى، بالتأكيد، إلى أن يكون وعياً تاريخياً بالمعنى الّذي نفهمه الآن.

فقصص الأيام نادراً ما تملئها الأحداث الكبرى ذات الشّأن السّياسي والإنساني وهو ما يعطي التاريخ حقيقته ومعناه. وغالب أحداثها يتكوّن من معارك صغيرة بين مجموعات قبلية، ويعطيها الخيال الشعري والنصوص الشعرية المرافقة لها وهجاً وحجماً غير واقعيين.

كما أنّها تفقد عنصر الترابط فيما بينها، ولا تأخذ في جميع الأحوال بنظر الاعتبار عنصر السببيّة، ولا تقوم بينها علاقات داخليّة.

وهي خالية من عنصر الزمن، وخلوّها من عنصر الزمن ليس ناشئاً من إهمال، بل ناشئ من عدم إدراك العربي الجاهلي لعامل الزمن التاريخي كما أشرنا آنفاً.

89

وكانت قصص الأيام في حلقات السّمر الّتي تعقد أمام الأخبية والخيام للتسلية والمتعة، وللمفاخرة في بعض الحالات. ولم تكن تتداول كمادة علمية. والرأي الراجح أنها لم تدوّن على الإطلاق.

والأنساب وإن كانت تدلّ على شعور بالماضي من خلال وعي الإنتماء إلى الآباء الّذين تشتمل على ذكرهم شجرة النسب القبلية، إلا أنّ علمنا بأنّ شجرات الأنساب كانت تقتصر على مجرّد ذكر الأسماء فقط دون أن تحتوي على أية مادة تاريخية، علمنا بهذا الوضع لشجرات الأنساب التي كانت تتداول عن طريق الرّوايات الشّفوية يجعل قيمتها كمصدر لتكوين الوعي التاريخي معدومة.

ومن المؤكدّ أنّ شجرات الأنساب في العصر الجاهلي لم تعرف أيّ شكل من أشكال التدوين ليتيح فرصة إضافة مادّة تاريخيّة إليها. ولم تدوّن شجرات الأنساب في كتب إِلا في عصر إسلامي متأخّر نسبيّاً.

ويظهر لنا هذا الوميض من الشعور بالماضي لدى العربي الجاهلي في الشعور الّذي يصور مواقف أخلاقية للشاعر في مجالات الحرب، والكرم، والوفاء، وما إلى ذلك، حيث تدفع الشاعر خشيته من (أحاديث الغد) الّتي تعكس مسلكية غير نبيلة إلى أن يجعل سلوكه منسجماً مع قيم النبالة كما تقضي بها أخلاقيات المجتمع الجاهلي فيكون وفياً، وشجاعاً حتى الموت، وكريماً...

هذا الشعور يمكن أن يكون نواة للوعي التاريخي، ولكنّه لا يرقى، بطبيعة الحال، إلى أن يكون وعياً تاريخياً بالمعنى الّذي حدّدناه آنفاً. إنّه وعي ناشئ عن قيم أخلاقية بدوية الطابع، وليس عن وجود تاريخ يستوعبه الشعور والوجدان، وهو مقصور على حالات فردية لم تبلغ أن تكون وعياً عاماً. وهو شعور بالخشية من تصرّف شخصي أو موقف شخصي قد يدفع الآخرين إلى إدانته، وليس شعوراً بإنجازات الآخرين وتفاعلاً معها.

*

كان هذا حال العربي الجاهلي

90

ولكن الحال تغيّر بعد ظهور الإسلام تغيّراً كاملاً.

إنّ القرآن الكريم والسّنّة الشريفة قد كشفا للعربي تدريجاً عن عمقه في الزمان باعتباره مسلماً. وغدا القرآن والسّنّة يغذيان على مهل وعي المسلم بعمقه التاريخي من خلال القصص الّتي تؤرخ للأمم الماضية، وأنبيائها، ومواقفها منهم باعتبارهم أنبياء، وحالات ازدهارها، وانحطاطها، وفنائها.

ومن خلال هذا الوعي أدرك المسلم أنّه بإسلامه، وجهاده اليومي - بالسيف والكلمة - في داخل الجماعة الإسلامية الّتي تبني نفسها بعين اللّه وعلى يد رسول اللّه، وفي مواجهة المشركين... أدرك بوضوح كامل أنّه بعمله اليومي هذا يصنع تاريخاً موصولاً بما وعاه من تاريخ الأمم الماضية كما تعلّمه من الكتاب والسنة. وهكذا وجد الوعي التاريخ لدى الإنسان المسلم.

*

وللتّاريخ وظيفة تتعدى شعورنا بالإستمرار والديمومة. وهذه الوظيفة تربوية أخلاقية. لا يعني هذا أنّ التاريخ يتحوّل إلى مادّة وعظية فقط، فإنّ البحث والنقد غرضان من أغراض التاريخ بلا شك، ولكن الوظيفة النهائية بعدهما هي، كما قلنا، تربوية أخلاقية.

وهذه الوظيفة تستمدّ معالمها وطبيعتها من طبيعة النهج الّذي تسلكه الأمة في بناء نفسها، ومن طبيعة الدور الّذي تعد نفسها للقيام به في محيطها الإقليمي أو على المستوى العالمي، ولذا نرى أنّ كلّ أمّة ذات نهج فكري مميّز لشخصيتها تجعل التاريخ مادة بانية لهذا النهج الّذي ارتضته.

وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أن يحرّف التاريخ ليكون أداة دعائية وسياسيّة. إنّ الأمانة للحقيقة يجب أن تكون دائماً مرعيّة، وإنّما يعني أنّ التاريخ ليس مادة ترف فكري وتسلية. إنّه مادة شديدة الخطورة إذا تولّى استعمالها في الشأن العام رجال لا يقيمون للأخلاق وزناً ولا تحركهم روح رسالية، وأجهزة كذلك... رجال وأجهزة يحركهم التعصب والغرور القومي والعنصري... في هذه الحالة قد يوجّه التاريخ

91

ليكون مبرّراً نظرياً وعاملاً نفسيّاً لدى الجماهير يخدم الطّغيان والإتجاهات العدوانيّة لدى السّياسيّين ورجال الحرب ضد أمة أخرى، وفي هذه الحالة يعرض التّاريخ للتّزوير والتّحريف.

والتّاريخ حافل بأمثلة عن تسخير التاريخ لغايات غير أخلاقية وغير رسالية في العصور القديمة وفي العصر الحديث.

وللتاريخ في الإسلام - انطلاقاً من هذا الفهم - وظيفة تتّصل بطبيعة الإنسان المسلم وطبيعة المجتمع الإسلامي.

إنّ الإنسان المسلم إنسان أخلاقي يعتنق رسالة عالمية، والمجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي وذو رسالة عالمية.

وإذن فالتاريخ ينبغي أن يخدم الرّسالية والأخلاقية في علاقات المسلم الداخلية والخارجية، كما ينبغي أن يخدم الرّسالة والرّوح الرّسالية في العالم.

وكلّما حدث في سلوك المسلم أو سلوك الجماعة الإسلامية انحراف عن الأخلاقية أو انحراف عن الرّوح الرّسالية في ممارسة الحياة والتعامل مع الآخرين فإنّ التاريخ يستعمل، إلى جانب الوسائل التربوية الأخرى والتنظيمية لتصحيح النظرة الخاطئة، وتقويم مسار الفرد والمجتمع.

والقرآن الكريم حافل بالشواهد على هذه الحقيقة نذكر منها شاهداً مميّزاً لأنّه يتضمن تعبيراً غدا مصطلحاً إسلامياً في الشّأن التاريخي، هو مصطلح «أيام اللّه» الّذي يعني الأحداث الكبرى في تاريخ كلّ أمّة سواء أكانت نجاحات كبرى وانتصارات باهرة أو نكبات عظمى وانهيارات مأساوية.

وقد ورد هذا التعبير (أيام اللّه) في القرآن الكريم مرة واحدة فقط، ذلك في سياق الآيات الكريمة الّتي تضمنت بيان تربية وتوجيه نبيّ اللّه موسى بن عمران سلام اللّه عليه لبني إسرائيل وهدايتهم إلى الإيمان الصحيح، ورفع مستوى إدراكهم من حالة الجهالة والبدائية والماديّة إلى المستوى الإيماني - الحضاري. قال اللّه تعالى:

«ولَقد أرسلنا مُوسى بِآياتِنَا أن أخرِج قومكَ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وذكِّرهُم بِأيَّامِ اللّه. إنَّ

92

فِي ذلِك لآياتٍ لِكُلِّ صبَّارٍ شكُورٍ»1.

وورد ذكر هذا المصطلح في نهج البلاغة في موضعين:

أحدهما في كلام للإمام عند تلاوته قوله تعالى (يُسَبِّحُ لهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ رِجال لا تُلهِيهِم تِجارَة ولا بيع عن ذِكرِ اللهِ...)2 قال في وصفهم:

«... وما برحَ لِلهِ .. عِباد ناجاهُم3 فِي فِكرِهِم، وكلَّمهُم فِي ذاتِ عُقُولِهم، فاستصبحُوا: بِنُورِ يقظةٍ في الأبصارِ والأسماعِ والأفئدةِ، يُذكِّرُون بِأيَّامِ اللهِ، ويُخوِّفُون مقامه...»5.

وثانيهما في كتاب له إلى عامله على مكّة قثم بن العبّاس6، قال فيه:

«أمَّا بعدُ، فأَقِم لِلناسِ الحجَّ، وذكِّرهُم بِأيَّامِ اللهِ»7.

*

من هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس كان الإمام عليه السّلام يتعامل في توجيهه الفكري، وفي وعظه، وفي تعليمه وتوجيهه السّياسي مع التاريخ، وكان يوجّه المسلمين إبى أن يعُوا التاريخ على هذا الأساس، وأن يتعاملوا مع التاريخ من هذا المنطلق الّذي يخدم الأخلاقية والرّسالية.

ولعلّ الخطبة القاصعة8 أفضل مثال على طريقة تعامل الإمام علي مع التاريخ بهدف التربية وتقويم سلوك المجتمع أخلاقياً، وتوعيته بمسؤوليته الرّسالية، وسندرس في

__________________________________

1 . سورة إبراهيم (مكيّة - 14) الآية: 5.

2 . سورة النّورة (مدنيّة - 24) الآية: 36 و37.

3 . ناجاهم: خاطبهم بالإلهام.

4 . استصبح: أضاء مصباحه.

5 . نهج البلاغة: رقم النص 222.

6 . قثم بن العباس بن عبد المطلب. كان من مساعدي الإمام علي (ع) في تجهيز رسول اللّه (ص) ودفنه، وهو آخر من خرج من القبر الشريف، ولاهُ أمير المؤمنين على مكة، فلم يزل والياً عليها إلى أن استشهد الإمام، واستشهد قثم بسمرقند، كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية، وقبره في سمرقند مشهور. وقد زرناه أثناء مشاركتنا في المؤتمر الدّيني.

7 . نهج البلاغة: (باب الكتب) رقم النص 67.

8 . الخطبة القاصعة رقمها في نهج البلاغة: 192.

93

فصل آتٍ جوانب من هذه الخطبة.

ويمكن أن نكوّن فكرة مقاربة للحقيقة عن جهود الإمام الفكرية في حقل التوعية بالتاريخ إذا لاحظنا أن الكثير مما ورد في نهج البلاغة - وهو قليل من كثير من كلام الإمام وخطبه - إن لم يكن أكثر ما ورد في كلامه في النهج من المواد التالية (و. ع. ظ / ح. ذ. ر / ز. ج. ر / ع. ب. ر) ... كان الإمام قد خاطب به الناس في حالات شتّى وأزمان شتّى، موجهاً تفكيرهم نحو التاريخ بهدف التربية وتقويم السّلوك الفردي والإجتماعي في شؤون الحياة عامة من روحيّة واجتماعية وسياسيّة. ولا يختصّ ما رُوي عنه في هذا الشأن بالوعظ وحده كما ربما يتوهّم البعض.

ومن أمثلة ما أشرنا إليه آنفاً قوله عليه السّلام في مواضع من نهج البلاغة:

«وعظتم بمن كان قبلكم...» «... فاتعظوا عباد اللّه بالصبر النّوافع...» «... واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا ان تكونوا أمثالهم» «... واتَّعِظّوا فِيها بِالّذِين قالُوا (من أشدُّ مِنّا قُوَّةً)»1.

إلى أمثال هذه العبارات الّتي ورد كثير منها في خطبه وكتبه.

فقد كان الامام يقاتل بكل سلاح نزعه الشرّ والإنحراف وتيّار الفتنة الّتي بدأت تجتاح المجتمع الإسلامي. وكانت توعية المجتمع بالتّاريخ أحد هذه الأسلحة.

__________________________________

1 . سورة فصّلت (مكّيّة - 41) الآية 15: فأمَّا عاد فاستكبرُوا فِي الأرضِ بِغيرِ الحقِّ وقالُوا: مَن أشدُّ مِنَّا قُوَّةً...».

 

3 - التّاريخ يعيد نفسه

هل يعيد التاريخ نفسه ؟

من البديهي أنّ التّاريخ لا يعود مرة أخرى إلى ساحة الحاضر أو المستقبل، إذا أردنا من هذه القضية عودة تفاصيله وجزئيات أحداثه، فالأحداث ليست أشياء مجرّدة تقع في الفراغ دون أن تكون لها صلة بالبشر، وإنّما الأحداث بما هي صنع البشر تحمل السّمات الشخصية الخاصة لصانعيها: تحمل طابع مصالحهم الآنية، وأمزجتهم وعواطفهم، وأخلاقياتهم وطريقة فهمهم للحياة... وقد تنعدم هذه السمات الشخصية المميّزة مع أصحابها، ولن تعودَ على الإطلاق. وإذن، فالتاريخ بهذا المعنى لا يعود ولا يتكرر.

إنّ ما حدث في الماضي قد حدث مرة واحدة، ولن يحدث مرة أخرى، لن يتكرر، على الإطلاق.

أمّا إذا أردنا من هذه القضية عودة نمط الحركة التّاريخيّة ومظاهره العامة وآثارها النّفسيّة والإجتماعيّة في المجتمع فإنّ التاريخ يعود بالتأكيد حين تتوفّر في الحاضر... في نسيجه الإجتماعي وعلاقاته الإنسانية الأسباب الموضوعية الّتي أدّت إلى نشوء نمط الحركة التاريخيّة في الماضي.

إنّ الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان.

إنّه يتحرك في الزّمان والمكان مدفوعاً - فرداً وجماعةً ومجتمعاً - بمصالحه وعلاقاته وعواطفه، والعقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والرّوحية إذا تأصّلت فيه وتعمقت في وجدانه وكيّفت نظرته إلى الكون والحياة والإنسان فإنها تكون قادرة على

96

أن تدخل تغييراً عميقاً على عواطفه ومصالحه وعلاقاته في المجتمع والعالم، ومن ثمّ فإنّها تكون قادرة على تغيير تاريخه ونقله إلى مسار جديد، ما دامت لا تواجه عقبات تشلّ فاعليتها وتأثيرها.

أمّا إذا فشلت العقائد والشرائع والمثل والقيم الأخلاقية والرّوحية في إدخال التغيير المناسب لها على تكوين الإنسان النفسي وعلى تقديره لمصالحه، لأنها لم تتأصّل في أعماقه ولم تغيّر نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، فإنّ تاريخه في هذه الحالة سيتكرر.

إنّ هذا التاريخ الجديد لن يحمل نفس السّمات والخصائص الماضية في الغالب، ولكنّه يحمل نفس الروح، ويخلّف في المجتمع نفس الآثار الّتي كانت في الماضي تحمل أسماء جديدة وتقدم نفسها بمبرّرات جديدة لا تعدو أن تكون مجرّد قشرة خادعة يستطيع المؤرخ الباحث أن يكتشف ما وراءها فيتجاوزها إلى العمق ليجد الواقع القديم تحت الأشكال الجديدة1.

*

في أول خطبة خطبها أمير المؤمنين عليّ بعد أن بويع بالخلافة في المدينة نرى أنّه قد لاحظ عودة الأشكال القديمة للإنقسامات القبلية والفئوية داخل المجتمع العربي الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي في عهد عثمان وبعد مقتله بكلّ ما كانت تحتويه هذه الأشكال من روح قبلية وعنصرية، وأخلاقيات جاهلية رجعيّة.

وقد كانت عودة هذه الأشكال القديمة حاملة مضمونها الرجعي نتيجة لضمور المثل العليا والقيم المؤثرة في حركة التاريخ الإسلامي، ونتيجة لضعف مؤسسة الخلافة في عهد عثمان، هذا الضعف الّذي مكّن القوى القديمة والقيم القديمة - الّتي لم تكن قد ماتت بعد، وإنّما كانت تعاني من حالة خمود وضمور - مكّنها من أن تستعيد فاعليتها، وتعود إلى التأثير في حركة التاريخ تحت شعارات مناسبة تنسجم مع الإسلام في

__________________________________

1 . من الظواهر الهامة الّتي نقدّر أنّها تستحق من المفكرين والمؤرخين بحثاً معمقاً، ظاهرة الإنقسامات الإقليمية في العالم العربي، فإنّنا نقدّر أنّها تعبير جديد عن القبلية، تحت أسماء جديدة وبمبرّرات تلائم المناخ الثقافي الحاضر والوعي السياسي السائد. ونقدّر أنّ فشل فكرة الوحدة العربية لا يرجع فقط إلى عمل الإستعمار التخريبي وإنّما نشأ من وجود استعداد للتشرذم أعان الإستعمار على رسم سياساته وإنجاحها في هذا المجال ولولا ذلك لما وُفِّق الإستعمار إلى بلوغ غايته.

97

الشكل الخارجي.

لقد عادت إلى الظهور والفاعلية تلك القيم والمثل الجاهليّة القديمة الّتي كانت تقود حركة التاريخ في المجتمع العربي وترسم ملامح هذا المجتمع وتوجه خطاه قبل بعثة الرّسول الأكرم وانتصار الإسلام.

وقد رأى أمير المؤمنين عليّ هذه القيم البائدة العائدة من خلال رصده للظواهر الجديدة الّتي تبدو في حركة الجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وحركة القيادات الّتي توجّه هذه الجماعات سراً وعلانيةً.

وقد رأى مع ذلك الأفاعيل التي ستنجم عن هذه الحركة الرجعية للتاريخ في الإسلام، والمآسي الكبرى الّتي ستنزل بالمسلم فرداً وجماعةً ومجتمعاً ودولةً ومؤسساتٍ نتيجة لانبعاث هذه الرّوح الشّريرة من جديد.

قال عليه السلام:

«ذِمَّتِي بِماا أقُولُ رهِينة1 وأنا بِهِ زعِيم2. إنَّ من صرَّحت لهُ العِبرُ عمّا بين يديهِ مِن المثُلاتِ3 حجزتهُ التّقوى عن تقحُّمِ الشُّبُهاتِ4، ألا وإنّ بلِيَّتكُم قد عادت كهيئتِها5 يوم بعثَ اللهُ نبِيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. والّذي بعثهُ بِالحقِّ لتُبلبلُنَّ6 بلبلةً، ولتُغربلُنَّ7 غربلةً، ولتُساطُنَّ سوط القِدرِ8 حتى يعُودَ أسفلُكُم أعلاكُم، وأعلاكُم أسفلكُم...»9.

__________________________________

1 . رهينة: من الرهن. جعل ذمته رهناً على ما يقول.

2 . زعيم: كفيل بصدق ما يقول.

3 . العبر: ما أصاب النّاس من «مثلات» عقوبات إذا دعاها الإنسان على سبيل الإعتبار، فيتعظ بتجربة الّذين أصابتهم العقوبات من قبله.

4 . الشّبهات: الأفعال والمواقف الغامضة الّتي لم يبت في الشرع الرخصة في فعلها. يريد أنّ العبرة بالماضين تحجر الإنسان عن الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء.

5 . رجعت البلية كما كانت في الماضي الجاهلي.

6 . البلبلة: الإختلاط، كناية عن الأزمات الإجتماعية والثّورات.

7 . الغربلة: من الغربال: يريد أنّ التجارب الآتية ستميّز المواقف، وتكشف الأشخاص على حقيقتهم.

8 . السوط: الخلط - سوط القدر: كما تمزج مواد الطبخ في القدر، وتختلط وتغلي سيكون المجتمع نتيجة للثّورات والأزمات الإجتماعية.

9 . نهج البلاغة - رقم الخطبة 16.

98

يقول لهم: إنّ البليّة (الفساد الإجتماعي، والإنحطاط الأخلاقي والحضاري) الّتي كانت تسم الحياة العربية في الجاهلية نتيجة لسيادة قيم الجاهلية ونظرة الجاهلية إلى الكون والحياة والإنسان - هذه البليّة قد عادت كما كانت عشية بعثة الرسول الأكرم (ص) لأنّ القيم الّتي ولّدت هذه البليّة في الماضي الجاهلي قد دبّت فيها الحياة من جديد على حساب القيم الجديدة الّتي جاء بها الإسلام، هذه القيم الّتي تقلّص نفوذها وتأثيرها، بسبب عوامل متنوعة، على الإنسان المسلم، وأدّى ذلك إلى حدوث ثغرات نفذت منها القيم القديمة فعادت من جديد.

ثم أنذر الإمام علي مجتمعه بأنّ هذه البليّة الّتي عادت ستكون لها آثار مأساوية على المجتمع الإسلامي.

ستنجم عن هذه البليّة الأزمات الإجتماعية والثورات الّتي ستلقي بالمجتمع في غمار حروب أهلية مدمّرة، ولا بدّ أن تكون هذه الأزمات والحروب الأهلية أضرس، وأعم شراً، وأشدّ فتكاً مِمّا كان يحدث في الجاهلية.

ستكون في المجتمع نتيجة لعودة هذه البليّة بلبلة (اختلاط وتداخل) وشد وجذب ينتج عن الأزمات والثورات ويولّدها.

وسيكون حال المجتمع - نتيجة لهذه البليّة العائدة - حال القدر التي تغلي على النار وتختلط فيها المواد، ولا يستقر على حال، ولا ينعم بالطمأنينة، وإنّما هو في قلق دائم، واضطراب مستمرّ.

سيؤدّي ذلك إلى الغربلة، وتمييز مواقف الرجال والجماعات، لأنّ المحن والأزمات تفرز الفئات الإجتماعية، وتحدّد سماتها.

ولكن كلّ ما سيحدث لن يتضمّن شيئاً من الخير، بل سيعود على المجتمع بالشّرور، وسيؤدّي بالمجتمع إلى التمزق الّذي يشلّ الفاعلية، ويعطّل الطاقات الإيجابية، بل يهددها، ويعوق حركة التقدّم.

ستكون جاهلية تتغشّى بشعارات الإسلام، جاهلية بعثتها القيم الجاهلية الّتي عادت إلى الحياة، فكانت هي، بدل القيم الإسلامية الجديدة، الأسباب الموضوعية

99

لتحريك الإنسان المسلم في الزّمان والمكان.

هكذا يصوّر الإمام عودة التّاريخ.

*

وفي خطبة أخرى خطبها الإمام بذي قار1 وهو في طريقه من المدينة إلى البصرة بعد أن خرج عليه الزبير بن العوام وطلحة بن خويلد وأمّ المؤمنين عائشة فاتحين بخروجهم أبواب الفتنة الّتي عصفت بالمسلمين، والحرب الأهلية الّتي مزّقت وحدتهم... هذه الفتنة الّتي ولّدتها القيم الجاهلية الّتي تنبّأ الإمام بها في خطبته الأولى... في هذه الخطبة بيّن الإمام عليه السّلام أنّ مسيره لمواجهة المظهر الأول للفتنة هو كمسيره مع رسول اللّه (ص) لمواجهة قوى الجاهلية، وأنّ الروح المحركة واحدة في الحالين رغم اختلاف المظهر الخارجي الّذي قد يوحي للساذجين بخلاف ذلك، ولكنّه لا يخدع الخبير.

قال عليه السلام:

«... أما واللّه إن كُنتُ لفِي ساقتِها2 حتّى تولَّت بِحذافيرِها3 ما عجزتُ ولا جبُنتُ. وإنَّ مسيرِي هذا لِمِثلِها، فلأَنقُبنَّ4 الباطِل حتَّى يخرُج الحقُّ مِن جنبِهِ. مالي ولِقُريش!! واللّه لقد قاتلتُهم كافرِين، ولأُقاتِلنَّهُم مفتُونين، وإنّي لصاحِبُهُم بِالأمسِ كما أنا صاحِبُهُمُ اليومَ»5.

كان الإمام يتحدث عن شأن الجاهلية في مواجهة الإسلام، وعن كفاحه مع رسول اللّه (ص) ضد الجاهلية. ثم بيّن أنّ مسيره هذا إلى البصرة لمثل ما كان يكافحه من مظاهر عناد الجاهلية في حياة رسول اللّه (ص).

إنّ التاريخ قد عاد، ولكن تحت شعارات جديدة.

__________________________________

1 . ذو قار: موضع قريب من البصرة. اشتهر في التاريخ باعتباره الميدان الّذي جرت فيه، أول ظهور الإسلام، في سنة 610 م معركة بين الفرس والعرب حيث هاجم ثلاثة آلاف عربي من قبيلة بكر بن وائل المنطقة الفراتية، وهزموا الفرس هزيمة حاسمة في ذي قار.

2 . السّاقة: مؤخرة الجيش الّتي تسوقه. شبه الجاهلية بجيش مهزوم يطرده ويلاحقه.

3 . ولّت بحذافيرها: ذهبت وطردت بأسرها (الجاهلية).

4 . النقب: الثقب.

5 . نهج البلاغة: رقم الخطبة 33.

100

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا النص:

«وشبّه عليه السّلام أمر الجاهلية أمّا بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مقبلة للحرب، فقال: إني طردتُها، فولّت بين يديّ، ولم أزل فِي ساقتِها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي، حتَّى تولَّت بِأسرِها، ولم يبق مِنها شيء، ما عجزتُ عنها، ولا جبُنتُ مِنها.

«ثمّ قال: وإنّ مسيري هذا لِمِثلِها، فلأنقُبنّ الباطِل، كأنّه قد جعل الباطل كشيء قد اشتمل على الحق واحتوى عليه، وصار الحق في طيّه، كالشيء الكامن المستتر فيه، فأقسم لينقُبنّ ذلك الباطل إلى أن يخرج الحق من جنبِه»1.

وهكذا يصوّر الإمام عودة التاريخ حين تنشط الأسباب القديمة الّتي أنتجت الأحداث والمواقف القديمة، فتؤدّي إلى تكرار المواقف والإتجاهات ولكن تحت شعارات جديدة تتناسب مع الثقافة السائدة في المجتمع.

وثمّة نصوص أخرى، غير ما ذكرنا، منثورة في نهج البلاغة، تتضمّن الدّلالة على هذه الحقيقة.

__________________________________

1 . ابن أبي الحديد - شرح نهج البلاغة بتحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة - الطبعة الأولى: 1378 هجري = 1959 م / ج 2. ص 185 - 186.