التّاريخ في مجال الوعظ

حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا «دراسات في نهج البلاغة»1، مواعظ أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسية والإجتماعية والنفسية الّتي كانت تسيطر وتوجه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام عليه السّلام.

وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زهدي يقف موقفاً سلبياً من الحياة الدنيا والعمل لها والإستمتاع بها، وإنّما كان، في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام، يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعية وصدق، محذّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.

وكشفنا النّقاب أيضاً عن أن النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثرت بالتّيار الزهدي السّلبي الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الإنحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.

__________________________________

1 . محمّد مهدي شمس الدّين: دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص 247.

48

والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصة في مجتمعه الّذي بدا غافلاً عن مصيره التعس، مهملاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، متلهفاً على المتع والثراء اللّذَين لا يستحقهما الا مجتمع مستقر أحكم وضعه الأمني والسّياسي والإجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يكنه مجتمع العراق في عهد الإمام عليه السلام، بل كان مجتمعاً قلقاً يعاني من اضطراب أمنه الخارجي وتدهور أمنه الداخلي، كما يعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجة لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.

ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظية الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها.

قال عليه السّلام:

«أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبت بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّت بِالآمالِ، وتزيَّنت بِالغُرُور، لا تدُومُ حبرتُها1، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائلة2 زائلة نافدة بائدة3، أكَّالة غوَّالة4، لا تعدُو - إذا تناهت إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَن تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ «كماءٍ أَنزلناهُ مِن السماءِ، فاختلط به نباتُ الأرضِ، فأَصبح هشِيماً5 تذرُوهُ الرِّياح وكان اللهُ على كُلِّ شيء مُقتدراً»6، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ اِلا أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً7، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة8 رخاءٍ إِلا هتنت9 عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحت لهُ مُنتصرةً

__________________________________

1 . الحبرة: بالفتح - النّعمة.

2 . حائلة: متغيرة.

3 . نافدة: فانية.

4 . غوّالة: مهلكة.

5 . الهشيم: النبت اليابس.

6 . سورة الكهف (رقم 18 مكيّة) الآية: 45.

7 . البطن كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر كناية عن الإدبار.

8 . الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.

9 . هتنت: إنصبّت.

49

أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإن جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى1 لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً2 إلا أرهقتهُ مِن نوائبِها تعباً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أمنٍ إلا أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ3. غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مَن أزوادِها إلا التقوى.

«مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ4، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ».

«كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتهُ حقِيراً5، وذِي نخوةٍ قد ردَّتهُ ذلِيلاً6.

«سُلطانُها دُوَّل7 وعيشُها ريق8، وعذبُها أُجاج9، وحُلوها صَبِر10، وغِذاؤُها سِمام11 وأسبابُها رِمام12.

«حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ13 وجارُها محرُوب14.

«ألستُم فِي مساكِنِ من كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً ؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ15».

__________________________________

1 . أوبى: صار كثير الوباء.

2 . الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.

3 . القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.

4 . يُوبِقهُ: يُهلكهُ.

5 . أبّهة: عظمة.

6 . النّخوة: الإفتخار.

7 . دُوَّل - بضم الدال - المنحول.

8 . الريق: الكدر.

9 . أجاج: شديد الملوحة.

10 . الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.

11 . سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.

12 . الرّمام: جمع رمّة - بالضم، القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).

13 . موفورها..: من كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.

14 . محروب: المحروب من سلب مالُه.

15 . ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.

50

«فهل بلغكُم أنَّ الدُّنيا سخت لهُم نفساً بِفِديةٍ1 أو أعانتهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً.. ؟ بل أرهقتهُم بالقوادِحِ2 وأوهقتهُم بِالقوارِعِ3 وضعضعتهُم بِالنَّوائبِ4، وعفَّرتهُم لِلمناخِرِ5، ووطِئتهُم بِالمناسِمِ6، وأعانت عليهِم ريبَ المنُون».

«فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمن دان لها7 وآثرها وأخلدَ إليها8 حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون ؟ أم إليها تطمئنُّونَ ؟ أم عليها تحرِصُون ؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمن لميتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنها».

«فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعظوا فِيها بِالَّذِين قالُوا (من أشدُّ مِنّا قُوَّةً..)9 حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعون رُكباناً10. وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً11، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ12 أجنانُ13 ومِن التُّرابِ أكفان...

استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...»14.

*

ركّز الإمام عليه السّلام في هذه الخطبة الوعظية - كما هو شأنه في معظم مواعظه - على عاملين ثابتين في طبيعة الحياة على هذه الأرض:

__________________________________

1 . لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.

2 . أرهقتهم: أتعبتهم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.

3 . الوهق: حبل تصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنهم أسرى مشاكلهم المادية والإجتماعية.

4 . ضعضعتهم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الإستقرار وطنب العيش.

5 . عفرتهم: العفر التراب، مرغت آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.

6 . المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.

7 . دان: خضع.

8 . أخلد: إِطمأنَ.

9 . سورة فُصّلت (رقم 41 مكّيّة) الآية: 15.

10 . لا يُدعَونَ رُكباناً لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحملوا مختارين. ولا يُدعون ضيفاناً لأنّهم يُقيمون في قبورهم.

11 . الاجداث: القبور.

12 . الصفيح: الوجه من كل شيء له مساحة، والمراد هنا الارض.

13 . أجنان: جمع جنن - بالفتح - القبر.

14 . نهج البلاغة - رقم الخطبة: 111.

51

1 - عامل التغيّر والتقلّب في الحياة:

الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كل شيء ومن حول كل شيء في الكون المادي كلّه - الحياة بما هي كل هذا متقلّبة متغيّرة متحوّلة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.

2 - عامل الزّمن:

أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكلّ ذي بصيرة، فالزّمن يفتت الحياة باستمرار، فما أن يبدأ وجود الحياة في شيء، بل ما أن يبدأ وجود شيء، حيّاً كان أو غير حيّ حتى يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولكنّ الزّمن يغتالها باستمرار.

وهذان العاملان - التّغيّر والزمن - لا يختصان بعالم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في كلّ شيء ويحُولانِ دون ثبات كل شيء: الجماد، والنّبات، والحيوان، والإنسان. ويتميّز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالم الأخرى بأنّه - لما أوتي من عقل وإدراك - يستطيع أن يعي الوجه المأساوي لعمل هذين العاملين، وأثرهما في حياته وفي الوجود من حوله.

ووعيُ الإنسان لهذين العاملين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً على مواجهة الحياة ومباهجها الموقتة، ووعودها السّخيّة، وآمالها اللامعة. بعقل صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعية في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا - هذه النّزعة الّتي من شأنها أن تجعل الآمال أقل بريقاً وجذباً واستهواءً، والإنتصارات أقل مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقل إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالمه من جديد لأنّه لم يفاجأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهيء النفس لتقّبلهما ومن ثم فقد كان مهيء النفس لتجاوزهما، واستئناف

52

العمل مرة أخرى بأملٍ واقعي جديد.

بالإجمال: إنّ وعيَ الإنسان لهذين العاملين، وإدراكهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً على مواجهة الحياة بكلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق ... يواجهها بروح واقعية.

وحين يدخل الإمام عليه السّلام في وعظه عنصر التاريخ فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من كوارث وآلام وما انتهت إِليه حياتهم على عظمة توهجها من انطفاء فإنه يقدّم لتحليله النظري الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم - يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين .. إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.

فهذه المدن والمساكن، وهذه الضياع والمزارع، وهذه القلاع والحصون عمرها في عصور سابقة أناس تقلبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سعدوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثم ماتوا وانقطعوا عن كل ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني. ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...

وكان هؤلاء أطول أعماراً، وأكثرُ قوةً .. «وأعد عديداً»، وقد وجّهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدوا لها واستعدوا، ولم يشغلهم عنها تفكير بالآخرة أو عمل لها، ولكن كلّ ذلك لم ينفعهم ولم يعد عليهم بطائل، لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملا دائماً - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموها وازدهارها بذور تقلصها وذبولها وأنطفائها في آخر المطاف.

*

هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضيء الحاضر لأنه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعية وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يهن ولا يستسلم تحت وطأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوّح به الغرور وهو في ذرى النجاح.

 

التّاريخ في مجال السّياسة والفكر

تمهيد

إستخدام الإمام التّاريخ في مجال الفكر كما استخدمه في مجال السّياسة.

كان رجل رسالة هي الإسلام، رسالة استوعبت الحياة كلّها: تنظيماً وتشريعاً ومناهجَ. وهي رسالة ذات طابع عالمي، ممتدة في الزّمان إلى آخر الزمان، أراد اللّه تعالى لها أن تكون ديناً للإنسان كلّ إنسان، تقوده نحو التكامل الّذي يحقّق له التّوازن والتّسامي.

وهي رسالة تقوم على العلم والمعرفة، وترفض الجهل لأنه يتيح لأعدائها أن يتسلّلوا في ظلماته إلى قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم فيشوهون ويحرفون عقائدها وشرائعها ومناهجها، ويضلّلون بعد ذلك أتباعها المؤمنين بها وذلك حين يلبسون لهم الحق بالباطل والصواب بالخطأ.

ومن هنا كان من أكبر هموم رجل الرسالة الإستعداد الدائم في هذا المجال، لأجل أن يجعل المسلمين على معرفة كاملة بالإسلام، وفي حالة وعي متجدّد ونام لحقيقة الإسلام وجوهره ومناهجه وغاياته ليكون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، على بيّنة من أمره، وليكون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويكون كل مسلم مستنير ديدباناً على دينه الّذي هو معنى وجوده وشرف وجوده.

ومن هنا كان عليّ عليه السلام في حركة تعليمية دائمة لمجتمعه وخواصّ أصحابه

56

الذين كانوا علماء ينشرون علمهم ووعيهم بين الناس بالحديث والخطابة وحلقات الدرس والتعليم.

وكان الإمام عليه السلام يختار ولاته وعمّاله على البلدان من ذوي المعرفة ومن أهل البصائر1. الّذين يتمتعون بالمعرفة والوعي والصلابة في العقيدة ليكونوا - الى جانب عملهم الإداري - معلّمين ورجال رسالة، وكان يوجههم نحو هذه المهمة التعليمية والتوجيهية. من ذلك ما كتب به إلى قثم بن العباس عامله على مكة:

«أمَّا بَعدُ، فَأقِم للِنّاس الحَجَّ، وَذَكِّرهُم بِأيامِ اللهِ2، وَاجلِس لَهُم العَصرَينِ3، فَأَفتِ المُستَفِتَي، وَعَلِم الجاهِلَ، وَذاكِرِ العالِمِ»4.

*

وفي عمله الفكري على صعيد التعليم والتوعية استعان الإمام عليه السلام بعنصر التاريخ ليعطي للفكر حرارة وحياة وحركة، وعمقاً في الزمان وفي الإنسان، وليجعل، بهذا، من القضية الفكرية بضعة من الحياة المعاشة تحمل في ثناياها رائحة المعاناة الإنسانية.

*

___________________________________________

(1) «أهل البصائر» تعبير إسلامي يعود إلى صدر الإسلام، يعني به المومنون الواعون الّذين يتخذون مواقفهم السّياسّية وغيرها نتيجة لقناعات مستوحاة من المبدأ الإسلامي، ولا تتصل بالإعتبارات النفعية.

ومن المؤكد أنَّ هذا التعبير غدا في وقت مبكر جداً مصطلحاً ثقافياً إسلامياً يعني: الفئة المؤمنة الواعية للإسلام على الوجه الصحيح، والملتزمة بالإسلام في حياتها بشكل دقيق، بحيث أنّها تتخذ مواقف مبدئية من المشاكل الاجتماعية والسّياسّية الّتي تواجهها في الحياة والمجتمع، فلا تصغي إلى الإعتبارات الشخصية والقبليّة كما أنها لا تقف على الحياد أمام هذه المشكلات، وإنّما تعبّر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية للنضال ضد الإنحرافات.

راجع بحثاً مفصلاً عن هذا الموضوع في كتابنا «أنصار الحسين: الرّجال والدلالات» - الطّبعة الأولى - دار الفكر - سنة 1975/ فصل «النخبة» ص 165 - 170.

2. «أيام اللّه» مصطلح ثقافي إسلامي، يغلب استعمالُه للدّلالة على الكوارث الكبرى الّتي أصابت الشعوب والجماعات نتيجة لانحرافها في العقيدة والشريعة والأخلاق، وقد يستعمل للدّلالة على الإنتصارات الكبرى التي أحرزها المؤمنون فغيّرت مجرى التاريخ أو مجرى تاريخ جماعة مؤمنة أو شعب مؤمن.

3. العصران: هما الغداة والعشي.

4. نهج البلاغة - باب الكتب/ الكتاب رقم 67.

57

وكان الإمام رجل سياسة.

كان سياسيّاً على مستوى رجل الدولة ورجل العقيدة والرسالة طيلة حياته. ملأ العمل السياسي حياته في عهد النبي (ص) بتكليف منه، وفي عهود الخلفاء الذين تقدّموه لحاجتهم إِليه أو لحاجة الناس إِليه. وكان - بالإضافة إِلى ذلك - حاكماً ورئيس دولة في السّنين الأخيرة من حياته.

وكان الإمام بهذين الإعتبارين في حاجة دائمة إِلى أن يُعطي لأمته ولأعوانه التوجيهات السّياسيّة اللاّزمة. وكان في بعض هذه التّوجيهات يستعين بعنصر التاريخ لُيضيء الفكرة السّياسّية الّتي يقدّمها، وليُعطي توجيهه السياسي صدقاً واقعياً إضافة الى الصدق النظري... صدقاً واقعياً يوفّر للتوجيه السياسي حرارة ووهجاً. إِنه بهذا العمل «يؤنس» التوجيه السياسي، ويجعله بحيث يخالط القلب كما يوجّه العقل.

 

التّاريخ في مجال الفكر

تمهيد

التّفكر هو التّأمّل، والفِكر - بالكسر - اسم منه، وهو يستعمل - حسب ما ذكره علماء اللّغة - للدّلالة على معنيين:

أحدهما: القوّة الموّدعة في الدّماغ، الّذي هو مركز، التفكير وإن كان علينا أن نعترف بأنّ لوضعية أعضاء أخرى في الجسم من حيث الصحة والمرض دخلاً في عملية التفكير. والفكر - بهذا المعنى - اسم لآلة التفكير.

ثانيهما: أثر التّفكّر، وهو ترتيب أمور في الذهن تتولّد منها معرفة جديدة، أو تؤّدي إلى تعميق وتوسيع معرفة قديمة. والفكر - بهذا المعنى - اسم لفعل التّفكير أو لعملية التّفكير.

هذا هو المعنى اللّغوي لكلمة تفكّر وفكر مع شرح وتوضيح.

وثمّة معنى ثالث لهذه الكلمة غلب استعمال اللّفظ فيه في العصور الأخيرة، ولعلّه دخل العربية من الإستعمالات الأوربّيّة، وهو نفس الأفكار والمعلومات الّتي يجعلها الفكر - بالمعنى الأوّل - موضوعاً لعمله - الفكر بالمعنى اللّغوي الثاني -، فيقال: مثلاً، الفكر الإسلامي، والفكر المسيحي، والفكر الماركسي، والفكر الدّيني، فالفكر المادي... يراد من ذلك الأفكار والمناهج والمعلومات الّتي يتشكل منها ويتقوّم بها مذهب أو فلسفة أو دين.

62

والمقصود ببحثنا هنا هو هذا المعنى لكلمة فكر.

*

والفكر في الثّقافة الّتي تقوّم شخصية كلّ أمة على قسمين: فكر حيّ، وفكر ميّت، والأوّل هو ما يطلق عليه لفظ (فكر) في عصرنا الحاضر، والثاني هو ما يطلق عليه في عصرنا الحاضر مصطلح (تراث).

*

والتّراث في أصل اللّغة: الميراث. وقد وردت كلمة (تراث) في القرآن الكريم مرّة واحدة في قوله تعالى في خطاب المشركين:

«... وَتأكُلُونَ التُّراثَ أكلاً لمّاً ...»1.

وقد استعملت كلمة «ميراث» في اللّغة العربية في المادّيات والمعنويّات. أمّا استعمالها في المادّيات فأمثلته كثيرة ظاهرة. وأمّا استعمالها في المعنويّات فقد ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع، هي الآيات التالية:

__________________________________

1 - «.. فَخلَفَ مِن بعدِهِم خلف ورِثُوا الكِتابَ يَأخُذُونَ عرَضَ هذا الأدنى ويقُولُون سيُغفَرُ لَنا ...»2.

2 - «... ثُمَّ أورَثنا الكِتابَ الّذِين اصطفينا مِن عِبادِنا: فمِنهُم ظالِم لِنفسِهِ، ومِنهُم مُقتصِد، ومِنهُم سابِق بِالخيرات بِإذنِ اللهِ ...»3.

3 - «... وإنَّ الّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بعدِهِم لَفِي شكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ»4.

وقد استعملت هذه الكلمة في السّنّة في المعنويّات أيضاً كما فيما رُوي عن الإمام الصادق (ع) أنه رواه عن رسول اللّهِ (ص):

1 . سورة الفجر (مكيّة) رقم 89 - الآية 19.

2 . سورة الأعراف (مكيّة) رقم 7 - الآية 169.

3 . سورة فاطر (مكيّة) - رقم 35 - الآية 32.

4 . سورة الشورى (مكيّة - رقم 42) الآية: 14.

63

«... إنّ العُلماءَ ورَثةُ الأنبياءِ. إنّ الأنبياء لم يُورِّثِوا دِيناراً ولا دِرهماً، ولكِن وَرَّثوا العِلمَ، فمَن أخذَ مِنهُ أخذَ بِحظٍّ وافرٍ»1.

وقد وردت مادة (و. ر. ث) في نهج البلاغة في مواضع كثيرة بصيغة الفعل الماضي والفعل المضارع، وبصيغة الإسم (ميراث، تراث) وغيرهما، واستعملت في المادّيّات والمعنويّات، فمن استعمالها في المعنويّات قوله: «لا مِيراثَ كالأَدبِ ..»2 و«... العِلمُ وِراثَة كرِيمة ...»3. واستعملها في المعنويّات في السلطة السياسيّة في قوله: «إن بنِي أُميَّةَ ليُفوِّقُونني تُراث مُحمّدٍ صلّى اللّه عليه وآله تفوِيقاً ...»4 وقوله: «فصبرتُ وفِي العينِ قذىً ... أرى تُراثِي نهباً ...»5.

*

وعلى ضوء هذه الإستعمالات يمكن أن يقال أنّ التراث أو الميراث - بمعناه العام، لا بمعناه الإصطلاحي الفقهي - هو كلّ ما يخلفه سابق في الحياة لِلاحق له في الزّمان، مهما بعد الزّمان بالمورّث، سواء في ذلك المادّيّات والمعنويات.

وإذن، فما يقع عليه اسم التراث أو الميراث شيء لم يكن في حوزة الوراث وإنّما انتقل إليه من غيره. وهو قد يكون في حاجة اليه وقد لا يكون في حاجة إليه. ومع كونه في حاجة إليه فقد يعي حاجته إليه ويستعمله وينتفع به، وقد يعي حاجته إليه ولكنّه ينصرف عنه لسبب أو لآخر، وقد لا يعي حاجته إليه فيهمله ولا يعني به إلا باعتباره أثراً من الآثار الّتي تتّصل بأحبّته وأهله الماضين ربّما تكون له قيمة عاطفية ولكن ليس له قيمة عملية في حياة الوارث.

وهذا يعني أنَّ التراث أو الميراث ليس - بالضرورة - جزءاً مقوّماً للحياة الحاضرة تفسد بدونه لأنّه يشغل فيها حيزاً مهماً وأساساً، ويسدّ فيها حاجات ملحّة لا غنى عنها، وإنّما

__________________________________

1 . محمد بن يعقوب الكليني: الكافي ج 1 ص 34.

2 . نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 54 و113.

3 . نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 5.

4 . نهج البلاغة - الخطبة رقم 77.

5 . نهج البلاغة - الخطبة رقم 3.

64

قد يكون الأمر فيه هكذا، وقد يكون - في نظر الوارث - شيئاً يحسن أن يقتنى ويستعمل ولكن فقده لا يغير شيئاً من وضع الحياة الحاضرة ولا يدخل نقصاً هاماً فيها. وقد يكون في نظر الوارث ذا قيمة عاطفيّةٍ محضة لا يؤثّر فقده أبداً. وقد يكون في نظر الوارث عبأً على الحياة ومعوقاً لنموها ومانعاً من ازدهارها، ولذا فهو يسعى إلى نبذه والتخلص منه والبراءة من آثاره.

هذا تحليل لمفهوم التراث أو الميراث في اللّغة العربية - بمعناه العام لا بمعناه الإصطلاحي الفقهي الخاص.

وقد استعملت كلمة التراث في اللّغة العربية في العصور الأخيرة على ألسِنة الباحثين والأدباء والمفكرين للدّلالة على آثار الفكر الإسلامي في السّنّة وعلومها، والفقه وأصول الفقه، والتاريخ، والأدب، والفلسفة: وما إلى ذلك من الآثار الفكرية الّتي خلّفها المسلمون باللّغة العربية.

ذاك هو الفكر، وهذا هو التراث.

*

والفكر، في المفهوم الحضاري - إذن هو المعلومات والشرائع والمناهج والقيم الّتي تقوّم شخصيّة الأمة الثقافية والحضارية، وتُعطيها سمتها المميّزة لها عن الأمم الأخرى، ويرسم لها دورها في حركة التاريخ.

إنّ هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم تشكّل عقل الأمّة وروحها وضميرها. وهي تنظر إلى الكون والحياة والإنسان والأمم الأخرى من خلال هذه المعلومات والشرائع والمناهج والقيم، وتواجه مشاكلها ومسائل حياتها على ضوء الحلول والمواقف الّتي يحميها هذا الفكر. وإنتاجها العقلي النظري كلّه يكون مطبوعاً بطابع هذا الفكر، محتوياً روحه، ومستهدياً بالنور الّذي يشعّه...

مثلاً: الماركسيّة هي فكر العالم الشيوعي. فهي تشكّل عقل شعوبه وروحها وضميرها، وهي تميّز هذه الشعوب عن العالم الرّأسمالي بالسّمات الّتي تطبع بها طريقة الحياة لدى هذه الشّعوب. كما إنّ النتاج الثقافي النظري لهذه الشّعوب مرسوم

65

بالطّابع الخاص للماركسية، بل لقد طمح المنظرون السوفيات إلى طبع النظريات العلميّة الّتي تفسّر بها المادّة بالطابع الخاصّ للماركسيّة: هذا في العصر الحديث.

وقد كانت المسيحيّة في القرون الوسطى وما قبلها بالنّسبة إلى أوربا على هذه الشاكلة.. كما كانت الكونغو شيوعية بالنّسبة إلى الصين.. والهندوسية بالنّسبة إلى الهند، والزّردشتية بالنّسبة إلى إيران، والإسلام بالنسبة إلى العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام وإلى يومنا هذا..

ولكلّ فكر بؤرة يرتدّ اليها كل شيء باعتبارها مقياساً للصدى والأصالة والإستقامة، وينطلق منها كلُّ شيء باعتبارها الذّخر الأكبر للأصول الأساس في التكوين الثقافي للأمة.

مثلاً: كتاب رأس المال للماركسيّة والشيوعيّة، والإنجيل والتوراة للمسيحيّة، والبهاجافاد - جيتا للهندوسية، والقرآن للإسلام. والآوستا للزردشية .. وهكذا يكون لكل فكر مركز أساس يتضمّن الخطوط الكبرى والمبادئ المركزية لذلك الفكر.

هذا هو الفكر في المفهوم الحضاري.

*

أمّا التّراث في المفهوم الحضاري فهو مجرد ثقافة ومعرفة نظرية لا تبلغ في أكثر الأحيان ومعظم الحالات أن تبلغ مستوى كونها فكراً بالمعنى الّذي شرحناه آنفاً، ولنقل: التّراث فكر ميّت.

إنّ التراث لا يدخل في صلب ثقافة الأمّة الّتي تغذي عقلها العملي وفعاليّتها وحركيّتها في مجرى التاريخ ، ولا يقوّم وجودها، ولا ينير طريق حياتها، ولا يميّزها عن غيرها من الأمم، وبالإجمال: كلّ ما هو دور إيجابي للفكر في الأمة منفي عن التّراث. إنّ التّراث شيء من بقايا الآباء والأجداد، كان صالحاً لحياتهم فهو يمثّل هذه الحياة الماضية وأساليبها وألوانها، ولكنّه لا يصلح للحياة الحاضرة، أو لا يصلح أكثره للحياة الحاضرة، وإذا احتفظنا به ودرسناه وأقمنا له المؤسسات فليس لأجل أن نُقيم عليه حياتنا ونقوّم به شخصيتنا كأمّة، وإنما ذلك لما تربطنا به من صلات عاطفية، أو لأنه

66

يمثّل حلقة هامّة في تاريخ نموّنا، إنّ له قيمة عاطفية وقيمة أكاديميّة (نظرّية)، وليست له قيمة عملية، أو إنّ أكثره كذلك. ونحن ندرسه، ونحققه وننشره، ونحفظه لنعرف كيف كنا لا لنعرف كيف نكون ؟ ولنرى صورتنا القديمة لا لنرسم صورتنا الحاضرة أو لنرى كيف تكون صورتنا المستقبلة. إن التراث، في أحسن الحالات، شيء من أشياء القلب والعاطفة، وليس من أشياء العقل والعمل.

هذا هو التراث في المفهوم الحضاري.

*

وهنا أودّ أن أُثير مسألة شديدة الخطورة وذات أهمّيّة بالغة جدّاً بالنّسبة إلينا نحن المسلمين في هذا العصر، وهي أنّ الكثرة الساحقة من المسلمين المتعلمين والمثقّفين على مناهج الغرب وأساليبه ينظرون إلى الإسلام - بما هو ثقافة ونظام وحضارة - ويتعاملون معه على أنه تراث، أي فكر ميت، لا على أنّه فكر.

أمّا الكثرة الساحقة من المسلمين فهُم بحمدِ اللّه ونعمته لا يزالون يتعاملون مع الإسلام على أنّه فكرهم (لا تراثهم) وهم يحرصون ما وسعهم الحرص على أن يقيموا حياتهم على هدى أحكامه وقيمه، وإن كان علينا أن نعترف أنّ الحياة الحديثة كثيراً ما تضطرّ الكثير منهم إلى تجاوز أحكام الإسلام، أو تغريهم بتجاوزها، لأنها حياة قائمة على غير الإسلام، وتستمدّ مفاهيمها الفكرية، وقيمها الأخلاقية، ومقاييسها الجمالية، وأفكارها العمليّة من غير الإسلام. ولكن هذه الكثرة الساحقة من المسلمين لا تزال تعتبر الإسلام - كما قلنا - (فكرها) وإن تجاوزته اضطراراً أو تهاوناً في الكثير أو القليل من شؤون حياتها. إنه عقيدتها، وشريعتها، وقيمها.

ونعود، بعد هذا الإستطراد، إلى شرح موقف المسلمين الّذين يتعاملون مع الإسلام على أنّه تراث لا فكر.

هم يرون أنّ الإسلام - لا بما هو عقيدة - وإنّما بما هو شريعة وقيم، فكر عصر مضى، وأنّه بالنسبة إلى عصرنا هذا - حيث تشكّل حياتنا الحضارة الحديثة، ومناهجها في التشريع، وقيمها - مجرّد تراث، يمثّل مرحلة سابقة في نموّنا تجاوزها تطوّر التاريخ، فليس

67

لنا والحال هذه أن نعتبره (فكرنا) أنّه (تراثنا) مبعث فخر لنا، موضوع حبنا وتقديرنا، ولكنّه لا يصلح لأن يشكّل حياتنا، ويكون موضوع عملنا الّذي نبني عليه مناهجنا ونستمدّ منه قيمنا.

والمفكرون العرب المحدثون المعنيون بقضايا النهضة العربية كثيراً ما يستعملون في التعبير عن الإسلام أو عن هذا الجانب أو ذاك من جوانب الفكر الإسلامي كلمة (تراث)1 ذاهبين إلى أنّ هذا (التراث الإسلامي) ليس شأن عصرنا وليس شأن الإنسان العربي في هذا العصر، وإنّما هو شأن السلف وقد ورثناه عنهم، ومن المؤكّد أنّه ليس من الصالح ولا من الراجح أن نأخذه كلّه لنتمثّله في حياتنا مناهج وتشريعات وقيماً لأنّه معطّل معوّق لنموّ هذه الحياة المعاصرة وازدهارها، ولكن هل ننبذه كلّه فلا نعني بشيء منه، ونحفظه كأثر من آثار تاريخنا، أو نخضعه لمقياس انتقائي نأخذ بموجبه من هذا (التراث) ما يتفق مع حياتنا الحاضرة «والفكر المعاصر» وننبذ من هذا (التراث) ما لا يتوافق مع هذا (الفكر المعاصر) أو يخالفه.

ولكنّ هؤلاء المفكرين على خطأ فادح في هذه المسألة الهامة، بل المصيريّة لا بالنسبة إلى العرب وحدهم، بل بالنسبة إلى المسلمين جميعاً.

إنّ الإسلام لا يزال حتى الآن «فكر» المسلمين، والعرب منهم، وسيبقى فكر المسلمين جميعاً. ولم يبلغ الإسلام في قلوب وعقول المسلمين درجة من الضّمور والتقلص أو الإندثار والنّسيان بحيث يكون «تراثاً» يحتاج إلى «إحياء» كالّذي حدث في أوروبا في عصر النّهضة بالنّسبة إلى التراث اليوناني - الروماني.

إنّ الإسلام لا يزال «حياً» مملوءاً بالحياة في قلوب وعقول المسلمين، ولا يزال قادراً على «تحريك» مئات الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم نحو أهدافه العظيمة

__________________________________

1 . نشير هنا إلى أنّ بعض دُور النشر الكبرى في بعض البلاد العربية، ومنها ما هو تابع لمؤسسات ثقافية رسميّة، نشر كتباً في الفكر الإسلامي تحت عنوان (تراثنا) أو (سلسلة التراث) وغير ذلك من العناوين. هذا وعلينا أن ننبّه هنا إلى أنّه ليس كلّ من استعمل كلمة (تراث) في الدّلالة على الفكر الإسلامي يحمل على الفكر الإسلامي هذه النظرة، فثمة مفكرون وباحثون مسلمون مخلصون استعملوا كلمة (تراث) في الدّلالة على الفكر الاسلامي دون أن يقصدوا بها موقفاً فكرياً من (الفكر الإسلامي) يضعه في (التراث) بالمعنى الحضاري، وإنّما قصدوا بالتعبير مجرّد الدّلالة اللّغوية.

68

النبيلة، وإذن فهو لا يزال «فكر» هذه المئات من الملايين من البشر، وإنّما لا «يحركها» أو «لا تتحرك» وفقاً لمناهجه بسبب وجود الموانع الخارجية القاهرة والمعوّقات الشالّة لحركة المسلمين من خلال إسلامهم، وهي قوى الحضارة المادّية الّتي استعمرت بلاد المسلمين وأقصت الإسلام عن مركز القيادة وحلّت محله في هذا المركز.

وإذن، فالإسلام ليس «تراثاً» ميتاً نختلف على «إحيائه» «وعدم» «إحيائه» أو «إحياء» بعضه ممّا يتلاءم مع عصرنا كما يقولون... إنّه «فكر حيّ» وما يدعوننا إليه هو «إماتة هذا الفكر الحيّ» لإحلال فكر آخر غريب محله هو فكر الحضارة المادّيّة.

وقد أفلحت قوى الحضارة المادّيّة لا في «إماتة الإسلام» فهو لا يزال حيّاً كما قلنا، ولكن في فرض نفسها على حياة المسلمين الّذين يحملون في قلوبهم وعقولهم إسلاماً حيّاً قادراً على التحريك ولكنه «ممنوع عن التحريك» وليس «عاجزاً» عنه.

واستمرار مفكرينا المتأثرين بهذه الحضارة المادّيّة في جهودهم لفرضها على واقع حياة المسلمين وعزل الإسلام عن هذه الحياة لن يؤدّي إلى (إماتة الإسلام) كما لن يؤدّي إلى «تحرير» المسلم أو «العربي»، وإنَّما يؤدّي إلى مزيدٍ من التمزق الدّاخلي والأزمات الحضارية لإنسان ينقسم على نفسه، موزع الذّات بين ضرورات حياته اليومية وبين قناعاته العقلية والنفسية والأخلاقية والعاطفية. وهذا ما يؤدّي - كما أدّى بالفعل في العالم الإسلامي كلّه ومنه العالم العربي - إلى فقدان الفعالية والإيجابية في مواجهة تحدّيات الحياة، ويؤدي من ثمّ إلى مزيد من التّخلف والعجز عن مجاراة حركة التقدم لدى الأمم الأخرى وهكذا يسيء هؤلاء المفكرون من حيث يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، فبدلاً من إتاحة الفرصة أمام الإنسان العربي للتغلّب على مصاعبه وعوامل تخلّصه يضيف هؤلاء المفكرون سبباً آخر للتخلف يزيد الأمر سوءاً لأنّه يقدم تحت شعار التقدم، وهكذا يكون حال الإنسان العربي في هذه الحالة حالة القطّ الّذي يلحس المبرد الذي يغري لسانه وينزف دمه وهو يحسب أنّه يغذي نفسه بالمبرد الذّي يغريه في حقيقة الحال.

*

69

رأينا أن نقدّم للبحث عن التّاريخ في مجال الفكر عند الإمام علي (ع) بهذا التمهيد لشعورنا العميق بخطورة هذه المسألة، وموقفنا من الفكر الإسلامي، وضرورة تصحيح النظرة السائدة إلى هذا الفكر الذي ملاك وجودنا كلّه.