هكذا يحتفل بميلاد المسيح (ع)

قبل عدة أيام مرت علينا مناسبة ذكرى ميلاد المسيح (عليه السلام)، وفي هذه المناسبة ترى أنه كيف يهتم المسيحيون بذلك كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، دولاً وشعوباً، رجال دين وغيرهم، وفي مختلف أنحاء العالم، ويقومون بأشياء عجيبة حقاً، ولو أردنا مقايستها ببعض أعمالنا وأنشطتنا التي نقيمها في مناسباتنا الدينية فقد لا تقبل المقايسة، فإن إحدى البلدان المسيحية(1)، صرفت بهذه المناسبة عشرة مليارات دولار، وهذا في دولة واحدة.

علما بأن هؤلاء المسيحيين ما عرفوا المسيح (عليه السلام) حق معرفته كما عرفه الإسلام، ولم يدركوا حقيقة المسيح (عليه السلام) في صورته الصحيحة، لكنهم يهتمون بذلك كثيراً، لأنهم عرفوا أن المسيح (عليه السلام) الذي بُعث لهم نبياً قبل حوالي ألفي سنة كان لهم منقذاً ومحرراً، ويعتقدون بأنه (عليه السلام) ينقذهم ويحررهم في الدنيا والآخرة.

هذا وعلينا أن نهتم بقادتنا وأئمتنا (عليهم السلام) وخاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقل الواجب الاهتمام بمناسباتهم من المواليد والوفيات وما أشبه.

من بركاتهم (عليهم السلام) 

إن العالم قبل بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان غارقاً في الجهل والظلمات وكان مشرفاً على الهلاك والفساد المطلق.. فلما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنجى البشرية من ذلك، ومن بعده أمير المؤمنين (عليه السلام) استمر في نفس النهج القويم وبيّن للعالم بأجمعه طرق العدالة والتقدم..

فما نراه اليوم من بعض الرفاه والتقدم العلمي وما أشبه فهو من بركات رجال الله وأوليائه ووجودهم، ومن نعم وجود الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي(عليه السلام) ومن قبلهم ومن بعدهم من السيد المسيح والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام جميعاً.

هؤلاء هم الذين جاءوا للدنيا بالنهج المستقيم، وهم الذين علّموا الناس كيف يعملون وكيف يتخلّقون وكيف يعاشرون وكيف يتزوجون وكيف يتحلّون بالآداب وغير ذلك، لأنهم (عليهم الصلاة والسلام) كانوا مدارس ومصانع إنسانية ضخمة تصنع الإنسان القويم، كما تصنع المعامل الدواء واللباس والأواني وما شابه، قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعثة الرسل وفضل أهل البيت (عليهم السلام) :

«بعث الله رسله بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجّة له على خلقه: لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق… أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى…»(2).

لذا يجب أكبر الاهتمام بهم (عليهم السلام) والاحتفال بذكراهم والاقتداء بسيرتهم؛ لأنهم قناديل الحياة ومشاعل الدروب ومصابيح الهدى وسفن النجاة والقادة إلى سعادة الدين والدنيا، فإن الرسل (عليهم السلام) كانوا صادقين في أعمالهم وكلماتهم وملاحظين للواقع البشري وما يحتاجه، لأن الذي بعثهم هو الله تعالى العالم بكل شيء، ولأنه أرسلهم بعد الاختيار والتعليم، فلم يكن هناك تقصير أو مخالفة من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ، ولكن الاختلاف والتقصير كان من المسلمين أنفسهم.

وأول الواجبات التي يجب علينا أن نرجع إليهم (عليهم السلام) ونعمل بما بيّنوه في هذا السبيل ونحيي معالمهم وذكراهم فإنه إحياء معالم الدين..

وفي إحياء ذكرى ولادة الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) إحياء للإسلام وللقيم السامية التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فعلينا أن نقوم بأعمال كثيرة منها الأعمال التالية:

دراسة نهج البلاغة  

يلزم علينا أن نتناول كتاب (نهج البلاغة) بالدرس والتحليل مثلما نولي اهتمامنا بشرح كتاب (المكاسب) و(الكفاية) وأمثالهما من كتبنا العلمية المهمة، ونجعل دراسته ضمن المنهج اليومي للحوزة العلمية المباركة، بل كل مدارسنا الأكاديمية والجامعية أيضاً.

فلا يمكن القول: ـ ولا أتصور من يزعم ذلك ـ بأن نهج البلاغة أقل من كتاب المكاسب أو كتب الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة التي تدرس في الجامعات العلمية.

فكما يجلس خمسمائة من الطلبة كل يوم ينهلون من كتاب المكاسب مثلاً عند أحد الأساتذة الأفاضل، يجب أن يجلس عدد أكبر بكثير لدراسة نهج البلاغة عند أستاذ عالم أيضاً، فإن نهج البلاغة أكبر وأهم في المحتوى والتأثير من أي كتاب آخر سوى القرآن الحكيم، وقد وصفه السيد الرضي (قدس الله سره): بـ «الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي»(3).

ووصفه الشيخ محمد عبده في مقدمته لشرح نهج البلاغة بقوله: «… وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، ونما به إلى مشهد الفوز الأجلى…»(4).

ويقول طه حسين: «إنني لم أسمع أعظم من هذا الكلام».

فكلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يمثل قمة البلاغة وقمة التقدم في مختلف مجالات الحياة، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: «انظر إلى البلاغة كيف تنتظم فيها الكلمات… انه يتصرف بها فينظمها كالقلادة والعقد بياناً لبراعته وقوة تأثيره فيها…».

ومن كلام للشيخ الكليني (قدس الله سره) في الكافي:

«لو اجتمعت الجن والإنس على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به علي(عليه السلام) بأبي وأمي لما قدروا عليه»(5).

وهناك أقوال كثيرة وعديدة لعلماء كبار من مختلف المذاهب والقوميات، مسلمين وغير مسلمين، في بيان موقع نهج البلاغة من حياتنا.

ولكن من المؤسف جداً:أن الأمّة الإسلامية لم تستفد منه تمام الاستفادة، فاقتصرت معرفته على طبقة معينة من المجتمع الاسلامي، في حين أن عامة الناس قد حرموا من هذا المنهل المبارك الذي هو أصل كل حركة فكرية وتقدمية ومصدر صاف لأفكار الإسلام وإشعاعاته..

فلذلك يجب أن يدرّس نهج البلاغة في حوزاتنا العلمية وكذلك المدارس الأكاديمية، وتنشر مفاهيمه من خلال المنابر الحسينية، وفي مختلف الكتب وعبر الإذاعات والصحف والأقمار الصناعية وما أشبه كي يكون نهج البلاغة نهج الفلاح ونهج النجاح والتقدم للأمة الإسلامية بل البشرية جمعاء كما هو الواقع في ذلك.

كتاب الحقائق الكونية والإنسانية  

حينما كنا في الكويت(6) كان هناك شخص(7) على مستوى جيد من العلم وكان أستاذاً في جامعة كامبرج في إنجلترا، وقد تسنّم منصباً حكومياً جيداً في الدولة، وله عدة مؤلفات منها: (في بيت فاطمة عليها السلام).

وقد نقل لبعض أصدقائنا: أنه حينما كنا ندرس بجامعة كامبرج دار هناك حديث أستاذنا حول نهج البلاغة، فقال الأستاذ: «كتاب نهج البلاغة هو كتاب لو أن الدنيا عملت به لساد السلام فيها»..

يعني أن هذه الحروب التي نشهدها اليوم ستزول من الدنيا، ويعم الرفاه وتتحقق السعادة بما لها من معنى..

ثم أخذ يمدح ذلك الأستاذ نهج البلاغة كثيراً..

يقول الدكتور: فقلت لأستاذنا يا أستاذ، إذا كان الأمر هكذا فاللازم دعوة المسلمين للعمل بنهج البلاغة قبل غيرهم.

فقال بامتعاض: اتركهم!!

قلت له: لماذا؟

قال: إنهم لو عملوا بنهج البلاغة فستنتهي سيادتنا، فنحن أسياد العالم ما لم يعمل المسلمون بنهج البلاغة، ولو عمل المسلمون يوماً بنهج البلاغة سيكون ذلك اليوم هو النهاية المحتومة لسيادتنا على العالم.

هذا هو الواقع لأن نهج البلاغة ليس كتاباً عادياً قام بتدوينه شخص عادي، فهو كتاب حقائق كونية تبدأ من معرفة الباري عزوجل وتنتهي بالجنة وما بينهما تشع مشاعل الحياة الحرة الكريمة.

فنهج البلاغة يحث الناس على العدالة والمساواة والصبر والحكمة والتقدم وعدم الخضوع تحت الظلم و…

ويصلح أن يكون كتاباً للحياة.

ونهج البلاغة يقول: لا يسبقكم إلى صناعة الطائرة والصعود إلى القمر غيركم. حيث أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض..»(8).

والمراد بطرق السماء أعم من التي تنزل منها الملائكة، وتصعد فيها أعمال العبد، فتشمل ما يمكن للإنسان أن يصعد منها إلى السماء، أو يسير فيها من مكان إلى مكان، كما اكتشف أخيراً أن هناك في طبقات الجو تيارات هوائية وفراغات ممتدة إذا سارت الطائرة في بعضها أصابها العطب..

إن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم بطرق السماء جيداً فكيف بالأرض؟

فإن العالم بطرق السماء لابد وأن يعلم بكل شيء في الأرض، وذلك لأن الذي أطلعه على غيوب السماوات وأسرارها أطلعه أيضاً على حقائق الأرض وأسرارها (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً)(9).

فالله تعالى هو عالم بكل الغيوب وعلّمها إلى رسله وعلى رأسهم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو الذي علّمها لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأمير المؤمنين علمها للأئمة من بعده..

فعلي (عليه السلام) بيّن الكثير من العلوم للناس بخطبه وأحاديثه ومواعظه التي جمعت في كتابه نهج البلاغة.

فنهج البلاغة لم يدع شيئاً في الأرض ولا في السماء إلا وقد بيّنه لنا ولو بنسبة أو أخرى.

التبليغ ونشر التعاليم الإسلامية  

الواجب الثاني في إحياء ذكرى أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الاهتمام بالتبليغ ونشر التعاليم الإسلامية.. فإننا حينما كنا يوماً مرتبطين بالإسلام عملاً لا انتساباً فقط، قمنا بفتح الدنيا فضمها الإسلام بين ذراعيه، وكان ذلك على ضوء المنطق لا السيف.. نعم كان السيف للدفاع فقط..

لأن الإسلام حينما جاء قام بعمل مهم وهو تحكيم المنطق في الأمور، وفرض العدل كقانون عملي يتحكم بين الناس، وما كان حكم السيف إلا للمجرمين. وبهذا العمل انتشر الإسلام في الحجاز وإلى أقصى نقطة في العالم.

أما المسلمون اليوم فلم يبرحوا أماكنهم، ولم يعملوا شيئاً لنشر الإسلام، وذلك لابتعادهم عن الله سبحانه وتعالى ورسوله والأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام)، وانشغالهم بقضايا جانبية وبخلافات مفتعلة بينهم.. هنا وهناك. 

 

1 ـ وهي اسبانيا.

2 ـ نهج البلاغة: الخطبة 144.

3 ـ راجع مقدمة السيد شريف الرضي (قدس سره) لنهج البلاغة تحقيق الدكتور صبحي صالح .

4 ـ مقدمة نهج البلاغة لمحمد عبده.

5 ـ الكافي: ج1 ص136.

6 ـ الكويت دولة خليجية مساحتها (37818 كم)، وسكانها 3مليون نسمة بين مواطن ومقيم، وعاش الإمام الشيرازي (دام ظله) فيها بعدما هاجر من العراق وذلك من سنة (1971م حتى 1979م) = (1391هـ ـ 1399هـ).

7 ـ وهو الدكتور عبد الصمد التركي.

8 ـ نهج البلاغة: الخطبة 189.

9 ـ سورة الجن: 26و 27.