مرج البحرين يلتقيان

 

اقتران النور من النور عليٌّ من فاطمة الزهراء (عليهما السلام).

من أوَّل المبادىء التي تبنّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية بعثته هو الحث على النكاح، ودفع الشباب المسلم على تأسيس الاُسرة وبناء اللبنةِ الصالحة للمجتمع المؤمن الواعي، وتحمّل المسؤولية في تربية الجيل الصاعد، كما أمر الله تعالى في محكم كتابه المجيد إذ قال: (وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)([34]).

كما وردت أحاديث شريفة كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروايات عديدة عن الائمة الطاهرين (عليهم السلام) في الحثِّ على الزواج وتكوين الاُسرة النظيفة.

منها ما قاله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن تزوّج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الاخر».

ولم يكتف بالحثِّ على الزواج كلامياً فحسب، بل عمد إلى تطبيق الامر بنفسه عملياً، وبأبسط الجهد والتكاليف، التي كان يتهيبها الشباب ويحجم عن الاقدام عليها، وجاء هذا التطبيق مع مَن؟ مع ابنته سيّدة نساء العالمين (عليها السلام)، وإليك وصف الواقعة بصورة موجزة ومختصرة:

لمّا أدركت فاطمة الزهراء سلام الله عليها مدرك النساء، خطبها أكابر المسلمين من قريش ومن أهل الفضل والسابقة في الاسلام، ومن أهل الشرف والمال، وكلّما ذكرها رجل من قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرض عنه بوجهه، حتّى أصبح الرجل منهم يظن في نفسه ربّما أنّه ساخط عليه، أو قد نزل فيه وحي من السماء، كما خطبها أبو بكر، ومن بعده عمر، فكان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أمرها إلى ربها».

جاء بعض الصحابة يوماً إلى علي (عليه السلام)، وهو في حائط له خارج المدينة يسقي الزرع، وسألاه عمّا يمنعه من خطبته فاطمة (عليها السلام)، فقال لهما: ما يمنعني إلاّ الحياء، وقلّة ذات اليد. فقال له سعد: اذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واخطب منه فاطمة، فإنّه يزوّجك إيّاها، والله ما أرى أنّه يحبسها عليك.

فأقبل عليٌّ (عليه السلام) يقصد دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهبط الامين جبرائيل على رسول الله وأخبره بمجيء علي وقصده، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار أُمِّ سَلمَة رضوان الله عليها، فطرق الباب، فنادت أُمّ سلمة: مَن بالباب؟ فقال لها (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يجيبها عليٌّ (عليه السلام): قومي يا أُمّ سلمة، وافتحي له الباب، ومريه بالدخول ; فهذا رجل يحبّه الله ورسوله ويحبهما.

فقالت أم سلمة: فداك أبي وأُمّي: ومَن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟!

فقال: مه، يا أُمّ سلمة، فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق([35])، هذا أخي وابن عمّي، وأحبّ الخلق إليَّ.

فقامت أُم سلمة وفتحت الباب، وإذا به علي بن أبي طالب (عليه السلام).

قالت أُمّ سلمة: والله ما دخل حين فتحت الباب حتّى علم أنّي رجعت إلى خدري، ثمَّ دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فأجابه النبي: وعليك السلام، اجلس. فجلس ورأسه مطأطأ ينظر إلى الارض، كأنّه قصد لحاجة وهو يستحي أن يبديها حياءً.

فقال رسول الله: إنّي أرى أنّك أتيت لحاجة، فقل ما حاجتك، وابدِ ما في نفسك فكلّ حاجة لك مقضية.

فقال (عليه السلام): فداك أبي وأُمّي، إنّك لتعلم، أخذتني من عمّك أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد وأنا صبي، فغديتني بغذائك، وأدبْتني بأدبك، فكنتَ إليَّ أفضل من أبي طالب ومن فاطمة بنت أسد في البر والشفقة ; وإنَّ الله تعالى هداني بك وعلى يديك، وأنت - والله - يا رسول الله، ذخري وذخيرتي في آخرتي ودنياي، يا رسول الله، وقد أحببت، مع ما شدَّ الله من عضدي بك - أن يكون لي بيت، وأن تكون لي زوجة أسكن إليها، وقد أتيتك خاطباً راغباً، أخطب إليك ابنتك فاطمة، فهل أنت مزوّجي يا رسول الله؟

فتهلّل وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرحاً وسروراً، ثمَّ تبسّم في وجه عليّ (عليه السلام) وقال: فهل معك شيء أُزوّجك به؟

فقال عليٌّ (عليه السلام): فداك أبي وأُمّي، والله ما يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي، وناضحي([36])، ومالي شيء غير هذا.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، أمّا سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وأمّا ناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوّجتك بالدرع، ورضيت بها منك.

يا عليّ أُبشّرك؟

فقال: نعم فداك أبي وأُمّي بشِّرني فإنّك لم تزل ميمون النقية، مبارك الطائر، رشيد الامر، صلّى الله عليك.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشر، فإنَّ الله تعالى قد زوجكها في السماء من قبل أن أُزوّجك في الارض، إلى آخر كلامه.

وهناك أحاديث عديدة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في قصّة الزواج في ا لسماء أكثر منها في الارض.

ثمَّ قال: يا علي، إنّه ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتّى أخرج إليك. فدخل عليها، فقامت فأخذت رداءه، ونزعت نعله، وأتت بالوضوء فتوضّأ وغسّلت رجليه، ثمَّ قعدت، فقال لها: يا فاطمة! فقالت: لبيك، ماحاجتك يا رسول الله؟

قال: إنَّ علي بن أبي طالب مَن قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألتُ ربّي أن يزوّجك خير خلقه، وأحبّهم إليهِ، وقد ذكر عن أمرك شيئاً، فماترين؟ فسكتت، ولم تولِ وجهها ولم ير فيها كراهةً، فقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها.

فمضى عليٌّ (عليه السلام) إلى المسجد، وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في أثره، وفي المسجد جلَّ المهاجرين والانصار، فصعد المنبر وارتقى أعلى درجته، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال:

معاشر المسلمين، إنَّ جبرئيل أتاني آنفاً، فأخبرني عن ربِّي جلَّ جلاله أنّه جمع الملائكة عند البيت المعمور، وأنّه أشهدهم جميعاً أنّه زوّج أمته فاطمة من عبده علي بن أبي طالب، وأمرني أن أُزوّجه في الارض، وأُشهدكم على ذلك.

ثمَّ جلس وقال لعلي (عليه السلام): قم يا أبا الحسن فاخطب أنت لنفسك. فقام وحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله، وقال:

الحمد للهِ شكراً لانعمهِ وأياديه، ولا إله إلاّ الله شهادةً تبلغه وترضيه، وصلّى الله على محمّد صلاة تزلفه وتحظيه، والنكاح مما أمر الله به ورضيه، ومجلسنا هذا ممّا قضاه الله وأذن فيه، وقد زوّجني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ابنته فاطمة، وجعل صداقها درعي هذا، وقد رضيت بذلك، فاسألوه واشهدوا.

فقال المسلمون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زوّجته يا رسول الله؟ فقال: نعم.

فقالوا: بارك الله لهما شملهما.

وانصرف رسول الله إلى أزواجه، فقال: يا علي، انطلق الان فبع درعك وأتني بثمنه حتّى أُهيىء لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما.

قال عليٌّ (عليه السلام): فانطلقت، فبعت الدرع بأربعمائة درهم سود هجرية - وفي رواية أُخرى: أربعمائة وثمانين، أو خمسمائة درهماً - فلمّا قبض الدراهم أقبل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطرح الدراهم بين يديه، فدعا أبا بكر فدفع إليه حفنة منها، وقال: اشتر بهذه الدراهم لابنتي فاطمة ما يصلح لها في بيتها. وبعث معه سلمان وبلال ليعيناه على حمل ما يشتريه من متاع.

ومكثت بعد ذلك شهراً لا أُعاود رسول الله في أمر فاطمة بشيء استحياءً منه، غير أنّي كنت إذا خلوت به يقول لي: يا أبا الحسن، ما زوجتك وما أجملها؟ أبشر يا أبا الحسن فقد زوّجتك سيّدة نساء العالمين.

قال الامام علي (عليه السلام): فلمّا كان بعد شهر دخل عليَّ أخي عقيل، فقال: يا أخي، ما فرحتُ بشيء كفرحي بتزويجك فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يا أخي، فما بالك لا تسأل رسول الله يدخلها عليك فتقرّ عيناً باجتماع شملكما؟

فقلت: يا أخي والله، إنّي أحبُّ ذلك، وما يمنعني من مسألته إلاّ الحياء منه.

فقال عقيل: أقسمت عليك إلاّ قمت معي.

فقمنا نريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلقينا في طريقنا أُم أيمن مولاة رسول الله فذكرنا لها ذلك، فقالت: لا تفعل، دعنا نحن نكلّمه، فإنَّ كلام النساء في هذا الامر أحسن وأوقع بقلوب الرجال.

ثمَّ انثنت راجعة، فدخلت على أُم سَلَمة فأعلمتها بذلك، وأعلمت نساء النبي فاجتمعن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان في بيت عائشة، فأحدقن به وقلن: فديناك بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله، قد اجتمعنا لامر لو أنَّ خديجة في الاحياء لقرّت بذلك عيناها.

قالت أُمّ سلمة: فلمّا ذكرنا خديجة بكى (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ قال: خديجة؟ وأين مثل خديجة؟ صدّقتني حين كذّبني الناس، وآزرتني على دين الله، وأعانتني عليه بمالها، وإنَّ الله عزّ وجلّ أمرني أبشر خديجة ببيت في الجنّة من قصب الزمرد، لا صخب فيه ولا نصب.

قالت أُمّ سلمة: فقلنا: فديناك بآبائنا وأُمّهاتنا يا رسول الله، إنّك لم تذكر من خديجة أمراً إلاّ وقد كانت كذلك، غير أنّها قد مضت إلى ربّها فهنّأها الله تعالى بذلك، وجمع بيننا وبينها في درجات جنّته ورضوانه ورحمته.

يا رسول الله، وهذا أخوك وابن عمّك علي بن أبي طالب، يحبّ أن تدخل عليه زوجته فاطمة تجمع بها شمله.

فقال: يا أُمّ سلمة، فما بال عليٍّ لا يسألني ذلك؟

فقلت: الحياء منك.

قالت أُم أيمن: فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انطلقي إلى عليّ فأتيني به.

فخرجتُ من عنده فإذا عليٌّ (عليه السلام) ينتظرني، ليسألني عن الجواب، فحضر عليٌّ عنده، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هيىء منزلاً حتّى تحوّل فاطمة إليه.

فحوّل فاطمة إلى علي (عليه السلام) في منزل حارثة، وبسطوا على أرض البيت كثيباً من الرمل، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء (القربة) وستروه بكساء، ونصبوا خشبة من حائط إلى حائط للثياب، وبسط جلد كبش ومخدة ليف.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، اصنع لاهلك طعاماً فاضلاً. وجاء أصحابه بالهدايا.

وأمر النبي فطحن البرُّ (الحنطة) وخبزه، وذبح الكبش، واشترى عليٌّ تمراً وسمناً، وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وحَسر عن ذراعه، وجعل يشدخ التمر بالسمن فقال: يا علي، أُدع مَن أحببت.

قال عليّ (عليه السلام): فأتيت المسجد وهو غاص بالناس، فناديتُ: أجيبوا إلى وليمة فاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأجابوا من النخلاء والزروع، وأقبل الناس إرسالاً وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، وسائر نساء المدينة ورفعوا منها ما أرادوا، ولم ينقص من الطعام شيء، ثمَّ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصحاف والاواني، فملئت، ووجّه بها إلى منازل أزواجه، ثمَّ أخذ صحيفة، وقال: هذه لفاطمة وبعلها.

وكان لفاطمة (عليها السلام) يوم بنى بها علي بن أبي طالب (عليه السلام)تسع سنين.

عن ابن بابويه: أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنات عبد المطلب ونساء المهاجرات والانصار أن يمضين في صحبة فاطمة (عليها السلام)، وأن يفرحن، ويرجزن ويكبِّرن، ويحمدن، ولا يقولن مالا يرضي الله تعالى.

قال جابر: فأركبها رسول الله على ناقته - وفي رواية على بغلته الشهباء - وأخذ سلمان زمامها والنبي وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهّرين سيوفهم، ونساء النبي قدّامها يرجزن.

فأنشأت أُمّ سلمة تقول:

سِرن بعون الله جاراتي * * * واشكرنه في كلِّ حالاتِ

واذكرن ما أنعم ربّ العلى * * * من كشف مكروه وآفاتِ

فقد هدانا بعد كفر وقد * * * أنعشنا ربُّ السماواتِ

وسِرن مع خير نساء الورى * * * تُفدى بعمات وخالاتِ

يابنت من فضّله ذو العلى * * * بالوحي منه والرسالاتِ

إلى آخر ما رجزن به امهات المؤمنين.

وكانت النسوة يرجِّعن أوّل البيت من كل رجز ثمَّ يكبِّرن، ودخلن الدار، ثمَّ أنفذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام)، ثمَّ دعا فاطمة (عليها السلام) فأخذ يدها ووضعها في يده، وقال: بارك الله في ابنة رسول الله. وقال: يا علي، نعم الزوجة فاطمة، ويافاطمة نعم الزوج علي.

ثمَّ قال: يا علي، هذه فاطمة وديعتي عندك، ثمَّ دعا وقال: اللّهم اجمع شملهما، وألِّف بين قلوبهما، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنَّة النعيم، وارزقهما ذريَّة طاهرة طيبة مباركة، واجعل في ذريتهما البركة، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك، ويأمرون بما رضيت.

اللهمّ إنّهما أحبُّ خلقك إليَّ، فأحبّهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم.

ثمَّ خرج إلى الباب وهو يقول: طهّركما وطهر نسلكما، أنا سلمٌ لمن سالمكما وحربٌ لمن حاربكما، أستودعكما الله، وأستخلفه عليكما.

يا بنيّة لو تعلمين ما علم أبوكِ لمسخت الدنيا في عينيك.

والله يا بنيّة، ما ألوتك نصحاً، إنّي زوّجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً.

يا بنية، إنَّ الله عزَّ وجلَّ اطّلع إلى الارض اطّلاعةً فاختار من أهلها رجلين، فجعل أحدُهما أباك، والاخر بعلكِ.

يا بنيّة، نعم الزوج زوجك لا تعصي له أمراً.

هذه واقعة اقتران النورين، أو ما نسمّيها (مرج البحرين يلتقيان) انتقيت بعض بنودها من كتاب (عليٌّ من المهد إلى اللحد) للسيد القزويني، مع بعض التصرّف روماً للاختصار، كما ذكر المؤلِّف أنّه نقلها واقتطفها من الاحاديث، والبحث المذكور في المجلد العاشر من كتاب بحار الانوار لشيخنا العلاّمة الجليل المجلسي (رحمه الله).

 

عبادة علي (عليه السلام) ومناجاته في تهجده

 

ما عساني أن أقول في رجل أفنى زهرة شبابه بل حياته كلها في طاعة الله، منذ اللحظة التي تنشّق فيها نسيم الحياة وولد في بيت الله الحرام بالكعبة المشرفة، إلى أن استشهد في محرابه في مسجد الكوفة مصلّياً طائعاً لله وما بينهما كان كلّ عمرة قضاها بين المسجدين في طاعة ربه.

وما عساي أن أقول في رجل قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي، ما عرف الله إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا»؟! ولقد عجز فلاسفة الدنيا وحكماء العالم وعلماء ومفكري الامّة في وصف صفة واحد من صفاته الحميدة، ونظم في بعض مواقفه العلماء والشعراء فأجادوا منهم الامام الشافعي والعلاّمة ابن أبي الحديد المعتزلي وغيرهم. ناهيك عن عبادته.

عن علي (عليه السلام) قال: عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامّة سبع سنين؟

وروي عن عليٍّ (عليه السلام) أنّه كان إذا حضر وقت الصلاة ارتعدت فرائصه وتغيّر لونه، فسئل عن ذلك فقال: جاء وقت الامانة التي عرضها الله على السموات والارض والجبال، فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان فلا أدري أأحسن أداء ما حُمِّلت أم لا؟

كما روى ذلك أيضاً عن الامام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام).

روي أنّ عليّاً قد أصاب رجله في غزوة أُحد سهم صعب إخراجه، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجه حين اشتغاله بالصلاة، فأخرجوه من رجله، فقال بعد فراغه من الصلاة، بأنّه لم يلتفت بذلك.

قيل لعليّ بن الحسين (عليه السلام) وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدّك؟

قال: عبادتي عند عبادة جدّي، كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأمّا عبادة علي (عليه السلام) فقد كان أعبد الناس وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، وملازمة الاوراد، وقيام النافلة.

وما ضنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير فيصلّي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه، وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته؟!

وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة بعير لطول سجوده؟! وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته، ووقفت على مافيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزّته والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من إجلال وإخلاص وتضرع، فهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت، كما قال الشاعر:

هو البكّاءُ في المحراب ليلاً * * * هو الضحّاك إذا اشتدَّ الضرابُ

كان إذا أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، يناجي ربه:

إلهي غارت نجوم سماواتك، وأغلقت الملوك أبوابها، وطاف عليها حرّاسها، وأبوابك مفتّحات.

ويبكي بكاء الحزين، ويقول:

يا دنيا غرّي غيري، أبي تعرضتي، أم إليَّ تشوّقتِ؟! هيهات هيهات قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه آه من قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

ومن مناجاته في شعبان:

«اللّهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، واسمع دعائي إذا دعوتك، واسمع ندائي إذا ناديتك، واقبل عليَّ إذا ناجيتك، فقد هربتُ إليك ووقفت بين يديك مستكيناً لك، متضرِّعاً إليك، راجياً لما لديك ثوابي، وتعلم مافي نفسي، وتخبر حاجتي، وتعرف ضميري، ولا يخفى عليك أمر مُنقلبي ومثواي» إلى أن يقول: «إلهي أعوذ بك من غضبك وحلول سخطك، إلهي إن كنتُ غير مستأهل لرحمتك فأنت أهلٌ أن تجود عليَّ بفضل سعتك».

إلى أن يقول: «إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك، وإنْ أدخلتني النار أعلمتُ أهلها أنّي أُحبّك».

إلى أن يقول: «إلهي أُنظر إليَّ نظر من ناديته فأجابك، واستعملته بمعونتك فأطاعك، يا قريباً لا يبعد عن المغتر به، ويا جواداً لا يبخل عمّن رجا ثوابه».

إلى أن يقول: «إلهي إن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة بكرم آلائك، إلهي إن دعاني إلى النار عظيم عقابك، فقد دعاني إلى الجنّة جزيل ثوابك».

ومن مناجاته (عليه السلام): «إلهي تعرّض لك في هذا الليل المتعرّضون، وقصدك القاصدون وأمّل فضلك ومعروفك الطالبون، ولك في هذا الليل نفحات وجوائز وعطايا ومواهب تمنّ بها على مَن تشاء من عبادك، وتمنعها مَن لم تسبق له العناية منك، وها أنا ذا يا إلهي عُبيدك، الفقير إليك، المؤمل فضلك ومعروفك، فإن كنت يا مولاي تفضّلت في هذه الليلة على أحد من خلقك، وعدت عليه بعائدة من عطفك فصل على محمّد وآل محمّد الطيبين الطاهرين الخيّرين الفاضلين، وجد عليَّ بطولك ومعروفك يا رب العالمين» إلى آخر الدعاء.

ومن الادعية المأثورة: «يا ذا الذي كان قبل كل شيء ثمَّ خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كل شيء، ياذا الذي ليس كمثله شيء وياذا الذي ليس في السموات العُلى ولا في الارضين السفلى ولا فوقهن ولا تحتهن ولا بينهن إلهٌ يعبد غيره، لك الحمد حمداً لا يقوى على إحصائها إلاّ أنت، فصلِّ على محمّد وآل محمد صلاة لا يقوى على إحصائها إلاّ أنت يا أرحم الراحمين.

رواه جماعة من أعلام القوم، منهم: العلاّمة ابن حجر الهيثمي المكّي المتوفى سنة 973 في كتابه «الفتاوى الحديثية» ص 41 طـ مصر.

ومنهم: العلاّمة الترمذي، في «المناقب» ص 161 طـ بومباي.

وأما الصحيفة العلوية الحاوية على بعض ادعيته (عليه السلام)دليل قاطع على تهجده وتضرعه، في الليالي والايام وفي مضان استجابه الدعاء.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([34]) سورة النور : آية 32 .

([35]) الخرق : سيء التصرّف والجاهل ، والنزق : الرعن الخفيف في كل أمره ، العجول الاحمق .

([36]) البعير الذي ينقل عليه الماء .