أول المؤمنين

حين تلقى الرسول (ص) بيان التكليف الإلهي بحمل الرسالة،عاد إلى بيته فأطلع عليا (1) (ع) على أمره،فاستقبله بالتصديق و اليقين،كذلك فعلت خديجة الكبرى،فانبثق من أجل ذلك أول نواة لمجتمع المتقين في الأرض.

على أنه يجدر بنا،أن نعي أن عليا (ع) لم يدعه الرسول (ص) إلى الاسلام كما دعا غيره فيما بعد أبدا،لأن عليا (ع) كان مسلما على فطرة الله تعالى،لم تصبه الجاهلية بأوضارها،و لم يتفاعل مع شي‏ء من سفسافها و كل الذي كان:أن عليا (ع) قد أطلعه الرسول القائد (ص) على أمر دعوته و منهج رسالته،فأعلن تصديقه و أيقن بالرسالة الخاتمة،و بادر لتلقي توجيهاته المباركة تلقي تنفيذ و تجسيد،و لهذا يقال (كرم الله وجهه) .

فإن عليا (ع) كان مؤهلاـكما بينا في مطلع الحديثـلاتباع رسول الله (ص) في دعوته،لأنه (ص) كان قد أنشأ شخصيته،و أرسى لبناتها الأساسية.

و لا نضيف جديدا إذا قلنا إن الإمام (ع) لم يفاجأ بأمر الدعوة المباركة،طالما عاش في كنف رسول الله (ص) و تفيأ ظلاله،فالمصطفى محمد (ص) ـكما نعلمـكان يعبد ربه تعالى و ينأى عن الجاهلية في مفاهيمه و سلوكه و علاقاته قبل أن يتنزل عليه وحي السماء،بأول سورة من القرآن الكريم.و علي (ع) كان مطلعا على عبادة أخيه رسول الله (ص) و ممارساته و تحولاته الروحية و الفكرية،فكان يتعبد معه،و ينهج نهجه،و يسلك سبيله في تلك السن المبكرة من عمره.

أما حين فاتحه رسول الله (ص) بأمر الدعوة الإلهية،فقد لبى النداء بروحه و وعيه و كل جوارحه،دون أن يباغت في الأمر،و إن كان هناك من جدة في المسألة،فإنما هي في الكيفية و درجة المسؤولية الواجب تحملها،أو في تفاصيل الأحكام.

و حين بلغ رسول الله (ص) بأمر التكليف الإلهي لحمل الدعوة المباركة،بلغ كذلك،أن تنصب دعوته أولا على الخاصة من أهل بيته،و قد أشار ابن هشام في سيرته لذلك بقوله:

«فجعل رسول الله (ص) يذكر ما أنعم الله به عليه،و على العباد به،من النبوة سرا من يطمئن إليه من أهله» (2) .

و من أجل ذلك فاتح عليا و خديجة بالدعوةـكما ذكرناـو بعدهما زيد بن حارثة،و بقي أمر الدعوة طي الكتمان لا يعلمه غير هؤلاء،و بعض الخاصة من أهل البيت (ع) .

و قد أشار الإمام علي بن الحسين (ع) في حديث له حول إسلام جده علي بن أبي طالب (ع) بقوله :

«و لقد آمن بالله تبارك و تعالى و برسوله (ص) و سبق الناس كلهم إلى الإيمان بالله و برسوله و إلى الصلاة ثلاث سنين» (3) .

و لأسبقيته في حمل الدعوة أشار الإمام (ع) في حديث جاء فيه:

«و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (ص) و خديجة،و أنا ثالثهما،أرى نور الوحي و الرسالة،و أشم ريح النبوة».

و بعد أن تخطت الدعوة مرحلة دعوة الخاصة من أهل البيت جاءت مرحلة دعوة من يتوسم رسول الله (ص) فيهم القبول لدعوته،فانخرط عدد من الناس في سلك الدعوة،كان أغلبهم من الشباب،و كانت لقاءاتهم من أجل قراءة القرآن الكريم،و التعرف إلى أحكام دين الله تعالى تتم بصورة سرية.

أول الدعاة إلى الاسلام

ثم أذن الله عز و جل لرسوله (ص) بدعوة عشيرته الأقربين من بني هاشم،ليوسع من مدار الدعوة بذلك،فقال تعالى:

(و أنذر عشيرتك الأقربين‏ 
و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏ 
فإن عصوك فقل إني بري‏ء مما تعملون) . (الشعراء/214ـ216)

فلما تلقى رسول الله (ص) أمر ربه الأعلى بانذار عشيرته الأقربين،أمر عليا (ع) أن يدعوهم إلى طعام عنده،فحضروا إلى دار رسول الله (ص) و كانوا أربعين رجلا.و بعد أن تناولوا طعامهم،بادرهم الرسول (ص) بقوله:

«يا بني عبد المطلب!إن الله بعثني إلى الخلق كافة،و بعثني إليكم خاصة،فقال: (و أنذر عشيرتك الأقربين) و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان،ثقيلتين في الميزان،تملكون بهما العرب و العجم،و تنقاد لكم بهما الامم،و تدخلون بهما الجنة،و تنجون بهما من النار،شهادة أن (لا إله إلا الله و أني رسول الله) فمن يجبني إلى هذا الأمر و يؤازرني عليه و على القيام به يكن أخي و وصيي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي» (4) .

و بين تنديد أبي لهب و تحذيره لرسول الله (ص) من الاستمرار بالدعوة من جهة،و تأييد أبي طالب له و مخاطبته لرسول الله (ص) بقوله:فامض لما أمرت به،فو الله لا أزال أحوطك و أمنعك .

و من خلال التأييد الذي أعلنه أبو طالب،و التنديد البليد الذي أعلنه أبو لهب،وقف علي بن أبي طالب (ع) و كان أصغر الحاضرين سنا فقال:«أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر»فأمره رسول الله (ص) بالجلوس،و لما لم يجبه أحد نهض علي ثانية و رسول الله (ص) يجلسه.

و أعاد رسول الله (ص) دعوته إلى قومه،فلم يجبه أحد،و كان صوت علي (ع) وحده يلبي الدعوة،و يهدر بالمؤازرة و النصرة،فمزق صمتهم بصلابة إيمانه،و قوة يقينه،و حيث لم يجب رسول الله (ص) أحد للمرة الثالثة،التفت إلى مجيبه الوحيد،قائلا:«إجلس فأنت أخي و وصيي و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي».

فنهض القوم من مجلسهم،و هم يخاطبون أبا طالب:«ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك،فقد جعل ابنك أميرا عليك» (5) .

على طريق المواجهة

و دخلت الدعوة إلى الله مرحلة المواجهةـبعد إنذار العشيرةـو أول من قاد رد الفعل أبو لهب و زوجته،و كانا يعترضان رسول الله (ص) و يزرعان المشاق في طريقه،لثنيه عن دعوته المباركة،و لكن دعوة الله سبحانه مضت،تشق طريقها في المجتمع الجاهلي المتحجر ذاك،فقد انتقلت بعد إبلاغ العشيرة إلى الدعوة العامة،حيث وقف رسول الله (ص) عند البيت الحرام،و خاطب الجموع بأنه رسول الله إليها.

و بعد الدعوة العامة تزايد عدد المؤمنين و أغلبهم من الشباب و من شتى قطاعات المجتمع المكي.

و كان لتزايد عدد المؤمنين برسالة الله تعالى أثر بالغ على موقف الجاهليين،فقد سلكوا اسلوب الإرهاب للرعيل الأول من المؤمنين،فكانت كل قبيلة و كل بيت يتصدى لمن فيه من المؤمنين بالتعذيب و الاضطهاد،و المؤمنون يزدادون ثباتا و إيمانا بصوت الحق و الهدى الذي دوى به صوت رسول الله (ص) فرددته النفوس الظمأى إلى الخير و الانعتاق.

و بسبب التعذيب الجسدي الوحشي الذي صب على المؤمنين،كانت هجرة الحبشة التي قادها جعفر بن أبي طالب الذي يكبر أخاه عليا (ع) بعشر سنين،و كان لجعفر و حكمته الأثر الفعال في إفشال مخطط قريش في إثارة ملك الحبشة على المهاجرين لطردهم من بلاده.

أبو طالب يتصدى لأعداء الرسالة

و إذا كانت قريش قد تصدت للسابقين من المؤمنين بالعنف و الاضطهاد،فإنها ليست قادرة على التصدي لرسول الله (ص) ،قائد الدعوة و رسولها بنفس المستوى،لعلمها أن أبا طالب شيخ الأبطح،يحول دون تحقيق أي لون من ألوان الأذى و الارهاب لرسول الله (ص) .

فأبو طالب رجل مرهوب الجانب،ذو سطوة و نفوذ،ليس في بني هاشم وحدهم و إنما في قبائل مكة كلها.

و قد كان الرجل سند الدعوة الاسلامية و جدارها الشامخ،الذي تستند إليه منذ تباشير فجرها الزاهر،و قريش كانت تدرك ذلك تماما و تعرف أبعاده.

و من أجل ذلك،سلكت اسلوب المفاوضة و المساومة و الإغراء:تفاوض الدعوة و الرسالة في شخص الرسول (ص) مرة،و في شخص أبي طالب مرة اخرى،فحين كانت تعرض المال و السلطان على رسول الله (ص) مقابل تركه للدعوة إلى الاسلام،و التنازل عن الرسالة،فانها كانت تفاوض أبا طالب،و تحاوره بشأن دعوة الرسول (ص) ،طالبة أن يستعمل نفوذه،بالضغط عليه لترك رسالته،و تلوح بالتهديد تارة اخرى باحتدام الصراع بينه و بين قريش كلها إذا لم يخل بينهم و بين رسول الله (ص) ،و يكف عن إسناده له.

بيد أن أبا طالب،كان يعلن إصراره على التزام جانب رسول الله (ص) و الذود عنه،مهما غلا الثمن و عظمت التضحيات.

أبو طالب مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في الحصار

و لما استبد اليأس بقريش،عند ما تيقنوا أن أبا طالب لن يفرط بمحمد رسول الله (ص) و دعوته،عقد زعماؤها اجتماعا طارئا في دار الندوةـو هي دار أسسها أيام‏زعامته لقريش قصي بن كلاب،و قد اعتادت قريش أن تجتمع فيها للتشاور في القضايا المصيرية من حياتهاـحيث توصل المجتمعون إلى قرار،يقضي بحصار بني هاشم و من يلوذ بهم حصارا اقتصاديا و اجتماعيا،ينصب على عدم البيع لبني هاشم أو الشراء منهم أو تزويجهم أو التزوج منهم،و قد ذيل قرار المقاطعة ذلك بأربعين توقيعا لزعماء قريش و حلفائهم.

و دخل بنو هاشم شعب أبي طالب،بناء على أوامر من عميدهم أبي طالب ذاته،حماية لأنفسهم من سطوة قريش،و أصبح من المتعذر عليهم الخروج إلى مكة،إلا في موسم العمرة في رجب و موسم الحج في ذي الحجة من كل عام.و بالنظر لتفاقم الموقف بين بني هاشم و قريش،شدد أبو طالب الحراسة على الشعب بعد تحصينه،خشية هجوم قرشي مباغت.

و استمر الحال ببني هاشم،بما فيهم رسول الله (ص) و علي بن أبي طالب (ع) على هذا الحال ثلاث سنينـو قيل أربعاـو قد عانوا من شظف العيش،و الحرمان و الفاقة،ما يدمي القلب،و يحز في النفس.

و لك أن تقدر حجم ما عانى المحاصرون من ضيق،إذا علمنا أن قريشا قد شددت عليهم الحصار بشكل كامل،فقطعت عنهم التموين و سدت منافذ أي دعم محتمل،و كانت غالبا ما تضاعف أثمان البضائع،ليعجز بنو هاشم عن شرائها،بشكل أدى بهم إلى المجاعة الحقيقية،حتى كان صراخ أطفالهم و تضورهم جوعا يسمع من بعيد.

و بعد أن تصرمت السنون الثلاث أو الأربع بعسرها و آلامها وفاقتها و شدتها،أخبر رسول الله (ص) عمه أبا طالب أن صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش قد أتت دودة الأرض على ما فيها من ظلم و قطيعة فأكلتها،إلا عبارة (باسمك اللهم) ،فأسرع أبو طالب إلى قريش،قائلا (6) :«إن ابن أخي أخبرني أن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فأكلتها،غير اسم الله،فإن كان صادقا نزعتم عنه سوء رأيكم،و إن كان كاذبا دفعته إليكم».

قالوا:قد أنصفتنا،ثم فتحوها،فإذا هي كما قال.و وقع نزاع شديد بين زعماء قريش،نتج عنه تمزيق الصحيفة و انتهاء المقاطعة،و رفع الحصار عن بني هاشم،و قد كان لافشال مشروع الحصار بذلك الشكل الاعجازي الجلي أثره في كسب الدعوة للمؤيدين و الأنصار في مكة.

أرأيت كم من التضحيات في سبيل رسالة الله،بذل بيت علي (ع) ؟

فإذا كان علي أول من لبى صوت الحق،و ظل مجاهدا في الصف الأمامي من الجبهة الاسلامية طوال حياته،فإن أباه قد ضحى حتى بمكانته الاجتماعية،التي كان يحظى بها،في مجتمع يهتم بالعناوين القبلية و الزعامة العشائرية،و قد ذاق أبو طالب المحن من أجل رسالة الله تعالى،حتى كان بحق الدرع الواقي للرسول (ص) و الدعوة،في حين كانت المكانة الاجتماعية:حلم الرجال و مبتغاهم في ذلك المجتمع القبلي المادي.

و هكذا كان جعفر بن أبي طالب،شقيق علي (ع) الذي بدأ حياته الاسلامية بقيادة موكب الهجرة الاولى إلى الحبشة،و توجها بالشهادة في غزوة مؤتة،ففاز بلقب (الطيار مع الملائكة في الجنة) كما أخبر رسول الله (ص) بذلك (7) .

و لعظيم حب رسول الله (ص) لجعفر،أنه حين قدم المدينة المنورة من الحبشة،و ذلك يوم فتح خيبر،استقبله رسول الله (ص) و قبل ما بين عينيه،و هو يقول (ص) :«ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا:بقدوم جعفر؟أم بفتح خيبر؟» (8) .

إلى دار الإسلام

و في خضم الصراع العنيف الناشب بين الدعوة الإلهية المباركة،و الجاهلية الرعناء،فجع الاسلام بفقد مؤمن قريش:أبي طالب (رض) فاهتز رسول الله (ص) ألما للحادث المفجع،و علم أن قريشا ستعمل على تصعيد حملتها على الاسلام و المسلمين،و على شخصه الكريم بالذات.

و إذا كانت قريش تخشى أبا طالب و مركزه الاجتماعي فيما مضى،فقد خلالها الجو بعد موته،و ها هو رسول الله (ص) يفقد سنده الشامخ،و يصاب بعده بفاجعة اخرى لا تقل في تأثيرها عليه عن الاولى،فقد توفيت زوجته الوفية خديجة،حتى دعا العام الذي فقدهما فيه«عام الحزن».

و للأهمية البالغة التي يحتلها أبو طالب في سيرة الحركة التاريخية لدعوة الله تعالى،صرح رسول الله (ص) بقوله:

«ما زالت قريش كاعة (9) عني حتى مات أبو طالب» (10) .

و صعدت قريش بالفعل حملتها على رسول الله (ص) و السابقين من المؤمنين،فاتجه رسول الله (ص) للبحث عن أرض غير مكة تستقر عليها دعوة الله،فتنمو عليها شجرة الهدى،و راح يتصل بالقبائل،و يعرض أمره على الناس في أطراف مكة،ثم زار الطائف،و اتصل بزعماء قبائلها،فلم يستجب له أحد ذو أثر اجتماعي،بيد أن‏اليأس لم يتسرب إلى نفسه،و استمر في عرض نفسه على الناس من خارج مكة،حتى التقى في موسم الحج بنفر من أهل يثرب،و فاتحهم بأمر الدعوة،فاستجابوا له و لبوا دعوة الله،و عادوا يحملون الكلمة الهادية إلى قومهم.

و في الموسم التالي قدم منهم اثنا عشر رجلا،فبايعوه على الإيمان و حمل الرسالة،فأرسل لتعليمهم أحكام دين الله تعالى،مصعب بن عمير،فمكث فيهم سنة كاملة،يدعوهم إلى الله،و يؤدبهم بتعاليم رسالته،و يقرئهم القرآن الكريم فدخل الكثير من الناس في الاسلام،و استجابوا لنداء الدعوة المباركة.

و في موسم الحج حضر منهم إلى مكة و فد كبير يقوده مصعب بن عمير،فالتقوا برسول الله (ص) ،و بايعوه على النصرة إن هو هاجر إلى بلدهم.

و تنزل أمر الله يدعو المسلمين إلى الهجرة،فزحفت مواكب المهاجرين صوب الدار الجديدة،مخلفين وراءهم المال و الوطن و علائق الدم و القربى.

و لئن كان الاسلام قد أو شك على الدخول في محرلة جديدة من مراحل مسيرته العتيدة،فإن قريشا،قد اجتمعت في دار الندوة للتشاور بشأن رسول الله (ص) بالذات،فتوصل قادتها إلى قرار يقضي باغتيال جماعي لرسول الله (ص) يتولاه من كل قبيلة رجل منها على أن تنفذ جريمة الاغتيال ليلا.

و كشف وحي الله تعالى لرسول الله (ص) أوراق الجريمة التي أجمعت قريش على اقترافها:

(و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين) . (الأنفال/30)

في فراش رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم

و أبلغ جبريل (ع) رسول الله (ص) بأمر الله تعالى له بالهجرة إلى يثرب فاستجاب لربه الأعلى عز و جل و تصرف بما يفوت الفرصة على الأعداء،و حين انتشر الظلام‏أسرع المتآمرون لتطويق بيت رسول الله (ص) للحيلولة دون خروجه.و عندها جاء دور علي (ع) حيث أمره رسول الله (ص) أن ينام على فراشه،و يلتحف ببردته،و خرج الرسول (ص) من بين أعداء الله و هو يتلو قوله تعالى:

(و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) . (يس/9)

فلم يشاهده أحد من المشركين.

و عند طلوع الفجر اقتحم المتآمرون دار رسول الله (ص) لتنفيذ جريمتهم و اتجهوا لغرفته،فوثب علي (ع) في وجوههم قائلا:ما شأنكم؟قالوا:أين محمد؟قال:

«أجعلتموني عليه رقيبا؟ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم» (11) .

فانقلبوا خاسرين و باؤوا بالفشل الذريع،ثم بدا لهم أن يبحثوا عن رسول الله (ص) و يجدوا في طلبه في الجبال و الوديان،و اصطحبوا لذلك أبا كرز،و هو رجل شهير بعلم معرفة الأثر،و بالفعل استطاع أبو كرز أن يتابع أثر رسول الله (ص) حتى أوصل القوم إلى غار جبل«ثور»مؤكدا لهم أن محمدا رسول الله (ص) قد وصل في نهاية شوطه إلى ذلك الغار،و إذن فلا بد أن يكون قد عرج إلى السماء أو اختفى تحت الأرض (12) ،و حيث إن الله سبحانه قد بعث عنكبوتا فنسجت بيتا لها على باب الغار،فإن المتآمرين لم يخطر ببالهم أن رسول الله (ص) يلوذ عن كيدهم في داخل الغار الذي يقفون على بابه،و هكذا صرف الله عقولهم فولوا الأدبار.

و عند حلول الليلة الثانية أسرع علي (ع) و هند بن أبي هالة إلى الغار للاتصال بالرسول (ص) تحت جنح الظلام (13) و تحاور رسول الله (ص) مع علي (ع) حول‏مستلزمات الهجرة،فأوصاه بأداء الأمانات إلى أهلها،و باللحوق به (ص) بعد ذلك و أوصاه أن يحمل معه فاطمة الزهراء (ع) و من معها من نساء أهل البيت.

الانتظار في قبا

و بعد أيام من مسيرة الركب وصل رسول الله (ص) إلى«قبا»حيث نزل عند كلثوم بن الهدم أحد زعماء بني عمرو بن عوف (14) و هناك أقام (ص) مسجد قبا،و مكث ينتظر قدوم علي بن أبي طالب (ع) (15) إذ كتب إليه كتابا يأمره بالمسير إليه،و قد حمل الكتاب أبو واقد الليثي،و حيث إن عليا (ع) قد أدى ما أوصاه به رسول الله (ص) قبل هجرته و أعاد الأمانات التي كانت لدى رسول الله (ص) إلى أهلها،فقد عجل باللحوق بأخيه رسول الله (ص) فبادر إلى إعداد ركائب لحمل النساء:فاطمة بنت رسول الله،و فاطمة بنت أسد،و فاطمة بنت حمزة و فاطمة بنت الزبير ابن عبد المطلب.

«ثم أمر ضعاف المؤمنين أن يتسللوا ليلا إلى (ذي طوى) و خرج هو و الفواطم و أيمن و أبو واقد الليثي نهارا» (16) .

و لم تمض غير أيام قليلة حتى وصل ركب علي و الفواطم إلى قبا،فاستقبلهم رسول الله (ص) و عانق عليا (ع) و بكى رحمة به،و ذلك لما ألم به من إرهاق و أذى.

و بعد مقدم علي (ع) على رسول الله (ص) بيومين ارتحل رسول الله (ص) و بصحبته علي (ع) و من معه من المهاجرين إلى المدينة المنورة.

و كان الركب النبوي يستقبل استقبالا مهيبا عند كل حي يمر به،حتى إذا وصل رسول الله (ص) إلى المكان الذي اقيم مسجده فيه توقفت راحلته عن المسير فنزل‏عنها،و أقام ضيفا عند أبي أيوب الأنصاري (ره) ،ثم بادر إلى بناء المسجد و الدور الخاصة به و بأهل بيته،و في طليعتهم علي (ع) إذ اقيمت حجرته بجنب حجرة عائشة زوج النبي (ص) (17) .

تعليقات:

1ـاضافة إلى كتب التاريخ التي تصرح بأن عليا أول الناس اسلاما،كالسيوطي الذي قال:«إنه أول من أسلم،و نقل بعضهم الاجماع عليه»ص 185 من تاريخ الخلفاء،فهناك عدة أحاديث عن رسول الله (ص) تجسد هذه الحقيقة،راجع المستدرك/ج 3/ص 136،التاريخ الكبير للخطيب البغدادي/ج 2/ص 81،و مناقب الخوارزمي،و حلية الأولياء/ج 1/ص 66،و السيرة الحلبية/ج 1/ص 268،و سيرة زيني دحلان في هامش الحلبية/ج 1/ص .173

2ـابن هشام/السيرة النبوية/ج 1/ص .259

3ـالكليني/الكافي/ج 8/ص 339،و هناك أحاديث بهذا الصدد يرويها كل من النسائي و ابن ماجة،و الحاكم في المستدرك/ج 3/ص 111،و محب الدين الطبري في ذخائر العقبى/ص 60،و الطبري في تاريخه،و الرياض النضرة/ج 2/ص 158،و كتاب صفين لنصر بن مزاحم/ص 100 و غيرها،راجع كتاب الغدير/ج 3/ص 221ـ240،على أن تلك الروايات تشير إلى أن إيمان علي و عبادته قد سبق فيها الناس بسبع أو تسع سنين،و هي لا تخالف القول بثلاث سنين أبدا،فان المراد بأنه سبق بالتصديق بالاسلام بعد الدعوة بثلاث سنين،و سبق سواه بالإيمان و التعبد مع الرسول (ص) في مرحلة الإعداد التي أشار إليها في خطبته القاصعة بسنوات اخرى.

4ـأخرج الحديث كل من:ابن إسحاق،و ابن جرير،و ابن أبي حاتم،و ابن مردويه،و أبي نعيم،و البيهقي في سننه و في دلائله،و الثعلبي،و الطبري في تفسيريهما لسورة الشعراء من تفسيريهما الكبيرين،و أخرجه الطبري في تاريخ السيرة الحلبية/ج 1/ص 381،و الطحاوي،و الضياء المقدسي في مختاره،و أحمد بن حنبل/ج 1/ص 111 و 159،و المتقي الهندي في كنز العمال/ج 13/ص 114،و المفيد في الارشاد/ص 11،و غير هؤلاء كثير،و كلهم أوردوه بألفاظ متقاربة،راجع المراجعات للسيد شرف الدين/ص 124 و ما بعدها.

5ـأخرج الحديث و ما مضى من فقراته كل من:البيهقي في سننه و دلائله،و الثعلبي و الطبري في تفسيريهما لسورة الشعراء في تفسيريهما الكبيرين،و الطبري في تأريخه/ج 2/ص 217،و ابن الأثير في الكامل في التاريخ/ج 2/ص 22،و السيرة الحلبية/ج 1/ص 381،و ابن حنبل في مسنده/ج 1/ص 111 و 159،و كنز العمال/ج 13/رقم الحديث 36371،و غير هذه المصادر بألفاظ متقاربة .

6ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 19/ص 3،نقلا عن إعلام الورى،طبقات ابن سعد/ج 1/ص 173 و 192،سيرة ابن هشام/ج 1/ص 399ـ404،ابن قتيبة/عيون الأخبار/ج 2/ص 151،تاريخ ابن كثير/ج 3/ص 84 و 96 و 97،السيرة الحلبية/ج 1/ص 343،ابن الأثير/الكامل في التاريخ/ج 2/ص 36،راجع الغدير/ج 7/ص 363ـ .366

7ـالمجلسي/بحار الأنوار/ط دار إحياء التراث العربي (بيروت) /ج 21/ص 62،نقلا عن البلاذري،و ابن سعد في طبقاته/ج 4/ص 23،و ابن الأثير في أسد الغابة/ج 1/ص 287،ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 3/ص 407،البداية و النهاية/ج 4/ص 256،الاستيعاب/ج 1/ص 81،أبو الفرج الاصفهاني/مقاتل الطالبيين/ص .10

8ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 21/ص 63،نقلا عن مقاتل الطالبيين.

9ـكاعة:تكتم حقدها و تخشى إعلان حربها.

10ـتاريخ الطبري/ج 2/ص 222،تاريخ ابن عساكر/ج 1/ص 284،مستدرك الحاكم/ج 2/ص 622،تاريخ ابن كثير/ج 3/ص 122،راجع الغدير للشيخ الأميني/ج 7/ص 376،كشف الغمة للأربلي/ج 1/ص 162،و غيرها.

11ـتفسير سورة الأنفال/آية 30.يراجع الميزان للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي/ج 9/بحث روائي ص .80

12ـالطباطبائي/الميزان/ج 9/ص .80

13ـمحسن الأمين العاملي/أعيان الشيعة/ج 1/ص .237

14ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .52

15ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .52

16ـالأمين/أعيان الشيعة/ج 1/ص .238

17ـالأمين/أعيان الشيعة/ج 1/ص .238