سياسة رد الفعل

ينقل المؤرخ المعروف«الطبري»كيفية بيعة الإمام علي (ع) عن واحد من أهل المدينة شهد أحداثها فقال:

«عن أبي بشير العابدي،قال:كنت بالمدينة حين قتل عثمان (رض) ،و اجتمع المهاجرون و الأنصار،فيهم طلحة و الزبير،فأتوا عليا فقالوا:يا أبا حسن!هلم نبايعك،فقال:لا حاجة لي في أمركم،أنا معكم،فمن اخترتم فقد رضيت به،فاختاروا.

فقالوا:و الله ما نختار غيرك.

قالـأي أبو بشير العابديـ:فاختلفوا إليه (1) بعد ما قتل عثمان (رض) مرارا،ثم أتوه في آخر ذلك،فقالوا له:انه لا يصلح الناس إلا بإمره،و قد طال الأمر.

فقال لهم:انكم قد اختلفتم إلي و أتيتم،و إني قائل لكم قولا إن قبلتموه قبلت أمركم،و إلا فلا حاجة لي فيه.

فقالوا:ما قلت من شي‏ء قبلناه إن شاء الله.

فجاء فصعد المنبر،فاجتمع الناس إليه،فقال:إني قد كنت كارها لأمركم،فأبيتم إلا أن أكون عليكم،ألا و إنه ليس لي أمر دونكم،ألا إن مفاتح مالكم معي،ألا و إنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم،رضيتم؟قالوا:نعم،قال:اللهم اشهد عليهم.ثم بايعهم على ذلك» (2) .

كان الإمام علي (ع) يعلم أن العدالة الاسلامية التي أراد تطبيقها في حكومته ستكون‏ثقيلة على نفوس المنتفعين و الوصوليين و الانتهازيين الذين استغلوا الظروف السائدة في زمن الخليفة عثمان فانتهبوا الأموال،و تمتعوا بالإمتيازات و اكتنزوا الذهب و الفضة،بسبب القرابة أو العشيرة أو كونهم من أنصار هذا الطرف أو ذاك،لذلك حاول أن يفهم الذين بايعوه بأن نهجه في التعامل معهم سيكونـكما أمر به الاسلامـ،و ان موافقتهم على مبايعته يجب أن لا تتم من خلال فورة عاطفية،بل عن قناعة تامة عما هم عليه مبايعون.

و قد صح ما توقعه الإمام علي (ع) من أن تطبيقه للعدالة الاسلامية سيثير غضب رجالات قريش الذين دأبوا على العيش برفاهية مما ينهبونه من أفواه الجياع و المحرومين،و كبر عليهم أن ينهج الإمام علي (ع) نهج المساواة في الحقوق،فلا يميز بين حر و عبد،و بين أسود و أبيض،و بين عربي و عجمي،و كان الجميع أمامه سواسية كأسنان المشط،أليس هو خليفتهم جميعا دون تمييز؟

فقد أنكر الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله على الإمام (ع) سياسته تلك و اعتبراها مخالفة للنهج الذي ألفه الناس:

فقال لهما الإمام (ع) :ما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟قالا:إنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا،و سويت بيننا و بين من لا يماثلنا فيما أفاء الله علينا بأسيافنا و رماحنا و أوجفنا عليه بخيلنا و رجلنا و ظهرت عليه دعوتنا،و أخذناه قسرا قهرا ممن لا يرى الاسلام إلا كرها (3) .

فقال الإمام (ع) لهما:«لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا،ألا تخبراني أي شي‏ء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه؟أم أي قسم استأثرت عليكما به؟أم أي حق رفعه إلي أحد من المسلمين ضعفت عنه؟أم جهلته،أم أخطأت بابه؟

و الله ما كانت لي الخلافة رغبة،و لا في الولاية إربة،و لكنكم دعوتموني إليها،و حملتموني عليها،فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله،و ما وضع لنا،و أمرنا بالحكم به،فاتبعته،و ما استن النبي (ص) ،فاقتديته،فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما،و لا رأي غيركما و لا وقع حكم جهلته فاستشير كما و إخواني من المسلمين،و لو كان ذلك لم أرغب عنكما،و لا عن غيركما .

و أما ما ذكرتما من أمر الاسوةـالتسوية في العطاءـفإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي،و لا وليته هوى مني،بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول الله (ص) قد فرغ منه،فلم أحتج إليكما فيما قد فرغ الله من قسمه،و أمضى فيه حكمه،فليس لكما،و الله،عندي و لا لغير كما في هذا عتبى،أخذ الله بقلوبنا و قلوبكم إلى الحق،و ألهمنا و إياكم الصبر،رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه،أو رأى جورا فرده،و كان عونا بالحق على صاحبه» (4) .

و هكذا تختلف المنطلقات و المفاهيم،ينطلق علي (ع) مما يأمر به الله تعالى و رسوله (ص) بينما تنطلق«المعارضة»مما توحي به مصالحها.

و شتان بين منطلق يرمي إلى تحقيق متطلبات الرسالة و مصلحة مجموع الامة،و منطلق مادي لا يرى غير المصلحة الذاتية المحدودة!

و قد جابه الإمام علي (ع) أكبر مشكلة في تاريخ خلافته،ألا و هي الولاة الذين كانوا يحكمون الأقاليم الاسلامية،الذي عينوا على عهد عثمان بن عفان،و كان أغلبهم ظالما جائرا غير أمين على أموال المسلمين و أرواحهم و أعراضهم،و هم يعلمون عدالة علي و شدة تمسكه بالإسلام،لذا حاولوا التفاوض معه لأجل إبقائهم في مناصبهم و امتيازاتهم،فرفض بمبدئيته المعهودة التي لا تلين كل ما جاؤوا أو حاولوه.

وصل أحد أفراد تلك الطبقة المترفة إلى منزل الإمام علي و طلب الانفراد به،و تقدم إليه بنصيحة هي أن يبقي ولاة عثمان لمدة عام واحد في مناصبهم،فإذا بايعوه و استتب له الأمر فبإمكانه أن يقوم بعزلهم من أعمالهم إن أراد ذلك،فرد عليه الإمام‏انه لا يداهن في دينه و لا يساوم.

فعرض عليه المغيرة عرضا آخر هو أن يترك معاوية بن أبي سفيان حاكما في بلاد الشام،و فسر ذلك بقوله:«ان لمعاوية جرأة،و هو في أهل الشام يسمع منه»فرد الإمام علي:«لا و الله،لا أستعمل معاوية يومين أبدا» (5) .

و السبب في رفض الإمام للتعامل مع اولئك الولاة و اقرارهم في أعمالهم:

1ـأن أغلبهم كان ظالما و قد كانت أعمال الكثيرين منهم سببا في إثارة نقمة المسلمين على الخليفة عثمان و قتله في نهاية الأمر.

2ـأن منهجه الثوري الذي أراد فيه إصلاح امور الامة المتردية كان يقتضي الاعتماد على عناصر متدينة مؤمنة بمنهجه الذي لا يعطي اعتبارا لأي شي‏ء سوى رضى الله سبحانه و تعالى الذي لا يرضى بظلم أحد.

3ـأن إقراره اولئك الولاة في أعمالهم و لو إلى حين،سوف لا يسمح له بعزلهم فيما بعد،إذ سيجعل الامة تتساءل:إذا كانوا غير لائقين فعلام أقرهم؟،و طن كانوا لائقين فلما ذا يعزلهم اليوم من مناصبهم؟

4ـأن الإمام (ع) إذا أقر اولئك الولاة في مناصبهم فإن أي ظلم و اعتداء أو ارتكاب محرم يصدر منهم يستحمل مسؤوليته هو لا سيما و هو يعلم حالهم،فمن حقه الشرعي أن لا يقر أحدا منهم في منصبه.

5ـأن إقرار الإمام علي (ع) لأي من هؤلاء الولاة الفاسقين سيعطي سابقة تاريخية و شرعية تسوغ و تجوز تعيين الولاة الفسقة أو إقرارهم في مناصبهم بحجة المصلحة الشرعية أو السياسية أو غير ذلك.

موقف معاوية

و كما قال المغيرة بن شعبة،فقد كان معاوية بن أبي سفيان أكثر الولاة جرأة في‏حربه لخليفة المسلمين الشرعي الإمام علي.

فلما أن تناقلت الأنباء أمر استخلاف الإمام علي و نهوضه بأعباء قيادة الامة حتى فزع معاوية بن أبي سفيان،الذي كان يخطط منذ سنين لأن يكون هو الخليفة،إضافة إلى تمتعه بالملك الواسع الذي هو فيه،بل إن رسالة عاجلة من رفيقه عمرو ابن العاص قد وصلته تفصح عن هذا المعنى عند ما كتب إليه يطلعه على حقيقة الموقف في عاصمة رسول الله (ص) :

«من عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان:أما بعد،ما كنت صانعا فاصنع،إذ قشرك ابن أبي طالب من كل ما تملكه كما تقشر عن العصاء لحاها» (6) .

و هكذا حرض ابن العاص معاوية ضد الإمام علي و جاءه من الباب الذي يعلم حساسيته لدى معاوية،باب الملكية و السلطان عند ما قال:«قشرك ابن أبي طالب من كل ما تملكه»،ضاع الملك إذن،لذا كان لا بد لمعاوية من أن يدافع عن امتيازاته و ثرواته بأي ثمن كان،حتى لو أدى ذلك إلى إبادة المسلمين و تدمير الاسلام و إراقة الدماء في كل أنحاء الدولة الاسلامية،فالمهم هو الملك و السلطان.

حاول الإمام علي أن يقضي على الفتنة التي بدأت تلوح في الافق بالطرق السلمية،فأرسل كتابا إلى معاوية يستقدمه فيه إلى المدينة،فلم يستجب معاوية لذلك،بل و لم يرد بجواب على كتاب الإمام علي (ع) (7) .

و بعد مضي ثلاثة شهور على مقتل عثمان،و قيام الإمام علي (ع) بالأمر يشهر معاوية سلاح المطالبة بدم عثمان،متخذا منه ذريعة للخروج على إمام زمانه.

و قد بدأت معارضته بنشر ثوب عثمان الدامي في مسجد دمشق و شعيرات من لحيته،و قد جمد عليها الدم،و راح يستثير أهل الشام للنهوض من أجل عثمان و الانتقام ممن قتله،و من ثم أرسل رسولا إلى الإمام (ع) حتى إذا وصل الرسول إلى المدينةالمنورة جعل يسير في دروبها،و هو يحمل صحيفة مختومة مكتوبا عليها«من معاوية إلى علي»و هو عنوان يثير الدهشة لدى الناس فهو خال من كل لياقة و كياسة،كما يشير إلى أن مرسله لا يحمل إلى زعيم المسلمين أي شعور بالاحترام و التقدير.

و فض الإمام على (ع) صحيفة معاوية،فوجدها بيضاء لا حرف فيها فسأل رسول معاوية:ما وراءك؟

قال بعد أن استأمن الإمام (ع) :إني تركت ورائي أقواما يقولون لا نرضى إلا بالقود.

قال الإمام (ع) :ممن؟قال:يقولون من خيط رقبة علي،و تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان،و هو منصوب لهم قد ألبسوه منبر مسجد دمشق،و أصابع زوجته نائلة معلقة فيه.

فقال الإمام:«أمني يطلبون دم عثمان،اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان» (8) .

ثم أمر الإمام (ع) رسول الشام أن يغادر بعد أن منحه الأمان.

و منذ ذلك التاريخ بادر الإمام (ع) بتجهيز جيشه لإخماد حركة البغاة التي قادها معاوية في الشام.

تعليقات:

1ـأي ترددوا على الإمام علي (ع) يعرضون عليه أن يقبل الخلافة.

2ـتاريخ الطبري/ج 3/باب خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب/ص .450

3ـابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/دار إحياء الكتب العربية (مصر) /ط 2 سنة 1965 م/ج 7/ص .41

4ـنهج البلاغة/رقم النص .205

5ـالطبري/تاريخ الطبري/ج 3/باب خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) /ص .461

6ـالإمام علي و فضائله/دار مكتبة الحياة (بيروت) /ص .175

7ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ط النجف/ص 64،نهج البلاغة/رقم .75

8ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .67