الموقف الانساني

غير أن الإمام ظل ملتزما بالصبر و الأناة و بما امتاز به من الروح الانسانية الرفيعة،فها هو يخاطب جيشهـبعد اندلاع القتال،و بعد أن ذهبت كل محاولاته لاصلاح الموقف سدىـملزما أصحابه بأرفع الأخلاق التي يريد الله سبحانه من المسلم الالتزام بها في ساحة الحرب:

«أيها الناس!انشدكم الله أن لا تقتلوا مدبرا،و لا تجهزوا على جريح،و لا تستحلوا سبيا،و لا تأخذوا سلاحا،و لا متاعا» (1) ،موضحا بذلك أحكام شريعة الله تعالى في البغاة.

ثم دعا ربه الأعلى سبحانه مستجيرا من الفتنة التي فجرها الناكثون معلنا براءته منها أمام الله الكبير المتعالي.

فبعد أن رفع يديه إلى السماء قال:«اللهم إن طلحة و الزبير أعطياني صفقة أيديهما طائعين،ثم نصبا لي الحرب ظاهرين،اللهم:فأكفنيهما بما شئت و كيف شئت...» (2) .

و حين أسفرت المعركة عن انتصار ساحق لمعسكر الإمام (ع) على خصومه أعلن الإمام العفو العام عن جميع المشتركين في حربه:

«ألا لا يجهز على جريح،و لا يتبع مول،و لا يطعن في وجه مدبر،و من ألقى السلاح فهو آمن،و من أغلق بابه فهو آمن،و لا يستحلن فرج و لا مال،و انظروا ما حضر به الحرب من آنية فاقبضوه،و ما كان سوى ذلك،فهو لورثته،و لا يطلبن عبد خارج من المعسكر،و ما كان من دابة أو سلاح فهو لكم،و ليس لكم ام ولدـالأمة استولدت ذكرا أو انثىـو المواريث على فريضة الله،و أي امرأة قتل زوجها،فلتعتد أربعة أشهر و عشرا».فقال بعض أصحابه:يا أمير المؤمنين!تحل لنا دماؤهم و لا تحل لنا نساؤهم؟

فقال (ع) :«كذلك السيرة في أهل القبلة» (3) .بيد أن بعضا من جيشه كانوا يرغبون في الحصول على مغانم أكبر مما حدده الإمام (ع) .فقام له رجل قائلا:يا أمير المؤمنين!و الله ما قسمت بالسوية و لا عدلت في الرعية.قال الإمام (ع) :و لم؟ويحك!قال:لأنك قسمت ما في المعسكر و تركت الأموال و النساء و الذرية!!

فقال له الإمام (ع) موضحا فلسفة ذلك الموقف الكريم الذي التزمه:

«يا أخا بكر!إنك امرؤ ضعيف الرأي أو ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير،و أن الأموال كانت لهم قبل الفرقة و تزوجوا على رشدة و ولدوا على الفطرة،و إنما لكم ما حوى عسكرهم،و ما كان في دورهم،فهو ميراث لذريتهم،فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه،و إن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره.

يا أخا بكر!لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله (ص) في أهل مكة:قسم ما حوى العسكر،و لم يعرض لما سوى ذلك و انما اتبعت أثره.

يا أخا بكر!أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها؟

و أن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق» (4) .

هذه بعض مصاديق الموقف الانساني الفريد الموافق لأمر الله و المطابق لشريعته الغراء الذي التزم به الإمام (ع) في معاملة المنهزمين من خصومه،إنه موقف لا ترى فيه للعاطفة و الاندفاع و التشفي أثرا،إنه موقف جسد فيه الإمام حكم الله تعالى.و هل غير علي (ع) جدير بتجسيد حكم شريعة الله فيما شجر بين الناس بعد رسول الله (ص) ؟!و واصل الإمام (ع) خطواته الانسانية إزاء الناكثين بعد ذلك حيث أعاد عائشة إلى المدينة المنورة معززة مكرمة رغم موقفها منه.

و هكذا جسم (ع) الموقف لمصلحة الاسلام في فتنة البصرة،فأبدى خلاله و بعده أنبل المشاعر و أصدقها نحو المغرر بهم محاولا بذلك رأب الصدع و جمع الشمل و إعزاز الامة.

الإمام و حرب صفين (فتنة القاسطين)

كانت أكبر مشكلة جابهها الإمام (ع) أيام خلافته هي مشكلة الولاة الذين كانوا يحكمون الأقاليم الاسلامية و قد عينوا من قبل.

إن الولاة يجب أن يكونوا على مستوى عال من الورع و التقوى و الزهد و الإخلاص،حتى يكونوا قدوة للناس،و أئمة لهم نحو الهدى،و الصلاح في الوقت الذي كان أغلب الولاة المعينين سابقا يفتقدون هذه المواصفات،بل اتصف الكثير منهم بالفسق و الجور و التعدي على أموال الناس و أرواحهم.

و كان بعض هؤلاء الولاة ممن له ماض قذر و مشؤوم حيث كانوا أشد الناس عداوة و أذى لرسول الله (ص) ،و من نماذج هؤلاء:الحكم بن العاص الذي كان أشد الناس أذى لرسول الله (ص) حتى نفاه (ص) هو و ولده مروان من المدينة.

و منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي الكوفة أيام عثمان و الذي«كان زانيا شريب خمر،و كان له نديم نصراني» (5) ،و صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات و هو سكران،و منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري الذي كان كاتب الرسول (ص) و خانه في كتابته،فطرده الرسول و ارتد عن الاسلام و ولاه عثمان مصر.

و منهم معاوية بن أبي سفيان والي الشام و حاكمه بأسره من قبل،و كان يعيش مترفا منعما لا يحده شرع و لا يلتزم بدين.أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن بريدة،قال:دخلت أنا و أبي على معاوية،فأجلسنا على الفراش ثم اتينا بالطعام فأكلنا،ثم اتينا بالشرابـالخمورـفشرب معاوية ثم ناول أبي،ثم قالـوالد بريدةـما شربته منذ حرمه رسول الله (ص) (6) .

و يبدو أن معاوية لم يكن يتحرج من شرب الخمر،حتى أنها كانت تحمل له على الإبل تخترق الطرق و الأسواق،حتى مرت مجموعة من الإبل المحملة بالقرب على الصحابي عبادة بن الصامت،و كان آنذاك في الشام،فسأل:ما هذه؟أزيت؟

قيل:لا بل خمر تباع لفلانـمعاويةـ.

فأخذ شفرة من السوق و مزق بها تلك القرب.

و كان معاوية شديد البغض لعلي (ع) لأنه قتل أخاه حنظلة من المشركين يوم بدر،و خاله الوليد بن عتبة،و نفرا كثيرا من أقاربه الذين كانوا في جيوش الكافرين من قريش،و كان ذلك أحد الدوافع الأساسية وراء عدائه للإمام علي (ع) حتى أنه أمر بشتم الإمام من على منابر المساجد و في كل خطبة جمعة.

لذا فإن الإمام عليا (ع) لم يكن أمامه طريق و هو حامل راية الاسلام إلا تغيير هؤلاء الولاة و أمثالهم،و تعيين المؤمنين الصالحين من صحابة رسول الله (ص) و السابقين إلى الإيمان محلهم،و قد أثار ذلك هؤلاء القوم المتضررين،و وجدوا في معاوية ملجأ لهم،فانضموا إلى لوائه و أعلن معاوية تمرده على قرار الإمام بعزله،و رفض إطاعة الخليفة الحق،و بدأ يعد العدة للوقوف بوجه إمام زمانه ثم أخذ يحشد الجنود ليزحف إلى الكوفة و يثب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بايعه من قبل أهل بدر و المهاجرون و الأنصار،و في طليعتهم الزبير و طلحة!!

و كان قد اعتزل الناس نفر قليل من المهاجرين و الأنصار،فأرسل إليهم معاويةيستنصرهم فخذلوه،و ردوا طلبه ردا عنيفا،فكتب إليه محمد بن مسلمة الأنصاري:«و أما أنت،فلعمري ما طلبت إلا الدنيا،و لا اتبعت إلا الهوى،فإن تنصر عثمان ميتا،فقد خذلته حيا» (7) .

كان من أوائل المبايعين لمعاوية بالخلافة عمرو بن العاص الذي طالما حرض على قتل عثمان،و إذا به يقف بين الناس في الشام«يبكي كما تبكي المرأة،و يقول:وا عثماناه،أنعى الحياء و الدين،حتى قدم دمشق،و كان قد علم الذي يكون فعمل عليه» (8) ،اتجه إلى معاوية و قال له صراحة السبب الذي يدعوه إلى الوقوف بجانبه و ترك جانب علي بن أبي طالب،قال له بعد أن ذكره بسابقة علي (ع) في الاسلام،و فضله و قرابته من رسول الله (ص) :«إنما أردنا هذه الدنيا» (9) .

و قد أعطاه معاوية دنياه جزاء موقفه معه.

و بعد أن تم لعلي (ع) النصر في البصرة عاد بجيشه إلى الكوفة،فعزز الجيش و عزم على التوجه إلى الشام لتصفية المعارضة الباغية التي يقودها معاوية بن أبي سفيان هناك.

سار الإمام علي (ع) على رأس جيشه،غير أن أنباء مسير الإمام (ع) نحو الشام قد بلغت القاسطين هناك،فقرروا ملاقاة الزحف الاسلامي فتلاقى الجيشان عند نهر الفرات في صفين.

و بدأ الإمام (ع) يبذل مساعيه لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية،فأرسل و فدا ثلاثيا إلى معاوية،يدعوه إلى تقوى الله و الحفاظ على وحدة الصف و الدخول في إجماع الامة«اذهبوا إلى هذا الرجلـمعاويةـو ادعوه إلى الله تعالى،و إلى الطاعة و الجماعة،لعل الله تعالى أن يهديه،و يلتئم شمل هذه الامة» (10) .و التقى الوفد بقائد البغاة،و أبلغوه بنوايا الإمام (ع) و وضعوه أمام الله تعالى و حذروه مغبة ما يقدم عليه،غير أن معاوية أبدى إصرارا،و قد ختم رده على الوفد:«انصرفوا عني فليس عندي إلا السيف» (11) .

و على أن الموقف الأموي ذاك لم يصرف الإمام (ع) عن التسلح بالصبر و الأناة و لم يثر فيه روح التعجيل بالمواجهة الصارمة حقنا للدماء و حفاظا على نفوس الامة.

بيد أن الموقف الانساني الذي التزمه الإمام (ع) لم يزد القوى الباغية إلا إصرارا،فعملوا من جانبهم على الحيلولة دون حصول جيش الإمام (ع) على الماء،حيث سبق أن تحرك فيلق لهم و اتخذ مواقعه عند ماء الفرات ليمنع جند الإمام من الماء.

و بالنظر لأهمية الماء في الاستراتيجية العسكرية و لعدم توفر مصدر آخر لجيش الإمام غير الفرات،فإن الإمام (ع) قد التزم الأناة أيضا في معالجة الموقف.

فأرسل رسولا إلى معاوية ليبلغه:«ان الذي جئنا له غير الماء،و لو سبقناك إليه لم نمنعك عنه».

فرد عليهم معاوية بقوله:«لا و الله و لا قطرة حتى تموت ظمأ» (12) !!

الأمر الذي اضطر الإمام (ع) إلى استعمال العنف في الحصول على الماء لجيشه،حيث لا بديل للعنف.

و هكذا حرك الإمام (ع) فرقة من جيشه لانهاء الحصار المضروب عليهم،فانهزم فيلق معاوية شر هزيمة.

و بعد أن صار الماء في نطاق نفوذ جيش الإمام (ع) أذن للباغين بالتزود منه متى شاؤوا،مجسدا بذلك بندا من أخلاق الاسلام العظيمة في هذا المضمار.

فأعظم بعلي من محارب نبيل،و أكرم به من صاحب قلب كبير،و حيث إن هم‏الإمام (ع) أن يحقن دماء المسلمين و يصونهم من التمزق،و يدرأ التصدع عن صفهم،فقد طلب من معاوية أن ينازله إلى ميدان القتال فيتقاتلا دون الناس لكي تكون إمامة الامة لمن يغلب:«يا معاوية!علام يقتتل الناس؟ابرز إلي ودع الناس،فيكون الأمر لمن غلب» (13) .

إلا أن معاوية قد رفض خوفا من بطش الإمام (ع) ،و على الرغم من أن الجيش الأموي قد بدأ القتال من جانبه،فإن الإمام (ع) قد التزم بضبط النفس كذلك و حاول أن يحصر القتال في حدود المبارزة المحدودة (14) .

و لما لم تلق محاولات الإمام (ع) لرأب الصدعـالذي خلفه معاوية في صف الامةـاستجابة،تفجر الموقف بحرب واسعة النطاق استمرت اسبوعين دون هوادة.

و قد لاحت تباشير النصر لمعسكر الإمام (ع) و أوشكت القوى الباغية على الانهزام،فدبروا (خدعة المصاحف) فرفعوها على رؤوس الرماح و السيوف،مما نجم عن تلك الخطة الماكرة تغير جوهري في الموقف العام.

و لقد كان لرفع المصاحف من قبل معسكر معاوية صدى في معسكر الإمام (ع) إذ سرعان ما سارت كثرة كاثرة من جيشه مطالبة بإيقاف القتال،فكثر اللغط بين الصفوف و آثر الآلاف ترك الحرب .

و مع أن الإمام (ع) تصدى لكشف خلفيات رفع المصاحف و استعمل كل وسائله الاقناعية في البرهنة على كونها خدعة يراد بها عرقلة تحقيق النصر الذي بات و شيكا لجيش الإمام (ع) ،إلا أن المطالبين بإيقاف القتال لم يستجيبوا لنداءاته المتكررة في هذا المضمار،و لعل بعضهم استعمل لغة التهديد للإمام (ع) (15) .

و اضطروه أن يبعث الأشعث بن قيس إلى معاوية للتعرف إلى ما يريد من وراءرفعه للمصاحف،فعاد يحمل رغبة معاوية في التحكيم،ثم تلي ذلك الفصل الثاني من المأساة،فاختارت الغوغاء أبا موسى الأشعري لتمثيل معسكر الإمام (ع) بينما اختار معاوية ابن العاص،على أن الإمام (ع) قد رفض فكرة تمثيل الأشعري لمعسكره باعتبار أن الأشعري كان معتزلا للإمام (ع) ،و لم يكن يرى في الإمام أهلا لتولي الخلافة بعد عثمان (16) ـهو و آخرون ممن اعتزلوا الإمام (ع) ـو كان يخذل الناس عن نصرة الإمام،مما حمل الإمام على عزله من ولاية الكوفة (17) .

و قد رجح الإمام (ع) أن يكون الممثل لمعسكره في التحكيم عبد الله بن عباس،غير أن الغوغاء أصروا على اختيار أبي موسى الأشعري على الرغم من تأكيد الإمام على ضعفه و وهن رأيه إضافة إلى مرتكزاته الفكرية و موقفه من حكومة الإمام (ع) .

و ها هو الإمام (ع) يخاطب المخدوعين بقوله:«قد عصيتموني في أول الأمرـيشير إلى قبول التحكيم و إيقاف القتالـفلا تعصوني الآن،لا أرى أن تولوا أبا موسى الحكومة فإنه يضعف عن عمرو و مكائده» (18) .

إلا أنهم أصروا على اختيار الأشعري.

و من هنا فإن الباحث البصير لا يمكن أن يركن إلى الاعتقاد بأن تلك الامور قد جرت بشكل عفوي أبدا،فإن سير الأحداث لا يدل على ذلك،إذ أن رفع المصاحف كان قد جرى بتوقيت و تنسيق بين معاوية و حركة موالية له في جيش الامام (ع) لا بد أن يكون له اتصال معها.

فما أن ارتفعت المصاحف حتى استجاب اولئك لإيقاف القتال مستفيدين من سأم الناس من القتال،فوسعوا قاعدتهم في صفوف معسكر الإمام (ع) و فرضواعليه التحكيم،ثم فرضوا ممثل معسكره في التحكيم فيما بعد.

و هكذا فلا نعتقد بحال أن لا تكون حركة التمرد في جيش الإمام (ع) بذلك الشكل الذي ذكره المؤرخون لا تعتمد على تخطيط أموي مسبق أبدا.

و قد جاءت نتائج التحكيمـكما توقع الإمام (ع) ـلصالح البغاة في الشام حيث بدأ الأمر يستتب لمعاوية شيئا فشيئا.

تعليقات:

1ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 79،سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص.

2ـالمصدر السابق.

3ـالعسكري/أحاديث ام المؤمنين عائشة/ص 181،نقلا عن اليعقوبي و كنز العمال.

4ـالمصدر السابق/ص 182،نقلا عن و كنز العمال/هامش 260/ج 8/ص 215ـ216،و منتخب الكنز.

5ـعمر بن شبة/تاريخ المدينة/ج 3/ص .974

6ـمسند أحمد بن حنبل/ج 5/ص .347

7ـالشرقاوي/علي إمام المتقين/ج 2/ص .6

8ـابن الأثير/الكامل في التاريخ/ج 3/ص .274

9ـالمصدر السابق/ص .276

10ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .87

11ـالمصدر السابق.

12ـابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص .23

13ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 90،سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص،بلفظ متقارب .

14ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .88

15ـسبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص .96

16ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 95،سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص .96

17ـسبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص .96

18ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص .96