و من توجيهاته عليه السلام لجباة الأموال:

«إنطلق على تقوى الله وحده لا شريك له،و لا تروعن مسلما،و لا تجتازن عليه كارها،و لا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله،فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم،ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار،حتى تقوم بينهم،فتسلم عليهم،و لا تخدج بالتحية لهم،ثم تقول:

عباد الله أرسلني إليكم ولي الله،و خليفته،لآخذ منكم حق الله في أموالكم،فهل لله في أموالكم من حق،فتؤدوه إلى وليه» (1) .

«إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج،أو تبيع دابة عمل في درهم،فإنما امرنا أن نأخذ منهم العفو» (2) .

و من تعليماته لجيوشه:

و لقد كان (ع) يوصي جنوده في حالات الحرب بأن لا يبدؤوا بقتال العدو،حتى يبدأهم بالحرب،و لا يقتلوا من ولى دبره عن قتالهم،و لا يقتلوا الجريح و من عجزعن حماية نفسه أثناء الحرب،و لا يؤذوا النساء بشي‏ء حتى و إن بدأن بسب أو شتم. (3) و نحو ذلك من وصاياه(ع) .

فهل نرى عدلا رفيعا كهذا العدل؟

بل هل حدث التأريخ الانساني عن رجل يحب الخير حتى لخصومه الذين ناصبوه العداء؟

إنه علي (ع) صاحب القلب الكبير،الذي شمل الناس بحب غامر،فبسط لهم العدل في حياتهم،و أشعرهم بحقيقة الكرامة الانسانية،و وفر لهم غطاء من الأمن و الإستقرار في جو الشعور بالمساواة و الحياة الحرة الكريمة.

ثانياـتواضع الإمام:

خلق التواضع في معاملة الناس،بقدر ما يكون عبادة اسلامية يندب الشرع الإلهي إليها،كذلك يعبر عن إحدى صيغ التعامل الفاضل بين أبناء الامة،فهو من وسائل توحيد الكلمة و جمع الشمل،و إشاعة المودة و إلغاء التفاوت الطبقي.

و لقد كان الإمام علي (ع) مثلا أعلى في تواضعه،كما كان رسول الله (ص) من قبل.

و سيرته العطرة تطرح المزيد من الشواهد على ذلك الخلق الاسلامي الرفيع:

يقول الإمام الصادق (ع) :«كان أمير المؤمنين (ع) يحطب و يستسقي و يكنس،و كانت فاطمة تطحن و تعجن و تخبز» (4) .

و كان الإمام (ع) يشتري حاجته و حاجة اسرته الكريمة من السوق بنفسه،و يحملها بيده،و هو أمير المؤمنين،الذي يحظى باحتلال أرفع مركز في حياة المسلمين،و لقدكان الناس يسرعون إليه لحمل أشيائه حين يرون ذلك منه،و لكنه يأبى عليهم و يقول:«رب العيال أحق بحمله» (5) .

و كان (ع) يسير في الأسواق وحده،لا يصحبه حشم و لا خدم،و لا جند،فيرشد الضال،و يعين الضعيف،و يمر بالبقالين و التجار و يأمرهم بالتواضع و حسن المعاملة و يتلو عليهم قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين) (6) .

و من عظيم تواضعه (ع) أنه خرج يوما على أصحابه،و هو راكب،فمشوا خلفه،فالتفت إليهم فقال :

« (ألكم حاجة؟) قالوا:لا،يا أمير المؤمنين!و لكنا نحب أن نمشي معك،فقال لهم: (إنصرفوا فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب و مذلة للماشي) » (7) .

و قد استقبله زعماء الأنبار و ترجلوا و أسندوا بين يديه فقال (ع) :

« (ما هذا الذي صنعتموه؟) قالوا:خلق منا نعظم به امراءنا.فقال (ع) : (و الله ما ينتفع بهذا امراؤكم،و إنكم لتشقون به على أنفسكم،و تشقون به في آخرتكم،و ما أخسر المشقة وراءها العقاب،و ما أربح الراحة معها الأمان من النار) » (8) .

و من أدبه الكامل تسليمه على النساء (9) من قومه،و مشيه مع المرأة لقضاء شأن من شؤونها،حتى و إن جلب له الأمر مشقة،فعن الإمام الباقر (ع) قال:

«رجع الإمام علي (ع) إلى داره في وقت القيظ،فإذا امرأة قائمة تقول:إن زوجي ظلمني،و أخافني،و تعدى علي.فقال الإمام: (يا أمة الله!اصبري حتى يبرد النهارثم أذهب معك إن شاء الله) ،فقالت:يشتد غضبه علي.فطأطأ الإمام (ع) رأسه ثم رفعه و هو يقول: (لا و الله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع!أين منزلك؟) ،و وقف الإمام (ع) على باب المنزل فقال: (السلام عليكم) ،فخرج الشاب.فقال له الإمام (ع) : (يا عبد الله،إتق الله،فإنك قد أخفتها و أخرجتها !) فقال الفتى:و ما أنت و ذاك؟فقال أمير المؤمنين: (آمرك بالمعروف،و أنهاك عن المنكر،تستقبلني بالمنكر و تنكر المعروف؟) فأقبل الناس من الطرق يلقون التحية على الإمام (ع) و يقولون :سلام عليكم يا أمير المؤمنين!فسقط في يديه،فقال:يا أمير المؤمنين!أقلني عثرتي،فو الله لأكونن لها أرضا تطأني.فالتفت الإمام إلى المرأة قائلا: (يا أمة الله!ادخلي منزلك و لا تلجئي زوجك إلى مثل هذا و شبهه) » (10) .

و كان الإمام (ع) قريبا سهلا هينا يلقى أبعد الناس و أقربهم بلا تصنع و لا تكلف،و لم يحط نفسه بالألقاب و لا زخرفة الملك،بل كان يتعامل مع الامة كفرد منها،يعايش مشاكل الضعفاء،و يحب المساكين،و يتودد للفقراء،و يعظم أهل التقوى من الناس.

و لقد كان من شواهد رفقه بالامة و تواضعه في المعاملة و سهولته،و مرونته:مقابلته لمن يلقاه بطلاقة المحيا و الإبتسامة الحلوة و بشر الوجه،و إلغاء منه للحواجز و الرسميات بين القيادة و الامة،و إنهاء لدور الزخرفة و الألقاب التي يحيط بها الامراء و القادة أنفسهم عبر تعاملهم مع الناس.

و لاشتهاره بتلك الروح الاجتماعية السمحة بين عامة الناس،حاول أعداؤه أن يشوهوا تلك الميزة في الإمام (ع) و يحولوها إلى عيب ينبزونه فيه،إمعانا منهم في تشويه واقع خطه و سياسته و جميل صفاته الشخصية و الاجتماعية.

فعمرو بن العاص يحدث أهل الشام عن علي (ع) فيقول:أنه ذو دعابة شديدة،محاولا بذلك الانتقاص من شأن الإمام (ع) ،و الإمعان في تغطية فضائله،و العمل‏على كل ما من شأنه تضليل الناس هناك لكي يحال بينهم و بين التطلع لواقع الإمام (ع) و حقيقته.

حتى أن الإمام (ع) حين بلغه افتراء ابن العاص قال:

«عجبا لابن النابغة!يزعم لأهل الشام أن في دعابة و إني امرؤ تلعابة» (11) .

و لقد كان معاوية بن أبي سفيان يشيع ما يشيعه ابن العاص كذلك في مناسبة و اخرى.

و ما يضر أمير المؤمنين (ع) إذا عابه معاوية و ابن العاص،فلقد كان (ع) يقتفي أثر رسول الله (ص) في سماحة أخلاقه و طلاقة محياه سواء بسواء.

و كان (ع) يعمل على الالتصاق بالناس للتعرف إلى ما يعانون حتى أنه كان يمشي في الأسواق و يتابع الحركة التجارية من ناحية الوزن و الأسعار و نوعية المعروض من السلعـكما ألمحنا فيما سبقـ.

و كان الإمام (ع) حريصا على متابعة تصرفات الولاة في البلدان،و القادة وجباة الأموال،و يأمرهم بالرفق و التواضع في معاملة الناس.

و ما أروع روح التواضع عند علي (ع) ،كما يصفها ضرار بن ضمرة في حديثه لمعاويةـالذي افتتحنا به هذا الفصلـ:«يعجبه من اللباس ما خشن،و من الطعام ما جشب،كان و الله كأحدنا،يجيبنا إذا سألناه،و يبتدئنا إذا أتيناه،و يأتينا إذا دعوناه،يعظم أهل الدين،و يحب المساكين» (12) .

ثالثاـحلم الإمام:

و لقد كان الإمام (ع) قمة في حمله و عفوه عمن يسي‏ء الأدب معه،فهو لا يعرف الغضب إلا حين تنتهك للحق حرمته،أو تتعدى حدود الله تعالى،أو يتعدى على‏حقوق الامة و تضر مصلحتها .

و خلق الإمام (ع) في الحلم و الصفح عن المسي‏ء ظل هو هو لم يتغير،فعلي (ع) في صفحه و حلمه قبل خلافته،كعلي في صفحه و عفوه أيام قيادته المباشرة للامة،على أن عظمة الإمام (ع) تزداد قوة و جلاء حين يظل يصفح و يمعن في عفوه حتى عن أشد خصومه،في وقت يمتلك القدرة على العقاب و الإرهاب و القتل.

فهو في أيام خلافته في مركز يؤهله أن يقتص من خصومه،لأنه رئيس الدولة،و المطاع الأول بين أتباعه،غير أنه مع هذا و ذاك ظل يحمل نفس الروح من العفو و التجاوز،كما كان رسول الله (ص) قبله سواء بسواء.

و هذه نماذج من عفوه:

أسر مالك الأشتر (رض) مروان بن الحكم يوم الجمل،فلما مثل مروان بين يدي الإمام (ع) لم يستقبله بسوء قط،و إنما عاتبه على موقفه الخياني اللئيم فحسب (13) ،ثم أطلق سراحه،و مروان هو هو في حقده على الاسلام و الإمام (ع) ،و هو هو في دسائسه و مكره،و دوره الخبيث في تأجيج الفتن في وجه الإمام (ع) أشهر من أن تذكر،فهو الذي عارض البيعة للإمام (ع) ،و هرب من المدينة المنورة بعد البيعة مباشرة،و هو الذي ساهم في فتنة البصرة،و ألهب الناكثين و أغراهم بالتعجيل بها،إلى غير ذلك من مواقفه الخسيسة.

و لقد عفا الإمام (ع) كذلك عن عبد الله بن الزبير (14) ،بعد أسره يوم الجمل،و عبد الله بن الزبير هو الذي كان يقود الفتنة في حرب الجمل.

و جي‏ء بموسى بن طلحة بن عبيد الله،و كان طرفا في فتنة الجمل،فلما وقف بين يدي الإمام (ع) خلى سبيله،و لم يعنفه عن دوره في الفتنة،و إنما طلب منه أن يستغفر الله و يتوب إليه ثم قال:«إذهب حيث شئت،و ما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه،و اتق الله فيما تستقبله من أمرك و اجلس في بيتك» (15) .

و من عظيم عفوه ما رواه الإمام الباقر (ع) قال:«كان علي (ع) إذا أخذ أسيرا في حروب الشام أخذ سلاحه و دابته و استحلفه أن لا يعين عليه» (16) .

أرأيت موقفا إنسانيا كهذا الموقف؟

لقد كان الإمام (ع) مدركا أن الذين يقاتلونه من أهل الشام إنما يقاتلونه و هم عن حقيقته غافلون،فقد أغراهم معاوية بالمال،و سد عليه منافذ التفكير و الوعي على الحقائق،بما استخدمه من وعاظ سوء،و واضعي حديث،ممن باعوا ضمائرهم للانحراف صوب الجاهلية.

و بناء على هذا الوعي العلوي لحقيقة مقاتليه ممن أغراهم معاوية و غرر بهم،فقد سبق حلم الإمام (ع) عدله في معاملتهم فلم يعاقب من اتخذ منهم أسيرا،و إنما يجرده من أداة الشر،و يضعه أمام الله و الضمير،كي لا يعود لقتال معسكر الحق الذي يقوده الإمام (ع) .

و يذكرنا هذا الموقف الكريم بموقف معاوية و عمرو بن العاص اللذين كانا يصران على قتل الأشراف من جيش الإمام (ع) ،بيد أنهما خشيا الفضيحة إذا أقدما على ذلك بعد أن خلى الإمام (ع) عن أسراهم ابتداء،فعدل معاوية و صاحبه عن موقفهما،لا لطيب خلق منهما،و إنما خشية نقمة الرأي العام الاسلامي (17) .

و لم نذهب بعيدا و تلك معركة صفين تحمل أحداثها الكثير الكثير من مواقف الصفح العلوي،فحين سبق جيش معاوية إلى ماء الفرات أصر على منع الماء عن جيش علي (ع) ،فأوفد الإمام (ع) لمعاوية و فدا كي يغير موقفه،و لكنه مضى في‏إصراره و موقفه غير الأخلاقي.

فاضطر الإمام (ع) لتحريك قوة من جيشه لفك الحصار.و كانت النتيجة أن سيطر جيش الإمام (ع) على الماء،و لكنه (ع) حمله حلمه الرفيع و كرم نفسه على بذل الماء لخصمه قائلا لجنوده :

«خذوا من الماء حاجتكم و ارجعوا إلى عسكركم.و خلوا عنهم فإن الله عز و جل قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم» (18) .

و لقد كان مقدرا للإمام (ع) أن يذيقهم الهزيمة الشاملة لو أنه منعهم الماء،و حال بينهم و بينه،و لكنها الأخلاق الإلهية التي يتمسك بها،و يجسدها حية في دنيا الناس،تأبى عليه ذلك اللون من المواقف.لكي يقع التمييز بين منهج الهدى و الصراط المستقيم في الفكر و العمل الذي يمثله علي (ع) ،و بين سبيل الانحراف و الالتواء و فقد الأخلاق التي يجسدها معاوية بن أبي سفيان.

و لنا أن نعرض شواهد من حلم الإمام (ع) و عظيم صفحه في حياته الخاصة كذلك:

«دعا الإمام (ع) غلاما له مرارا فلم يجبه،فخرج فوجده على باب البيت فقال: (ما حملك على ترك إجابتي؟) قال:كسلت عن إجابتك،و أمنت عقوبتك.فقال (ع) : (الحمد لله الذي جعلني ممن تأمنه خلقه،امض فأنت حر لوجه الله) » (19) .

و قد خاطبه رجل من الخوارج بقوله:«قاتله الله كافرا ما أفقه!فوثب أصحاب الإمام (ع) ليقتلوه،فقال الإمام (ع) : (رويدا انما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) » (20) .

و هكذا شمل الرجل بعفوه،و حال بين القوم و بين معاقبته.و في سيرة الإمام (ع) الكثير من مثل هذه المواقف،التي تعبر عن خلق إلهي كريم،اطرت به شخصية علي (ع) ،على أننا لو غضضنا الطرف عن مواقف الحلم كافة التي اصطبغت بها حياة علي (ع) بالنسبة إلى المسيئين له أو أعدائه،لكان في موقف الإمام (ع) من قاتله ابن ملجم المرادي أعظم شاهد على تمتع الإمام (ع) بنمط من الأخلاق السامية،لم يتمتع بها سوى الأنبياء و المقربين إلى الله،فهل أنبأك التأريخ عن إنسان عامل عدوه بنفس الروح التي عامل بها علي (ع) قاتله،لقد شدد الإمام (ع) على أهل بيته أن يطعموا قاتله و يسقوه و يحسنوا إليه،فعن الإمام الباقر (ع) و هو بصدد ذكر إحدى وصايا الإمام أمير المؤمنين (ع) في آخر حياته يقول:

«إن علي بن أبي طالب (ع) ،قال للحسن و الحسين (ع) : (إحبسوا هذا الأسيرـيعني ابن ملجم المراديـو أطعموه و اسقوه،و أحسنوا أساره،فإن عشت فأنا أولى بما صنع في،إن شئت استقدت و إن شئت صالحت،و إن مت فذلك إليكم،فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا به) » (21) .

رابعاـالتورع عن البغي:

و التورع عن البغي أصل من اصول نفسية الإمام (ع) ،و خلق من أخلاقه الكريمة،و هو مظهر من مظاهر التقوى التي يمتاز بها،فهو يتحاشى البغي حتى على أشد الناس خصومة له و للحق الذي هو عليه،و حتى إذا بغي عليه يبقى مصرا على التزام خطه في النأي عما له صلة بأي لون من ألوان البغي.

و من أجل ذلك كان الإمام (ع) داعية السلم الأكبر،مع كثرة الشغب و الفتن التي أثارها النفعيون و الوصوليون في طريق مسيرته الاصلاحية:

بذل كل ما في وسعه أن يجنب الامة المسلمة سفك الدماء و تمزق الصف،حين ألح على الزبير و طلحة أن يعدلوا عن موقفهم،سواء من خلال المراسلة،أم الوفود أم‏اللقاءات الشخصية المباشرة معهما (22) .

و لقد بلغ الأمر بالإمام (ع) حين التقى الجيشان في البصرة أن يدعو الزبير فيخرج الإمام (ع) بغير سلاح،و يعانقه طويلا!و ربما بكى علي (ع) في ذلك الموقف،ثم عاتب الزبير على خروجه لقتاله،و ذكره بعلائق المودة القديمة بينهما كما ذكره بقول رسول الله (ص) فيهما :

«انشدك الله يا زبير أما تذكر،قال لك رسول الله (ص) : (يا زبير أتحب عليا) ،فقلت:و ما يمنعني من حبه،و هو ابن خالي؟فقال (ص) : (أما إنك ستخرج عليه و أنت ظالم له) .فقال الزبير .اللهم!بلى،قد كان ذلك» (23) .

و حين أفلت الزمام و أصر الناكثون على إشعال نار الحرب،بقي الإمام (ع) عند موقفه الرافض للبغي و العدوان،فلنصغ إليه و هو يخاطب جنوده:

«أيها الناس»انشدكم الله أن لا تقتلوا مدبرا،و لا تجهزوا على جريح،و لا تستحلوا سبيا،و لا تأخذوا سلاحا و لا متاعا» (24) .

و حتى بعد انتهاء المعركة بقي الإمام (ع) عند موقفه النائي عن العدوان،فأعلن العفو العام عن جميع المشتركين في حربه،القيادات و أتباعهم على حد سواء.

و ذلك الخلق العلوي تجلى في حوادث صفين من بدايتها إلى نهايتها:يقطع البغاة عنه طريق الوصول إلى الماءـو هو في حيويته لجيش مقاتل كبير مثل جيشهـفلا يبادر لاستعمال العنف،بل يرسل الوفود،و يبذل المحاولات لتغيير الموقف بالتي هي أحسن،لكي لا تراق للمسلمين دماء،و لكن البغي الأموي الحاقد الذي يجسده‏قولهم: (و لا قطرة حتى تموت ظمأ) (25) ،حمله على إصدار أوامره لقواته بالتحرك لكسر الحصار و هكذا كان،و حين امتلك الماء أباحه لجيش عدوه منذ الساعة الاولى من سيطرة قواته عليه.

و مع أصحاب النهروان بذل الإمام (ع) كل مسعى لأجل إبعاد الناس عن القتال،و لكن إصرارهم على قتال الإمام (ع) حال دون بلوغهم الصراط المستقيم،فعاثوا في الأرض فسادا و قتلوا نفوسا بريئة،و أثاروا البلبلة في البلاد،مما اضطر عليا (ع) إلى قتالهم،و لكن بعد محاولات عديدة منه أيضا لجمع الصف،و دعوات مستمرة لإقرار السلم و إلقاء السيف.

و في وصايا الإمام (ع) لجيوشه وجباة المال و الولاة،مؤشرات أخرى على التزام علي (ع) لمنهاج عدم البغي و عدم العدوان على أحد كائنا من كان،مما ذكرنا منه طرفا في الصفحات الماضية من هذا البحث.

و ما أعظم عليا أمير المؤمنين (ع) و هو ينص في عهده لمالك الأشتر على وجوب التزام الرفق بالناس،و عدم التعامل بأي لون من ألوان البغي و التعالي على الناس،و غمط حقوقهم المفروضة في شرع الله العظيم:

«و أشعر قلبك الرحمة للرعية،و المحبة لهم،و اللطف بهم،و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم،فإنهم صنفان:إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق،فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحب و ترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه.

أنصف الله،و أنصف الناس من نفسك و من خاصة أهلك،و من لك فيه هوى من رعيتك،فإنك الا تفعل تظلم،و من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده،و من خاصمه الله أدحض حجته،و كان الله حربا حتى ينزع،أو يتوب» (26) .و لم يكن منهاج علي (ع) هذا خاصا بأهل مصر،و إنما هو منهاجه الشامل لكل البلاد التي رفرفت راية دولته الكريمة عليها.

و لقد كان الإمام (ع) يعهد إلى ولاته في الأمصار مثل الذي عهده إلى مالك (رض) في وجوب إشاعة العدل،و الرفق بالناس،و عدم البغي عليهم بحال من الأحوال أو معاملتهم بأي لون من ألوان الظلم.

و لقد ذكرنا بعضا من وصاياه للولاة فيما مضى من حديث.

تعليقات:

1ـنهج البلاغة/رقم النص 5/باب الرسائل.لا تخدج بالتحية:لا تبخل بها عليهم.

2ـمن وصيته لصاحب الخراج على القادسية و سواد الكوفة.انظر بحار الأنوار/ج 41/ص 128،عن الكافي.و العفو:الفاضل عن النفقة.

3ـراجع نهج البلاغة/رقم النص 14/باب الرسائل و غيره.

4ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص .104

5ـالمصدر السابق.

6ـالمصدر السابق.

7ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 55،عن المحاسن.

8ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص .104

9ـالكليني/الكافي/ج 5/باب التسليم على النساء.

10ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص .106

11ـابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص 25.تلعابة:كثير المرح و اللعب.

12ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص .103

13ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 114.نهج البلاغة/نص .73

14ـابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص .22

15ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 50،نقلا عن المناقب.الكراع:جمع الخيل.

16ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص 114.عن ابن بطة و السجستاني.

17ـالمصدر السابق.

18ـمحمد رضا/الإمام علي بن أبي طالب (ع) /ص .173

19ـابن شهر آشوب/المناقب/ج 2/ص .113

20ـالمصدر السابق.

21ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 42/ص 206،عن قرب الإسناد.

22ـسبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص .69

23ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 79.و في تذكرة الخواص رواية مشابهة.ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص 176 مثلها.

24ـابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 79.و في تذكرة الخواص أيضا.

25ـالمجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 145.ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص .23

26ـعهد الإمام (ع) إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر/نهج البلاغة/رقم النص 53/ص .426