كتاب الإمام علي سيرة والتاريخ ص 43 ـ 54
3 ـ شعب أبي طالب :
اتخذت قريش شتى الأساليب لردع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه من المسلمين ، ولمَّا أنّ رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد ، اتفقوا بعد تفكير طويل على قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأجمع مَلَؤُها على ذلك ، وبلغ أبا طالب فقال :

والله لـن يصلـوا إليك بجمعهم * حتَّـى أُغيَّب في التراب دفينا
ودعوتنـي وزعمت أنَّك ناصِـحٌ * ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينـاً
وعرضت دينــاً قد علمتُ بأنَّه * من خير أديان البرية دينا (1)

ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر على قتله ، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه ، وسمعت بهذا من قول أبي طالب ، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ على مقاطعة بني هاشم واتباعهم وحصرهم في مكان واحد ، وقطع جميع وسائل العيش عنهم ، وألاّ يناكحوهم حتَّى يدفعوا إليهم محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم فيقتلوه ، والا يموتوا جوعاً وعطشاً ، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً.
وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار ، فشلَّت يده (2) وقيل. وقَّعها أربعون من زعماء مكَّة ، ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين (3) ، وذلك في أول المحرم من السنة السابعة لمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل : استمر نحواً
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 31.
2) و 3) نفس المصدر.

( 44 )

من سنتين أو ثلاث (1) ، حتَّى أنفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله ، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها ، وصاروا إلى حدِّ الضرِّ والفاقة ، واشتدت بهم الضائقة ، حتى اضطرتهم إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار ، ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ورعايته ، حتَّى لا يتسلَّل أحد من المكِّيين ليلاً لاغتياله ، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.
جاء في تاريخ ابن كثير (2) : أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه على حياة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه كان اذا أخذ الناس مضاجعهم في جوف الليل ، يأمر النبي أن يضطجع على فراشه مع النيّام ، فإذا غلبهم النوم أمر أحد بنيه أو اخوته فأضجعهم على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمر الرسول أن يضطجع على فراشهم حرصاً منه عليه ، حتَّى لو قدِّر لأحد أن يتسلَّل إلى الشعب ليلاً لاغتياله يكون ولده فداءً لابن أخيه.
وفي رواية ابن أبي الحديد أنَّه قرأ في أمالي أبي جعفر محمَّد بن حبيب : أنَّ أبا طالب كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً يبكي ، ويقول : إذا رأيته ذكرت أخي عبدالله ، وكان عبدالله أخاه لأمِّه وأبيه.
وأضاف إلى ذلك أنَّه كثيراً ما كان يخاف عليه البيات ليلاً ، فكان يقيمه ليلاً من فراشه ويضجع ابنه علياً مكانه ، ومضى على ذلك أيام الحصار وغيرها ، وأحسَّ عليٌّ عليه السلام بالخطر على حياته ، ولكنَّه كان طيِّب النفس
____________
1) الكامل في التأريخ 1 : 604.
2) البداية والنهاية 3 : 84 ، بتصرف.

( 45 )

بالموت في سبيل محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال لأبيه يوماً : « يا أبت أني مقتول » ، فأوصاه بالصبر ، وأنشد :

أصبرن يا بني فالصبر أحجى * كـلُّ حيٍّ مصيره لشعوب (1)
قـدّر الله والبــلاء شـديـد * لفـداء الحبيب وابـن الحبيب
إن تصبك المنون فالنبل تبرى * فمصيب منهـا وغير مصيب
كلُّ شيءٍ وإن تملَّـى بعمـر * آخذ من مذاقهـا بنصيب (2)

وهذه الأبيات تؤكِّد إيمانه العميق برسالة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم واستعداده لأن يضحّي بولده في سبيلها ، ولقد أجابه ولده أمير المؤمنين عليه السلام بأبيات يرويها شارح النهج عنه تحمل نفس الروح التي كان يحملها أبوه ، حيث يرى أنَّ وجوده وحياته متمِّمان لحياة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ، لذلك لم يكن غريباً عليه أن يضحّي ويبذل حتى نفسه ليسلم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته ، تلك التّضحية التي لم يعرف التاريخ أروع وأجمل منها.
يقول عليه السلام :

أتأمرني بالصبر في نصــر أحمـد * ووالله ما قلت الــذي قلت جازعا
ولكنَّني أحببت أن تــرى نصرتـي * وتعلـم أنِّي لــم أزل لـك طائعا
سأسعى لوجه الله فـي نصــر أحمد * نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا (3)

فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أنَّ الله سبحانه وتعالى أرسل على صحيفة المقاطعة دودة الأرضة أكلت ما فيها من ظلم وقطيعة
____________
1) الشعوب : المنية.
2) شرح نهج البلاغة 14 : 64 بتصرف.
3) نفس المصدر.

( 46 )

رحم ، وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى. فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لعمِّه أبي طالب وكلِّ من في الشعب ، حتَّى صاروا إلى الكعبة الشريفة ، واجتمع الملأ من قريش من كلِّ أوب فقالوا : قد آن لك أن تذكر العهد وتدع « اللجاج في ابن أخيك »!
وقال لهم : إنَّ ابن أخي أخبرني أنَّ الله تعالى أرسل على صحيفتكم الأرضة ، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم ، وتركت اسم الله تعالى ، فإن كان كاذباً سلَّمته إليكم لتقتلوه ، وعلمنا أنَّكم على حقٍّ ، ونحن على باطل ، وإن كان صادقاً علمتم أنَّكم ظالمون لنا ، قاطعون لأرحامنا. فقالوا : قد أنصفتنا.
وقاموا سراعاً وأحضروها وإذا الأمر كما قال أبو طالب ، فبهتوا ونكسوا رؤوسهم ثُمَّ قالوا : إنَّ هذا لسحر وبهتان!!
فقويت نفس أبي طالب واشتدَّ صوته ، وقال : « قد تبيَّن لكم أنَّكم أولى بالظلم والقطيعة » (1) .

4 ـ مؤامرة قريش في دار الندوة :
ضاق الأمر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتراكمت عليه الأحداث بعد خروجه من محنة الحصار في شعب أبي طالب ، ولم تكن سوى أيام قلائل حتى توفِّي عمُّه أبو طالب ، ناصره ومعينه على أمره ، أقبلت قريش المذعورة على إيذائه بشتَّى الأساليب ـ بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله ـ فقد مات
____________
1) الكامل في التاريخ 1 : 606.

( 47 )

أبو طالب ، ولم يعد بمكَّة من تهابه قريش وترعى له حرمة.. فخرج صلوات الله عليه إلى الطائف ، وهذه أول رحلة قام بها من مكَّة للدعوة إلى الإسلام ، فعمد إلى ثقيف يطلب منها النصر ، لكنَّها رفضت أن تسمع له ، ولم تكتفِ بذلك ، بل أرسلت صبيانها يرشقوه بالحجارة ، حتى أُدميت قدماه الشريفتان ، كما أُصيب علي وزيد بن حارثة ، حيث كانا معه في تلك الرحلة ، وعليٌّ يتلقَّى الأحجار بيديه وصدره حتَّى أُثخن بالجراح ، فكان رسول الله يقول : « ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها الا على حجر » (1)!
وبذلك قرَّروا الرجوع إلى مكَّة؛ فكلابها أهون من وحوش البراري! رجع يائساً من ثقيف وأحلافها ، واستطاع الدخول إلى مكَّة بإجارة المطعم بن عدي له.
وحينما خافت قريش أن يقوى ساعده ـ ويصبح له أنصاراً جدداً ، وحذروا من خروجه سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلى يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة ، وتشاوروا في أمره وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان ، فقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات عمُّه!
وكان اجتماعهم هذا قبيل شهر ربيع الأول عام 633 م ، عام الهجرة ، وبعد أن أعطى كلُّ واحد منهم رأيه ، قال أبو جهل : أرى أن نأخذ من كلِّ قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً ، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه ، كي لا يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها ، بل يتفرق دمه في
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 36.

( 48 )

القبائل كلِّها ، فلم يقدر آله وعشيرته على حرب قومهم جميعاً ، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا على ذلك بعد أن اتَّفقوا على الليلة التي يهاجمونه فيها وهو في فراشه.
فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بمكيدة قريش وأحلافها ، كما تشير إلى ذلك الآية : (
وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين ) (1) .
ومكر الله في الآية يعني : أنَّه سبحانه قد فوَّت عليهم مكرهم وتخطيطهم بما أخبر به نبيَّه ، وبما أمره به من الخروج في تلك الليلة ، ومبيت علي عليه السلام على فراشه ليفوّت عليهم تدبيرهم الذي أجمعوا عليه.
ولما علم عليٌّ عليه السلام بتخطيط قريش لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى ، ورحَّب بالمبيت في فراشه فداءً له وللإسلام وقال له : « أو تَسْلَم أنت يارسول الله إن فديتك بنفسي » ؟ قال له صلى الله عليه وآله وسلم : « نعم ، بذلك وعدني ربِّي » فانشرح صدره لسلامة أخيه رسول الله.
وشاءت الأقدار أن يفتح عليُّ بن أبي طالب عليه السلام صفحةً مشرقةً من بطولاته لأنَّه تلميذ الرسالة الحقَّة وربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسليل بني هاشم ، وتقدّم مطمئن النفس ، رابط الجأش ، متَّشحاً ببرد الرسول الحضرمي ، ونام ثابت الفؤاد لا يخاف في الله لومة لائم.
وكان ذلك سبباً لنجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ دمه ، ولولا فداء أمير المؤمنين نفسه للرسول لما تمَّ تبليغ الرسالة والصدع بأمر الله تعالى.
____________
1) سورة الأنفال : 30.

( 49 )

فلمَّا كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه ، وودَّع رسول الله عليَّ ابن أبي طالب عليه السلام ، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلى أهلها ويلحق به.
وفي بعض الروايات : أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج فأخذ حفنةً من تراب ، فجعله على رؤوسهم ، وهو يتلو هذه الآيات من (
يسَ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) إلى قوله : ( فَهُمْ لأ يُبْصِرُون ) (1) ثمَّ انصرف فلم يروه (2) .
هكذا ، فإنّ القوم أحاطوا بالدار ، وهم من فتيان قريش الاشداء ، وجعلوا يرصدونه ليتأكَّدوا من وجوده ، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.
أمَّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من الدار ، وكان قد اختبأ في مكان منها ، وانطلق جنوباً إلى غار ثور ، وكمن فيه ومعه أبو بكر ، فأقاما فيه ثلاثاً.
ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم على الدار ، هجموا عليها ، فوثب عليٌّ عليه السلام من فراشه ، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..
وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا يتحرَّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذى ، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وخالد بن الوليد في مقدمهم ، فوثب علي عليه السلام من فراشه وهمزه بيده ، ففرَّ خالد واستطاع علي عليه السلام أنَّ يأخذ السيف منه ، فشدَّ عليهم
____________
1) سورة يس : 1 ـ 9.
2) الكامل في التاريخ 2 : 4.

( 50 )

وانهزموا أمامه إلى الخارج (1) .
وسأل الرهط عليَّاً : أين ابن عمِّك ؟
قال : « أمرتموه بالخروج فخرج عنكم » (2) ، وقيل : إنَّه قال : « لا علم لي به » (3) .
وأخرج اليعقوبي وابن الأثير وغيرهما : أنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحى في تلك الليلة إلى جبرئيل وميكائيل أنِّي قضيت على أحدكما بالموت ، فأيِّكما يواسي صاحبه ؟ فاختار الحياة كلاهما ، فأوحى الله إليهما : هلأَ كنتما كعليِّ بن أبي طالب... آخيت بينه وبين محمَّد ، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر ، فاختار عليٌّ الموت وآثر محمَّداً بالبقاء وقام في مضجعه ، اهبطا فاحفظاه من عدوِّه. فهبط جبرئيل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوِّه ، ويصرفان عنه الحجارة ، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب مَن مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سموات! (4).
ولم يشرك أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام ، ولا اختصَّ بنظير لها على حال ، وفيه نزل قوله تعالى في هذه المناسبة : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد) (5).
وعقَّب الأستاذ عبدالكريم الخطيب في كتابه ( علي بن أبي طالب ) ـ
____________
1) أمالي الشيخ الطوسي : 467|1031 ، بحار الأنوار 19 : 61 ـ 62.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 39 ، الكامل في التاريخ 2 : 103.
3) الطبقات الكبرى 1 : 110.
4) تاريخ اليعقوبي 2 : 39 ، أُسد الغابة 4 : 113.
5) سورة البقرة : 207 ، وذكرها الرازي في تفسيره أنَّها نزلت بشأن مبيت عليٍّ عليه السلام على فراش رسول الله.

( 51 )

على تضحيته عليه السلام ومبيته على فراش الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليلة تآمرت قريش على قتله ـ بقوله : وهذا الذي كان من عليٍّ عليه السلام ليلة الهجرة ، إذا نظر إليه في مجرى الأحداث التي عرضت للإمام عليٍّ عليه السلام في حياته بعد تلك الليلة ، فإنَّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة ، وإشارات دالّة على أنَّ هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بالإضافة إلى عليٍّ عليه السلام بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها ، فلنا أن نتساءل : أكان لإلباس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شخصيَّته لعليٍّ عليه السلام تلك الليلة ما يوحي بأنَّ هناك جامعة ، تجمع بين الرسول وعليٍّ أكثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما ؟ وهل لنا أن نستشفَّ من ذلك ، أنَّه اذا غاب شخص الرسول كان عليٌّ عليه السلام هو الشخصية المهيَّأة لأن تخلفه وتمثل شخصه وتقوم مقامه.
وأحسب أنَّنا لم نتعسَّف كثيراً حين نظرنا إلى عليٍّ عليه السلام وهو في برد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه ، وقلنا : هذا خليفة رسول الله والقائم مقامه.
وأضاف : إنَّ هذا الذي كان من عليٍّ عليه السلام ليلة الهجرة ، في تحدِّيه لقريش هذا التحدِّي السافر ، وفي استخفافه بها ، وقيامه بينها ثلاثة أيام يغدو ويروح ، إنَّ ذلك لا تنساه قريش لعليٍّ عليه السلام أبداً ، ولولا أنَّها وجدت في قتله يومئذٍ إثارة فتنة تمزِّق وحدتها وتشتِّت شملها ، دون أن يكون في ذلك ما يبلغ بها غايتها في محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ، لقتلته وشفت ما بصدرها منه ، ولكنَّها تركته وانتظرت الأيام لتسوّي حسابها معه.
ألا يبدو من هذه الموافقات ، ما نستشفُّ منه أنَّ لعليِّ بن أبي طالب


( 52 )

شأناً في رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودوراً في دعوة الإسلام ، ليس لأحد غيره من صحابة الرسول ؟ (1)
وأخرج الحاكم النيسابوري : أنَّ الإمام زين العابدين كان يقول : « إنَّ أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله عليُّ بن أبي طالب ، قال علي عند مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

وقيتُ بنفسي خيــر من وطــأ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيــق وبالحجــر

رســول إلــه خـاف أن يمكـروا بـه * فنجَّــاه ذو الطــول الإله من المكـر

وبـات رسـول الله فـي الغــار آمنـاً * موقــى وفــي حفـظ الإلـه وفي ستر

وبتُّ أراعـيـهــم ولــم يتهموننــي * وقد وطنت نفسي على القتل والأسر » (2)

5 ـ عليٌّ والركب الفاطمي إلى المدينة :
بقي عليٌّ عليه السلام في مكَّة ثلاث ليال ، أدَّى خلالهنّ ـ بطل التأريخ ـ ما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ردِّ الأمانات والودائع التي كان يحتفظ بها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكَّة ، ليلحق بعدها برسول الله..
في هذه الأثناء كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد وصل إلى يثرب ، بعد أن قطعوا الجبال والأودية على مقربة من المدينة ـ على ساكنها السلام ـ قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لمن معه : « من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف » ؟ ولمَّا بلغ منازلهم نزل ضيفاً عليهم لإحدى عشرة أو لاثنتي عشرة ليلة خلت
____________
1) عن سيرة الأئمة الاثني عشر1 : 168 ـ 169 ، وأيضاً : علي سلطة الحق 26 ـ 27 ، الامام علي1 : 55 ـ 56.
2) المستدرك على الصحيحين 3 : 5.

( 53 )

من ربيع الأول ، وكان قد استقبله منهم نحو من خمسمائة (1) .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليٍّ عليه السلام مع أبي واقد الليثي ، يحثُّه بالمسير إليه بعد أداء ما أوصاه به ، ولمَّا وصله الكتاب تهيَّأ للخروج ، وردَّ كلَّ وديعةٍ إلى أهلها ، وأمر من كان قد بقي من ضعفاء المؤمنين أن يتسلَّلوا إلى ذي طول ليلاً..
وخرج هو بالركب الفاطمي : فاطمة بنت رسول الله ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطَّلب ، وفاطمة بنت حمزة ، وأم أيمن ، وأبو واقد الذي أخذ يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً ، فقال له عليٌّ : « ارفق بالنسوة يا أبا واقد » ثُمَّ جعل يسوق بهنَّ ويقول :

ليـس الا الله فارفع ظنَّكا * يكفيك ربُّ الخلق ما أهمَّكا

وكان يسير ليلاً ، ويكمن نهاراً وكان ماشياً غير راكب حتَّى تفطَّرت قدماه (2) ، ولقد ظلَّ في رحلته تلك ليالٍ أربع عشرة (3) ، يحوطهم من الاعداء ويكلؤهم من الخصماء ، فلمَّا قارب ضَجَنان أدركه الطلب وكانوا ثمانية فرسان ملثمين ، معهم مولى لحرب بن أُميَّة يُدعى : جناح ؛ فقال عليٌّ عليه السلام لأيمن وأبي واقد : « أنيخا الإبل واعقلاها » وتقدَّم هو فأنزل النسوة
____________
1) و 2) أنظر سيرة الأئمة الاثني عشر 1 : 171.
2) تاريخ اليعقوبي 2 : 41 ، اُسد الغابة 4 : 105 ، الكامل في التاريخ 2 : 7.
3) أنظر : عليٌّ سلطة الحقِّ : 23.

( 54 )

واستقبل القوم بسيفه ، فقالوا : أظننت يا غُدر أنَّك ناجٍ بالنسوة ؟! ارجع بهن لا أبا لك!! فقال : « فإن لم أفعل ؟! » ، فقالوا : لترجعنَّ راغماً!!
ودنوا من المطايا ، فحال عليٌّ عليه السلام بينهم ، وأهوى له جناح بسيفه ، فراغ عن ضربته ، وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين ، حتَّى وصل السيف إلى كتف فرسه ، ثُمَّ شدَّ على أصحابه ، وهو على قدميه وأنشد :

خلُّوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد الا الواحـد

فتفرَّق القوم عنه ، وقالوا : إحبس نفسك عنَّا يابن أبي طالب ، ثُمَّ قال لهم : « إنِّي منطلق إلى أخي وابن عمِّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن سرَّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منِّي » ثُمَّ أقبل على أيمن وأبي واقد ، وقال لهما : أطلقا مطاياكما ، وسار الركب حتَّى نزل ضجنان ، فلبث بها يوماً وليلة حتَّى لحق به نفر من المستضعفين ، فلمَّا بزغ الفجر سار بهم حتَّى قدموا قباء (1) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مكث فيها هذه المدة ، ولم يغادرها بعد إلى المدينة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « ادعوا لي عليَّاً » ، قيل : لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واعتنقه وبكى ، رحمةً لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرَّهما على قدميه ، فلم يشتكهما بعدُ حتَّى قُتل (2) .

____________
1) سيرة الأئمة الاثني عشر 1 : 171 ـ 172.
2) الكامل في التاريخ 2 : 7.