كتاب الإمام علي سيرة والتاريخ ص 92 ـ 112
وقعة ذات السلاسل :
وتسمَّى أيضاً وقعة وادي الرمل. وكان سببها أنَّ عدداً من الأعراب قد اجتمعوا لغزو المدينة ـ في وادي الرمل ـ على حين غفلة من أهلها ، فوفد أعرابي على نبيِّ الله وأخبره بالأمر ، وخرج أمير المؤمنين ومعه لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خرج غيره إليهم ، ورجع عنهم خائباً ، ثُمَّ خرج صاحبه وعاد بما عاد به الأول (1) ، ثُمَّ أرسل عمرو بن العاص (2) ، فعاد كما عاد صاحباه ، فمضى عليه السلام نحو القوم ، يكمن النهار ويسير الليل ، حتى وافى القوم بسحر ، وصلَّى بأصحابه صلاة الغداة ، وصفَّهم صفوفاً واتَّكأ على سيفه وانقضَّ بمن معه على القوم على حين غفلة منهم ، وقال : « يا هؤلاء ، أنا رسولُ رسولِ الله ، أن تقولوا : لا إله الا الله محمَّد رسول الله ، والا ضربتكم بالسيف ».
فقالوا له : إرجع كما رجع صاحباك.
قال : « أنا أرجع! لا والله حتَّى تسلموا ، أو لأضربنَّكم بسيفي هذا ، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبدالمطَّلب » (3) .
فاضطرب القوم ، وأمعنوا بهم قتلاً وأسراً ، حتَّى استسلموا له ، وتمَّ الفتح على يده.
____________
131 ، ومناقب الخوارزمي : 22.
1) إعلام الورى 1 : 382.
2) انظر : الكامل في التاريخ 2 : 110 وفيها اختلاف حيث لم يذكر من كان قبله!.
3) الإرشاد 1 : 113 ـ 116 ، إعلام الورى 1 : 382.

( 93 )

وعن أمُّ سلمة قالت : كان نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً في بيتي؛ إذ انتبه فزعاً من منامه ، فقلت : الله جارك ، قال : « صدقت ، الله جاري ، ولكن هذا جبرئيل يخبرني أنَّ عليَّاً قادم ». ثمَّ خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليَّاً ، وقام المسلمون صفَّين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمَّا بصر به عليٌّ عليه السلام ترجَّل عن فرسه ، وأقبل عليه يقبِّله. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إركب ، فإنَّ الله ورسوله عنك راضيان » فبكى عليٌّ عليه السلام فرحاً وانصرف إلى منزله.
ونزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة العاديات لهذه المناسبة (1) .
فتح مكَّة :
كان الفتح في شهر رمضان ، سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2). وكان سبب هذه الوقعة : أنَّ قريشاً نقضت الوثيقة التي وقعتها مع النبي في الحديبية ، وتمادت في ذلك ، حتى ذهبت إلى تحريض حلفائها بني الدؤل من بني بكر على خزاعة حلفاء النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، واستطاع هؤلاء أن يتغلَّبوا على خزاعة بمساعدة قريش ، فلمَّا وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عزم على أن ينصر خزاعة..
فجهّز جيشه وأكد رغبته في التكتيم على هذا الأمر ، لمداهمة قريش في مكة قبل أن تتجهز لحرب ، وكان يقول : « اللَّهمَّ خُذ على أبصارهم فلا يروني الا بغتةً »! (3) ، لكن الأمر تسرّب إلى حاطب بن أبي بلتعة ، فكتب كتاباً إلى أهل مكَّة يطلعهم فيه على سرِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسير إليهم ،
____________
1) انظر : إعلام الورى 1 : 383 ، إرشاد المفيد 1 : 116 ـ 117.
2) الطبقات الكبرى 2 : 102.
3) الطبقات الكبرى 2 : 102.

( 94 )

وأعطى الكتاب أمرأة سوداء وأمرها أن تأخذ على غير الطريق ، فنزل بذلك الوحي.
فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام وقال : « إنَّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكَّة يخبرهم بخبرنا وقد سألت الله أن يعمّي اخبارنا عليهم ، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق ، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها » وبعث معه الزبير بن العوَّام.
فمضيا على غير الطريق ، فأدركا المرأة ، فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته ، وحلفت أنَّه لا شيء معها ، وبكت ، فقال الزبير : يا أبا الحسن ، ما أرى معها كتاباً. فقال أمير المؤمنين عليه السلام : « يخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها وتقول : إنَّه لا كتاب معها »!
ثمَّ اخترط السيف وقال : « أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنَّك ثُمَّ لأضربنّ عنقك ».
فقالت له : اذا كان لابدَّ من ذلك ، فأعرض يا ابن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها ، فكشفت قناعها فأخرجت الكتاب من عقيصتها ، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وصار به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
ثمَّ مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكَّة في عشرة آلاف مقاتل ، وأعطى الراية سعد بن عبادة ، وأمره أن يدخل بها مكَّة ، فأخذها سعد وجعل يقول :

اليوم يوم المَلحمَه * اليوم تسبى الحُرُمَه

____________
1) الارشاد 1 : 57.

( 95 )

فسمعها رجل من المهاجرين ، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « اليوم يوم المرحمة ، اليوم تحمى الحرمة » لعليِّ بن أبي طالب : « أدركه فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي تدخل بها » (1) .
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع الطريق باتجاه مكَّة ودخلها عنوةً بهذا الجيش الهائل ، الذي لم تعرف له مكَّة نظيراً في تاريخها من قبل ، وأعلن العفو وهو على أبواب مكَّة ، وقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».
وأباح دم ستة رجال ، ولو كانوا متعلِّقين بأستار الكعبة ، وأربع نسوة ، هم : عكرمة بن أبي جهل ، وهبار بن الأسود ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ، ومِقيس بن صُبابة الليثي ، والحويرث بن نُقيذ ، وعبدالله بن هلال بن خطل الادرمي ، وهند بنت عتبة ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم ، وقينتان كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
فمضى عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يجدُّ في طلب أولئك الذين أهدر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم دماءهم فقتل منهم اثنين هم : الحويرث بن نقيذ ، وسارة.
وأجارت أمُّ هانئ بنت أبي طالب حموين لها : الحارث بن هشام ، وعبدالله بن ربيعة ، فأراد عليٌّ عليه السلام قتلهما. فقال رسول الله : « يا عليُّ قد أجرنا من أجارت أمُّ هانئ » (3) وتفرّق الباقون ، ثم وفد بعضهم على النبي بعد أن أخذ الأمان.
ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنماً داخل الكعبة وخارجها الا وحطَّمه
____________
1) إعلام الورى 1 : 385 ، وانظر ابن الأثير | الكامل في التاريخ 2 : 122.
2) طبقات ابن سعد 2 : 103 ، وانظر الكامل في التاريخ 2 : 123 ، وفيه ثمانية رجال وأربع نسوة.
3) تاريخ اليعقوبي 2 : 59 ، وانظر الطبقات لابن سعد 2 : 110.

( 96 )

تحت قدميه أمام قريش..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو بمكَّة ـ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح. فقالوا : إنَّا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون ، قال : ضعوا السلاح ، قالوا : إنَّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية ، فانصرف عنهم وأذَّن القوم وصلَّوا ، فلمَّا كان في السحر شنَّ عليهم الخيل فقتل منهم ما قتل وسبى الذرية.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « اللَّهمَّ إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد »! وبعث عليَّ بن أبي طالب عليه السلام فأدَّى إليهم ما أخذ منهم حتَّى العقال وميلغة الكلب ، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى ، وبقيت معه منه بقية ، فدفعها عليٌّ عليه السلام إليهم على أن يحلِّلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممَّا علم وممَّا لا يعلم. فقال رسول الله : « لما فعلت أحبُّ إليَّ من حمر النعم » ويومئذٍ قال لعليٍّ : « فداك أبواي » (1) ، فتمَّ بذلك موادُّ الصلاح ، وانقطعت أسباب الفساد.

وقعة حنين :
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وحنين وادي بينه وبين مكَّة ثلاث ليال (2) .
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كبيراً تريد غزو المسلمين وقتالهم ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش عظيم عدَّتهم اثنا عشر ألفاً ، فقال بعضهم : ما نُؤتى من قلَّة ، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
1) انظر : تاريخ اليعقوبي 2 : 61 ، إعلام الورى 1 : 386 ، إرشاد المفيد 1 : 55.
2) ابن سعد في طبقاته 2 : 114.

( 97 )

ذلك من قولهم.
وكان لواء المهاجرين مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام (1) ، ووزَّع بقية الرايات على قوَّاد الجيش وزعماء القبائل.
ويروى عن جابر بن عبدالله الأنصاري ، أنَّه قال : « لمَّا استقبلنا وادي حُنين ، انحدرنا في وادٍ أجوف حَطُوطٍ ، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه ، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون الا والكتائب قد شدَّت علينا شدَّة رجل واحد ، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد.. الا أنَّه قد بقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته » (2) .
وعلى أيِّ الأحوال فلقد اتَّفق المؤرِّخون على أنَّ عليَّاً عليه السلام وأكثر بني هاشم ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأزمة (3) ، وعليُّ بن أبي طالب عليه السلام يذبُّ الناس بسيفه ويفرِّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت أكثر مواقفه في الحروب التي مضت ، فلم يستطع أحد أن يدنو من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الا جدله بسيفه.
وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس ، فإذا أدرك رجلاً طعنه ، ثُمَّ رفع رايته لمن وراءه فاتَّبعوه ، فحمل عليه عليٌّ عليه السلام فقتله (4) ، فكانت الهزيمة ، فقال رسول الله للعبَّاس : « صِحْ
____________
1) طبقات ابن سعد 2 : 114.
2) انظر الكامل في التاريخ 2 : 136.
3) انظر : طبقات ابن سعد 2 : 115 ، ابن الأثير في تاريخه 2 : 136 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 62 ، إعلام الورى 1 : 368.
4) ابن الأثير في تاريخه 2 : 137.

( 98 )

للأنصار » وكان صيِّتاً ، فنادى : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمُرة ، ياأصحاب سورة البقرة! فأقبلوا كأنَّهم الإبل إذا حنَّت على أولادها ، يقولون : يا لبَّيك يا لبَّيك! فحملوا على المشركين ، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إلى قتالهم فقال : « الآن حمي الوطيس »! وهو أول من قالها ، ثُمَّ قال :

« أنا النبيُّ لا كذبْ * أنا ابن عبدالمطَّلب » (1)

واقتتل الناس قتالاً شديداً.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبغلته دُلدُل : « البِدي دلدل » فوضعت بطنها على الأرض ، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها في وجوههم ، فكانت الهزيمة (2) وقيل : إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قتل منهم أربعين رجلاً (3) ، واستشهد من المسلمين أيمن ابن أمِّ أيمن ، ويزيد بن زَمعَة بن الأسود بن المطَّلب بن عبدالعُزَّى وغيرهما (4) .

تبوك والاستخلاف :
ثمَّ كانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في رجب سنة تسع من مُهاجره (5).
لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام؛ لغزو المسلمين في ديارهم ، لم يتردَّد في مواجهة تلك الجيوش ، فأمر الناس
____________
1) طبقات ابن سعد 2 : 115 ، الكامل في التاريخ 2 : 137.
2) ابن الأثير في تاريخه 2 : 137.
3) إعلام الورى 1 : 387 ، وروى ذلك المفيد في الارشاد 1 : 144.
4) الكامل في التاريخ 2 : 139.
5) الطبقات الكبرى 2 : 125.

( 99 )

بالتجهُّز لغزو الروم ، وأعلم الناس مقصدهم ، لبعد الطريق وشدَّة الحرَّ وقوَّة العدو.. لذلك يسمى بجيش العسرة ، وهي آخر غزوات الرسول.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في أصحابه ، حتى قدم تبوك في ثلاثين ألفاً من الناس ، والخيل عشرة آلاف. واستعمل على المدينة علياً عليه السلام وقال له : ( تقيم أو أقيم ) « إنَّه لابدَّ للمدينة منِّي أو منك » (1) ، « إن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك » (2) .
وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... وكان بقاؤه عليه السلام في المدينة أمر تفرضه مصلحة الإسلام ، بعدما ظهر للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمر المنافقين ، فإنَّ بقاءهم بالمدينة يشكِّل خطراً على الدعوة.
فأرجف المنافقون بعلي عليه السلام وقالوا : ما خلَّفه الا استثقالاً له! فلمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبره ما قال المنافقون ، فقال : « كذبوا ، وإنَّما خلفتك لما ورائي ، أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى ؟ الا أنَّه لا نبيَّ بعدي » (3) . فقال : « قد رضيت ، قد رضيت » (4) . ثُمَّ رجع إلى المدينة وسار رسول الله بجيشه.
وفي رواية الشيخ المفيد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له : « ارجع يا أخي
____________
1) إعلام الورى 1 : 243.
2) الارشاد 1 : 155.
3) الكامل في التاريخ 2 : 150 ، وانظر الاصابة في تمييز الصحابة 2 : 507 ترجمة الامام علي ، وسير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ) : 229 ، وأخرجه الترمذي 2999 و3724 وقال : صحيح غريب.
وانظر طرق الحديث عن الصحابة في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي 1 : 306 ـ 390.
4) إعلام الورى1 : 244.

( 100 )

إلى مكانك ، فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك ، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ إنّه لا نبيّ بعدي » (1) .
وجاء في طبقات ابن سعد (2) انَّه قال : أخبرنا الفضل بن دُكين ، قال : أخبرنا فضل بن مرزوق عن عطية ، حدَّثني أبو سعيد ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك وخلَّف عليَّاً في أهله ، فقال بعض الناس : ما منعه أن يخرج به الا أنَّه كَرِهَ صحبته ، فبلغ ذلك عليَّاً فذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : « يا ابن أبي طالب ، أما ترضى أن تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسى ».
وفي احدى الروايات : قال : فأدبر عليٌّ مسرعاً ، كأنِّي أنظر إلى غبار قدميه يسطع.. وبلا شكٍّ لقد قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ عليه السلام هذه المقالة ، وقد استخلفه في المدينة وكشف عن منزلته منه ، وعن منزلته بعده صلى الله عليه وآله وسلم .. أمّا لماذا راجع عليٌّ عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر استخلافه في المدينة فالأصح والأنسب « أن يكون عليٌّ عليه السلام قد عزَّ عليه أن تفوته معركة من معارك الإسلام ، لاسيما وأنَّه يتَّجه إلى عدوٍّ يفوق المسلمين بعدده وعتاده عشرات المرَّات ، فكان يتمنَّى أن يبقى إلى جانبه يفديه بنفسه وروحه ، كما كان يصنع في بقية المعارك ، وعندما أشعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أجابه بتلك الكلمات التي اتَّفق عليها المؤرِّخون والمحدِّثون » (2) .
____________
1) الارشاد 1 : 156.
2) طبقات ابن سعد 3 : 17.
3) سيرة الأئمة الاثني عشر 1 : 239.

( 101 )

هذا ، ولم يكن قوله له : « أما ترضى أن تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي » مختصّاً بهذا الموقف ، فقد قال له ذلك مرات عديدة سجّل التاريخ وكان هذا الحديث من أوضح الأدلة على استخلافه من بعده على عموم المسلمين في بحوث مفصّلة مذكورة في كتب العقائد (1) .

4 ـ عليٌّ يبلّغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
قصة تبليغ سورة براءة في السنة التاسعة للهجرة من القصص المشهورة ، والمنقولة في كتب السير والحديث ، نوردها كما أخرجها أحمد بن حنبل في مسنده من حديث أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة : « لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف في البيت عريان ، ولا يدخل في الجنة إلاّ نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدّة فأجله إلى مدّته ، والله بريء من المشركين ، ورسوله » قال : فسار بها ثلاثاً ، ثم قال النبي لعلي : « إلحقه ، فردَّ عليَّ أبا بكر ، وبلّغها أنت » قال : ففعل.
فبينا أبو بكر في بعض الطريق؛ إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصوى ، فخرج أبو بكر فزعاً ، فظنّ أنّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإذا هو عليّ عليه السلام ، فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخذها منه وسار ، ورجع أبو بكر.. فلمّا قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى ، وقال : يا رسول الله ، أحَدَثَ فيَّ شيء ؟
قال : « لا ، ولكن اُمرتُ أن لا يبلّغها إلاّ أنا أو رجل منّي » (2) .
____________
1) راجع السيد علي الميلاني | نفحات الازهار ـ حديث المنزلة.
2) مسند أحمد 1 : 3 ، 331 و3 : 212 ، 283 و 4 : 164 ، 165.

( 102 )

وفي بعض رواياتها : « لا يبلّغ عني إلاّ أنا أو رجل مني » (1) .
ولهذه القصة دلالة كبيرة نأتي عليها في محلّها.

5 ـ علي عليه السلام في اليمن :
وفي السنة العاشرة للهجرة بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن جامعاً لصدقات أهلها ، وجزية أهل نجران وسفيراً وقاضياً.. قال عليّ عليه السلام : « ولمّا بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى اليمن ، قلت : تبعثني وأنا رجل حديث السن ، وليس لي علم بكثير من القضاء ؟ قال : فضرب صدري رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : اذهب ، فإن الله عزّ وجلّ سيثبت لسانك ويهدي قلبك.. » قال : « فما أعياني قضاء بين اثنين » (2).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث قبله خالد بن الوليد في بضع مئات من الجند ، قال البراء بن عازب : كنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد ، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ـ يعني قبيلة همدان ـ ثم بعث علي بن أبي طالب ، وأمره أن يقفل خالداً ومن معه ، إلاّ من أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه ، فكنت فيمن عقب مع عليّ ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ، ثم تقدم علي فصلّى بنا ثم صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأسلمت همدان جميعاً.
فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامهم ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
____________
1) سنن الترمذي 5 : 636 | 3719 ، الخصائص للنسائي : 20 ، مجمع الزوائد 9 : 119 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، البداية والنهاية 7 : 370 ، تفسير الطبري 10 : 46.
2) مسند أحمد 1 : 136 ، الارشاد 1 : 194 و195 باختلاف.

( 103 )

الكتاب خرّ ساجداً ، ثم رفع رأسه فقال : « السلام على همدان ، السلام على همدان » (1).

6 ـ عليٌّ في حجَّة الوداع (2) :
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة متوجِّها إلى الحجِّ في السنة العاشرة من الهجرة ، لخمس بقين من ذي القعدة ، وهي حجَّة الإسلام ، وكان ابن عبَّاس يكره أن يقال : حجَّة الوداع ، ويقول « حجَّة الإسلام » (3) .
وأذَّن صلى الله عليه وآله وسلم في الناس بالحجِّ ، فتجهَّز الناس للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحضر المدينة ـ من ضواحيها ومن جوانبها ـ خلق كثير.
وحجَّ عليٌّ عليه السلام من اليمن ، حيث قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة فارس ، فأسلم القوم على يديه.. ولمَّا قارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكَّة من طريق المدينة ، قاربها أمير المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن ، فتقدَّم الجيش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، وقال له : « بم أهللت يا عليُّ » ؟ فقال : « يا رسول الله ، إنَّك لم تكتب إليَّ بإهلالك ، فعقدت نيتي بنيِّتك ، وقلت : اللَّهمَّ اهلالاً كإهلال نبيِّك ». فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « فأنت شريكي في حجِّي ومناسكي وهديي ، فأقم على إحرامك ، وعد على جيشك وعجِّل بهم إليَّ حتَّى نجتمع بمكَّة » (4).
____________
1) ابن كثير | البداية والنهاية ، البيهقي | دلائل النبوة 5 : 394 ، وقال : أخرجه البخاري مختصراً من وجه آخر ، صحيح البخاري 5 : 206.
2) انظر : الطبقات الكبرى 2 : 130 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 109 ، إعلام الورى 1 : 259 ، ارشاد المفيد 1 : 170.
3) الطبقات الكبرى 2 : 131.
4) صحيح مسلم 2 : 888 ، ارشاد المفيد1 : 171 ، إعلام الورى1 : 259 ، وانظر : الكامل في التاريخ 2 : 170.

( 104 )

ولمَّا أكملوا مناسك الحجِّ ، نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ستِّين بدنة ، وقيل : اربعاً وستِّين ، وأعطى عليَّاً عليه السلام سائرها ، فنحرها وأخذ من كلِّ ناقةٍ بضعة ، فجمعت في قدر واحد فطبخت بالماء والملح ، ثُمَّ أكل هو وعلي عليه السلام (1) .
وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس ، وأراهم مناسكهم وعلَّمهم حجَّهم ، إلى أن قال :
« لا ترجعوا بعدي كفَّاراً مضلِّين يملك بعضكم رقاب بعض ، إنِّي قد خلَّفت فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ألا هل بلَّغت » ؟ قالوا : نعم. قال : « اللَّهمَّ اشهد ».
ثمَّ قال : « إنَّكم مسؤولون ، فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب » (2) . ثمَّ ودَّعهم وقفل راجعاً إلى المدينة.

غدير خُمٍّ :
لمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسكه وقفل إلى المدينة ، وانتهى إلى الموضع المعروف بغدير خُمٍّ نزل عليه جبريل عليه السلام وأمره أن يقيم عليَّاً عليه السلام وينصِّبه إماماً للناس؛ فقال : « ربِّ إنَّ أُمَّتي حديثو عهد بالجاهلية » فنزل عليه : إنَّها عزيمة لا رخصة منها ، فنزلت الآية : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 109 ، إعلام الورى 1 : 260 ، وانظر الطبقات الكبرى 2 : 135.
2) صحيح البخاري ، كتاب الفتن 9 : 90 ح|26 ـ 29 ، صحيح مسلم 1 : 81 ح|118 ـ 120 ، كتاب الايمان ، مسند أحمد 5 : 37 ، 44 ، 49 ، 73 ، سنن الترمذي 4 : 486 ح|2193 ، سنن أبي داود 4 : 221 ح|4686 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 111 ، ومثله في السيرة الحلبية 3 : 336 ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت 1980م.

( 105 )

رَبِّكَ وَإن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس ) (1) .
فلمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خُمٍّ ، ونزل المسلمون حوله ، أمر بدوحات فقُمِمْنَ ، وكان يوماً شديد الحرِّ ، حتَّى قيل : إنَّ أكثرهم ليلفُّ رداءه على قدميه من شدَّة الرمضاء ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكان مرتفع ، فردّ من سبقه ، ولحقه من تخلَّف ، وقام خطيباً ، ثُمَّ قال : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله. فأخذ بيد عليٍّ فرفعها ، حتَّى بان بياض ابطيه ، وقال : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللَّهمَّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ».
وقد ورد هذا الحديث في الكثير من كتب السيرة والتاريخ وكتب الحديث ايضاً وغيرها (2) بصيغ متعدِّدة ، تثبت أحقِّية الإمام عليٍّ عليه السلام بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من أشهر النصوص على خلافته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد أن نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى ركعتين ، ثُمَّ زالت الشمس فأذَّن مؤذنه لصلاة الظهر ، فصلَّى بالناس وجلس في خيمته ، وأمر عليَّاً عليه السلام أن يجلس في خيمة له بإزائه ، ثُمَّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً
____________
1) إعلام الورى 1 : 261 ، والآية من سورة المائدة 5 : 67 ، وقصة نزولها في علي عليه السلام في غدير خم رواها كثير من المفسرين ، منهم : الواحدي | اسباب النزول : 115 ، السيوطي | الدر المنثور 2 : 398 ، الشوكاني | فتح الغدير 2 : 60.
2) انظر : خصائص أمير المؤمنين | الحافظ النسائي : 21 ـ 22 مطبعة التقدُّم بالقاهرة ، وقد ذكر في حديث الغدير اسانيد عديدة وطرق شتَّى وألفاظ مختلفة ، بلغت تسع عشرة رواية ، مسند أحمد 1 : 119 من طريقين ، 152 ، 4 : 281 ، 370 ، 372 ، وسنن ابن ماجة 1 : 43|116 ، والمستدرك 3 : 109 ـ 110 ، والبداية والنهاية 5 : 208 ، الفصل الاخير من سنة 10 هـ.

( 106 )

فيهنِّئوه بالإمامة ، ويسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ذلك اليوم كلُّهم ، ثُمَّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يدخلن معه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين ، ففعلن ذلك ، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطَّاب ، وقال فيما قال : « بخٍ بخٍ لك يا عليُّ ، أصبحت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة ».
وأخرج أحمد وغيره ان أبا بكر وعمر قالا له : أمسيت يبن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة (1) .
وأنشد حسَّان بن ثابت :

يناديهـم يــومَ الغديـر نبيُّهـم * بخُمٍّ وأسمع بالنبــيِّ مناديــا
بأنِّي مولاكــم نعـمْ ووليُّكــم * فقالوا ولم يبدوا هنــاك التعاميا
إلهك مولانــا وأنـتَ وليُّنــا * ولاتجدن في الخلق للأمر عاصيا
فقــال له قـم يـا علـيُّ فإنَّني * رضيتك من بعـدي إماماً وهاديا
فمـن كنت مـولاه فهذا وليُّــه * فكونوا له أنصـارَ صدقٍ مواليا
هنــاك دعـا : اللَّهمَّ والِ وليَّه * وكُن للذي عادى عليَّاً معاديا (2)

إذن فحديث الغدير حديث صحيح بلغ حدَّ التواتر ، جمع كثير من
____________
1) مسند أحمد 4 : 281 ، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل 2 : 569|1016 و610|1042 ، اسد الغابة 4 : 28 ، تفسير الرازي 12 : 49 ـ 50 ، روح المعاني للآلوسي 6 : 194 ، الصواعق المحرقة : 44.
2) روى هذه الأبيات : الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين 1 : 47 الطبعة الاولى ، والجويني في فرائد السمطين ، من طريقين 1 : 73 ـ 74 ، تحقيق محمَّد باقر المحمودي ، مؤسَّسة المحمودي ، 1978م ، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : 33 ، والكنجي في كفاية الطالب : 64 ، تحقيق هادي الأميني ، دار احياء تراث أهل البيت ، ط3 ، وإعلام الورى 1 : 262 ـ 263. مع اختلاف في بعض الألفاظ.

( 107 )

العلماء طرقه ـ كما رأينا سابقاً ـ لكنَّه لاقى من التأويل والكتمان ما لم يبلغه خبر قبله ولا بعده!
فصاحب ( البداية والنهاية ) على سبيل المثال ـ مع كل ما جمعه من طرق هذا الحديث ومصادره ـ يصرّ على اختزال دلالته إلى ردّ شكاوى نفر من الصحابة ، وفدوا معه من اليمن ، وكانوا على خطأ ، وهو على الصواب ، فيقول ابن كثير عن هذا الحديث : « فبيّن فيه فضل علي وبراءة عرضه ممّا كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن ، بسبب ما كان صدر منه إليهم » إلى قوله : « وذكر من فضل علي وامانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثيرة من الناس منه » (1) .
والالتواء والتحميل واضحان جداً في ما ذهب إليه ابن كثير وغيره هنا (2) ، فشكاوى هؤلاء النفر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ردّها في محلّها وأمام شهودها ، وبيّن فيها ما يمكن أن يبيّنه ، وقد أوردها ابن كثير كلّها. فأمرها لا يستدعي جمع كلّ الحجيج الذين بلغوا مئة ألف أو يزيدون !! ولا يستدعي أيضاً التأخير كل هذا الوقت ، منذ أول وفودهم مكة ، وحتى انقضاء الحج وعودتهم من مكة صوب أوطانهم! إنه تحميل كبير لا يرتضيه ناقد له فقه بالأخبار والسيرة ، لكنها مشكلة الركون لما استقر في أذهانهم ، بفعل الواقع السياسي الذي جانب هذا الحديث الشريف ودلالاته الناصعة.
وأقل ما يقال في تأويل ابن كثير ومن ذهب مذهبه إنهم خلطوا ، إن لم
____________
1) البداية والنهاية 5 : 183 ـ 189.
2) في مناقشة دعاوى ابن كثير ، راجع : منهج في الانتماء المذهبي : 95 ـ 124.

( 108 )

يكونوا عامدين فغافلين ، بين قضيتين منفصلتين ، قضية الشكوى الخاصة ، وقضية خطبة الغدير العامة على الملأ من المسلمين.

5 ـ عليٌّ عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ساعات الوداع :
مرض النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعثة أُسامة :
لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة المنوَّرة ، من حجِّ الوداع ، أقام أيَّاماً وعقد لأُسامة بن زيد ، على جُلَّة من المهاجرين والأنصار ـ منهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يقصد حيث قُتل أبوه ، وقال له : « أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم » ، فتكلَّم المنافقون في إمارته ، وقالوا : أمَّر غلاماً على جلَّة المهاجرين والأنصار! فاشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنَّه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقاً لها » (1) .
واشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه ، فتأخَّر مسير أُسامة لمرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وثقل رسول الله ، ولم يشغله شدّة مرضه عن إنفاذ أمر الله ، فقال : « أنفذوا جيش أُسامة »! قالها مراراً ، وإنَّما فعل عليه السلام ذلك لئلا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ، ويطمع في الإمارة ، فيستوسق الأمر لأهله (2).
وروى بعضهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أحس منهم التباطؤ ، كان يكرر قوله :
____________
1) الكامل في التاريخ 2 : 182 ، الطبقات الكبرى 2 : 146 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 113. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمّر زيد بن حارثة ، أبا أسامة ، في غزوة مؤتة ، وفيها استشهد رضوان الله عليه.
2) إعلام الورى 1 : 263.

( 109 )

« أنفذوا بعثة أُسامة » ثم يقول : « لعن الله من تخلّف عنه » (1) .
وقد أثبتت المصادر التاريخية أنّ في هذا الجيش أُناساً من كبار الصحابة ، منهم أبو بكر وعمر (2) .

الرزية كلُّ الرزية :
لم يكن موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلافة الإمام عليٍّ عليه السلام يوم غدير خُمٍّ آخر المواقف التي صرَّح فيها بأنَّه الوصي من بعده ، بل حينما اشتدَّ به مرضه وعلم بما ستقع به أُمَّته من الاختلاف من بعده ، أراد أن يصرِّح بها؛ فقال : « ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضُّلون بعده أبداً » ثُمَّ أُغمي عليه ، وقام أحدهم ليلتمس الدواة والكتف ، فقال عمر : ارجع فإنَّه يهجر ـ أو غلبه الوجع ـ حسبنا كتاب الله!!
فمازال يمنع منها حتى كثر التنازع؛ فغضب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجهم من عنده ، فقال ـ بعد أن عرضوا عليه الدواة والكتف ـ : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير ».
هنا كان يتوجَّع ابن عبَّاس ويقول : « يوم الخميس ، وما يوم الخميس! » ثُمَّ بكى حتَّى بلَّ دمعه الحصى. فقيل له ـ والرواية عن سعيد بن جُبير ـ : يا ابن عبَّاس ، وما يوم الخميس ؟
قال : « اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه ، فقال : « ائتوني أكتب لكم كتاباً لا
____________
1) الشهرستاني | الملل والنحل 1 : 29.
2) ابن سعد الطبقات الكبرى 4 : 66 ، ترجمة اسامة بن زيد ، تهذيب تاريخ دمشق 2 : 395 ، 3 : 218 ، مختصر تاريخ دمشق 4 : 248|237 ، 5 : 129|56 ، تاريخ اليعقـوبي 2 : 77 ، تاريخ الخميس 2 : 172.

( 110 )

تضلُّون بعدي » فتنازعوا ، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، وقالوا : ما شأنه ، أهَجَر ؟ استفهموه! قال : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير » ». فكان ابن عبَّاس يقول : « إنَّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم » (1) .

عليٌّ عليه السلام وآخر لحظات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
لمَّا كثر التنازع عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما رأينا سابقاً بشأن الكتاب ، وخرجوا من عنده ، قال : « رُدُّوا عَلَيَّ أخي عَلِيَّ بن أبي طالب ». ولمَّا حضر قال : « ادنُ منِّي » فدنا منه فضمَّه إليه ، ونزع خاتمه من يده ، فقال له : « خُذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه ولامته ، فدفع جميع ذلك إليه ، وقال له : « اقبض هذا في حياتي » ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : « امضِ على اسم الله إلى منزلك » (2) .
وكان عليٌّ عليه السلام لا يفارقه الا لضرورة ، ولمَّا خرج لبعض شأنه قال لهم : « أُدعوا لي أخي وصاحبي » وفي رواية : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له أبا بكر ، فنظر إليه ، ثم وضع رأسه ، ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له عمر ، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فقالت أُمُّ سلمة : أُدعوا له عليَّاً ، فدُعي أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمَّا دنا منه أومأ إليه فأكبَّ
____________
1) ذكرت بعدَّة صيغ في كلٍّ من : صحيح مسلم ـ كتاب الوصية 3 : 1257|1637 ، مسند أحمد 1 : 222 ، مسند أبي يعلى 4 : 298|2409 البداية والنهاية 5 : 200 ، الطبقات الكبرى 2 : 188 ، صحيح البخاري ـ كتاب المرضى 7 : 219|30 ، الكامل في التاريخ 2 : 182 ، إعلام الورى 1 : 265 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 485 تحقيق الأستاذ خليل شحادة وسهيل زكار ، الملل والنحل ـ المقدِّمة الرابعة : 29.
2) إعلام الورى 1 : 266 ـ 269.

( 111 )

عليه ، فناجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً (1) ولمَّا سُئل عن ذلك قال : « علَّمَني ألف باب من العلم ، فتح لي من كلِّ باب ألف باب (2) ، ووصَّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله » (3).
ولمَّا قرب خروج تلك النفس الطيِّبة إلى جنان الخلد وسدرة المنتهى قال له : « ضع رأسي يا عليُّ في حجرك ، فقد جاء أمر الله عزَّ وجلَّ فإذا فاضت نفسي ، فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثُمَّ وجِّهني إلى القبلة وتولَّ أمري ، وصلِّ عليَّ أوَّل الناس ، ولا تفارقني حتَّى تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزَّ وجلَّ ».
ثمَّ قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه ، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثُمَّ وجَّهه وغمَّضه ومدَّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره..
ولمَّا أراد عليٌّ عليه السلام غسله استدعى الفضل بن العبَّاس ، فأمره أن يناوله الماء ، بعد أن عصَّب عينيه ، فشقَّ قميصه من قبل جيبه ، حتى بلغ به إلى سرَّته ، وتولَّى غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يناوله الماء ، فلمَّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدَّم فصلَّى عليه (4) .
____________
1) انظر الحديث بألفاظه المتقاربة في : ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 3 : 17|1036 ، الرياض النضرة 3 : 141 ، ذخائر العقبى : 73 ، المناقب للخوازرمي : 29.
2) كنز العمَّال 13 : 114 ح|36372 ، ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام عليٍّ منه 2 : 485|1012 ، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101|70.
3) إعلام الورى 1 : 266.
4) إعلام الورى 1 : 266 ـ 269 ، ارشاد المفيد 1؛ 187 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 114 ، الطبقات الكبرى 2 : 201 ـ 202 ، 212 ـ 215 ، 220 ، تهذيب الكمال 13 : 298 ، مجمع الزوائد ، باب إسلامه 9|103.

( 112 )

هذه خاتمة ثلاثين عاماً من الجهاد مع هذا الإنسان العظيم المسجَّى اليوم بين يدي عليِّ بن أبي طالب ، فكانت النهاية أن وارى جسده التراب وما أصعبها من نهاية!!
أمَّا البداية فقد احتضن محمَّد بن عبدالله عليَّاً في حجره وهو وليد ، وها هو عليٌّ يحتضن محمَّداً على صدره في آخر رمق من حياته ! آه فطبت حيَّا وميِّتاً..
ولنقرأ ما قاله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يصفُ هذه الخاتمة المؤلمة : « ولقد قُبِض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنَّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفِّي ، فأمررتُها على وجهي ، ولقد وُلِّيتُ غسله صلى الله عليه وآله وسلم والملائكة أعواني ، فضجَّت الدار والأفنية : ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقتْ سمعي هينمةٌ منهم ، يصلُّون عليه ، حتَّى واريناه ضريحه » (1) .
وبعد هذه النهاية المفجعة تتساقطُ قطرات الدمع من عليٍّ عليه السلام حزناً منه على فراق أخيه محمَّد بن عبدالله ، الرسول ، الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ، فيضجُّ صدره بالآلام والمحن ، ويقف على شفير قبر أخيه مطأطأ رأسه ، والدمع يجري كحبَّات لؤلؤ تناثرت على خدَّيه ، وهو يقول : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء ، خصَّصت حتى صرت مسلِّياً عمّن سواك ، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ؛ لانفدنا عليك ماء الشؤون » (2).
____________
1) نهج البلاغة ، الخطبة : 197.
2) نهج البلاغة ، الخطبة : 235.