كتاب الإمام علي سيرة والتاريخ ص156 ـ 178
ثانياً : في عهد عمر بن الخطَّاب :
« فواعجباً ، بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها ، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسُّها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها » (1)! !
نعم عجباً ، فبالأمس كان « الشيخ » يرجع إلى علي عليه السلام في شتَّى الأمور ليلتمس منه الصواب ، حتى كان يقول له : « لازلت موفَّقاً يا ابن أبي طالب » وكان يستقيل الخلافة في حياته إذ كان يقول : « أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم » فكيف ـ والحال هذه ـ يعقدها لعمر بعد وفاته...!
وبلا شكٍّ فأنَّ هناك سابق اتِّفاق بينهما ـ بين الخليفة والوزير! ـ فقد كرهوا أن تجتمع النبوَّة والخلافة في بيت واحد ! هذا القول قد نطق به أحدهم بأعلى صوت وأصرح بيان!
وأخيراً ـ وكما هو منتظر ـ عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطَّاب وكان عُثمان بن عفَّان من أشد أنصار هذا الاتِّجاه؛ لأنَّه شريك الدرب القيادي كما سيتَّضح قريباً!!
وبهذا الحال تمَّت الخلافة لعمر بن الخطَّاب ، وتحقَّقت ضالَّة قريش المنشودة في إبعاد أهل بيت النبوَّة الذين ظهر منهم شعاع الإسلام.. ويا ليتهم لم ينبسوا بكلمة واحدة تدين غصبهم لحقِّ أهل بيت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، لكنَّهم وللأسف الشديد اعترفوا بكلِّ نواياهم المبيّتة..
مضى عمر بن الخطَّاب في سياسته على نفس الخطِّ الذي مشى به
____________
1) نهج البلاغة : الخطبة 3.

( 157 )

أبوبكر ، حذراً كما أوصاه صاحبه : « إحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم » وكأنِّي أراه لا يقصد الا عليَّ بن أبي طالب!
وشدَّد عمر على هؤلاء النفر ، حسب ما أوصى إليه ابن أبي قحافة ، فأوَّل ما بادر الى فعله : حبس هؤلاء الثَّلة المؤمنة في المدينة ولا يسمح لهم أيضاً أن يقاتلوا الكفَّار مع المسلمين كي لا تنتفخ أوداجهم! ويقول لمن يلتمس منه الجهاد : لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك ، نعم ما يكفيه من الثواب والشرف!! عجباً وألف عجب!!
نرجع القول مرَّة أُخرى : قد اعترفوا بحقِّ عليٍّ عليه السلام في الخلافة ، فهذا عمر بن الخطَّاب ، في حوار مع ابن عبَّاس دار بينهما ، يعترف بظلامة ابن أبي طالب.. وفي الحقيقة نلتمس من جواب ابن الخطَّاب على أسئلة ابن عبَّاس تبريرات عديدة في إقصاء عليٍّ عليه السلام عن حقِّه في خلافة الرسول.
يقول عمر أمام ابن عبَّاس : « لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذروٌ من قول ، لا يُثبت حجَّةً ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربعُ في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك.. » وكذا أيضاً في حديث ابن عبادة (1) .
وفي عدَّة مواضع مع ابن عبَّاس :
قال ابن عبَّاس : إنِّي لأُماشي عمر في المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عبَّاس ، ما أرى صاحبك الا مظلوماً.
____________
1) انظر شرح نهج البلاغة 6 : 44.

( 158 )

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها. فقلت له : يا أمير المؤمنين ، فاردد إليه ظلامته! فانتزع يده من يدي ، ومضى يهمهم ساعةً ، ثُمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عبَّاس ، ما أظنُّهم منعهم عنه الا أن استصغره قومه!
فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولى ، فقلت : والله ، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك (1) .
وفي مرَّةٍ أُخرى يقول لابن عبَّاس : أتدري ما منع الناس منكم ؟
قال ابن عبَّاس : لا.
قال عمر : لكنِّي أدري.
قال ابن عبَّاس : وما هو ، يا أمير المؤمنين ؟
قال : كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوَّة والخلافة فتجخفوا جخفاً (2) ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت فأصابت!
قال ابن عبَّاس : أيُميط عنِّي أمير المؤمنين غضبه ، فيسمع ؟
قال : قل ما تشاء.
قال : أمَّا قولك : إنَّ قريشاً كرهت ، فإنَّ الله تعالى قال لقوم : ( ذلِكَ بِأنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أنزَلَ اللهُ فَأحْبَطَ أعْمَالَهُم ) وأمَّا قولك : إنَّا كنَّا نجخف ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنَّا قوم أخلاقنا مشتقَّة من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه الله تعالى : ( وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم ) وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين ).
____________
1) شرح نهج البلاغة 6 : 45 ، 12 : 46 ، مسند أحمد 1 : 3 ، 331 ، و3 : 212 ، 283 ، سنن الترمذي 5 : 636|3719 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 76 ، الإصابة 4 : 270.
2) جخف : تكبّر.

( 159 )

وأمَّا قولك : فإنَّ قريشاً اختارت ، فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ) وقد علمت يا أمير المؤمنين أنَّ الله اختار من خلقِه لذلك مَنْ اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفِّقت وأصابت.
ثُمَّ قال : وأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقِّ من هو ، ألم تحتجَّ العرب على العجم بحقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واحتجَّت قريش على سائر العرب بحقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش (1) .
وأمثال ذلك من الأعذار التي كان يلتمس منها ابن الخطَّاب سبباً يبرِّر موقفهم من الإمام عليٍّ عليه السلام ، وهي كثيرة يطول بذكرها المقام ، وقد عدَّها سبباً في إقصاء الإمام عليٍّ من الخلافة (2) .
وبعد مدَّةٍ وجيزة واصل عمر حروب الفتوح ، فبعث المثنى بن حارثة الشيباني في مواصلة تلك الحروب في نواحي العراق ، فهزمهم الفرس ففرُّوا إلى الأطراف ، فوقف عمر من أمره حائراً ، وأخذ يستشير الصحابة في أن يخرج هو بنفسه في مواصلة الحرب..
ولمَّا استشار عليَّاً عليه السلام نهاه عن الخروج قائلاً : « نحن على موعدٍ من الله ، والله منجزُ وعده ، وناصر جنده ، ومكان القيِّم بالأمر مكانُ النظَام من الخرز ، يجمعه ويضمُّه ، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب ، ثُمَّ لم يجتمع بحذافيره أبداً ، والعرب اليوم ، وإن كانوا قليلاً ، فهم كثيرون بالإسلام ،
____________
1) انظر : الكامل في التاريخ 2 : 458 ، تاريخ الطبري 5 : 31 ، شرح ابن أبي الحديد 12 : 53 ـ 54 ، والآيات حسب التسلسل ، سورة محمَّد : 9 ، سورة القلم : 4 ، سورة الشعراء : 215 ، سورة القصص : 68.
2) انظر شرح ابن أبي الحديد 12 : 78 ـ 79 ، 6 : 45 ، 12 : 46.

( 160 )

عزيزون بالإجتماع ، فكن قُطباً ، واستدر الرحا بالعرب.
إنَّك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمُّ إليك ممَّا بين يديك. إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدُّ لَكَلِبهم عليك ، وطمعهم فيك » (1) .
وبحقٍّ إنَّ كلَّ كلمة من كلمات هذه الخطبة تعكس لنا عظمة علم الإمام عليه السلام.. وتنمُّ عن شخصيته المجلَّلة بالكمال والحكمة والصدق ، وبحقٍّ إنَّه كما قيل : « هو القرآن الناطق ، وما بين الدفَّتين القرآن الصامت » فهو عليه السلام لم يأخذ الا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو معلِّمه الأوَّل والأخير الذي يستقي كماله من الله عزَّ وجلَّ..
فاستبشر عمر بهذه النصيحة العظيمة وعمل بها ، وكان باباً للفتوح وقنطرة لانتصارات عدَّة..
أمَّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد قنع من الدنيا أن لا يتكلَّم الا بلسان البررة الأطهار ، ليقدِّم للمسلمين ، ويحافظ على الشريعة المطهرة ، ويمنع من مخالفتها قولاً أو فعلاً ، في أكثر الموارد التي أوضح فيها المشكلات على عمر وحال دون تطبيق أحكام منها على خلاف الكتاب والسنة ، بحيث لو سكت لكانت أحكاماً تتّبع ، حتى قال فيه عمر : « لولا عليٌّ لهلك عمر » ، « أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن ».
كذا رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس ، متجاهلاً حقَّه ، من أجل
____________
1) نهج البلاغة ، الخطبة : 146.

( 161 )

حفظ بيضة الإسلام ، وقد ساهم الإمام عليه السلام بكلِّ ما بوسعه ، وادَّى ما عليه من البلاغ ، من تعليم وتفقيه ، بل وقضاء أيضاً..
ومن الأمور التي أشار الإمام على ابن الخطَّاب هو أن يدوِّن التاريخ الإسلامي ، وأن يجعل أول عام في تاريخ المسلمين هو عام الهجرة ، حيث لم يكن للناس تاريخ خاص يؤرِّخون فيه ، فبعضهم كان يؤرِّخ بعام الفيل ، وآخرون يعتمدون في تاريخهم تأريخ الدول المجاورة لهم.. ممّا سبَّب الكثير من المشاكل والخلافات ، لذلك عزم ابن الخطَّاب على أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم.
ولمَّا رأى اختلاف الصحابة توجَّه إلى الإمام عليه السلام ـ كعادته ـ بعد أن خاف أن يتفرَّق أصحابه؛ لأنَّهم وقعوا في اختلاف شديد.. لمَّا أقبل على عليِّ بن أبي طالب عليه السلام اتَّجه إليه يسأله ، فقال عليه السلام : « نؤرِّخ بهجرة الرسول من مكَّة إلى المدينة » فأعجب ذلك الخليفة وكلُّ الصحابة ، وهتف عمر يقول : « لازلت موفَّقاً يا أبا الحسن » ، فأرَّخ بأهمَّ حدثٍ تاريخي عظيم ، هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبداية عهد جديد في انتصارات عديدة ، كما مرَّ سابقاً..
وفي هذه الفترة ظهر من الإمام عليٍّ أمور كثيرة وتعلّم الناس منه الفقه والحديث والتفسير ، وكان مرجع المسلمين والمحافظ على الاحكام وسبباً للنجاة من القتل والخلاص من الموت ، فمثلاً :
روي أنَّه أُتي عمر بن الخطَّاب بحاملٍ قد زنت ، فأمر برجمها ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « هَبْ لك سبيلٌ عليها ، أيُّ سبيل لك على ما في بطنها! ؟ والله تعالى يقول : ( وَلأ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) » ، فقال عمر : لا عشتُ


( 162 )

لمعضلةٍ لا يكون لها أبو حسن ، ثُمَّ قال : فما أصنع بها ؟ قال : « احتط عليها حتى تلد ، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدَّ عليها » فسُرِّي بذلك عن عمر ، وعوَّل في الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام (1) .
وتوفِّي عمر في ليلة الأربعاء ، لثلاثٍ بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين ، طعنه أبو لؤلؤة ، مولى المغيرة بن شعبة ، بخنجرٍ مسموم ، فمات على أثرها (2) ) .
قصَّة الشورى (3):
لمَّا طُعنَ عمر بن الخطاب ، أُخذ ودماؤه تسيل منه ، قيل له وهو واهن القوى : لو استخلفت على الناس ، يا أمير المؤمنين! فقال : إن أستخلف ، فقد استخلف مَنْ هو خيرٌ منِّي ، وإن أترك فقد ترك مَنْ هو خيرٌ منِّي ـ يشير إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ـ وأراد من ذلك أن يكون الأمر للمسلمين شورى ، فظهر مبدأ الشورى لأوَّل مرَّة على لسانه في خطبته الشهيرة التي قال فيها : « فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرَّة أن يُقتلا » (4) .
ثُمَّ لم يلبث مليَّاً حتى نقض قوله ، بقوله : « لو كان أبو عبيدة حيَّاً لولَّيته!
____________
1) إرشاد المفيد 1 : 204 وما بعدها.
2) أنظر قصَّة مقتله في الكامل في التاريخ 2 : 446 ، سير أعلام النبلاء 2 : 88 ، وغيرها من كتب التراجم والتاريخ.
3) عن : سير أعلام النبلاء 2 : 92 وما بعدها ، الإصابة 2 : 508 ترجمة الإمام عليِّ بن أبي طالب ، الكامل في التاريخ 2 : 459 ، طبقات ابن سعد 3 : 260..
4) صحيح البخاري 6|6442 ، مسند أحمد 1 : 56.

( 163 )

لو كان معاذ بن جبل حيَّاً لولَّيته! لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيَّاً لولَّيته »! (1) ذلك لأن تمسكه بالشورى كان له سبب مثير!!
ففي موسم الحج من تلك السنة جاء عبدالرحمن بن عوف إلى ابن عباس ، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أن فلاناً « قال : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً » فما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة.. فهمّ عمر أن يخطب الناس رداً على هذا القول فنهيته لاجتماع الناس كلهم في الحج وقلت له : إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد ، فإنه أبعد عن إثارة الشغب.
فلما رجعوا من الحج إلى المدينة قام عمر في خطبته المذكورة.
قال ابن حجر العسقلاني : وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري ، بالإسناد المذكور في الأصل ، ولفظه قال عمر : بلغني أن الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا علياً.. الحديث (2)
اختار عمر ستة من الصحابة ، زعم : « أنَّ رسول الله كان راضياً عن هؤلاء الستَّة » وهم : عُثمان بن عفَّان وعليُّ بن أبي طالب ، وطلحة وسعد بن أبي وقَّاص والزبير وعبدالرحمن بن عوف قال : « وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ».

____________
1) الكامل في التاريخ 2 : 459 ، طبقات ابن سعد 3 : 343.
2) مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري | 337 ، القسطلاني | إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 : 19.

( 164 )

واستدعى إليه أبا طلحة الأنصاري فقال له : يا أبا طلحة ، إنَّ الله طالما أعزَّ بكم الإسلام ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم ، وخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيتٍ واحد ، وقم على رؤوسهم ، فإنَّ اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتَّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ، وإن رضي ثلاثة فانظر الثلاثة الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمَّا اجتمع فيه الناس ، وإن مضى الستَّة ولم يتَّفقوا على أمر ، فاضرب أعناق الستَّة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم..
هذا هو مبدأ الشورى الذي أراده عمر ، ولنرى كيف تمَّ الإتِّفاق..
ولمَّا خرج عليٌّ عليه السلام والجماعة من البيت بانتظار الموعد المعيَّن ، ما لبث أن جاءه عمُّه العبَّاس يسأله عمَّا جرى ، فقال : « عدلتْ عنَّا »! فقال : وما علمك ؟
قال : « قرن بي عُثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن ، فسعد لا يخالف ابن عمِّه ، وعبدالرحمن صهر عُثمان لا يختلفون ، فيولِّيها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني ».. ومضى يقصُّ على عمِّه أحداث الشورى وتفاصيلها ، حتى ملكته الدهشة لما سمع.. فقال له العبَّاس : إحذر هؤلاء الرهط ، فإنَّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به غيرنا ، وأيم الله لا يناله الا بشرٌ لا ينفع معه خير! فقال عليٌّ عليه السلام : « أمّا لئن بقي عُثمان لأذكِّرنَّه ما أتى ، ولئن مات ليتداولُنَّها بينهم ، ولئن فعلوا لتجدنِّي حيث


( 165 )

يكرهون » (1).
ولمَّا اجتمعوا تكلَّم أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : « الحمد لله الذي بعث محمَّداً منَّا نبيَّاً ، وبعثه إلينا رسولاً ، فنحن بيت النبوَّة ، ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة لمن طلب ، لنا حقٌّ إن نُعْطَه نأخذه ، وإن نُمْنَعْه نركبْ أعجاز الإبل ولو طال السُّرى ، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت ، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقٍّ وصلة رحم ، لا حول ولا قوَّة الا بالله ، اسمعوا كلامي وعوا منطقي ، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجمع تُنتضى فيه السيوف ، وتُخان فيه العهود ، حتى تكونوا جماعة ، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة » ثُمَّ قال :

فإن تكُ جاسمٌ هلكــتْ فإنِّي * بما فعلتْ بنو عبد بن ضخمِ
مطيعٌ في الهواجرِ كلَّ عيٍّ * بصيرٌ بالنَّوى مـن كلِّ نجمِ (2)

ومهما كان الحال ، فقد جاء في سائر التواريخ أنَّ أوَّل عمل قام به طلحة أن أخرج نفسه منها ، ووهب حقَّه فيها لعثمان بن عفَّان ، كرهاً منه لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، وأدرك الزبير النوايا المبيتة من طلحة ، فثارت في نفسه نزعة القرابة التي تشدُّه إلى عليٍّ عليه السلام ، فقال : وأنا أُشهدكم نفسي أنِّي قد وهبت حقِّي في الخلافة لعليِّ بن أبي طالب ، فوقف سعد بن أبي وقَّاص وقال : لقد وهبت حقِّي لعبد الرحمن بن عوف ، « وبقي في الساحة ثلاثة كلُّ واحدٍ منهم يمثِّل اثنين » فقال عبدالرحمن لعثمان وعليٍّ عليه السلام : أيُّكما يخرج منها للآخر ؟ فلمَّا
____________
1) الكامل في التأريخ | ابن الأثير 2 : 461 ط. دار الكتب العلمية.
2) تاريخ الطبري 4 : 237 ، الكامل في التاريخ 2 : 466.

( 166 )

لم يجد منهما جواباً ، أخرج نفسه منها على أن يجعلها في أفضلهما.
وعرض على كلٍّ منهما أن يتولَّى الأمر من يؤثر الحقَّ ولا يتَّبع الهوى ، ولا يخصُّ ذا رحمِ ولا يألو الأُمَّة نصحاً ، فوافق كلٌّ منهما على هذه الشروط.. لكنَّه ـ وبعد أن أحرجه الإمام بقبول الشروط ـ خلا عبدالرحمن بسعد بن أبي وقَّاص ، فأدرك عليٌّ عليه السلام أنَّهما إنَّما يريدان مخرجاً يسهِّل لهما أن يُعطوا الخلافة لعثمان؛ فقال أمير المؤمنين لسعد : « ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَرْحَام ) (1) ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبرحم عمِّي حمزة منك أن لا تكون ظهيراً لعبد الرحمن »..
ويبدو من هذا الاتِّفاق أنَّهم خرجوا بشرط جديد يُحرِج عليَّاً عليه السلام ، ولا يمكن له أن يقبله ، وبذلك تكون البيعة لعثمان بن عفَّان ، فقال عبدالرحمن لعليٍّ عليه السلام : عليك عهد الله وميثاقه ، لتعملن بكتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة الشيخين من بعده ، قال الإمام : « أعمل بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه وبرأيي ، فيما لا نصَّ فيه من كتابٍ أو سُنَّة » ، ودعا عُثمان فقال له مثل ما قال لعليٍّ عليه السلام فوافق عليها ، وقال : نعمل نعمل ، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ، ويده في يد عُثمان فقال : اللَّهمَّ اسمع واشهد ، اللَّهمَّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عُثمان ، فبايعه ، وبهذا النحو الذي شهدناه تمَّت البيعة لعثمان ، وحسب التخطيط الذي أراده عمر بن الخطَّاب.
وعقّب الأُستاذ هاشم معروف الحسني على قصَّة الشورى هذه بقوله : « أقول ذلك وأنا على يقين بأنَّ عليَّاً لو وافقهما على الشرط الأخير ، لوضعا
____________
1) سورة النساء : 1.

( 167 )

له شرطاً آخر ، وهكذا حتى ينسحب منها ، وتتمَّ لابن عفَّان بلا منازع ».
حتماً ، فهذه ليست أوَّل مؤامرة تظاهروا بها على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام حينها : « ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُون ) ، والله ما وليتَ عُثمان إلا ليردَّ الأمر إليك ، والله كلُّ يومٍ في شأن »! فقال عبدالرحمن : يا عليُّ ، لا تجعل على نفسك حجَّةً وسبيلاً ، فخرج عليٌّ عليه السلام وهو يقول : « سيبلغ الكتاب أجله » ، فقال المقداد : يا عبدالرحمن ، أما والله لقد تركته ، وإنَّه من الذين يقضون بالحقِّ وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد ، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين. قال : إن كنتَ أردتَ الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
ثم قال المقداد : ما رأيتُ مثل ما أتى إلى هذا أهل البيت بعد نبيِّهم ، إنِّي لأعجب من قريش أنَّهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنَّ رجلاً أقضى بالعدل ولا أعلم منه ، أما والله لو أجد أعواناً عليه!
فقال عبدالرحمن : يا مقداد ، اتِّق الله ، فإنِّي خائفٌ عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد : رحمك الله ، مَن أهل هذا البيت ، ومن هذا الرجل ؟
قال : أهل البيت بنو عبدالمطَّلب ، والرجل عليُّ بن أبي طالب.
فقال عليٌّ عليه السلام : « إنَّ الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر بينها فتقول : إن وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم ».
وقد شهد أبو الطفيل رضي الله عنه حادثة الشورى بما شهده وسمعه ، فقال : كنت على الباب يوم الشورى ، فارتفعت الأصوات بينهم ، فسمعت عليَّاً عليه السلام


( 168 )

يقول : « بايع الناس لأبي بكر ، وأنا والله أولى بالأمر منه وأحقُّ به منه ، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف ، ثُمَّ بايع الناس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه ، وأحقُّ به منه ، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضم رقاب بعضٍ بالسيف ، ثُمَّ أنتم تريدون أن تبايعوا عُثمان! إذاً أسمع وأُطيع » (1) .
ولمَّا عزموا على البيعة لعثمان ، قال الإمام عليٌّ عليه السلام : « أُنشدكم الله ، أفيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين نفسه غيري ؟ » قالوا : لا. قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كنتُ مولاه فهذا مولاه ، غيري ؟ » قالوا : لا.
قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى غيري ؟ » قالوا : لا.
قال : « أفيكم من أؤتمن على سورة براءة ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّه لا يؤدِّي عنِّي الا أنا أو رجل منِّي ، غيري ؟ » قالوا : لا.
قال : « ألا تعلمون أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرُّوا عنه في مأقطِ الحرب في غير موطن ، وما فررتُ قطُّ ؟ » قالوا : بلى.
قال : « ألا تعلمون أنِّي أوَّل الناس إسلاماً ؟ » قالوا : بلى.
قال : « فأيُّنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسباً ؟ » قالوا : أنت.
فقطع عليه عبدالرحمن بن عوف كلامه ، وقال : يا عليُّ ، قد أبى الناس الا عُثمان ، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلاً!
ثُمَّ توجَّه عبدالرحمن إلى أبي طلحة الأنصاري ، فقال له : يا أبا طلحة ،
____________
1) كنز العمَّال 5 : 724|14243.

( 169 )

ما الذي أمرك عمر ؟ قال : أن أقتل من شقَّ عصا الجماعة!
فقال عبدالرحمن لعليٍّ : بايع إذن ، والا كنتَ متَّبعاً غير سبيل المؤمنين!! وأنفذنا فيك ما أُمرنا به!!
فقال عليٌّ عليه السلام كلمته الشهيرة : « لقد علمتم أنِّي أحقُّ بها من غيري ، ووالله لأُسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جورٌ الا عليَّ خاصَّةً؛ إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (1) .
كان هذا آخر ما قاله الإمام عليٌّ عليه السلام يوم الشورى ، فهل تسمَّى هذه شورى ؟ أم غلبة بالسيف ؟!
وختاماً من المناسب أن نذكر هذا المقطع من الخطبة المعروفة بالشقشقية والذي يصف فيه موقفه من هذه الشورى ، فيقول : « فصبرتُ على طول المدَّة ، وشدَّة المحنة.. حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زَعَم أنِّي أحدهم ، فيا لله وللشورى ، متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأوَّل منهم حتى صرتُ أُقرنُ إلى هذه النظائر! » (2) .
ثالثاً : في عهد عُثمان :
دُفن عمر وتمَّت قصَّة الشورى ، وزُفَّ عُثمان كما زُفَّ صاحباه من قبل ، وبايعه الناس ، وتصدَّر المنبر ، منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ليخطب فيهم خطبته التي سيعلن فيها تعهده بالتزام سيرة الشيخين ، وسنرى فيما بعد كيف أنَّه خالف ما تعهد التزامه ، حتى سيرة الشيخين في عدَّة أمور ، وعطَّل بعض
____________
1) شرح ابن أبي الحديد 6 : 166.
2) نهج البلاغة ، الخطبة 3.

( 170 )

الواجبات حتى أصبح عهده عهد الفتن..
ومن أهمِّ الأمور التي انتهجها عُثمان في سياسته ، والتي فتحت أبواباً من الفتن واسعة :
1 ـ أحاط نفسه بأزلام بني أُميَّة ، وتربَّع على العرش يهب أموال المسلمين لرجالات عمومته بني أُميَّة ، فكانوا المقرَّبين منه ، بحيث ترك مشورة كبار الصحابة ، ولم يستعمل أحدهم على أمر من أمور المسلمين واستغنى برأيه ورأي مروان ، والأنكى من كلِّ ذلك أنَّه ألحق الضرر والضرب ـ وحتى الموت ـ بكبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسجن آخرين. فضرب عمَّاراً وفتق بطنه ، وسيَّر أبا ذرٍّ إلى الربذة ، وسيَّر عامر بن قيس من البصرة إلى الشام! وغير ذلك من الأمور الشنيعة ، حتى غلب على عهده التسلُّط والاثرة وجمع الأموال ، واكتفى برأي أصحاب الحيلة والدهاء ، من ذوي قرباه.
2 ـ استبدال الولاة الذين عيَّنهم عمر ، بولاة جدد من بني أُميَّة من أصحاب المطامع ، وليس لأحدهم دين وازع أو سلطان رادع ، ولم يكن همُّ أحدهم سوى جمع الأموال والتربُّع على عرش الملك!
فجمع الشام كلَّه لابن عمِّه معاوية ، وعبدالله بن أبي سرح ـ المرتدُّ ، الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله ولو وجد متعلِّقاً بأستار الكعبة! ـ على مصر ، وهو أخوه من الرضاع ، وفي الكوفة ـ أخوه لاُمِّه ـ الوليد بن عقبة ، وفي البصرة ابن عمِّه سعيد بن العاص ، وولَّى ابن خاله عبدالله بن عامر على خراسان ، وفي المدينة المنوَّرة « مقرُّ الخلافة » كان مروان بن الحكم


( 171 )

ـ طريد رسول الله ولعينه ـ وزير الخليفة ومستشاره ، فهو ابن عمِّه وكاتبه.
وكلُّهم من طغمة بني أُميَّة خاصَّة من مسلمة الفتح « الطلقاء ، والمؤلَّفة قلوبهم » حتى أصبحت أموال الدولة والمسلمين متاعاً خاصاً لهم ، وظنُّوا أنَّ الخلافة وراثةً لهم ، كما قال أبو سفيان : « يا بني أُميَّة تلقَّفوها تلقُّف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم ، ولتصيرنَ إلى صبيانكم وراثةً »!
فهؤلاء هم عمال عُثمان الذين لا يريد أحدهم سوى أن يصبح جبَّاراً في الأرض أو ملكاً يُطاع أو يُسجد له!!
وقد كانت هذه المفارقات وغيرها السبّب لثورة الناس ضدّه ، فسعى الأمام عليه السلام للإصلاح وإخماد الفتنة ، وكم ذكّره بالله والدين ، وبحقوق المسلمين ، وكان مما قال له مرةً : « والله لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان اثمه شركاً بينه وبينك » (1) .
مهَّدت إلى ظهور فتن وأزمات وكم سعى الامام عليه السلام ومن معه من الصحابة في الإصلاح ولم يستجب عثمان ومن حوله لدعوته ، حتى فلت الأمر من يده ، لا سيّما وأنّ بعض أكابر الصحابة كانوا يساندون الثائرين على عثمان والمعترضين بشدة ويؤلّبون الجماهير ضده منهم عائشة التي كانت تقول : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وطلحة الذي كان يكاتب أهل البصرة يحرِّضهم على النهوض لقتل عُثمان (2) . وعبدالرحمن بن عوف الذي قال
____________
1) شرح نهج البلاغة | لابن أبي الحديد 9 : 15.
2) الكامل في التاريخ 3 : 109.

( 172 )

لعثمان : « لِمَ فررتَ يوم أُحد ، وتخلَّفت عن بدر ، وخالفت سُنَّة عمر ؟ » (1) .
ولمَّا طالبت الجماهير المنتفضة عُثمان بعزل الولاة الفاسدين ، واستبدالهم بولاةٍ صالحين ، أبى ذلك ، فعزل أهل الكوفة سعيد بن العاص الأموي ورشحوا أبا موسى الأشعري ، لكن عثمان أقرّ سعيداً ولم يعزله ، وهكذا كان الأمر في بعض الولايات الاسلامية الاخرى بسبب ما لاقاه الناس من الولاة من جورٍ وفساد ، وحينئذٍ عادوا وطلبوا من عثمان ، أن يعزل نفسه ، حينها قال عُثمان : « ما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله » (2) ، فجعل أمر الخلافة هبةً من الله تعالى ، ولا يمكن له أن ينزعها ، وليس من حقِّ الأُمَّة أيضاً أن تثور عليه وتنزع الخلافة منه!
رأى عُثمان أنَّ الأُمَّة كلَّها ضدَّه وسوف لا تتركه حتى يستجيب لارادتها ، ولم يرَ ناصحاً في هذه الأيَّام الشديدة من حياته غير الإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، حينها أجتمع الناس إلى الإمام عليه السلام وبيَّنوا له فساد الأمر بيد عُثمان ، فنهض الإمام عليه السلام ليكلِّم الخليفة وينصحه ، فقال له : « إنَّ الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلُّك على أمرٍ لا تعرفه ، إنَّك تعلم ما نعلم ، وما سبقناك إلى شيءٍ فنُخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلِّغكه ، وقد رأيتَ كما رأينا ، وسمعتَ كما سمعنا ، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما صحبنا..
وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطَّاب بأولى بعمل الحقِّ منك ، وأنت

____________
1) سير اعلام النبلاء ( الخلفاء الراشدون ) : 186.
2) تاريخ الطبري 4 : 371.

( 173 )

أقرب إلى أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة رحمٍ منهما ، وقد نلتَ من صهره ما لم ينالا ، فالله الله في نفسك ، فإنَّك والله ما تُبصَّر من عمىً ، ولا تُعلَّم من جهلٍ ، وإنَّ الطرق لواضحة ، وإنَّ أعلام الدين لقائمة..
فاعلم أنَّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادل ، هُدِي وهدى ، فأقام سُنَّةً معلومة ، وأمات بدعةً مجهولة ، وإنَّ السنن لنيِّرةٌ لها أعلام ، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلام. وإنَّ شرَّ الناس عند الله إمامٌ جائرٌ ، ضلَّ وضُلَّ به ، فأمات سُنَّةً مأخوذةً ، وأحيا بدعةً متروكة ، وإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيُلقى في نار جهنَّم فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثُمَّ يرتبط في قعرها..
وإنِّي أُنشدك الله الا تكون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّه كان يُقال : يُقتل في هذه الأُمَّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويبثُّ الفتن فيها ، فلا يُبصرن الحقَّ من الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقك حيث شاء بعد جلال السنِّ وتقضِّي العمر
»!
فقال له عُثمان : « كلِّم الناس فيّ أن يؤجِّلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم ».
فقال عليه السلام : « ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه » (1) مة.
فكلَّمهم عليٌّ ، فرجع المصريون إلى مصر ، ولكنَّ تأخَّر عُثمان عن
____________
1) نهج البلاغة ، الخطبة : 164.

( 174 )

تنفيذ ما وعدهم به ، وكان الذي صرفه عن ذلك مروان بن الحكم ، إذ قال لعثمان : تكلَّم وأعلِمِ الناس أنَّ أهل مصر قد رجعوا ، وأنَّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً ، قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم ، ويأتيك ما لا تستطيع دفعه! ففعل عُثمان ذلك (1) .
فثارت الفتنة من جديد ، وانتفضت الجموع الغاضبة ، فتشبَّث عُثمان مرَّةً أُخرى بعليٍّ عليه السلام بعد أن رجع المصريون وحاصروه ، فقال له : « يا ابن عمِّ ، إنَّ قرابتي قريبة ، ولي عليك حقٌّ عظيم ، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم ، وهم مُصبِّحيَّ ، ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك ، وأُحبُّ أن تركب إليهم فتردَّهم عنِّي ».
فقال له عليٌّ عليه السلام : « على أيِّ شيءٍ أردُّهم عنك » ؟
قال : « على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي ».
فقال عليٌّ : « إنِّي قد كلَّمتك مرَّةً بعد أُخرى ، فكلُّ ذلك نخرج ونقول ، ثُمَّ ترجع عنه ، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبدالله بن سعد ، فإنَّك أطعتهم وعصيتني ».
قال عُثمان : « فأنا أعصيهم وأُطيعك ».
فأمر الناس ، فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً ، فأتى المصريِّين فكلَّمهم ، فذكر لهم ما وعد به عُثمان من العمل بالحق وإرضائهم (2).
____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 54 ، تاريخ الطبري 4 : 360.
2) الكامل في التاريخ 3 : 53 ـ 54.

( 175 )

ولمَّا عاد الإمام عليٌّ عليه السلام من مهمَّته في تبليغ الوعود ، قال لعثمان : « تكلَّم كلاماً يسمعه الناس منك ، ويشهدون عليك ، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة ، فإنَّ البلاد قد تمخَّضت عليك ، فلا آمن أن يجيء ركب آخرين من الكوفة ، فتقول : يا عليُّ اركب إليهم ، ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذراً ، ويقدم ركب من البصرة ، فتقول : يا عليُّ اركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقِّك ».
فخرج عُثمان فخطب الناس ، فقال بعد الحمد والثناء : أمَّا بعد أيُّها الناس ، فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله ، وما جئت شيئاً الا وأنا أعرفه ، ولكنِّي فتنتني نفسي وكذَّبتني وضلَّ عنِّي رشدي ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من زلَّ فليتب ، ومن أخطأ فليتب ، ولا يتمادَّ في الهلكة ، إنَّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق » ، فأنا أوَّل من اتَّعظ ، واستغفر الله ممَّا فعلت وأتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم ، فوالله لئن ردَّني الحقُّ عبداً لأستنَّ بسُنَّة العبد ، ولأذلَّنَّ ذلَّ العبد ، ولأكوننَّ كالمرقوق ، إن مُلِكَ صبر ، وإن عُتِقَ شكر ، وما عن الله مذهب الا إليه ، فلا يعجزنَّ عنكم خياركم أن يدنوا إليَّ ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي (1) ، فوالله لأعطينَّكم الرضا ، ولأُنحينَّ مروان وذويه ولا أحتجب عنكم (2).
فرقَّ الناس له ، وبكوا ، وبكى هو أيضاً..
____________
1) تاريخ الطبري 4 : 360 ـ 361.
2) الكامل في التاريخ 3 : 55.

( 176 )

ولمَّا نزل عُثمان وعاد إلى بيته عاب عليه مروان إقراره بالخطأ ، وما أعطاهم من الوعد بالإصلاح والصلاح ، ولم يكن من عُثمان الا أن يركن إلى كلامه ويقول : أُخرج إلى الناس فكلِّمهم ، فإنِّي أستحي أن أُكلِّمهم! وخرج مروان إلى الناس فقال لهم : ما شأنكم ؟ قد اجتمعتم كأنَّكم جئتم لنهب! شاهت الوجوه! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! أُخرجوا عنَّا.. ارجعوا إلى منازلكم ، فإنَّا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا (1) .
ولمَّا بلغ عليَّاً عليه السلام هذا الكلام ، وأنّ عُثمان أصرَّ على سياسته التي اختطَّها مروان وغيره ، ولم يستطع أن يغيِّر من موقفهم ، قال : « أي عباد الله ، يا للمسلمين! إنِّي إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقِّي ، وإنِّي إن تكلَّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان ».. وقام مغضباً حتى دخل على عُثمان فقال له : « أما رضيت من مروان ولا رضي منك ، الا بتحريفك عن دينك وعن عقلك.. والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ، وأيمُ الله إنِّي لأراه يوردك ولا يُصدرك! وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أذهبت شرفك ، وغُلبت على رأيك » (2) .
وندم عُثمان على فعله ، فبعث إلى عليٍّ عليه السلام يستصلحه ، فقال عليٌّ عليه السلام : « أخبرته إنِّي غير عائد ».. أمَّا الناس فقد حاصروا عُثمان في بيته ومنعوا عنه الماء.. فاشتدَّ عليه الأمر ، وضلَّ حائراً لا يلوي فعل شيء ، الا أن يغلق عليه بابه وينتظر ما سيحدث!
____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 56 ، البداية والنهاية 7 : 193.
2) تاريخ الطبري 4 : 363.

( 177 )

لكنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بحمل سيفيهما والذود عن عُثمان يمنعان الناس عنه..
وذهب عليه السلام إلى طلحة ـ وكان هو الذي قد منع الماء عن عُثمان مع جماعة حوله ـ متناسياً كلَّ ما حدث من عُثمان ، فقال له : « يا طلحة ، ما هذا الأمر منك الذي وقعت فيه » ؟!
قال : « يا أبا الحسن ، بعد ما مسَّ الحزام الطُّبْيَين » (1) .
فقدم الإمام عليه السلام بيت المال ، وكسر الباب وأعطى الناس ، فانصرفوا عن طلحة حتى بقي وحده! فسُرَّ عُثمان بذلك ودخلت عليه الروايا بالماء.
ونقل الطبري وابن الأثير في تاريخيهما (2) ، قول عُثمان بشأن طلحة : « هذا ما أمر به طلحة بن عبدالله ، اللَّهمَّ اكفني طلحة ، فإنَّه حمل عليَّ هؤلاء وألَّبهم عليَّ ، والله إنِّي لأرجو أن يكون منها صفراً ، وإنَّ يُسفك دمه! إنَّه انتهك منِّي ما لا يحلُّ له! ».
أمَّا المصريون الذين كلَّمهم عليٌّ عليه السلام ورجعوا ، فبينما هم في بعض الطريق رأوا راكباً أمره مريب ، فأخذوه وفتَّشوه ، فإذا هو غلام عُثمان يحمل كتاباً بختم عُثمان الى عبدالله بن سعد أن يفعل بهم ويفعل! وكان مروان هو الذي زوَّر هذا الكتاب (3) .
فرجعوا وشدَّدوا الحصار على عُثمان ، بعد أن خيَّروه بين ثلاث : أن
____________
1) الكامل في التاريخ 3 : 56. وقوله « مسّ الحزام الطُّبْيَين » كناية عن المبالغة في تجاوز حدّ الشرّ والأذى ، لأن الحزام إذا بلغ الطبيين فقد انتهى إلى أبعد غاياته. فالطُّبي حلمة الضرع | لسان العرب ( طبي ).
2) تاريخ الطبري : 4 : 379 ، الكامل في التاريخ 3 : 167.
3) انظر : الخلفاء الراشدون من تاريخ الاسلام للذهبي : 458.

( 178 )

يخلع عمَّاله الذين شكتهم الناس ، أو يخلع نفسه ، أو يقتلوه!
وكأنَّه اختار لنفسه القتل ، حيث قال : « ما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله عزَّ وجلَّ ».