سِمات الخوارج

روحية الخوارج روحية خاصة. كانوا مزيجاً من القبح والجمال، وبلغ جماع أمرهم أ نّهم وقفوا في صفوف أعداء عليّ(عليه السلام)، فكان أنّ شخصية عليّ(عليه السلام) (دفعتهم) ولم (تجذبهم).

إننا هنا نذكر الجانب الإيجابي الجميل عندهم، كما نذكر جانبهم السلبي القبيح الّذي جعل من روحيتهم في المجموع روحية خطرة، بل مرعبة.

1 ـ الروحية المناضلة المضحية الّتي كانت تحملهم على الدفاع عن عقائدهم بكلّ شدة وصرامة. إننا نجد في تاريخ الخوارج حوادث من التضحية والفداء قل نظيرها في تاريخ البشر. وقد ربتهم روح التضحية ونكران الذات على الشجاعة والجرأة.

يقول عنهم ابن عبد ربّه:

«وليس في الفرق كلها أشد بصائر من الخوارج، ولا أشد اجتهاداً، ولا أوطن أنفساً على الموت. منهم الّذي طعن، فأنفذه الرمح، فجعل يسعى إلى قائله ويقول: وعجلت إليك ربِّ لترضى»(1).

أرسل معاوية شخصاً كان ابنه من الخوارج ليعيد هذا الابن إليه، فلم يستطع الأب ارجاع ابنه عن عزمه. وأخيراً قال له: أي بني، سأذهب لآتي لك بوليدك الصغير لعل حنان الأبوة يعيدك إليه. فقال الابن: والله إنّي لأشوق إلى الضربة الشديدة مني إلى ولدي(2).

2 ـ كان الخوارج من المتعبدين المتنسكين، يمضون الليل في العبادة، لا تستميلهم الدنيا بزخارفها. عندما أرسل عليّ(عليه السلام) ابن عباس يوم النهروان ليبذل لهم النصح، عاد ابن عباس ووصفهم بقوله:

«لهم جباه قرحة لطول السجود، وأيد كثفنات الإبل، عليهم قمص مرحضة وهم مشمرون»(3).

كان الخوارج متمسكين بأحكام الإسلام وظواهره أشد التمسك، يبتعدون عن كلّ ما كانوا يرونه إثماً. كانت لهم معاييرهم الخاصة الّتي كانت تمنعهم من اقتراف أي مخالفة، وكانوا ينفرون ممن يرتكب خطيئة. قتل زياد ابن أبيه أحد الخوارج، ثمّ استجوب خادمه عنه، فقال: ما قدمت له طعاماً في النهار ولا فرشت له فراشاً في الليل، فقد كان صائماً نهاره وقائماً بالعبادة ليله(4).

كل خطوة من خطواتهم كانت تنبع من العقيدة، وكانوا ملتزمين في جميع أفعالهم، وكانوا يسعون في نشر عقائدهم.

ولقد أوصى بهم عليّ(عليه السلام) فقال:

«لاَ تَقْتُلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»(5).

أي إنّهم يختلفون عن معاوية وصحبه، فالخوارج سعوا للوصول إلى الحقّ ولكنهم أخطأوا الطريق اليه، ولكن الآخرين كانوا منذ البداية مخادعين، ويسيرون في طريق الباطل. لذلك فقتلكم الخوارج ينفع معاوية وهو أسوأ من هؤلاء وأخطر.

قبل أن نواصل القول في سائر سمات الخوارج، وما دمنا في معرض الحديث عن زهدهم وتقواهم وتقدسهم، لابدّ من الإشارة إلى أنّ واحداً من جلائل أعمال الإمام عليّ(عليه السلام) ومن أعجبها وأبرزها في تاريخ حياته هو جرأته البالغة وشجاعته في كونه قد انبرى لمحاربة هؤلاء المتدينين الّذين غلب عليهم الجفاف والتحجر والجمود الفكري والغرور.

لقد شهر عليّ(عليه السلام) سيفه بوجه جماعة يرى الناس عليهم علائم الصلاح وملامح التقوى والتزهد بادية، خلقة ثيابهم، يقضون أوقاتهم متعبدين.

فلو كنا نحن من أصحاب عليّ(عليه السلام)، ورأيناه يشهر السلاح عليهم، لكانت مشاعرنا تثور، ولكنا نقف بوجهه معترضين، ولفعله منكرين.

إنّ من بين الدروس القيمة حقاً في تاريخ التشيع خصوصاً، وفي عالم الإسلام عموماً، هو قصة الخوارج هذه.

لقد كان عليّ(عليه السلام) يدرك كلّ الإدراك أهمية عمله ذاك وعظمه، وفي ذلك يقول:

«فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا»(6).

إنّ لعليّ(عليه السلام) في هذا القول تعبيرين عجيبين:

الأوّل: هو (غيهب الفتنة) أي ظلامها وشمولها وإثارتها للشك، فقد كان ظاهر الخوارج على درجة من القدسية والتقوى بحيث أ نّه كان يثير شك مؤمن نافذ الإيمان في صحة ما يقوم به عليّ(عليه السلام)، فكان هذا يخلق جواً من الغموض والظلام والشبهة والتردد.

أمّا تعبيره الثاني: فهو قوله بما في تلك الفتنة من كَلَب (بالتحريك).. والكَلَب هو الجنون المرضي الّذي يصيب بعض الكلاب فتعض من تصادفه فتنقل إليه (مكروب) ذلك المرض المعدي.. ففي عضة الكلب يسري الميكروب من لعابه إلى دم الإنسان أو الحيوان، فلا يلبث المعضوض من يصاب بداء جنون الكلب نفسه، ويهاجم الآخرين ويعضهم، ناقلا المرض اليهم أيضاً. فماذا دام هذا طويلا كان من أخطر الأُمور. ولهذا فإنّ العقلاء لا يترددون في قتل الكلب المسعور ليجنبوا الآخرين خطره.

هكذا يصفهم الإمام عليّ(عليه السلام). إنّهم كانوا كالكلاب المسعورة الّتي لا ينفع فيها دواء. فكانوا لا يفتأون يعضون وينشرون البلاد فيزداد عدد المسعورين.

الويل للمجتمع الإسلامي إذا ظهر بينهم متدينون جافون جامدون جهلة لا يحيدون عن سبيلهم، فيندفعون يعضون هذا وذاك. فأي قدرة تستطيع أن تقف في وجوه هذه الأفاعي الّتي لا ينفع فيها سحر ولا حيلة؟

ما تلك الروح القوية الواثقة الّتي لا يصيبها الارتجاف أمام كلّ ذلك الزهد والتقوى؟ وأي يد لا ترتعش وهي ترفع السيف لتنزله على هامات هؤلاء؟

ولهذا يقول عليّ(عليه السلام): «وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِىءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي». إنّ أحداً من المسلمين المؤمنين بالله ورسوله والمعاد لم يكن ليجرأ على أن يشهر السيف في وجه هؤلاء، عدا عليّ(عليه السلام) ببصيرته النافذة وإيمانه المكين.

إنّ أمثال هؤلاء إنّما يجرؤ على قتلهم الّذين لا يعتقدون بالله وبالإسلام، لا المؤمنون الملتزمون من سائر الناس.

لذلك فإنّ عليّاً(عليه السلام) يفتخر بفعلته العظيمة قائلا: «فَأَنا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ» ودرأت عن المسلمين خطراً عظيماً كان قادماً إليهم مع هؤلاء المتدينين المتحجرين. فلا جباههم المتقرحة من أثر السجود، ولا ملابسهم الرثة وزهدهم، ولا ألسنتهم الدائمة الذكر لله، ولا حتّى إيمانهم الراسخ وثباتهم، لم تستطع أن تغيم على بصيرتي. فأنا وحدي الّذي أدركت أ نّي إن تركت هؤلاء يوطدون أقدامهم فإنّهم سيصيبون الآخرين بدائهم، ويجرون عالم الإسلام إلى التمسك بالظواهر والقشور وبالجمود الفكري والتحجر العقلي، حتّى يقصموا ظهر الإسلام. ألم يقل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «اثنان قصما ظهري: عالم متهتك وجاهل متنسك».

عليّ(عليه السلام) يريد أن يقول: لو لم أقم أنا بمحاربة الخوارج في دنيا الإسلام، لما تجرأ أحد بعدي على القيام بذلك، إذ ما كان أحد غيري يستطيع أن يرى فريقاً من الناس ثفنت جباههم من كثرة السجود، وسلكوا مسالك المتدينين، وهم في الوقت نفسه سر في طريق الإسلام.. أُناساً يحسبون أ نّهم يعملون في سبيل الإسلام، ولكنهم في الواقع من أعداء الإسلام، ثمّ ينهض لمحاربتهم ويريق دماءهم.. أنا فعلت هذا.

لقد مهد عليّ(عليه السلام) بعمله ذاك الطريق أمام الخلفاء والحكام من بعده، فأقدموا على محاربتهم وإراقة دمائهم، بغير أن يعترض الجنود على ذلك، على اعتبار أنّ عليّاً قد فعل ذلك من قبل.

إنّ سيرة عليّ(عليه السلام) ـ في الحقيقة ـ قد فتحت الطريق للآخرين لكي يتمكنوا من مجالدة أُناس ظاهري الصلاح والتقوى، ولكنهم في الواقع حمقى جامدون.

3 ـ كان الخوارج جهلة، فكان من تأثير جهلهم ذاك أ نّهم لم يكونوا يدركون حقائق الأُمور ويسيؤون التفسير. ومن ثمّ تشكل اعوجاج الفهم عندهم بالتدريج بصورة مذهب ديني، بحيث أ نّهم لم يبخلوا بأعظم التضحيات في سبيل تثبيته. وفي البداية أظهروا تمسكهم بالفريضة الإسلامية (النهي عن المنكر) كأ نّهم فريق لا هدف لهم سوى إحياء تلك الفريضة الإسلامية.

هنا ينبغي علينا أن نتريث قليلا لنمعن النظر ملياً في جزء من التاريخ الإسلامي.

عندما نرجع إلى السيرة النبوية نرى أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خلال فترة بقائه في مكة مدة ثلاث عشر سنة لم يجز لأحد الجهاد، ولا حتّى الدفاع، بحيث أن المسلمين أحسوا بالضيق من ذلك، وهاجر جمع منهم إلى الحبشة بإذن من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الآخرين مكثوا وتحملوا العذاب حتّى وافت السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، فأجاز رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الجهاد.

خلال فترة مكة تلقى المسلمون التعاليم، وتعرفوا على روح الإسلام، فنفذت الثقافة الإسلامية إلى أعماقهم، فكانت النتيجة أ نّهم عند دخولهم المدينة كان كلّ منهم داعية من دعاة الإسلام الصادقين، فكان النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)يرسلهم إلى الأطراف والأكناف فيؤدون واجبهم على خير وجه، وإذا ما اشتركوا في الجهاد كانوا يعلمون ما هي الأهداف والمثل الّتي يحاربون من أجلها، فكانوا كما قال عنهم عليّ(عليه السلام):

«وحملوا بصائرهم على أسيافهم»(7).

إنّ تلك السيوف المسقاة، وأُولئك النفر المتعلمون، هم الّذين استطاعوا أن يؤدوا رسالة الإسلام. عندما نقرأ التاريخ ونستمع إلى أقوال أُولئك الّذين لم يكونوا إلى ما قبل ذلك بسنوات يعرفون شيئاً غير السيف والبعير، فإننا ليأخذنا العجب وتنتابنا الحيرة لدى اصدامنا بثقافتهم الإسلامية وعلو تفكيرهم.

من المؤسف أ نّه في عهد الخلفاء كان الاهتمام منصباً ـ أكثر ـ على الفتوحات، غافلين عن أنّ عليهم ـ بموازاة فتحهم أبواب الإسلام بوجوه الآخرين واستقبالهم في الإسلام ممن كان يجذبهم التوحيد في الإسلام والعدل والمساواة بين العرب والعجم أن يعلموهم الثقافة الإسلامية لكي يتعرف الناس على روح الإسلام عن كثب.

كان الخوارج من العرب في الغالب وفيهم أفراد قلائل من غير العرب. ولكنهم جميعاً، بعربهم وغير عربهم، كانوا يجهلون الثقافة الإسلامية، وكانوا كمن يريد أن يستعيض عما فيه من منقصة بالتشدد في الركوع والسجود والإطالة فيهما. وبهذا يصفهم عليّ(عليه السلام) فيقول:

«جُفَاةٌ طَغَامٌ، وعَبِيدٌ أَقْزَامٌ، جُمِّعُوا مِنْ كُلِّ أَوْب، وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْب، مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَيُؤَدَّبَ، وَيُعَلَّمَ وَيُدَرَّبَ، وَيُوَلَّى عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنْصَارِ، وَلاَ مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ»(8).

إنّ ظهور طبقة من المتدينين الجهلة، الّذين كانوا الخوارج جزءاً منهم، قد كلف الإسلام غالياً. فبغض النظر عن الخوارج الّذين كانوا ـ مع عيوبهم ـ يتحلون بالفضيلة والشجاعة والتضحية، ظهر من هؤلاء فريق من المتنسكين الّذين خلوا حتّى من تلك الفضائل، فأخذوا يجرون الإسلام نحو الرهبانية والإنزواء، وروجوا سوق التظاهر والرياء. ولما كان هؤلاء تعوزهم تلك الشجاعة الّتي تدفع بهم إلى اشهار السيف على أصحاب السلطة، سلّوا سيف اللسان على أرباب الفضيلة، فراحوا يلصقون تهمة الكفر والفسق واللادينية بكلّ صاحب فضيلة.

على كلّ حال، فإنّ من أبرز سمات الخوارج هو الجهل. من جملة جهلهم عدم التفكيك بين ظاهر القرآن وباطنه، أي بين خط القرآن وجلده وبين معناه. ولهذا انخدعوا بحيلة معاوية وعمرو بن العاص الواضحة.

لقد امتزجت (الجهالة والعبادة) في هؤلاء. فكان عليّ(عليه السلام) يريد أن يحارب جهالتهم، ولكن لم يكن بالإمكان فصل جانب الزهد والتقوى والعبادة في هؤلاء عن جانب الجهل فيهم. بل إنّ عبادتهم كانت هي الجهالة بعينها. فقد كانت العبادة المصحوبة بالجهالة، في نظر عليّ(عليه السلام) العَالِم بالإسلام علماً من الطراز الأوّل، لا قيمة لها، لذلك فقد ضربهم، ولم تستطع ملامح الزهد والتقوى والعبادة فيهم أن تمنع عنهم عليّاً(عليه السلام).

إنّ خطر جهل أمثال هؤلاء الأفراد والجماعات أكثر من مجرد الوقوع كآلات بيد الأذكياء الّذين يريدونهم حجر عثرة في طريق المصالح الإسلامية العليا. إنّ المنافقين الّذين لا دين لهم يسعون دائماً لاستشارة المتدينين الحمقى ضد المصالح الإسلامية، فيصبحون سيوفاً بأيديهم وسهاماً في أقواسهم.

وما أدق الوصف الّذي يصف به عليّ(عليه السلام) هذه الحالة فيهم إذ يقول:

«ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ!»(9).

قلنا: إنّ الخوارج بدأوا بهدف احياء سنّة إسلامية، إلاّ أنّ جهلهم وعدم تبصرهم أوصلهم إلى ما وصلوا اليه، فأخطأوا في تفسير القرآن، فأدى هذا إلى تفردهم في مذهب معين وإلى سلوكهم مسلكاً خاصاً. لقد جاء في القرآن:

(قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)(10).

(الحكم) في هذه الآية لله، ولكن لابدّ من معرفة ما هو المراد بالحكم.

لاشك أنّ المراد بالحكم هنا هو القوانين والأنظمة الّتي تحكم حياة البشر. هذه الآية لا تعطي حقّ وضع القوانين لأحد سوى الله، فذلك من الشؤون الخاصة بذات الله (أو بمن يمنحه الله صلاحيته).

ولكن الخوارج اعتبروا الحكم بمعنى الحكومة والحَكَمية، وصنعوا في ذلك شعاراً لهم وقالوا: لا حكم إلاّ لله. قاصدين بذلك إلى القول بأن الحكومة والحكمية والقيادة لله وحده، كما أنّ لله وحده حقّ وضع الأحكام والقوانين، وأن ليس لأحد غير الله أن ينصب نفسه حكماً أو حاكماً بين الناس، مثلما ليس لأحد غير الله أن يسن قانوناً.

لذلك كانوا إذا رأوا الإمام عليّاً واقفاً يصلي أو خطيباً على المنبر، نادوا بأعلى أصواتهم: لا حكم إلاّ لله، لا لك ولأصحابك يا عليّ.

فكان يرد عليهم بقوله:

«كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ إلاّ الله، وأَ نَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الاَْجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر»(11).

أي إنّ القانون لا يجري بنفسه، بل لابدّ من فرد أو جماعة تقوم بإجرائه وتنفيذه.

4 ـ كان الخوارج أُناساً قصيري النظر ضيقيه، يدور فكرهم في أُفق دون. كانوا يحصرون الإسلام والمسلمين في اطار ضيق محدود من الأفكار. كانوا ـ مثل غيرهم من قصيري النظر ـ يزعمون أنّ الجميع لا يفهمون جيداً، أو لا يفهمون إطلاقاً، وأ نّهم قد تجنبوا طريق الصواب فأصبحوا جميعاً من أهل النار.

إنّ أول ما يفعله قصيرو النظر كهؤلاء هو أ نّهم يصبغون ضيق نظرهم هذا بصبغة العقيدة الدينية، ويحددون رحمة الله، ويجلسون الله على كرسي الغضب دائماً وكأ نّه ينتظر من عباده أتفه زلة ليعذبهم عذاباً أبدياً.

إنّ واحداً من أُصول عقائد الخوارج هو أن مرتكب الكبيرة ـ كالكذب والغيبة وشرب الخمر ـ كافر وخارج عن الإسلام ويستحق الخلود في النار. وعليه فإنّ جميع الناس ـ عدا نفر منهم ـ مخلدون في نار جهنم.

إنّ ضيق النظرة الدينية من سمات الخوارج، ولكننا اليوم نصادف هذه السمة في المجتمع الإسلامي على الرغم من انقراض الخوارج. وهذا هو الّذي قصدنا إليه بقولنا: إنّ الخوارج قد مات شعارهم، إلاّ أنّ روح مذهبهم ما يزال حياً إلى حد ما بين بعض الناس والطبقات.

إننا نرى بعضاً من ذوي الأدمغة الجافة يعتبرون جميع الناس ـ باستثناء أنفسهم ونفر معدود منهم ـ من الكفار والملحدين، ويحددون دائرة الإسلام والمسلمين بأضيق الحدود.

قلنا في الفصل السابق: إنّ الخوارج كانوا يجهلون روح الثقافة الإسلامية. ولكنهم كانوا يتصفون بالجرأة. وقد أدى بهم جهلهم ذاك إلى أن يكونوا ضيقي النظر، وهذا بدوره حملهم على التسرع في تكفير الناس وتفسيقهم بحيث أ نّهم حصروا الإسلام بأنفسهم فقط، واعتبروا سائر المسلمين ـ الّذين لم يكونوا يرتضون عقائدهم ـ كفاراً. وكان من جرأتهم أ نّهم كانوا يقصدون أرباب السلطة لكي يأمروهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، معرضين أنفسهم للقتل.

ثم قلنا: إنّ جمودهم الفكري وتنسكهم وتقدسهم وضيق نظرتهم بقي بعدهم إرثاً للآخرين بغير أن يبقى معه شيء من جرأتهم وشجاعتهم وتضحياتهم.

فكان أن ظهر الخوارج الجبناء، أي أولئك المتقدسون الّذين تركوا السيوف في أغمادها، وتخلوا عن فكرة تقصد رجال السلطة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأ نّها كانت خطراً عليهم، ولكنهم راحوا يسلقون رجال الفضل والفضيلة بألسنة حداد، فألصقوا بكلّ صاحب فضل تهمة من التهم، بحيث أننا قلما نجد أحد الفضلاء في تاريخ الإسلام ممن لم يتخذه هؤلاء الخوارج هدفاً لسهام اتهاماتهم: فهذا ينكر وجود الله، وذاك ينكر المعاد، وآخر ينكر المعراج الجسماني، والرابع صوفي، والخامس كذا... الخ...

ولو أننا أخذنا بأقوال هؤلاء لما وجدنا بين أظهرنا أي عالم إسلامي حقيقي، فعندما يكفّرون عليّاً(عليه السلام) فاقرأ على الآخرين السلام، فابن سينا، والخواجة نصير الدين الطوسي، وصدر المتألهين الشيرازي، وفيض الكاشاني، والسيد جمال الدين الأسدآبادي، وحتّى محمّد اقبال الباكستاني، هم ممن تجرعوا جرعة من كأس هؤلاء.

وفي هذا يقول ابن سينا ما ترجمته:

(تكفير شخص مثلي ليس سهلا جزافاً *** فلا إيمان أقوى من إيماني)

(أنا نسيج وحدي في الدهر، فإن أكن كافراً *** فما عاد في الدهر مسلم أبداً)

ويقول نصيرالدين الطوسي الّذي كفره عالم اسمه (نظام العلماء) ما ترجمته:

(لئن كفرني نظام بلا نظام *** فإن سراج الكذب لا ضياء له)

ولكني سوف أدعوه مسلماً *** لأنّ جواب الكذب كذب مثله)

على كلّ حال، لقد كان من سمات الخوارج البارزة ضيق أفقهم وقصر نظرهم، مما دعاهم إلى الحكم على الآخرين بالكفر والإلحاد.

لقد فند الإمام عليّ(عليه السلام) مزاعمهم هذه، وقال: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقيم الحد على المذنب ثمّ يصلّي على جنازته، فلو كان مرتكب الكبيرة كافراً لما صلّى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على جنازته، لأنّ الصلاة على جنازة الكافر غير جنائزة نهى القرآن عن ذلك:

(وَلا تُصَلِّ عَلَى أحَد مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)(12).

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) رَجَمَ الزَّانِيَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ، وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الُْمحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ وَنَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ; فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) بِذُنُوبِهمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللهِ فِيهمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الاِْسْلاَمِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ»(13).

يقول: لنفرض أنني قد أخطأت فكفرت، فلماذا تكفّرون جميع المسلمين؟ إذا ضل أحد وأخطأ فهل ينسحب ذلك على الآخرين فيدخلهم في زمرة الضالين المخطئين الّذين يستحقون العقاب؟ لماذا تسلطون سيوفكم على رقاب المذنبين ـ على حدا زعمكم ـ وغير المذنبين معاً؟

إنّ الإمام يأخذ عليهم وجهين من وجوه النقد، فتدفعهم دافعته عنه من اتجاهين:

الأوّل: إنّهم يحملون البريء ذنب المجرم ويعاقبونه على ذلك.

والثاني: إنّهم يكفرون من يرتكب ذنباً ويخرجونه من إسلامه، فيضيقون بذلك دائرة الإسلام بحيث أنّ من يضع قدمه خارج عدد من التعاليم فقد خرج عن الإسلام.

يدين الإمام عليّ(عليه السلام) فيهم ضيق الأُفق وقصر النظر. والواقع أنّ حرب عليّ(عليه السلام) على الخوارج لم تكن حرباً على أفراد، بل كانت حرباً على طراز خاص من التفكير، إذ لو لم يفكر أُولئك الأفراد على هذه الشاكلة لما عاملهم عليّ(عليه السلام) تلك المعاملة. إنّه قتلهم ليقتل أفكارهم، ولكي يفهم القرآن على حقيقته، ولكي يرى المسلمون الإسلام والقرآن كما هما وكما يريده لهما واضع قوانينهما.

إنّ قصر نظرهم واعوجاج تفكيرهم هما اللذان سهلا لخدعة رفع المصاحف أن تنطلي عليهم، وخلقوا من أنفسهم أعظم خطر على الإسلام، إذ منعوا عليّاً من أن يستأصل جذور النفاق إلى الأبد بالقضاء على معاوية وأفكاره قضاءً مبرماً، فكان ما كان بعد ذلك من الأحداث الفاجعة الّتي انصبت على المجتمع الإسلامي(14).

لم يكن الخوارج يرون سائر المسلمين مسلمين بسبب قصر نظرهم، فحرّموا ذبائحهم، وأهدروا دماءهم، ولم يتزاوجوا معهم.

 

سياسة رفع المصاحف

إن سياسة (رفع القرآن على الرماح) ما زالت رائجة بين المسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً. وعلى الأخص كلما كثر المتقدسون والمتظاهرون وراجت سوق التظاهر بالزهد والتقوى، وكثر من ناحية أُخرى المستفيدون من سياسة رفع المصاحف. فالدروس الّتي يجب أن نستخلصها من ذلك هي:

أ ـ الدرس الأوّل: هو أ نّه حينما يعتبر الناس الجهال والمغفلين أ نّهم هم الّذين يمثلون التدين والتقوى، ويتخذونهم نماذج للإسلام فعلا، يصبح هؤلاء أداء طيعة بيد الأذكياء النفعيين، فيتخذونهم سداً منيعاً ضد المصلحين الحقيقيين وأفكارهم.

وكثيراً ما لوحظ أنّ العناصر المناوئة للإسلام تستغل هذه الأداة، أي إنّها توجه قدرة الإسلام نفسه ضد الإسلام.

إنّ الاستعمار الغربي جرب هذه الوسيلة مرات عديدة، وما يزال يستغلها لتحريك أحاسيس المسلمين الكاذبة لغرض ايجاد التفرقة بين المسلمين لمصلحته الخاصة.

ما أشده مدعاة للعار أن ينبري مسلم مخلص لطرد الأجانب، مثلا، والتخلص من نفوذهم، فيقوم أُولئك الّذين يريد إنقاذهم باختلاق الذرائع والحجج الدينية لوضع سد قوي أمامه! نعم، إذا كان سواد الناس جاهلا وغافلا، فإنّ المنافقين يستغلون خنادق الإسلام نفسها لمحاربة الإسلام.

ففي إيراننا هذه حيث يفتخر الناس بمحبة آل البيت الأطهار(عليهم السلام)، يقوم المنافقون باستغلال اسم أهل البيت المقدس، ويتخذون من (الولاء لآل البيت) المقدس خندقاً يحاربون منه القرآن والإسلام وآل البيت لمصلحة اليهود الغاصبين. وهذا أفظع أنواع الظلم بحقّ الإسلام والقرآن والنبيّ الكريم وأهل بيته الكرام.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):

«إنّي ما أخاف على أُمتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير».

ب ـ الدرس الثاني: هو أنّ علينا أن نسعى لكي تكون استنباطاتنا من القرآن صحيحة. فالقرآن لا يكون هادياً ومرشداً إلاّ إذا صح تدبره، وصدق تفسيره، واسترشد بهداية آل القرآن الراسخين في علوم القرآن. فما لم يكن أُسلوب استنباطنا من القران صحيحاً، وما لم نتعلم طريقة الاستفادة من القرآن، لا يمكن أن ننتفع به. إنّ النفعيين أو الجهّال قد يقرأون القرآن ولكنهم يسيرون وراء الاحتمال الباطل. لقد سمعتم قول (نهج البلاغة) في أنّ كلمتهم (كلمة حقّ أُريد بها باطل) فهذا ليس إحياء للقرآن وعملا به، بل هو إمانة القرآن. إنّ العمل بالقرآن لا يكون إلاّ عندما نفهمه فهماً صحيحاً.

إنّ القرآن يعرض الأُمور عرضاً كلياً ومبدئياً، ولكن الاستنباط وتطبيق الكلي على الجزئي لا يكون إلاّ بفهمنا إيّاه فهماً صحيحاً. فمثلا، لم يذكر في القرآن أنّ الحرب الفلانية الّتي سوف تقع بين عليّ(عليه السلام). إنّ كلّ ما جاء في القرآن هو:

(وَإنْ طَائِفَـتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْـتَـتَلُوا فَأصْلِحُوا بَـيْنَهُمَا فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَـقَاتِلُوا الَّتِي تَـبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ اللّهِ)(15).

هذا هو القرآن وأُسلوب بيان القرآن. إنّه لا يقول: إنّ الحقّ مع فلان في الحرب الفلانية، وإنّ فلاناً على باطل. إنّ القرآن لا يذكر الأسماء والأفراد. إنّه لا يقول بعد أربعين سنة أو أكثر أو أقل سوف يظهر رجل اسمه معاوية ويحارب عليّاً(عليه السلام)، فعليكم أن تحاربوا مع عليّ(عليه السلام). إنّ القرآن لا يدخل في التفاصيل ولا يعدد الحوادث ولا يضع اصبعه على الحقّ والباطل.

ليس هذا بالإمكان، فقد جاء القرآن ليبقى دائماً وأبداً، فليس عليه إلاّ أنّ يبين الأُصول والكليات بحيث أ نّه كلما تقابل حقّ وباطل في أي عصر من العصور استطاع الناس أن يعملوا ـ وفق مقاييس تلك الكليات والأُصول ـ أنّ الأمر يعود إلى الناس لكي يفتحوا عيونهم ليروا ما ينبغي أن يفعلوه وفق مبدأ (وَإنْ طَائِفَـتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْـتَـتَلُوا...) فيميزوا الفرقة الباغية من غير الباغية، وإذا ما فاءت الباغية إلى أمر الله قبلوا منها ذلك، وإذا ركبت رأسها وتحايلت لإنقاذ نفسها من السقوط لكي تتحين فرصة أُخرى للهجوم وتبغي مرة أُخرى، وتتظاهر بقبول القول (فَإنْ فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَـيْنَهُمَا) فلا تنخدعوا بمكرهاً.

إنّ التعرف على كلّ هذا يعود إلى الناس أنفسهم. إنّ القرآن يريد للمسلمين الرشد العقلي والاجتماعي، لكي يستطيعوا أن يميزوا بين رجل الحقّ ورجل الباطل. إنّ القرآن لم يأت لكي يبقى دائماً بالنسبة للناس كولي على القاصرين فيعاملهم كما يعامل الولي الصغير القاصر، فيدبر أُموره الصغيرة ضمن قيموميته، ويعين له ما يفعل في كلّ حالة من الحالات.

إنّ معرفة الأشخاص ودرجة صلاحيتهم ولياقتهم ومدى تمسكهم بالإسلام وبالحقائق الإسلامية إنّما هي ـ من حيث المبدأ ـ واجب، ولكننا غالباً ما نغفل عن هذا الواجب الخطير.

يقول عليّ(عليه السلام):

«إِنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ»(16). أي إنّ معرفة الأُصول والكليات لا تنفع وحدها حتّى تطبق على مصاديقها ومفرداتها، إذ يمكن بالخطأ في معرفة الأشخاص وبعدم إدراك الموقف أن تعملوا باسم الحقّ وباسم الإسلام وتحت الشعارات الإسلامية، ما هو ضد الإسلام، وما هو ـ في الحقيقة ـ لمصلحة الباطل.

لقد ذكر القرآن الظلم والظالم والعدل والحقّ، ولكن ينبغي معرفة مصاديقها بحيث لا نرى الظلم عدلا، والعدل ظلماً، ومن ثمّ نقضي على العدالة والحقّ ونحن نحسب أننا نطبق الكليات بحكم القرآن.

 

ضرورة محاربة النفاق

إنّ من أشق الأُمور محاربة النفاق، لأننا في الحقيقة نحارب الأذكياء الّذين يستغلون أولئك الحمقى. إنّ هذه الحرب أصعب من محاربة الكفر أضعافاً، لأنّ محاربة الكفر حرب مكشوفة وظاهرة لا خفاء فيها، أمّا الحرب مع النفاق فإنّها حرب مع الكفر المستور.

إنّ للنفاق وجهين، وجه ظاهر هو الإسلام، ووجه باطن هو الكفر. إنّ معرفة ذلك من أشق الأُمور على عامة الناس، وقد لا يكون ممكناً لهم، ولذلك فإنّ الكفاح ضد النفاق كثيراً ما يؤول إلى الإخفاق، لأنّ العامة لا يتعدى شعاع إدراكهم الظاهر، فلا يضيء الباطن الخفي لأ نّه ليس بعيد الغور ولا ينفذ إلى الأعماق.

يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في رسالته إلى محمد بن أبي بكر:

«وَلَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنِّي لاَ أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَلاَ مُشْرِكاً، أَمَّا الْمُؤمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللهُ بِشِرْكِهِ، لكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مَنَافِقِ الْجَنَانِ، عَالِمِ اللِّسَانِ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ، وَيَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ»(17).

هنا يعلن رَسُول اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلن الخطر من جهة النفاق والمنافقين، وذلك لأنّ عامة أفراد الأُمة غافلون وتخدعهم الظواهر(18).

ولابدّ من القول أ نّه كلما كثر عدد الحمقى كانت سوق النفاق أكثر رواجاً. إنّ المبارزة مع الأحمق والحماقة مبارزة مع النفاق أيضاً، لأنّ الأحمق آلة بيد المنافق، إذ لا ريب في أنّ مكافحة الحماقة والحمقى يعتبر نزع سلاح المنافق وتركه أعزل.

 

عليّ(عليه السلام) الإمام والقائد الحقّ

إنّ كيان عليّ(عليه السلام) برمته، وتاريخه وسيرته، وأخلاقه، وصبغته وريحه، وكلماته وأقواله، كلها دروس وتعاليم ونماذج للإقتداء وللقيادة.

وكما أنّ جواذب عليّ(عليه السلام) تعتبر دروساً تعليمية لنا، فإنّ قوة دفعه كذلك أيضاً. إننا في الأدعية الّتي نتلوها عند زيارة مرقد الإمام عليّ(عليه السلام)وسائر الأئمّة الأطهار ونردد أننا نحب محبيهم ونعادي أعداءهم. إنّ التفسير الآخر لهذا القول يشير إلى أننا نتوجه إلى حيث مدار جوّك الجاذب، ونبتعد عن مدار قوتك الدافعة.

إنّ ما قلناه في المواضيع السالفة تناول جانباً من قوى الجذب والدفع عند عليّ(عليه السلام)، وقد اختصرنا الكلام على دافعته خصوصاً، ولكن تبين مما قلناه أنّ عليّاً قد دفع عنه طبقتين اثنتين دفعاً شديداً:

1 ـ المنافقين الأذكياء.

2 ـ الزهاد الحمقى.

إنّ هذين الدرسين يكفيان مدعي التشيع ليحملاهم على فتح أعينهم لئلا ينخدعوا بالمنافقين. على أبصارهم أن تكون حديدة فتتجاوز النظر إلى الظاهر، فمجتمع التشيع والعصر الحاضر قد ابتلى بهذين الداءين أشد ابتلاء.

والسلام على من اتبع الهدى

(1) فجر الإسلام: 263 نقلا عن العقد الفريد.

(2) فجر الإسلام: 243.

(3) العقد الفريد: 2/389.

(4) الكامل للمبرد: 2/116.

(5) نهج البلاغة: الخطبة 6.

(6) نهج البلاغة: الخطبة 92.

(7) نهج البلاغة: الخطبة 148.

(8) نهج البلاغة: الخطبة 236.

(9) نهج البلاغة: الخطبة 125.

(10) الأنعام: 57.

(11) نهج البلاغة: الخطبة 40.

(12) التوبة: 84.

(13) نهج البلاغة: الخطبة 125.

(14) إنّ أهم الأحداث الفاجعة الّتي حلت بالمسلمين على أثر ذلك هي الضربات الروحية والمعنوية نزلت بالمسلمين. لقد أقام القرآن الدعوة للإسلام على التبصر والتفكير، وهو الّذي فتح باب الاجتهاد والإدراك العقلي للناس:

(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَـتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) التوبة: 9.

إنّ الإدراك البسيط لأمر من الأُمور لا يسمى (تفقهاً). إنّما التفقه هو الإدراك بإعمال التفكير والتعمق والتبصر:(إنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) الأنفال: 29.

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَـنَا وَإنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) العنكبوت: 29.

في مقابل هذا الأسلوب في التعاليم القرآنية الّتي كانت تريد أن يظل الفقه الإسلامي دائم الحركة والحياة، اختار الخوارج الجمود والركود، فحسبوا المعارف الإسلامية ميتة راكدة، وأدخلوا في الإسلام الصورة والظاهر.

إنّ الإسلام لم يعن بالشكل والصورة والظاهر في الحياة أبداً، بل كلّ عنايته تتجه نحو الروح والمعنى، وهو طريق يوصل إلى تلك الأهداف والمعاني. إنّ الإسلام يضع رسم المعاني والأهداف وطريقة الوصول إليها ضمن إطار حكمه، ويترك الإنسان حراً فيما عدا ذلك، فيتجنب بذلك كلّ تصادم مع انتشار الثقافة والتمدن.

اننا لا نجد في الإسلام وسيلة مادية وشكلا ظاهرياً له صبغة من (التقديس) بحيث يجد المسلم نفسه ملزماً بالتمسك بذلك الشكل والظاهر.. لذلك، فإنّ تجنب التعارض مع مظاهر التوسع العلمي والحضاري يعتبر واحداً من الأُمور الّتي تجعل من السهل اليسير انطباق هذا الدين على مقتضيات الزمان، وتزيل أكبر مانع يحول دون خلوده مدى الدهر.

هذا هو نفسه التمازج بين التعقل والتدين، فهو من جانب يحافظ على تثبيت الأُصول وتمكينها، وهو من جانب آخر يفصلها عن الشكل، ويعطي الكليات الّتي قد تكون لها مظاهر متعددة، إلاّ أنّ تلك المظاهر لا تغير من الحقيقة شيئاً. بيد أنّ تطبيق الحقيقة على المظاهر والمصاديق ليس أمراً سهلا يقدر عليه كلّ من هب ودب، بل هو يتطلب إدراكاً عميقاً وفهماً سليماً. أمّا الخوارج فقد كانوا من ذوي الأفكار الجامدة، وما كان لهم عون على إدراك ما وراء ما يسمعون لذلك عندما أرسل عليّ(عليه السلام) ابن عباس ليحاججهم، أوصاه قائلا:

«لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً».

أي أنّ القرآن يعنى بالكليات، فهم في مقام الاحتجاج قد يستشهدون بآية يعتبرونها مصداقاً لما يقولون، وتستدل أنت بآية أُخرى دليلا على ما تقول، وهذا ما لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة من الجدل، فهم لا يملكون ذلك القدر من الإدراك الّذي يمكنهم من استخلاص شيء من حقائق القرآن وتطبيقها على مصاديقها الحقيقية الصحيحة. بل كلمهم حسبما جاء في السنّة لأ نّها تشمل الأجزاء وهي صريحة في مصاديقها.

وهذه إشارة من الإمام(عليه السلام) إلى جمود الخوارج وجفاف عقولهم مع تدينهم، الأمر الّذي يشير إلى إمكان انفصال التعقل عن التدين.

إنّ الجهالة والجمود الفكري هما اللذان أنجبا بالخوارج، فكانوا خلواً من القدرة على التحليل وعلى فصل الفكر عن المصداق.

ظنوا أ نّه إذا أخطأ التحكيم مرة فإنّ أساسه باطل وغير صحيح، مع أنّ من الممكن أن يكون ذلك الأساس ثابتاً وصحيحاً، وأنّ الخطأ قد وقع في التطبيق. لذلك فإنّنا نلاحظ في قضية التحكيم مراحل ثلاثاً:

1 ـ يشهد التاريخ أنّ عليّاً لم يرض بالتحكيم، فقد أدرك أنّ عرض معاوية وأصحابه إنّما هو (مكيدة) و (غدر) وقد أصرعلى رأيه هذا.

2 ـ كان يقول إنّه إذا كان لابدّ من تشكيل لجنة للتحكيم، فإنّ أبا موسى رجل ضعيف الحيلة والتدبير ولا يصلح لهذا الأمر، فلابدّ من اختيار الرجل الصالح، وقد رشح للاضطلاع بالمهمة أبي عباس أو مالكاً الأشتر.

3 ـ أصل التحكيم صحيح وليس خطأ. وهذا ما أصر عليه عليّ(عليه السلام) أيضاً.

يقول أبو العباس المبرد في (الكامل في اللغة والأدب) 2/134 ما خلاصته: لقد جادل عليّ(عليه السلام) الخوارج بنفسه، وحلّفهم أ نّه كان هو أشدهم معارضة للتحكيم، فأيدوا قوله.

فقال لهم: ألم تحملوني على القبول؟ فقالوا: اللّهمّ بلى.

فقال: لماذا إذن تخالفوني؟ فقالوا: لقد اقترفنا ذنباً عظيماً فكان لابدّ من التوبة، فتبنا، فتب أنت أيضاً.

فقال: أستغفر الله من كلّ ذنب. فعاد الجمع وهم من ستة آلاف نفر، وقالوا: لقد تاب عليّ، وها نحن ننتظر أمره بالتحرك نحو الشام.

فجاءه أشعث بن قيس وقال: يقول الناس: إنّك ترى التحكيم ضلالا والتزامه كفراً. فقام الإمام وصعد المنبر وقال: من يظني رجعت عن التحكيم فقد أخطأ الظن، ومن يراه ضلالا فهو أضل سبيلا. فقام الخوارج وغادروا المسجد وثاروا على عليّ(عليه السلام).

يقول الإمام عليّ(عليه السلام): إنّ هذا التحكيم كان خطأً لأنّ معاوية وأصحابه كانوا يريدون المكر والتوسل بالحيلة، ولأنّ أبا موسى لم يكن على قدر المهمة، وقلت لكم هذا منذ البداية فرفضتم، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ التحكيم إجراء باطل.

* * *

لم يكن الخوارج يعترفون بوجود فرق بين حكومة القرآن وحكومة الأفراد. إنّ قبول حكومة القرآن يعني اتباع ما يقول به القرآن فيما يحدث من حوادث. إلاّ أنّ قبول حكومة الأفراد يعني اتباع آراء أُولئك الأفراد وأحكامهم ونظرياتهم، وبما أنّ القرآن لا يتكلم، فلابدّ من استنباط حقائقه بإعمال النظر والفكر، وهذا ما لا يكون إلاّ عن طريق الأفراد. وفي هذا يقول الإمام عليّ(عليه السلام) نفسه:

«إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.

وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاهم به ». نهج البلاغة: الخطبة 123.

هنا يتبادر للذهن تساؤل. فبحسب اعتقاد الشيعة وبرأي الإمام نفسه (نهج البلاغة: آخر الخطبة 2) تكون الإمامة ويكون الحكم في الإسلام أمراً انتصابياً وبموجب النص. فلماذا خضع الإمام للتحكيم، ومن ثمّ راح يدافع عنه بشدة؟

إنّ الجواب على هذا التساؤل يتبين واضحاً في هذا الّذي سبق من خطبة الإمام(عليه السلام): فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإذا حكم بسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فنحن أولاهم به.

الفرق الإسلامية وتأثر بعضها في بعض

تنفعنا دراسة أحوال الخوارج في معرفة مدى الأثر الّذي خلفوه في التاريخ الإسلامي من حيث السياسة والعقيدة والذوق والفقه وسائر الأحكام.

إنّ مختلف الفرق والنحل ـ وإن تكن منفصلة عن بعض من حيث الشعارات قد تتأثر أحياناً بروح المذاهب الأُخرى وتحل فيها روح مذهب من المذاهب، فتقبل الفرقة روح ذلك المذهب ومعناه، على الرغم من أ نّها تخالفه، فالسرقة في طبيعة الإنسان.

فقد نجد مثلا رجلا سنّي المذهب شيعياً في روحه ومفاهيمه. وقد نجد العكس أيضاً. فيكون الشخص بطبيعته متديناً وظاهرياً ولكنه صوفي في روحه، وقد يكون العكس. فمن الممكن أن يكون بعض الناس من الشيعة في الشعار والانتحال، ومن الخوارج في الروح والعمل. وهذا يصدق على الأفراد كما يصدق على الأُمم والملل.

إذا تجاوزت النحل وتعاشرت تبادلت العقائد والأذواق، وإن تباعدت في شعاراتها. من ذلك مثلا سريان عادة (التطبير) ـ أي ضرب الرؤوس بالسيوف والقامات ـ وضرب الطبول والنفخ في الأبواق من المسيحيين الأرثوذوكس القفقازيين إلى ايران وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم، بسبب استعداد النفوس والروحيات لتقبلها.

لذلك ينبغي أن نتعرف على روحيات مختلف الفرق. فقد تكون فرقة وليدة حسن الظن، فيلزم أن تتبع معهم قول القائل «ضع فعل أخيك على أحسنه» كأهل السنّة الّذين يحسنون الظن بالأشخاص، فهم لابدّ أن ينتقدوا فرقة وليدة منظور خاص وتولي اهتماماً كبيراً للأُصول الإسلامية، لا بالأفراد أو الأشخاص، كالشيعة في الصدر الأوّل من الإسلام. وثمة فرقة تعنى بالباطن والتأويل الباطني كالمتصوفة، وفرقة أُخرى وليدة التعصب والجمود الفكري كالخوارج.

فإذا عرفنا روحية كلّ فرقة وحوادثها التاريخية الأولى، كان حكمنا أصدق في ماهية العقائد والأفكار الّتي تسربت من فرقة إلى أُخرى خلال القرون، وعلى الرغم من الاحتفاظ بشعاراتها الخاصة، تقبلت روحية الفرق الأُخرى.

إنّ العقائد والأفكار أشبه ـ في هذا الباب ـ باللغات الّتي تسري من لغة إلى أُخرى بغير أن يتعمّد أحد ذلك، كالّذي حصل بعد أن فتح العرب المسلمون ايران، فدخلت كلمات فارسية إلى اللغة العربية، كذلك اللغة التركية على عهد المتوكل والأتراك السلاجقة والمغول وغيرها من اللغات. وهكذا كان تنافذ الأذواق والميول.

إنّ أُسلوب تفكير الخوارج وعقليتهم ـ الجمود الفكري وفصلهم التعقل عن التدين ـ اندس في المجتمع الإسلامي بمختلف الصور على امتداد تاريخ الإسلام. وعلى الرغم من أنّ الفرق الأُخرى كانت تعتقد أ نّها تخالف الخوارج، إلاّ أننا نجد أنّ روحية هؤلاء قد وضعت بصمتها على طراز تفكيرهم، وما هذا سوى الّذي قلناه عن طبيعة اللصوصية في الإنسان والّتي ساعد على تفشيها التجاور والمخالطة.

لقد كان من سلوك المتأثرين بالخوارج أ نّهم حملوا شعار مناوءة كلّ شيء جديد وما زالوا كذلك. بل إنّهم يصبغون وسائل الحياة المادية والأشكال الظاهرية ـ الّتي قلنا أ نّها لا قدسية لها في الإسلام ـ بصبغة قدسية، ويعتبرون الاستفادة من كلّ جديد كفراً وزندقة.

إننا نعثر بين المدارس الفكرية والعقائدية والعلمية والإسلامية والفقهية على مدارس هي وليدة الروح القائلة بفصل التعقل عن التدين، وهي مدارس يتجلى فيها فكر الخوارج بكلّ وضوح، فتطرد كلّ فكرة عن اعتماد العقل للكشف عن الحقائق ووضع القوانين الفرعية، وتقول: إنّ اتباع هذا الأسلوب بدعة وخروج عن الدين، مع أنّ القرآن نفسه يحث الإنسان في كثير من آياته على التعقل ويرى في التبصر سنداً للدعوة الإلهية.

إنّ المعتزلة الّذين ظهروا في أوائل القرن الثاني الهجري، نشأوا على أثر البحث والتعمق في تفسير معنى الكفر والإيمان، وهل أن ارتكاب الكبيرة يوجب الكفر أم لا. وكان ظهورهم شديد الارتباط بظهور الخوارج من قبل. كان المعتزلة جماعة تريد أن تفكر بحرية وإيجاد حياة عقلية. وعلى الرغم من أ نّهم كانوا يفتقرون إلى المبادىء العملية وأُصولها، فإنّهم أخضعوا المسائل الإسلامية إلى قدر من الحرية في الدرس والتمحيص، فراحوا يفندون بعض الأحاديث، ولا يقبلون إلاّ الآراء والنظريات الّتي تحققوا منها واجتهدوا فيها.

لقد واجه هؤلاء منذ البداية المعارضة والمقاومة من لدن أهل الحديث ومتبعي الظاهر الّذين كانوا يرون ظاهر الحديث هو المعول عليه، بغض النظر عن معنى الحديث والقرآن وروحهما، ولم يكونوا يعترفون بآية قيمة لحكم العقل الصريح، بل كل القيمة الّتي كانوا يقولون بها للعقل إنّما ينحصر في قيمته لتوكيد الظاهر.

خلال قرن ونصف من حياة مدرسة المعتزلة العقلية كانوا ف ي اسار تذبذبات عجيبة، إلى أن ظهر الأشاعرة الّذين أنكروا كلياً قيمة الأفكار العقلية المحضة والمقولات الفلسفية الخالصة. قالوا: إنّ من المفروض على المسلمين أن يتعبدوا على وفق ما جاءهم في ظاهر الأحاديث المنقولة، بغير أن يتعمقوا في التفكير في المعاني أو تدبرها، وكل تساؤل وأخذ ورد بدعة.

كان الإمام أحمد بن حنبل، أحد أئمة أهل السنّة الأربعة، يخالف أسلوب تفكير المعتزلة أشد المخالفة، بحيث أ نّه سجن وجلد من جراء ذلك، ولكنه لم ينثن عن مخالفته لهم.

وفي النهاية انتصر الأشاعرة وطوي بساط التفكير العقلي، وكان هذا الانتصار ضربة شديدة وجهت إلى الحياة العقلية في الإسلام.

كان الأشاعرة يعتبرون المعتزلة من أصحاب البدع. يقول أحد شعرائهم بعد انتصارهم على المعتزلة:

ذهبت دولة أصحاب البدع *** ووهى حبلهم ثمّ انقطع

وتداعى بانصراف جمعهم *** حزب إبليس الّذي كان جمع

هل لهم يا قوم في بدعتهم *** من فقيه أو إمام يتبع؟

(«المعتزلة» زهري جار الله، ص 185)

والأخباريون أيضاً، وهم من أصحاب مدرسة فقهية شيعية بلغوا أوج ازدهارهم في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، كانوا قريبين من الظاهريين وأهل الحديث من أهل السنّة، ومن حيث السلوك الفقهي فكلتا المدرستين تسلكان سلوكاً واحداً، وإنّما يقتصر اختلافهما على الأحاديث الّتي يجب أن تتبع، فكلتاهما تدينان بانفصال التعقل عن التدين.

لقد عطل الأخباريون عمل العقل تعطيلا تاماً، واسقطوا الإدراك العقلي من كلّ قيمة في استخراج الأحكام الإسلامية من النصوص، واعتبروا اتباع العقل حراماً، وهاجموا في مؤلفاتهم الأُصوليين ـ وهم أصحاب المدرسة الفقهية الشيعية الأُخرى ـ هجوماً شديداً، وقالوا: إنّ الحجة هي الكتاب والسنّة فقط، وبديهي أ نّهم كانوا يعتمدون الكتاب عن طريق التفسير في السنّة والحديث، فهم في الحقيقة قد أسقطوا القرآن من كونه حجة، مكتفين باتباع ظاهر الحديث.

إننا لسنا الأب بصدد بحث أساليب الفكر الإسلامي وتتبع المدارس الّتي تتبع الخوارج في الفصل بين التعقل والتدين، لأ نّه بحث واسع متشعب. وإنّما كلّ ما نرمي إليه هنا هو الإشارة إلى تأثير الفرق بعضها في بعض، وتبيان أنّ مذهب الخوارج الّذي لم يدم طويلا قد بقيت بصماته خلال القرون والعصور الإسلامية حتّى الوقت الحاضر الّذي نرى فيه عدداً من الكتّاب والمفكرين المعاصرين في دنيا الإسلام يتبنون أسلوب تفكيرهم بعد تحديثه وربطه بالفلسفة الحسية الحديثة.

(15) الحجرات: 9.

(16) نهج البلاغة: الخطبة 147.

(17) نهج البلاغة: الرسالة 27.

(18) لهذا نجد على امتداد التاريخ الإسلامي أ نّه كلما قام مصلح يعمل لإصلاح حالة الناس الاجتماعية والدينية، معرضاً منافع المستغلين والظالمين للخطر. بادر أُولئك إلى ارتداء لبوس التقدس والتقوى والتدين.

إنّ المأمون العباسي المعروف بمجونه وإسرافه بين رجال السلطة في التاريخ، عندما يرى أنّ العلويين قد نهضوا، يرتدي جبة مرقعة ويحضر الاجتماعات بها، بحيث أنّ أبا حنيفة الإسكافي الّذي لم يصله من المأمون دينار ولا درهم، يثني عليه ويمتدحه على عمله.

وقد التمس آخرون ـ كلٌّ بشكل من الأشكال ـ سياسة (رفع المصاحف) المخربة، فأفسدوا كلّ الأتعاب والتضحيات وخنقوا الانتفاضات في مهدها. وما هذا سوى جهل الناس وضلالهم لأ نّهم لم يستطيعوا التمييز بين الشعارات والحقائق، وبهذا أغلقوا على أنفسهم أبواب النهضة والإصلاح، ثمّ استيقظوا بعد أن انهارت المقدمات ولم يكن بد من السير في الطريق من أوله.

إنّ من بين الأُمور العظيمة الّتي نتعلمها من سيرة عليّ(عليه السلام) هو أنّ نضالا من هذا القبيل لا يختص بجماعة دون أُخرى، بل حيثما كان المسلمون وأُولئك الّذين يتزيون بزي الدين، كان هؤلاء وسيلة نفوذ الأجانب وأداء تحقيق أهداف الاستعمار والمستعمرين، ولضمان مصالحهم يتترسون بهؤلاء ويتحصنون بهم، بحيث أنّ النضال ضد المستعمرين غير ممكن إلاّ بالقضاء على تلك التروس والحصون. فيجب أوّلا مكافحة تلك التروس والقضاء عليها لإزالة العقبات من طريق الهجوم على قلب العدو.

ولعل إثارة معاوية الخوارج للإفساد والتخريب كانت نافذة، وعلى ذلك فإنّ معاوية، أو في الأقل، أمثال أشعث بن قيس من العناصر المخربة والمشاغبة، قد تترست منذ ذلك اليوم ـ أيضاً ـ بالخوارج.

إنّ تاريخ الخوارج يعلمنا أ نّه في كلّ نهضة يجب في البداية القضاء على التروس والحصون ومحاربة الحماقات، كما فعل عليّ(عليه السلام) بعد التحكيم، إذ بادر إلى محاربة الخوارج أوّلا، بقصد مواجهة معاوية بعد ذلك.