الصفحة 103
في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال:

إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك، والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام، وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات.

واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال.

واستعمل أيضا - صلوات الله عليه - يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها(1) وقدم بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال:

____________

(1) (فجباها) ليس في ب، ح، م. أنظر الإصابة 6: 341، الأعلام للزركلي 9: 237.


الصفحة 104
إذا صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له:

" خذ المال فعد به إلى أبيك ". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى عليه وآله على كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد - ابناه - على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف، دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار.

وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة(1) إلى ما شرحناه، أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه(2)، والحمد لله.

____________

(1) في العبرة) ليس في ب، ح، م.

(2) (على ما بيناه) ليس في ب.


الصفحة 105

فصل


ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك، ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد، فبأي شئ تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم، وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد - ابنيه - حسبما شرحناه؟!

فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات(1) في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال، وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني(2) مروان من الخروج عن الخوف

____________

(1) في ب، ح، م: وحصلت لهم.

(2) (بني) ليس في ب.


الصفحة 106
في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى، والعداوة(1) لأوليائه عليهم السلام.

____________

(1) في أ: والولاية.


الصفحة 107

فصل


فإن قال: قد وضح لي ما ذكرتموه في أمر هذه الآية، وأثبتموه في معناها، كما ظهر الحق لي فيما تقدمها(1)، وانكشف بترادف الحجج التي أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها، غير أني واصف استدلالا لهم من آي آخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر وعمر، لأسمع ما عندكم فيه، فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا عنه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح: { سيقول لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا }(2).

ثم قال: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما }(3).

____________

(1) (في أمر.. تقدمها) ليس في ب، م.

(2) سورة الفتح 48: 15.

(3) سورة الفتح 48: 16.


الصفحة 108
قالوا: فحظر الله على نبيه صلى الله عليه وآله إخراج المخلفين معه بقوله : { قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }.

ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد من الكفار، وألزمهم طاعته في قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر،.

لأن أبا بكر(1) دعاهم إلى قتال المرتدين، وكانوا أولي بأس شديد على الحال المعروفة، ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل فارس، وكانوا كفارا أشداء، فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى في كتابه من طاعتهما(2)، فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه، فما قولكم فيه؟

قيل له: ما نرى في هذا الكلام - على إعجاب أهل الخلاف به - حجة تؤنس، ولا شبهة تلتبس، وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن البرهان، ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان، فقد كشف عن عجزه وشهد على نفسه بالخذلان، وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي سأله القوم اتباعه ليأخذوها(3)، وليس فيه حظر عليه صلوات الله عليه وآله إخراجهم

____________

(1) (لأن أبا بكر) ليس في ب، م.

(2) ممن ذهب إلى هذا الرأي ابن جريج والقرطبي والزمخشري والبيضاوي، أنظر تفسير القرطبي 16: 272، الكشاف 4: 338، تفسير البيضاوي 2: 410، الدر المنثور 7: 520.

(3) في ب، ح، م، له وأخذها.


الصفحة 109
معه في غير ذلك الوجه، ولا منع له كم من إيجاب الجهاد عليهم معه في مغاز أخر.

وبعد تلك الحال، فمن أين يجب، إذا كان الله تعالى قد أمره بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى قتال الكافرين، أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو بنفسه صلوات الله عليه وآله، إذا كان صلى الله عليه وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار أولي بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم المسلمون، وحظر الله تعالى فيها على المخلفين الخروج، وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من الدعوى على ما وصفناه؟

فصل


ثم يقال لهم: أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه، هو فتح خيبر، الذي بشر الله تعالى به أهل بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل التفسير، وتواتر به أهل السير والآثار(1)؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن، ويرجع فيه إلى علماء التفسير ورواة الأخبار، إذا ما وصفناه إجماع ممن سميناه.

فيقال لهم: أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا بعد غزوة خيبر غزوات عديدة، وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة،

____________

(1) معالم التنزيل 5: 170، الكشاف 4: 337، تفسير الرازي 28: 90، تفسير القرطبي 16: 270 وغيرها.


الصفحة 110
واستنفر(1) الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار، ولقي المسلمون في تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس الشديد، لا سيما بمؤتة(2) وحنين وتبوك سوى ما قبلها وبينها وبعدها من الغزوات؟! ولا بد أيضا من أن يقولوا: بلى. وإلا وضح من جهلهم ما يحظر مناظرتهم في هذا الباب.

فيقال لهم: فمن أين يخرج لكم مع ما وصفناه - أيها الضعفاء الأوغاد - وجوب طاعة المخلفين من الأعراب بعد النبي صلى الله عليه وآله دون أن يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه؟ فلا يجدون حيلة في إثبات ما ادعوه مع ما شرحناه.

فصل


ثم يقال لهم: ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم، وتعلموا أن الله تعالى لو أراد منع المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله في جميع غزواته - على ما ظننتموه - لما خص ذلك بوقت معين دون ما سواه، ولكان الحظر له واردا على الاطلاق، وبما يوجب عمومه في كل حال، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها القرآن، وبوصف مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض(3) عن

____________

(1) في أ: واستبق، وفي م: استفز.

(2) مؤتة: قرية في حدود الشام. " معجم البلدان 5: 219 ".

(3) في أ، ب، م: والإعراض.


الصفحة 111
السؤال، دل على بطلان ما توهمتموه، ووضح لكم بذلك الصواب.

فصل آخر


وقد ظن بعض أهل الخلاف بجهله وقلة(1) علمه أن هؤلاء المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك، وكانت مظاهرة له بالنفاق، فتعلق فيما ادعاه من حظر النبي صلى الله وآله عليهم الاتباع له على كل حال، بقوله جل اسمه في سورة التوبة: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين }(2).

فقال: هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح: { كذلكم قال الله من قبل }(3) وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا، ثبت أن الداعي لهم إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا القول فيه وبيناه آنفا.

فيقال له: أيها الغافل الغبي الناقص، أين يذهب بك وهذه

____________

(1) في ب، ح، م: دون.

وممن ذهب إلى هذا الرأي ابن زيد والجبائي والفخر الرازي، أنظر تفسير الطبري 26: 51، والثعالبي 4: 175 والفخر الرازي 28: 90.

(2) سورة التوبة 9: 83.

(3) سورة الفتح 48: 15.


الصفحة 112
الآية وما قبلها من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل }(1) نزلت في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة، ولتفصيل ما قبلها من التأول قصص طويلة قد ذكرها المفسرون، وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!

ولا خلاف أن الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في المخلفين عن الحديبية، وبين هاتين الغزوتين من تفاوت الزمان ما لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وبين الفريقين أيضا في النعت والصفات اختلاف في ظاهر القرآن.

فكيف يكون ما نزل بتبوك - وهي في سنة تسع من الهجرة - متقدما على النازل في عام الحديبية - وهي سنة ست - لولا أنك في حيرة تصدك عن الرشاد؟!

ثم يقال له: فهب أن جهلك بالأخبار، وقلة معرفتك بالسير والآثار، سهل عليك القول في تأويل القرآن بما قضى على بطلانه التأريخ المتفق عليه بواضح البيان، أما سمعت الله جل اسمه يقول في المخلفين من الأعراب: { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما }(2).

____________

(1) سورة التوبة 9: 38.

(2) سورة الفتح 48: 16.


الصفحة 113
فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال، وإرجاء أمرهم في الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان، ولم يقطع بوقوع أحد الأمرين منهم على البيان.

وقال جل اسمه في المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين في سورة براءة: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون }(1).

فقطع على استحقاقهم العقاب(2) وأخبر نبيه صلى الله عليه وآله بخروجهم من الدنيا على الضلال، ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة، ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس، وشهد عليهم بالكفر بالله عز اسمه وبرسوله صلى الله عليه وآله بصريح الكلام، ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على حال، وأكد ذلك بقوله تعالى: { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }(3).

وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال، وموتهم على الشرك

____________

(1) سورة التوبة 9: 83، 84.

(2) في بـ نسخة بدل، وفي ح: العذاب.

(3) سورة التوبة 9: 85.


الصفحة 114
به، وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار، وقد ثبت في(1) العقول فرق ما بين المرجأ أمره فيما يوجب الثواب والعقاب(2)، وبين المقطوع له بأحدها(3) على الوجوه كلها.

وإن الإرجاء لما ذكرناه، والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما تلوناه، لا يصح اجتماعه مع القطع، بما شرحناه من متضمن الآي الأخر على ما بيناه، لشخص واحد ولا لأشخاص متعددة على جميع الأحوال، وإن من جوز(4) ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في الديانات، لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد(5) العقلاء أو مكابرة ظاهرة وعناد، وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم الجهل بدين الله، والنصب لآل محمد نبيه صلى الله عليه وآله على القول في القرآن بغير هدى ولا بيان، نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من الخذلان.

فصل


على أنا لو سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب إلى القتال بعد النبي صلى الله عليه وآله

____________

(1) في أ زيادة: بدائة.

(2) (فيما.. والعقاب) ليس في ب، م.

(3) في ب، ح، م: العقاب.

(4) في أ: جهل.

(5) في ب: جد.


الصفحة 115
على ما اقترحوه، واعتبرنا فيما ادعوه من ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان بمثل ما اعتبروه، لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه، وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام قد دعا بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى قتال الناكثين بالبصرة والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان، واستنفر الكافة إلى قتالهم وحربهم وجهادهم، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه، ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه، وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم عند اللقاء، حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان.

وتقرر عند أهل العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام أصعب ولا أشد من حرب صفين، ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة الهرير، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة، وصلى أهل العراق بالتكبير والتهليل والتسبيح، بدلا من الركوع والسجود والقراءة، لما كانوا عليه من الاضطرار(1) بتواصل اللقاء في القتال، حتى كلت السيوف بينهم لكثرة الضراب، وفنى النبل، وتكسرت الرماح بالطعان، ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه، حتى هلك جمهورهم بما وصفناه، وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف(2)

____________

(1) في ب، ح، م: الاضطراب.

(2) في ب، م: قتل عشرين ألف.


الصفحة 116
إنسان على قول المقل أيضا، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف على قول آخرين بحسب اختلافهم في الروايات.

فأما أهل النهروان، فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم على القتال مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة والشام، ما لم يرتب فيه من أهل العلم(1) اثنان، وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما يغني أهل العلم به عن الاستدلال عليه، والاستخراج لمعناه، ولو لم يدل على عظم بأسهم وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان، فصبروا على اللقاء حتى قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما جاءت به الأخبار.

ولم يجر أمر أبي بكر وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه السلام لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور لهما، وانقياد الجماعات إلى طاعتهما، وعصبية الرجال لهما، فلم يظهر من دعائهما إلى قتال من سير إليه الجيوش ما ظهر من أمر أمير المؤمنين عليه السلام في الاستنفار والترغيب في الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والتكرير له حالا بعد حال، لتقاعد الجمهور عن نصرته، وخذلان من خذله من أعداء الله الشاكين في أمره والمعاندين له، وما مني به من تمويه خصومه وتعلقهم في استحلال قتاله بالشبهات.

ثم لم يبن من شدة أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل

____________

(1) في أ: الإسلام.


الصفحة 117
البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه، بل ظهر منهم خلاف ذلك، لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام، وتفرقهم وهلاكهم بأهون سعي، وأوحى(1) مدة، وأقرب مؤنة، على ما تواترت به الآثار، وعلمه كافة من سمع الأخبار، فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم بما ادعوه في معنى الآية، وباعتبارهم الذي اعتمدوه، أولى بالحجة منهم في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، دون من سموه على ما قدمناه.

ولو تكافأ القولان، ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في البرهان، لكانت المكافأة مسقطه لما حكموا به من تخصيص أبي بكر وعمر، بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه في الاستدلال، وهذا ظاهر جلي ولله الحمد.

فصل


قد كان بعض متكلمي المعتزلة رام الطعن في هذا الكلام، بأن قال: قد ثبت أن القوم الذين فرض الله تعالى قتالهم بدعوة من أخبر عنه كفار خارجون عن ملة الإسلام، بدلالة قوله تعالى: { تقاتلونهم أو يسلمون }(2).

____________

(1) الوحي: السرعة. " الصحاح. وحى - 6: 252 "، وفي ب، ح، م: وفي أرحى.

(2) سورة الفتح 48: 16.


الصفحة 118
وأهل البصرة والشام والنهروان - فيما زعم - لم يكونوا كفارا، بل كانوا من أهل ملة الإسلام إلا أنهم فسقوا عن الدين، وبغوا على الإمام، فقاتلهم بقوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله }(1).

وأكد ذلك عند نفسه بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام فيهم، وبخبر رواه عنه عليه السلام، أنه سئل عنهم، فقال: " إخواننا بغوا علينا }(2) ولم يخرجهم عن حكم أهل الإسلام.

قال: فثبت بذلك أن الداعي إلى قتال من سماه الله تعالى ووصفه بالبأس الشديد(3) إنما هو أبو بكر وعمر دون أمير المؤمنين عليه السلام،

فصل


فقلت له: ما أبين غفلتك، وأشد عماك! أنسيت قول أصحابك في المنزلة بين المنزلتين، وإجماعهم على من استحق التسمية بالفسق خارج بما به استحق ذلك عن الإيمان والإسلام، غير سائغ تسميته بأحد هذين الاسمين في الدين على التقييد والاطلاق، أم جهلت هذا من أصل الاعتزال، أم تجاهلت وارتكبت العناد؟!

____________

(1) سورة الحجرات 49: 9.

(2) قرب الإسناد: 45، سنن البيهقي 8: 182، حياة الصحابة 2: 496.

(3) في ب، ح، م: والشدة.


الصفحة 119
أو لست تعلم أن المتعلق بإيجاب الإسلام على أهل البصرة والشام(1) والنهروان لا يلزم بذلك إكفارهم، ولا يمنعه من نفي الكفر عنهم، بحسب ما نبهناك عليه من مقالة أصحابك في الأسماء والأحكام، فكيف ذهب عليك هذا الوجه من الكلام، وأنت تزعم أنك متحقق بعلم الحجاج؟! فاستحى لذلك وبانت فضيحته، بما كان يدافع به من الهذيان.

فصل


قال بعض المرجئة وكان حاضر الكلام: قد نجونا نحن من المناقضة التي وقع فيها أهل الاعتزال، لأنا لا نخرج أحدا من الإسلام إلا بكفر يضاد الإيمان، فيجب على هذا الأصل أن يكون الكلام بيننا في إكفار القوم على ما تذهبون إليه، وإلا لزمكم معنى الآي.

فقلت له: لسنا نحتاج إلى ما ظننت من نقل الكلام على الفرع(2)، وإن كان مذهبك في الأسماء ما وصفت، لأن الإسلام عندنا وعندك إنما هو الاستسلام والانقياد، ولا خلاف بيننا أن الله عز وجل قد أوجب على محاربي أمير المؤمنين عليه السلام مفارقة ما هم عليه بذلك من العصيان، وألزمهم الاستسلام له والانقياد إلى ما يدعوهم إليه، من الدخول في الطاعة وكف القتال، فيكون قوله تعالى: { تقاتلونهم أو

____________

(1) (والشام) ليس في ب، ح، م.

(2) (على الفرع) ليس في ب، ح، م.


الصفحة 120
يسلمون }(1) خارجا على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو موافق لأصلك، وجار على أصل اللغة التي نزل بها القرآن. فلحق بالأول في الانقطاع، ولم أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان.

فصل


على أنه يقال للمعتزلة والمرجئة والحشوية جميعا: لم أنكرتم إكفار محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، وقد فارقوا طاعة الإمام العادل وأنكروها، وردوا فرائض الله تعالى عليه وجحدوها، واستحلوا دماء المؤمنين وسفكوها، وعادوا أولياء الله المتقين في طاعته، ووالوا أعداءه الفجرة الفاسقين في معصيته، وأنتم قد أكفرتم مانعي أبي بكر الزكاة، وقطعتم بخروجهم عن ملة الإسلام؟! ومن سميناه قد شاركهم في منع أمير المؤمنين عليه السلام الزكاة، وأضاف إليه من كبائر الذنوب ما عددناه، وهل فرقكم بين الجميع في أحكام الكفر(2) والإيمان إلا عناد في الدين وعصبية للرجال.

فصل


فإن قالوا: مانعو الزكاة إنما منعوها على وجه العناد، ومحاربو أمير المؤمنين إنما حاربوه ومنعوه زكاتهم واستحلوا الدماء في خلافه على

____________

(1) سورة الفتح 48: 16.

(2) في ب، م: في الأحكام.


الصفحة 121
التأويل دون العناد، فلهذا افترق الأمران.

قيل لهم: انفصلوا(1) ممن قلب القصة عليكم، فحكم على محاربي أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه، واستحلال دماء المؤمنين من أصحابه، ومنعه الزكاة وإنكار حقوقه بالعناد، وحكم على مانعي أبي بكر الزكاة بالشبهة والغلط في التأويل، وهذا أولى بالحق والصواب، لأن أهل اليمامة لم يجحدوا فرض الزكاة، وأنما أنكروا فرض حملها إلى أبي بكر، وقالوا:

نحن نأخذها من أغنيائنا، ونضعها في فقرائنا، ولا نوجب على أنفسنا حملها إلى من لم يفترض له ذلك علينا بسنة ولا كتاب.

ولم نجد لمحاربي أمير المؤمنين عليه السلام حجة في خلافه واستحلال قتاله ولا شبهة أكثر من أنهم نكثوا بيعته فقد أعطوه إياها من أنفسهم بالاختيار، وادعوا بالعناد أنهم أجابوا إليها بالاضطرار، وقرفوه(2) بقتل عثمان وهم يعلمون اعتزاله فتنة عثمان، وطالبوه بتسليم قتلته إليهم وليس لهم في الأرض سلطان، ولا يجوز تسليم القوم إليهم على الوجوه كلها والأسباب، ودعاه المارقون منهم إلى تحكيم الكتاب، فلما أجابهم إليه زعموا أنه قد كفر بإجابتهم إلى الحكم بالقرآن، وهذا ما لا يخفى العناد من جماعتهم فيه على أحد من ذوي الألباب.

____________

(1) في ب، م: انقضوا.

(2) قرفه: اتهمه. " الصحاح - قرف - 4: 1415 ".


الصفحة 122

فصل


فإن قالوا: فإذا كان محاربو أمير المؤمنين عليه السلام كفارا عندكم بحربه، مرتكبي العناد في خلافه، فما باله عليه السلام لم يسر فيهم بسيرة الكفار فيجهز على جرحاهم، ويتبع مدبرهم، ويغنم جميع أموالهم، ويسبي نساء هم وذراريهم، وما أنكرتم أن يكون عدوله عن ذلك في حكمهم يمنع من صحة القول عليهم بالإكفار؟

قيل لهم: إن الذي وصفتموه في حكم الكفار إنما هو شئ يختص بمحاربي المشركين، ولم يوجد في حكم الاجماع والسنة فيمن سواهم من سائر الكفار، فلا يجب أن يعدى منهم إلى غيرهم بالقياس، ألا ترون أن أحكام الكافرين تختلف، فمنهم من يجب قتله على كل حال، ومنهم من يجب قتله بعد الامهال، ومنهم الجزية ويحقن دمه بها ولا يستباح، ومنهم من لا يحل دمه ولا تؤخذ منه الجزية على حال، ومنهم من يحل نكاحه ومنهم من يحرم بالإجماع، فكيف يجب اتفاق الأحكام من الكافرين على ما أوجبتموه فيمن سميناه، إذا كانوا كفارا، وهي على ما بيناه في دين الإسلام من الاختلاف؟!

فصل


ثم يقال لهم: خبرونا هل تجدون في السنة أو الكتاب أو الاجماع الحكم(1) في طائفة من الفساق بقتل المقبلين منهم وترك المدبرين، وحظر

____________

(1) (الحكم) ليس في ب، م.


الصفحة 123
الإجهاز على جرحى المقاتلين وغنيمة ما حوي عسكرهم دون ما سواه من أمتعتهم وأموالهم أجمعين؟

فإن ادعوا معرفة ذلك ووجوده طولبوا بتعيينه فيمن عدا البغاة من محاربي أمير المؤمنين عليه السلام، فإنهم يعجزون عن ذلك، ولا يستطيعون إلى إثباته سبيلا.

وإن قالوا: إن ذلك، وإن كان غير موجود في طائفة من الفاسقين، فحكم أمير المؤمنين عليه السلام به في البغاة دليل على أنه في السنة أو الكتاب(1)، وإن لم يعرف وجه التعيين.

قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون حكم أمير المؤمنين عليه السلام في البغاة ممن سميتموه دليلا على أنه حكم الله تعالى قي طائفة من الكافرين موجود في السنة والكتاب، وإن لم يعرف الجمهور الوجه في ذلك على التعيين، فلا يجب أن يخرج القوم من الكفر لتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من الكافرين، كما لا يجب خروجهم من الفسق بتخصيصهم من الحكم بخلاف ما حكم الله تعالى به فيمن سواهم من(2) الفاسقين، وهذا ما لا فصل فيه.

فصل


على أن أكثر المعتزلة يقطعون بكفر المشبهة والمجبرة، ولا

____________

(1) في ب: في السنة والكتاب.

(2) (الكافرين كما.. سواهم من) ليس في أ، ب، م.


الصفحة 124
يخرجونهم بكفرهم عن الملة، ويرون(1) الصلاة على أمواتهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وموارثتهم، ومنهم من يرى مناكحتهم، ولا يلحقونهم بغيرهم من الكفار في أحكامهم المضادة لما وصفناه، ولا يلزمون أنفسهم مناقضة في ذلك.

وأبو هاشم الجبائي(2) خاصة يقطع بكفر من ترك الكفر وأقام على قبيح أو حسن يعتقد قبحه، ولا يجري عليه شيئا من أحكام الكافرين من قتل، أو أخذ جزية، أو منع من موارثة، أو دفن في مقابر المسلمين، أو صلاة عليه بعد أن يكون مظهر للشهادتين، والاقرار بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله على الاجمال، وهذا يمنعه فيمن تقدم ذكره من المعتزلة وأصحابهم من المطالبة في محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما سلف حكايته عن الخصوم، ولا يسوغ لهم الاعتماد بذكر الإسلام من الأذى(3).

فصل


فإن قالوا: كيف يصح لكم إكفار أهل البصرة والشام وقد سئل

____________

(1) في أ: بكفرهم عن المسألة، وترك.

(2) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، أبو هاشم، من كبار المعتزلة، عالم بالكلام، له آراء انفرد بها عنهم، وله مصنفات في الاعتزال، ولد ببغداد، وتوفي بها في سنة 321 هـ. أنظر " تاريخ بغداد 11: 55 / 5735، وفيات الأعيان 3: 183 / 383، سير أعلام النبلاء 15: 63 / 32 ".

(3) (ولا يسوغ.. الأذى) ليس في ب، ح، م.