الصفحة 148
يعصمهم ذلك، ثم توجه المدح لهم من الآية، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع أئمتهم عن الضلالة، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.

فصل


ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف بالآية بما كان عليه في الحال، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب، ولا أوجب العصمة له من الضلال، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال.

ألا ترى أنه سبحانه قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له ذلك، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب، فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم(1) ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال:

{ كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }(2).

____________

(1) (به من وصفهم) ليس في ب، ح، م.

(2) سورة الفتح 48: 29.


الصفحة 149
فبعضهم في الوعد ولم يعمهم به، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات، ولو كان الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب، ومبينا لهم المغفرة والرضوان، لاستحال الشرط فيهم بعده وتناقض الكلام، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد، وهذا ما لا يذهب إليه ناظر، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات، وبان تهافته على اختلاف المذاهب في الأجوبة والاسقاطات، والمنة لله.


الصفحة 150

الصفحة 151

مسألة أخرى


وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من الآي بقوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير }(1).

فزعموا بجهلهم أن هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا و عبد الرحمن وأبا عبيدة بن الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات، إذ كانوا ممن أسلم قبل الفتح، وأنفقوا وقاتلوا الكفار، وقد وعدهم الله الحسنى - وهي الجنة وما فيها من الثواب - وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها العقاب، وموجب لولايتهم في الدين وحجيتهم على كل حال(2).

____________

(1) سورة الحديد 57: 10 (2) ممن ذهب إلى هذا الرأي الكلبي والزمخشري والقرطبي والنسفي والفخر الرازي، أنظر تفسير الكشاف 4: 474، تفسير القرطبي: 17 / 240، تفسير النسفي 3: 478، تفسير الفخر الرازي 29: 219.


الصفحة 152

فصل


فيقال لهم: إنكم بنيتم كلامكم في تأويل هذه الآية وصرف الوعد فيها إلى أئمتكم على دعويين:

إحداهما: مقصورة عليكم لا يعضدها برهان، ولا تثبت بصحيح الاعتبار.

والأخرى: متفق على بطلانها، لا تنازع في فسادها ولا اختلاف، ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه، فقد وضح جهله لذوي الألباب.

فأما الدعوى الأولى: فهي قولكم أن أبا بكر وعمر قد أنفقا قبل الفتح، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب، ولا عليه من الأمة إجماع، بل الاختلاف فيه موجود، والبرهان على كذبه(1) لائح مشهود.

وأما الدعوى الأخيرة: وهي قولكم أنهما قاتلا الكفار فهذه مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها، إذ ليس يمكن لأحد من العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف، ولا جراحة مشرك موصوف، ولا مبارزة قرن ولا منازلة كفؤ، ولا مقام مجاهد.

وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد بمستحقها من جملة الناس، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام،

____________

(1) في أ: على كذب مدعيه.


الصفحة 153
وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما الوعيد بضد ما استحقه أهل الطاعة.

فصل


على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة كلها بالوعد، ويقضي لهم بالعصمة من كل ذنب، لأنهم بأسرهم بين رجلين: أحدهما أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح، ومن دفع(1) منهم عن ذلك كانت حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما أضافه إليهم أشياعهم من الإنفاق لوجه الله تعالى، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان القرآن ناطقا بأن الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى، فكيف يختص بذلك من سميتموه، لولا العصبية والعناد؟!

فصل


ثم يقال لهم: إن كان لأبي بكر وعمر وعثمان الوعد بالثواب، لما ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال، وأوجب ذلك عصمتهم من الآثام، لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية(2) وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص أيضا، بل هو لهؤلاء أوجب، وهم به أحق من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه، لما نحن مثبتوه في المقال.

____________

(1) في ب، وقع.

(2) (ومعاوية) ليس في ب، ح، م.


الصفحة 154
وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره تكرمة له وتمييزا عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية(1) وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان(2).

وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا، وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها بين يدي المهاجرين والأنصار.

وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى الله عليه وآله مقامات ومعروفة في الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه الأخرى، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان، وهو يقول: يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات(3).

ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام وبعده ما لم يكن لعمر

____________

(1) كان معاوية يقول أنه أسلم عام القضية وكتم إسلامه من أبيه وأمه. أنظر أسد الغابة 4:

385.

(2) أسلم يوم فتح مكة. أنظر سير أعلام النبلاء 1: 329، أسد الغابة 5: 112.

(3) أنظر الإصابة 3: 237، سير أعلام النبلاء 2: 106.


الصفحة 155
ابن الخطاب.

وأما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع النبي صلى الله عليه وآله وبعده تغني الإطالة بذكرها في هذا الكتاب، وحسب عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير رسول الله صلى الله عليه وآله إياه عليهما في حياته(1) ولم يتأخر إسلامه عن الفتح فيكون لهما فضل عليه بذلك، كما يدعى في غيره.

وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته، وأنفذه في سرايا كثيرة(2).

ولم ير لأبي بكر وعمر ما يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى الله عليه وآله، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من سموه في متضمن الآي، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في ذلك على كل حال، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من التفضيل على ما أدعوه في التأويل، وإن القول فيه ما قدمناه.

فصل


ثم يقال لهم: أليست الآية قاضية بالتفضيل ودالة على الثواب والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا، ولم يفرد أحدهما عن الآخر،

____________

(1) عقد رسول الله صلى الله عليه وآله لواء لعمرو على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل.

أنظر سير أعلام النبلاء 3 / 57 و 67.

(2) أنظر سير أعلام النبلاء 1: 366.


الصفحة 156
فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا خالفوا ظاهر القرآن.

فيقال لهم: هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر وعمر وعثمان إنفاقا، ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن، وإنما هي دعوة عرية عن البرهان، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع النبي صلى الله عليه وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على غيرهم من الناس؟! فإن راموا ذكر قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله لم يجدوا إليه سبيلا على الوجوه كلها والأسباب، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على التخرص والبهت بخلاف ما عليه الاجماع، وذلك باطل بالاتفاق.

ثم يقال لهم: قد كان للرسول صلى الله عليه وآله مقامات في الجهاد، وغزوات معروفات، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان، أفي بدر، فليس لعثمان فيها ذكر واجتماع، ولم يحضرها باتفاق، وأبو بكر وعمر كانا في العريش محبوسين عن القتال، لأسباب تذكرها الشيعة، وتدعون أنتم خلافا لما تختصون(1) به من الاعتقاد؟!

أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟!

أم بخيبر وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد والرجوع من الحرب والانهزام،

____________

(1) في أ، ب، ح: تختصمون.


الصفحة 157
حتى غضب النبي صلى الله عليه وآله، وقال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(1) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح على يديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله؟!

أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة وشجعانها ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه خاصة، وقتله عمرو بن عبد ود، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟!

أم في يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي بكر، واغتراره بالجمع، واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه وتوفيقه، ثم انهزم هو وصاحبه أول الناس، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا تسعة نفر من بني هاشم، أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام، وثبتوا به في ذلك المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها، فحال القوم فيها في التأخر عن الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح، وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق، وما هو مشهور عند نقلة الآثار، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما لا يمكن دعوى مثله لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه.

وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما يوجب لهم الوعد(2)، بالحسنى على ما نطق به القرآن، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق والقتال

____________

(1) تقدم تخريجاته في ص 34.

(2) في ب، ح: الوجه.


الصفحة 158
بالإجماع وبالدليل(1) الذي ذكرناه، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن نقصهم، دالة على تعريتهم(2) مما يوجب الفضل، ومنبهة على أحوالهم المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم والثواب.

فصل


ثم يقال لهم أيضا: أخبرونا عن عمر بن الخطاب، بما ذا قرنتموه بأبي بكر(3) وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فيما ادعيتموه لهم من الفضل في تأويل الآية، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده، ولا ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!

وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر بما تدعونه من الإنفاق، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك، وفي طلحة والزبير وسعيد بالقتال، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب، ولا إنفاق له ولا قتال؟! وهل ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في الباطل، وإقداما على التخرص في الدعاوى والبهتان.

فصل آخر


ثم يقال لهم: خبرونا عن طلحة والزبير ما توجه إليهما من الوعد

____________

(1) في أ: دليله.

(2) في أ: تعريهم.

(3) في أ: قربتموه إلى أبي بكر.


الصفحة 159
بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة، وهل عصمهما ذلك من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحربه، وسفك دماء أنصاره وشيعته، وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟!

فإن قالوا: لم يقع من الرجلين شئ من ذلك، وكانا معصومين عن جميعه. كابروا وقبحت المناظرة لهم، لأنهم اعتمدوا العناد في ذلك ودفعوا علم الاضطرار.

وإن قالوا: إن الوعد من الله سبحانه لطلحة والزبير بالحسنى لم يمنعهما من سائر ما عددناه، للاتفاق منهم على وقوعه من جهتهما والاجماع.

قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون ذلك أيضا غير عاصم لأبي بكر وعمر وعثمان مع دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار فضله(1)، وجحد إمامته والنصوص عليه، ولا يمنع التسليم لكم ما ادعيتموه من دخولهم في الآية، وتوجه المدحة إليهم منها، والوعد بالحسنى والنعيم على غاية منيتكم، فيما ذكرته الشيعة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وحال المتقدمين عليه، كما رتبنا ذلك فيما تقدم من السؤال، فلا يجدون منه مهربا.

فصل


وقد زعم بعض الناصبة أن الآية قاضية بفضل أبي بكر على أمير

____________

(1) في أ، ب، ح: فرضه.


الصفحة 160
المؤمنين عليه السلام، فإن زعم أن أبا بكر له إنفاق بالإجماع وقتال مع النبي صلى الله عليه وآله، وأن عليا لم يكن له إنفاق(1) على ما زعم وكان له قتال، ومن جمع الأمرين كان أفضل من المنفرد بأحدهما على النظر الصحيح والاعتبار.

فيقال له: أما قتال أمير المؤمنين عليه السلام وظهور جهاده مع النبي صلى الله عليه السلام واشتهاره فمعلوم بالاضطرار، وحاصل عليه من الآية بالإجماع والاتفاق، وليس لصاحبك قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله باتفاق العلماء، ولا يثبت له جهاد بخبر ولا قرآن، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك له على الوجوه كلها والأسباب، إلا أن يتخرص باطلا على الظن والعناد.

وأما الإنفاق فقد نطق به القرآن لأمير المؤمنين عليه السلام في آية النجوى(2) بإجماع علماء القرآن، وفي آية المنفقين بالليل والنهار(3)، وجاء التفسير بتخصيصها فيه عليه السلام، ونزل الذكر بزكاته عليه السلام في الصلاة(4)،

____________

(1) (بالإجماع.. إنفاق) ليس في ب، ح، م.

(2) وهي قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } سورة المجادلة 58: 12. وانظر مستدرك الحاكم 2: 482 والرياض النضرة 3:

222.

(3) وهي قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } سورة البقرة 2: 274. وانظر مناقب ابن المغازلي: 280 / 325، الرياض النضرة 3: 178، شواهد التنزيل 1: 109.

(4) وهو قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } سورة المائدة 5: 55 وانظر تفسير الحبري 258 / 21 و 260 / 22، معرفة علوم الحديث للحاكم: 102، فرائد السمطين 1: 187 - 195.


الصفحة 161
وصدقته على المسكين واليتيم والأسير في: { هل أتى على الإنسان }(1).

وليس يثبت لأبي بكر إنفاق يدل عليه القرآن بظاهره، ولا قطع العذر به من قول إمام صادق في الخبر عن معناه، ولا يدل عليه تواتر ولا إجماع، مع حصول العلم الضروري بفقر أبي بكر، وما كان عليه من الاضطرار المانع لصحة دعوى الناصبة له ذلك، حسب ما تخرصوه في المقال، ولا فرق بين من ادعى لأبي بكر القتال مع ما بيناه ومن ادعى مثل ذلك لحسان، وبين من ادعى له الإنفاق مع ما بيناه ومن ادعى مثله لأبي هريرة وبلال.

وإذا كانت الدعوى لهذين الرجلين على ما ذكرناه ظاهرة البطلان، فكذلك ما شاركهما في دلالة الفساد من الدعوى لأبي بكر على ما وصفناه، فبطل مقال من ادعى له الفضل في الجملة، فضلا عمن ادعاه له على أمير المؤمنين عليه السلام على ما بنى عليه الناصب الكلام، وبان جهله، والله الموفق للصواب.

____________

(1) سورة الإنسان 76: 1. وانظر تفسير الحبري: 326 / 69، شواهد التنزيل 2: 298 - 315.


الصفحة 162

الصفحة 163

باب آخر
من السؤال عن تأويل القرآن
وأخبار يعزونها إلى النبي صلى الله عليه وآله
وأنه قد مدح أئمتهم على التخصيص والاجمال


مسألة


فإن قالوا: وجدنا الله تعالى قد مدح أبا بكر في مسارعته إلى صديق النبي صلى الله عليه وآله، وشهد له بالتقوى على القطع والثبات، فقال الله تعالى:

{ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون }(1).

وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر على ما جاء به الأثر، استحال أن يجحد فرض الله تعالى، وينكر واجبا، ويظلم في أفعاله، ويتغير عن حسن أحواله، وهذا ضد ما تدعونه عليه وتضيفونه(2) إليه

____________

(1) سورة الزمر 39: 33 - 35.

(2) في أو يصفونه.


الصفحة 164
من جحد النص على أمير المؤمنين عليه السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف عليه.

جواب


قيل لهم: قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل كتاب الله تعالى لا يجوز بأدلة الرأي، ولا تحمل معانيه على الأهواء، ومن قال فيه بغير علم فقد غوى، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على الخصوص فهذا راجع إلى الظن، والعمل عليه غير صادر عن اليقين، وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق، وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار فلم نجده في شئ منها معروف، ولا له ثبوت من عالم بالتفسير موصوف، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى الله عليه وآله فإن عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان(1) وأشباههما من المشبهة الضلال، والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى الأباطيل، وحملوا معانيه على ضد الحق والدين، وضمنوا تفسيرهم الكفر بالله العظيم، والشناعة(2) للنبيين والملائكة المقربين عليهم السلام أجمعين، ومن

____________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشير البلخي، من أعلام المفسرين، كان متروك الحديث إذ نسبه الكثيرون إلى الكذب ووضع الحديث، عاش في بغداد وتوفي بالبصرة في سنة 150 هـ. " تهذيب التهذيب 10: 279 / 501، الجرح والتعديل 8: 354 / 1630، سير أعلام النبلاء 7:

201 / 79، وفيات الأعيان 5: 255 / 733 ".

(2) في أ: والشتم.


الصفحة 165
اعتمد(1) في معتقده على دعاوى ما وصفناه فقد خسر الدنيا والآخرة بما بيناه، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.

فصل


على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة يروون عن علماء التأويل وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام على الخصوص، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من المؤمنين السابقين، وهذا يدفع(2) حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده، ويمنع من صحته ويشهد بفساده، ويقضي بوجوب القول به دون ما سواه، إذا كان واردا من طريقين، ومصطلحا عليه من طائفتين مختلفين، ومتفقا عليه من(3) الخصمين المتباينين، فحكمه بذلك حكم الاجماع، وما عداه فهو من طريق - كما وصفناه - مقصور على دعوى الخصم خاصة بما بيناه، وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء، فممن روى ذلك على ما شرحناه:

إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن السدي، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدق به }.

____________

(1) في ب، م: ومن اعتقد.

(2) في أ: يرفع، وفي بـ نسخة بدل: يرجع.

(3) في أ، ب، ح: وثانيا قرآن، بدل: ومتفقا عليه من.


الصفحة 166
قال: هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام(1) ورواه عبيدة بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، مثل ذلك سواء(2).

وروى سعيد، عن الضحاك، مثل ذلك أيضا(3).

وروى أبو بكر الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق } " هو رسول الله صلى الله عليه وآله، صدق به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام "(4).

وروى علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير(5)، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، مثل ذلك سواء(6).

فصل


وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن طرقهم خاصة أنها نزلت في النبي صلى الله وآله وحده دون غيره من سائر الناس.

فروى علي بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: بينا هو يطوف

____________

(1 و 2) مناقب ابن شهرآشوب 3: 92، تلخيص الشافي 3: 215، تفسير الحبري:

315 / 62.

(3) مناقب ابن شهرآشوب 3: 92، مجمع البيان 8: 777، شواهد التنزيل 2: 122 / 813.

(4) كشف الغمة 1: 324، تلخيص الشافي 3: 214.

(5) (عن أبي بصير) ليس في ب، ح، م، وعلي بن أبي حمزة يروي عن الصادق عليه السلام مباشرة وكذلك بتوسط أبي بصير، راجع معجم رجال الحديث 11: 227.

(6) تلخيص الشافي 3: 215، وانظر مناقب ابن المغازلي 269 / 317، كفاية الطالب:

233، ترجمة الإمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2: 418 و 419 / 924 / 925.


الصفحة 167
بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي سفيان، فقال له أبو هريرة: يا معاوية، حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق به: أنه يكون أمرا(1) يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه لم يل ما ولي(2).

ورووا عن السدي وغيره من السلف، عن قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدق به } قال: جاء بالصدق عليه السلام، وصدق به نفسه عليه السلام(3).

وفي حديث لهم آخر، قالوا: جاء محمد صلى الله عليه وآله بالصدق، وصدق به يوم القيامة إذا جاء به شهيدا(4).

فصل


وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا بروايته دون غيرهم، عن مجاهد في قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق } أنه رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي صدق به أهل القرآن، يجيئون(5) به يوم القيامة، فيقولون: هذا الذي دعوتمونا إليه(6) قد اتبعنا ما فيه(7).

____________

(1) في ب، م: يكون أمير المؤمنين عليه السلام.

(2) تلخيص الشافي 3: 214.

(3) مجمع البيان 8: 777، تلخيص الشافي 3: 214.

(4) تلخيص الشافي 3: 214.

(5) في م: يحدثون.

(6) في أ والمصادر: أعطيتمونا.

(7) تلخيص الشافي 3: 215، الدر المنثور 7: 229، تفسير الطبري: 24: 4، تفسير القرطبي 15: 256.


الصفحة 168

فصل


وقد زعم جمهور متكلمي العامة وفقهائهم أن الآية عامة في جميع المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلقوا في ذلك بالظاهر أو العموم، وبما تقدمه(1) من قول الله تعالى: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون }(2).

وإذا كان الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه الآية على ما شرحناه، وإذا تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها بالمقابلة والمكافأة، وثبت تأويل الشيعة للاتفاق الذي ذكرناه، ودلالته على الصواب حسب ما وصفناه، والله الموفق للصواب.

مسألة


فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون }(3).

ومن قولكم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية،

____________

(1) في ب، ح، وربما تعلق به.

(2) سورة الزمر 39: 32، 33.

(3) سورة الزمر 39: 35.


الصفحة 169
صغيرة ولا كبيرة، على خطأ ولا عمد، فكيف يصح أن الآية - مع ما وصفنا - فيه؟!

جواب


قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وآله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }(1).

وقال تعالى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار }(2).

وقال تعالى: { ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك }(3).

فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.

وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على الاطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.

____________

(1) سورة الفتح 48: 2.

(2) سورة التوبة 9: 117.

(3) سورة الشرح 94: 2، 3.


الصفحة 170
وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.


الصفحة 171

مسألة أخرى


فإن قالوا: فما عندكم في قوله تعالى: { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى }(1) مع ما جاء في الحديث أنها نزلت في أبي بكر على التخصيص(2)، وهذا ظاهر عند(3) الفقهاء وأهل التفسير؟

الجواب: قيل لهم في ذلك كالذي قبله، وهو من دعاوى العامة بغير بينة ولا حجة تعتمد ولا شبهة، وليس يمكن إضافته إلى صادق عن الله سبحانه، ولا فرق بين من ادعاه لأبي بكر وبين من ادعاه لأبي هريرة، أو المغيرة بن شعبة، أو عمرو بن العاص، أو معاوية بن أبي سفيان، في تعري دعواه عن البرهان، وحصولها في جملة الهذيان، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى والإيمان، وكل

____________

(1) سورة الليل 92: 5 - 7.

(2) الدر المنثور 8: 535، جامع البيان للطبري 30: 142، الكشاف 4: 762، تفسير الثعالبي 4: 420، تفسير الرازي 31: 198.

(3) في أ: مع.


الصفحة 172
من خلا من الكفر والطغيان، ومن حمله على الخصوص فقد صرفه عن الحقيقة إلى المجاز، ولم يقنع منه فيه إلا بالجلي من البرهان.

فصل


على أن أصحاب الحديث من العامة قد رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب(1)، وأخبروا عن سبب نزولها فيهما بما يطول شرحه، وأبو الدحداح الأنصاري هو الذي أعطى واتقى، وسمرة بن جندب هو الذي بخل واستغنى، وفي روايتهم لذلك إسقاط لما رواه بعضهم من خلافه في أبي بكر، ولم يسنده إلى صحابي معروف، ولا إمام من أهل العلم موصوف، وهذا بين لمن تدبره.

فصل


مع أنه لو كانت الآية نازلة في أبي بكر على ما ادعاه الخصوم، لوجب ظهورها فيه على حد يدفع(2) الشبهة والشكوك، ويحصل معه اليقين بسبب ذلك، والمعنى الذي لأجله نزل التنزيل وأسباب ذلك

____________

(1) تفسير القمي 2: 425، مجمع البيان 10: 759، أسباب النزول للسيوطي: 195، تفسير البحر المحيط 8: 483.

(2) في أ: يرفع.


الصفحة 173
متوفرة من الرغبة في نشره، والأمان من الضرر في ذكره، ولما لم يكن ظهوره على ما وصفناه دل على بطلانه بما بيناه، والحمد لله.


الصفحة 174