19 ـ ضبط العمل باختيار رئيس كفؤ يحيط بما تحت يده من أعمال ورجال وأن الوالي الأكبر عليه النظر في إدارة اولئك الرؤساء "ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته".
20 ـ التجارة والصناعة والعناية بهما وتفقد شؤونهما وشؤون القائمين عليهما.
21 ـ الاحتكار باب مضرة للعامة ومحاربته.
22 ـ الفقراء والذين لا صلة لهم كذوي العاهات، والرقة في إسعافهم وحفظ كرامتهم القاصي منهم والداني "فلا تشخص همّك عنهم ولا تصعّر خدك لهم".
23 ـ تأكيد رعاية مَن لا يعتنى بشأنهم في المجتمع، وما أرحب نفسية ابن أبي طالب وأكرمها وأشد حبّها لعباد اللّه "وتفقّد اُمور مَن لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثمّ اعمل فيهم بالأعذار إلى اللّه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وكلٌّ فأعذر إلى اللّه في تأدية حقّه إليه".
24 ـ الأيتام وذوو الرقة في السن، ويربط الإمام علي دائماً صعاب الاُمور بما يقوي على القيام بها من موفور الأجر وخير العواقب "وتعهّد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على الولاة ثقيل، والحق كلّه ثقيل وقد يخفّفه اللّه عى أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود اللّه لهم".
25 ـ هموم المجتمع وحل مشاكله في حرية مع تحمل الخرق منهم والسعي في تواضع للّه الخالق مع إبعاد الجند والأعوان حتى يبوح ذو الحاجة بحاجته فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في غير موطن: "لن تقدّس أمة لا يؤخذ للضعيف حقّه من القوي غير متتعتع".
26 ـ ووصايا في كافة شؤون الإدارة والحكم من مباشرة الاُمور ولا سيما ما يعجز عنه الوزراء والمسؤولون وتضيق به صدور الأعوان وامضاء عمل كل يوم بيومه، وتقويم السلوك واصلاح الأمر مع الرب تبارك وتعالى.
27 ـ الانفتاح على الرعية وعدم الاحتجاب عنها والاحاطة المباشرة بما
28 ـ السيرة مع المقربين من خاصته وبطانته وحسم مادة الاستثار منهم والتطاول.
29 ـ إقامة العدالة وإحياء بنودها في القريب والبعيد والصبر على ذلك واحتساب الأجر فيه.
30 ـ الصراحة والوضوح ورفع اللبس وإزاحة العلة والشبهة والتهمة بالاصحار بالعذر.
31 ـ معالجة المواقف بما يليق فإن كان الصلح ولو بدعوة من العدو للّه فيه الرضا ففيه الدعة والراحة والأمن مع يقظة وحذر من العدو بعد صلحه فإنّ العدو ربما قارب ليتغفل فالحزم كل الحزم واتهام حسن الظن في ذلك.
32 ـ الوفاء بالعهد وعدم النقض والغدر وخفر الذمم.
33 ـ حرمة الدماء وسفكها بغير حلها ففي ذلك تعجيل النقمة وزوال النعمة وتقوية السلطان بسفكها ممّا يوجب ضعفه وهوانه بل زواله، ولا يبعث فيك سلطانك نخوة فتعتز بالإثم ويأخذ بك الزهو والغرور عن أداء الحق إلى أهله.
34 ـ توجيهات إصلاحية لمراقبة النفس ومحاسبة الذات فلا يكن السلطان مطية الشيطان فالعجب والانبساط إلى المدح فرص الشيطان اللعين فيغري ويردي ويذهب باحسان المحسنين، والمن على الرعية والمبالغة والغلو في ادعاء الأعمال والخلف للوعد تبطل الاحسان، وتذهب بنور الحق وتوجب المقت عند اللّه والعباد، والأناة والحزم مدعاة لوضع الاُمور مواضعها، والتحكم في العاطفة وتملك أزمة النفس مأمن من العناء "ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك".
35 ـ الاسترشاد بالحكومات العادلة والسنن الفاضلة وكتاب اللّه وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والاقتداء بالإمام الحق ففي ذلك الرشاد وضمان مسيرة الحكم بالحق والعدل.
وبعد... فالعهد الشريف يحمل في طياته وثنايا حروفه سعة أفق وحسن تنظيم وبراعة إدارة وفيض خيال وعاطفة فياضة تحب الإنسان والخير والحياة
وقد عني به ذوو الاختصاص فرمقوه بالإجلال ونهلوا من معينه وأطروه كما جاء في كتاب "الراعي والرعية" الذي جاء شرحاً مقارناً بين أفكار (العهد) والنظريات الأخرى في الحكم والإدارة والاقتصاد وسواها(1).
وقال الشيخ المحقق الطهراني: "وهو أوّل كتاب قانوني إسلامي قويم كما أنه أطول عهوده (عليه السلام) وأجمع كتبه لوجوه السياسة الدينية والمحاسن والقيادة والتدبير، وقد وقف عنده المشرعون ورجال القانون في الشرق والغرب منذ العهود السالفة حتى يوم الناس هذا موقف الإكبار والإعجاب والتعظيم، وقد درست على ضوئه بعض القوانين والنظم الأوربية الحديثة وقورنت به فظهرت ميزته وأفضليته ولم يوجد له نظير أو شبيه بل إن معظم دساتير الدول وقوانين الممالك مأخوذة منه ناسجة على منواله"(2).
ومن مظاهر سياسته:
ولو تتبعنا عهوده الأخرى ورسائله ووصاياه إلى الولاة لوقفنا على تلكم النظم الحكيمة والتعاليم القويمة التي أراد للأمة حاكماً ورعية الحياة على نهجها، ولعلمنا منهجه في تأسيس الدولة وسياسة الرعية. وحيث لا تفي هذه العجالة بحديث ذلك أكتفي ببعض النماذج المعبرة:
الأوّل: ما حدّث به بعض عماله: "استعملني علي بن أبي طالب(عليه السلام) على بانقيا وسواد من سواد الكوفة، فقال لي والناس حضور: انظر خراجك وجدّ فيه ولا تترك منه درهماً، وإذا أردت أن تتوجه إلى عملك فمر بي، فأتيته فقال لي: إنّ الذي سمعت منّي خدعة، إيّاك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أُمرنا أن نأخذ منهم العفو"(3).
الثاني: أنه كتب إلى عماله: "أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا
____________
1- توفيق الفكيكية الراعي والرعية، ص: 8، مقدمة الطبعة الاُولى، ط3، 1403هـ.
2- الشيخ آقا بزرك الطهراني: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج13 / ص: 373، ط 2، بيروت.
3- الشيخ أبو جعفر الكليني: الكافي، ج1 / ص: 540، بيروت 1405هـ.
الثالث: ومن حوار سودة بنت عمارة الهمدانية مع معاوية: "واللّه لقد جئته في رجل كان قد ولاّه صدقاتنا فجار علينا فصادفته قائماً يصلّي، فلما رآني انفتل من صلاته وأقبل عليّ برحمة ورفق ورأفة وتعطف وقال: ألك حاجة؟ قلتُ: نعم، فأخبرته الخبر فبكى ثمّ قال: اللّه أنت الشاهد عليَّ وعليهم وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقّك، ثمّ أخرج قطعة جلد فكتب فيها: ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك مَن يقبضه منك والسلام. ثمّ دفع الرقعة إليّ فواللّه ما ختمها بطين ولا خزمها فجئتُ بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا"(2).
السياسة الناجحة.. والمفارقة العجيبة
رغبتُ في ختام هذا الفصل الاشارة بإيجاز حول نقطة مثارة قديماً وحديثاً وهي: هل نجح الإمام في سياسته؟ فأقول:
أولا: إن الإمام (عليه السلام) ينطلق في سياسته وفي شؤونه من مبادئ مقدسة لديه وقواعد ثابتة لا يحيد عنها وإن تمثلت المصالح الظاهرية في غيرها فهو ذو مبدأ عظيم ودين قويم يترسم خطى الشريعة.
ثانياً: إنه قد كشف عن منطلقاته والتي قد لا تكسبه نجاحاً ظاهراً ومنطلقات غيره التي حقّقت لهم ما يريدون فاسمع حديثه ورأيه: "وما يغدر مَن علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم! قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز
____________
1- الشيخ أبو جعفر بن بابويه: الخصال، ج1 / ص: 149، ط 1 (محققة)، بيروت 1410هـ.
2- علي بن عيسى الإربلي: كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج1 / ص: 173، ط 1405هـ، بيروت. والفصول المهمة، ص: 128.
وقال عن ذاته ومعاوية: "واللّه ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنتُ من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة"(2).
وقد مرّ في ثنايا البحث ما يوضح نهجه فهو على بصيرة من أمره وواقع الناس، عالم بما يصلحهم ويطوعهم ولكنه لا يفعل ما لا يلتقي ومبادءه ودينه.
ثالثاً: إنّ الإمام (عليه السلام) ورث تركة ثقيلة جداً حيث تولى الحكم بعد حكام ثلاثة وكانت لهم آراء ومذاهب ومشارب في الأحكام والأموال، وقد حملوا الأمة عليها وارتاحت لذلك نفوس فلم ترغب عنها متحولا ولا بسواها بدلا وفي مثل ذلك يتسع الخرق على الراقع.
رابعاً: وتفاقم الأمر وتعاظمت الخطوب، يوم رفع (كسرى العرب) معاوية رأسه وفعل الأفاعيل وغدر وفجر واحتال وقتل وشرى الضمائر فمالت الناس إلى دنياه ورغبوا عن دين علي وعدله وحقّه.
فيا ترى هل يليق ـ وأستغفر اللّه ـ بعلي أن ينافس معاوية ويبدل من هديه ونهجه؟! ذلك ممّا يأباه دين علي وخلقه وعقله وانسانيته.
ولئن كانت تلكم الأساليب الملتوية نقاط ضعف في سياته الإمام كما يرى البعض فهي نقاط القوة والعظمة في مقياس الحق، وإلاّ فلم يبق مَن ينشد أمثولة للحق والصدق ولما كان علي علياً.
ولقد عرض ابن أبي الحديث في شرح نهج البلاغة لهذا الموضوع مقارناً بين سياسته وسياسة عمر ومعاوية فقال عن سياسة الإمام: "وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة ويطبق اُمور الدنيا على اُمور الدين، ويسوق الكل مساقاً واحداً، ولا يضع ولا يرفع إلاّ بالكتاب والنص".
ثمّ نقل كلام أستاذه أبي جعفر النقيب بأنه سياسة علي هي سياسة النبي وعرض صورة ذلك، وقد ختم الاسكافي بحثه بقوله: "فامتاز رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
1- نهج البلاغة، خ41 / ص: 83.
2- نهج البلاغة، خ200 / ص: 318.
والعجيب أن يطالعنا عصرنا الحديث عصر الحرية والديمقراطية بآراء غريبة لبعض الدكاترة والباحثين فيخطؤون سياسة الإمام ويحكمون عليها بالضعف والفشل فاقرأ فكرهم واعجب لهم ولمقاييسهم "وهذا مايجعلنا نقول بأن علياً كان عليه أن يفعل كل ما يستطيع أن يفعله للاحتفاظ بالسلطة خاصة وأن الظروف التي أحاطت به كانت غاية الصعوبة... يشتري الناس؟ نعم... يقدم الرشاوي والمكاسب والمغانم والمناصب؟... نعم... يغتال خصومه؟... نعم... وما الضرر في أن يفعل كل ذلك... إنّ السؤال الذي يلح بشدة على المرء... هو لماذا لم يتعظ علي من تصرفات الرسول وعمر؟"(2).
وبعد فهذه صورة مشرقة من سياسته ونهجه في الحكم والدولة، وفكره وحياته أعظم اشراقاً وأوسع رحباً، ولو أن الأمة أسلمت إليه قيادها لحملها على الجادة الواضحة والمحجّة اللائحة ولزمت بمأمون من العثرات... ولكن...
الفصل الرابع
الانطباعات عن شخصية الإمام
ولقد هيمن الإمام(عليه السلام) وفرض واقعه وبهرت شخصيته العقول فخشعت لجلاله الأفكار ورمقته الأنظار باكبار، واللافت حقاً توافقهم في الإجلال رغم اختلافهم في المذاهب والمشارب والولاء والعداء ـ سيان جاحدهم ومن يتشيّع ـ وعلى تفاوتهم في المراتب، فالفقهاء وأئمة المذاهب والفلاسفة والمفكرون وغيرهم في الانبهار سواء ولا غرو ففي (شخصية الإمام) مناح تلتقي والنفوس
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج10 / ص: 212.
2- علي بن أبي طالب ـ نظرة عصرية جديدة، ص: 38، بأقلام مجموعة من الدكاترة والباحثين ط 2، بيروت 1980 م.
والحق يقضي أن نيمم نحو الله خالق هذه (الذات الكاملة) ونحو رسول الله راعيها ومربيها فالله العظيم هو المحيط، والرسول الكريم هو العارف، والناس مهما سموا في عبقرياتهم فهم لا يقفون على أبعاد تلكم الشخصية النادرة من الأفذاذ. أجل لقد حفل كتاب الله التدويني بالإفاضة بالحديث عن كتاب الله التكويني:
كلٌّ كتاب الله لكن صامت | هذا، وهذا ناطق ومبين |
وقد ذكر حملة الحديث والمفسرون عشرات الآيات بل مئاتها في حق الإمام، وهناك كتب خاصة لذكر مانزل من القرآن الكريم في علي وآله، ومنها "شواهد التنزيل في آيات التفضيل" للحاكم الحسكاني، و "(آيات الولاية) للسيد أبو القاسم الشريفي، وقد طبع بطهران في مجلدين ينتهي الأول بآخر سورة الأنبياء وفسر فيه (1001) آية (300) منها في حق أهل البيت وولايتهم باتفاق المفسرين والباقي من طرق أصحابنا الإمامية خاصة"(1).
وأما حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحدّث عن البحر ولا حرج. ولم يقتصر ذلك الانبهار والإجلال على النثر فقط بل شاطره الشعر وهو ممّا لا يحصى كثرة "وقد تصدى المرحوم عبد الهادي الشرقي ـ النجف الأشرف ـ فجمع موسوعة ضخمة من الشعر الذي قيل في الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) لم تخرج بعد إلى عالم الطبع، والطريق لا يزال مفتوحاً لا يغطيه عشرات الباحثين"(2).
بل نظم بعض الشعراء ملاحم كبيرة تتناول أبعاد شخصية الإمام كالملحمة العلوية المباركة لعبد المسيح الأنطاكي، وكملحمة عيد الغدير لبولس سلامة، وكالملحمة العلوية للشيخ جعفر الهلالي وغيرهم. وقد أجاد الأستاذ السيد حسن الأمين في بحثه المستفيض حول (علي بن أبي طالب في الشعر العالمي الإسلامي
____________
1- الشيخ آقا بزرك الطهراني: الكرام البررة، ج1 / 68، ط2، ايران ـ مشهد، 1404هـ، مطبعة سعيد.
2- الشيخ عبد الله السبيتي: تحت راية الحق، ص: 125، مطبعة العرفان ـ 1351هـ.
منزلة الإمام علي عند المسلمين
1 ـ ولهج الصحابة والتابعون بالاعجاب والاشادة، ولو جمع ذلكم الكم الجم لجاء كتاباً ضخماً، فقد قال عمر ـ وله في الإمام كلمات كثيرة مشهورة حتّى تغلغلت في الأذهان فعاد بعضها أمثلة نحوية ـ لولا علي لهلك عمر، وقال عثمان بن عفان لولا علي لهلك عثمان(2) وجاء عن عائشة وحذيفة وجابر الأنصاري: أنه خير البشر، وفي بعضها عن بعضهم لا يشك إلاّ كافر، ومَن أبى فقد كفر(3).
وقال حبر الأمة ابن عباس: "إنّ علياً علم علماً علمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ورسول الله علمه الله فعلم النبي من علم الله، وعلم علي من علم النبي، وماعلمي وعلم أصحاب محمّد في علم علي إلاّ كقطرة من سبعة أبحر"(4).
ومن حديث ضرار بن ضمرة وقد دخل على معاوية فقال له: صف لي علياً فقال: أو تعفيني؟ قال: لا أعفيك، فقال: "كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطلق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، كثير الفكرة، كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا لا نكلّمه هيبة له، ولا نبتديه لعظمته، فإنّ تبسّم فعن مثل اللؤلو المنظوم، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله..."(5).
ولما دخل(عليه السلام) الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب فقال: والله ياأمير
____________
1- دائرة المعارف الشيعية، ج1 / ص: 155 ـ 161، المؤسسة الإسلامية.
2- العلامة الأميني: الغدير، ج8 / ص: 214.
3- إحقاق الحق، ولكثرة ما أورده من مصادر، راجع: ج24 / ص: 213، مادة "خير"، و ص: 487، مادة "كفر".
4- بحار الأنوار، ج40 / ص: 147.
5- الفصول المهمة لابن الصباغ، ص: 127، ط1 ـ بيروت 1408هـ.
وقد سئل أبو الهذيل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر؟ فقال: بابن أخي لمبارزة علي عَمْراً يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربي عليها فضلاً عن أبي بكر وحده.
وقال في مقام الإمام ومناقبه حذيفة بن اليمان حين قال له ربيعة السعدي: إنّ الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه فيقول لهم أهل البصرة: إنّكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل، فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟
فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي، وما الذي أحدثك! والذي نفسي حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في كفه الميزان منذ أن بعث اللّه تعالى محمداً إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها، فقال: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لاظنه إسرافاً يا أبا عبد اللّه! فقال حذيفة: يا لكع وكيف لا يحمل! وأين المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله! والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة(2).
وقال محمّد بن ادريس ـ إمام الشافعية ـ: ماذا أقول في رجل أنكر أعداؤه فضله حسداً وطمعاً وكتم أحباؤه خوفاً وفرقاً، وفاض بين هذين ما طبق الخافقين.
وقال أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة: ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما جاء لعلي.
وعنه أيضاً وقد تذاكروا عنده خلافة أبي بكر وعمر وعلي وقالوا فأكثروا
____________
1- ابن الأثير: اسد الغابة في معرفة الصحابة، ج4 / ص: 32.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج19 / ص: 60.
وقال الشيخ الرئيس ابن سينا: "كان علي (عليه السلام) من العلوم في المحل الذي لا تحلق إليه البشر". وقال أيضاً: "أشرف الناس وأعز الأنبياء وخاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمركز الحكمة وفلك الحقيقة وخزانة العقل أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) صلوات اللّه وسلامه عليه ـ الذي كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس ـ إذا تقرب الناس إلى خالقهم بأنواع البر تقرب أنت إليه بأنواع العقل تسبقهم"(2). وقال أيضاً: "إنّ علي بن أبي طالب بين أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المعقول بين المحسوس، فهو عقل وغيره حس، وطبيعة الحواس أنها بحاجة إلى العقل لقيادتها"(3).
وأما علاّمة المعتزلة ابن أبي الحديد ـ شارح نهج البلاغة ـ فقد عايش الإمام من خلال كلمة وسيرته فهام بالإمام وأفاض في تعداد مواطن الجلال والجمال، فلنقتطف من شرحه شذرات: "وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها وسباق مضمارها ومجلي حلبتها، كل مَن بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى" ثمّ عدّد في صفحات طوال انتساب العلوم والفضائل وأربابها إليه وختم الفصل بقوله: "فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله، والرئيس المقتفى أثره".
ثمّ عاد لبيان أن الإمام مهوى الأفئدة ومعشوق القلوب على تباين انتمائها واختلاف رجالها فقال: "وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بِيَعِها وبيوت عبادتها، حاملا سيفه مشمراً لحربه، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها... وما أقول في رجل أحب كل أحد أن يتكثر به، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه... فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه
____________
1- المصدر السابق، ج1 / ص: 52، وعلّق عليها فتراجع.
2- الشيخ عبد اللّه نعمة: فلاسفة الشيعة، ص: 298، ط1، بيروت 1987م.
3- الشيخ جواد الآملي: الحكمة عند الإمام في نهجه، ص: 25، ط 1، بيروت 1413هـ.
وقال عن فصاحته وبلاغته: إنه أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين والآخرين إلاّ كلام اللّه سبحانه، وكلام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ عقب ذلك بأن هذه الخطب والكتب إن أفكر فيها وأعمل رويته فيها فقد أتى بالعجب العجاب وهو إمام الناس كلهم في ذلك، وإن فاضت على لسانه مرتجلة فأعجب وأعجب(2). وعلق على جملة من كلمه حول الشيطان بقوله: "وهذا من صناعة الخطابة التي علمها اللّه إياه بلا تعليم وتعلمها الناس كلهم بعده منه"(3). ووصف شجاعته بأنها منحة من اللّه تعالى خارقة لعادة البشر(4).
ونقل عن أستاذه النقيب أبي جعفر قوله في صفاء فطرة الإمام: "إن نفس علي القدسية أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين"(5).
وعلق على جملة من خطبة له (عليه السلام) في التوحيد، بقوله: "وهذا أيضاً من دقائق العلم الإلهي، والعرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به، ولكن هذا الرجل كان ممنوحاً من اللّه تعالى بالفيض المقدس والأنوار الربانية"(6).
وذكر جرجي زيدان في ترجمة جمال الدين الأفعاني "كان إذا ذكر الإمام في مجلسه يقوم ثمّ يقعد إجلالا وتعظيماً"(7).
وقال أمير البيان شكيب أرسلان: "وإلاّ فقل إن وجد في التاريخ البشري مثل علي بن أبي طالب في كمال صفائه وكثرة فضائله وعلو مزاياه ومن كان يقدر أن يقول في علي شيئاً"(8).
ونقل العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنية كلمة الأمير شكيب أرسلان ووصفها
____________
1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج1 / ص: 17 ـ 30.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج6 / ص: 278 ـ 279.
3- المصدر السابق، ج13 / ص: 143.
4- المصدر السابق، ج7 / ص: 301.
5- المصدر السابق، ج11 / ص: 115.
6- المصدر السابق، ج 13/ ص: 48.
7- الشيخ عبد اللّه السبيتي: تحت راية الحق، ص: 44، مطبعة العرفان، صيدا 1351هـ.
8- تحت راية الحق، ص: 44.
منزلة علي عند غير المسلمين
قال الفيلسوف الإنگليزي توماس كارليل: "أما علي فلا يسعنا إلاّ أن نحبه ونتعشقه فإنه فتى شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان".
وقال جبران خليل جبران: "في عقيدتي إنّ علي بن أبي طالب كان أوّل عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها وهو أوّل عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها فرددها على مسمع قوم لم يسمعوا مثلها من ذي قبل فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم فمن أعجب بها كان اعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية، مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته مات والصلاة بين شفته ومات فيه قلبه الشوق إلى ربّه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية، مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذي يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليسوا بقومهم في زمن ليس بزمنهم ولكن ربّك شأناً في ذلك وهو أعلم".
ويقول ميخائيل نعيمة عن تعلق جبران بالإمام: "وأذكر أن جبران كان يجل
____________
1- الشيخ محمّد جواد مغنية: فضائل الإمام علي، ص: 180، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1397هـ.
وقال بولس سلامة: "وقد يقول قائل: ولم آثرت علياً دون سواه من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الملحمة؟ ولا أجيب على هذا السؤال إلاّ بكلمات فالملحمة كلها جواب عليه، وسترى في سياقها بعض عظمة هذا الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: رضي اللّه عنه وكرّم وجهه، وعليه السلام، ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثلون بحكمه ويخشعون لتقواه، ويتمثل به الزهاد في الصوامع فيزدادون زهداً وفتوناً، وينظر إليه المفكر فيستضيء بهذا القطب الوضاء، ويتطلع إليه الكاتب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمد الفقيه المدره فيسترشد بأحكامه. أما الخطيب فحسبه أن يقف في السفح ويرفع الرأس إلى هذا الطود الشامخ لتنهل عليه الآيات من عل، وينطلق لسانه بالكلام العربي المبين الذي رسّخ قواعده أبو الحسن. وبعد فلم تساءلني بأبي الحسن؟ أو لم تقم في خلال العصور فئات من الناس تؤله الرجل؟ ولا ريب أنها الضلالة الكبرى ولكنها ضلالة تدلك على الحق إذ تدلك على مبلغ افتتان الناس بهذه الشخصية العظمى"(2).
وقال ميخائيل نعيمة: "وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب فقد كان بطلا في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق انسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق، وهذه البطولات ومهما تقادم بها العهد لا تزال مقلعاً غنياً نعود إليه اليوم في كل يوم كلما اشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة.. إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب مهما بلغ من الفطنة والعبقرية أن يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام كالحقبة التي عاشها. فالذي فكره وتأمله وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربه لمما لم تسمعه أذن ولم تبصره عين. وهو أكثر بكثير مما عمله بيد أو أذاعه بلسانه وقلمه. وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له فهي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض
____________
1- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج1 / ص: 35.
2- المصدر السابق، ج1 / ص: 47.
وفي رسالة منه لجورج جرداق: "تسألني رأيي في الإمام ـ كرم اللّه وجهه ـ ورأيي فيه أنه ـ من بعد النبي ـ سيد العرب على الإطلاق بلاغة وحكمة وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنيا، فأنا ما عرفت في كل مَن قرأت لهم من العرب رجلا دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين مشحونة بالحكم الزمنية والروحية متوهجة ببوارق الإيمان الحي مدركة من الجمال في البيان حد الاعجاز، فكأنما اللالئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال وكأنه البحر يقذف بتلك اللالئ دونما عنت أو عناء". إلى أن يقول: "إنّ علياً لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان"(2).
وقال شبلي الشميل: "الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق والغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً"(3).
وقال جورج جرداق: "فالتأريخ والحقيقة يشهدان أنه الضمير العملاق الشهيد أبو الشهداء علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية وشخصية الشرق الخالدة! وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن علياً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره"(4).
وقال الباحث الفرنسي كازا ديفو: "وعلي هو ذلك البطل الموجع المتألم، الفارس الصوفي، والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سر العذاب الإلهي"(5).
وقال جرداق عن أمة من الباحثين والمستشرقين: "أما المستشرقون ولنعد إليهم، فمن الطبيعي أن يكون علي في طليعة مَن دارت عليه أبحاثهم ومن الطبيعي أن يقفوا عند شخصية الإمام الفذ، ويطيلوا الوقوف، وليس بأقل طبيعة كذلك أن
____________
1- جورج جرداق: الإمام على صوت العدالة الإنسانية، ج5 / ص: 227، 1970م.
2- بولس سلامة: عيد الغدير، المقدمة، ص: 10 ـ 11.
3- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج1 / ص: 20.
4- المصدر السابق، ج5 / ص: 228 ـ 229.
5- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج5 / ص: 233.
وكما أفرد بعضهم ملحمة في الإمام فقد ألّف الكثير منهم مؤلفات خاصة بالإمام كشفت عن امتياز الإمام وإجلالهم له كـ (سليمان كتاني) في "علي نبراس ومتراس" و(روكس العزيزي) في "الإمام علي أسد الإسلام وقديسه" و(نصري سلهب) في "خطى علي".
وبعد...
فهذه لمحة.. من صورة مشرقة... من علي... وفكره وحياته أعظم إشراقاً وأوسع رحباً وقد أرادها اللّه الحكيم الخبير لعباده نوراً تستضيء بسناه وتتفيأ بظلاله وباباً تلج منه إلى العلم والحق، ولكن الأمة ولسوء طالعها ضيّعت حظها فلم تعرف له قدراً، ولم ترع له حرمة، وصدق اللّه حيث يقول: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ).
____________
1- المصدر السابق، ج5 / ص: 235.