المعجز الحكميّ، ممّا كان أوّله حرف الهمزة(1)

1 ـ الدِّينُ يَعْصِمُ.

أي انّ رعاية الدين والاهتمام باُموره يعصمان المرء من الحسرة والندم في يوم الجزاء، وهذا ظاهر، كما يعصمانه من الذلّة والهوان في الدنيا، لأنّ المتديّن عزيز ومحترم عند الخلائق، وإذا لحق الإنسان ـ في سبيل الدين ـ أذىً فإنّه لن يُسقطه من أعين الناس، بل يزيد في علوّ قدره وسموّ مرتبته لدى مَن يبصر حقائق الاُمور.

2 ـ الدُّنْيا تُسْلِمُ.

أي انّ الحرص على طلب الدنيا وقَصْر الأوقات على السعي في تحصيلها يذلّ المرء في الدنيا والعُقبى. فإذا ما انشغل امرؤ في طلب اُمور الدنيا، فعليه بعد فراغه ممّا يلزمه أن يسعى في مهام الآخرة.

ويمكن أن يكون المراد ذم طلب الدنيا مطلقاً لو كان النظر إلى مجرّد الدنيا، مثل جمع الزخارف الدنيوية أو تحصيل الجاه والاعتبار للتفوّق على الأمثال والأقران والازدياد والغلبة عليهم; أمّا إذا كان المقصود من طلب الدنيا تحصيل المثوبات الأُخروية، مثل طلب المال بقدر حاجة المرء وحاجة عياله ممّا يجب شرعاً، أو الزيادة على ذلك للتوسعة عليهم وإطعام الصادرين والواردين والبذل على الفقراء والمساكين والانفاق في الحجّ والزيارات وسائر سبل الخيرات; أو تحصيل الجاه والاعتبار للتمكّن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعانة الفقراء ومنع جور الأقوياء، فهو ليس في حقيقته طلباً للدنيا، بل هو من طرق وشُعب السعي في الآخرة، وهو ممدوح ومستحسن عقلا وشرعاً.

3 ـ الدِّينُ يُجِلّ، الدُّنْيا تُذِلُّ.

هاتان الفقرتان قريبتان من الفقرتين السابقتين، ولا تحتاجان إلى بيان.

4 ـ الدُّنْيا أَمَدٌ، الآخِرَةُ أَبَدٌ.

الدنيا مدّة منقضية، والآخرة زمن دائم; فعلى مَن كان له أدنى بصيرة أن يهتمّ بأُمور الآخرة دون أُمور الدنيا.

5 ـ العِلْمُ يُنْجِدُ، الحِكْمَةُ تُرْشِدُ.

العِلم يرفع صاحبه، والحكمة تبعث على رُشده واهتدائه; والمراد بالحكمة العلم بالعلوم الدينية والمعارف الشرعية; وقد يعتبر العمل أيضاً ضمن مفهومها; فيكون بمعنى العلم المقرون بالعمل; وبناءً على المعنى الأخير يظهر أنّه السبب التام للرشاد وبلوغ المبتغى من السعادة الأبدية والمثوبات السرمدية.

وبناءً على المعنى الأوّل فإنّه وإن لم يكن سبباً تاماً، فإنّه في الجملة سبب وباعث، وإطلاق السبب والباعث على السبب الناقص أمر شائع ومتعارف أيضاً.

6 ـ الْعَدْلُ مَأْلُوفٌ، الْجَوْرُ عَسُوفٌ.

من الواضح انّ العدل مألوف وممدوح، يألف الناس صاحبه ويميلون إليه، وانّ الجور والظلم لمّا كان سبباً لتنفّر الناس من صاحبه وابتعادهم عنه، فإنّه يحيد بصاحبه عن الجادّة، أي يسلك بصاحبه طريقاً غير طريق الناس.

7 ـ الْصِدْقُ وَسِيَلةٌ، الْعَفْوُ فَضِيلَةٌ.

الصدق وسيلة للفوز بالخير والسعادات، والعفو عن الناس ومغفرة والصفح عن زلاّتهم وتقصيرهم هو عين الفضيلة وزيادة في المحاسن والمكارم.

8 ـ السَّخَاءُ سَجِيّةٌ، الشَّرَفُ مَزِيّةٌ.

السخاء من مكارم الأخلاق والسجايا الحميدة، وقد يكون المراد انّ السخاء من الملكات والسجايا الراسخة الثابتة فيمن يحلّ فيه، أمّا الشرف ـ أي علوّ الرتبة ـ فهو فضيلة ومزية، أي انّه شُرّف باعتبار وجود فضيلة لا باعتبار مال ولا جاه ولا كرم محتد ونسب وأمثال ذلك.

9 ـ الْحَزْمُ بِضاعَةٌ، الْتَوانِي إِضاعَةٌ.

التأمّل في العواقب رأسمال الخيرات، والتواني والتقاعس تضييع للعمر وتفويت للفرصة.

10 ـ الْوَفَاةُ كَرَمٌ، الْمَوَدَّةُ رَحِمٌ.

يعني انّ الوفاء بالحقوق الإلهيّة وأدائها، والوفاء بحقوق الناس وأداءها كرم، وانّ من يفي بأجمعها كريم، وإن لم يفعل غيرها من أعمال الخير، بل ورد في بعض الأحاديث انّ هذا هو منتهى الكرم، و المودّة هي المقرونة بالعطف واللين، ومن لم يكن كذلك لم يكن صديقاً.

11 ـ الْتَّواضُعُ يَرْفَعُ، الْتَّكَبرُ يَضَعُ.

12 ـ الْحِكْمَةُ عِصْمَةٌ، الْعِصْمَةُ نِعْمَةٌ.

الحكمة والعلم يحرسان الإنسان، يمنعانه من ارتكاب القبائح والمحرّمات والشرور والمنهيّات، وهذه الحراسة والمنع نعمة من جانب الله تعالى ولطف منه.

13 ـ الْكَرَمُ فَضْلٌ، الْوَفاءُ نُبْلٌ.

أي انّ هذه العزّة إنّما هي باعتبار فضل موجود في هذا الشخص، من حُسن أخلاق وجمال صفات واستقامة الأعمال والأفعال، لا بجهات أُخرى كالجاه والمال.

والوفاء نبل ونجابة، أي انّ النبل هو أن يفي المرء بحقوق الخالق والخلق ويؤدّيها بالمال والجاه وعلوّ النسب وأمثال ذلك. وقد يكون المراد انّ الكرم ـ أي الجود والسخاء ـ فضل وعلوّ مرتبة، وانّ الوفاء نُبل أي علامة النجابة أو الكياسة والفطنة، أو سبب لعلوّ المرتبة، لأنّ النبل ـ بضم النون وسكون الباء الموحّدة ـ قد وردت بجميع هذه المعاني.

14 ـ الْعَقْلُ زَيْنٌ، الْحَمْقُ شَيْنٌ.

15 ـ الْصِدْقُ أَمانَةٌ، الْكِذْبُ خِيانَةٌ.

16 ـ الإِنْصافُ راحَةٌ، الشَّرُ وَقاحَةٌ.

العدل والانصاف سبب راحة الناس وطمأنينتهم، والشرّ والظلم علامة لقلّة الحياء والوقاحة.

17 ـ الْجُودُ رِياسَةٌ، الْمُلْكُ سِياسَةٌ.

الجود والكرم سبب للرياسة والزعامة، حيث انّ المشهور انّ الإنسان أسيرُ الإحسان، فالناس يطيعون الجواد وينقادون له ويأتمرون بأمره.

والمُلك سياسة وحراسة، يعني قيادة الرعية وحفظهم وحراستهم كي يعيشوا بميمنة دولته في مهد الأمن والأمان.

18 ـ الأَمانَةُ إِيْمانٌ، الْبَشاشَةُ إِحْسانٌ.

المراد بالفقرة الاُولى انّ الأمانة تشتمل على الإيمان، لأنّ حقيقة الأمانة اجتناب الخيانة في حقِّ الآخرين وأداء ذلك الحقّ. ومن الظاهر انّ من لم يؤمن بالله ورسوله قد خان حقّهما ولم يؤدّه. فمن كان أميناً في كلّ باب كان له بطبيعة الحال كمال الإيمان بالله ورسوله.

والغرض من هذا الكلام مدح صفة الأمانة وإظهار انّ الإيمان هو من شُعب الأمانة وأقسامها. ويمكن أن يكون المراد انّ الأمانة وعدم الخيانة في الحقوق المالية إيمان، أي الجزء المهمّ من الإيمان، لأنّ الأمانة وعدم الخيانة في الحقوق المالية أصعب بكثير لدىأكثر الناس من سائر التكاليف الشرعية كما هو معلوم من التجربة، وقد ورد ذلك في الأحاديث.

ومن هنا فإذا كان العمل معتبراً في الإيمان ـ كما هو مذهب البعض وكما هو الظاهر من كثير من الأحاديث ـ فإنّ الأمانة ستكون الجزء الأعظم الأصلي للإيمان. وإذا لم يكن العمل معتبراً في الإيمان بل الإيمان هو مجرّد التصديق بالله ورسوله ـ ولو اقترن بالعصيان ـ وكانت الأعمال معتبرة من كمال الإيمان، وعلى هذا تُحمل الأحاديث الواردة ـ كما هو المذهب المشهور ـ فيكون الإيمان هنا محمولا على الإيمان الكامل. أي انّ الأمانة هو الجزء الأساس من الإيمان الكامل.

والمراد بالفقرة الثانية هو انّ طلاقة الوجه والبشاشة في الفرد عمل للإحسان، لأنّ أكثر الناس يميلون إلى البشاشة وطلاقة الوجه أكثر من ميلهم إلى سائر أنواع الإحسان، بل لا يتوقّعون إحساناً بغير البشاشة.

وقد يكون المراد انّ الإحسان هو المقرون بالبشاشة وطلاقة الوجه، فيكون الإحسان المقرون بالعبوس والانقباض ليس إحساناً في الحقيقة.

19 ـ الْكَرِيمُ أَبْلَجُ، اللَّئِيمُ مَلْهوُجٌ.

الكريم أغرّ الجبين أو طلق الوجه، وهو كناية عن انّه معروف بين الناس ومشهور بينهم، أشبه بالشيء المتألّق الوضّاء، أمّا اللئيم فساذج غير حليم، أي انّ أعماله وأفعاله غير متقنة، وكثيراً ما يحصل ان يبخل اللئيم في شيء يسير فيجرّ على نفسه الخسران الكبير.

20 ـ الْفِكْرُ يَهْدي، الصِدْقُ يُنْجِي.

21 ـ الْكِذْبُ يُرْدِي.

أي يهلك الإنسان بالهلاك الأُخروي، وكثيراً ما يتسبب بالهلاك الدنيوي أيضاً.

22 ـ الْقَناعَةُ تُغْنِي.

باعتبار انّ الإنسان القانع لا يحتاج إلى طلب شيء، فيكون كالغنيّ.

23 ـ الْغِنى يُطْغِي.

24 ـ الْفَقْرُ يُنْسِي.

الفقر يُنسي، أو يؤخّر، حيث كثيراً ما يحصل أن ينسى الشخص القلق الحزين ذكر الله تعالى والسعي في أُمور الآخرة أو يؤخّرها بسبب الهم والحزن، أو بسبب اشتغاله يطلب المؤنة لنفسه وعياله.

25 ـ الْدُّنْيا تُغْوِي.

الدنيا تُغوي وتُضلّ، فكثيراً ما يُخدع صاحب الدنيا بدُنياه وينشغل بملاهيها وملاعبها، فيُحرم بذلك عن الآخرة. فمن ألطاف الحقّ تعالى إذاً أن يملك الإنسان قدر الكفاف، فلا يكون فقيراً إلى الحدّ الّذي يُنسيه قلقه واضطرابه فيؤخّر السعي في طلب الآخرة، ولا يكون غنيّاً بحيث يُضلّه غناه ويُغويه.

26 ـ الْشَّهْوَةُ تُغْرِي.

الشهوة والرغبة في شيء يُغريان الشخص بذلك الشيء ويجعلانه حريصاً على فِعله، ويقلّلان من قُبح ذلك الشيء أو يُزيلان قبحه مهما كانت درجة قُبحه.

27 ـ الَلذَّةُ تُلْهِي.

وهو نظير الفقرة السابقة، ومن فوائد هاتين الفقرتين انّ الشخص إذا اشتهى أمراً والتذّ به، وكان يشكّ في أحكامه ـ كحلّيّته أو حُرمته ـ فعليه أن يستخدم كامل عقله وحكمته ولا يتسرّع في الحكم وفقاً لشهوته ولذّته، إذ كثيراً ما تجعله الشهوة حريصاً على ذلك الأمر وتُلهيه لذّته به، فيُحسُن في نظره أدنى دليل على الجانب الّذي يرغب فيه، ويغفل عن دلائل الجانب المخالف لرغبته، أو تكون تلك الدلائل مرجوحةً في نظره.

28 ـ الْهَوى يُرْدِي.

الهوى يُردي ويُهلك; لأنّ اشتهاء المنكرات والمنهيّات كثيراً ما يسبب ارتكاب تلك المنكرات والمنهيات.

29 ـ الْحَسَدُ يُضْنِي.

الحسد يُضني الإنسان ويُمرضه; لأنّ الحسود يرىباستمرار الناس يتنعمّون فتكون كلّ نعمة سبباً في حزنه وغمّه، فيألم لذلك ويضنى ويمرض. وعلاج ذلك هو إزالة هذه الصفة الذميمة من نفسه.

30 ـ الحِقْدُ يُذْرِي.

الحقد يُفني ويُهلك الروح والعُمر; لأنّ الحقود يفكّر دوماً في الانتقام فيرتكب لذلك أُموراً تسبب هلاكه، فإن هو لم يرتكبها تسبّب الحقد والحزن في هلاكه وفنائه. وعلاج الحقد هو قلع هذه الصفة السيّئة وقمعها. ووردت العبارة في بعض النسخ بلفظ «يذوي» بالواو، فيكون المعنى انّ الحقد يُذبل بدن الحقود ويُضعفه.

31 ـ الْيَقِينُ عِبادَةٌ.

أي انّ أصل تحصيل اليقين في المعارف الإلهيّة هو عبادة في نفسه، بغضّ النظر عمّا يترتّب عليه من العبادات، بل هو أفضل جميع العبادات كما هو الوارد في أحاديث أُخرى.

32 ـ الْمَعْرُوفُ سِيادَةٌ.

أي انّ الإحسان إلى الناس وبذل النعمة لهم سبب للسيادة عليهم.

33 ـ الْشُكْرُ زِيادَةٌ.

شكر النعمة سبب في زيادتها، فقد قال الحقّ تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ)(2).

34 ـ الْفِكْرُ عِبادَةٌ.

أي انّ التفكّر في مصنوعات الحقّ تعالى والاستدلال بها على وجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته عبادة، بل أفضل العبادات.

وقد يكون المراد انّ الفِكر عمل من أعمال الخير، وانّ قصده عبادة حتى لو لم يفعله المرء، كما ورد في أحاديث صريحة أُخرى.

35 ـ الْعِفافُ زَهادَةٌ.

العفاف هو الزهد في الدنيا، أي ترك المحرّمات، بل المشتبهات أيضاً يعني انّ الزهد في الدنيا وترك الحرص عليها سبب للعفاف والتقوى.

36 ـ الأُمُورُ بِالتَّجْرِبَةِ.

أي انّ الأُمور تحسن في الأعين وتصحّ بعد أن تُجرّب.

37 ـ الأَعْمالُ بِالْخُبَرةِ.

أي انّ الأعمال تكون حسنة إذا كانت قائمة على العِلم والفكر.

38 ـ الْعِلمُ بِالْفَهْمِ.

أي انّ العلم إنّما يحصل إذا فهم الإنسان شيئاً وسبر أعماقه، وليس بمجرّد سماعه الشيء من معلّم وتعلّمه إيّاه منه دونما غور في باطنه ودونما فهم لكُنهه.

39 ـ الْفَهْمُ بِالْفِطَنَةِ.

أي انّ من لم يمنحه الله تعالى ذكاءً وفطنة لن يمكنه فهم الأُمور حسب ما ينبغي، ومثل هذا الشخص يكون اشتغاله بتحصيل العلوم الّتي يقصر شعوره عن فهمها لغواً وعبثاً.

40 ـ الْفِطْنَةُ بِالْبَصِيرَةِ.

يعني انّ الفطنة هي الّتي تُقرن بالبصيرة الّتي يمكن بها التمييز بين الحقّ والباطل، ليختار صاحبها الحقّ دون الباطل. وحاصل هاتين الفقرتين انّ على المتعلّم أن يكون له شعور يمكنه به فهم الأشياء، فمن كان شعوره ضحلا بحيث يعجز عن فهم المسألة الّتي يفكّر بها ولا يتمكّن من ترجيح طرف على طرف، فإنّه لن يتمكّن من تحصيل ذلك العلم، ويكون اشتغاله به لغواً.

وكذلك لو كان له شعور بحيث يفهم الشيء ويُصدر في حقّه حكماً لما كفاه ذلك، بل يلزمه امتلاك شعور صحيح وذوق صائب ليحكم بالحقّ وليس بخلافه، حيث يشاهد انّ كثيراً من الناس لهم شعور وانّهم حين يتأمّلون في مسألة ما لا يعجزون عن اصدار حكم في حقّها.

غاية الأمر: انّ ذوقهم منحرف بحيث يحكمون في أغلب الأوقات بالباطل، ومثل هؤلاء لا يتوصّلون إلى العلم، ويكون اشتغالهم بطلب العلوم لغواً، بل اشتغال أمثالهم بذلك مضرّة، بخلاف من يمتلك شغوراً، حيث ان اشتغال الأخير بالعلم إن لم ينفع فإنّه لن يضرّ; لأنّه لم يخرج من مرتبة الجهل البسيط، بخلاف من له ذوق منحرف، فإنّ هذا الأخير إذا فكّر في المسائل يحصل له الجهل المركّب والتصديق بالأُمور الباطلة، نعوذ بالله من ذلك.

ولأنّ الصراط مستقيم، فإنّ الصواب في كلّ مسألة واحد يندر أن يوجد فيه اختلاف، خلافاً للصراط المعوج الّذي له شُعب مختلفة وشجون متفرقة. فالجماعة الّتي أذواق أفرادها سليمة يتّفق أكثر أفرادها في أغلب الأفكار، خلافاً للجماعة الّتي أذواق أفرادها سقيمة، حيث يسلك كلّ واحد منهم سبيلا غير سبيل الآخر ويقرّر لنفسه قوانين وقواعد غير قوانين وقواعد الآخر، ويندر أن يوجد في هؤلاء شخصان متّفقان، فضلا عن جماعة متّفقة.

ولذلك فإنّ الشخص إذا أراد تشخيص سلامة ذوقه وفكره من سقمهما فإنّه يعلم ذلك بعرضه بعض أفكاره على جمع من علماء عصره، أو بقياسه أفكاره على أفكار وقواعد وقوانين العلماء السابقين، فإن وافقه جمعٌ منهم في أكثر أفكاره كان ذلك دليلا على استقامة طبعه، وإن لم يوافقه في أكثرها أحد ولو منفرد، ظهر من خلالهم سقم أفكاره وذهنيّته، والله الموفّق.

ويمكن أن يكون المراد بهذه الفقرة بيان معنى الفطنة وانّها بالبصيرة، أي بها يعطي الحقّ تعالى لهذا الشخص بصيرة يمكنه بها إدراك الأُمور والتمييز بين الحقّ والباطل.

41 ـ الْتَّدْبِيرُ بِالْرَّأْي، والْرَّأْيُ بِالْفِكْرِ.

يعني انّ شخصاً إذا أراد تدبير أمر ما ومعالجته فإنّ عليه التفكّر والتأمّل ليحصل له رأي في ذلك الأمر يستقرّ عليه ويدبّر الأمر وفقاً له، فإن كان الشخص متوقفاً ومتردداً لا رأي له لم يمكنه التدبير، وكذلك فإنّه إذا توصّل إلى رأي من دون تفكّر وتأمّل لم يمكنه التدبير، لأنّ الرأي الّذي يخطر بلا تأمّل ولا تفكّر لاثبات له ولا استقرار، وهو رأيٌ يتغيّر بأدني شيء، ورأيٌ لا يمكن الاستناد إليه في التبدير، لأنّ التدبير سيزوال بعد برهة يسيرة بزوال ذلك الرأي، وينبغي ـ من ثمّ ـ العثور على تدبير آخر سواه والعمل بموجب التدبير الجديد، حتّى تفوت الفرصة فيعجز الشخص عن التدبير والعلاج.

42 ـ الْظَّفَرُ بِالْحَزْمِ، وَالْحَزِمُ بِالتَّجَارِبِ.

الظفر بالعدوّ أو بمطلق المآرب يُبعد النظر والتفكّر بالعواقب وبُعد النظر والتفكّر بالعواقب يحصلان بالتجارب. فعلى الإنسان أن لا يكفّ عن تجارب الأُمور ليكون له فيما يحصل له من الأُمور تجربةٌ يستند إليها في حزمه وبُعد نظره، خاصةً أهل الحرب والقتال، لضرورة التجربة ورعاية منتهى الحزم والحيطة في الحروب، إذ يندر أن يصيب رأيُ مَن لا تجربة له.

43 ـ الْمَكارِمُ بِالْمَكارِهِ.

«المكارم» هي الصفات والصفات الحميدة الّتي يُحمد بها المرء، و «المكاره» هي الأُمور الّتي يمجّها الطبع ويصعب تحمّلها على النفس.

والمراد هو انّ تحصيل المكارم بالصبر على المكاره وتحمّلها، فمن عجز عن تحمّل المكاره لم ينل أكثر الأخلاق الحميدة. وقد يكون المراد بالمكارم العظمة والشرف، والقصد منه انّ العظمة ممزوجة بالمكاره، وانّ كلّ عظمة مقرونة بمكروهات تليق بها، فمن لم يصبر على المكاره فعليه أن لا يطلب العظمة، إذ لاعظمة بلا متاعب.

44 ـ الْثَّوابُ بِالْمَشَقَّةِ.

الثواب والأجر على قدر المشقّة، فإذا كانت مشقة عمل كبيرة، كان ثوابه كبيراً أيضاً، وقد ورد في أحاديث أُخرىانّ «أفضل الأعمال أحمزها»(3) أي أصعبها وأكثرها مشقّة، وينبغي العلم انّ ذلك يصحّ في عملَين كلاهما من جنس واحد، فيكون أكثرهما مشقة أكثرهما أجراً وثواباً، مثل الصيام في أيّام الصيف وأيّام الشتاء، والحجّ في سنوات شديدة الحرّ وفي سنوات شديدة البرد، وفي غير ذلك، أمّا إذا لم يكن العملان من جنس واحد فقد يكون ثواب أحدهما ـ وهو العمل الأسهل كالصلاة ـ أكبر من ثواب العمل الآخر الأصعب كالحجّ، وقد ورد انّ صلاة الفريضة أفضل من عشرين حجّة(4).

45 ـ الْعُجْبُ هَلاكٌ.

أي انّ العُجب ـ وهو الكِبْر والزهو ـ سبب في الهلاك الأُخروي.

46 ـ الْرِياءُ شِركٌ.

الرياء أن يؤدّي الإنسان عبادة يقصد بها أن يراه غير الله تعالى أو أن يسمع به غير الله تعالى، سواءً انحصر قصده بذلك، أو قصد به الله تعالى وسواه، فهو شرك بالله عز وجل على كلّ تقدير وإشراك لغير الله عز وجل معه، نعوذ بالله منه.

47 ـ الْجَهْلُ مَوْتٌ.

الجهل نوعٌ من أنواع الموت، والجاهل من أقسام الميّت.

48 ـ الْتَّوَانِي فَوْتٌ.

يعني انّ التواني وعدم المبادرة سببٌ لفوت كثير من الأُمور المهمّة، ومن الضروري إذاً إزالة تلك الصفة عن النفس.

49 ـ الْشَهَواتُ آفاتٌ.

يعني انّ الشهوات تصبح سبب الآفات في الدنيا والآخرة، فيجب عدم اتّباعها بقدر الوسع.

50 ـ اللَذَّاتُ مُفْسِداتٌ.

أي انّ فساداً كثيراً ينشأ منها في الدنيا والآخرة، فيجب عدم متابعتها.

51 ـ الأَمانِيُّ أَشْتاتٌ.

أي انّ الأماني كثيرة ومتفرّقة، وكلّما تحقّق منها شيء بقي وتجدّد منها شيء آخر، فإذا أراد امرؤ تحقيقها لم يفرغ منها قطّ، فيجب إذاً تركها والاعراض عنها بأجمعها.

52 ـ الْيَأَسُ حُرٌّ.

يأس المرء عن الخلائق سبب في حرّيته، إذ يجب أن لا يكون عبداً لأحد، لأنّ من طمع فيما لدىأحد، كان طمعه نوعاً من الرقّ لذلك الشخص. والحرّ هو المختار في فِعل ما يشاء، ويمكن أن يكون معنى «الحرّ» في هذه العبارة ما ذكرناه، ومعناه انّ اليأس عن الخلائق أفضل الأُمور.

53 ـ الْطَّمَعُ مُضِرٌّ.

الطمع مضرّ بصاحبه; لأنّه يجعله دائماً ذليلا وحقيراً.

54 ـ الْمُنْصِفُ كَرِيمٌ، الظَّالِمُ لَئِيمٌ.

«الكريم» هو صاحب الجود والبذل، وكذلك يُقال لمن كانت صفاته حميدة كريماً. أمّا «اللئيم» فيقابله في كلا المعنيين، والمعنى الثاني هو المناسب في هذه العبارة.

55 ـ الْمَعْرُوفُ رِقٌّ.

يعني انّ قبول شخص إحسانَ شخص آخر يجعله بمنزلة عبده ورقّه، والخلاص من هذه الذلّة هو في مكافأته بالإحسان إليه بما يليق بإحسانه، وقد قال(عليه السلام):

56 ـ الْمُكافَأَةُ عِتْقٌ.

أي مكافأة الإحسان بمثله بمثابة العِتق.

57 ـ الْصَّبْرُ مِلاكٌ.

أي انّ أساس ثواب كثير قائم على الصبر، وبالصبر يمكن امتلاك ذلك الثواب.

58 ـ الْجَزَعُ هَلاكٌ.

يعني انّ الجزع يتسبب في ضياع الأجر والثواب، أو في هلاك صاحبه باعتبار الوِزر والعصيان مضافاً إلى ذلك الحرمان من الأجر والثواب.

59 ـ الْتَّوَدّدُ يُمْنٌ.

التودّد للناس يُمن وبركة. وجاء في بعض النسخ «التُّؤدة يُمن»، أي انّ التأنّي يُمن وبركة، والتأنّي هو عدم العجلة في الأُمور، والتأمّل والتفكّر فيها.

60 ـ الأَناةُ حُسْنٌ.

أي انّ الأناة حسنة وجميلة بحيث كأنّها عين الحُسن.

61 ـ الْسَخاءُ خُلْقٌ.

السخاء خُلق جميل. وقد يكون المراد انّ السخاء هو ما صار مَلَكه عند صاحبه وترسّخ لديه.

62 ـ الْعُجُبُ حُمْقٌ.

يعني انّ العُجب ـ وهو الكبر والزهو ـ ناشيء من الحُمق والبلاهة.

63 ـ الْسَّفَهُ خُرْقٌ.

السفاهة بمعنى قلّة الحلم، ونقيض الحلم والجهل. ويمكن أن تكون هنا أحد هذه المعاني الثلاثة، لأنّ كلا منها نوع من البلاهة والخُرق.

64 ـ الْعِلْمُ كَنْزٌ.

65 ـ الْعِبادَةُ فَوْزٌ.

66 ـ الْقَناعَةُ عِزٌّ.

أي انّ القناعة عزّ للنفس وعدم إذلالها بالسؤال والطلب.

67 ـ الدِّينُ حُبُورٌ.

يعني انّ الدين والتديّن سبب للفرح والحُبور.

68 ـ الْيَقِينُ نُورٌ.

69 ـ الإِيمانُ أَمانٌ.

يعني انّ الإيمان سببٌ للأمان.

70 ـ الْكُفْرُ خِذْلانٌ.

71 ـ الْرِّضا غَناءٌ(5) وَالسُّخْطُ عَناءٌ.

الرضا بعطاء الحقّ غَناء واكتفاء; لأنّه يُغني صاحبه عن السؤال والطلب من الآخرين، فهو كالغِنى. والسُّخط وعدم الرضا بعطاء الحقّ تعب وعَناء، ولا ثمرة له غير ذلك.

72 ـ التَّوَكُلُ كِفايَةٌ.

التوكّل على الله ـ وهو إيكال الأمر إليه في كلّ شيء ـ كفاية، وقد قال الحقّ تعالى: (وَمَنْ يَـتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(6) يعني انّ كلّ من يتوكّل على الله فإنّه يكفيه.

73 ـ التَّوْفِيقُ عِنايَةٌ.

انّ توفيق الله تعالى شخصاً ما لعمل من أعمال الخير هو ان يُهيّىء له أسباب ذلك العمل. والمراد انّ هذا المعنى إذا صحّ لشخص ما فإنّه عنايةٌ من الله لذلك الشخص وتفضّل منه عليه، وعليه إذاً أن يغتنم تلك العناية ولا يقصّر فيها ولا يؤخّر اغتنامها.

ويمكن أن يكون المراد بـ «التوفيق» في هذه العبارة غير توفيق الله تعالى، بل مطلق تهيئة الأسباب، وأن يكون المراد بـ «عناية» غير عناية الله عز وجل ، بل مطلق العناية، كما هو المعنى اللغوي للكلمة، فيكون المعنى: انّ تهيئة أسباب كلّ أمر عنايةٌ بذلك الأمر، أي انّ الغالب هو انّ من اهتمّ بأمر أوشك أن يدُركه، وقد اشتهر أنّه «مَن طلب وجَدَّ وَجَدَ».

فيكون الغرض من هذا الكلام هو انّ مَن أراد حصول أمر فعليه أن يهتمّ به.

74 ـ الإِخْلاصُ غايَةٌ.

يعني انّ الإخلاص هو غاية الطاعات والعبادات، وانّ الغرض منها يجب ان يكون الإخلاص لله ومحض التقرّب له عز وجل ، وان لا يُشرك مع الله سواه. ويمكن أن لا تكون الغاية بمعنى الغرض والعلّة الغائيّة، بل بمعنى المنتهى. أي انّ منتهى الفضل والكمال هو الإخلاص لله تعالى.

75 ـ الْخَوْفُ أَمانٌ.

أي انّ الخوف من الله تبارك وتعالى أمان من عذاب يوم القيامة وعقابه; لأنّ من يخاف الله سبحانه كما ينبغي لا يفعل ما يجعله يستحقّ سخطه وغضبه، ولذلك فهو في أمان في يوم الجزاء.

ولو قيل: بناءً على هذا، فإنّ المعصومين الّذين لا يذنبون يجب أن لا يخافوا في الدنيا من الله عز وجل ، مع انّ الخوف والرجاء واجبان على كلّ أحد على السواء.

نُجيب: بانّ من جملة الواجبات الخوف من الله تعالى، فمن لم يخف الله عز وجل كان عاصياً، فكيف يكون معصوماً إذا لم يكن خائفاً منه تعالى.

ولو قال أحد: لمّا كان المعصوم لا يُذنب، فلا وجه معقول لخوفه، فلماذا أوجب الله تعالى الخوف عليه أيضاً؟

نُجيب: انّ كلّ فرد ـ ولو لم يُذنب ـ لا يمكنه تحقيق شرائط العبودية الإلهية كما ينبغي وشُكر نِعمه جلّت آلاؤه كما ينبغي إلاّ إذا عَلِم أنّه مقصّر في تلك الساحة ـ ولو لم يُذنب ـ وكان خائفاً على الدوام. ومع وجود ذلك الاعتراف بالتقصير والخوف، فانّ الحقّ تعالى سوف لن يُجيز مؤاخذته ومحاسبته، أمّا تفضّلا منه أو على سبيل الاستحقاق. فمن لم يعترف بالتقصير ولم يكن خائفاً لم يأمن العقاب والمؤاخذة ولو لم يصدر منه عصيان. كما انّ في عدّ الطاعات والعبادات شيئاً في محضر الله سبحانه بحيث يأمن الفرد بذلك الاعتبار كمال العجب، فذلك أمر مذموم، ولهذا فإنّ الحقّ تعالى نهى عنه. فمن كان فيه هذا المعنى عُدّ قُبحاً ولو لم يُذنب ذنباً آخر.

فالخوف من الحقّ تعالى لازم إذاً على كلّ شخص، وهو أمر واجب ـ بهذا الاعتبار ـ على كلّ أحد، حتّى على المعصومين.

76 ـ الْوِجْدانُ سُلْوانٌ.

إدراك المقصود والوصول إليه باعث على السلوان والنسيان. يعني انّ السلوان يحصل بعد حصول المطلوب، وانّ التعب والمشقة في تحصيل ذلك المطلوب ستنسى، فيجب ألاّ تكون المشقة والتعب في سبيل الوصول إلى المقاصد المهمّة مانعةً من تحصيل تلك المقاصد.

77 ـ الفَقْدُ أَحْزانٌ.

عدم الوصول إلى المقصود سببٌ للحزن والغم بعد أن ذكر(عليه السلام) انّ المشقة والتعب في السعي للمطلوب أمر سهل، وانّ المشقّة والتعب تنسى بعد بلوغ المطلوب، ذكر انّ عدم الوصول إلى المقصود سيكون حينذاك سبباً للأحزان والغموم، مثل المقاصد الأخروية الّتي أهمل الإنسان في تحصيلها في الدنيا، والّتي سيتحسّر ويندم بلا حدّ بسببها في تلك النشأة. وهكذا في المطالب الضرورية الدنيوية كلّما أُهملت بحيث لا يمكن تداركها.

وبطبيعة الحال يجب في مثال هذه الأُمور تحمّل مشقة تحصيلها ـ وهي مشقة سرعان ما تُنسى ـ من أجل أن يأمن المرء من تلك الأحزان الّتي لا حدّ لها.

وجاء في بعض النسخ لفظ «الفقر» بالراء بدلا من «الفقد»، ومعناه انّ الفقر سبب للأحزان، فيكون غير مرتبط بالفقرة السابقة، وهذا ممّا لا قصور فيه، لأنّ من غير المعلوم انّ الإمام صلوات الله عليه ذكر هاتين الفقرتين معاً ليتوجّب رعاية الارتباط بينهما، بل قد يكون قد ذكر كلّ فقرة على حدة في مقام معيّن، ثمّ انّ مؤلّف هذا الكتاب ـ كتاب غرر الحكم ـ الّذي جمع كلمات الإمام المتفرّقة أورد هاتين الفقرتين معاً. ويظهر أيضاً ممّا قلنا انّه إذا تكرّر ذكر مضمون معيّن فباعتبار انّ الإمام(عليه السلام) ذكر كلّ عبارة في مقام معيّن يناسبها، بحيث لا تكرار في الأمر، ثمّ بعد جمع الأقوال في كتاب واحد حدث التكرار.

ويمكن أن يكون المراد بـ «الوجدان» في الفقرة السابقة وجدان المال، والمراد بـ «سُلوان» الدواء الّذي يذهب بالحزن والغمّ، الّذي يدعوه الأطبّاء بـ «المفرّح». وبناءً على ذلك تكون الفقرات ـ بناءً على النسخة الواردة بالراء ـ مرتبطة ببعضها، بل يمكن بناءً على النسخة الواردة بالدال أيضاً أن يكون حمل الكلام على هذا المعنى، بانّ المراد بـ «الفقد» ـ فقد المال ـ نهاية المعنى الأوّل أمتن وأجزل، والله تعالى يعلم.

78 ـ الدِّينُ رِقٌّ، الْقَضاءُ عِتْقٌ .

الدّين عبودية ورقّ، وقضاؤه تحرّر وعِتق، وذلك انّ المدين بمثابة عبد خاضع لصاحب المال، وأسيرٌ لرعايته. وبعد أداء دَينه يتحرر من قيد العبودية ويصبح مطلق العنان حرّاً مطمئنّاً.

79 ـ الْصِّدْقُ فَضِيلَةٌ، الْكِذْبُ رَذيلَةٌ.

الصدق صفة تبعث على زيادة مرتبة صاحبها، والكذب خصلة تسبّب نقص حال صاحبها وضَعته. والمشهور انّ الصدق هو قول ما يطابق الواقع، والكذب قول ما يخالف الواقع. وقد اعتبر البعض فيهما المطابقة وعدم المطابقة مع الاعتقاد، فما وافق اعتقاد القائل كان صدقاً ولو كان مخالفاً للواقع، وما خالف اعتقاد قائله كان كذباً ولو وافق الواقع. واعتبر البعض الآخر في الصدق المطابقة مع الواقع ومع الاعتقاد كليهما، واعتبروا في الكذب مخالفته للواقع والاعتقاد كليهما. وبناءً على هذا القول تكون هناك واسطة بين الصدق والكذب، فما وافق الواقع ولم يطابق الاعتقاد، وما لم يوافق الواقع وكان مطابقاً للاعتقاد فإنّه لن يكون صدقاً ولا كذباً.

والقول المشهور أظهر كما بُيّن في موضعه. وعلى كلّ حال فانّ كلّ قول لا يطابق اعتقاد قائله يمكن أن يكون سبباً في ذمّه حتّى لو وافق الواقع ولم يكن بحسب اللغة كذباً، وكل ما وافق اعتقاد قائله لم يكن سبباً في ذمّ قائله ولو خالف الواقع، بل إذا ذُمّ فباعتبار اعتقاده المخالف للواقع.

80 ـ الْمَعْرُوُفُ حَسَبٌ.

«المعروف» هو ما يُطلق على كلّ صفة حميدة وعمل ممدوح، ويُطلق أيضاً على خصوص الصِّلة والإحسان. و الحَسَب أمرٌ هو رأسمال شرف وافتخار صاحب المعروف. والظاهر انّ المعروف في هذه العبارة بالمعنى الأوّل، والمراد هو انّ الأمر الّذي يكون سبباً للشرف والافتخار هو الصفات الرضيّة والأعمال المرضيّة لا سائر الاعتبارات الأُخرى مثل المال والجاه وعظمة الآباء والأجداد.

ويمكن أن يكون المعنى الثاني هو المراد، فيكون القصد هو انّ الحسب الحقيقي هو هذه الصلة والإحسان، حيث ذكر بعض اللغويّين انّ الحَسَب بمعنى الكرم.

81 ـ الْمَوَدَّةُ نَسَبٌ.

أي انّ المودّة من أقسام النسب وأنواعه، بل هو في النظر الّذي يتحرّى الحقيقة أهم أفراده، وفي المشهور انّ «القريب مَن تقرّب لا مَن تنسّب». وبناءً على ذلك فإنّ صلة أرحام المودّة ستكون لازمة كما انّ صلة أرحام النسب لازمة.

82 ـ الصَّمْتُ وَقارٌ، الْهَذَرُ عَارٌ.

83 ـ الْعُسْر لؤمٌ.

يعني انّ العُسر سبب للؤم، وهكذا صار بين الناس. فمن كان في يُسر وغنى فلا يجعل نفسه فقيراً معسراً بالاسراف والاتلاف، فيكون مورد لوم أبناء عصره، ولئلاّ يجلب لنفسه ذلاّ، ولا يسبب لها وزراً ولا وبالا.

84 ـ اللِّجاجُ شُؤْمٌ.

يعني انّ اللجاج والخصومة مع الناس شؤم.

85 ـ الْفِكْرُ رُشْدٌ، الْغَفْلَةُ فَقْدٌ.

التفكّر والتأمّل في الأُمور سبب في العثور على طريق الحق، والغفلة وعدم التأمّل باعث على فقد الحقّ وعدم العثور عليه.

86 ـ الْوَرَعُ اجْتِنابٌ.

أي انّ الورع هو اجتناب المناهي أو المشتهيات والابتعاد عنها.

87 ـ الْشَّكُ ارْتِيابٌ.

الشكّ هو اضطراب النفس وابتعاد الطمأنينة عنها. يعني انّ الشخص إذا شكّ في أيّ عمل كان قلقاً ومضطرباً في شأنه وفاقداً للطمأنينة والاستقرار، فينبغي السعي في تحصيل العلم في كلّ باب بقدر المستطاع. ويظهر من هذا انّ الشخص لو شكّ في حليّة أو حرمة شيء ما ـ مثلا ـ فالأولى أن يترك ذلك الشيء; لأنّه سيكون حال تركه في اطمئنان واستقرار لأنّه ليس متيقّناً بعّدم المفسدة، خلافاً لفعله ذلك الشيء، حيث سيكون مضطرباً مشوّشاً حذراً من أن يكون قد ارتكب محرماً، أمّا إذا شكّ في وجوب أمر أو عدم وجوبه، فالأفضل أن يفعل ذلك الشيء، لأنّه في فعله له سيحصل على يقين ببراءة ذمّته فيكون مطمئناً فارغ البال، خلافاً لحال تركه له، باعتبار شكّه في براءة ذمّته، ممّا يبعثه على الاضطراب وتشويش الخاطر خوفاً من تركه لأمر واجب.

وهكذا الأمر في تدبير الأُمور الدنيوية أيضاً، كلّما شكّ في أمر ودار شكّه بين عدّة احتمالات يعلم بعدم مفسدة بعضها ويشكّ في البعض الآخر ويحتمل وجود مفسدة فيها، فعليه اختيار الجانب الّذي يعلم بعدم وجود مفسدة فيه اجتناباً لتشويش الخاطر وتوزّع الفكر.

وصريحٌ في هذا المعنى ما روي عن الإمام الهمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه، قال: سمعتُ جدّي رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «دَعْ ما يُريبك إلى ما لا يُريبك، فإنّ الشكّ ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة»(7).

و «الصدق» في الحديث بمعنى العلم بالصدق والصحّة، ولا يخفى انّ الشكّ يستعمل أحياناً في ما يتساوى به الطرفان، فإن رجح أحد الطرفين لم يُدعى شكّاً، بل يدعى الطرف الراجح «ظنّاً» والطرف المرجوح «وهماً».

ويستعمل الشكّ أحياناً مقابل الجزم مطلقاً، فيدعى الظنّ حينذاك شكّاً أيضاً. ولا يستبعد أن يكون «الشكّ» في كلام أميرالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وفي الحديث الشريف المذكور أيضاً بالمعنى الأخير، لأنّ القلق والاضطراب يحصلان أيضاً بالظنّ ولو بدرجة أقلّ ممّا في حالة تساوي الطرفين.

88 ـ الْطّاعَةُ تُنْجِي، الْمَعْصِيَّةُ تُرْدِي.

89 ـ الْجُبْنُ آفَةٌ، الْعَجْزُ سَخافَةٌ.

90 ـ الْمُصِيبُ واجِدٌ، الْمُخطىء فاقِدٌ.

كل من فتّش عن سبيل الصواب في مطلب ما وجده، ومُخطىء الطريق لايصل إلى مقصوده، فالعمدة في تحصيل كلّ مقصود هي العثور على طريقه.

91 ـ الْصِّدْقُ نَجاحٌ، الْكِذْبُ فَضَّاحٌ.

الصدق ظفر وفوز في الدنيا والعقبى، والكذب فضّاح في الدارين.

92 ـ الْعِلْمُ عِزٌّ، الْطّاعَةُ حِرْزٌ.

العِلم والمعرفة عزّ وغلبة، وطاعة الله سبحانه حِرز وحصن من مهالك الدنيا وشدائد الآخرة.

93 ـ الْصَّبْرُ مَرْفَعَةٌ، الْجَزَعُ مَنْقَصَةٌ.

94 ـ الْشَّجاعَةُ زَيْنٌ، الْجُبْنُ شَيْنٌ.

95 ـ الإِصابَةُ سَلامَةٌ، الْخَطاءُ مَلامَةٌ، الْعَجَلُ نَدامَةٌ.

لا يخفى انّ الفقرة الأخيرة خاصّة بالأُمور الدنيوية، لأنّ التعجيل والاسراع في الأُمور الدنيوية بدون تأمّل في المصالح والمفاسد وبدون التفكّر في مآلها وعواقبها يصبح في أكثر الأوقات سبباً للندم. أمّا في أُمور الآخرة فالتعجيل بها والمسارعة إليها مندوب ومرغوب بحكم الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ووجه ذلك ظاهر، إذ لا احتمال للمفسدة في التعجيل بها، أمّا التأخير فيها ففيه آفات، وما أكثر ما تفوت تلك الأُمور إذا أُخّرت ولا تتيسّر ثانية.

96 ـ الْرِزْقُ مَقْسُومٌ، الْحَرِيصُ مَحْرُومٌ.

من الواضح لمتتبّع الروايات ومتصفّح الأحاديث انّ الأحاديث الواردة في هذا الباب متعارضة ومتناقضة بحسب الظاهر. فكثير منها يدلّ ـ على وفق هذا الكلام المعجز ـ على انّ السعي في طلب الرزق لغوٌ وعبثٌ، بينما يدلّ كثير آخر على حُسن السعي، بل على ضرورته. وقد ورد في بعض الأحاديث انّ مِن بين مَن لا يُستجاب دعاؤهم مَن يجلس في بيته ويقول: «اللّهمّ ارزقني» دون أن يطلب الرزق.

ووجه الجمع بين هذه الأحاديث ـ كما هو الظاهر من التأمّل فيها ـ انّ الحقّ تعالى قسّم الأرزاق بين عباده، لكنّه جعل له مراتباً، فمنه مُقدّر يصل إلى المرء سواءً طلبه أم لم يطلبه، حيث ورد في بعض الأحاديث انّ الرزق يصل إلى الإنسان مهما فرّ الإنسان منه، ومن الرزق ما قُدّر مشروطاً بالسعي والطلب، فإن سعى له المرء وطلبه حقّ السعي والطلب ناله، وإن لم يفعل لم ينل منه. وقد جعل لهذا السعي أيضاً مرتبةً إذا تجاوزها الإنسان في سعيه وطلبه كان ذلك لغواً منه وعبثاً ولم يحصل على شيء من سعيه. وبناءً على هذا فإنّ ما ورد من انّ الرزق مقسوم يصل إلى المرء هو القدر الأوّل من الرزق، وما ورد من وجوب السعي والطلب فهو للقدر الثاني. وما ورد من عدم فائدة السعي فهو للقدر الثالث الّذي لو زاد المرء في سعيه ألف مرّة لما أثمر سعيه شيئاً.

ولا يخفى انّ قول الإمام صلوات الله وسلامه عليه انّ «الحريص محروم» يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى; لأنّ ظاهره انّ الحرص والسعي الزائد لافائدة منهما، وليس انّ السعي لا فائدة له أصلا. ولو كان كذلك فاظاهر انّه(عليه السلام)كان سيقول بانّ الساعي محروم.

واعلم انّ العلماء رضوان الله تعالى عليهم جعلوا للسعي درجات، وأوجبوا قدراً منها وهو بقدر تحصيل مؤنة النفس والعيال ممّن تجب عليه نفقتهم، وما زاد على ذلك فهو مستحبّ، وهو ما يصرفه في مصارف الخير، كالتوسعة على العيال وإطعام الصادرين والواردين وإعانة الفقراء والمساكين وسائر سُبل الخيرات والمبرّات. أمّا سوى هذين القسمين فهو مباح في نظر العلماء إلاّ إذا طرأت جهة رجحان خارجية لفعله أو شركه.

وبناءً على ذلك فالظاهر انّ القدر الأوّل المذكور يصل لكلّ شخص دون أن يحتاج إلى سعي، وهو بقدر القوت الضروري للحياة، وليس بقدر الانفاق الواجب شرعاً; لأنّه لو كان بقدر الضرورة لما كان هناك وجه للقول بوجوب السعي في طلبه.

97 ـ الْبَخِيلُ مَذْمُومٌ، الْحَسُودُ مَغْمُومٌ.

98 ـ الْظَّالِمُ مَلُومٌ.

99 ـ الْجَفاءُ شَيْنٌ، الْمَعْصِيَةُ حَيْنٌ.

مخالفة الآداب في كلّ باب عيب وشين، والمعصية سبب للهلاك والمحنة.

100 ـ الْحَازِمُ يَقْظانٌ، الْغَافِلُ وَسْنانٌ.

 

الهوامش:

(1) ويقال له أحياناً مجازاً حرف الألف، وإلاّ فإنّ الألف حقيقة، في ذلك الحرف المعلوم الساكن، مثل الحرف الثاني من الباء، والتاء والثاء... والحرف الساكن لا يقع في كلام العرب في البداية، بل المشهور أن الابتداء بساكن محال، فما يقع في أوّل الكلام من هذا الجنس هو الهمزة، مثل الحرف الأوّل من «أب» و «أخ»، غاية الأمر أنّهم يدعونه مجازاً ألفاً، ومن جملة ذلك قوله (عليه السلام): الدنيا تسلم.

(2) إبراهيم: 7.

(3) مختلف الشيعة 4: 246، جواهر الكلام 12: 219.

(4) وسائل الشيعة 4: 40.

(5) كذا بخطه صريحاً (بالفتح والمدّ).

(6) الطلاق: 3.

(7) الانتصار: 263، تذكرة الفقهاء 12: 154.