1101 ـ الْمَلَلُ يُفْسِدُ الأُخُوَّةَ .

الملل يُفسد الأخوة، أي أنّ على الإنسان أن لا يسبب الملل والضجر لأخيه في النسب أو لأخيه وصديقه المعنوي، لأنّ الملل والضجر يُفسد الأخوة، فيجب عدم فعل شيء ـ اعتماداً على أخوّة شخص ما ـ يسبب ملله وضجره. وورد في بعض النسخ لفظ «الملك» فيكون المعنى أنّ الملك والسلطنة تُفسد الأخوّة، أي أنّ المَلِك لا يراعي حقوق الأخوّة والصداقة، بل ينسى ذلك كلّه عند أدنى تقصير ويغضب على الشخص المقصّر، فيجب على الإنسان عدم الاعتماد على مرتبة أخوّته وصداقته للملك بحيث أنّه يتساهل في خدمته أو يقصّر فيها.

وقد يكون المراد أنّ على الإنسان في أمر الملك والسلطنة أن لا يراعي أمر الأخوّة والصداقة، فلا يمكن الاعتماد على ذلك في حفظ الملك والمملكة وحراستهما، وإنّ الملك إذا ما كان أخاً أو صديقاً لملك آخر فإنّ عليه ـ مع ذلك ـ الحذر منه وحراسة مملكته وعدم الركون إلى صداقة ذلك الملك وأخوّته، وعليه أن لا يأمن جانبه.

1102 ـ الْعُزْلَةُ حُسْنُ التَّقْوى .

العُزلة حُسن التقوى، أي أنّ على المتّقي أن يكون له حسن الاعتزال عن المحرّمات والاعتزال عن الناس وعدم الاختلاط الزائد بهم.

ويمكن أن يكون المراد هو أنّ العزلة هي حُسن التقوى، أي أنّها سبب في زيادة حُسن التقوى، فيجب ـ بناءً على ذلك ـ أن يُحمل على العُزلة عن أصحاب السوء وعن الناس الّذين يظنّ أنّ الاختلاط بهم سيُوجد خللاً فى تقواه، وليس العزلة عن جميع الناس، لأنّ تلك العزلة ليست حسنة بل مذمومة، وقد مرّ بيان ذلك.

وورد في بعض النسخ لفظ «حصن» بالصاد، فيكون المعنى أنّ العزلة هي حصن التقوى وقلعته الّتي تصونها من أن تلحقها آفة، ويجب ـ بناءً على ذلك ـ حملها على العزلة عن بعض الناس.

1103 ـ الْدُّنْيا غَنِيمَةُ الْحَمْقى .

الدنيا غنيمة الحمقى، أي أنّ الحمقى هم الّذين يعدّوها غنيمة ويعتبرونها منفعة عظيمة، أمّا مَن له بصيرة فهي في نظره ذليلة سهلة، اللّهمّ إلاّ أن تكون وسيلة لتحصيل السعادة الأخرويّة، حيث يمكن ـ بذلك الاعتبار ـ عدّها غنيمة. منتهى الأمر أنّ الدنيا في تلك الحال لا تعدّ غنيمة في الحقيقة، بل الغنيمة هي الآخرة الّتي تحصل بإنفاق الدنيا والإعراض عنها.

1104 ـ الْحَلِيمُ مَنِ احْتَمَلَ إِخْوانَهُ .

الحليم من احتمل إخوانه، أي من احتمل تصرّفاتهم السيّئة ولم يكن في صدد الانتقام والردّ عليهم، أو من احتمل مؤنة البؤساء والمضطرّين من إخوانه.

1105 ـ الْكاظِمُ مَنْ أَماتَ أَضْغانَهُ .

الكاظم للغيظ هو من أمات وأزال أحقاده، أي أنّ كظم الغيظ عند الغضب على شخص وعدم الانتقام منه لا يكفي، بل يجب أن لا يكون في باطنه غضب وحقد عليه وأن يكون باطنه صافياً من الغش والحقد عليه، بحيث إذا أصاب ذلك الشخص ضرر لم يُفرحه ذلك، وبحيث أن لا يترك الإحسان الّذي كان يفعله إليه وإلى أمثاله. والمراد هو أنّ الفرد الكامل لكاظم الغيظ هو على هذه الشاكلة وليس مجرّد مَن لا ينتقم، لأنّ ذلك في الأساس لا فضيلة له.

1106 ـ الْعاقِلُ مَنْ أَحْرَزَ أَمْرَهُ .

العاقل من أحرز أمره وأحكمه، أي مَن أحرز جميع مهمّاته الأُخرويّة والدنيويّة.

1107 ـ الْجاهِلُ مَنْ جَهِلَ قَدْرَهُ .

الجاهل من جهل قدره وفعل أفعالاً تسبّب ذلّته وهوانه، أو مَن يضع نفسه في مرتبة لا يستحقّها.

1108 ـ الْصِّدْقُ صَلاحُ كُلِّ شَيء .

الصدق صلاح كلّ شيء، فمن يلتزم الصدق في كلّ باب فإنّ الصلاح سيكون قرينه في عمله.

1109 ـ الْكِذْبُ فَسادُ كُلِّ شَيْء .

الكذب فساد كلّ شيء، وليس هناك عمل يصلح بالكذب. ولا يخفى أنّ ذلك يجب تخصيصه بالكذب المحرّم شرعاً، لأنّ الكذب المباح شرعاً هو الّذي يتضمّن صلاحاً، وإلاّ كانت إباحته وتجويزه قبيحة، أمّا الكذب الّذي أُبيح في الشرع فهو الكذب للإصلاح بين الناس، حيث روي عن الإمام بالحقّ والناطق بالصدق: الإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنّ رجلاً سأله عن الاصلاح بين الناس، فقال(عليه السلام): تسمع من الرجل كلاماً تبلّغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعتُ من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعتَه منه.

وحاصل الكلام: أنّ أحداً إذا حمّلك كلاماً إلى شخص، وكان ذلك الكلام يُغيظه ويؤذيه، فأدّيتَ خلاف ما حُمّلت من أجل الاصلاح بينهما، وزعمت له أنّه ذكره بخير.

وورد في بعض النسخ لفظ «يسمع» بالياء بدلاً من «تسمع»، فيكون لفظ «تبلّغه» بالياء، أي «يبلغه» من باب «ينصر»، فيكون معنى الكلام أنّ الرجل إذا سمع من رجل كلاماً يبلغ شخصاً آخر فتخبث نفسه ويتأذّى، فإنّه يقول لذلك الشخص: سمعتُ من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعتَه منه، وذلك من أجل إصلاح ما بينهما، أي يَقول له أنّه سمع من صاحبه خلاف ما نُقل له عنه، فإذا نُقل له أنّه خطّأه فإنّه يَقول له بأنّه امتدحه.

وقد روي أيضاً أنّ الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه قال بأنّ المُصلح ليس كذّاباً. ولفظ «كذّاب» ـ وهو صيغة مبالغة ـ فيه إشارة ظاهراً بأنّ الشخص إذا كذب كثيراً من أجل الإصلاح فإنّه مع ذلك لا يعدّ كذّاباً.

وروي عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أنّه قال: قال رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا كذب على مصلح; ثمّ تلا (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـرِقُونَ)(1)فقال: والله ما سرقوا وما كذب. ثمّ تلا (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هَـذَا فَسْــَلُوهُمْ إِنْ كَانُواْ يَنطِقُونَ)(2) ثمّ قال: والله ما فعلوه وما كذب.

وتوضيح هذا الحديث الشريف أنّه جرى الاستشهاد على أنّ المصلح لا كذب عليه بآيتين كريمتين إحداهما وردت في حكاية النبي يوسف(عليه السلام)، والأُخرى وردت في حكاية النبي إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. والاستشهاد بالآية الأُولى باعتبار أنّ منادي يوسف(عليه السلام) جاء بأمر يوسف إلى قافلة إخوته فنادى (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـرِقُونَ)(3) مع أنّهم لم يسرقوا، ولم يكن المنادي كاذباً، ووجه ذلك أنّه كان من أجل الإصلاح، ولمّا كان بقصد الاصلاح فإنّه ليس كذباً. ومجمل الحكاية هو أنّ يوسف(عليه السلام) رأى أنّ من الصلاح أن يأخذ أخاه بنيامين من إخوته الآخرين فيبقيه عنده، ولم يكن بإمكانه ذلك إلاّ بأن يُقيم عليهم حجّة لا يمكنهم مخالفتها، فرأى أنّ الحلّ هو أن يُخفي شيئاً في وعاء أخيه بنيامين ثمّ يُظهر أنّ بنيامين قد سرق; وكان في شريعة آل يعقوب(عليه السلام) أنّ من يسرق يُسترقّ سنة كاملة لدى المسروق، فأراد إلزامهم بشريعتهم وأخذ بنيامين منهم حيث كان ينبغي شرعاً أن يُسترقّ سنة كاملة، وهكذا فعل يوسف(عليه السلام) وأخفي قدح الملك في وعاء بنيامين ومتاعه، وكان القدح بقدر صاع واحد، وكان يُستخدم في الكيل. وقال البعض انّ الصواع كان من قبيل سطل تُسقى به الماشية وكان بقدر صاع، وكان من الذهب أو من الفضّة حسب اختلاف المفسّرين.

وروي في تفسير العيّاشي عن الإمام محمد الباقر صلوات الله وسلامه عليه قال: صواع الملك طاس الّذي يشرب فيه، وعن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه قال: كان قدحاً من ذهب. وقال: كان صواع يوسف إذ كيل به.

ثم جاء المنادي فنادى في القافلة (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـرِقُونَ* قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنـَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّاجِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاَْرْضِ وَمَاكُنَّا سَـرِقِينَ * قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَـذِبِينَ * قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ)(4) أي أن يُسترقّ ذلك الشخص كما في شريعة آل يعقوب(عليه السلام)، فابتدأ ذلك المنادي ـ وقال البعض بأنّ ذلك جرى بعد إعادتهم إلى يوسف(عليه السلام) وأنّه بدأ بنفسه ـ بتفتيش رحال إخوته غير بنيامين لئلاّ يتّهمونه، ثمّ أنّه استخرج الصواع من رحال بنيامين واستبقاه ـ إلى آخر الحكاية.

ولا يخفى أنّ ظاهر هذا الحديث الشريف هو أنّ الكذب يكون جائزاً إذا كان لمصلحة. وقد ذكر العلماء في توجيه ذلك وجوهاً أخرى:

الأوّل: أنّ النداء لم يكن بأمر يوسف(عليه السلام)، بل أنّهم نادوا لمّا علموا بفقدان الصواع فظنّوا أنّ إخوة يوسف سرقوه ونادى المنادي بذلك النداء، وإنّ مَن يتأمّل الآيات الكريمة يعلم أنّ هذا الوجه غير مُستبعد.

الثاني: أنّ ذلك كان تورية، ولم يكن المراد أنّكم سرقتم الصواع بل أنّكم سرقتم يوسف، وقد روي ذلك عن الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليهما، وإذا كان للكلام معنى صحيحاً لم يكن كذباً ولو فهم منه الآخرون معنى الكذب.

الثالث: أنّ الكلام لم يكن خبراً، بل كان على سبيل الاستفسار والاستفهام، أي: هل أنتم سارقون؟ وبناءً على ذلك فلا صدق فيه ولا كذب. ويؤيّد ذلك أنّ في مصحف ابن مسعود لفظ «أئنّكم» بهمزة الاستفهام، كما أنّ ظاهر قولهم «تفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير» إشعار بأنّ الكلام السابق كان على سبيل الاستفسار وليس على سبيل الخبر.

ويمكن أن يكون عدم التصريح بالاستفهام هو أيضاً من أجل التورية، وأنّ الغرض منه هو أن يحملوه محمل الخبر فيرضون بتفتيش رحالهم; والله تعالى يعلم.

أمّا الآية الكريمة الثانية فإنّ الاستشهاد بها هو باعتبار أنّ إبراهيم على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام لمّا كسر الأصنام الّتي كان عمّه وقومه يعبدونها ولمّا علم قومه بتحطيم الأصنام صاروا يبحثون عمّن فعل ذلك بآلهتهم، فقالت جماعة بأنّهم سمعوا إبراهيم يذكر آلهتهم بسوء، فجاءوا به وسألوه: أأنت فعلتَ هذا بآلهتينا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرُهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون. أي أنّه أشار إلى صنمهم الكبير وقال: بل فعله هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون!

فتأمّلوا وفكرّوا فعلموا أنّهم ظالمون وضالّون، وعلموا أنّ مَن لا ينطق ولا يُخبرهم مَن فعل ذلك لا يمكن أن يكون إلهاً.

ومع ذلك فقد أصرّوا على المجادلة فقالوا: لقد علمتَ أنّ هؤلاء لا ينطقون، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ فأجابهم: أفتعبدون ما لا يملك لكم نفعاً ولا ضرّاً، أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله! ألا تشاهدون قُبح ما تعملون؟

ومع وجود جميع هذه المراتب، ومع ظهور فساد طريقتهم فإنّهم أصرّوا على كفرهم وقالوا: حرّقوه وانصروا آلهتكم! حتّى جعل الحقّ تعالى النار عليه برداً وسلاماً.

ومناط الاستشهاد بهذا الحديث الشريف قول إبراهيم(عليه السلام): «بل فعله كبيرهم» لأنّه لم يكن من فعله، بل لمّا كانت هناك مصلحة شرعية في هذا القول وكانت الحجّة تتمّ عليهم به لولا عنادهم وبهتانهم، فإنّ إبراهيم(عليه السلام) قال قوله هذا.

وقد ذكر العلماء وجوهاً أخرى في توجيه هذا القول:

الأوّل: أنّه كان على سبيل الإلزام وإجراء الكلام وفقاً لاعتقادهم، ولم يكن المراد أنّه فعل ذلك واقعاً ليكون كذباً، بل المراد أنّه بناءً على ما تعتقدون من أنّ هؤلاء آلهة لعلّ كبيرهم فعل هذا، فاسألوهم; وبناءً على ذلك فليس في هذا القول شائبة من كذب.

الثاني: أنّهم كانوا يعظّمون صنمهم الكبير ويوقّرونه كثيراً، وكان ذلك سبباً في مضاعفة غضب إبراهيم(عليه السلام) عليهم، فبعثه على أن يحطّم أصنامهم، فكان ذلك الصنم الكبير سبباً في تحطيم الأصنام، وبناءً على ذلك الاعتبار كان إسناد تحطيم الأصنام إليه; وإسناد الفعل بسبب أمر ما أمرٌ شائع ومعهود.

الثالث: أنّ ذلك كان على سبيل التورية، ويكون للكلام محمل صحيح غير ظاهره قد قصده إبراهيم(عليه السلام)، حيث لا يكون «كبيرهم» فاعلا لفعل «فعله»، بل فاعله محذوف، و «كبيرهم هذا» يكون ابتداءً لكلام جديد، ويكون المعنى:بل فَعَلَهُ مَن فعله، ثمّ قال: كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون.

ويوافق هذا ما نقل عمّن يقفون في القراءة على «فعله». أو أن يكون «كبيرهم» فاعلا لفعل «فعله»، ويكون «هذا» ابتداءً لكلام جديد، ولا يكون المراد بـ «كبيرهم» صنمهم الكبير، بل المراد إبراهيم(عليه السلام) باعتبار أنّ الإنسان أكبر منصنم. ويكون معنى كلامه: بل فعله كبيرهم، وعنى نفسه.

ويوافق هذا الاحتمال ما نُقل عن بعض القرّاء من أنّه كان يقف عند قوله «كبيرهم». ومعنى «هذا» إلى آخر الكلام هو: اسألوا هذا المعنى منهم إن كانوا ينطقون، أو أن يكون لفظ «هذا» جملة على حدة وتحتاج إلى تقدير، يعني «هذا هكذا»، أو «خذ هذا» أو «اعلم هذا»; أو أن تكون «هذا» جملة تامة ولا تحتاج إلى تقدير، بأنّ تكون «ها» حرف تنبيه و «ذا» اسم إشارة، أي تنبّهوا لهذا الأمر.

وعلى كلّ تقدير فإنّ جملة «فاسألوهم» هي جملة منفصلة قال بعدها: فاسألوهم إن كانوا ينطقون.

ويمكن أيضاً أن يكون «هذا» تتمّة للسابق وأن تكون إشارة منه لذاته المقدّسة، يعني: بل فعله كبيرهم ويعني نفسه.

ولا يخفى أنّه بناءً على احتمالات أن يكون المراد بـ «كبيرهم» نفس إبراهيم(عليه السلام) فإنّ لفظ «بل» الّذي يفيد الانصراف عن السابق والّذي معناه «ليس كذا بل كذا» سيحتاج إلى توجيه، لأنّه قد سُئل: أفعلتَ؟ وإذا كان مراد إبراهيم(عليه السلام)أنّه فعل فإنّه لم يحصل انصراف بل قد صدّق الكلام، فيكون لفظ «بل» الّذي هو صحيح بناءً على المعنى الظاهر غير موجّه بناءً على المعنى المراد. والظاهر أنّ جميع الألفاظ في التورية يجب أن تكون في مواضعها بناءً على المعنى المراد أيضاً. ويمكن توجيه ذلك بأنّ لفظ «بل» ليس إضراباً عن تأصيل نفسه، بل هو إضراب عن ترددهم واستفهامهم، أي أنا فعلته وليس ذلك محلاًّ للسؤال والشكّ.

أو أن يكون ذلك جاء على سبيل الاستهزاء والسخرية، كأن يسأل شخصٌ شخصاً: أفعلتَ هذا الأمر؟ فيجيب: بل فعله ابن أخت خالتي، يقصد نفسه على سبيل الاستهزاء.

ويمكن أن يكون المراد بـ «كبيرهم» الحقّ تعالى، ويكون المعنى: بل فعله كبير الآلهة وهو الحقّ تعالى، وتكون نسبته إلى الحقّ تعالى باعتبار أنّه حصل بأمره ووحيه، فيكون توجيه لفظ «بل» ظاهراً.

الرابع: أنّ جملة «بل فعله» متعلّقة بـ «ينطقون»، وتكون جملة «فاسألوهم» جملة اعتراضية، ويكون المعنى: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم! فلم يُنسب الفعل إلى كبيرهم في الواقع لكي يكون الكلام كذباً، بل على تقدير كونهم ينطقون، وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط أيضاً. ومعلوم أنّ الغرض هو مجرّد توبيخهم وتقريعهم في عبادة ما لا يقدر على الكلام والإخبار عن أحوال نفسه.

الخامس: أنّه اضراب عن كلامهم ونفي له على سبيل التعريض; والمراد هو أنّ من الظاهر أنّي فعلته ولم يفعله غيري; كما لو كتب خطّاط يُحسن الخطّ كتاباً واعتقد أنّ غيره لا يمكن كتابة مثلَه، ثمّ سُئل: أنت كتبتَ هذا؟ فقد يُجيب: بل كتبتَ أنت! أو كتبه فلان! - ممّن ليس شأنه كتابة مثل ذلك الكتاب - ومراده أنّ من الظاهر أنّه بخطّي وأنّ أحداً لا يمكنه كتابة مثله; والله تعالى يعلم.

وقد روي أيضاً عن حسن الصيقل قال: قلتُ لأبي عبدالله (الصادق)(عليه السلام): إنّا قد روينا عن أبي جعفر (الباقر)(عليه السلام) في قول يوسف(عليه السلام) (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـرِقُونَ)(5) فقال: واللهِ ما سرقوا وما كذب. وقال إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ هَـذَا فَسْــَلُوهُمْ إِنْ كَانُواْ يَنطِقُونَ)(6) فقال: واللهِ ما فعلوا وما كذب.

قال: فقال أبو عبدالله(عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟

قلت: ما عندنا فيها إلاّ التسليم.

قال: فقال: إنّ الله أحبّ اثنين وأبغض اثنين: أحبّ الخطر فيما بين الصفّين، وأحبّ الكذب في الإصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إنّ إبراهيم(عليه السلام) قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبيرُهُمْ) وهذا إرادة الإصلاح ودلالة على أنّهم لا يعقلون، وقال يوسف(عليه السلام) إرادة الإصلاح.

ومضمون هذا الحديث الشريف قريب أيضاً من مضمون الحديث الأوّل، ولا يحتاج ـ بعدما أوردنا من شرح للأوّل ـ إلى مزيد من البيان.

ولا يخفى أنّه يظهر من هذه الأحاديث أنّ الإصلاح الّذي جوّز الكذب لأجله لا يختصّ بإصلاح ذات البين ودفع العداوة بين شخصين أو عدّة أشخاص، بل يشمل أيضاً بعض المصالح الشرعيّة كما في كلام إبراهيم ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما، لكنّه لا يُعلم منها تحديد وتعيين نحو المصلحة الّتي يجوّز لأجلها، والأولى والأحوط اجتناب الكذب إلاّ في الموضع الّذي يُعلم جوازه فيه، كأن يهرب مظلوم من ظالم ويختفي في موضع، فيتعقّبه الظالم بقصد قتله أو إيذائه، فيسأل شخصاً عنه، فتكون الدلالة عليه محرّمة، وإنكار رؤيته ـ إذا ما اضطرّ لذلك ـ واجباً. نهاية الأمر أنّه إذا أمكنه التورية بحيث يكون لكلامه محمل صادق فالأحوط أن يقوم بالتورية. كأن يقوم من مكانه بعد مرور الرجل ويجلس في موضع آخر، فإذا جاء الظالم وسأله عنه قال: لم يأتِ شخصٌ مُذ جلستُ في مكاني هذا!

وإذا لم يمكنه التورية فإنّ الكذب حينذاك لن يكون به بأس، بل سيكون فاعله مثاباً ومأجوراً.

وكذلك إذا ما كان لدينا أمانة من شخص ما، ثمّ جاء غاصب وأراد غصبها، فإنّ إنكار وجودها واجب، والإقرار بها حرام. لكن إذا أمكن التورية كان من الأحوط التورية، وإلاّ جاز الكذب المحض. ولا خلاف بين المسلمين في هذه الصور في جواز الكذب; وظاهر الأحاديث المذكورة وغيرها هو أنّ الكذب لأجل الإصلاح بين المؤمنين لا بأس به ولا حاجة للتورية فيه، ولا يخلو القول بجواز الكذب من قوّة.

وجاء في بعض الأحاديث تجويز ثلاثة أنواع من الكذب، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه قال:

كلّ كذب مسؤولٌ عنه صاحبه يوماً إلاّ كذباً في ثلاثة: رجلٌ كائدٌ في حربه فهو موضوعٌ عنه; أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا; يريد بذلك الإصلاح ما بينهما; أو رجل أوعد أهله شيئاً فهو لا يريد أن يتمَّ لهم.

ولا يخفى أنّ أكثر عبارات الروايات المذكورة تدلّ على أنّ ما يُقال بقصد الإصلاح ليس كذباً; والرواية الأخيرة وبعض عبارات الروايات الّتي قبلها تدلّ على أنّ الكذب جائز; ووجه الجمع بينهما هو أنّ ما يدلّ على أنّه ليس كذباً محمول على أنّه ليس كذباً محرّماً كما في الحديثين الآخرين، أو على أنّه ليس ـ بحسب الشرع ـ داخلا في الكذب، ويكون إطلاق الكذب عليه في الحديثين الآخرين بناءً على معناه اللغوي، فلا منافاة بينهما، والله تعالى يعلم.

1110 ـ الْمَوْتُ يَأْتِي عَلى كُلِّ حَيٍّ .

الموت يأتي على كلّ حيّ; فعلى كلّ شخص أن يستعدّ له ولا يغفل عنه، وأن لايفرح أحد بموت آخر لأنّه سالكٌ سبيله.

1111 ـ الْصِّدْقُ يُنْجِيكَ وَإِنْ خِفْتَهُ .

1112 ـ الْكِذْبُ يُرْدِيكَ وَإِنْ أَمِنْتَهُ .

الكذب يُهلكك أو يُسقطك وإن أمنته; والظاهر ممّا مرّ في شرح الفقرة (1116) أنّ هاتين الفقرتين يجب حملهما على الغالب.

1113 ـ الْتَّزَهُّدُ يُؤَدِّي إِلَى الْزُّهْدِ .

التزهّد وتعويد النفس على ترك الدنيا يؤدّي إلى تركها، أي إلى ترك محرّماتها، وإذا لم يكن ذلك على سبيل الإخلاص فإنّه يؤدّي بصاحبه بالتدريج إلى تركها على سبيل الإخلاص.

1114 ـ الإعْتِبارُ يَقُودُ إِلَى الرُّشْدِ .

الاعتبار يقود إلى الرشد، أي إلى طريق الصواب.

1115 ـ الْسَّعادَةُ ما أَفْضَتْ إِلَى الْفَوْزِ .

السعادة هي ما يؤدّي إلى الفوز، أي الصفات والأعمال الّتي تفضي بصاحبها إلى الفوز بالثواب والقرب والمنزلة لدى ساحة الحقّ تعالى، وليس ما اشتهر من الحظّ والإقبال بحسب الدنيا. ووردت بعض النسخ بدون لفظ «ما» فيكون المعنى أنّ السعادة أفضت بالإنسان إلى الفوز، أي أنّ السعيد الّذي يطيع الحقّ تعالى وينقاد لأوامره في كلّ أمر قد فاز طبعاً في كلّ باب بما فيه خيره وصلاحه، أمّا ما هو سيّء له ومضرّ في الحقيقة فإنّه لا يصل إليه.

1116 ـ الْقَناعَةُ تُؤَدِّي إِلى الْعِزِّ .

القناعة تؤدّي إلى العزّ وتجعل صاحبها عزيزاً.

1117 ـ الْعالِمُ حَيٌّ وإنْ كانَ مَيِّتاً .

العالِم حيّ وإن كان ميّتاً، إمّا باعتبار أنّ العلم والمعرفة هما الغاية القصوى فى الحياة، فإذا حصل عليهما الإنسان فإنّه في الحقيقة حيّ على الدوام، وانّ الموت الظاهري الّذي هو مفارقة الروح للبدن أيّاماً قلائل لا منافاة له مع الحياة الحقيقيّة، مع أنّ نسبة مدّته إلى مدّة الحياة الخالدة الّتي سينالها العالِم لا قدر لها يُؤيه به. وإمّا باعتبار أنّ الحياة الظاهريّة ستقترن مع هذا البدن بعد مفارقتها له، أو بناءً على ما ورد في الأحاديث من أنّ روح المؤمن تتعلّق بعد موته ببدن شبيه ببدنه في الدنيا، بحيث أنّ مَن يراه ممّن يعرفه سيقول بأنّه فلان، وبحيث أنّه سيأكل ويشرب ويجالس الآخرين ويتحدّث معهم، وأنّ أرواح هؤلاء المؤمنين ستجتمع في شجرة من أشجار الجنة أو في حجراتها أو في وادي السلام ـ وهو في ظهر الكوفة، أي في النجف الأشرف وصحرائها ـ بناءً على الأحاديث المختلفة. ووجه الجمع بين هذه الأحاديث هو أنّ كلّ مؤمن يموت يذهب إلى وادي السلام، ثمّ أنّهم سيذهبون بأجمعهم أو ستذهب كلّ جماعة منهم إلى الجنة، أو أنّهم سيكونون هنا أحياناً وهناك أحياناً، مع أنّه قد ورد أنّ وادي السلام هو أيضاً ـ كما في بعض الأحاديث ـ بقعة من بقاع جنّة عدن، أي أنّهم سيدخلون تلك البقعة، أو سيدخلون جنّة عدن، والله يعلم.

وورد في بعض الأحاديث أنّ للحقّ تعالى جنّة في المغرب ينبع منها ماء الفرات، وأنّ أرواح المؤمنين تجتمع هناك كلّ مساء فتتناول من ثمارها وتتنعّم فيها وتلتقي مع بعضها وتتعارف، فإذا طلع الصبح خرجت منها فحلّقت في الهواء بين السماء والأرض تروح وتجيء وتلتقي في الهواء مع بعضها وتتعارف، فإذا طلعت الشمس عادت إلى قبورها.

وإمّا بناءً على ما يقوله الحكماء ومحقّقو المتكلّمين من أنّ النفس الآدميّة مجرّدة، وأنّها باقية بعد قطع تعلّقها بالبدن ولو تعلّقت ببدن آخر، وأنّها تبتهج وتسرّ بالعلوم والمعارف الّتي حصلت عليها.

1118 ـ الْجاهِلُ مَيِّتٌ وَإِنْ كانَ حَيّاً .

الجاهل ميّت وإن كان حيّاً، لأنّ الحياة الّتي لا يترتّب عليها فائدة وأثر ـ وهما العلم والمعرفة ـ هي بمنزلة العدم، فصاحب مثل هذه الحياة كأنّه ميّت إلى الأبد.

1119 ـ الْمَواعِظُ كَهْفٌ لِمَنْ وَعاها(7) .

المواعظ كهف وملجأ لمن وعاها وحفظها، أي لمن رعاها.

1120 ـ الأمانَةُ فَوْزٌ لِمَنْ رَعاها(8) .

الأمانة فوز لمن رعاها; أي انّ من حفظ أمانة شخص ما ورعى شروط حفظها إلى أن يؤدّيها إلى صاحبها فإنّ ذلك فوز له بالخير والثواب، لأنّ ذلك إحسان إلى صاحبها، وأجر الإحسان وثوابه أجر عظيم. ويكفي شاهداً على ذلك الآيات الواردة في المحسنين، مثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

ويمكن أن يكون المراد بـ «الأمانة» الاعتقاد بالإمامة، حيث ورد في أحاديث الأمانة الّتي فسّرت قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ)(9) بالإمامة، فيكون المراد أنّ الاعتقاد بالإمامة الحقّة ـ وهي أمانة من الحقّ تعالى مودعة عند الإنسان ـ فوزٌ بالسعادة الأبديّة السرمدية لمن رعاها وأدّى شرائط طاعة الإمام والانقياد له.

1121 ـ الْتَّقْوى حِرْزٌ لِمَنْ عَمِلَ بِها .

التقوى ـ وهي اجتناب الذنوب أو الخوف من الله عز وجل ـ حرزٌ ـ يعني التعويذ أو الحصن ـ لمن عمل بها أو لمن عمل بمقتضاها.

1122 ـ الْشَّرَهُ جامِعٌ لِمَساوِىء الْعُيُوبِ .

الشَّرَه وغلبة الحرص والطمع جامعٌ لمساوىء العيوب.

1123 ـ الإنْصَافُ يَأْلِفُ(10) الْقُلُوبَ .

الإنصاف والعدل يؤلّف القلوب ويعطفها إلى صاحب العدل والإنصاف.

1124 ـ الْحِرْصُ مُوقِعٌ فِي كَثِيرِ الْعُيُوبِ .

الحرص يوقع الإنسان في كثير من العيوب، وجاء في بعض النسخ لفظ «كبير» بالباء، كما ورد لفظ «الذنوب» بدلا من «العيوب»(11)، فيكون المعنى أنّ الحرص يوقع الإنسان في الذنوب الكبيرة. وقد ذكرنا سابقاً تحقيق الذنوب الكبيرة والصغيرة.

1125 ـ الْكِبْرُ مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمى.

الكِبْر هو مصيدة الشيطان الكبرى، أي أكبر مصيدة له يصطاد بها الناس. وكونها أكبر المصائد إمّا باعتبار أنّ الشيطان اصطاد جمعاً كثيراً بهذه المصيدة لم يقدر على اصطياد ما يوازيهم بغيرها من المصائد، وإمّا باعتبار أنّ هذه المصيدة أمتن وأقوى من بقيّة مصائده، وأنّ من يتردّى في هذه المصيدة يعسر عليه الخلاص منها، وقد ابتلي الشيطان نفسه باللعن الأبدي والشقاوة السرمديّة عن هذا الطريق، طريق الكبر.

1126 ـ الْحَسَدُ مِقْنَصَةُ إِبْلِيسَ الْكُبْرى .

الحسد مقنصة (آلة صيد) إبليس الكبرى، أي أكبر أدوات صيده الّتي يصطاد بها الناس. ويمكن أن يكون عظمة وكبر الكِبْر والحسد كليهما من نفس الجهة، وأنّهما أعظم وأكبر من سواهما، لئلاّ يلزم عظمة أحدهما على الآخر، أو أن تكون عظمة أحدهما باعتبار السعة والمقدار وعظمة الآخر باعتبار إحكامه وصعوبة الخلاص منه، فيكون كلّ منهما أكبر وأعظم من الآخر في أمر معين.

وجاء في بعض النسخ لفظ «منقصة» بتقديم النون على القاف; فيكون معناه بناءً على ذلك أنّ الحسد صفة نقص الشيطان الكبرى، والنسخة الأولى أظهر.

1127 ـ الْوَعْدُ مَرَضٌ وَالْبُرْءُ إِنْجازُهُ .

أي أنّ الوعد بمنزلة المرض باعتبار أنّ على الإنسان أن يفكّر على الدوام في الوفاء به، وأن يخاف من إخلافه، أو بمنزلة المرض لمن وُعد وعداً، باعتبار أنّه يبقى دوماً يعاني ألم انتظار ذلك الوعد، وما لم يَفِ الواعد بوعده فإنّ الموعود لن يفارقه ألمُه. وعلى كلّ تقدير فإنّ الغرض هو أنّ على الإنسان أن يُحسن في الحال ما أمكنه ذلك، وأنّ عليه اجتناب الوعد، فإن هو وَعَدَ توجّب عليه الوفاء بوعده بسرعة.

1128 ـ الإِحْسانُ ذُخْرٌ وَالْكَرِيمُ مَنْ حازَهُ(12) .

الإحسان ذُخر، والكريم هو من حازه أي من فَعَلَهُ وحاز هذا الذخر لنفسه.

1129 ـ الإرْتِقاءُ إِلى الْفَضائِلِ صَعْبٌ مُنْج .

الارتقاء إلى الفضائل (وهي الصفات الّتي ترفع درجة صاحبها) صعب مُنج. ويقال للعمل الشاق والبعير غير المروّض «صعب»، وهذا المعنى أنسب في هذا المقام. والمراد هو أنّ الارتقاء إلى الفضائل بمنزلة البعير غير المروّض، لأنّ الشخص ما لم يبذل السعي البليغ والعناية التامّة في قطع العلائق ونقض العوائق وترك الهوى فإنّه لن يتمكّن من الاقتراب من تلك الفضائل لكنّ ركوب ذلك البعير ـ مع وجود هذا المعنى ـ مُنْج وخال من الخطورة، يصل به الإنسان سالماً إلى مقصده بلا خوف من السقوط، خلافاً لسائر الإبل الصعبة الّتي لا يخلو راكبها من خوف السقوط.

1130 ـ الإنْحِطاطُ إِلى الْرَّذائِلِ سَهْلٌ مُرْد .

الانحطاط إلى الرذائل ـ وهي الصفات الدنيّة والملكات الرذيلة ـ سهل مُهلك، أو مُسقط في الهلاك أو الشقاء والحقارة.

و «السهل» ضدّ «الصعب» يُطلق على الشيء الليّن والعمل السهل، ولا يبعد أنّه يُطلق أيضاً على البعير المنقاد المروّض; كما أنّه يُطلق أيضاً على الأرض المستوية الليّنة. وعلى كلّ تقدير فإنّ سهولة ذلك أمر ظاهر، لأنّه يحصل في منتهى السهولة، ويكفي فيه إيكال النفس إلى ذاتها، وفي الجملة إرخاء العنان لها. لكنّه ـ مع سهولته ـ يهلك الإنسان أو يُسقطه في الهلاك أو الشقاء، وهذا ظاهر بدوره.

ولا يخفى أنّ حمل «سهل» على المعنى الأخير أنسب، كما أنّ حمل «صعب» في الفقرة السابقة على المعنى الأخير المذكور أنسب أيضاً، لأنّ حاصل كلا الفقرتين سيكون ـ بناءً على ذلك ـ أنّ الارتقاء إلى الفضائل بمثابة البعير الصعب الّذي لا خطر فيه، وأنّ الانحطاط إلى الرذائل كالأرض اللينة الّتي تُسقط الإنسان أو تُهلكه، ومن الظاهر أنّ هذا المعنى (معنى أن يكون البعير الصعب بلا خطر وتكون الأرض السهلة اللينة مُهلكة أو مُسقطة) أغرب وألطف بكثير من قولنا أنّ تلك بمثابة البعير الصعب الّذي لا خطر فيه وهذه بمثابة البعير المنقاد الخطر، أو قولنا أنّ تلك صعوبة لا خطر فيها وهذه سهولة مصحوبة بالخطر.

1131 ـ الْمُحْسِنُ مَنْ صَدَّقَ أَقْوالَهُ أَفْعالُهُ .

المحسن هو مَن تصدّق أفعالُه وسيرته أقوالَه، أي مَن يعمل بما يقول من المواعظ والنصائح، ومن يفي بالوعود الّتي يقطعها.

1132 ـ الْكَيِّسُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ وَأَخْلَصَ أَعْمالَهُ .

الكيّس الفطن هو من عرف نفسه وأخلص أعماله. والمراد بمعرفة نفسه إمّا معرفة النفس وأحوالها ومعرفة ما روعي في خلقها من الحِكم والمصالح، من أجل أن يستدلّ بذلك على وجود مبدأ وخالق لها وعلى كمال علم خالقها وقدرته وسائر صفاته الّتي يمكن إدراكها من معرفة أحوال النفس، كما في الحديث المشهور «مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه» الظاهر في هذا المعنى(13).

أو أنّ المراد هو معرفة قدر نفسه ومنزلتها وعدم إذلالها وتحقيرها لدى الحقّ تعالى بالمعصية، ولدى الخلق بالطمع وأمثاله، وكذلك عدم تجاوز حدودها في معاملة الناس وانتظار خلاف ذلك منهم.

والمراد بإخلاص الأعمال هو إخلاصها ومحضها للحقّ تعالى وعدم جعلها مشوبة بشائبة من رياء وأمثاله.

1133 ـ إِظْهارُ الْغِنى مِنَ الْشُّكْرِ .

إظهار الغنى من جُملة الشكر. أي أنّ مِن شكر الغنيّ المتمكّن أن لا يُخفي غناه ويظهر بمظهر المحتاجين والفقراء، بل عليه ـ بقدر وسعه ـ أن يبذل للناس ما يسعه ويدعوهم إلى مائدته.

ولا يبعد أن يكون إظهار الغنى بالقول واللسان حسن أيضاً; والآية الكريمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(14) أيضاً تحتمل كلا الأمرين، أي حديث الفعل أو القول(15).

1134 ـ إِظْهارُ التَّباؤُسِ يَجْلِبُ الْفَقْرَ.

إظهار الفقر والبؤس يجل الفقر، يعني أنّ الإنسان إذا لم يكن فقيراً بائساًتظاهر بالفقر والبؤس بلسانه أو بسلوكه، فإنّ هذا المعنى سيبعث على فقره وبؤسه في الواقع، لأنّ هذا المعنى هو في حقيقته كفران للنعمة، وكفران النعمة سبب في زوالها.

1135 ـ الْمُعِينُ عَلى الْطَّاعَةِ خَيْرُ الأَصْحابِ .

المعين على الطاعة والانقياد للحقّ تعالى هو خير الأصحاب وأفضلهم.

1136 ـ الْفُرَصُ تَمُرُّ مَرَّ الْسَّحابِ .

الفرص تمرّ مرّ السحاب، أي في سرعتها، فيجب إذاً اغتنامها والتعجيل في فِعل الخيرات فيها.

1137 ـ الْغِيْبَةُ قُوتُ كِلابِ النَّارِ .

الغيبة ـ وتعني ذِكر الشخص الغائب بالسوء; وقد تكرّر ذكرها ـ قوت سكّان جهنّم. ويمكن أن يكون المراد بـ «كلاب النار» المغتابين الّذين يكونون في جهنّم في هيئة الكلاب; أو أن يكون إطلاق لفظ «الكلب» عليهم من قبيل المبالغة في ذمّهم وسوء حالهم.

وبناءً على ذلك فإنّ كون الغيبة قوت كلاب النار أمر ظاهر، لأنّ غيبة شخص ما بمنزلة أكل لحمه، وقد ورد التشبيه بذلك في القرآن الكريم وفي الأحاديث الأخرى، فالغيبة أصبحت طعام كلاب جهنّم.

ويمكن أن يكون في جهنّم كلاب يُلقى إليها المغتابون فتأكلهم، فتكون الغيبة ـ بهذا الاعتبار ـ قوتاً لها. ويُحتمل أن يكون أصل الغيبة طعام تلك الكلاب الّذي تعيش عليه; والله تعالى يعلم.

1138 ـ الأَمَلُ خادِعٌ غارٌّ ضارٌّ .

الأمل خادع يغرّ الإنسان ويضرّه; والمقصود به الأمل في الخلق، أو في الأمور الدنيوية الباطلة، كتحصيل المال والجاه وأشباه ذلك.

1139 ـ إِخْفاءِ الْفاقَةِ وَالأَمْراضِ مِنَ الْمُرُوَّةِ(16) .

إخفاء الفاقة والأمراض من المروءة، لأنّ الفاقة في نظر أبناء الزمان قد أصبحت عاراً وعيباً، والرجل لا يُظهر عاره وعيبه. كما أنّ إظهار ذلك لا يخلو من شائبة شكاية الحقّ تعالى، وذلك مناف للمروءة.

والظاهر أنّ المراد بـ «الأمراض» الأمراض غير الظاهرة الّتي تعدّ في الأنظار من العيوب، فيكون إخفاؤها بذلك الاعتبار. والمراد إخفاؤها من غير الطبيب والمعالج إن كانت قابلة للعلاج.

1140 ـ الْتَّفَكُّرُ فِي الاءِ اللهِ نِعْمَ الْعِبادَةِ .

التفكّر في آلاء الله ونِعمه نِعم العبادة، أي التفكّر فيها من أجل تحصيل المعارف الإلهيّة والاستدلال بها على وجود الحقّ تعالى وكمال علمه وقدرته وسائر ما يمكن استنباطه منها من أحوال المبدأ والمعاد.

ومن الظاهر أنّ مثل هذا التفكّر نِعم العبادة، لأنّها تكون وسيلة للمعرفة وهي خير العبادات وأفضلها، وهي كذلك تبعث على أداء شكر النعمة، لأنّ الشكر فعلٌ مُنبئ عن تعظيم صاحب النعمة، سواء باللسان أو بالقلب أو بالأركان. ومن الظاهر أنّ التفكّر المذكور يصبح باعثاً على الاعتقاد عظمة الحقّ تعالى وجلاله، فيحصل الشكر بالجنَان ولو أمكن تخلف نوعي الشكر الآخرين عنه.

1141 ـ الإِيْثارُ أَفْضَلُ عِبادَة وَأَجَلُّ(17) سِيادَة .

الإيثار ـ وهو الجود والكرم أو الجود بالشيء مع الحاجة إليه ـ أفضل عبادة وأجلّ وأحسن سيادة وعظمة.

1142 ـ الْواحِدُ مِنَ الأَعْداءِ كَثِيرٌ .

الواحد من الأعداء كثير، لأنّ العدو الواحد ـ مهما كان حقيراً ـ قد يُهلك الإنسان; فعلى الإنسان إذاً أن يسلك على نحو لا يُعاديه معه أحد.

1143 ـ الْمُلْكُ الْمُنْتَقِلُ الزَّائِلُ حَقِيرٌ يَسِيرٌ .

المُلك المنتقل الزائل حقير ـ أي صغير ـ يسير (أي تافه)، لأنّ كلّ ما يزول فإنّه يكون بعد زواله بمنزلة من لم يكن أبداً، بل الحزن والأسف على فقده دائم ملازم. فمثل هذه النعمة ليس لها ـ يقيناً ـ تأثير على أهل البصيرة، وهي نعمة حقيرة يسيرة، فيجب إذاً أن يكون كمال سعي الإنسان في تحصيل نعمة تكون دائميّة لا يطرأ عليها زوال ولا انتقال، وتلك هي النعم الأُخروية.

1144 ـ الْصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ(18) .

الصديق مَن صدق غيبُه، أي من كان صادقاً مع صديقه في غيبته، أو من صَدَق في باطنه لصديقه، اذ لا تكفي المحبّة الظاهريّة.

1145 ـ الْمَنْقُوصُ مَسْتُورٌ عَنْهُ(19) عَيْبُهُ .

المنقوص مستور عنه عيبه; أي أنّ من له نقص في الصفات والأخلاق فالغالب أن يكون ذلك النقص والعيب خافياً عليه غير ظاهر له; فعلى الإنسان إذاً أن يتأمّل ويتفكّر دوماً في أحواله وبدقّة، من أجل أن يظهر له نقصه وعيبه، وأن يجهد في تدارك ذلك النقص ورفعه. كما أنّ على أصدقاء كلّ شخص أن يُطلعونه على نقصه ليسعى في إزالته ورفعه.

1146 ـ الْقُدْرَةُ تُظْهِرُ مَحْمُودَ الْخِصالِ وَمَذْمُومِها .

القدرة تظهر الخصال الحميدة والذميمة، أي أنّ محمود خصال الإنسان ومذمومها إنّما تظهر حين يكون له قدرة وقوّة، فالشخص الّذي يملك المال ويجود به يظهر أمر جوده، والشخص الّذي يتيسّر له الفسق والفجور فلا يرتكبهما يتّضح أمر عفّته، ولو سلك هذا الشخص خلاف ذلك لاتّضح أمر بخله أو فسقه. أمّا من لا مال له فلا يتّضح أمر جوده وبُخله، وقد يُستنبط أحياناً من ظاهر حاله كمال جوده أو شدّة بُخله، فإن أضحى متمّولا غنياً اتّضح خلاف ذلك. وكذا الأمر في من لا يتيسّر له الفسق، إذْ لا يتّضح أمر عفّته أو خلاف ذلك في ذلك الباب; وعلى هذا القياس أمر سائر الصفات. والغرض هو أنّ الاعتماد على شخص ما في أيّ باب إنّما يمكن ويصحّ حين يظهر حاله ويتّضح مع وجود القدرة، أمّا عدم القدرة فلا يمكن الاعتماد على حال الشخص ولو بدا في الظاهر حسناً.

1147 ـ الْغِنى وَالْفَقْرُ يَكْشِفانِ جَواهِرَ الرِّجالِ وَأَوْصافِها.

الغنى والفقر يكشفان جواهر الرجال وأوصافها، أي يكشفان حسن ذوات الرجال وصفاتهم وسوءها. والمراد بـ «جواهر الرجال» ذواتهم ونفوسهم، والمراد بكشفها: كشف حسنها وسوئها، باعتبار ما يُظهرانه من الأوصاف الجميلة أو الذميمة فيهم.

وإن كشف الغنى والفقر جواهر الرجال هو باعتبار أنّ بعض الصفات يظهر حال الغِنى، كالسخاء والبُخل، ورغبة البعض في الفسق وعفّة الآخرين; أمّا البعض الآخر من الصفات فيظهر حال الفقر والفاقة، كالصبر على ضيق المعاش وعدم الشكوى منه، وكاجتناب المال الحرام والمشتبه مع الحاجة إليه وخلاف ذلك.

1148 ـ الْمالُ يُبْدِي جَواهِرَ الرِّجالِ وَخَلائِقَها .

المال يُبدي جواهر الرجال وخلائقها، أي يبدي خصلة كلّ جوهر فيهم، وهذا بعينه مضمون قسم من الفقرة السابقة. ومن الظاهر أنّ هاتين الفقرتين من كلام أميرالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لم تكونا معاً، بل كان كلّ واحد منهما في الموضع المناسب له، ثمّ أنّ المؤلّف جمعهما معاً.

1149 ـ الْنِّفاقُ مَبْنِيٌّ عَلى الْمَيْنِ .

النفاق ـ وهو عدم موافقة ظاهر الإنسان لباطنه ـ مبنيّ على المين ـ وهو الكذب ـ أي أنّ بناءه قائم على الكذب، فما لم يكن الإنسان كاذباً لم يُنافق; أو أنّ النفاق حكم الكذب ومنزلته، حتى كأنّه كذب فعليّ.

1150 ـ الْبَغْيُ سائِقٌ إِلَى الْحَيْفِ .

البغي ـ أي الظلم أو الكذب أو العدول عن الحقّ أو التطاول ـ سائقٌ صاحبه إلى الحيف، أي الهلاك أو المحنة.

1151 ـ الْفَقْدُ الْمُمِرْضُ فَقْدُ الأَحْبابِ .

الفقد الممرض فقد الأحباب. وجاء في بعض النسخ «المرمض» بدلا من «الممرض»، فيكون معناه أنّ الفقد المُحرق المؤلم هو فقْد الأحباب.

وعلى كلّ تقدير فإنّ الغرض هو أنّ الفقد السيّء هو فقد الأحباب الّذي يؤلم الشخص ويُمرضه، أو يؤلم قلبه أو يُحرقه، أمّا أنواع الفقد الأُخرى كفقد المال والجاه وأمثالها فلا ضرر كبير فيها.

1152 ـ الْثَّوابُ عِنْدَ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَلىْ قَدْرِ الْمُصابِ.

الثواب عند الله سبحانه وتعالى على قدر المصيبة، فكلّما كان المصاب أعظم كان ثوابه أكبر و «الثواب» يُطلق على الأجر والعوض الحسن الّذي يُمنح ـ على نحو التعظيم ـ للشخص بأزاء عمل خير أو مصيبة.

1153 ـ الْسُّكُوتُ عَلى الأَحْمَقِ أَفْضَلُ جَوابِهِ .

السكوت على الأحمق وعدم التعرّض لجوابه أفضل جواب له.

1154 ـ الْتَّعْرِيْضُ لِلْعاقِلِ أَشَدُّ عِتابِهِ .

التعريض للعاقل أشدّ عتابه ـ والتعريض خلاف التصريح. والمراد هو أنّ أشدّ عتاب ولوم للعاقل هو الّذي يكون تعريضاً، وليس من عتاب أشدّ منه، حيث اشتهر قول «الْعاقِلُ يَكْفِيِهِ الإِشارَةُ».

ويمكن أن يكون المراد هو أنّ التعريض أشدّ تأثيراً على العاقل من التصريح، حيث أنّ كلّ عاقل يرجع إلى حاله ويتأمّلها يشهد على ذلك.

1155 ـ الْجاهِلُ كَزَلَّةِ الْعالِمِ صَوابُهُ .

صواب الجاهل ـ أي رأيه ـ كزلّة العالِم، أي أنّ نهاية مرتبة الجاهل أنّه إذا فكّر في أمر واختار رأياً هو أصوب الآراء قياساً إلى إدراكه وفهمه، فإنّ ذلك الرأي هو الرأي الّذي يختاره العالم إذا ما زلّ وأخطأ الاختيار، فيجب إذاً الرجوع إلى رأي العالم في المشورة.

ويمكن أن يكون الغرض أيضاً إشارة إلى أنّ اعتقاد الإنسان في الأُمور الدينيّة ـ الّتي يجب أن يكون الاعتقاد بها قائماً على الدليل ـ يجب أن يكون صحيحاً وموافقاً للحقّ ليكون مقبولا، أمّا الخطأ الّذي ارتكبه ولم يعلمه بالدليل فإنّ ذلك لا يسبّب فساده ورفضه، كما لو أنّ عالماً إذا ما ارتكب في اجتهاده خطأ كان ذلك موضوعاً عنه لا يؤاخذ به. وكذلك الأمر في الأعمال حيث يكونعمل يقع منه صواباً عملا مقبولا ولو لم يقلّد فيه مجتهداً كما هو الواجب; والله تعالى يعلم.

1156 ـ الْتَّوْحِيدُ أَنْ لا تَتَوَهَّمَ .

التوحيد ـ وهو الاعتقاد بوحدانية الحقّ تعالى ـ هو أن لا تتوهّم، أي لا تحتمل له شريكاً، ولو كان احتمالا مرجوحاً (وهو ما يدعى بالوهم). ويمكن أن يكون المراد أنّ من جملة توحيد الحقّ تعالى أن لا تتوهّمه، يعني أن تعلم أنّ كُنه حقيقة ذاته المقدّسة ممّا لا يُدركه عقلك وفهمك، وأنّ ما تتصوّره هو غير ذاته المقدّسة، فكلّ من توهّم أنّه تصوّر ذات الحقّ تعالى فإنّه ـ في الحقيقة ـ قد جعل له شريكاً، لأنّ ما تصوّره ليس هو الله في الواقع، فإن هو اعتبر أنّه الله فإنّه سيكون قد قال بإله غير الله عز وجل .

ويستعمل «التوحيد» أحياناً فيما يكون به الاعتقاد من الأُمور المتعلّقة بذات الحقّ تعالى وصفاته، ولو لم تتعلّق بوحدانيّته تعالى ونفي الشريك عنه، وفي المشهور أنّ أصول الدين خمسة: التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد، حيث أُريد من «التوحيد» هذا المعنى، فيمكن بناءً على ذلك أن يكون التوحيد هنا أيضاً بهذا المعنى، والمراد هو أنّ من جملة الاعتقادات الّتي يجب الاعتقاد بها في باب ذات وصفات الحقّ تعالى أن تعلم أنّه فوق مرتبة الإدراك الإمكانيّ، فلا يكون إذاً محتاجاً إلى التوجيه الّذي ذُكر لربط هذا بمسألة التوحيد بالمعنى المشهور.

ويجب أن يُعلم بأنّ امتناع تصوّر كُنه ذات الحقّ تعالى هو مذهب الحكماء وبعض المتكلّمين، وأنّ كلام أكثر الصوفيّة أيضاً مُشعر بذلك، وقد توقّف بعض المتكلّمين فيه; وإنّ أدلّة الحكماء العقليّة هي على امتناعه ـ على الرغم من إمكان مناقشتها ـ أمّا الأخبار والآثار الّتي تدلّ عليه فمتظافرة، بل هي متواترة.

1157 ـ الْتَّسْلِيمُ أَنْ لا تَتَّهِمَ .

التسليم ـ ويعني الطاعة والانقياد للحقّ تعالى، أو الرضا بفعله ـ أن لا تتّهمه، أي أن تعلم أنّ ما يفعله تعالى هو وفقاً للعدل وأنّه غير مشوب بشائبة ـ ولو قيد شعرة ـ من ظلم أو جور أو حيف. وما لم يكن للإنسان هذا الاعتقاد فإنّه لن يكون فيه حقيقة التسليم والانقياد مهما أطاع جميع أوامر الله تعالى ونواهيه; أو أنّه لن يكون له حقيقة الرضا مهما أرضى نفسه بفعل الحقّ تعالى.

1158 ـ الْمَكْرُ بِمَنِ ائْتَمَنَكَ كُفْرٌ .

المكر بمن ائتمنك كفر، أي بمنزلة الكفر. والكلام شامل لكلّ مكر بمن يستأمن الإنسان على شيء، سواءً كان ذلك الشيء مالا أو غير المال كالأسرار وأمثالها.

1159 ـ إذاعَةُ سِرٍّ أُودِعْتَهُ غَدْرٌ.

إذاعة وإفشاء سرّ أُودعته ـ أي أودعوك إيّاه ـ غدر وعدم وفاء، أي أنّه من جملة الغدر وعدم الوفاء المذموم كثيراً، سواءً كان المستودَع سرّاً لصديق أو لعدوّ.

1160 ـ الْشَّرَهُ أُسُّ كُلِّ شَرٍّ .

الشَّرَه وغلبة الحرص أساس كلّ شرّ.

1161 ـ الْعِفَّةُ رَأْسُ كُلِّ خَيْر .

العفّة ـ وهي كفّ النفس عن ما لا يحلّ; أو خصوص عفّة البطن والفَرْج الّذي شاع استعمال العفّة فيها ـ رأس كلّ خير، أي لا يمكن العثور على أيّ خير من دون العفّة كما أنّ الحيوان لا يمكن أن يوجد بلا رأس; أو أنّ العفة هي الركن المقدّم في كل خير كما أنّ رأس كلّ شيء مقدّم ذلك الشيء; وعلى كلّ تقدير فالغرض هو المبالغة في الأمر بالعفّة وأنّ أيّ خير لا يكمل من دونها، فكأنّها الجزء الأعظم لجميع الخيرات.

1162 ـ الْمَواعِظُ شِفاءٌ لِمَنْ عَمِلَ بِها .

1163 ـ الأَمانَةُ فَضِيلَةٌ لِمَنْ أَدَّاها .

الأمانة فضيلة لمن أدّاها، أي لمن حفظها وأدّاها لمن استأمنه إيّاها ولم يَخُنْه فيها، وهي فضيلة ومنزلة للمؤدّي لأنّها من جملة أفراد الإحسان، وفضيلة الإحسان ظاهرة، وقد مرّ ذلك سابقاً.

1164 ـ الْسَّامِعُ لِلْغِيبَةِ كَالْمُغْتابِ.

السامع للغيبة كالمغتاب، أي السامع المُنصت للغيبة الملتفت إليها، والمراد المساواة في أصل كون ذلك ذنباً لكليهما، أو في قدر ذلك الذنب أيضاً.

1165 ـ الْمُصِيبَةُ بِالصَّبْرِ أَعْظَمُ الْمُصابِ .

المصيبة بالصبر أعظم المصاب. «المصيبة» تطلق على المكروه الوارد على الإنسان; والمراد هو أنّ أعظم المصائب مصيبة فقدان الصبر، لأنّ كلّ مصيبة غيرها تتضمّن أجراً وثوابها يجبر تلك المصيبة، بخلاف فقدان الصبر الّذي يسبب الخسران في الدنيا والآخرة.

1166 ـ الْدَّهْرُ مُوَكَّلٌ بِتَشْتِيتِ الأُلاّفِ .

الدهر موكّل بتشتيت وتفريق المتآلفين الّذين ألفوا بعضهم وأنسوا ببعضهم، أي أنّ عمل الدهر وفعِله هكذا، فكأنّ أحداً أوكله ونصبه للقيام بهذا العمل. والغرض هو أنّه لا مفرّ من هذا خلال الدهر، فإن واجه أحدٌ هذا المعنى فعليه أن لا يغتمّ بذلك كثيراً.

1167 ـ الأُمُورُ الْمُنْتَظِمَةُ يُفْسِدُها الْخِلافُ .

الأُمور المنتظمة ـ أي المرتبطة ببعضها كأنّها منظومة في خيط ـ يُفسدها الخلاف بين أصحاب تلك الأُمور. أي أنّ الغالب هو أنّه إذا كان أفراد طائفة وجماعة معيّنة متّفقين فيما بينهم فإنّ أُمورهم ستكون منتظمة، فإن هم اختلفوا فيما بينهم اختلّت أُمورهم وفسدت، فيجب إذاً الحذر من الخلاف والفُرقة.

1168 ـ الْتَّجَمُّلُ مِنْ أَخْلاقِ الْمُؤمِنِينَ .

1169 ـ الْتَّكَلُّفُ مِنْ أَخْلاقِ الُْمنافِقِينَ .

التكلّف ـ وهو تجشّم الكلفة والزحمة ـ من خصال المنافقين، أي الّذين لا يتطابق ظاهرهم مع باطنهم. والظاهر أنّ المراد هو أنّ تكلّف الزحمة بارتداء الملابس الغليظة الخشنة وتناول الأطعمة الجشبة كما هي طريقة جماعة معيّنة تبدو في الظاهر بلباس الزهد والتقوى وتعمل في الباطن على خلاف ذلك، ولذلك يجب تخصيص ذلك بغير الإمام في زمان تسلّطه، لأنّ من السنّة عليه أن يسلك في لباسه وطعامه على نحو يتيسّر مثله لأدنى رعيّته كما هو المشهور من سيرة أميرالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

ويمكن أن يكون المراد تحميل النفس المشقّة للتنعّم والتكلّف في اللباس والهيئة. والمراد في كلا الفقرتين هو أنّ على المؤمن أن يتزيّن ولكن بما يتيسّر له ولا يتجشّم فيه مشقّة ولا كلفة. أمّا المنافق فيحمّل نفسه المشقّة والكلفة في ذلك وأمثاله. و «التكلّف» يعني التعرّض لما لا ينفع.

ويمكن أن لا يكون المراد في هذه الفقرة هذا المعنى وهذه الخصلة مقابل الخصلة الّتي ذُكرت للمؤمنين في الفقرة السابقة (التجمّل من أخلاق المؤمنين)، بل الغرض مجرّد مدح تلك الخصلة وأنّها خصلة المؤمنين، وذمّ هذه وأنّها خصلة المنافقين، على الرغم من عدم تقابل هاتين الخصلتين. وكون هذا المعنى خصلة للمنافقين أمر ظاهر.

1170 ـ الْجَدَلُ فِي الْدِّينِ يُفْسِدُ الْيَقِينَ .

الجدل في الدين يُفسد اليقين، أي أنّ البحث والجدل في أمور الدين يجب أن يكون برعاية كمال الإنصاف، وأن لا يكون منظوراً فيه العداء للآخرين، من أجل أن يحصل به اليقين والعلم بالحقّ، لأنّ من يبحث ويُجادل تعصّباً وعناداً فإنّ الغالب ـ باعتبار ميل نفسه إلى تغلبّه وحقّانيّة رأيه ـ أن يُذعن إلى أُمور تساند رأيه ويرفض مقدّمات أدلّة الخصم ولا يقبل بها، مع أنّه لو كان مخلّياً بالطبع لحكمت بديهة عقله بعكس ذلك. فالجدل إذاً يُفسد يقينه، أي يبعث على عدم حصوله على اليقين والعلم بالحقّ.

وقد يكون المراد بـ «الجدل» المعنى الاصطلاحى لدى الحكماء، أي البناء على المقدّمات المشهورة من دون تحقيق في حالها وثبوت حقّانيّتها; ومن الظاهر أنّ الجدل بهذا المعنى يُفسد اليقين، أي أنّ نتيجته باطلة ومخالفة لليقين.

ويحصل أحياناً أن يكون للإنسان يقين وعلم بالحقّ، ثمّ يزول اعتقاده بعد الجدل فيعتقد بخلافه ويفسد يقينه. فعلى الإنسان أن يبني اعتقاده في الأُمور الدينية على مقدّمات قد ثبتت. حقيقتها بالبديهة أو بالبرهان والدليل، ولا يكتفي بشهرة تلك المقدّمات وكونها من الأُمور المسلّمة لدى الجمهور.

1171 ـ الْنَّاسُ أَبْناءُ ما يُحْسِنُونَ .

الناس أبناء ما يُحسنون; أي أنّ قدر الناس وقيمتهم بقدر علمهم وما يُحسنونه من الفنون. وفي الحقيقة فإنّ أبا كلّ شخص يمكن له أن يفتخر به هو عِلمه وفِكره وليس أباه الّذي ولده.

ويمكن أن يتبع الإنسان ويمدح العمل الّذي بإمكانه أن يُحسنه ويمهر فيه، فيفعل ذلك العمل ويُراعي أهله. فعلى الإنسان في البداية أن يكتسب مهارة وصنعة يكون اتّباعها مستحسناً أو غير سيء على أقل تقدير، وإنّ كلّ صاحب حرفة ومهارة إذا أراد الارتباط بشخص من أهل الدنيا فإنّه يرتبط بمن ينتفع منه، وإذا كان من هؤلاء من يمتلك تلك الحرفة والفنّ فإنّه سيذهب إليه ويتبعه لأنّه يثمّن قدره وقيمته أكثر من سواه.

1172 ـ الْصَّاحِبُ كَالرُّقْعَةِ فَاتَّخِذْهُ مُشاكِلا .

أي أنّ صاحبك منك بمنزلة الرقعة في ثوبك، فيجب أن تكون تلك الرقعة مُشاكلة ومن جنس ذلك الثوب وشبيهاً له، وكذلك يجب أن يكون صاحبك من جنسك ومشاكلا وقريناً لك.

1173 ـ الْرَّفِيقُ كَالصَّدِيْقِ فَاخْتَرْهُ مُوافِقاً .

الرفيق كالصديق، فاختره موافقاً; أي أنّ رفيقك في السفر وغيره بمنزلة صديقك، فكما يجب عليك في أمر الصداقة أن تجد صديقاً موافقاً ومناسباً، فعليك أيضاً في الرفقة أن تختار من يوافقك ويُناسبك ولو كانت مجرد رفقة لا تتعدّى إلى مشروع صداقة ومحبّة.

1174 ـ الْكِذْبُ يُؤَدِّي إِلَى النِّفاقِ .

الكذب يؤدّي إلى النفاق. يمكن أن يكون المراد النفاق مع الحقّ تعالى وسلب الإيمان من القلب، وخاصية الكذب ـ وخاصّة حين يكذب الإنسان كثيراً ـ أن يزيل الإيمان من قلب صاحبه ويجعله منافقاً.

ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام الهمام محمد الباقر صلوات الله وسلامه عليه قال: إنّ الكذب هو خراب الإيمان.

وما روي عن أميرالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال: لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يدع الكذب جدّه وهزله.

ويمكن أن يكون المراد هو النفاق مع الناس; وتأدية الكذب إلى النفاق باعتبار أنّ من لا يتورّع عن الكذب فالغالب أنّه في الظاهر إذا ما التقى بالناس فإنّه يتلفّظ بعدّة عبارات عن مودّته وصداقته لهم وأمثال ذلك ممّا لا وجود له في قلبه أصلا، فيكون الكذب ـ الّذي هو قبيح في نفسه ـ سبباً في هذه الخصلة الذميمة أيضاً.

1175 ـ الْشَّرَهُ مِنْ مَساوي الأَخْلاقِ .

الشره وغلبة الحرص من مساوي الأخلاق والخصال.

1176 ـ إعْجابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ حُمْقٌ .

إعجاب الرجل بنفسه دليل على حمقه وقلّة عقله.

1177 ـ الإِفْراطُ فِي الْمَزْحِ خُرْقٌ .

الإفراط في المزاح خرق، أي الجهل الممزوج بالحمق وقلّة العقل، لأنّه يبعث على الخفّة وسقوط هذا الشخص من الأنظار.

1178 ـ الْحِلْمُ نُورٌ جَوْهَرُهُ الْعَقْلُ .

الحِلم والاحتمال نور وضياء جوهره العقل والفِكر، أي أنّ الذات الّتي تُنيره وتكون منشأه هي العقل والفكر، أو انّ المعدن الّذي يشعّ منه ذلك النور هو العقل والفكر.

وجاء في بعض النسخ «الحكمة» بدلا من «الحلم»(20)، والمعنى هو أنّ العلم الصحيح نورٌ جوهره العقل، وهذا أظهر من سابقه، لأنّ تشبيه «العلم» بـ «النور» أنسب من تشبيه الحلم بالنور. وجاء في بعض النسخ لفظ «جوهرته» بدلا من «جوهره»(21)، والتاء فيها للتأنيث باعتبار تأنيث موصوفها مثل الذات والمادّة.

1179 ـ الْسَّخاءُ عُنْوانُ الْمُروءَةِ وَالْنُّبْلِ .

السخاء والجود عنوان وعلامة المروءة والنبل. و «المروءة» بمعنى الرجولة والآدميّة; و «النبل» بمعنى النجابة أو الفطنة المفرطة، وقد تكرر ذكرها.

1180 ـ الْصَّوابُ مِنْ فُرُوعِ الرَّوِيَّةِ .

الصواب ـ وهو سلوك جادَّة الحقّ وعدم الخطأ ـ من فروع الرويّة، أي أنّ التفكّر والتأمّل يترتّب عليها.

1181 ـ الْمُرُوَّةُ مِنْ كُلِّ خَناء عَرِيَّةٌ بَرِيَّةٌ .

المروّة ـ وهي الرجولة أو الآدميّة ـ بريئة عارية من كلّ فُحش وسِباب.

1182 ـ الْعاقِلُ مَنْ وَعَظَتْهُ الْتَّجارِبُ .

العاقل من وعظته التجارب والامتحانات; أي أنّ التجارب الّتي مرّ بها وأثّرت فيه فاتّعظ بها; أو التجارب الّتي عملها واتّعظ منها.

1183 ـ الْجاهِلُ مَنْ خَدَعَتْهُ الْمَطالِبُ .

الجاهل هو من خدعته المطالب، أي الّذي عمل من أجل المطالب الدنيويّة فبعثه ذلك على خسران الآخرة.

1184 ـ الْسُّلْطانُ الْجائِرُ يُخِيفُ الْبَرِيءَ .

السلطان الجائر يُخيف البريء; أي أنّ البريء الّذي لا ذنب له يكون أيضاً خائفاً منه غير آمن، لأنّ غير المذنب قد يتعرّض لظلم هذا السلطان الجائر.

وقد يكون المراد أنّ الغالب هو أن يكون الأبرياء خائفين منه، أمّا المذنبون العُصاة فغير خائفين منه، لأنّ أكثرهم من أعوانه وأنصاره فهم آمنون من ظلمه وجوره، أو أنّه إذا ظلمهم وجار عليهم تداركوا ذلك بظلم الآخرين والجور عليهم.

1185 ـ الأَمِيرُ السُّوءُ يَصْطَنِعُ الْبَذِيَّ .

الأمير والحاكم السيّء يُحسن إلى الّذين يفحشون القول للناس وينسبونهم إلى الأُمور القبيحة، ليكون ذلك مبرراً لجرائمه وسيّئاته.

1186 ـ الْجَمالُ الظَّاهِرُ حُسْنُ الصَّورَةِ، الْجَمالُ الْباطِنُ حُسْنُ السَّرِيرَةِ.

الجمال الظاهر هو جمال الوجه والهيئة، أمّا الجمال الباطن فهو حُسن السريرة والباطن، أي ما خفي عن الأعين من الخصال والطبائع والإرادات والمقاصد.

1187 ـ الْعاقِلُ مَنْ أَماتَ شَهْوَتَهُ .

العاقل هو من أمات شهوته ورغبته، فهو لا يشتهي أمراً يسبب خسرانه.

1188 ـ الْقَوِيُّ مَنْ قَمَعَ لَذَّتَهُ .

القويّ من قَمَع وسحق لذّته، أو من غلبها وقهرها، أو من أذلّ لذّته. أي من نفسه لا تتبع اللذات لأنّه قهرها وغلبها ولم يفسح المجال لكلّ ما يسبب خسرانه.

1189 ـ الْنِّفاقُ مِنْ أَثَافِي الْذُّلِّ .

النفاق ـ وهو عدم موافقة الظاهر للباطن ـ من أثافي الذلّ. والأثافي هي الأحجار الّتي توضع عليها القدر وتوقد النار أسفلها للطبخ. والمراد هو أنّ النفاق ـ سواءً مع الحقّ تعالى أو مع الخلق ـ من أُسس الذلّ وأركانه، وأنّ الذلّ والهوان يُنضج على هذه الأثافي، أي الذلّ والهوان في الآخرة، والذلّ والهوان في الدنيا أيضاً في أغلب الأوقات.

1190 ـ الْحُمْقُ مِنْ ثِمارِ الْجَهْلِ .

الحُمق من ثمار الجهل، فالشخص الّذي يُصبح عالماً يُصبح فطناً لا تصدر منه حماقة.

ولا يخفى أنّ الحمق بمعنى قلّة العقل، وهو على نوعين:

الأوّل بحسب الخلقة، بحيث يكون الشخص أبلهاً بالخلقة يمتنع تعلّمه. والثاني ليس بحسب الخلقة، بل يكون لدى الشخص قدراً من الشُعور يسمح له بالتعلّم، لكنّه لا يكسب العِلم، فلا يقوى عقله بذلك الاعتبار ولا يطّلع على حُسن الأشياء وقُبحها، فيفعل ما يفعله البلهى والحمقى. والحماقة الّتي هي من ثمار الجهل من هذا النوع. واستعمال الحماقة في خصوص هذا الأمر أكثر شيوعاً. أمّا النوع الأوّل فليس من ثمار الجهل، بل هي منشؤه. ولما امتنع الاختيار انتفى اللوم، بل ورد في الحديث أنّ «أكثر أهل الجنة البله».

ويمكن أن يكون «البلهى» بهذا المعنى، حيث لا تكليف لهم باعتبار قلّة عقلهم وبلاهتهم، فهم يدخلون الجنّة بمحض التفضّل.

لكن البعض من محققي العلماء قال بأنّ المراد في الحديث ليس الأبله بهذا المعنى، بل الجماعة المطبوعة على الخيرات، الغافلة عن الشرور، فكأنّهم بلهى لايفهمون.

وقال بعض: بأنّهم جماعة ذوي سريرة سليمة يُحسنون الظنّ بالناس، فهم ـ بهذا الاعتبار ـ لا حذق لهم في أُمور الدنيا ولا سلطة لهم فيها، ولذلك أهملوها وانصرفوا إلى أُمور الآخرة وأشغلوا نفوسهم فيها، فيخال للناس أنّهم بلهى لا عقل لهم.

وإنّ ما جاء في بعض الأحاديث من أنّه «... سيأتي عليكم زمان لا ينجو فيه من ذوي الدين إلاّ مَن ظنّوا أنّه أبله، وصبر نفسه على أن يُقال انّه أبله لا عقل له» يمكن أن يؤيّد تأويل الحديث المذكور.

1191 ـ الْجَزَعُ أَتْعَبُ مِنَ الصَّبْرِ .

1192 ـ الْخَيْرُ أَسْهَلُ مِنْ فِعْلِ الْشَّرِّ .

فِعل الخير أسهل وأيسر من فِعل الشرّ، لأنّ الإنسان في فعل الخير لا يخشّى اطّلاع أحد على عمله، خلافاً للشرّ الّذي يجب أن يستره عن كثير من الناس، والّذي يكون قلقاً من أن يكون أحد قد اطّلع عليه، كما أنّه إذا ارتكب ما يؤذي الآخرين كان عليه الحذر من انتقامهم، ولذلك فهو في خوف وحذر دائم. كما إنّ تحصيل الخيرات يحصل بالقصد والعزم والنيّة ولو لم يتيسّر فعل نفس الخيرات، خلافاً لعمل السوء الّذي إذا لم يفعله لم يُكتب عليه; فيكون ترك أمر سهل يسير مع كل الأمل في فضل الحقّ تعالى وإحسانه مقابل ذلك العمل وارتكاب أمر صعب مع كل الخوف من وباله ونكاله هو غاية الحمق والبلاهة.

1193 ـ الإشْتِغالُ بِالْفائِتِ يُضَيِّعُ الْوَقْتَ .

الاشتغال بأمر زائل ـ يعني بالمطالب الدنيويّة ـ يضيّع الوقت ويبعث على عدم صرف الوقت في ما يجب، من تحصيل الخيرات الأبدية والسعادات السرمديّة.

1194 ـ الْرَّغْبَةُ فِي الْدُّنْيا تُوجِبُ الْمَقْتَ .

الرغبة في الدنيا والحرص عليها يوجب مقت الحقّ تعالى.

1195 ـ الْمَشِيبُ رَسُولُ الْمَوْتِ .

المشيب رسول الموت، وإنّ التأخير بعد المشيب في تهيئة أمر سفر الآخرة هو كمال السفه والجهل.

1196 ـ الْمُجَرِّبُ(22) أَحْكَمُ مِنَ الطَّبِيبِ .

المجرّب أحكم وأعلم من الطبيب، أي أنّ من جرّب بنفسه نفع أو ضرر أمر ما صار ظنّه في ذلك الباب أقوى من ظنّ الطبيب الّذي حصل بالأسباب والعلامات أو بتجربة بعض المواد، فمن يعمل بقول الطبيب لا يليق به أن لا يعمل وفقاً لتجاربه الذاتية في كلّ باب، فيرتكب أمراً شاهد ضرره قلباً أو يترك شيئاً انتفع منه قبلا.

1197 ـ الْغَرِيبُ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَبِيبٌ .

الغريب من ليس له حبيب، فمن كان له حبيب فليس بغريب ولو كان في الغربة، ومن لم يكن له حبيب فهو غريب ولو كان في وطنه، فمن جعل الحقّ تعالى حبيبَه بالطاعة والانقياد له لم يكن غريباً أينما حلّ.

1198 ـ الْدُّنْيا كَيَوْم مَضى وَشَهْر انْقَضى .

الدنيا كيوم مضى وشهر انقضى، أي أنّ من يأتي إلى الدنيا فإنّه سينظر إليها بعين البصيرة ـ باعتبار أن فترة بقائه فيها فانية منقضية زائلة ـ بمنزلة يوم أو شهر تصرّم وانقضى، فمن كان له أدنى بصيرة أن لا ينشغل بها وأن لا يزيد سعيه لأجلها، بل يكون كمال سعيه واهتمامه منصبّاً على الآخرة الباقية الدائمة.

1199 ـ الْدُّنْيا دارُ الْغُرَباءِ وَمَوْطِنُ الأَشْقِياءِ .

الدنيا دار الغرباء وموطن الأشقياء، أي أنّها في الحقيقة دار ومنزل للغرباء يحلّون فيه أيّاماً ثمّ يرحلون إلى وطنهم الأصلي، فكما أنّ الغريب لا يسعى في تعمير مثل هذا المنزل فإنّه كذلك يجب أن لا يهتمّ في تعمير الدنيا، أمّا الأشقياء فإنّهم يعتبرون الدنيا وطنهم ومحلّ إقامتهم فيصرفون زبدة أوقاتهم في تعميرها.

1200 ـ الْمُسْتَشِيرُ مُتَحَصِّنٌ مِنَ السّقطِ(23) .

المستشير متحصّن من السقط، أي من الضرر والخسران في الدنيا والآخرة.

 

الهوامش:

(1) يوسف: 70.

(2) الأنبياء: 63.

(3) يوسف: 70.

(4) يوسف: 70 ـ 75.

(5) يوسف: 70.

(6) الأنبياء: 63.

(7) ورد في طبعة دمشق (ص 35، س 6) لفظ «رعاها»، وقال السيّد محمد جمال الدين الدمشقي في الهامش «رعاية الموعظة العمل بما تطلب»، أمّا في طبعة بمبي فقد ورد لفظ «دعاها» بالدال.

(8) ورد في طبعة دمشق لفظ «وعاها».

(9) الأحزاب: 72.

(10) كذا صريحاً بخط الشارح بضبط حركات الكلمة; وجاء في بعض النسخ المطبوعة الثلاثة «يتألّف»; وأظنّ أنّ أصل اللفظ كان «يؤلّف» من باب التفعيل.

(11) نسخ الغرر والدرر المطبوعة ثلاثتها توافق هذه القراءة.

(12) جاء في طبعة دمشق (ص 35، س 10): «الإِحسانُ جِسْرٌ وَالكَرِيمُ مَن جازَهُ».

(13) قال الشارح(رحمه الله) في الحاشية: ويمكن أن يكون المراد بالحديث المذكور أنّ مَن له قدر من الشعور بحيث يعرف نفسه، فإنّه سيعرف ربّه تحقيقاً ويعلم وجوب أن يكون له ربّ خلقه وربّاه.

(14) الضحى: 11.

(15) أورد السيّد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي ذيل هذه الفقرة (طبعة دمشق، ص 35، س 19) بياناً بهذا المضمون، حيث قال: «إظهار الغنى إنّما يكون بإظهار آثاره من الإحسان والورع ونحوهما، لا بالدعاوى الّتي سمّاها العوام تحدّثاً بالنعمة».

(16) في نسخة دمشق (ص 36، س 3) بلفظ «من المروءة»; وقال السيّد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي في ذيلها: «لأنّه يكون من الصبر وترك شكاية الحقّ للخلق».

(17) ورد في نسخة بمبي لفظ «أحسن» بدلا من «أجلّ».

(18) ورد في طبعة بمبي وطبعة صيدا لفظ «غيبته»، وفي طبعة دمشق لفظ «عيبه». وقال القاسمي الدمشقي ذيل العبارة: «لعلّ المراد: من صدق عيبه لمصادقه، فهو يعيب صديقه بما يستوجب عيبه ولا يكتمه عنه، وذلك نُصحاً له وإخلاصاً فيه; هذا إن قُرء «عيبه» بالعين المهملة كما هو في الأصل عندنا; وإن كان محرّفاً عن «غيبه» بالغين المعجمة ـ وهو الأظهر ـ فلا إشكال. والمعنى جليّ، إذ المراد صدقه في حفظ أخيه بظهر الغيب...» إلى آخره. جمال الدين الدمشقي.

(19) في نسخة صيدا «منه»; أمّا في طبعة دمشق فلا يوجد «منه» ولا «عنه».

(20) النسخ المطبوعة الثلاثة لـ «غرر الحكم ودرر الكلم» تطابق هذه النسخة (أُنظر طبعة صيدا ص 15، ص6; طبعة دمشق ص 37، س 9; وطبعة بمبي ص 29، س 12).

(21) النسخ المطبوعة الثلاثة للغرر والدرر تطابق هذه النسخة أيضاً.

(22) كذا بخطّ الشارح. وجاء في القاموس: «ورجل مجرّب كمعظّم بلى ما عنده، ومجرّب عرف الأمور».

(23) أورد الشارح(رحمه الله) كلمة «السقط» بفتح السين وسكون القاف، حيث يبدو من معناه الّذي عبّر عنه بالسقوط أنّه عدّه مصدراً، بينما صرّح أهل اللغة أنّ مصدر فعل «سقط» يأتي على وزن «سقوط» وأنّ قاعدته المطّردة هي كذلك، فقد قال ابن مالك:

وفعل اللازم مثل قعدا *** له فعول باطّراد كغدا»

ويأتي مصدره الميمي أيضاً على وزن «مسقط». قال في «القاموس»: «سقط سقوطاً ومسقطاً: وقع». فيجب إذاً أن تكون هذه الكلمة بفتح السين والقاف بقرينة معادلها وهو لفظ «الغَلَط» في نهاية الفقرة التالية. قال في «القاموس»: «والسقط ـ بالتحريك ـ ما أسقط من الشيء وما لا خير فيه. ج: أسقاط; والفضيحة ورديء المتاع، وبائعه السقاط والسقطى والخطأ في الحساب والقول وفي الكتاب». فيكون المراد هو أنّ المستشير متحصّن من الخطأ والغلط.

ومن حسن الصدف اننا التفتنا بعد كتابة هذه الحاشية إلى أنّ السيّد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي أورد هذه الكلمة كما ذكرنا، ونصّ عبارته الواردة ذيل هذه الفقرة (ص39): «السقط ـ بفتحتين أوّله ـ قال في القاموس: وبالتحريك ما أسقط ـ ثمّ نقل كلام الفيروزآبادي كما نقلناه ثمّ قال -: والمعنى أنّ المستشير في حصن من الشطط والخطل».