3501 ـ اِنَّ لِلنَّاسِ عُيُوباً فَلا تَكْشِفْ مَا غَابَ عَنْكَ فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يَحْكُمْ(1) عَلَيْها وَاسْتُرِ العَوْرَةَ ما اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهَ سُبْحانَهُ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ.

المراد من (العيوب) الذنوب، ومن (لا تكشف ما غاب عنك) انّه إذا أخفى إنسان ذنباً عنك ولم يعلن عنه أمامك فإذا اطّلعت عليه فلا تكشف عنه ولا تظهره، فانّ الله سبحانه سوف يحكم عليه وهو كاف له، والمراد من (العورة) كما تكرر ذكره هو ما يجب ستره من العيوب والذنوب والأخطاء والزلات، والمراد انّ من ستر عورات الناس، ولم يكشف عمّا اطّلع عليه منها، ستر الله سبحانه ما يحب ستره من عوراته ويعفو عنها، ولا يفضحه بالكشف عنها.

3502 ـ اِنَّ المَرْءَ عَلى ما قَدَّمَ قادِمٌ وَعَلى ما خَلَّفَ نادِمٌ.

«وعلى ما خلّف نادم» أي يندم على عدم بذله في موارد الخير لكي يحصل على ثوابه.

3503 ـ اِنَّ عَظِيمَ الأَجْرِ مُقارِنٌ عَظِيمَ البَلاءِ فَإِذا أَحَبَّ اللهُ سُبْحانَهُ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ.

«ابتلاهم» أي عرّضهم إِلى بلاء كي يستحقوا بسبب ذلك الأجر الّذي يتناسب مع ذلك البلاء.

3504 ـ اِنَّ الغَايَةَ أَمامَكُمْ وَإِنَّ السَّاعَةَ وَراءَكُمْ تَحْدُوكُمْ.

«تحدوكم» أي نحو العمل أو نحو القيامة لأنّها واقعة البتّة والإنسان مجبر على الرحيل نحوها وما يقع فيها، فهي مشبهة بمن يسوق هذا الإنسان حتّى يصل إِلى مكان ما، فكأنّ هناك شخصاً وراءه ويسوقه حتّى يوصله إِلى المنزل الّذي هو القيامة الّتي ستوجد أو ما يقع فيها من حشر ونشور وغيرهما. وقد جاء (وراء) بمعنى (أمام) أيضاً فيكون المعنى: (القيامة الّتي أمامكم) وهو بمنزلة التأكيد للسابق، وبناءً على ذلك سيكون (تحدوكم) مجازاً بمعنى تجذبكم لا بمعنى تسوقكم المعنى الحقيقي لها.

3505 ـ اِنَّ لَكُمْ نِهَايَةٌ فَانْتَهُوا إِلى نَهايَتِكُمْ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فانْتَهُوا بِعَلَمكُمْ.

أي انّ في كلّ عصر قد جعل الله تعالى لكم هادياً وهم أئمّة الحقّ صلوات الله عليهم أجمعين، فيجب أن تنتهي جميع عقائدكم وأعمالكم إِلى قوله وتكونوا أتباعاً له في كلّ مجال دون أن تتبعوا آراءكم واجتهادكم، والمراد بـ (النهاية) قد يكون هو ذلك العلم والهادي، وتكون الفقرة الثانية بياناً وتوضيحاً للفقرة الاُولى، وإطلاق (النهاية) عليه هو لوجوب انتهاء جميع العقائد إليه، وقد يكون المراد من (النهاية) هو الجنة ونعمها الّتي أعدها الله تعالى للمطيعين، وعليه يكون المعنى: انّ الله تعالى قد مهّد لكم عاقبة حسنة فأوصلوا أنفسكم إليها، وللوصول إليها جعل هادياً فأوصلوا أنفسكم إليه كي يهديكم ويمكنكم الوصول لتلك العاقبة.

3506 ـ اِنَّ الوَفَاءَ تَوْأَم الصِّدْقِ وَما أَعْرِفُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ.

«أوقى منه» أي من الوفاء أو الصدق، والمراد من (الوفاء) هو الوفاء بالعهود والوعود وحقوق الأرحام والأصدقاء والمؤمنين، وكون الوفاء أو الصدق جُنّة هو لكونه بمثابة الدرع الّذي يصون صاحبه من الآفات الدنيوية والأخروية.

3507 ـ اِنَّ بِأَهْلِ المَعْرُوفِ مِنَ الحَاجَةِ اِلى اصْطِناعِهِ أَكْثَرَ مِمَّا بِأَهْلِ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِمْ مِنْهُ.

المراد انّ حاجة أهل المعروف إِلى الإحسان أشد من حاجة الراغبين فيهم منه، أي من ذلك المعروف أو الاحسان، أي يرغبون رغبة ناشئة من معروفهم أو إحسانهم من أجل أخذه، و (كونها أكثر) ناشئ من أن إحسانهم يؤدي إِلى إعمار دنياهم وآخرتهم، والاحسان الّذي يقومون به لإنسان لا يوصل إليه إلاّ المنفعة الدنيوية إجمالا، وعليه فمن الواضح انّ حاجتهم إِلى الاحسان أشد من حاجة هؤلاء للرغبة فيهم بغية الاحسان.

3508 ـ اِنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ سَطَوت وَنَقِمات فِإِذا نَزَلَتْ بِكُمْ فَادْفَعُوها بِالدُّعاءِ فَإِنَّهُ لا يَدْفَعُ البَلاَءَ إلاَّ الدُّعاءُ.

المراد هو الحصر الاضافي، ويعني البلاء الّذي يكون من الله تعالى فإنّه لا يدفع بأيّ تدبير غير الدعاء، وهذا لا يتنافى مع اندفاعه أحياناً ببعض الاُمور الاُخرى كالصدقة، كما ورد في الأحاديث الاُخرى، وقد يكون المراد انّ التدبير لدفع البلاء المقدور عليه في كلّ حال هو الدعاء، وعليه يمكن أن يكون الحصر حقيقياً، والمراد من دفعه بعد نزوله هو دفع بقائه كما إذا مرض فيدعو للشفاء منه، أو المراد: إذا ظهرت علامات نزوله أو إذا عملتم أعمالا تتحملون نزول البلاء فادفعوا نزولها بالدعاء، ويمكن التقدير في الكلام فتكون حصيلة الكلام: إذا نزل البلاء فلا يمكن رده، فادفعوه بالدعاء قبل ذلك، وبناءً على الوجه الأوّل يكون المراد من «فادفعوها» هو العقوبات والبلايا الدنيوية، وبناءً على الوجوه الاُخرى يمكن أن يشمل العقوبات الأخروية أيضاً.

3509 ـ اِنَّ كَلامَ الحَكِيمِ إِذا كَانَ صَوابَاً كَانَ دَواءً وَإِذا كَانَ خَطأً كَانَ دَاءً.

المراد انّ العالم يجب أن يبذل جهده لئلا يخطأ ويسهو في كلامه، لأنّ الناس يستندون إِلى كلامه لعلمه ويعتقدون بمضمونه، فإذا كان صادقاً وصحيحاً فهو دواء لهم من مرض الجهل، وإذا كان خطأ واعتقد الناس به كان لهم داءً روحياً، لأنّه لا يوجد مرض أسوء من الجهل المركب أي الاعتقاد الفاسد.

3510 ـ اِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتراؤونَ مَنَازِلَ شِيعَتِنا كَما يَتَراءَى الرَّجُلُ مِنْكُمُ الكَواكِبَ فِي أُفِقِ السَّماءِ.

المراد ان منازل شيعة الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين أي أتباعهم في أعلى درجات الجنة حيث ينظر إليها أهل الجنة كنظرنا إِلى النجوم في أُفق السماء، و (الأُفق) يعني الجانب أو ما هو ظاهر من جوانب السماء.

3511 ـ اِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ أَنْصَحُهُمْ لِنَفْسِهِ وَأَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ.

هذا القول بمثابة البيان للقول السابق، فانّهم إذا كانوا أكثر طاعة لربّهم فانّهم أنصح لأنفسهم قطعاً.

3512 ـ اِنَّ أَغَشَّ النَّاسِ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ وأَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ.

هذا القول بمنزلة التأكيد للقول السابق أيضاً، لأنّ الّذين هم أكثر عصياناً لربّهم فانّهم أغش لأنفسهم قطعاً، وهاتان الفقرتان تستندان إِلى انّ الغش مع الآخرين هو في الحقيقة غش مع النفس، لأنّ ضرره يصل إِلى النفس أكثر من الاضرار بالآخرين، وعليه فانّ أنصح الناس على الإطلاق هو الأنصح مع نفسه، وهكذا أغشهم على الإطلاق هو الأغش مع نفسه، ويعمل ما يضر بنفسه.

3513 ـ اِنَّ الدُّنْيا ماضِيَةٌ بِكُمْ عَلىْ سُنَن وَأَنْتُمْ وَالآخِرَةِ فِي قَرْن.

انّ الدنيا تسير بكم بسرعة وعجل أو على نهج وجهة أي على نهجها وجهتها أو على أيّ نهج وجهة، وأنتم والآخرة في قرن واحد أي تكونان معاً ولا تفترقان، فلابدّ أن تهتموا في اعمارها إذ هي محل قراركم وتكون دائمة وليست كالدنيا الّتي تأخذكم سريعاً إِلى أيّ وجه كان ولا قرار فيها ولا بقاء.

3514 ـ اِنَّ الدُّنْيا لَمُفْسِدَةُ الدِّينِ مُسْلِبَةُ اليَقِينِ وَإِنَّها لَرَأسُ الفِتَنِ وَأَصْلُ المِحَنِ.

والمراد هو الحرص على الدنيا والاهتمام الشديد لتحصيلها، ومن الواضح انّ هذا الأمر يفسد الدين وهو علامة عدم اليقين بالآخرة، أو انّه يعمل على زوال اليقين بها تدريجاً، وكونها رأس الفتن في الآخرة والدنيا وأصل المحن والمشاق في الدارين واضح ولا يحتاج إِلى بيان.

3515 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنيمَةَ الأَكْياسِ عِنْدَ تَفريِطِ العَجَزَةِ.

أي حينما يقصّر العاجزون الّذين يعجزون عن التغلب على أهوائهم وشهواتهم في طاعة الله تعالى وامتثال أمره، تكون اطاعته وامتثال أمره في ذلك الحين غنيمة يحوزها الأذكياء، وتختص بهم، لأنّ العاقل الذكي لا ينخدع بالهوى والشهوات ومهما قويا عنده فانّ عقله وذكاؤه يتغلبان عليهما ويلازمان الطاعة وامتثال الأمر، والهدف هو مدح العقل والذكاء وبيان فضيلتهما، وقد يكون المراد انّ الله تعالى يعطي ثواب الطاعة في ذلك الحين الّذي لا يطيع فيه العاجزون للأذكياء الّذين يطيعيون وهذه غنيمة لهم، والله تعالى يعلم.

3516 ـ اِنَّ النَّارَ لا يَنْقُصُها ما أُخِذَ مِنْها وَلَكِنْ يُخْمِدُها أَنْ لا تَجِدَ حَطَباً وَكَذلِكَ العِلْمُ لا يُفنِيهِ الإقْتِبَاسُ لَكِنْ بُخْلُ الحامِلِينَ لَهُ سَبَبُ عَدِمِه.

المراد ان العلم بمثابة النار، فإذا أُخذ منها شيء فانّها كالمصباح الّذي يضاء به مصباح آخر لا ينقصه شيء، ولكن يخمده إذا لم تجد أو لا تجد النار حطباً لتحرقه وتبقى مضيئة، وهكذا العلم فانّه لا يفنيه الاقتباس منه واستيعابه، ولكن بخل حامليه وهم العلماء يكون سبباً لفقدانه، لأنّهم إذا بخلوا ولم يعلّموا الآخرين لا تصله مادة أُخرى فانّه يعدم بفقدانهم كالنار الّتي لا تجد حطباً تشتعل به، لأنّ تلك الخشبة الّتي اشتعلت إذا احترقت وانتهت خمدت تلك النار وفقدت، والغرض هو حث العلماء على تعليم الناس، وانّ ذلك لا يضرّهم ولا ينقص علمهم بل يسبب بقاءه وهو أفضل الفضائل، عكس ما لو بخلوا ولم يعلّموا الآخرين فسرعان ما يؤدي إِلى ندرة العلم وفقدانه.

3517 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يُعْطِي الدُّنْيا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبَّ وَلا يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ مَنْ يُحِبُّ.

الدين يعني الجزاء وإطلاق الدين على الشريعة ناشئ من انّ اطاعتها يكون سبباً للجزاء الحسن، ومخالفتها يستدعي الجزاء السيء، وقد يكون المراد بـ (الدين) في هذا القول المبارك هو الآخرة ونعمها، وهي جزاء الاطاعة وامتثال الأمر في الدنيا، وعليه فانّ (اعطاء الله إيّاها لمن يحبه) واضح.

وقد يكون المراد هو الالتزام الديني والإيمان بالشريعة الحقة واطاعتها، وعليه فالمراد انّ من يحبه لصلاح ذاته وحسن صفاته وأفعاله يزداد لطفه به ممّا يؤدي إِلى رسوخ التزامه الديني وثباته فيه، عكس من لا يحبه لخبث ذاته وصفاته وعصيانه، فلا يوليه لطفاً كثيراً واكتفى لهدايته باراءة الطريق، وببعض الألطاف الضرورية لأصل التكليف.

3518 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يَمْنَحُ المَالَ مَنْ يُحِبُّ وَيَبْغِضُ وَلا يَمْنَحُ العِلْمَ إلاَّ مَنْ أَحَبَّ.

أي ما لم يحبه الله تعالى لصلاح ذاته وحسن صفاته وأفعاله، فانّه لا يوفقه للعلم ولا يوفّر له أسبابه، واكتفى للآخرين بمنح القابلية والاستعداد الّذي منحه للجميع، وما هو ضروري للاقتدار على تحصيله، ولا يوليه لطفاً كثيراً يقربه إليه.

3519 ـ اِنَّ اللهَ تَعالَى لا يُعْطِي الدِّينَ إلاَّ لِخَاصَّتِهِ وَصَفْوَتِهِ(2) مِنْ خَلْقِهِ.

هذا القول يطابق مضمون القول السابق الّذي تم شرحه وتوضيحه.

3520 ـ اِنَّ لِلإِسْلامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلى غَايَتِهِ وَاخْرُجُوا إِلى اللهِ مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حُقُوقِه.

المراد انّ للإسلام نهاية وعاقبة لابدّ للإنسان أن يصل إليها أو انّ له غرضاً وعلة غائية تترتب عليها، وهي دخول الجنة والتمتع بنعمها والفوز برضا الله تعالى والقرب والحظوة لديه، فافعلوا ما يوصلكم إِلى تلك الغاية ولا تحرموا منها وذلك بالخروج من ذمة ما فرضه الله تعالى عليكم من حقوقه في الطاعات والعبادات وغيرها، فانّكم إن وفيتم بها وأديتم تلك الحقوق ستصلون إِلى تلك الغاية، وإلاّ فان إسلامكم ناقص ولا يترتب عليه ثمرة تذكر.

3521 ـ اِنَّتَخْلِيصَ النِّيَّةِ مِنَ الفَسَادِ أَشَدُّ عَلَى العَامِلِينَ مِنْ طُولِ الإجْتِهادِ.

المراد انّ اخلاص النية في الطاعات بأن تكون لرضا الله تعالى فقط دون أن يشوبها غرض آخر من الرياء والسمعة وما شاكلهما، وهكذا اخلاص النية بالنسبة للناس، أي اخلاص القصد والفكر معهم وعدم تتبع مساوئهم بل إرادة الصلاح إليهم، يكون أصعب على العاملين من بذل الطاقة أو تحمل الآلام والمشاق في الأعمال المطولة من العبادات وغيرها، والهدف هو الحث على الاهتمام البالغ في اخلاص النية، وانّ ذلك لن يحصل بسهولة، وهكذا الإشارة إِلى ترجيح النية الحسنة وفضلها على أصل العمل، كما ورد في الحديث المشهور: (نية المؤمن خير من عمله)(3) لأنّ أفضل الحسنات أصعبها دون الأعمال السهلة، كما ورد في الحديث: (أفضل الأعمال أحمزها)(4).

3522 ـ اِنَّ أَمامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسافَة بَعِيدَة وَمَشَقَّة شَدِيدَة وَلا غِنى بِكَ مِنْ حُسْنِ الإرْتيادِ قَدْرِ بَلاغِكَ مِنَ الزَّادِ.

المراد انّ أمامك طريق الآخرة وهو طويل المسافة وأتعابه ومشاقّة شديدة، فلابدّ لك من حسن الطلب وممّا يكفيك من الزاد لهذا الطريق، وهذا شرح لأمر لابدّ من حسن طلبه، والهدف هو الحث على السعي لزاد هذا الطريق وتهيئة أسبابه.

3523 ـ اِنَّ النَّفْسَ الّتي تَطْلُبُ الرَّغَائِبَ الفَانِيَةَ لَتَهْلِكُ فِي طَلَبِها وَتَشْقَى فِي مُنْقَلَبِها.

(الرغائب) جمع رغيبة، والرغيبة هي العطاء الوفير، أو كلّ أمر يرغب فيه ويتمناه الناس، والمراد من «الرغائب الفانية» الرغائب الدنيوية الّتي تفنى بسرعة، و«لتهلك في طلبها» أي طلبك لها ] والهلاك[ امّا الهلاك الأخروي وعليه يكون «وتشقى في منقلبها» بياناً له، أو الهلاك باعتبار التعب والألم الكثير الملازم لذلك الطلب، أو انّ المراد بقرينة المقابلة مع القول اللاحقّ حرمانه من تلك المطالب في أكثر الأزمان وعدم الوصول إليها.

3524 ـ اِنَّ النَّفْسَ الّتي تَجْهَدُ فِي اقْتِناءِ الرَّغائِبِ الباقِيَةِ لَتُدْرِكُ طَلَبَها وَتَسْعَدُ فِي مُنْقَلِبها.

3525 ـ اِنَّ لِلَّهِ تَعَالى فِي السَّرَّاءِ نِعْمَةَ الإفْضَالِ وَفِي الضَّرَّاءِ نِعْمَةَ التَطْهِيرِ.

أي انّ لله تعالى في السراء والضراء كليهما نعمة على الإنسان، ففي السراء نعمة الإحسان بما يرضيه، وفي الضراء بما يكون سبباً لتطهيره من الذنوب، فينبغي الرضا بكلّ ما يحدث منهما والشكر على النعمة في كلّ حال.

3526 ـ اِنَّ مَنْ أَعْطى مَنْ حَرَمَهُ وَوَصَلَ مَنْ قَطَعَهُ وَعَفى عَمَّنْ ظَلَمَهُ كَانَ لَهُ مِنَ اللهِ سُبْحانَهُ الظَّهِيرُ وَالنَّصِيرُ.

3527 ـ اِنَّ مَثَلَ الدُّنْيا والآخِرَةِ كَرَجُل لَهُ امْرَأَتانِ إِذا أَرْضَى إِحْداهُما أَسْخَطَ الاُخْرى.

والغرض انّه لا يمكن الجمع بين الاهتمام باُمور الدنيا والآخرة معاً، فإذا توجّه إِلى أيّ منهما تعذّر عليه تحصيل الاُخرى كما ينبغي فعلى من أراد الآخرة أن يترك الاهتمام باُمور الدنيا.

3528 ـ اِنَّ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا بِمَحَالِ الآمالِ وَخَدَعَتْهُ بِزُورِ الأَمانِي أَوْرَثَتْهُ كَمَهاً وأَلْبَسَتْهُ عَمَىً وَقَطَعَتْهُ عَنِ الأُخْرى وَأَوْرَدَتْهُ مَوارِدَ الرَّدى.

(المُحال) بضمّ الميم يطلق على الشيء المنقلب عن وجهته الأصلية، ولذا يقال لما لا يمكن تحققه من الأشياء (محال) والمراد خداع الدنيا بالآمال المحالة أي الّتي لا تتحقق، وهكذا «بزور الأماني» أي الأماني الكاذبة الّتي لا تتحقق، ويمكن قراءة (محال) بكسر الميم بمعنى المكر أي تخدعه بمكر الآمال، و«زور الأمالي» أي ما تقوله بلسان حالها: سوف يكون كذا وكذا وكلّه يكون كذباً ومكراً صرفاً، وفي(5) بعض النسخ ورد (وآكسبته عَمَها) بدلا عن (ألبسته عمى) فيكون المعنى انّها تزيده عمهاً في الضلال أو الحيرة أو عدم معرفة الحجة والبرهان.

3529 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ أَبى أَنْ يَجْعَلَ أرْزاقَ عِبادِهِ المُؤْمِنينَ إِلاّ مِنْ حَيْث لا يَحْتَسِبُونَ.

يمكن أن يكون من جملة معاني هذا الكلام انّه: إذا كان رزق الإنسان هكذا وليس له طريق معلوم اشتدّ توسله بحضرته تعالى وتوكله عليه وسؤاله منه ودعاؤه إياه، وهذا الأمر يزيده أجراً وثواباً وفضلا في شأنه ومنزلته.

3530 ـ اِنَّ المُؤْمِنينَ هَيْنُونَ لَيْنُونَ.

3531 ـ اِنَّ المُؤْمِنينَ مُحْسِنُونَ.

3532 ـ اِنَّ المُؤْمِنينَ خَائِفُونَ .

أي خائفون من الله عز وجل .

3533 ـ اِنَّ سَخَاءِ النَّفْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ لأَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ البَذْلِ. انّ سخاء النفس عمّا في أيدي الناس بعدم الطمع فيه وعدم طلبه أفضل من سخاء البذل.

3534 ـ اِنَّ الوَعْظَ الَّذي لا يَمُجُّهُ سَمْعٌ وَلا يَعْدِلُهُ نَفْعٌ ما سَكَتَ عَنْهُ لِسانُ القَوْلِ وَنَطَقَ بِهِ لِسانُ الفِعْلِ.

يُراد منه انّ أفضل المواعظ أن يكون الإنسان حسن الأعمال ليعتبر به الناس ويستنّون بهديه.

3535 ـ اِنَّ المِسْكِينَ رَسُولُ اللهِ فَمَنْ أَعْطاهُ فَقَدْ أَعْطى اللهَ وَمَنْ مَنَعَهُ فَقَدْ مَنَعَ اللهَ سُبْحانَهُ.

3536 ـ اِنَّ أَفْضَلَ الدِّينِ الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ وَالأَخْذُ فِي اللهِ وَالعَطَاءُ فِي اللهِ سُبْحَانَهُ.

المراد انّ أفضل التدين هو أن يكون كلّ ما يفعله الإنسان لله تعالى، ويلاحظ فيه رجحانه الشرعي، كأن تكون محبّته لأي إنسان لله تعالى ومن أجل إيمانه وصلاحه، ويكون عداؤه لأيّ إنسان في سبيل الله ومن أجل سوء عمله لعدم إيمانه وفسقه، وأن يكون ما يأخذه ويقبله في سبيل الله ويكون أخذه راجح له شرعاً أو لاحتياجه إليه هو أو عياله، أو ليعطيه لمستحق محتاج أو يكون هدية قدمها له بعض المؤمنين وإذا ردّها سبّب أذاه وهكذا، وأن يكون كلّ ما يبذله في سبيل الله، ولمن يرجح شرعاً الانفاق عليه باعتبار استحقاقه أو كونه صلة للرحم وأمثال ذلك.

3537 ـ اِنَّ الدِّينَ لَشَجَرةٌ(6) أَصْلُها اليَقينُ بِاللهِ وَثَمَرهُا المُولاةُ فِي اللهِ وَالمُعاداةُ فِي اللهِ سُبْحَانَهُ.

3538 ـ اِنَّ مَكْرُمَةً صَنَعْتَها إلى أَحَد مِنَ النَّاسِ إِنَّما أَكْرَمْتَ بِها نَفْسَكَ وَزَيَّنْتَ بِها عِرْضَكَ فَلا تَطْلُبْ مِنْ غَيْرِكَ شُكْرَ ما صَنَعْتَ إِلى نَفْسِكَ.

والمراد انّ من يحسن فانّه يحسن لنفسه في الحقيقة لأنّه يجعل نفسه كريمة ومستحقة للأجر والثواب، وزيّن عرضه فعليه أن يشكر نفسه ولا يتوقع شكر من أحسن إليه أو غيره، وإنْ كان من المفروض شكره شرعاً وعقلا من قبل من أحسن إليه حيث من الواضح عدم التنافي بين لزوم الشكر عليه وبين عدم انتظار المحسن شكره، والمراد من (العِرض) كما ذكر قبل هذا هو ما يحفظه الإنسان من حسب ونسب من تعرّضه للنقص أو العيب والعار.

3539 ـ اِنَّ مِنْ مَكارِمِ الأَخْلاقِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.

3540 ـ اِنَّ اللهَ تَعالَى يُدْخِلُ بِحُسْنِ النِّيّةِ وَصَالِحِ السَّرِيرَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ الجَنَّةَ.

المراد انّ الله تعالى قد يدخل بعض عباده الجنة لما فيه من نية وقصد صالح وباطن سليم ونزيه دون غش، وانْ لم يصنع شيئاً يستحق به الجنة.

3541 ـ اِنَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ عَقْلا قَوِيماً وَعَمَلا مُسْتَقِيماً فَقَدْ ظَاهَرَ لَدَيْهِ النِّعْمَةَ وَأَعْظَمَ عَلَيْهِ المِنَّةَ.

(وأعظم عليه النّعمة) يعني النعمة أو ما يكون سبباً للمنّة ويستحق الامتنان به وهو النعمة نفسها.

3542 ـ اِنَّ المُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلى طَاعَةِ اللهِ وَعَنْ مَعاصِيهِ عِنْدَ اللهِ سُبْحانَهُ بِمَنْزِلَةَ بَرٍّ شَهِيد.

أي انّه بمنزلة المحسن الّذي يستشهد في المعركة الّتي شارك فيها بأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام الحقّ(عليه السلام); لأنّ مثل هذا المجاهد محسن، وقد قتل نفسه بأمرهم فهو بمنزلة البرّ الشهيد.

3543 ـ اِنَّ العَاقِلَ مَنْ عَقْلُهُ فِي إِرْشَاد وَمَنْ رَأْيُهُ فِي ازْدِياد فَلِذَلِكَ رَأْيُهُ سَدِيدٌ وَفِعْلُهُ حَمِيدٌ.

3544 ـ اِنَّ الجاهِلَ مِنْ جَهْلُهُ فِي إِغْواء وَمَنْ هَواهُ فِي إِغْراء فَقَوْلُهُ سَقِيمٌ وَفِعْلُهُ ذَمِيمٌ.

3545 ـ اِنَّ هَذِهِ القُلُوبَ تَمِلُّ كَما تَمِلُّ الأَبْدانُ فَابْتَغُوا لَها طَرائِفَ الحِكَمِ.

أي انّ وسيلة رفع الملل عنها هو أن تطلبوا لها حكماً جديدة، أي حقائق ومعارف جديدة فيغمرها السرور بتعلّمها والتأمّل فيها، ويذهب عنها الكدر والملل.

3546 ـ اِنَّ أَفْضَلَ الخَيْرِ صَدَّقَةُ السِّرِّ وَبِرُّ الوَالِدَينِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ.

3547 ـ اِنَّ المُؤْمِنَ يُرى يَقِينُهُ فِي عَمَلِهِ وَإِنَّ المُنافِقَ يُرى شَكُّهُ فِي عَمَلِهِ.

أي انّ من أفعال المؤمن وأعماله يظهر يقينه بالمبدأ والمعاد، ومن أعمال المنافق وأفعاله يتضح شكه وعدم يقينه بهما.

3548 ـ اِنَّ أَوْلِياءِ اللهِ تَعَالى كُلُّ مُسْتَقْرِب أَجَلَهُ مُكَذِّب أَمَلَهُ كَثِير عَمَلُهُ قَليل زَلَلُهُ.

المراد من (استقراب الأجل) هو أن يعمل عمل من يعتقد بقرب أجله، وذلك من خلال الاهتمام البالغ في أداء الطاعات والاحتراز من المعاصي، ولا يسمح للتسويف والتأخير في أعمال الخير، أو يعتقد قربه في الواقع نظراً إِلى انّه قريب واقعاً وإن طال أمده، وبهذا الاعتبار ينهمك دائماً في الطاعات، ويجنب نفسه المعاصي، وقد يكون كناية عن انّه لا يتخذ لنفسه آمالا عريضة وبعيدة، ويحتمل كلّ آن حلول الأجل ويرتقب قدومه، والمراد من (تكذيب الأمل) هو انّه يعتقد بكذبه، أي يعتقد انّ أكثر الآمال كاذبة ولا تتحقق، فينبغي عدم اتباعها.

3549 ـ اِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لا يَحتَمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلايمانِ وَلا يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَأَحْلامٌ رَزِينَةٌ.

انّ أمرنا صعب مستصعب، وقد يقرأ (مستصعب) بكسر العين بصيغة اسم الفاعل فيعني الصعب ويكون تأكيداً، لا يطيقه إلاّ عبد اختبر الله تعالى قلبه للإيمان، ولا يحفظ حديثنا إلاّ الصدور الأمينة والعقول الوقورة الواعدة، والمراد من (نا) هو الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين، وقد يكون المراد من (أمرهم) هو حالهم وشأنهم ومرتبتهم ومنزلتهم والمراد انّه أمر صعب في الواقع ويستصعبه الناس ولا يقبلونه، و (لا يحتمله) يعني لا يقبله أو لا يصل إِلى حقيقة كنهه إلاّ من فتح الله قلبه للإيمان أو امتحن قلبه للإيمان أي علم انّ قلبه أهل للإيمان بها فمنَّ عليه بالإيمان بها، والمراد من (لا يعي حديثنا) هو ما ذكر يعني انّ ما يروى عن حقيقة أحوالنا لا يمكن حفظه والاعتقاد به إلاّ الصدور الأمينة والعقول الوقورة والواعدة الّتي لا تنفذ إليها الشكوك والشبهات، فلا تكون مضطربة وحائرة بسببها.

وقد يكون المراد من «أمرنا» هو الأمر أي انّ أوامرنا واطاعتنا فيها كما ينبغي تكون صعبة مستصعبة ولا يحتملها أي لا يطيعها إلاّ عبد قد فتح الله قلبه للإيمان أو اختبره للإيمان لأنّنا لا نسمح أساساً بالتساهل والمداهنة في أحكام الشريعة المقدسة، ولا نتسامح فيها كما هو حال الأئمّة الآخرين من أئمّة الضلال.

والمراد من (لا يحفظ حديثنا) هو ما ذكر، أي لا يحفظ حديثنا كما تكون حقيقة آلحفظ بأن يعمل بها، ولا يتجاوز عن شيء منها إلاّ الصدور والعقول المتصفة بكذا وكذا، وقد يكون المراد من (حفظ حديثهم) هو حفظ بعض أحاديثهم أي فهمها، ويكون المراد: انّ بعض أحاديثنا لا يفهمها إلاّ العبد الّذي يكون بهذه الصفات، كالآيات المتشابهة في القرآن الكريم الّتي لا يعلم تأويلها إلاّ الراسخون في العلم.

وقد يكون المراد من «الأمر» هو هذا، والمقصود من القول كلّه: انّ بعض أحاديثنا لا يفهمها كلّ إنسان، لا يتقبلها إلاّ العبد الفلاني والصدور والعقول الّتي تكون بتلك الصفة والعقول الاُخرى قاصرة عن فهمها، وما تفهمها منها لا تعتبرها أمراً معقولا فيردونها، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي عن الإمام الناطق بالحقّ جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: (ذكرت التقية يوماً عند عليّ بن الحسين(عليهما السلام) فقال: والله لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما، فما ظنّكم بسائر الخلق، انّ علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلاّ نبيّ مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: وإنّما صار سلمان من العلماء لأنّه أمرء منّا أهل البيت، فلذلك نسبته إِلى العلماء(7).

لأنّ ظاهر هذا الحديث هو انّ في علوم العلماء يعني أهل البيت(عليهم السلام) وبعض الّذين ألحقوا بهم باعتبار المعرفة الكاملة والعلم كالصحابي سلمان الوارد في حقه: (سلمان منّا أهل البيت)، العلم الّذي لا يحتمله إلاّ نبيّ مرسل أو ملك مقرب أو عبد شرح الله قلبه للإيمان.

والمراد من (لا يحتمله إلاّ هؤلاء المذكورين) امّا انّهم لا يفهمونها ويعجزون عن إدراك كنه حقيقتها بل يعتبرون ذلك كفراً، ولذلك قالوا: (لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله) يعني إذا كان يطّلع على بعض عقائده لقتله، لأنّ عقله كان عاجزاً عن الوصول إِلى حقيقتها، وكان يعتبر ما يفهمه منها شرّاً وكفراً ويستحق صاحب تلك العقائد القتل، فكان يقتله، أو انّ غيرهم لا يتحملون تلك العلوم ولا يطيقونها، وعليه يكون المراد من (لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله) هو أنّ أبا ذر لم يتحمل تلك العلوم وكانت تقتله تلك العلوم نظراً إِلى عدم تحمل قدرته الاستيعابية لتلك العلوم ولا انّه يقتل سلمان كما ذكر في المعنى الأول.

وأمّا ما رواه في الكتاب المذكور عن الإمام محمّد الباقر صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: (قال رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) انّ حديث آل محمّد صعب مستعصب لا يؤمن به إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فلأنت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه، وما اشمأزّت منه قلوبكم وانكرتموه فردّوه إِلى الله وإِلى الرسول وإِلى العالم من آل محمّد، وإنّما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه ثمّ لا يحتمله، فيقول: والله ما كان هذا والله ما كان هذا، والانكار هو الكفر»(8).

اذن يرد هنا الاحتمالين، الأوّل والثاني يعني كلّ ما تسمعونه من أحوال آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أو من أحاديثهم ثمّ لم ترفضها عقولكم وعرفتها أي اعتبرتها مطابقة للعقل فاقبلوه، وكلّ ما أبته عقولكم وأنكرتها فردّوها، أي ردوا علم التأويل فيها إِلى الله والرسول والإمام ولا تنكروها ولا تقولوا: لم تكن أحوالهم كذلك، أو انّ هذا الحديث لم يصدر منهم وخطأ; لأنّه أحياناً يكون كذلك أو يكون صادراً عنهم، ولم تتوصل إليه عقولكم فيكون إنكارها كفراً، فبمجرد عدم إدراك عقولكم لها لا تنكروها بل قولوا: إذا كان هذا حقاً فله تأويل يعلمه الله والرسول والإمام.

وروى في الكتاب المذكور أيضاً عن بعض أصحابنا قوله: كتبت إِلى أبي الحسن (الإمام عليّ الهادي(عليه السلام)): جعلت فداك ما معنى قول الصادق(عليه السلام): حديثنا لا يحتمله ملك مقرب ولا نبيّ مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فجاء الجواب: إنّما معنى قول الصادق(عليه السلام) ـ أي: لا يحتمله ملك ولا نبيّ ولا مؤمن ـ انّ الملك لا يحتمله حتّى يخرجه إِلى ملك غيره، والنبيّ لا يحتمله حتّى يخرجه إِلى نبيّ غيره، و المؤمن لا يحتمله حتّى يخرجه إِلى مؤمن غيره، فهذا معنى قول جدي(عليه السلام)»(9).

ولا يخفى انّ هذا الحديث الشريف يحتمل المعنيين أيضاً، وليس المراد من تفسير ] حديث[ الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه انّ أيّ ملك مقرب ونبيّ مرسل ومؤمن امتحن الله قلبه للإيمان لا يحتمل ذلك; لأنّهم يحتملون ذلك كما ذكر في الأحاديث السابقة، بل المراد: لا يحمله ملك مقرب لملك آخر لأنّه ليس كلّ ملك يتحمل ذلك، أو يصل إِلى كنهه، وهكذا في النبيّ المرسل والمؤمن، وعليه لا منافاة بين الأحاديث المذكورة، والله تعالى يعلم.

3550 ـ اِنَّ اللهَ تَعَالى اطَّلَعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَنا وَاخْتَارَ لَنا شِيْعَةً يَنْصُرُونَنَا وَيَفْرَحَوُنَ لِفَرَحِنا وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنا وَيَبْذَلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فِينا فأُولئِكَ مِنّا وإِلَيْنا وَهُمْ مَعَنا فِي الجِنانِ.

والمراد من (اطّلع إِلى الأرض) هو التوجه لتدبيرها، أي في العلم الأزلي الّذي قام بتقدير تدبير الأرض اختارنا، «فأُولئك منّا وإلينا» أي رجوعهم إلينا في الدنيا والآخرة، وبقية القول غني عن البيان.

3551 ـ اِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ خَشِنٌ مُخْشَوْشِنٌ سِرٌّ مُسْتَسِرٌّ مُقَنَّعٌ لا يَحْمِلُهُ إِلاَّ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أو مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ سُبْحانَهُ قَلْبَهُ لِلايمانِ.

الظاهر انّ المراد من (أمرنا) هو حالهم وشأنهم كما ذكر أوّلا في شرح القول السابق، وقد يكون المراد هو بعض أحاديثهم المتشابهة كما ذكر هناك أخيراً، و (خشن مخشوش) تأكيد لـ (صعب مستصعب) ويعني انّ إدراك كنهه وفهمه والتصديق به صعب جداً، و (سر مستسرّ مقنّع) تأكيد لها أيضاً، أي خاف ومستور عن إدراك الناس ولم يجدوه وكأنّ ستاراً قد سدل عليها، و (مرسل) يطلق على النبيّ الّذي بعث مع كتاب أو دين جديد، وقد يكون المراد هو مطلق الرسول من قبل الله فيكون تأكيداً لـ (نبيّ) وبناءً على الأوّل يكون تخصيصاً.

3552 ـ اِنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسان مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ فَإِذا جَاءَ أَجَلُهُ خَلَّيا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وإِنَّ الأَجَلَ لَجُنَّةٌ حَصِينَةٌ.

(الأجل) يطلق على الموت، كما يطلق على مدة العمر في الحياة، والأجل الأوّل في هذا القول المبارك جاء بالمعنى الأوّل والأجل الثاني بالمعنى الثاني، وكون الأجل جنة حصينة ناشئ من انّه الإنسان إذا قدّر له مدّة زمنية لحياته، فلابدّ أن يتحقق ذلك ويعجز مائة ألف سيف عن قطع حبل عمره الرقيق في هذه المدّة، فكأنّه درع حافظ له.

3553 ـ اِنَّ فَضْلَ القَوْلِ عَلى الفِعْلِ لَهُجْنَةٌ وَإِنَّ فَضْلَ الفِعْلِ عَلى القَولِ لَجَمالٌ وَزِينةٌ.

المراد زيادة المواعيد وأمثالها على العمل بها، وهكذا زيادة الاحسان والانعام وأمثالهما على ما يقول ويعد به.

3554 ـ اِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيا لَتَبكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا وَيَكْثِرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا بِما أُوتُوا.

أي ان الزاهدين وان ضحكوا بين الناس إلاّ انّ قلوبهم لتبكي من شدة الخوف من عاقبة أمرهم، وهكذا فانّهم وإن فرحوا في الظاهر إلاّ انّ باطنهم لحزين، ومهما أعطوا من أخلاق حميدة وأفعال محمودة يتمنّى الناس مثلها فانّهم مع هذا معادون لأنفسهم لأنّهم يعتبرونها مقصرة وعاصية.

3555 ـ اِنَّ الأَكْياسَ هُمُ الَّذِينَ لِلدُّنْيا مَقَتُوا وَأَعْيُنَهُمْ عَنْ زَهْرَتِهَا أَغْمَضُوا وَقُلُوبَهُمْ عَنها صَرَفُوا وَبِالدَّارِ الباقِيةِ تَوَلَّهُوا.

3556 ـ اِنَّ العَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالأَدَبِ وَالبَهَائِمُ لا تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ.

والمراد انّ العاقل يتعظ بالأدب وحده، فلا حاجة للاتّعاظ إِلى الضرب كالبهائم، والمراد من (الأدب) هو الدراسة والتعليم، أي انّ العاقل عندما يُعلّم الخير والشرّ يتعظ ويمارس الأعمال الحسنة ويجتنب السيئات، أو المراد هو الزجر والصد مع اللين دون أن يصل إِلى درجة الضرب، والمراد انّ العاقل ينبغي أن يتعظ بذلك القدر من الزجر والمنع ويتوقف عمّا منع منه دون حاجة إِلى ضربه، فمن لم يكن كذلك كان بمثابة البهائم.

3557 ـ اِنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ مَلَكَاً يُنادِي فِي كُلِّ يَوْم يا أَهْلَ الدُّنْيا لِدُوا لِلَمْوتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَاجْمَعُوا لِلذِّهابِ.

أي من يولد فانّ عاقبة أمره الموت، وكلّ ما بني فانّ مصيره الخراب، وكلّ ما جمع فانّ نهايته التشتت والذهاب، فكأنّ لكلّ منها غاية، والغرض انّ الدنيا ليست محل القرار، فلا تستحق التعلّق القلبي بها، واتحاد البناء فيها أكثر من حدّ الضرورة لغو وعبث، وهكذا جمع المال وتوفيره.

3558 ـ اِنَّ السُّعَداءَ بِالدُّنْيا غَداً هُمُ الهارِبُونَ مِنْها اليَوْمَ.

أي انّ الّذين يفرّون اليوم من الدنيا ويرغبون عنها، سيكونون غداً من السعداء بسبب الدنيا، لأنّ الفرار فيها سبّب سعادتهم.

3559 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَنَهى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالظُّلْمِ.

«العدل» امّا بمعنى العدالة أو الّذي يقابل الفسق، وقد تكرّر تحقيقه.

3560 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوالِ الأَغْنِياءِ أَقْواتَ الفُقَراءِ فَما جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِما مَنَعَ غَنِيٌّ وَاللهُ سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.

(القوت) يعني حد الضرورة من الرزق، و المراد انّ الله تعالى فرض للفقراء من الرزق بمقدار ما يكون ضرورياً لهم، ويكفيهم في أموال الأغنياء من الزكاة والخمس وغيرهما، فإذا أُعطي جميع ذلك لم يعانِ فقير من الجوع والضيق، فإذا جاع فقير أو عانى من الضيق فهو بسبب منع الغني حقه، ولم يعطه إيّاه والله يسأل هؤلاء الأغنياء.

3561 ـ اِنَّ المَرْءَ يَشْرُفُ عَلى أَمَلِهِ فَيَقْطَعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ فَسُبْحانَ اللهِ لا أَمَلٌ يُدْرَكُ وَلا مُؤَمِّلٌ يُتْرَكُ.

والمراد انّ الرجل يوشك أن يصل إِلى أمله، ولكن يحلّ أجله بغتة، ويمنعه من بلوغ أمله، فسبحان الله لا أمل يدركه الإنسان ولا مؤمّل يترك ليدرك أمله، أي انّ الغالب والأكثر هو أن لا يدرك الإنسان أمله، ولا يترك لكي يدركه، و ]سبحان الله [كما تكرّر ذكره تنزيه وتقديس لله تعالى من النقص والعيب والظلم وغيره من الأفعال القبيحة، وقد شاع استعماله في ما يقع فيه الغرابة والتعجب، والهدف من ذكره في هذا الموضع هو إظهار عظمة الله وكمال قدرته حيث تصدر منه أمثال هذه الاُمور واظهار انّ ذلك لوجود حكمة ومصلحة ليس عبثاً ولغواً أو ظلماً وحيفاً.

3562 ـ اِنَّ قَوْلَنا إِنَّا لِلَّهِ إِقْرارٌ عَلَى أَنْفُسِنا بِالْمِلْكِ وَقَوْلَنا إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِقْرارٌ عَلى أَنْفُسِنا بِالهُلْكِ.

وهذا باعتبار انّ معنى «انّا لله» أي انّا مختصون به وفي ملكه، ومعنى (انّا إليه راجعون) يعني انّنا راجعون إليه، وواضح انّ الرجوع إليه يكون بعد الموت حيث الهلاك وهذا إقرار بهلاك النفس أي موتها.

3563 ـ اِنَّ المَرْءَ إِذا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ وَقَالَتِ المَلائِكَةُ ما قَدَّمَ لِلَّهِ آباؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضَاً يَكُنْ لَكُمْ ذُخْرَاً وَلاْ تُخَلِّفُوا كُلاّ فَيَكُونَ عَلَيْكُمْ كَلاّ

أي انّ الرجل إذا مات فالشائع بين الناس هو أن يسألوا: ماذا ترك من الميراث؟ ولكن الملائكة تسأل: ماذا قدّم لله أي لرضاه؟ والمراد انّه يقال لولد كلّ إنسان بلسان الحال: ماذا بعث أبوك؟ وقد جمع الإمام صلوات الله وسلامه عليه أقوالهم وقال بانّهم يقولون: ماذا قدم آباؤكم لله؟

ومن الممكن أن يقال لأبناء كلّ إنسان: ماذا قدّم آباؤكم؟ والسؤال يكون ما قدّمه آباؤهم وأجدادهم، وإدخال الأجداد في السؤال هو للاهتمام بهذا الأمر، وانّ كلّ فرد منهم ينفعه ما قدّمه لله تعالى.

(فقدّموا) فالظاهر انّه كلام الإمام(عليه السلام) حيث يأمر الناس بعد نقل سؤال الملائكة بأن قدّموا بعض أموالكم كي تكون ذخيرة لكم في تلك النشأة ولا تتركوا الجميع، فإذا فعلتم ذلك فانّه سيكون ثقيلا عليكم أي يكون باهظاً وثقيلا عليكم ويستدعي عذابكم وعقابكم، أو نقصكم ودناءة درجتكم.

3564 ـ اِنَّ الحَازِمَ مَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِجِهادِ نَفْسِهِ فَأَصْلَحَها وَحَبَسَها عَنْ أَهْوِيَتِها وَلَذَّاتِها فَمَلَكَها وَإِنَّ لِلْعَاقِلِ بِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيا وَما فِيها وَأَهْلِها شُغْلا.

... (فملكها» أي جعلها مطيعة له، «عن الدنيا وما فيها وأهلها شغلا» أي انشغل بحال نفسه واصلاحها انشغالا منعه عن التوجه إِلى الدنيا وما فيها وأهلها.

3565 ـ اِنَّ النَّاظِرَ بِالْقَلْبِ العَامِلَ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأْ عَمَلِهِ أَنْ يَنْظُرَ عَمَلَهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ.

الظاهر انّ المراد من [بصر[ هو بصيرة القلب أيضاً، والمراد: لينظر الإنسان الأشياء بقلبه ويتأمل فيها، ويعمل ببصيرة القلب وهذا بمثابة تأكيد ما سبق. وأمّا معنى انّ ابتداء عمله يكون هذا أي يجب أن ينظر في العمل الّذي ينوي القيام به ويتدبر فيه: هل هو عليه أي هل فيه ضرر عليه؟ أم له يعني نافع له؟ فإذا وجد فيه نفعاً فليقم به وينجزه، وإذا وجد فيه ضرراً فليتوقف فيه.

3566 ـ اِنَّ العَاقِلَ مَنْ نَظَرَ فِي يَوْمِهِ لِغَدِهِ وَسَعى فِي فِكاكِ نَفْسِهِ وَعَمِلَ لِما لابُدَّ لَهُ مِنْهُ وَلا مَحِيصَ لَهُ عَنْهُ.

والمراد هو سفر الآخرة الّذي لا محيص منه ولا مهرب، فالعاقل يعمل من أجله أي يعمل ما يكون زاده في ذلك السفر.

3567 ـ اِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لأَكْثَرُ النَّاسِ لَهُ ذِكْرَاً وَأَدْوَمُهُمْ لَهُ شُكْراً وَأَعْظَمُهُمْ عَلى بَلائِهِ صَبْرَاً.

أي انّ ذكر هؤلاء لله أكثر من سائر الناس، وشكرهم أدوم وصبرهم على بلائه أعظم.

3568 ـ اِنَّ خَيْرَ المَالِ ما كَسَبَ ثَناءً وَشُكْرَاً وَأَوْجَبَ ثَواباً وَأَجْرَاً.

أي ما يُعطى لإنسان أو يُبذل في موارد خير فيستدعي الثناء والشكر من ذلك الإنسان، أو الناس الّذين يطّلعون على ذلك، ويكون سبباً للثواب والأجر الإلهي، وفي(10) أكثر النسخ ورد (أكسب) من باب الإفعال فيكون المعنى: يكسب لصاحبه الثناء والشكر، أي يكون سبباً لأن يجمع صاحبه الثناء والشكر.

3569 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاءَ القُلُوبِ تَبْصُرُ بِهِ بَعْدَ العَشْوَةِ(11) وَتَسْمَعْ بِهِ بَعْدَ الوَقْرَةِ وَتَنْقادُ بِهِ بَعْدَ المُعانَدَةِ.

المراد هو الحث على ذكر الله وذكر الفوائد المترتبة عليه، وهي أنّ الذكر الكثير يجلي القلوب، ويجعلها تبصر ما كان مشتبهاً وملتبساً أو مظلماً عليها، و «تسمع به بعد الوقرة وتنقاد به بعد المعاندة» أي انّه يكون سبباً لتواضع صاحبه بعد أن كان عاصياً لله تعالى وهو بمثابة العداء معه، أو ينقاد له أي يطيع ويصغي ولا يطغى ويتمرد، ولا يخفى أنّ اثبات السماع والاذن للقلوب على سبيل الاستعارة والمجاز.

3570 ـ اِنَّ الحَازِمَ مَنْ قَيَّدَ نَفْسَهُ بِالْمُحاسَبَةِ وَمَلَكها بِالمُغاضَبَةِ وَقَتَلَها بِالمُجاهَدَةِ.

(بالمحاسبة) يعني يحاسبها دائماً، فكأنّه قد قيّدها ولا يدعها تفعل ما تشاء، و (بالمغاضبة) يعني الابتعاد عنها وإغضابها، أي عدم إطاعتها وفعل ما تكرهه وتبغضه، وفي بعض نسخ البدل ذكر (بالمغالبة) ويعني بالغلبة والقهر الشديد لها، وفي بعضها (بالمبالغة) أي بالسعي في امتلاكها بمواصلة منعها من الأهواء والشهوات.

3571 ـ اِنَّ لِلذِّكْرِ أَهْلا أَخَذُوَهُ مِنَ الدُّنْيا بَدَلا فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْر يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الحَياةِ وَيَهْتِفُونَ بِهِ فِي آذانِ الغَافِلينَ.

3572 ـ اِنَّ مَنْ رَأَى عُدْواناً يُعْمَلُ بِهِ وَمُنْكَرَاً يُدْعى إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِىءَ وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ بِسَيْفِهِ لِتَكُونَ حُجَّةُ اللهِ العُلْيا وَكَلِمَةُ الظَّالِمِينَ السُّفْلى فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ الهُدى وَقَامَ عَلى الطَّرِيقِ وَنَوَّرَ فِي قَلْبِهِ اليَقِينُ.

هذا إذا قرئ (نوّر) مبنياً للمعلوم ويكون لازماً. ويمكن قراءته مبنياً للمجهول ويكون متعدياً فيكون المعنى: تنور اليقين في قلبه وفي بعض النسخ لا يوجد (في) فيكون المعنى: نوّر اليقين قلبه أي اليقين بأحوال المبدأ والمعاد.

ولا يخفى انّ سلامة الشخص الأوّل وخلاصه يكون حينما يعجز عن ما يزيد على الانكار بالقلب، أو يعلم بوجود شخص آخر يقوم بالدرجة الأشد في المنع والزجر ولا حاجة بعدها لزجره ومنعه، وإلاّ وجب عليه الانكار اللساني اضافة إِلى الانكار القلبي أو ما يزيد عليه أيضاً، فإذا اكتفى حينئذ بالانكار القلبي يكون قد ترك واجباً ولا يسلم، إلاّ أن يكون المراد هو سلامته من الوزر وثقل ذلك الذنب الّذي يرتكبه ويكفي فيه الانكار القلبي عكس من يكون راضياً بفعله فيكون شريكاً معه في الذنب كما ورد في بعض الأحاديث، كما انّ جواز اكتفاء الشخص الثاني بالانكار اللساني يكون إذا عجز عن ما يزيد عليه، أو كان الانكار اللساني كاف في منع وزجر ذلك الشخص، أو يوجد شخص آخر يقوم بالزائد عليه، وإلاّ وجب عليه الزائد عليه حتّى يمنعه بشرط رعاية الأسهل فالأسهل إِلى أن يصل إِلى حد الجرح والقتل، وفي جواز ذلك هناك قولان بين علمائنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فذهب جمع منهم إِلى انّه واجب أيضاً، وبعض آخر لم يجوّزه وقالوا بسقوطه إذا بلغ تلك الدرجة، والظاهر انّ هذا يكون في غير الإمام، وأمّا الإمام فيجب عليه المنع والزجر بلغ ما بلغ، وعليه فانّ ما ورد في هذا القول الاعجازي من ترجيح من ينكر بالسيف يحمل ـ بناءً على مذهب الفرقة الثانية ـ على من هو أهل لذلك من نبيّ أو إمام، ولا يخفى إذا كان اكتفاء الشخص الأوّل بتلك الدرجة من المنع لوجود شخص آخر يقوم بالدرجة الثانية فانّ وجه ترجيح الشخص الثاني عليه واضح، وإذا كان باعتبار أحد الاحتمالين الأولين فانّ ترجيح الشخص الثاني عليه قد يكون ناشئاً من انّه لم يتحمل تكليف ومشقة الدرجة التالية فعلا وقد تحملها الشخص الثاني، وعليه فانّ أجره وثوابه أعظم قطعاً، وان كان هو كذلك إن كان قادراً على القيام بالدرجة التالية لفعل، أو انّ ذلك الشخص لو كان يحتاج إِلى ما يزيد على ذلك لعمل به، لأنّ هذا الأمر لا يكون سبباً لأن يكون أجره كمن يقوم بالدرجة التالية، غاية الأمر انّ مثل هذا الشخص بسبب عزمه وقصده للقيام بذلك على فرض قدرته أو احتياجه يكون له الأجر والثواب، وهذا لا يستلزم أن يكون أجره وثوابه كمن يقوم بذلك فعلا.

3573 ـ اِنَّ مِنْ أَحَبِّ العِبادِ إِلَى اللهِ عَبْدَاً أَعانَهُ عَلى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الخَوفَ فَزَهَرَ مِصْباحُ الهُدى فِي قَلْبِهِ وأَعَدَّ القِرى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ.

المراد من (أعانه على نفسه) هو أنّ الله تعالى قد أعانه بأن يكون متسلّطاً على نفسه ويمنعها من الأهواء والشهوات ويلزمها الطاعة والانقياد، و (الشعار) كما تكرر ذكره يطلق على الثوب الملاصق ولجسم الإنسان وشعره، والمراد من «فاستشعر الحزن» هو انّه حزين دائماً خوفاً من احتمال سوء أحواله في تلك النشأة، ولا يفارق هذا الغم والحزن أبداً فهو إذن بمثابة الشعار له، و «تجلبب الخوف» بهذا المعنى أيضاً وتوضيح له، والمراد من (الهدى) هو الاهتداء أو الوصول إِلى الحقّ كما تكرر ذكره، والمراد من «أعدّ القرى ليومه النازل به» هو انّه قد أعد لنفسه زاد اليوم الّذي يحلّ فيه الموت ويرحل إِلى الآخرة، فكأنّه قد أعد لنفسه أسباب الضيافة في ذلك اليوم.

هذا بناءً على قراءة (قِرى) بكسر القاف بمعنى الضيافة، وقد يقرأ بالفتح ويعني السند ويعني انّه هيأ لنفسه لذلك اليوم سنداً، وما يكون ظهره به قوياً من الطاعات والعبادات.

3574 ـ اِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ لاَ تَفْنى عَجائِبُهُ وَلا تَنْقَضِي غَرائِبُهُ وَلا تُكْشَفُ الظُّلُماتُ إِلاَّ بِهِ.

المراد من (باطنه عميق) انّ في باطنه علوماً ومعارف جمة يعجز كلّ إنسان من إدراكها، فشبّه بالماء العميق الّذي يصعب الوصول إِلى قعره، و (لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه) أي تستفاد منه علوم عجيبة واُمور غريبة دائماً لمن له سبيل للعلم بباطنه كأئمّة الحقّ صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا المعنى لا يزول أبداً ولا ينتهي، والمراد من (الظلمات) ظلمات الجهل والضلالة الّتي لا تنكشف إلاّ بعلم القرآن أو هداية من له علم به.

3575 ـ اِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ أَحْيا عَقْلَهُ وَأَماتَ شَهْوَتَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ لِصَلاحِ آخِرَتِهِ.

المراد من (أحيا عقله) إطاعته والامتثال لأمره واكتساب العلوم والمعارف الّتي تعمل على قوّة الفعل ونموّه، ومن (أمات شهوته) هو أن لا يتبع شهواته وأهواءه فانّه إذا لم يتبعها فلا يترتب عليها أثراً فكأنّه قد أماتها.

3576 ـ اِنَّ لِلَّهِ تَعالى فِي كُلِّ نِعْمَة حَقَّاً مِنَ الشُّكْرِ فَمَنْ أَدّاهُ زَادَهُ مِنها وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ خَاطَرَ بِزَوالِ نِعْمَتِهِ.

3577 ـ اِنَّ مَنْ كَانَ مَطِيَّتَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ فَإِنَّهُ يُسارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفَاً وَيَقْطَعُ المَسافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمَاً وادِعاً.

المراد انّ الإنسان راكب على ناقة الليل والنهار، فهما راحلان قهراً ويذهبان به، سواء تحرك أم توقّف واستقر، فينبغي إذن أن لا يغفل عن النفس ويواصل التهيؤ لذلك السفر الخطير دائماً والّذي سيحل عاجلا.

3578 ـ اِنَّ الكَيِّسَ مَنْ كَانَ لِشَهْوَتِهِ مانِعَاً وَلِنَزْوَتِهِ عِنْدَ الحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعَاً.

أي أن يكون مانعاً للشهوات الزائفة والباطلة، ومانعاً أيضاً لنزوته عند الغضب والحميّة حينما يريد الانتقام أي يدفعه عن نفسه ويقلعه من قلبه، و «قامعاً» يعني يقمع ذلك ويقتحمه، ولا يسمح له بالتسلط عليه، وقد يكون (واقم) بمعنى القهر والغلبة أو المذلّ و (قامع) قد يكون له أحد هذين المعنيين ويكون تأكيداً.

3579 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ قَدْ أَنارَ السَّبِيلَ الحَقِّ وَأَوْضَحَ طُرُقَهُ فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ.

المراد انّ الله تعالى قد أوضح طريق الحقّ وأظهره بحيث يمكن الوصول إليه بقليل من السعي، ولا يمازجه الخطأ والالتباس حتّى لا يصل إليه فيكون معذوراً، فمن لم يسلك هذا الطريق لزمه الشقاء دون أن يفارقه، ومن سار في ذلك الطريق كانت السعادة الدائمة نصيبه، و (أوضح طرقه) أي طرق الحقّ وهذا بمثابة التأكيد للسابق. و استخدام الجمع في (الطرق) قد يكون إشارة إِلى وجود طرق مختلفة للوصول إِلى الحقّ كالبراهين المتعدّدة، والمراد من (سبيل الحقّ) الّذي قاله في البداية هو جنس طريق الحقّ لا أن يكون منحصراً في واحد. ويمكن أن يكون ضمير (طرقه) عائد إِلى سبيل الحقّ لا (الحقّ) كما ذكرنا أولا، ويعني: قد أوضح طرقه، وعليه يكون المراد من (سبيل الحقّ) هو الطريق الأصلي الّذي يوصل الإنسان إِلى الحقّ، ومن (طرقه) الفروع الّتي تنشعب من ذلك السبيل، وكلّ منها ينتهي به آخراً.

3580 ـ اِنَّ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ كَانَتْ نَفْسُهُ نَاجِيَةً سَالِمَةً وَصَفَقَتُهُ رَابِحَةً غَانِمَةً.

المراد بـ (صفقته) تجارته حيث صرف أوقاته في الاطاعة لاكتساب العوض الأخروي، أو انّه باع نفسه به، وإطلاق (الرابحة) أو (الرابحة الغانمة) عليه مجاز، والمراد منه ربح وغنم صاحبه.

3581 ـ اِنَّ فِي الفَرارِ مَوجِدَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَالذُّلَّ اللاَّزِمَ وَالعَارُ الدَّائِمَ وَإِنَّ الفارَّ غَيْرُ مَزِيد فِي عُمْرِهِ وَلا مُؤَخَّرٌ عَنْ يَوْمِهِ.

أي انّ الفرار من الجهاد مع انّه يستدعي عن غضب الله والذل اللازم والعار الدائم لا فائدة تترتب عليه; لأنّه قد تقرّر زمان لأجله، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فإذا فرّ لم يزده في عمره، ولا يتأخّر عن يومه ذلك، أي الوقت المقرر لأجله، فإذا حلّ ذلك الوقت وكان قد فرّ من الجهاد فانّه يرحل بسبب آخر، وما لم يحل فانّه إنْ كان في الجهاد فانّ حبل عمره لا ينقطع.

3582 ـ اِنَّ المَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرَكَ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَسوُؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَلْيَكُنْ سُروُرُكَ بِما نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ وَلْيَكُنْ أَسْفُكَ عَلى ما فاتَكَ مِنْها وَلْيَكُنْ هَمُّكَ لِما بَعْدَ المَوْتِ.

المراد انّ الرجل كثيراً ما يفرح باكتسابه شيئاً يستحيل أن يفوته ولا يصل إليه بالمقدار المقرّر له من الرزق وغيره، وهكذا يحزن كثيراً ما لِفوت شيء يستحيل أن يصل إليه ممّا هو غير مقرر له وصوله إليه مهما سعى له، إذن إذا فرح لوصول شيء كان سيصله قطعاً، أي لسعيه في ذلك ظناً بانّ الوصول إليه كان بسعيه مع انّه لا دخل له في ذلك، ويحزن لفوت شيء يستحيل أن يصله، أي يحزن ظناً بانّه قد قصّر في السعي إليه مع انّ السعي فيه كان عبثاً ولا فائدة فيه واقعاً، إذن لماذا لا يسعى لشؤون الآخرة المتعلقة بسعيه، ويكسب الفلاح بقدر السعي فيها، ويكون محروماً بالتقصير في ذلك، فينبغي أن يكون سروره بما يدركه من شؤون الآخرة بسبب السعي فيها، وتأسفه على ما فاته منها بسبب عدم السعي فيها، وليكن همه لما سيكون بعد الموت وعدم الاستعداد له.

3583 ـ اِنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ إِذا أَرادَ بِعَبْد خَيْراً وَفَّقَهُ لإِنْفاذِ أَجَلِهِ فِي أَحْسَنِ عَمَلِهِ وَرَزَقَهُ مُبادَرَةَ مَهَلِهِ فِي طَاعَتِهِ قَبْلَ الفَوْتِ.

(توفيق الله اياه) كما تكرر ذكره يعني تهيئة أسباب الخير له، و (انفاذ) بمعنى النفاذ بناءً على كونه بالذال المنقوطة، وقد يكون بالدال غير المنقوطة فيكون المعنى: لا فناء مدته ويعني صرفها في أفضل أعماله، أي أفضل عمل دعا إليه الله تعالى واعتبره صالحاً، أو أفضل عمل يمكن صدوره منه، و (ورزقه مبادرة مهله في طاعته) يعني صرف أيام عمره قبل الموت وهي أيام مهله في طاعة الله وامتثال أمره، أو في طاعته وامتثاله لأمر الله، و (مهل) ورد بمعنى المبادرة في عمل الخير أيضاً، وعليه يكون المعنى: ورزقه المبادرة في طاعته قبل الموت، والهدف من ذلك إضافة إِلى التأكيد هو المبادرة والاهتمام المبالغ بها.

3584 ـ اِنَّ أَمامَكَ عَقَبَةً كَؤُودَاً المُخِفُّ فِيها أَحْسَنُ حالا مِنَ المُثْقِلِ وَالمُبْطئُ عَلَيْها أَقْبَحُ أَمْراً مِنَ المُسْرِعِ وَإِنَّ مَهْبِطَها بِكَ لا مَحَالَةَ عَلى جَنَّة أَوْ نار.

المراد أن أمامك مرتفعاً يجب أن تتجاوزه بعد الموت، فمن كان خفيف الأثقال من الذنوب وتمكن من السير السريع كان حاله حسناً، ومن كان مثقلا وسار بطيئاً كان عمله قبيحاً، فانْ كنت خفيف الأثقال وجزته مسرعاً أهبطك إِلى الجنّة، وإن كنت مثقلا وبطيئاً في سيرك أهبطك إِلى النار فاسع في تخفيف الأثقال كي تكون مفلحاً وتهبط إِلى الجنّة.

3585 ـ اِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ القِيامَةِ رَجُلٌ اكْتَسَبَ مالا مِنْ غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ فَوَرَّثَهُ رَجُلا أَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ فَدَخَلَ بِهِ الجَنَّةَ وَدَخَلَ بِهِ الأَوَّلُ النَّارَ.

لا يخفى انّ هذا يكون حينما يجهل الوارث انّ ذلك (المال) مكتسب عن طريق الحرام، فإذا علم بذلك كان عليه أن يوصله إِلى أصحابه، وإذا علم بانّه حرام جهل صاحبه ويئس من معرفته وجب عليه التصدق به نيابة عن صاحبه، وقد يكون المراد من (الانفاق في سبيل اللهِ) في الوجهين مختصاً باعطائه لصاحبه، أو يتصدق به وعليه فلا حاجة إِلى التحقيق.

3586 ـ اِنَّ النَّاسَ إِلى صَالِحِ الأَدَبِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلى الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ.

3587 ـ اِنَّ هَذَا القُرآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشَّ وَالهادِي الَّذِي لا يُضِلُّ وَالمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكْذِبُ.

3588 ـ اِنَّ هَذَا المَوْتِ لَطَالِبٌ حَيْثُ لا يَفُوتُهُ المُقِيمُ وَلاْ يُعْجِزُهُ مَنْ هَرَبَ.

المراد انّ الموت طالب حثيث سرعان ما يدرك كلّ إنسان، ولا يجد الإنسان منه مهرباً، لا الّذي يقف ولا يهرب منه يفوته الموت أي يخلص منه بأن يرحمه أو لا يجده، ولا الّذي يهرب منه يعجزه بأن يعجز عن وجدانه، بل انّه يتابعه أينما يذهب ويدركه.

3589 ـ اِنَّ فِي المُوْتِ لَراحَةً لِمَنْ كَانَ عَبْدَ شَهْوَتِهِ وَأَسِيرَ أَهْوِيَتِهِ لاَِنَّهُ كُلَّما طَالَتْ حَياتُهُ كَثُرَتْ سَيِّئاتُهُ وَعَظُمَتْ عَلى نَفْسِهِ جِناياتُهُ.

(جناية إنسان على آخر) هي بأن يقتله أو يجرحه أو ما شاكل، وبما أنّ كلّ ذنب يرتكبه الإنسان يكون وباله على نفسه فهو في الحقيقة جناية على نفسه ولذا قال(عليه السلام): (عظمت على نفسه جناياته)، وقد يكون (على نفسه) متعلّقاً بـ (عظمت) وليس ] جنايات[ ويكون المعنى: عظمت على نفسه ذنوبه، والمراد من (العظمة على النفس) هو عظمة الذنوب وثقلها.

3590 ـ اِنَّ أَخْسَرَ النَّاسِ صَفَقَةً وَأَخْيَبَهُمْ سَعْيَاً رَجُلٌ أَخْلَقَ بَدَنَهُ فِي طَلَبِ آمالِهِ وَلَمْ تُساعِدْهُ المَقادِيرُ عَلى إِرادَتِهِ فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيا بِحَسَراتِهِ وَقَدِمَ عَلى الآخِرَةِ بِتَبِعاتِه.

3591 ـ اِنَّ لِلْمِحَنِ غَايات لابُدَّ مِنْ إِنْقِضائِها فَناسُوا لَها إِلَى حِينِ إِنْقِضائِها فَإِنَّ إعمالَ الحِيَلَةِ فِيها قَبْلَ ذَلِكَ زِيادَةٌ لَها.

المراد انّ المحنة قد يكون لها مدة معينة، ولا يمكن زوال تلك المحنة قبل انقضاء المدّة، ولذا ينبغي النوم لها أي ترك السعي لرفعها، لأنّ التوسل بالحيلة والتدبير ازاءها لا يجدي سوى ازدياد الأتعاب فيها، ولا يخفى انّ هذا يتمّ فيما علم الإنسان بانّ محنته من هذا القبيل، وحصول هذا العلم نادر، والظاهر انّ غرض الإمام صلوات الله وسلامه عليه بيان عذر لنفسه في عدم السعي لرفع المحن الّتي واجهها من غصب حقوقه وما شاكل، وانّ السبب في عدم السعي في معالجتها هو انّنا نعلم بانّ هناك مدة قد قدّرت لها لا يمكن زوالها قبل انقضاء تلك المدّة، فلا فائدة في المعالجة والتدبير قبلها بل سوف يستدعي ذلك مزيداً من الأتعاب.

3592 ـ اِنَّ لِلْمِحَنِ غَايات وَلِلْغايَاتِ نِهاياتٌ(12) فَاصْبِرُوا لَها حَتَّى تَبْلُغَ نِهاياتِها فَالتَّحَرُّكَ لَها قَبْلَ انْقِضائِها زِيادَةٌ لَها.

انّه ذات المضمون للقول السابق، وقد ألقى الإمام(عليه السلام) كلّ قول في مقام وقد نقلهما المؤلف معاً، ولا يخفى انّ قول الإمام صلوات الله وسلامه عليه (فاصبروا) لا يتنافى مع ما ذكرناه في شرح القول السابق من أنّ المقصود من بيان العذر هو صبره على المحن الّتي تعرض لها الإمام(عليه السلام)، لإمكان أن لا يكون الخطاب فيه عاماً بل كان خاصاً لجمع من أصحابه ثقل عليهم الصبر على تلك المحن فطالبوا الإمام(عليه السلام) بأن يسعى لايجاد معالجة وتدبير لدفعها، والله تعالى يعلم.

3593 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ فَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها وَحَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلا تَعْتَدُوها وَنَهاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوها وَسَكَتَ عَنْ أَشْياءَ وَلَمْ يَدَعْها نِسْيانَاً فَلا تَتَكَلَّفُوها.

المراد من (تضييع الفرائض) تركها، أو الاخلال بشيء من أجزائها أو شرائطها، وقد يشمل أموراً تسبب نقصاً كبيراً فيها وان كان الحد الأقل منه مجزياً، و (حد حدوداً) يعني وضع حداً لكلّ عمل من الواجبات والمندوبات وغيرها في كميتها وكيفيتها فلا تتعدوا تلك الحدود، ولا تعملوا بما يخالفها و(سكت عن أشياء) يعني سكت عن بعض الأشياء ولم يتعرض لحكمها لا أمراً بها ولا نهياً عنها، وليس ذلك من باب نسيانه ـ العياذ بالله ـ لبيان حكمها والغفلة عنها، بل اقتضت الحكمة ترك حكمها، فكلّما كان كذلك لا تكلّفوا أنفسكم باعتبار شيء منها واجباً أو تحريمه برأيكم واجتهادكم أو باثبات حكم خاص لكلّ منها، بل دعوا ذلك لأصلها وهو الاباحة كما هو المشهور بين العلماء أو الحرمة بناءً على مذهب بعض الاُصوليين، أو اسكتوا أنتم أيضاً من اثبات حكم لها، وتوقفوا فيها كما هو قول بعض الاُصوليين، والقول المشهور هو الأقوى حسب الدلائل العقلية والشرعية كما قام الداعي بتحقيق ذلك في حواشي شرح مختصر الاُصول، وقد يكون المراد ممّا سكت عنه اُمور لم تُبين حقيقتها نظير كنه ذات الواجب تعالى، وأسرار القضاء، والقدر وحقيقة الروح وأمثالها ممّا لا مصلحة في بيانها، وعليه فانّ المراد هو النهي عن التكلف في النظر والتأمّل فيها، والتحقيق في حقيقتها.

3594 ـ اِنَّ الفُرَصَ تَمُرَّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوها إِذا أَمْكَنَتْ فِي أَبْوابِ الخَيْرِ وَإلاَّ عَادَتْ نَدَمَاً.

أي من سنحت له فرصة لفعل الخير ولم يغتنمها ولم ينجز ذلك الفعل، ستكون تلك الفرصة سبباً لندمه أخيراً، يعني سيندم في تلك النشأة الّتي يقدم فيها جزاء الأعمال، ويقول: لماذا لم أفعل الخير مع وجود الفرصة له فانحرمت اليوم من ثوابه.

3595 ـ اِنَّ حَوائِجَ النَّاسِ اِلَيْكُمْ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ عَلَيْكُمْ فَاغْتَنِمُوها وَلا تَمَلُّوها فَتَتَحوَّلَ نَقْمّاً.

أي انّ الحوائج الّتي يتقدم بها الناس إليكم، ويطلبون قضاءها نعمة إلهية عليكم لأنّ من النعم حاجة الناس للإنسان دون حاجته لهم، مضافاً إِلى انّ تلبيتها والسعي فيها يستدعي الأجر والثواب الأخروي أيضاً، وبهذا الاعتبار تكون نعمة قد أقبلت عليه إذا لم يردّها فيلزم أن يغتنمها ويسعى قدر المستطاع فيها، ولا يشعر بالكدر والملل منها، وإلاّ فإن تلك النعمة ستتبدل إِلى انتقام إلهي بأن يسلبه تلك المرتبة في الدنيا، وفي الآخرة سيؤاخذه بها، و (نقم) بفتح النون وكسرها وسكون القاف بمعنى الانتقام والكراهة وعدم الرضا أيضاً وهذه المعاني ترد هنا أي فتتحول بما تكرهونه أو بما يكرهه الله تعالى، و «نقم» بفتح النون وكسر القاف جمع نقمة ـ بفتح النون أو كسرها وسكون القاف ـ بمعنى الانتقام، وقد تقرأ هنا هكذا ومعناها: فتتحول بالإنتقام الإلهي.

3596 ـ اِنَّ خَيْرَ المَالِ ما أَوْرَثَكَ ذُخْرَاً وَذِكْرَاً وَأَكْسَبَكَ حَمْداً وَأَجْرَاً.

أي المال الّذي يصرف في مواد الخير يكسبك ذكراً وذخراً أي يكون ذخيرتك لآخرتك وسبباً للسمعة الحسنة عنك وحمد الناس والأجر والثواب.

3597 ـ اِنَّ أَفْضَلَ الأَمْوالِ ما اسْتُرِقَّ بِهِ حُرٌّ وَاسْتُحِقَّ بِهِ أَجْرٌ.

أي المال الّذي يحسن به إِلى حر فيجعله بمثابة رقّ لهذا الإنسان كما هو المشهور: (الناس عبيد الإحسان) وبسببه يكون أهلا ومستحقاً للأجر والثواب أيضاً، وقد يكون هذا إشارة إِلى قسم آخر من أفضل المال بل إِلى قسم أعم من الأول، وحصيلة الكلام هي انّ أفضل الأموال هو ما استرق به الحر واستحق به الأجر بأيّ نحو كان.

3598 ـ اِنَّ مادِحَكَ لَخَادِعٌ لِعَقْلَكَ غَاشٌّ لَكَ فِي نَفْسِكَ يكاذِبِ الإِطْراءِ وَزُورِ الثَّناءِ فَإِنْ حَرَمْتَهُ نَوالَكَ أَوْ مَنَعْتَهُ إِفْضَالَكَ وَسَمَكَ بِكُلِّ فَضِيحَة وَنَسَبَكَ إِلى كُلِّ قَبِيحَة.

المراد هو ذم المداحين، و (لخادع لعقلك) يعني يقول في مدحك ما ليس فيك، فينخدع عقلك ويصدق، وعلى فرض وجوده فيك ينخدع به أيضاً بأن يحصل فيه العجب وهو أسوء الصفات، و (غاش لك في نفسك) يعني غير ناصح معك في نفسك ولا يصدقك في ذكر أحوالها أو يظهر لك فيها عكس ما يعتقد، و(فان حرمته نالك أو منعته إفضالك) يعني منع العطاء عنه أيضاً وهي من الترديدات الّتي تقع في الكلام بين عبارتين يكون لهما مضمون واحد بمجرد اختلاف الألفاظ والعبارات، وقد يكون المراد من أحدهما هو عدم اعطاء العطاء له، وبالأخرى قطع الإحسان عنه بعد الإحسان إليه، و (وسمك بكلّ فضيحة) يعني ينسب إليك بعض الفضائح الّتي فتكون وسماً لك وعلامة، كالحيوان الّذي يوسم بما يعلمه ويميّزه.

3599 ـ اِنَّ النَّفْسَ حَمِضَةٌ والاُذُنَ مَجَّاجَةٌ فَلا تَجُبَّ فَهْمَكَ بِالإِلْحاحِ عَلى قَلْبِكَ فَإِنَّ بِكُلِّ عُضْو مِنَ البَدَنِ اسْتِراحَة.

(حمص) بفتح الحاء غير المنقوطة وسكون الميم نبات مالح مرّ يرغب الإبل أكله، وهو له بمثابة الفاكهة، و (حمض) بفتح الحاء وكسر الميم هو الإبل الّذي يأكل هذا النبات و (مجّاج) بفتح الميم وتشديد الجيم الاُولى هو من يخرج الماء أو الشراب من فيه، والمراد لا ينبغي التشديد في إلزام النفس على التفكير والتأمل في المسائل والتعلم والسماع; لأنّ النفس كا لإبل ترغب في النباتات المالحة المرة، أي ترغب في الرعي والاشتغال بمشتهياتها من الكلام وأمثاله، والاُذن كثيراً ما تلفظ ما تسمعه ولا تحفظه، فمن يبالغ في إلزام النفس على التأمل والتعلم ويمنعها تماماً عن الاشتغال بما ترغب فيه ستشعر بالكدر والملل، ولا تقبل على فهم القضايا الدقيقة، وترفض الاُذن ما تسمعه ولا تحفظه، فالتشديد على القلب في إعمال التأمل والتعلم يقطع الفهم ويستدعي انقطاعه عنها، و (ان لكلّ عضو من البدن استراحة) بيان وتوضيح لما سبق والمراد انّ كلّ عضو بحاجة إِلى راحة، فالقلب أيضاً بحاجة إِلى راحة، فلا ينبغي الإلحاح عليه كثيراً بالتفكير والتعلم فانّ ذلك يستدعي بلادته ورفضه بحيث لا يتمكن منه مستقبلياً، وقد يكون (فلا تجب) بتخفيف الباء من الاجابة، ويعني لا تجب فهمك بالالحاح على قلبك والمراد: انّ الفهم والادراك مقتضى الالحاح على القلب لكي يزداد ويكمل، ولكن لا تجبه لأنّ التشديد الكثير فيه يسبب بالتالي عجزه، فلا يستطيع الاشتغال بالقدر الواجب، والمراد من (القلب) امّا العضو الخاص بناءً على كونه محلا للعلوم والادراك كما هو مذهب المتكلمين، أو النفس وإطلاق ] القلب[ عليه باعتبار تعلقه بالقلب أوّلا كما هو مذهب الحكماء وإطلاق العضو عليه يكون على سبيل المسامحة وإجراء الكلام بما يوافق فهم العوام، وعليه تكون حصيلة الكلام انّ النفس في ذاتها سائمة، والأُذن حينما تشعر النفس بالكدر والملل لا تحفظ ما تسمعه، فلا ينبغي التشديد والمبالغة في إلزام النفس بالتفكر والتعلم لأنّ ذلك يسبب عجزها فلا يمكنها الاقبال على ذلك، فلابدّ من تخصيص وقت لراحتها، وقد يكون المراد من (القلب) هو القوّة العقلية، ويكون إطلاق ] القلب[ عليه اصطلاحياً باعتبار تعلق محله وهو النفس بالقلب أوّلا كما ذكر. وقد يكون معنى الكلام: انّ النفس سائمة، ولا يمكن أن لا تشتغل في عملها، وهكذا الأُذن لا تحفظ ما تسمعه فلكلّ منها استراحة، فلابدّ تخصيص وقت لاستراحة القلب أيضاً، ولا ينبغي قطع فهمه بسبب الالحاح عليه، لأنّ لكلّ عضو من البدن استراحة فإذا كان للنفس والأُذن استراحة فلابدّ للقلب من وقت للاستراحة، وبناءً على ذلك فانّ المراد من القلب امّا هو العضو الخاص بناءً على مذهب المتكلّمين أو القوّة العقلية وإطلاق العضو عليه يكون مسامحة، وبناءً على مذهب بعض الحكماء القائلين بوجود نفسين، إحداهما تقتضي الشهوة والغضب والاُخرى هي صاحب العقل والادراك، قد يكون المراد من (النفس) بناءً على المعنيين هو النفس الأوّل ومن (القلب) النفس الثانية، والله تعالى يعلم.

3600 ـ اِنَّ قَوْمَاً عَبَدُوا اللهَ سُبْحانَهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبادَةُ التُجَّارِ وَقَوْماً عَبَدُوهُ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبادَةُ العَبِيدِ وَقَوْماً عَبَدُوه شُكْراً فَتِلْكَ عِبادَةُ الأَحْرارِ.

لا يخفى انّ شرط صحة العبادة هو قصد القربة والمراد منها قصدها بهدف الزلفى إِلى الله تعالى، أي المرتبة السامية لديه الّتي هي بمثابة القرب المكاني ونحوه إليه، وإلاّ فمن الواضح انّ الله تعالى منزه ومتعال عن المكان والقرب والبعد المكاني، ويكون ذلك بأن يقصد بالاتيان بها امتثالا لأمر الله سبحانه، أو لأنّه يستدعي رضاه، والظاهر انّه إذا كان المراد من قصد القربة بالمعنى المذكور هو أن هذا المعنى في نفسه عمل صالح وكمال للعبد فهو أفضل مراتب العبادة، وإذا لوحظ فيه الطمع بالجنّة والوصول إليها أو الخوف من جهنم والخلاص منها فالظاهر انّه صحيح أيضاً ولا يضر بقصد القربة، لأنّ هذا المعنى توسل بالله وطلب العطاء منه أيضاً، وهذا أمر مستحسن لدى الجواد الحقّ والكريم المطلق فقصده لا يتنافى مع قصد القربة، وما قاله بعض العلماء: (لا تصح العبادة بقصد الطمع في الجنة أو الخلاص من جهنم) قول ضعيف، كما بينت ذلك في رسالة في التحقيق في النية، وهنا سيذكر ما يكفي من الشواهد على ذلك، وأضعف من ذلك ما يظهر من كلام بعض العلماء من انّه لا تصح العبادة أيضاً بقصد اكتساب القرب والمنزلة وعلو المرتبة لدى الله عز وجل ، بل يجب قصد امتثال أمر الله فقط دون قصد أية منفعة شخصية معه، وذلك لعدم وجود أي دليل على ذلك أصلا، بل الظاهر انّ امتثال أمر الله تعالى لا يمكن أن يكون غاية للعبادة إلاّ باعتبار أنّ ذلك الأمر هو كمال هذا الإنسان وخيره لأنّه إذا كان امتثاله للأمر أو مخالفته للأمر سيان بالنسبة لهذا الإنسان كان إتيان الفعل بهدف امتثال الأمر عبثاً ولغواً، وهكذا كلّ هدف يقصده الفاعل في فعل مّا فيجب أن يكون في ذلك خير ونفع وكمال للفاعل حسب اعتقاده، وإلاّ فانّ القيام بالفعل لذلك الهدف كان لغواً وعبثاً، فعُلم إذن انّ قصد الاستكمال وطلب المنفعة الشخصية في الاتيان بالعبادة لا يضر بها بل هو أمر ضروري، وواضح انّ الأساس في فضيلة امتثال الأمر الإلهي وكماله هو أنّه يكون سبباً للقرب والمنزلة لديه، فقصده إذن لا ضرر فيه بل لابدّ من قصده أو قصد منفعة أُخرى في مرتبة أدنى منه كالفوز بالجنّة أو الخلاص من النار أو منفعة أُخرى هي أدنى منها، وإلاّ فانّ أصل امتثال الأمر في نفسه لا يمكن أن يكون غاية وهدفاً، وبعد تمهيد المقدّمة المذكورة لا يخفى على ذي اللّب والعارف انّ هذا الكلام الاعجازي لا يدل على انّ العبادة تكون فاسدة بسبب الرغبة أو الرهبة وعارية من حليّ الصحة بل لا يظهر منه إلاّ ترجيح القسم الثالث على القسمين الآخرين، وبيان انّ العبادة رغبة تشبه تجارة التجار حيث يعطون شيئاً ويأخذون عوضه، وانّ العبادة خوفاً تشبه بخدمة العبيد خوفاً من مواليهم فمن الأفضل أن لا تقصد الرغبة في العبادة ولا الرهبة، بل تكون أداء للشكر وهذه هي عبادة الأحرار أي الجماعة الّتي ليست مقيدة بالتعلقات وحرة من الشهوات والأهواء، ولا تكون عبادتهم كخدمات العبيد خوفاً من الله.

وإذا قال قائل: انّ أداء العبادة شكراً هي في الحقيقة بأزاء النعمة فهي من قبيل القسم الأوّل أيضاً، فنقول في الجواب: انّ القسم الأوّل هو أن يكون الهدف من العبادة هو اكتساب نعمة، فهي شبيهة بتجارة التجار، والعبادة شكراً هي إتيان العبادة شكراً على أداء حقوق النعم الّتي أعطاها الله للإنسان من الوجود وما بعد الوجود من النعم، ومن الواضح انّ في تلافي النعمة لا توجد شوائب الطمع والتجارة بل انّ الإعراض عن ذلك وترك ثناء هذا المنعم كفران للنعمة، وهو قبيح ومذموم عقلا وشرعاً.

وقد لا يكون المراد من ] الشكر[ الشكر اللغوي أي الفعل الدال على تعظيم المنعم أزاء النعمة، بل الشكر الاصطلاحي ويعني صرف ما أنعمه الله تعالى على الإنسان فيما خلقه من أجله، وعليه تكون العبادة شكراً عبادة لامتثال أمر الله وصرف كلّ عضو إِلى ما أراده الله تعالى منه، وليست النعمة مقصودة في ذلك أصلا.

وفي بعض الأحاديث نقل هذا المضمون عن الإمام صلوات الله وسلامه عليه بعبارة أُخرى وهي قوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(13) وبناءً على هذا المعنى لا يرد السؤال المذكور أصلا، وانّ هذا الحديث الشريف لا دلالة فيه أيضاً إلاّ على انّ عبادة الإمام صلوات الله وسلامه عليه لم تكن خوفاً من النار أو طمعاً في الجنة بل من أجل انّ الله تعالى أهل للعبادة، ولا يدل على انّ العبادة خوفاً أو طمعاً غير صحيحة، إذ من الممكن أن تكون صحيحة أيضاً.

غاية الأمر: انّ العبادة على الصورة الّتي قام بها الإمام(عليه السلام) هي الأفضل.

ويشهد لهذا المضمون ما رواه ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني (طاب ثراه) في الاُصول من كتاب الكافي عن الإمام الناطق بالحقّ جعفر الصادق صلوات الله وسلامه عليه قوله: (العبادة(14) ثلاثة: قوم عبدواالله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة)(15) لأنّه لا يخفى انّ هذا الحديث الشريف ظاهر بل صريح في صحة الأقسام الثلاثة وأفضلية القسم الثالث، فيحمل كلام الإمام صلوات الله وسلامه عليه على ذلك أيضاً كما ذكر، بل انّ وصية الإمام صلوات الله عليه الّتي رواها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قدّس سرّه العزيز القدوسي في كتاب تهذيب الأحكام بسند صحيح تدل على انّ بعض عبادات الإمام(عليه السلام) كانت طمعاً في الجنة وخوفاً من النار أيضاً، حيث انّ أوّل الوصية بهذا النحو: «هذا ما أوصى به وقضى في ماله عبدالله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه»(16).

فانّه صريح في انّ وصايا الإمام صلوات الله عليه كانت طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ولا ينافي هذا المعنى طلب وجه الله بل ظاهره يتنافى مع الحديث السابق المروي عن الإمام(عليه السلام) وباعتبار صحة سند هذا وعدم معلوميّت سند ذلك يكون هذا راجحاً على ذلك، ويمكن دفع المنافاة بأن نقول: في الوقف والصدقات والعتق ونظائرها الّتي ذكر فيها الوصية لا بأس في قصد دخول الجنة والخلاص من النار، وما ذكر في الحديث السابق يختص ببعض العبادات كالصلاة والصوم والحجّ، ولكن لا يوجد لهذا التخصيص وجه واضح.

وهكذا يؤيد صحة العبادات طمعاً في الثواب ما رواه ثقة الإسلام رحمه الله تعالى في أُصول الكافي عن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: «من بلغه ثواب من الله عز وجل على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وانْ لم يكن الحديث كما بلغه»(17)، وقد نقل هذا الحديث في كتاب المحاسن للبرقي أيضاً بعبارة قريبة من هذه وبسند أفضل من سند الكافي، وهذا المضمون قد ورد أيضاً بعبارات أُخرى وسند بعضها صحيح والبعض الآخر حسن لكن دلالتها على ما قلنا ليس لها ظهور يعتنى به كما هو واضح للمتتبع العارف.

كما يمكن استنباط صحة هذين القسمين من العبادة من الكثير من الآيات الكريمة وذكرها يستدعي كلاماً طويلا، بل انّ الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وذكر الجنة ونعيمها للمطيعين، والنار وأنواع العذاب فيها للعاصين الّتي وردت في القرآن الكريم والسنّة المقدسة كلّها تشعر بصحة العبادة طمعاً وخوفاً وإلاّ فلا مصلحة واضحة في ذكرها بل كلّها سيكون مخلاّ ومضراً بغاية الشارع فانّ من الواضح انّ أكثر الناس بعد الاطلاع عليها سيلاحظون الخوف والطمع في العبادة والطاعة، الأمر الّذي يستدعي فساد وبطلان عبادتهم مع انّ هدف الشارع هو إتيانهم العبادة الصحيحة والحث عليها.

والأمر الآخر انّ العبادة من دون الطمع بفضل الله تعالى والخوف من ذاته المقدسة أمر شاق جداً وبحاجة إِلى رياضات ومجاهدات كثيرة، بل انّه غير متيسر إلاّ للأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن وجماعة قليلة من الأولياء وأتباعهم، فكيف يؤمر في الشريعة المقدسة الّتي وضعت بمقتضى الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على السماحة والسهولة ولم يوضع فيها أي حرج وضيق عامة الناس والمكلفين أجمع باتيان العبادات على ذلك الوجه، وإذا أخلّوا بها فستكون جميعها باطلة وفاسدة ويستحقون عليها السخط العظيم والعذاب الأليم.

 

الهوامش:

(1) في نسخة مدرسة سبهسالار محا (يحكم) وكتب (حلم) باللام.

(2) كتب الشارح(رحمه الله) صفوته بتثليث الصاد وكتب (معاً) فوقه أي تصح قراءته بفتح الصاد وكسرها وضمها.

(3) الانتصار: 52، فقه الرضا(عليه السلام): 278.

(4) مختلف الشيعة 4: 246، جواهر الكلام 12: 219.

(5) عبارة (وفي بعض.. الخ) موجودة في نسخة مكتبة مدرسة سبهسالار فقط.

(6) في نسخة طبعة صيدا ورد (كشجرة).

(7) الكافي 1: 401 ح 2.

(8) الكافي 1: 401 ح 1.

(9) الكافي 1: 401 ح 4.

(10) عبارة (في أكثر النسخ..الخ) موجودة في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار فقط.

(11) كتب الشارح(رحمه الله) (العشوة) بالتثليث وكتب عليها (معاً) وقال في أقرب الموارد: العشوة ركوب الأمر على غير بيان ويثلّث.

(12) كتب الشارح(رحمه الله) (نهايات) منصوبة ومرفوعة وكتب (معاً) فوقها ويعني جواز قراءة الوجهين لأنّها من قبيل العطف على اسم (ان) بعد خبرها، وهذه قاعدة نحوية مسلّم بها كما أُشير إليها في هامش ص..

(13) بحار الأنوار 67: 234، روض الجنان: 27.

(14) قال الشارح(رحمه الله) في الهامش: في بعض النسخ ورد (العباد) بدلا عن (العبادة) فيكون المعنى: العباد ثلاثة أقسام / منه. وفي نسخة مكتبة مدرسة سبهسالار باضافة (سلّمه الله تعالى).

(15) شرح اُصول الكافي 8: 264، وسائل الشيعة 1: 62.

(16) التهذيب 9: 146 / 608.

(17) مصباح الفقاهة 3: 799، إقبال الأعمال 3: 171.