3601 ـ اِنَّ الحَيَاءَ والعِفَّةَ مِنْ خَلائِقِ الإِيمانِ وَإِنَّهُما لَسَجِيَّةُ الأَحْرارِ وَشِيمَةُ الأَبْرارِ.

3602 ـ اِنَّ مِنْ أَبْغَضَ الخَلائِقِ إِلى اللهِ تَعَالى رَجُلا وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ سَائِرَاً بِغَيْرِ دَليل.

أي من تركه الله تعالى ووكله إِلى نفسه لسوء حاله وحرمه عن لطفه، فهو جائر عن الطريق المستقيم وسائر ـ أينما سار ـ من غير دليل.

3603 ـ اِنَّ مَنْ كَانَتِ العَاجِلَةُ أَمْلَكُ بِهِ مِنَ الآجِلَةِ وَاُمُوُرُ الدُّنيا أَغْلَفَ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الآخِرَةِ فَقَدَ بَاعَ الباقِي بِالفانِي وَتَعَوَّضَ البائِدَ عَنِ الخَالِدِ وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ وَرَضِيَ لَها بِالحْائِلِ الزَّائِلِ وَنَكَبَ بِها عَنْ نَهْجِ السَّبِيلِ.

المراد من (أملك به من الآجلة) هو انّه يمتثل أمرها أكثر من أمر الآخرة ويسعى لها أكثر من السعي للآخرة فكأنّها أملك له واصطحابها له أكثر. والمراد من (الطريق الواضح الظاهر) هو الطريق الصحيح الّذي يوصل للمقصد، وهو هنا السعي لأجل الآخرة.

3604 ـ اِنَّ أَوَّلَ مَا تَغْلِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الجِهادِ جِهادٌ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً وَلمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِّبَ فَجُعِلَ أَعْلاهُ أَسْفَلَهُ.

المراد من (أوّل) هنا هو الأفضل أي أفضل مراتب الجهاد الّتي تتغلبون عليها أي تقدّرون عليها وتعملون بها، أو تتغلبون بسببها على الآخرين أي الّذين تجاهدونهم، أو على كلّ من يفقد هذه الفضيلة، والمراد من (الغلبة عليهم) هو التفوق والامتياز عليهم جهاد «جهاد بأيديكم» أي ما تباشرونه بأيديكم ثمّ بعده في الفضل هو جهادكم بألسنتكم، وذلك بأن تمنعوا وتزجروا بألسنتكم من يرتكب منكراً، ثمّ جهادكم بقلوبكم وذلك بأن تنكروا من يرتكب منكراً وتسخطون عليه، والوجه في أفضلية هذه المراتب على الترتيب المذكور أمر واضح نظراً لشدة المشقة والتعب في المرتبة الاُولى، وهكذا في الثانية على الثالثة، وأمّا بحسب العمل والأداء فإنّ المرتبة الثالثة تكون مقدّمة على الجميع، أي كلّ منكر يلاحظ صدوره من إنسان ينبغي إنكاره بالقلب واعتباره مكروهاً، وإذا كان الظن أو احتمل انّه سيمتنع بالمنع والزجر اللساني ينبغي الابتداء به، واِنْ لم ينفع ذلك أو علم من البداية انّ ذلك لا ينفع، فلابدّ من الجهاد باليد حسب ما ورد في الكتب الفقهية. ولا يخفى انّ وجوب المرتبتين الأوليين يكون مع تحقق القدرة على ذلك مع توفر الشرائط الاُخرى، وأمّا المرتبة الثالثة فإنّها غير مشروطة بشرط والقدرة عليها متوفرة دائماً، وكلّ مؤمن إذا رأى عملا صالحاً من شخص آخر فإنّ عليه أن يراه في قلبه أمراً حسناً وصالحاً، وإذا رأى عملا منكراً فعليه أن ينكر ذلك قلباً ويعتبره قبيحاً وكلّ من لم يكن كذلك انقلب وتبدل علوّ شأنه وعزّته إِلى الدناءة والذلّ، ويمكن قراءة (تغلبون) بصيغة المبني للمجهول، والمراد بيان أوضاع الناس بعده صلوات الله وسلامه عليه أو بعد البدء بعصيانهم إياه، ويكون المعنى: انّكم بعدي أو بعد هذا نظراً إِلى عدم إطاعتكم إياي كما ينبغي، أوّل ما (ستغلبون عليه لا تعملون به هو الجهاد بأيديكم، ثمّ الجهاد باللسان، ثمّ الجهاد بالقلب نظراً إِلى استئناسكم تدريجاً مع أهل الباطل والميل إليهم إِلى حد أنّكم لا يكون ما يفعلونه من المنكر منكراً لديكم، كما لا تنكرون ذلك بقلوبكم فضلا عن أيديكم وألسنتكم، ونظراً إِلى وجود عذر لترك الجهاد باليد واللسان أحياناً عكس الجهاد بالقلب كما أُشير إِلى ذلك، فإنّ الإمام اقتصر على ذم ترك الجهاد بالقلب وذكر مفسدته.

3605 ـ اِنَّ المَوْتَ لَهادِمُ لَذَّاتِكُمْ وَمُباعِدُ طَلِباتِكُمْ وَمُفَرِّقِ جَماعَاتِكُمْ قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبائِلُهُ وَأَقْصَدَتْكُمْ مَقَاتِلُهُ.

المقصود هو المبالغة في اقتراب حلول الموت، وكأنّه قد ألقاكم في شباكه ووصلتكم نباله القاتلة، أو قتلكم بوسائله القاتلة.

3606 ـ اِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوى وَجَعَلَها رِضاهُ مِنْ خَلْقِهِ فَاتَّقُوا اللهَ الَّذي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَنَواصِيكُمْ بِيَدِهِ.

أي اتقوا عصيان الله تعالى لأنّه بصير بكم وبما تعملونه من خير وشر، وانّ أعمالكم لا تخفى عليه وبيده ناصيتكم، يعني انّه متسلّط عليكم وهو قادر على فعل ما يشاء بكم، ومن الواضح لزوم الاحتراز من عصيان هذه الذات.

3607 ـ اِنَّ العَاقِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ المَوْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَيُحْسِنُ لَهُ التَّأَهُّبَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى دَار يَتَمَنَّى فِيها المَوْتَ فَلا يَجْدِهُ.

المراد من (الحذر من الموت) هو أن يحذر من أن يحلّ به قبل التهيؤ والاستعداد له، فيرحل إِلى تلك الدار عاصياً ومذنباً، فيساق إِلى جهنم فيتمنى الموت للخلاص منها ولا يجده، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَنَادَوْاْ يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ)(1) هذا بناءً على انّ المراد الضمير في الآية هم الكفّار أو أعداء أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين كما ورد في بعض الأحاديث، وإذا كان عن مطلق العاصين الماكثين في جهنم فليس المقصود هو انّكم ماكثون فيها أبداً، بل سوف تمكثون فيها بمقدار ما قدّر، ولا خلاص لكم منها في تلك المدّة لا بالموت ولا غيره.

3608 ـ اِنَّ تَقْوى اللهِ حَمَتْ أَوْلِياءَهُ مَحارِمَهُ وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيالِيَهُمْ وَأَظْمَأَتْ هَواجِرَهُمْ فَأَخَذوا الرَّاحَةَ بِالتَّعَبِ وَالرَّيَ بِالظَّمَأِ

المراد من (أسهرت لياليهم) هو ان التقوى أو الخوف من الله تعالى قد سلب نومهم في الليل ومن (أظمأت هواجرهم) جعلتهم ظمآى في وسط نهارهم، وفيه ترتفع الحرارة باعتبار انّها ألزمتهم الصيام فيظمؤون في وسط النهار، ومن (فاخذوا الراحة) حصلوا الراحة في تلك النشأة جزاء لأتعابهم في هذه النشأة، وهكذا الرواء في تلك النشأة لظمئهم في هذه النشأة.

3609 ـ اِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرات هِي أَفْضَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَة أَوْ تَعْتَدِلَ عَلى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنيا.

(الفظيع) كلّ أمر شديد الشناعة، والمراد انّ هناك مصائب شنيعة جداً بعد الموت لا يمكن وصفها بنحو كامل وادراكه، بل إذا وصف بأيّ وصف كان أصعب وأشنع، والمراد من (تعتدل على عقول أهل الدنيا) أي تناسب ادراكهم ويمكنهم بلوغ كنهها.

3610 ـ اِنَّ المَوْتَ لَمَعْقُودٌ بِنَواصِيكُمْ وَالدُّنيا تُطْوى مِنْ خَلْفِكُمْ.

أي انّ الموت قد كتب على نواصيكم ولا مخلص منه، والدنيا تمضي من خلفكم أي انّها تسوقكم نحو الموت، وهي تضمحلّ خلفكم تدريجاً وتزول.

3611 ـ اِنَّ المُتَّقِيِنَ ذَهَبُوا بِعاجِلِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ شَارَكُوا أَهْلُ الدُّنْيا فِي دُنْياهُمْ وَلَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلَ الدُّنْيا فِي آخِرَتِهِمْ.

المراد من (ذهبوا بعاجل الدنيا) انّهم تنعّموا بالدنيا أيضاً وإن كان قليلا، بل انّ أكثر المتقين في سعة ورفاه دنيوي ويرزقهم الله من طرق عديدة لا يتوقعونها، وعلى فرض مكابدتهم للضيق بدرجة في شؤون المعيشة، فانّ ما يشعرون به من حرية وراحة جرّاء ترك التعلّق بالدنيا والاشتغال بأتعاب اكتسابها، وبتحقق الاطمئنان والاستقرار يكفيهم عوضاً من نعيم الدنيا، بل انّه أفضل من سائر النعم الدنيوية المشوبة بالأتعاب والمشاق.

3612 ـ اِنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الزَّادُ وَالمَعادُ زَادٌ مُبَلِّغٌ وَمَعَادٌ مُنْجِحٌ دَعا إِلَيْها أَسْمَعُ دَاع وَوَعاها خَيْرَ وَاع فَاَسْمَعَ داعِيها وَفَازَ وَاعِيها.

(كون التقوى هي زاد) أمر واضح، لأنّها زاد السفر إِلى الآخرة و (كونها محل الرجوع) هو باعتبار انّ الإنسان سيصل إِلى جزائها وثوابها فكأنّه سيرجع إليها، ثمّ قال في مقام المدح لهذا الزاد ومحل الرجوع: (زاد مبلغ) أي موصل للمطلوب، و (معاد منجح) حيث يفلح الإنسان بسببه بما هو الغاية النهائية من الفلاح والوصول إِلى الجنة ونعمها والفوز برضا الله تعالى وهو أعظم من النعم كلّها.

(دعا إليها (أي التقوى) أسمع داع) هو النبيّ الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه الأخيار الأطهار(عليهم السلام) الّذين أمروا الناس بالتقوى، وهم أسمع للأوامر الإلهية من كلّ سامع، و (وعاها خير واع) يعني انّ الّذين عملوا بها والتزموا بها، إذ من الواضح انّ حفظها أفضل من حفظ أي أمر غيرها، فيكوين حافظها أفضل الحفّاظ، (فاسمع داعيها) يعني انّ داعيها الّذي هو أفضل السامعين قد أسمعها الناس وأمرهم بها وبيّن كيفيتها لهم، والّذين سمعوها منه وحفظوها وعملوا بها قد أفلحوا بغاية مطلوبهم، وهو كما ذكر «معاد منجحٌ».

3613 ـ اِنَّ التَّقْوى حَقُّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ عَلَيْكُمْ وَالمُوجِبَةُ عَلى اللهِ حَقَّكُمْ فَاسْتَعِينُوا بِاللهِ عَلَيها وَتَوَسَّلُوا إلى اللهِ بِها.

أي بما ان التقوى أمر عظيم، وحقّ أوجبه الله عليكم وألزمكم به، ويوجب حقكم على الله تعالى، ويرضى الله عنكم ويعطيكم الأجر والثواب فاستعينوا بالله عليه، أي بأن يعينكم عليه ويوفقكم واجعلوه وسيلتكم نحو الله في اكتساب مطالبكم الأخروية بل الدنيوية أيضاً.

3614 ـ اِنَّ تَقْوى اللهِ لَمْ تَزَلْ عَارِضَةً نَفْسَها عَلى الاُمَمِ الماضِينَ وَالغَابِرينَ لِحاجَتِهمْ إِليْها غَداً أَعادَ اللهُ ما أَبْدَأَ وَأَخَذَ ما أَعْطى فَما أَقلَّ مَنْ حَمَلَها حَقِّ حَمْلِها.

المراد من (عرض التقوى نفسها على الاُمم أي الأقوام السابقة والمقبلة) هو أنّ الله تعالى يلقيها في قلوب الجميع، وأوضح حسنها صلاحها بل ووجوبها ولزومها على عقولهم جميعاً، وهذا تفضل عليهم نظراً لشدة حاجتهم إليها غداً يوم القيامة، فإعانته إيّاهم في هذا المجال، ودفعهم نحو التدبر فيها لطف عليهم.

(إذا أعاد الله ما أبدأ) يعني إذا أحيى ما ابتدأ خلقه وفي هذا التعبير إشارة إِلى رفع استبعاد المعاد كما كان يشعر به الكفّار ويقولون: ءإذا كنا تراباً ءانا لمبعوثون؟ إذ انّه لما خلقهم في المرة الاُولى من العدم وأوجدهم فهو أقدر على إعادتهم مرة ثانية بطريق أولى فلا ينبغي استبعاد ذلك، كما اُشير إِلى ذلك في القرآن الكريم، و (وأخذ ما أعطى) أي أخذ الحياة الّتي أعطاها للناس بأن يميتهم لكي يبعثوا مرة أُخرى من أجل الثواب والعقاب، فذكر ذلك هو لكونه مقدّمة للاعادة الّتي ذكرت أوّلا وتأخيره عن الاعادة رغم تقدمه عليه لعله لتقدم الاعادة عليه حسب الرتبة، وقد يكون المراد هو حاجتهم عند الموت والعودة لكلاهما، ويكون تقديم الثاني على الأوّل إشارة إِلى شدّة حاجتهم إِلى التقوى في المعاد من حاجتهم إليه عند الموت لأنّ حاجتهم إليه عند الموت هو لتخفيف وطأته، وفي المعاد هو من أجل اكتساب السعادة الأبدية والخلاص من الشقاء السرمدي، وواضح انّ هذه الحاجة تكون أقوى من تلك.

(فما أقل من حملها حقّ حملها) تعجّب من انّ التقوى رغم وجود ما ذكر من عرضها نفسها على الناس دائماً وحاجة الناس الشديدة إليها، قلّ من حملها وعمل بها حقّ العمل، أي على الوجه الأكمل دون نقص فيها.

3615 ـ اِنَّ لَتَقْوى اللهِ حَبْلا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَمَعْقِلا مَنِيعَاً ذُرْوَتُهُ.

(العروة) بضم العين يطلق على موضع اليد من الجرّة والكوز، وعروة الحبل وما شاكله هي الحلقة أو العقدة الموجودة فيه كالحلقات أو العقد الّتي توجد في الحبل الّذي يستعمل في الصعود إِلى الأعلى أو ما يشدّ به السرج، وإثبات الحبل على النحو المذكور للتقوى هو من باب التمثيل نظراً إِلى انّ من يتعلق به ويتمسك به فانّه يصعد إِلى أعلى المراتب، ويصل إِلى أقصى المطالب، فكأنّه حبل وثيق عراه وكلّ من تمسك به فانّه يصعد ويصل إِلى المطالب السامية والمقاصد الكريمة، و (منيع) يعني المانع، و (ذروة الشيء) بضم الذال المنقوطة وكسرها هي أعلاه، وهذا أيضاً للتمثيل، والمراد انّ لكلّ تقوى موضع للجوء الناس، فكلّ من يوصل نفسه إليه منع عنه جميع الآفات، وليس بوسع أي آفة أن تبلغ تلك المرتبة العالية، وعليه فانّ اضافة الذروة إضافة بيانية أي الذروة الّتي هي موضع اللجوء إليها، وقد يكون المراد: انّ لموضع اللجوء إليها تكون مرتبتها العليا منيعة وليس بإمكان أية آفة من الوصول إليها، وهي مرتبة في أعلى مراتب التقوى، ولا يوجد في تلك المرتبة أي نقص أو خلل في التقوى عكس المراتب الاُخرى الّتي يوجد في التقوى الخلل والنقص في الجملة وذلك بتحقق التقوى في بعض المعاصي، ولم تتحقق في بعض، لأنّ مناعتها لا تكون كاملة أيضاً بل يكون منعها من بعض الآفات بقدر مرتبتها من القوّة والضعف.

3616 ـ اِنَّ التَّقْوى مُنْتَهى رِضى اللهِ مِنْ عِبادِهِ وَحَاجَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كُتَبَهُ.

أي إذا كانت غاية رضا الله عنكم هي التقوى، وكانت غاية ما يريده منكم، فيجب الالتزام بتقواه، لأنّه عالم بسركم وعلنكم ولا يخفى عليه شيء، فهو مطلع على كلّ من يخلّ في تقواه ويستدعي ذلك سخطه، والمراد من «أسررتم» هو أن يدور أمر في خلدهم ولم يعمل به، ومن «أعلنتم» هو أن يعمل به وإن لم يطلع عليه غير الله تعالى، وقد أُشير في هذا القول الشريف إِلى ما ورد في أحاديث أُخرى من انّ الله تعالى لتفضله لا يعاقب على النية السيئة ما دام لا يعمل بها، ولم تكتب ولكن سيكتب ما عمل به ويحاسب عليه، وقد ورد في تلك الأحاديث بانّه يثيب على النيّة الحسنة، وعليه يمكن أن يخصص (إن أسررتم) و (إن أعلنتم) بما يتنافى مع التقوى، ولا يكتب ما كان منها في السر لعدم ترتب ثواب وعقاب عليه، فلا يترتب على كتابتها غرض، وأمّا النيّات الحسنة فتكتب من أجل الاثابة عليها، وقد لا تكتب الأسرار مطلقاً وإن أُثيب على الحسن منها، لأنّ علم الله تعالى بها كاف للاثابة عليها، بل حتّى لو كتبت فلا وثيقة لها غير علم الله تعالى فهو كاف للاثابة، عكس ما يعمل بها لوضوح المصلحة في كتابتها لكي تكون أبلغ للحجة على الناس في اثابة بعض وعقاب بعض وعدم وجود حيف وظلم في ذلك، ولا حاجة لبيان ذلك.

3617 ـ اِنَّ التَّقْوى دَارُ حِصْن عَزِيز لِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ وَالفُجُورُ دارُ حِصْن ذَلِيل لا يُحْرِزُ أَهْلَهُ وَلا يَمْنَعُ مَنْ لَجأَ إِلَيْهِ.

3618 ـ اِنَّ التَّقْوى فِي اليَوْمِ الحِرْزُ وَالجَنَّةُ وَفِي غَد الطَّرِيقُ إِلى الجَنَّةِ مَسْلَكُها وَاضِحٌ وَسَالِكُها رَابِحٌ.

(الحرز) هو التعويذة والموضع المحصن المخصص لحفظ شيء، و (كون التقوى في اليوم حرز) بأحد المعنيين المذكورين وهكذا (الجُنّة) نظراً إِلى أن التقوى تحفظ الإنسان من الكثير من الآفات الدنيوية أيضاً، و (في غد الطريق إِلى الجنّة) يعني انّ ثمرتها الدنيوية هي الحرز والدرع وثمرتها الأخروية انّها طريق إِلى الجنة، وقد يكون المراد هو انّها تكون في الدنيا حرز ودرع يحفظ الإنسان ممّا يكون سبباً للآفة الأخروية، وفي غد تكون سبباً للدخول في الجنة بدون مانع، والمراد من (مسلكها واضح) هو انّ طريق التقوى واضح وبيّن، وقد بيّن في الشريعة المقدسة ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه، إذن طريق التقوى الّتي تعني إطاعة الله تعالى، واجتناب عصيانه طريق واضح وليس فيه اشتباه وكون (سالكها رابح) واضح.

وقد يكون الضمير في (مسلكها) و (سالكها) عائد إِلى (الطريق) فهو الأقرب إليه وليس إِلى (التقوى) لورود (الطريق) مذكراً ومؤنثاً بل يغلب فيها التأنيث، حتّى انّ الشيخ المحقق زين الدين(رحمه الله) غفل عن وروده مذكراً في كتاب شرح اللمعة وأوّل الضمير المذكر الّذي أرجع إليه في النص، فحينئذ يكون المعنى انّ الطريق نحو الجنة في غد يكون للمتقي واضحاً، والسالك فيه رابح.

3619 ـ اِنَّ تَقْوى اللهِ عِمارَةُ الدِّينِ وَعِمادُ اليَقِينِ وَإِنَّها لَمِفْتاحُ صَلاح وَمِصْباحُ نَجاح.

(كون التقوى عماد اليقين) ناشئ من انّ تركها يؤدي إِلى زوال اليقين تدريجاً، فهي بمثابة الأساس لحفظ اليقين، وقد يكون المراد انّها علامة اليقين فهي بمنزلة الأساس لاستقامته وظهوره.

3620 ـ اِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ حَجَزَهُ التَّقْوى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهاتِ.

المراد انّ من تكشف المواعظ وتبين له بصراحة حقيقة ما يكون أمامه من العقوبات على المعاصي، تثير فيه من الخوف والانزجار منها ما يمنعه التقوى من الوقوع في الشبهات، أي الاُمور المشتبه في حالها ولم يُعلم حلّيتها أو حرمتها فضلا عمّا علم حرمته، والمراد انّ من يحظى بعقل كامل يكون كذلك، أو انّ المواعظ إذا كانت قادرة على تصوير العقوبات للإنسان لكانت كذلك، وعدم تأثر الناس ناشئ من انّهم يسمعون حكايات وكلاماً في المواعظ ولا يرون عياناً فلا تؤثر فيهم كثيراً، والهدف هو بيان شدة تلك العقوبات، وانّ من يراها عياناً سوف لا يرتكب المشتبهات فضلا عن المحرمات.

3621 ـ اِنَّ مَنْ فَارَقَ التَّقْوى أُغْرِيَ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَواتِ وَوَقَعَ فِي تِيه السَّيِّئاتِ وَلَزِمَهُ كَبيرُ التَبِعاتِ.

ورد في بعض النسخ (كثير) بالثاء المثلثة (بدلا عن (كبير) بالباء ذات النقطة الواحدة.

3622 ـ اِنَّ تَقْوى اللهِ مِفْتَاحُ سَداد وَذَخِيرَةُ مَعاد وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَة وَنَجاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَة بِها يَنْجُو الهَارِبُ وَتُنْجَحُ المَطالِبُ وَتُنالُ الرَّغَائِبُ.

«السداد» يعني الثواب أي القول والفعل الصحيح، و (عتق من كلّ ملكة) يعني من أن تكون الأهواء والشهوات وأمثالها مالكة لهذا الإنسان، ويجب أن يكون كالعبيد مطيعاً لأوامرها، و (نجاة من كلّ هلكة) أي من الهلاك الدنيوي، بل من الكثير من الهلاك الأخروي أيضاً، و (بها ينجو الهارب) أي الهارب من العذاب والعقاب وسائر المكروهات الأخروية بل من الكثير من الفتن والبلايا الدنيوية أيضاً، و (تنجح المطالب) يعني المطالب الأخروية بل الكثير من الدنيوية أيضاً، وهكذا ينال بها العطاء الأخروي بل الدنيوي أيضاً.

3623 ـ اِنَّ المَوْتَ لَزائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوب وَوَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوب وَقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوب.

أي انّه (الموت) يزور الناس وإن كرهوا ذلك، و (واتر غير مطلوب) يعني يأتي إِلى الناس ينقصهم بدون أن يطلبوا ذلك، أو بدون أن يمكن استدعاؤه لمعاقبته، وقد يكون (الواتر) بمعنى محطّم الأزواج نظراً إِلى انّ موت إنسان يحطم الآخر، أو بمعنى المرعب أو مبلغ المكروه، أو بمعنى القاتل وعلى كلّ تقدير فانّ (غير مطلوب) يمكن أن يكون له أحد المعنيين المذكورين وهو بالمعنى الثاني أظهر، وفي بعض النسخ ورد (واثر) بالثاء المثلثة بمعنى (الواطئ) ويكون مؤكداً لما سبق، ويعني يطأ فراش الناس ويقبل عليهم دون أن يطلبوا ذلك، أو دون أن يكون طلبه ممكناً لمعاقبته «وقرن غير مغلوب» واضح.

3624 ـ اِنَّ الدَّهْرَ لَخَصْمٌ غَيْرُ مَخْصُوم وَمُحْتَكِمٌ غَيْرُ ظَلُوم وَمُحاربٌ غَيْرُ مَحْروُب.

(كون الدهر خصماً) ناشئ من انّ الغالب هو أنّ الناس فيه في أذى، فشاع إلحاق ما يقع فيها من مكروهات عليهم به، ولهذا يوصف بالعداء وعدم الوفاء وما شاكل. وبناءً على شيوع هذا المعنى ووضوح المراد منه وعدم الخطأ فيه يمكن أن يصدر أمثال هذا القول في أحاديث المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين والّذي لا يكون فيه جزافاً بأي وجه، و (كونه غير مخصوم) واضح فانّه لا يمكن الخصام معه ولا ثمرة فيه، و (محتكم غير مظلوم) يطلق (محتكم) على من أنيط به اصدار الحكم فيقوم باصداره في ذلك المجال، والمراد انّه جعل حاكماً في أُمور الناس فيحكم دون أن يظلم في حكمه.

ولا يخفى انّ حكمه من قبيل ما هو شائع من نسبة ما يقع فيه به، وأمّا عدم ظلمه فهو على سبيل الحقيقة إذ لا يصدر منه ظلم في ما يقع فيه، بل انّ ما يقع فيه يكون بعضه بأمر الله تعالى ولا طريق للظلم فيه، وفي البعض الآخر الّذي يشوبه الظلم فانّ الظالم فيه ليس هو الدهر بل لكلّ ظلم ظالم معلوم، بل انّ الدهر يجازي كلّ ظالم في النهاية، وبهذا الاعتبار يمكن نفي الظلم عنه أيضاً. و (كونه محارب غير محروب) واضح، وهو ممّا شاع معناه كما ذكر.

3625 ـ اِنَّ أَكْرَمَ المَوْتِ القَتْلُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَلْفُ ضَرْبَة بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ مِنْ مَيْتَة عَلى الفِراشِ.

المراد هو القتل في سبيل الله كالجهاد أو ظلماً وباطلا، و (كونه أكرم) واضح لأنّه يستدعي الفلاح في الآخرة عكس الموت على الفراش، ومن الواضح انّ ذلك ـ بملاحظة هذا المعنى ـ أسهل من الموت على الفراش مع انّه قد تكون أتعابه ومشاقه في الواقع ـ وإن كانت بألف ضربة سيف ـ أقلّ من آلام وأتعاب الموت على الفراش، أعاننا الله وجميع المؤمنين في جميع الأحوال.

3626 ـ اِنَّ الغَايَةَ القِيامَةُ وَكَفى بِذلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَمُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ وَبَعْدَ ذَلِكَ ما تَعْلَمُونَ مِنْ هَوْلِ المُطَّلَعِ وَرَوَعاتِ الفَزَعِ وَاسْتِكَاكِ الأَسْماعِ وَاخْتِلافِ الأَضْلاعِ وَضِيقِ الأَرْماسِ وَشِدَّةِ الإِبْلاسِ.

الظاهر أنّ المراد ممّن (كان عاقلا وجاهلا) شخص واحد متصف بهاتين الصفتين، والمراد انّ القيامة والإقرار بها كافية في أن تعظ من كان له شيء من العقل، ويعتبر بها (هذا الإنسان إذا كان جاهلا ومرتكباً للمعاصي أو انّه لا يعلم بماذا يشتغل. والمراد من (الاعتبار) هو انّه إذا كان مرتكباً للمعاصي سوف يتركها خوفاً من ذلك، وإن لم يعلم بماذا يشتغل سوف ينتبه إِلى وجوب الاشتغال بأُمور تستدعي فلاحه فيها. وقد يكون المراد من (العاقل) العاقل الكامل ومن (الجاهل) من لم يكن عقله كاملا، وإن كان له العقل اللازم للاعتبار في الجملة، فيكون المراد: انّ القيامة كافية في أن تعظ العاقل الكامل بما يكون سبباً لاستقامته على العمل الصالح، ويستدعي علو مرتبته، ولاعتبار الجاهل بالمعنى المذكور وذلك بترك المعاصي إذا كان مرتكباً لها، أو إنْ لم يعلم بماذا يعمل يكون عارفاً أيّ عمل ينجزه.

(وبعد ذلك ما تعلمون من هول المطلع) (المُطَّلَع) بضم الميم وتشديد الطاء وفتح اللام يطلق على الموضع الّذي يقف فيه الإنسان على مرتفع ويشرف عليه، ويطلع على أحوالهم، وقد شاع استعماله في القيامة نظراً لإشراف الإنسان عليها، واطلاعه على أحوالها في الجملة، وهكذا كلّ ما يشرف عليه الإنسان من العقبات بعد الموت وقبل القيامة، والظاهر انّ المراد من هذا القول الاعجازي هو المعنى الآخر نظراً إِلى انّ القيامة ذكرت أوّلا، وعلى ذلك فانّ بعدية ما تعلمون من هول المطلع مع تقدمه على القيامة يكون باعتبار البعدية حسب المرتبة.

ونظراً إِلى انّ الفكر في القيامة يكون أقوى في الوعظ وموضعاً للاعتبار، ثمّ انّ هول العقبات بعد الموت قبل القيامة تعظ وتكون موضعاً للاعتبار أيضاً.

وقد يكون المراد من (القيامة) في بداية القول هو العلم بمجيئها إجمالا، ومن (بعد ذلك) ما يعلم بعدها من الأحوال بعد الموت قبل القيامة وبعدها، والمراد من (المطّلع) هو الاثنان.

وقد يكون المراد من (القيامة) هو الموت كما ورد في بعض الأحاديث (إذا مات ابن آدم قامت قيامته) والمراد من (وبعد ذلك ما تعلمون) ما يكون بعد ذلك من الأحوال بعد الموت قبل القيامة وبعدها، وعليه يكون ] المطلع[ شاملا للاثنين أيضاً، و (روعات الفزع) يعني ما يقع بسبب الخوف من العقبات بعد الموت والقيامة من أنواع المدهشات للإنسان المقرّ بها، و (استكاك الأسماع) قد يكون مرتبطاً بالعاصين الّذين يصمّون بعد احيائهم في القبر بسبب صيحة العذاب أو الضرب على رؤوسهم، وقد قال القرآن الكريم عن الضالين:(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً)(2) وقال بعض المفسّرين: المراد انّهم لا يرون شيئاً ليفرحوا به، ولا يسمعون قولا ليستّروا به، ولا يقولون قولا يقبل منهم، أو انّهم يحشرون بعد الحساب من الموقف إِلى جهنم عمياً وبكماً وصماً حقيقة (واختلاف الأضلاع) يعني اهتزازها واضطرابها خوفاً ودهشة في القبر بعد احيائهم أو في جميع العقبات والمواقف حتّى الانتهاء من المخاوف وضيق القبور وشدة اليأس أو الانكسار أو الحزن ويكون ذلك للعاصين كلّه وإلاّ فانّ الله تعالى يوسع للصالحين قبورهم كما ورد في الأحاديث، ولا يشعرون باليأس والهزيمة والحزن، وغاية الأمر حصول الأهوال لكلّ أحد خوفاً من الشقاء، وعليه فانّ كلّ مفردة منها تكون معطوفة على ] المطلع[ والمراد هو الهول منها جميعاً. وقد يكون معطوفاً على هول المطلع والمراد هو انّكم تعلمون انّ هذه موجودة كلّها للعاصين، وهذا المعنى ينبغي أن يكون واعظاً وموضعاً للاعتبار لكم أيضاً كي تسلكوا سلوكاً يكون سبباً لأن تفلحوا من هذه الاُمور.

3627 ـ اِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَكَراهَةً وَإِقْبالا وَإِدْبارَاً فَأْتُوها مِنْ إِقْبالِها وَشَهَوَتِها فَإِنَّ القَلْبَ إِذا أُكْرِهَ عَمِيَ.

المراد انّ أوقات القلب وأحواله مختلفة، فحيناً له رغبة في العبادات وأعمال الخير وحيناً كراهة وإدبار بسبب الكسل أو الملل، فأقبلوا عليه عند التكليف بالعبادات واُمور الخير الاُخرى حين إقباله ورغبته وليس حين كراهته وإدباره فانّ القلب حينما لا يرغب في عمل ولا يقبل عليه ويجبر ويكره عليه فانّه يعمى ويفقد بصيرته، وما يعمله لا يكون مستنداً إِلى البصيرة والاذعان اللازم.

ولا يخفى انّ ذلك يكون في التكليف بالمستحبات والمندوبات، وهكذا في الواجبات مع سعة وقتها، ولكن عند ضيق وقتها فلا مناص من التكليف بها سواء أكان حين رغبة القلب وإقباله أو كان وقت كراهته وإدباره، لذا(3) أمر في الفقرة الّتي تلي الفقرة الّتي جاءت بعد هذا بالاقتصار على الواجبات في حالة الادبار.

وقد تكون هذه الفقرة خاصة للفكر والتأمل، ويكون المراد: عند إدبار القلوب لا تشتغلوا بها لأنّ القلب في هذه الحالة يكون أعمى ولا يبصر كي يمكنه الفكر، وعلى فرض تفكيره لا يكون فكره صحيحاً ويخطأ.

3628 ـ اِنَّ العِلْمَ يَهْدِي وَيُرْشِدُ وَيُنْجِي وَإِنَّ الجَهْلَ يُغْوِي وَيُضِلُّ وَيُرْدِي.

العلم يهدي ويرشد وينقذ، والجهل يضل ويهلك أو يلقي في الهلاك أو الفتن الدنيوية والأخروية. (الهداية) الدلالة إِلى الطريق أو الايصال إِلى المطلوب و (الإرشاد) بنفس المعنى أيضاً وهو تأكيد و (الضلالة) تأكيد أيضاً وبمعنى الغواية.

3629 ـ اِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبالا وَإِدْباراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوها عَلى النَّوافِلِ وَإِذا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِروا بِها عَلى الفَرَائِضِ.

وهذا هو مضمون القول السابق ذاته بناء على شرحه أوّلا(4).

3630 ـ اِنَّ السُّلْطَانَ لاََمِينُ اللهِ فِي الأَرْضِ وَمُقِيمُ العَدْلِ فِي البِلادِ وَالعِبادِ وَوَزَعَتُهُ فِي الأَرْضِ.

(وزعه) بفتح الواو والزاي المنقوطة العين غير المنقوطة هم الولاة الّذين يمنعون الناس ارتكاب ما حرمه الله من ظلم بعض لبعض آخر، ومفرده (وازع)، كـ (كتبة و كاتب)، واطلاقه بصيغة الجمع على السلطان بصيغة المفرد هو باعتبار كونهم أصحابه وأتباعه وشركاؤه في هذا المعنى، وقد يكون باعتبار المبالغة لأنّ السلطان لما له من الهيبة والسياسة بمنزلة مجموعة من الوازعين، أو باعتبار الجماعة الّتي يكون السلطان وازعها، فإذا كان غير السلطان وازعاً لزم تعدّد الوازعين ليمنعوا من المعاصي والظلم، وبما انّ السلطان يُنزّل منزلة جميعهم فكأنّه مجموعة من الوازعين، والمراد انّ السلطان يجب أن يكون متصفاً بهذه الصفات، وعليه فالسلطان الّذي لا يكون كذلك ليس بسلطان في الحقيقة، قد استلم السلطة بدون حقّ ولا تكون سلطته من قِبل اللهِ.

3631 ـ اِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ الفُحُولِ طَوَامِحُ وَهُوَ سَبَبُ هَبابِها فَإِذا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلى امْرأَة فَأَعْجَبَتْهُ فَلَيَمُسَّ أَهْلَهُ فَإِنَّما هي امْرَأَةٌ بِامْرَأة.

انّ أبصار هذه الفحول طموحة، وهذا هو السبب لشدة الشهوة للاُنثى، فإذا وقع بصر أحدكم على امرأة فأعجبته فليأتِ أهله فإنّما هي امرأة بدل امرأة، والمراد انّه من الطبيعي أن تتوجه عيون الفحول إِلى الاناث، أي حينما يرى الفحل الاُنثى فانّه يتوجه إليها، الأمر الّذي يثير رغبته وانجذابه لمقاربتها، وعليه إذا وقعت أبصاركم على امرأة ليست حليلتكم وأعجبتكم، فليأتِ (أحدكم) امرأته كي يزول منه انجذابه ورغبته ولا يرتكب محرماً، لأنّ امرأته امرأة أيضاً وتكون بدلا عنها، فإذا قاربها فسوف لا يرغب في امرأة أُخرى، وفي بعض النسخ ورد (هناتها) بالنون والتاء بنقطتين في الأعلى بدلا عن (هبابها) بباءين منقوطتين في الأسفل، فيكون المعنى: انّ هذا يكون سبباً للخصال الذميمة فيهم، والمراد هو ذلك الانجذاب والشهوة لتلك الاُنثى وما يتفرّع على ذلك، وقد نقل في كتاب نهج البلاغة انّ الإمام(عليه السلام) كان جالساً مع أصحابه فمرت امرأة حسناء فأخذوا ينظرون إليها بأطراف عيونهم، فقال هذا القول.

3632 ـ اِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ عَيْشَاً مَنْ حَسُنَ عَيْشُ النَّاسِ فِي عَيْشِهِ.

أي كان الناس في رفاه بسبب وجوده، كالحاكم الّذي يدفع الظلم عن الرعية، أو من يصل عطاؤه وإحسانه للناس.

3633 ـ اِنَّ إِحْسَانَكَ إِلى مَنْ كَادَكَ مِنَ الأَضْدادِ وَالحُسَّادِ لاََغْيَظُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَواقِعِ إساءَتِكَ مِنْهُمْ وَهُوَ دَاع إِلى صَلاحِهِمْ.

المراد: انّك إذا أحسنت إِلى الأعداء والحسّاد، فانّ ذلك يثير فيهم السخط بنحو أكبر من مواقع اساءتك منهم نظراً إِلى الخجل والانفعال الشديدين الحاصلين لديهم جراء ذلك، ويكون سبباً لحسد آخر منهم عكس ما لو أسأت إليهم لأنّهم لاينفعلون به كثيراً ومع هذا فانّ ذلك سبب لصلاحهم وتركهم العداء والحسد ايّاك.

3634 ـ اِنَّ رَأْيَكَ لا يَتَّسِعُ لِكُلِّ شَىْء فَفَرِّغْهُ لِلْمُهِمِّ.

أي انّ الإنسان لا يسعه متابعة كلّ الاُمور والسعي للجميع، فعليه أن يخلي قصده ورأيه لما هو الأهم من أُمور الدنيا والآخرة، ولا يشغل نفسه بالأعمال الاُخرى الّتي تستدعي حرمانه من تلك الاُمور المهمة، وحتّى من يطلب العلوم فانّه لا يسعه اكتساب كلّ العلوم، فلابدّ أن لا يشغل نفسه إلاّ بالمهم منها.

3635 ـ اِنَّ مَالَكَ لا يُغْنِي جَمِيعَ النَّاسِ فَاخْصُصْ بِهِ أَهْلَ الحَقِّ.

أي الّذين يستحقون الاحسان أكثر من غيرهم لإيمانهم وشدة فقرهم وأمثالهما من الامتيازات، وقد يكون المراد من (أهل الحقّ) خصوص المؤمنين أي اجعله خاصاً بهم ولا تعطه لأهل المذاهب الأُخرى.

3636 ـ اِنَّ كَرَامَتَكَ لا تَتَّسِعُ لِجَمِيعِ الخَلْقِ فَتَوَخَّ بِها أَفاضِلَ الخَلْقِ.

أي الّذين يمتازون على الناس كما ذكر في شرح القول السابق.

3637 ـ اِنَّ لَيْلَكَ وَنَهارَكَ لا يَسْتَوْعِبانَ لِجَمِيعِ حَاجَاتِكَ فَاقْسِمْها بَيْنَ عَمَلِكَ وَراحَتِكَ.

أي انّ ليلك ونهارك لا يفيان بأن تسعى لكلّ مقاصدك، فقسّم حاجاتك بين عملك وراحتك، أي اجعلها قسمين، قسم تعمل من أجلها وهي المقاصد المهمة بالنسبة للآخرة أو الدنيا، وقسم تتركه وتستريح من السعي له، وهو المقاصد الّتي ليست مهمة بالنسبة للآخرة ولا للدنيا.

3638 ـ اِنَّ أَوْقَاتَكَ أَجْزاءُ عُمْرِكَ فَلاْ تُنْفِدْ لَكَ وَقْتَاً إلاَّ فِيما يُنْجِيكَ.

ورد في بعض النسخ (في غير ما ينجيك) فيكون المعنى لا تصرف وقتك في غير ما ينجيك، وفي بعض النسخ ورد (تنفذ) بالذال المنقوطة، فيكون المعنى لا تقض لنفسك وقت أي لا تصرفه إلاّ في ما ينجيك أو في غير ما ينجيك.

3639 ـ اِنَّ نَفْسَكَ مَطِيَّتُكَ إِنْ أَجْهَدْتَها قَتَلْتَها وَإِنْ رَفَقْتَ بِها أَبْقَيْتَها.

الظاهر انّ المراد من (النفس) هنا هو البدن مع احتمال إرادة النفس المجردة أيضاً، وعلى كلّ تقدير فالمراد: لا تجهد نفسك كثيراً فانّه يسبب هلاكك أي يعمل على قتلها، أو يعمل على أن تشعر بالملل والكدورة فلا يسعها أداء عمل ما، ولهذا المعنى حكم الهلاك أيضاً، بل ينبغي معاملتها باللين وإشغالها بالعمل قدر ما تتحمله وإعطائها قسطاً من الراحة كي تبقى ويمكنها الاشتغال بعمل آخر.

3640 ـ اِنَّكَ إنْ أَخْلَلْتَ بِشَيء مِنْ هَذا التَّقْسِيمِ فَلا تَقُومُ نَوافِلُ تَكْتَسِبُها بِفَرائِضَ تُضَيِّعُها.

نظراً إِلى ما ظهر من القول السابق من أنّ النفس لا ينبغي تكليفها كثيراً واشغالها الدائب بالعمل، بل لابدّ من تقسيم الزمان قسم للعمل وقسم للاستراحة، يقول في هذا القول: إنْ أخللت بشيء من هذا التقسيم المذكور، فانّ السنن الّتي تكتسبها لا تعادل الواجبات الّتي تفرط بها، المراد: انّك انْ أخللت بذلك التقسيم ولم تخصص وقتاً لراحتها وتشغلها بالعمل المتواصل فانّ أفضل الأحوال هو أن تشغلها دائماً بالعمل بالسنن بعد أداء الفرائض، إذ من المعلوم بانّ ما أوجبه الله تعالى على هذا الإنسان خفيف جداً، وليس بالكم الّذي يتضمن مشقة كبيرة عليه، فإذا أتعب الإنسان نفسه كثيراً يجب أن يشتغل بالزيادة في ملء الفراغ الدنيوي، أو يشتغل بعد أداء الفرائض بالأعمال المستحبة الّتي تزيد على قدرة تحمله ولا يوجد احتمال أفضل من هذا، وفي هذا مفسدة أيضاً حيث توضح من القول السابق انّ التحميل الكثير على النفس يقتلها كالإبل الّذي يحمّل حملا ثقيلا ولا يطيقه، فيهلكها، أو بأن يجعلها تشعر بالملل والكدورة بحيث تعجز عن الاشتغال بالعمل، وعلى كلّ تقدير فانّ إشغالها مدة في أداء السنن الكثيرة يؤدي إِلى فوات الواجبات منها، أو انّها لا تبقى فيُحرم من أداء الواجبات في المدة الّتي كانت ستبقى لو لم يحمّلها فوق طاقتها فيؤدي تلك الواجبات، أو انّها تبقى ولكن تصاب بالفتور بحيث لا تقوى بعدها على أداء الواجبات بشرائطها وآدابها، وهذان يضران بها لأنّ السنن الّتي عمل بها في تلك المدة لا تعادل الواجبات الّتي تفوته بعدها، حيث من الواضح انّ ثواب الواجب أكبر من المستحبات، وضرر ترك الواجب أشد من ضرر ترك المستحب.

3641 ـ اِنَّ أَخَاكَ حَقَّاً مَنْ غَفَرَ زَلَّتَكَ وَسَدَّ خَلَّتَكَ وَقَبِلَ عُذْرَكَ وَسَتَرَ عَوْرَتَكَ وَنَقى وَجَلَكَ وَحَقَّقَ أَمَلَكَ.

المراد من «سدّ خلتك» هو لا يتركك محتاجاً وما تحتاجه يقدّمه لك إن استطاع لكي تسد نقص حاجتك، ومن «قبل عذرك» انّك إذا كنت مقصراً بحسب الظاهر وقدّمت عذراً عن ذلك فانّه يقبل عذرك، ورغم ذلك فانّه لا يؤاخذك ومن (ستر عورتك) إذا اطّلع على ما تريد اخفاؤه كالخطأ أو الزلل أو العيب فانّه يستره ولا يظهره أمام أحد، ومن (نفى وجلك) انّك إذا فعلت ما تخاف مؤاخذته إياك بسببه، فانّه يتجاوزه ويزيل خوفك، ومن (وحقق أملك) أن ينجز لك كلّ أمل ترجوه من رعاية وعناية وإكرام وإحسان ولا يقطع أملك.

3642 ـ اِنَّ الَّذي فِي يَدَيْكَ قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَهُوَ صَائِرٌ إِلى مَنْ بَعْدَكَ وَإِنَّما أَنْتَ جَامِعٌ لاَِحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُل عَمِلَ فِيما جَمَعْتَ بِطاعةِ اللهِ فَسَعِدَ بِما شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُل عَمِلَ فِيما جَمَعْتَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَشَقِيَ بِما جَمَعْتَ وَلَيْسَ أَحَدُ هَذينِ أَهْلا أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلى نَفْسِكَ وَلا تَحْمِلَ لَهُ عَلى ظَهْرِكَ.

المراد من أوّل القول بانّه لا ينبغي الغرور بمال الدنيا، ولا يحرص عليها لأنّها لا تكون مع الإنسان أكثر من عدة أيّام، وكانت قبله لغيره وتصل بعده إِلى غيره، ومثل هذا الشيء لا يستحق أن يغترّ به إنسان ويعتبره امتيازاً له، وأن يحرص على تحصيله أو ادّخاره وعدم صرفه، وما قاله: (وإنّما أنت جامع... الخ) هو ذم خصوص جمعه وعدم انفاقه حيث انّ من يجمعه ولم يصرفه يتركه بل يصرفه بعده في طاعة الله، فيسعد بسبب ما شقي به من جمعه وتركه له، فسعادته واضحة، وهكذا شقاء جامعه إذا لم يدفع حقوقه الواجبة كان قادراً على ذلك، المراد من (شقائه) انّه رغم توفّر القدرة على الانتفاع به في الدنيا والآخرة، فانّه قد حرم نفسه منه كي ينتفع به آخر ويتحمّل كراهة هذا المعنى وكدورته، أو لمن يصرفه في عصيان الله فهو يشقى بما جمعه هذا الإنسان له. واضح انّ أياً من هذين الفردين لا يستحق لأن يختاره الإنسان على نفسه بأن لا يصرف أمواله ويتركها له ليصرفه، ولا يستحق ان يتحمّله الإنسان على عاتقه أي بأن يتحمل الذنب على عاتقه إذا أخلّ في أداء حقوق ما جمعه، وإن لم يخل فيه يكون المراد من حمل الكراهة والكدورة هو ادخاره وعدم صرفه في الطريق النافع له، وهكذا حمل أتعاب وآلام كسبه وحفظه وحراسته في الدنيا والحساب عليه في الآخرة.

3643 ـ اِنَّ العَبْدَ بَيْنَ نِعْمَة وَذَنْب لا يُصْلِحُهُما إِلاَّ الإسْتِغْفارُ وَالشُّكْرُ.

المراد انّ الإنسان لابدّ له من الرجوع إِلى الله تعالى، لأنّه في كلّ حال إمّا مطيع أو مرتكب للمعصية، والأوّل نعمة عليه فيلزمه الشكر، والثاني واضح في لزوم الاستغفار منه.

3644 ـ اِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لا يُقَرِّبانِ مِنْ أَجَل وَلا يَنْقُصانِ مِنْ رِزْق لَكِنْ يُضاعِفانِ الثَّوابَ وَيُعْظِمانِ الأَجْرَ وَأَفْضَلُ مِنْهُما كَلِمَةُ عَدْل عِنْدَ إِمام جَائِر.

ظاهر هذا القول الاعجازي انّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يضران فاعلهما أبداً كأن يقتل بسببهما، أو ينقطع شيء من رزقه، ويترتب عليهما ثواب وأجر عظيم فلا ينبغي تركهما. ولا يخفى انّ الحكم العام بشأنهما لا يخلو من إشكال نظراً لاحتمال الضرر في بعض الموارد ولذا لم يأمر الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين خلفاء الجور باتباع الحقّ، ولم ينهوهم عمّا يفعلونه من غصب حقوقهم، بل كانوا يعملون بالتقية ولم ينهوا في الكثير من الاُمور الاُخرى الّتي يرتكبونها من المحرمات حتّى انّهم في الكثير من الأحكام الشرعية الّتي تغيّرت أيام الأوّل أو الثاني لم يأمروا بالحقّ ولم ينهوا عنها، ولم يكن ذلك إلاّ خشية الضرر الشديد، فيجب حمله على عدم الضرر في الكثير من الأحيان، ففي تلك الموارد لا ينبغي تركهما كما قال العلماء من أن شرط وجوبهما هو الأمن من الضرر على نفسه وعلى غيره من المؤمنين نفساً ومالا وعرضاً وبدون ذلك لا يجبان بل يحرمان على المذهب المختار.

والمراد من (مضاعفة الثواب) انّهما يسببان الثواب العظيم كما قال(عليه السلام): (ويعظمان الأجر) أو المراد: انّ الله تعالى يضاعف ثوابهما الّذي يستحقه الإنسان بسببهما تفضلا منه، أو انّه ببركتهما يضاعف ثواب كلّ عمل يقوم به فاعله أكثر من ثواب من يفعل ذلك العمل، ولم يأت بهما، والمراد من (أفضل منهما كلمة عدل) هو القول الّذي يتفوه به الإنسان عند الحاكم الجائر بغية دفع ظلم أو إقامة عدل باسم الشفاعة لشخص أو غيرها من الكلام الّذي لا يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا عجز عن أمره ونهيه، وإذا كان باسم الأمر والنهي فانّه من أفضل أفرادهما وليس أفضل منهما.

3645 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبادَهُ تَخْييراً وَنَهاهُمْ تَحْذِيَراً وَكَلَّفَ يَسِيرَاً وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِيرَاً وَأَعْطى عَلى القَلِيلِ كَثِيرَاً وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً َلَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَلمْ يُرْسِلِ الأَنْبِياءَ لَعِباً وَلَمْ يُنْزِلِ الكِتابَ عَبْثَاً وَما خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما بَاطِلا، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.

المراد انّ الله تعالى الّذي أمر العباد بما أمر به لم يجبرهم على فعلها، بل أراده منهم مع وجود القدرة المعطاة لهم على فعلها وعدم فعلها، وليس نهيه عن بعض الأشياء إلاّ للتخويف فيها بإبراز قبحها وكونها السبب لاستحقاق العذاب والعقاب، دون أن يضطرهم على تركها بل مع وجود النهي الإلهي فانّ لديهم القدرة على الفعل وعدمه كليهما، والوجه في ذلك رغم وجود القدرة الإلهية على إجباره إيّاهم على فعل كلّ الخيرات واجتناب كلّ المعاصي لكي لا يفوت الإنسان أي واجب ولا يصدر منه أي حرام هو أنّ الله تعالى له أعلى مراتب الكمال بذاته، وليست له أية حاجة لأعمال العباد أو غيرها، ففي التكاليف الّتي فرضها تعالى على العباد لم يستهدف لنفسه أية فائدة أو منفعة، بل انّ ثمرتها ومنفعتها تكون للعباد حيث انّهم بسبب إطاعتها يستحقون الثواب والتعظيم والتبجيل، وواضح انّ استحقاقهم يكون في حالة كون اطاعتهم عن قدرة واختيار، فإذا كانوا مجبورين في أداء ما أمروا به وعاجزين عن تركها، وهكذا ما يجتنبونه من المنهيات إذا كانوا مضطرين على تركها وفقدوا القدرة على فعلها، فلا تحصل بهم فضيلة وامتياز بسبب ذلك يستحقون بهما التعظيم والتكريم، ولذا اقتصر في التكاليف على الإرشاد إِلى الخيرات وأعمال البر والشرور والسيئات وأمر بتلك ونهى عن هذه، وهناك تفضل في كلّ مجال بألطاف تقربهم إِلى الطاعة في ذلك المجال إِلى درجة لا تجبرهم وتضطرهم على ذلك، بل كانوا قادرين على خلاف ذلك كي يستحق كلّ من يطيع الثواب وهو عوض يعطى بهدف التعظيم والتبجيل، وكلّ من يعصي ويخالف يستحق العذاب والعقاب.

و (كلف يسيراً ولم يكلف عسيراً) واضح وغني عن البيان وهكذا (وأعطى على القليل كثيراً) لأنّه يعطي على قليل من الطاعة ـ اضافة إِلى النعم الدنيوية الّتي أعطاها ـ الجنة الدائمة الخالدة، ولا يمكن وصف نعمها باللسان والبيان، ونصيب أصغر مؤمن منها يفوق الدنيا كلّها كما ورد في الأحاديث، والمراد من (ولم يعص مغلوباً) انّ من يعصيه ليس بغلبته عليه من باب معارضة الله له في ذلك المجال فتغلب على الله وعمل بما يعارض إرادته، بل من باب عدم اجبار الله تعالى أحداً على أداء فعل أو تركه، قد ترك الأمر إليه بعد هدايته واللطف به فان شاء أطاع وإن شاء عصى، وكلّ مجموعة تكون مستحقة لجزاء أفعالها كما ذكر، فعصيان كلّ عاص لا يعني الغلبة عليه، فانّه إن شاء يستطيع بمجرد الإرادة ان يبيد الدنيا وما فيها، فكيف يمكن توهم غلبة إنسان عليه؟ وقد يكون المعنى: انّه لم يُعْصَ والعاصي مغلوب، أي مجبور ومضطر في ذلك العصيان، وغلب عليه أمر ألجأه إِلى العصيان و (ولم يطع مكرهاً) تم بيانه ولا يحتاج إِلى الاعادة. ويمكن قراءة (مَكرَهاً) بفتح الراء فيكون المعنى: لم يطع والمطيع مكره والنتيجة واحدة، و (ولم يرسل الأنبياء لعباً) واضح لوضوح انّ إرسالهم يكون لهداية الناس وإرشادهم إِلى ما كلّفوا به من الاُصول والفروع في الأديان، وهكذا (ولم ينزل الكتاب عبثاً) واضح وفائدة كلّ منها ظاهر وغني عن التوضيح، وهكذا (عدم بطلان خلق السموات والأرض وما فيهما) فهو أمر واضح وبيّن وظاهر وبارز، فانّ خلق العباد والملائكة والاُنس والجن هو من أجل العبادة واستحقاق رحمته اللامتناهية بسببها، وخلق سائر المكوّنات هو من أجل مصالحهم، ولا توجد ذرّة من ذرّات العالم العلوي والسفلي دون أن يلاحظ فيها عدة مصالح وفوائد قد اكتشف الناس القليل منها وهو ما يفوق على العد والاحصاء، كما هو الظاهر من تصفّح الصحف النقلية وتتبع الزبر العقلية، و (ذلك ظنّ الّذين كفروا) يعني كون خلقها باطلا هو ظنّ الّذين كفروا، يعني الملحدين الدهريين الّذين يقولون: انّها قد وجدت بنفسها، دون أنْ يكون لها خالق قد خلقها عن علم في مصلحتها.

وقد يكون المراد انّ ذلك أي كون العباد مجبرين ومضطرين في الاطاعة والعصيان خلافاً لما قاله الإمام من انّ الاطاعة والعصيان يكونان عن اختيار، هو ظن الّذين كفروا، أي انّ هذا المعنى يستلزم الكفر لأنّ العباد إذا كانوا مضطرين ومجبرين في ذلك فانّهم غير مستحقين للثواب ومن السفاهة تعظيمهم وتبجيلهم، ويكون عقاب العاصي ظلماً وعدواناً محضاً وتجويز ذلك بالنسبة لله تعالى كفر، وما سبق هذا القول الاعجازي وما لحقه المذكور في الكتب الاُخرى يؤيد هذا المعنى، ونقله بنحو كامل يستدعي اطالة الكلام، (فويل للّذين كفروا من النار) أي الويل لهؤلاء من نار جهنم وما سيصلهم فيها.

3646 ـ اِنَّ العُهُودَ قَلائِدُ فِي الأَعْناقِ إِلىْ يَوْمِ القِيامَةِ فَمَنْ وَصَلَها وَصَلَهُ اللهُ وَمَنْ نَقَضَها خَذَلَهُ اللهُ وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِها خَاصَمَتْهُ إِلى الَّذِي أَكَّدَها وَأَخَذَ خَلْقَهُ بِحِفْظِها.

المراد من (العهود) كلّ عهد أبرمه الإنسان مع الله تعالى سواء أكان بصيغة العهد أو النذر أو القسم، وقد يشمل العهود والعقود والوعود الّتي يعدها الإنسان مع الغير، والمراد من (كونها قلائد) هو انّها تبقى في عنق الإنسان إِلى يوم القيامة فيحكم الله تعالى بشأنها. (فمن وصلها) يعني يراعيها ويفي بها فانّ الله تعالى يصله ويحسن إليه، وإن لم يف بها (خاصمته) أي انّ تلك العهود كما يخاصم شخص شخصاً آخر ويقيم الدعوى عليه ويستدعيه إِلى الحاكم تقيم عليه الدعوى وتستدعيه إِلى الحاكم المطلق الّذي أحكمها أي حكم بأن يحافظ عليها بشدة وعدم التساهل فيها، و (أخذ خلقه) يعني أوجب عليهم المحافظة عليها أي الوفاء بها دون نكثها.

3647 ـ اِنَّ صِلَةَ الأَرْحامِ لَمِنْ مُوجِباتِ الإسْلامِ وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِلْزامِها وَإِنَّهُ تَعالى يَصِلُ مَنْ وَصَلَها وَيَقْطَعُ مَنْ قَطَعَها وَيُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَها.

3648 ـ اِنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ مَنِ اقْتَنى اليَأْسَ وَلَزِمَ القُنُوعَ وَالوَرَعَ وَبَرِىءَ مِنَ الحِرْصِ وَالطَّمَعِ، فَإِنَّ الطَّمَعَ وَالحِرْصَ الفَقْرُ الحَاضِرُ وَإِنَّ اليَأْسَ وَالقَنَاعَةَ الغِنى الظَّاهِرُ.

3649 ـ اِنَّ المُجاهِدَ نَفْسَهُ وَالمُغَالِبَ غَضَبَهُ وَالمُحافِظَ عَلى طَاعَةِ رَبِّهِ يَرْفَعُ اللهُ سُبْحانَهُ لَهُ ثَوابَ الصَّائِمِ القَائِمِ وَيَنيلَهُ دَرَجَةِ المُرابِطِ الصَّابِرِ.

المراد من (رفع الله سبحانه له ثواب الصائم القائم) هو أنّه تعالى يأمر بأن يكون ثواب عمله ثواب هذا الإنسان، وتكتبه الملائكة له وتصعد به إِلى السماء، وتحفظه حتّى يُعطى له يوم القيامة، والمراد من (القائم) هو انّهم يقومون على أرجلهم ليلا للصلاة أو ليلا ونهاراً. و (وينيله درجة المرابط الصابر) يعني يجعل درجته كدرجة المرابط في حدود المسلمين صوناً لهم وحراستهم ودفع الكفّار، وكالصابر على مشقة وأتعاب هذا العمل أو في مطلق المصائب والنوائب.

3650 ـ اِنَّ أَفْضَلَ مَا اسْتُجْلِبَ بِهِ الثَّنَاءُ السَّخَاءُ وَإِنَّ أَجْزَلَ مَا اسْتُدِرَّتْ بِهِ الأَرْباحُ البَاقِيَةُ الصَّدَقَةُ.

المراد من (الأرباح الباقية) هي المنافع الأخروية الباقية الدائمة.

3651 ـ اِنَّ مَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِالْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ عَنِ المَضْمُونِ لَهُ وَرَضِيَ بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَلَهُ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ سَلاَمَةً فِي عَافِيَة وَرِبْحاً فِي غِبْطَة وَغَنِيمَةً فِي مَسَرَّة.

المراد من (المضمون له) الرزق الّذي ضمن الله تعالى إيصاله إِلى كلّ موجود حي، والمراد هو أن يشغل نفسه بما هو واجب عليه، ويترك الطلب والسعي من الرزق الّذي ضمنه الله تعالى ويصله بدون سعي، ويرضى بحكم الله تعالى عليه وما قدّره له، أي بما فيه الضرر أو النفع، أي يكون راضياً بكلّ ما هو مقدّر له سواء أكان فيه نفعه أو الضرر والنقصان و (غبطة) تعني حسن الحال أو السرور والفرح، وعلى كلّ تقدير تكون (غنيمة في مسرة) بمنزلة التأكيد لما سبق.

3652 ـ اِنَّ اللهَ تَعَالى لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ وَإِنِ اشْتَدَّتْ حِيلَتُهُ وَعَظُمَتْ طَلِبَتُهُ وَقَوِيَتْ مَكِيدَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ لَهُ فِي الذِّكْرِ الحَكِيمِ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَ العَبْدِ فِي ضَعْفِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ أَنْ يَبْلُغَ دُونَ ما سُمِّيَ لَهُ فِي الذِّكْرِ الحَكِيمِ وَإِنَّ العَارِفَ لِهَذا العَامِلَ بِهَ أَعْظَمُ النَّاسِ رَاحَةً فِي مَنْفَعَة وَإِنَّ التَّارِكَ لَهُ وَالشَّاكَّ فِيهِ لاََعْظَمُ النَّاسِ شُغْلا فِي مَضَرَّة.

ذكر آنفاً انّه يظهر ممّا ورد من مجموع الأحاديث في هذا الباب انّه سيصل للإنسان ما قُدّر له من اُمور الدنيا من رزق وغيره ممّا لا يمكن أن يزيد عليه، وهذا المقدّر سيصل إليه وإن كان عاجزاً، هذين القدرين قدر مشروط بالسعي والطلب، فإذا سعى أمكن أن يزاد له شيئاً ما وإن لم يسعَ لم يزد. وعليه فانّ المراد من هذا القول الاعجازي وأمثاله هو أنّ السعي المضاعف فيها لا فائدة فيه، وانّ تدبير الإنسان مهما كان متقناً وطلبه شديداً ومكره قوياً لن يصل إِلى أكثر من ذلك، إذ انّ المقدر هو أن لا يصله ما زاد على ذلك، وهكذا المقدار المقدر فانّه يصل إليه وإن عجز عن أي تدبير أو لم يفعله، و (الذكر) يعني التذكير و (الحكيم) هو المحكم أو القويم الصحيح والمراد من (الذكر الحكيم) إمّا علم الله تعالى وهو المذكر الحكيم لكلّ شيء، أو اللوح المحفوظ الّذي يثبت فيه كلّ ما قدّر حتماً فكأنّه مذكر حكيم، (ولم يحل)(5) يلزم هنا التقدير في القول، أي لم يمنع ما بين العبد حال ضعفه وقلة حيلته، أو بسبب ضعفه وقلة حيلته وبين ما قدّر له بأن يصل بأقل ممّا عيّن له في الذكر الحكيم ولا يصل إِلى كلّه، أو لم يمنع بينه وبين ذلك بهدف الوصول إِلى ما هو أقل من ذلك ولا يصل إليه، وقد لا يكون (دون) بمعنى أقل بل بمعنى (عند) فيكون المعنى: لا يمنع بين العبد حال ضعفه قِلة حيلته أو بسببهما وبين وصوله إِلى ما قرّر له في الذكر الحكيم، و (كون العارف لهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعة) هو انّ هذا الإنسان إمّا لا يسعى من الأساس ويرضى بما يصله، أو لا يسعى كثيراً، وبناءً على الأوّل يكون في راحة تامة من مشقة السعي من أجل ذلك تماماً، وعلى الثاني يكون في راحة من أتعاب السعي المضاعف لأجلها، وعلى كلّ تقدير ازدادت راحته فيكون مشغولا للسعي من أجل الآخرة، وعليه عظمت منفعته وربحه، و (الشاك فيه أو من ترك العمل به) يشتغل بالسعي المضاعف من أجل الدنيا ولا يهتم باُمور الآخرة حسب المطلوب، وعليه يكون أكثر الناس اشتغالا بالضرر والخسران.

3653 ـ إِنَّ ها هُنَا ـ وَأَشَارَ بيده إِلى صَدره ـ لَعِلْماً جَمّاً لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً بَلَى أَصِيْبُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُون عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا أَوْ مُسْتَظْهِراً(6) بِنِعَمَ اللهِ عَلَى عِبادِهِ وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لاَِوَّلِ عَارِض مِنْ شُبْهَة.

والمراد انّ في صدري علماً كثيراً، ولكن لا أجد له حاملا قادراً على حمله كي أُعلّمه، وإن كنت واجداً له حملة لكنت أعرضه عليهم وأُعلّمهم، فقول الإمام (لو أصبت له) شرطية حذف جزاؤها اعتماداً على ظهوره، وقد تكون (لو) للتمني فيكون المعنى: ليتني كنت أجد حملة، وعلى كلّ تقدير نظراً للعلم من هذا القول انّه لم يجد حملة له أخذ يفصّل ويوضح هذا المعنى بانّي أجد واحداً من عدة فرق ليس فيها من هو أهلا لحمل تلك العلوم، أحدهم ذكي وأهل للفهم ولكن لا يُؤمَن في حفظ الأسرار، وعدم الافصاح عنها لدى جمع لا ينبغي الافصاح أمامهم لعدم التزامه الديني، بل يستخدم الوسائل الدينية لخداع الناس وكسب الدنيا من خلال ذلك، والآخر يستقوي ] بنعم الله(7) على عباده أي يغتر بالنعم الّتي أنعم الله على عباده وهو منهم حيث أعطاه أيضاً من المال وغيره ويستعين بها ويتقوى بالحجج والبراهين الّتي أرسلها الله تعالى إِلى أحبائه وهم أئمّة الهدى من الآيات نزلت بشأنهم، من خلال تحريفها والادعاء بانّها نازلة فيه أو بمن يقول بإمامته[، والآخر يطيع حملة الحقّ ولكن لا بصيرة له في متشابهاته، ويعجز عن فهم ما فيه التعقيد وظاهره غير مراد، ونظراً لعدم بصيرته فانّ الشك ينقدح في قلبه لأوّل شبهة ترد عليه في الاُمور الدينية، أي لأنّه يفقد الفهم والبصيرة لكي يرسخ عقائده على أساس من الدليل والبرهان بل يعتقد بها بالتقليد دون أن يكون لها رسوخ وثبات، فمع أوّل شبهة تعرض عليه في أحدها تحدث فيه الشك ويزول قطعه بها، ومن الواضح انّ أيّ واحد من هؤلاء ليس أهلا لحمل هذه العلوم الّتي أشار إليها الإمام(عليه السلام)، بل ينبغي أن يحظى حاملها بالأمانة والديانة الكاملة، ويكون هدفه هو الدين فقط دون أن تكون الدنيا مقصودة أبداً، كي يوثق به في حفظ الأسرار وإخفاء ما لا يجوز إظهاره وأن يكون ذا فهم ثاقب وذهن وقّاد كي يحظى ببصيرة ورؤية في المحكمات والمتشابهات كافة، وأن يكون ما يعتقد به قائماً على الدليل والبرهان ولا يعرضه الشك بسبب الشبهات.

3654 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارُ عَناء وَفَناء وَغِيَر وَعِبَر وَمَحَلِّ فِتْنَة ومِحْنَة.

3655 ـ اِنَّ الدُّنيا دارُ فَجَائِع مَنْ عُوجِلَ فِيها فُجِعَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ أُمْهِلَ فِيها فُجِعَ بِأَحِبَّتِهِ.

المراد انّ الدنيا دار المصائب لكلّ إنسان، فمن عوجل في رحيله وراح مسرعاً فجُع بنفسه أي وقعت مصيبته أو بلغته مصيبته أو كان متألماً بموت نفسه ومن أمهل فيها وطال عمره وردت عليه مصيبة أحبائه أو تألّم بهم أي بسبب موتهم.

3656 ـ اِنَّ الدُّنْيا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاع وَإِنَّ الآخِرَةِ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاع.

المراد انّ في هذا الزمان وهو آخر الزمان تكون الدنيا كذا والآخرة كذا، أو انّهما كذلك دائماً، لأنّ كلّ ما هو فان وزائل وإنْ طالت مدة بقائه فانّ مدته قصيرة في الحقيقة وسرعان ما تنتهي، فكأنّها في بداية وجودها قد أدبرت وأعلنت وداعها، وما يأتي وإنْ تأخّر مجيؤه فانّه بعين البصير سريع المجيء وشرف باطلاع.

3657 ـ اِنَّ الدُّنْيا مَعْكُوسَةٌ مَنْكُوسَةٌ لَذّاتُها تَغِيْضٌ وَمُواهِبُها تَغْصِيصٌ وَعَيْشُها عَنَاءٌ وَبَقَاؤُها فَنَاءٌ تَجْمَعُ بِطالِبها وَتُرْدِي رَاكِبهَا وَتَخُونُ الوَاثِقِ بِها وَتَزْعَجُ المُطْمَئِنَّ إِلَيْها وَإِنَّ جَمْعَها إِلى انْصِداع وَوَصْلَها إِلى انْقِطاع.

(معكوسة) يعني مقلوبة، و (منكوسة) لها ذات المعنى وتأكيد له و (لذاتها... الخ) بيان لكونها معكوسة منكوسة، و (تنغيص) يعني تنغّص الإنسان وتكدّره بسبب شوب كلّ لذة بمائة نوع من الحزن المكروه في الدنيا، مع غض النظر عمّا يعقبها من المؤاخذة في الآخرة، و (الغصة) كما تكرر ذكرها تعني اعتراض الشجى أو ما شاكلها في الحلق، وقد شاع استعمالها في المكروهات والأحزان، وكون (عيشها عناء) واضح، وهكذا كون (بقاؤها فناء) لأنّ عاقبتها الفناء وكلّ ما كانت عاقبته فناء يكون بقاءه في نظر من يرى الحقيقة فناء، و (تجمح بطالبها وتردي راكبها) واضح أيضاً لأنّ طالب الدنيا الحريص عليها يشتغل في طلبها ويتخلّف عن السعي للآخرة، فيكون ذلك مسبباً لهلاكه وشقائه السرمدي، ويسبب في الدنيا المزيد من العناء والتعب وهذا هلاك دنيوي، بل كثيراً ما يكون سبباً للهلاك الأخروي أيضاً، وقد يكون (تردي) بمعنى تلقي وليس تهلك كما ترجم، أي تلقي في الهلاك والشقاء ودناءة المرتبة، وباقي القول غني عن التوضيح.

3658 ـ اِنَّ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعْصَى إِلاَّ فِيهَا، وَلاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِتَرْكِهَا.

«إلاّ بتركها» أي إلاّ بترك محرّماتها أو الحرص عليها.

3659 ـ اِنَّ الدُّنْيا كَالحَيَّةِ لَيْنٌ مَسُّها قَاتِلٌ سَمُّها فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيها لِقِلَّةِ ما يَصْحَبُكَ مِنْها وَكُنْ آنَسَ ما تَكُونُ بِها أَحْذَرَ ما تَكُونُ مِنْها.

أي أعرض عمّا يعجبك منها فانّه مهما كان فانّه قليل في الحقيقة ويصاحبك لمدة وجيزة، فلا تستحق إذن لأن تغترّ بها وتواجه الحرمان بسببها، أو تقلل نصيبك من الآخرة ونعمائها العظيمة الخالدة، والمراد من (الاعراض عنها) هو عدم طلبها إنْ فقدها، وترها إنْ كان واجدها وكانت حراماً، وقطع التعلّق بها وعدم البخل بها إذا كانت حلالا، والأمر بأن يكون (أحذر ما يكون حين الاستئناس بها) ناشئ من انّ شدة الاستئناس بها يكون حينما تقبل عليه ووفرة نصيبه منها، وواضح انّ هذا المعنى كلّما كان أكثر فانّها تغرّه بنحو أكبر وتشغله بها وتصده عن السعي للآخرة، كما تشتد قدرته واستطاعته على ممارسة المحرمات والقبائح، فينبغي إذن المزيد من الحذر في هذا الحال، وصون النفس من فتنتها ومكرها.

3660 ـ اِنَّ دُنْياكُمْ هَذِهِ لاََهْوَنُ فِي عَيْني مِنْ عِراقِ خِنْزِير فِي يَدِ مَجْذُوم وَأَحْقَرُ مِنْ وَرَقَة فِي فَمِ جَرَادَة ما لِعَلِيٍّ وَنَعِيم يَفْنى وَلَذَّة لا تَبْقَى.

3661 ـ اِنَّ الدُّنْيا كَالْغُولِ تُغْوِي مَنْ أَطَاعَها وَتُهْلِكُ مَنْ أَجَابَها وَإِنَّها لَسَريِعَةُ الزَّوالِ وَشِيكَةُ الإِنْتِقالِ.

(الغول) بضمّ الغين المنقوطة جني من الجن الّذين يظهرون للناس في الصحراء بكلّ صورة ولون يشاؤؤن ويغوون الناس عن الطريق، ويعتقد البعض انّ هذا قول مشهور بين العرب وغيرهم ولا أصل له، وما روي من قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (لا غول ولا صفر)(8) يحمل على انّه لا أساس لحكاية الغول والصفر وهي مجرد أسطورة، والمراد من (صفر) هو قول العرب بانّ في البطن حية تدعى صفر وتطلب الغذاء وعندما يجوع الإنسان تلدغه وتؤذيه، وقال البعض انّ المراد منها هو (النسيء) الّذي كان العرب يفعلونه أيام الجاهلية، وهو أنّهم كانوا يؤخرون بعض الشهور رعاية لبعض مصالحهم، ويؤخرون شهر محرم إِلى صفر كي يكون بامكانهم الدخول في الحرب الّتي كانت حراماً في محرم ظناً منهم انّ محرم قد تأخر وهذا شهر صفر فيجوز فيه الحرب وعليه فانّ المراد هو النهي عن هذا الفعل، وانّ الشهور لا تتغير ولا تتبدل بالتأخير أو التقديم ولا تتغير أحكامها لا تتبدل، كما ورد في القرآن الكريم: (إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ)(9) أي انّه كفر أضافوه إِلى كفرهم، وعلى تقدير صحة هذا القول ينبغي أن يكون تمثيل الإمام صلوات الله وسلامه عليه الدنيا بالغول مبني على الحكاية المشهورة، وإن لم يكن لها واقع، لأنّه لا ضرورة في التمثيل والتشبيه أن يكون الممثّل به والمشبّه به أمراً واقعياً، بل التمثيل والتشبيه بالأمر الخيالي شائع أيضاً. ويعتقد البعض بصحة حكاية الغول، ولا يرون الحديث المذكور ثابتاً أو يحملونه على انّ هذا المعنى قد زال ببركة الإسلام ولا يمكن للغول أن يظهر لأحد أو يضلّه أو يهلكه، وقد ورد في بعض الأحاديث: (إذا تغولّت الغيلان فبادروا بالأذان) والمراد من (تغولّت) هو تلوّنها وذلك بأن تتصور بصور محسوسة، ويمكن رؤيتها بناءً على انّ الشيء لا يمكن رؤيته ما لم يكن ملوناً، وقد روي هذا المضمون عن طرق الشيعة عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه أيضاً، والظاهر انّ الأمر بمبادرة الأذان هو لدفع شرها وانّ الأذان سبب لدفعها.

ولا يخفى انّ هذا الحديث الشريف ينافي إنكار وجودها، وهكذا انكار لحوق شرها بالإنسان، فهو مناف للحديث السابق إلاّ أن يحمل على انّ الغول لا يمكن أن يضر المسلمين بعد الإسلام لإمكان دفعه بالأذان وما شاكله من الدعاء أو القرآن، أو يحمل الحديث الأخير على استحباب الأذان وإنْ لم تكن قادرة على الاضرار وذلك لدفعها وازالة الدهشة والخوف من رؤيتها الّتي تعرض على الإنسان حسب خلقته وجبلته وإنْ علم انّها لا تضره، أو كان الأذان آنئذ سنّة تعبداً وانْ لم تكن العلة واضحة لنا.

وقد نقلوا حديثاً آخر وهو: (لا غول ولكن سحرة الجن) ويعني لا يوجد غول ولكن الغيلان سحرة الجن أو: لا يوجد غول ولكن النساء سحرة الجن، وقد يكون المراد ـ كما ذكر ـ انّ الغول لا يمكنه الاضرار بل هو سحرة الجن فيقومون بالتلبيس والتخييل لما ليس له أساس كما هي عقيدة بعض العلماء في باب مطلق السحر، وقد يكون المراد: لا يوجد غول أي ليس الأمر بانّ الغول شيطان آكل للبشر كما كان يظن البعض، أو نوع خاص من الدواب كما ظن بعض آخر، بل الغيلان سحرة الجن، وعليه لا ينافي ذلك قدرتها على الاضرار، ويكون لسحرهم حقيقة كما قال بعض العلماء بالتجويز الحقيقي للسحر والله تعالى يعلم، والمراد من (اجابتها) هو سماع كلامها وتنفيذ ما تطلب، ولا يخفى انّ (امتثال أمر الدنيا وإجابتها) مجاز، والمراد هو اتباعها والحرص في السعي من أجلها.

3662 ـ اِنَّ الدُّنْيا تُقْبلُ إِقْبالَ الطَّالِبِ وَتُدْبِرُ إِدْبارَ الهَارِبِ وَتَصِلُ مُواصَلَةَ المُلُوكِ وَتُفارِقُ مُفارَقَةَ العَجُوَلِ.

المراد بيان جفاء الدنيا وانّها حينما تُقبل على أحد تُقبل وكأنّها طالبة له باحثة عنه، وبعد مرة تدبر عنه وكأنّها تهرب منه، وتلحق بمن تلحق به كلحوق السلاطين الّذي لا بقاء له حيث يغضبون على من يبذلون له ألطافاً وشفقة تامة بأدنى تقصير أو ظن خاطىء «وتفارق مفارقة العجول» ولا يبعد بقرينة المقابلة بين (ملوك) و (عجول) انّ (ملوك) كتبت بالكاف سهواً من الناسخين والصواب هو (ملول) باللام ويعني المبرم، فيكون المعنى: عند اللحوق تلحق لحوق المبرم، وعند المفارقة تفارق مفارقة العجول في ذلك، أي في كلّ طرف من طرفي النقيض هناك مبالغة تامة، كما كان القول السابق على هذا الوجه.

3663 ـ اِنَّ الدُّنْيا مَنْزِلُ قُلْعَة وَلَيْسَتْ بِدارِ نُجْعَة خَيْرُها زَهِيدٌ وَشَرُّها عَتِيدٌ وَمِلْكُها يُسْلَبُ وَعَامِرُها يَخْرَبُ.

المراد من «ليست بدار نجعة» هو انّها ليست داراً يمكن المكث فيها في رفاه كالموضع الّذي فيه الماء والكلاء لنزول أهل البادية، بل هي كالصحاري الخالية من الماء والكلاء ولا يمكن فيها البقاء ولابدّ من اجتيازها لا غير.

3664 ـ اِنَّ الدُّنْيا لَهِىَ الكَنُودَ العَنُودُ وَالصَّدُودُ الجَحُودُ وَالحَيُودُ المَيوُدُ حَالُها انْتِقَالٌ وَسُكوُنُها زِلْزَالٌ وَعِزُّها ذُلٌّ وَجدُّها هَزْلٌ وَكَثْرَتُها قُلٌّ وَعُلُوُّها سِفْلٌ أَهْلُها عَلى سَاق وَسِياق وَلَحاق وَفَراق وَهِيَ دَارُ حَرَب وَسَلَب وَنَهَب وَعَطَب.

(الكنود) الكافر بالنعمة ومن لا يعترف بها، كما ورد بمعنى البخيل والعاصي والأرض السبخة، وبناءً على الأوّل معنى (انّ الدنيا لهي الكنود) ناشئ من انّ الإنسان إذا كان تابعاً وممتثلا لأمرها فانّها تفارقه بعد مدة وجيزة، وتلقي الكثير في الفتن والمهالك، وكأنّها تكفر بنعمته ولا تعرف حقّ خدمته، وبناءً على الثاني يكون بخلها نظراً إِلى انّ الكثير من الناس محرومون من الكثير من نعمها، وكأنّها تبخل عليهم بل لا يصل شيء من خيرها إِلى إنسان أساساً، وما يصل منها إِلى الناس هو أقرب إِلى الشرّ منه إِلى الخير، وكأنّها تبخل في إيصال الخير، وبناءً على الثالث وهو (عصيانها) نظراً إِلى أنّها تكون في أغلب الأزمان سبباً لعصيان أهلها، أو هي تعصي أهلها ولا تكون مطيعة لأمرهم، بل تعمل على عكس رغبتهم، وبناءً على الرابع يكون اطلاق الكنود عليها واضح، لأنّه إذا لم يكن فيها الخير كما ذكر فانّها بمثابة الأرض الّتي لا تنبت، و (العنود) يعني المفارق والمباعد والمعارض لشخص، والمخالف للحقّ والراد عليه، والحائد عن الطريق، وتصوير (كون الدنيا عنوداً) بكلّ فرد من المعاني المذكورة على سبيل المجاز واضح، ولا حاجة إِلى إطالة الكلام لبيانه، و (الصدود) يعني المعرض والمانع والمدبر والماكر والأرض المقطوع عنها المطر، و (كون الدنيا صدوداً) بكلّ معنى من المعاني واضح، لأنّها تعرض وتدبر عن طالبها والباحث عنها، وتصدّه وتصرفه عن الآخرة وطلبها، وتمكر مع الناس وتخدعهم ونظراً إِلى فقدان خيرها تكون بمثابة الأرض المقطوع عنها المطر، و (الجحود) جاء بمعنى المنكر لحق إنسان، كما جاء بمعنى قليل الخير، و كون الدنيا قليلة الخير واضح، وهكذا المنكر لأنّها لما لم تفِ بتابعيها كانت بمثابة المنكرة لحقّ إطاعتهم وانقيادهم و (الحيود) يعني المنحرف و كون (الدنيا حيوداً) ناشئ من انّها تكون سبباً للانحراف عن الحقّ والآخرة، فكأنّها حيود عنهما أو بما انّ أهلها حادوا عنهما كانت هي أيضاً بمثابة الحائدة عنهما، و (الميود) جاء بمعنى كثير الحركة والميلان والتبختر، و (كون الدنيا ميوداً) بالمعنى الأوّل هو لشدة تغيراتها تبدلاتها لأنّ التغير والتبدل إمّا هما عين الحركة أو من لوازمها و (كونها ميوداً) بالمعنى الثاني سيكون تأكيداً لحيود وقد ذكر وجهه، وبناءً على المعنى الثالث (التبختر الشديد) ناشئ من انّها تكون سبباً لتبختر أهلها، أو من قبيل اثبات حال شيء لذلك الشيء، و (كون حالها انتقالا) واضح لأنّها في حال انتقال دائم، وتنتقل من جماعة إِلى جماعة، و (الزلزال) بكسر الزاي يعني الحركة والاضطراب، و (كون سكونها زلزال) امّا لأنّ الدنيا وإنْ كانت ساكنة فانّها في حالة الجواز وتنقل الإنسان فكأنّ سكونها زلزال، وإمّا انّ من تمرّ عليه الدنيا بالرفاه والسكون يكون ذلك سبب حركته واضطرابه في تلك النشأة أشد ممّن لا سكون له في الدنيا بسبب المصائب والنوائب أو الصعاب والضيق، فكأنّ سكنها عين الزلزال، و (الزلزال) بفتح الزاي يعني البلايا والصعاب وهو مناسب في هذا المقام أيضاً، كما يظهر توجيه ذلك ممّا ذكر، إلاّ انّه نظراً لمقابلة السكون للزلزال تكون قراءة (زلزال) بالكسر أنسب. و (كون عزها ذل) يعود إِلى انّ كمال العزة الدنيوية سهلة جداً، وهي إِلى جانب العزة الأخروية ذل أو باعتبار انّ الغالب في عزّها هو الذلّ في الاُخرى، و ] الجد[ في قبال الهزل بمعنى اللعب وكون جدّها هزل يعود إِلى انّ الاُمور الدنيوية واهية وباطلة، وبعد فترة وجيزة تُباد وتفنى، فما يفعل منها بصورة الجدّ هو لعب في الحقيقة، وبمثابة عمل يقوم على أساس اللعب، و (كثرتها قل) لأنّ نصيب الإنسان من الدنيا وإنْ كان كثيراً فانّه قليل في الواقع، وقليل بل لا شيء بالنسبة إِلى نصيب الآخرة، أو يعود إِلى انّ في الغالب لا يتحقق الكثير من الدنيا للإنسان بدون معصية ووبال، وهذا يستدعي قلة نصيبه في الآخرة، وعلى هذا القياس (علوها سفل) بأحد الأمرين المذكورين، (أهلها على ساق) أي شدة كما قال في القرآن الكريم: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق)(10) أي عن شدة ويقال: (قامت الحرب على ساق) أي وقفت أو قامت الحرب على الشدة. و (كون أهلها على شدة) واضح، فانّ الدنيا لا تتم لإنسان بدون تعب وشدة خاصة للّذين ابتلوا بتعلّقاتها وقد يكون المعنى: انّهم على ساق، أي قائمون على الساق من أجل الحركة والتنقل، وهذا أيضاً كناية عن كونهم في حال السعي والطلب والمشقة والتعب دائماً، و ] سياق[ يعني الاحتضار، و (كونهم في حال الاحتضار) يعود إِلى أنّهم مشرفون على ذلك، أو كناية عن كونهم في تعب وشدة وهو تأكيد لما سبق، كما انّ المشهور هو التعبير عن ذلك بهذا، وقد لا يكون (سياق) هنا بمعنى الاحتضار بل بمعنى السَوق، أي انّ جميع أهلها يُساقون نحو الموت أو تلك الدار، وعليه قد لا يكون (على ساق) بالمعنى المذكور أيضاً بل بمعنى: انّ أهلها يولدون متلاحقين وبدون انقطاع، كما يقال: (ولدت فلانة ثلاث بنين على ساق واحد) أي ولدت ثلاثة ذكور على ساق واحدة أي على التوالي دون فاصل ببنت، وعليه قد يكون (اللحاق والفراق) تأكيداً لما سبق أي انّ أهلها في حال اللحاق بالولادة والفراق فيما بينهم، أو في حال اللحاق بالدنيا والمجيىء إليها والمفارقة لها، وعلى كلّ حال فالهدف هو بيان عدم دوام أحد فيها، وقد يكون المراد انّ الدنيا مبنية على لحاق أهلها بعض ببعض مدة من الزمن ثمّ مفارقتهم بالموت أو غيره، والغرض هو بيان تغيّرها وتبدلّها وعدم ثبات فرحها وسرورها، و (حرب) بفتح الحاء والراء غير المنقوطة يعني السرقة، و (سلب) بفتح السين واللام وسكون اللام له ذات المعنى وتأكيد له، و (نهب) بفتح النون وسكون الهاء يعني السلب بالإغارة و (عطب) بفتح العين والطاء غير المنقوطة يعني الهلاك، و (كون الدنيا دارها) يعود إِلى انّ حال أهلها وأنفسهم تُسلب منهم وتُنهب ويهلكون.

3665 ـ اِنَّ الدُّنْيا غُرُورٌ حَائِلٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ وَسِنادٌ مائِلٌ تَصِلُ العَطِيَّةَ بِالرَّزِيَّةِ وَالاُمْنِيَّةَ بِالمَنِيَّةِ.

3666 ـ اِنَّ الدُّنْيا عَيْشُها قَصِيرٌ وَخَيْرُها يَسيرٌ وإقْبالُها خَدِيَعَةٌ وَإِدْبارُها فَجِيعَةٌ وَلَذَّاتُها فَانِيَةٌ وَتَبِعاتُها باقِيَةٌ.

المراد من (عيشها) الحياة فيها، أو مدة بقاء أصلها، و (اقبالها خديعة) يعود إِلى انّها تخدع الإنسان، وتشغله بأعمال خسيسة دنيئة فانية، وتصده عن السعي لكسب مراتب رفيعة سامية باقية، و (ادبارها فجيعة) يعود إِلى انّها تكون سبباً للمهانة والذل بين الناس، وقلّما يصبر إنسان على ذلك دون أن يرتكب أُموراً تسبب ضرره وخسرانه في الآخرة أيضاً، و (تبعاتها) أي كلّ ما يتبع تلك اللذات أو الدنيا من أوزار ووبال في الحرام، والسؤال والحساب في الحلال.

3667 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارٌ أَوَّلُها عَنَاءٌ وَآخِرُها فَناءٌ فِي حَلالِها حِسابٌ وَفِي حَرامِها عِقابٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيها فَتَنَ(11) وَمَنِ افْتَقَرَ فِيها حَزِنَ.

3668 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارُ شُخُوص وَمَحَلَّةُ تَنْغِيص سَاكِنُها ظَاعِنٌ وَقَاطِنُها بائِنٌ وَبَرْقُها خالِبٌ وَنُطْقُها كَاذِبٌ وَأَمْوالُها مَحْرُوبَةٌ وَأَعْلاقُها مَسْلُوبَةٌ أَلا وَهِيَ المُتَصَدِّيَةُ العَتُونُ وَالجامِحَةُ الحَروُنُ وَالمانِيَةُ الخَؤُونُ.

(دار شخوص) يعني دار يجب الرحيل عنها ليست دار إقامة، و (محلة تنغيص) يعني محل تعكير وتكدير وشوب للمعيشة والحياة، نظراً إِلى انّ المعيشة فيها لا تكون صافية أبداً، وتكون مشوبة بأنواع الكدر والآلام، و (ساكنها ظاعن) يعني انّ الّذين يسكنون فيها هم راحلون في الحقيقة مع سكونتهم فيها ويسيرون نحو الموت وتلك الدار و (قاطنها بائن) بمثابة التأكيد لما سبق، أي في وقت الإقامة فيها هو في حال الفراق والرحيل عنها، وقد يكون المراد انّ الساكن فيها لابدّ أن يرحل عنها، وعلى المقيم فيها أن يفارقها، و (برقها خالب) يكون من باب التمثيل، ويعني انّ علامة الفرح والسرور إذا لاحت فيها فانّها خادعة كالبرق الخادع الّذي لا يعقبه المطر، وذلك لعدم وجود فرح وسرور فيها لا يكون مشوباً بالحزن والهم، و (نطقها كاذب) لأنّ محوره هو الوعود الّتي تطلقها للإنسان وتؤمله، وتكون كاذبة في الغالب ولا تتحقق. و (أموالها محروبة) يعني سرعان ما تؤخذ ولا تبقى لأحد، وهكذا نفائسها تسلب من كلّ إنسان يملكها، فلا ينبغي إذن الحرص على كسب الأموال والنفائس منها وينبغي عدم التعلق بها (ألا) أي انتبه لما أقول و (هي المتصدية العتون) في أكثر النسخ ورد ] عتون[ بالتاء مع نقطتين في الأعلى بمعنى الشديد، فيكون المعنى: المتعرضة بشدّة لصيد الإنسان وايقاعه في الفخ، وفي بعض النسخ ورد (عنون) بالنون، وهو الحيوان الّذي يسير في المقدّمة، وعليه قد يكون المعنى: تتعرض للناس بأن تسير في الأمام والناس يسيرون خلفها ويتبعونها، و (الجامح) هو الحصان المتمرد على صاحبه والحرون بالحاء والراء غير المنقوطتين الفرس الّذي لا ينقاد وإذا جرى بسرعة توقف فجأة، ووجه تشبيه الدنيا بها واضح، وهكذا وجه كذبها وخيانتها كما أُشير إليه أيضاً.

3669 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارُ مِحَن وَمَحَلُّ فِتَن مَنْ سَاعاها فَاتَتْهُ وَمَنْ قَعَدَ عَنْها واتَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْها أَعْمَتْهُ وَمَنْ بَصُرَ(12) بِها بَصَّرَتْهُ.

«من ساعاها فاتته ومن قعد عنها وانته» عُلم ذلك بالاستقراء والتتبع، والآثار والأخبار تؤكد ذلك أيضاً، والمراد من الإبصار إليها هو النظر إليها رغبة فيها، ومن (التبصّر بها) النظر بها للاتّعاظ والاعتبار بها.

3670 ـ اِنَّ الدُّنْيا تُدْنِي الآجالَ وَتُباعِدُ الآمالَ وَتُبِيدُ الرِّجالَ وَتُغَيِّرُ الأَحْوالَ مَنْ غَالَبَها غَلَبَتْهُ وَمَنْ صَارَعَها صَرَعَتْهُ وَمَنْ عَصاها أَطَاعَتْهُ وَمَنَ تَرَكَهَا أَتَتْهُ.

(الدنيا تدني الآجال) لأنّ طالب الدنيا يأمل عمراً طويلا لنفسه، ويتابع عدة مقاصد لا يتحقق أحدها إلاّ في مدة طويلة، فإذا حلّ أجله وكان أقل ممّا كان يأمله ولم تنجز أعماله، فانّه يظن انّ أجله قد عجل عليه، ولا ينبغي أن يحلّ بهذه السرعة، عكس من لا تعلّق له بالدنيا فانّه لا يبدو له سريعاً بل كثيراً ما يشتاق له، ويمر العمر عليه بطيئاً، ويبدو الأجل بعيداً، وقد يعمل الحرص في الدنيا والانشغال المضاعف في تحصيلها على قصر العمر وتعجيل الأجل بأمر الله تعالى، و (تباعد الآمال) أي تدفع الإنسان لافتراض آمال بعيدة عريضة لنفسه، أو انّها تباعد ما يأمله وتصدّ الإنسان من بلوغها، و (تبيد الرجال) أي تكون سبباً لهلاكه وشقائه في الآخرة بسبب الأوزار الّتي اكتسبها نتيجة للسعي من أجلها، وفي الدنيا نتيجة للأتعاب الّتي تستلزمها أعماله، بل كثيراً ما يكون ذلك سبباً لموته أو قتله أيضاً، وقد يُقرأ (رحِال) بالحاء غير المنقوطة ومعناه الدور ولأثاثها ومتاعها و (هلاك الدنيا إيّاهم) واضح في دمارها وفنائها لهم بمرور الأيّام، أو لأنّ طلب الدنيا يستدعي دمار الدور ونهب الأموال و (تغير الأحوال) واضح حيث انّها ترفع جماعة ذات مرتبة دانية مدة، وتسقط جماعة ذات مرتبة عالية، وتعمل على تغيير وتبديل سلوك الناس بالاقبال على أولئك والادبار عن هؤلاء، وغيرها من التغيرات والتبدلات الّتي تحدث في الدنيا، والمراد من (من غالبها غلبته) هو أن من الصعب معارضة الدنيا، وانّ أكثر الناس نظراً لغلبة الأهواء والشهوات عليهم إذا أرادوا التغلّب عليها أصبحوا مغلوبين لها، وإذا صارعوها صرعتهم وليس المراد انّ هذا المعنى يشمل كلّ إنسان وانّه لا يوجد من غلب الدنيا، وهذا واضح و (من عصاها أطاعته ومن تركها أتته) معلوم بالاستقراء كما أُشير إِلى ذلك في القول السابق، وتظافرت الآثار والأخبار عليه، هذا إذا كانت «أتته» بفتح الهمزة، أمّا إذا قُرئت (آتته) بالمد من المؤاتاة وهي مهموزة في أصلها ومطابقة لقوله: «واتته» في القول السابق، فيكون المعنى: من تركها طاوعته ووافقته.

3671 ـ اِنَّ الدُّنْيا تُخْلِقُ الأَبْدَانَ وَتُجَدِّدُ الآمالَ وَتُقَرِّبُ المَنِيَّةَ وَتُباعِدُ الاُمْنِيَّةَ كُلَّما اطْمَئَنَّ صَاحِبُها مِنْها إِلى سُرُور أَشْخَصَتْهُ مِنْها إِلى مَحْذُور.

في بعض(13) النسخ ورد (منه) بدلا عن (منها) الثانية، فيكون المعنى: دفعته من الفرح إِلى المحذور، وهذا أظهر، بل على النسخة الاُولى يمكن حملها على هذا المعنى أيضاً، والأمر في التذكير والتأنيث سهل (انّ الدنيا تُخلق الأبدان) واضح، وهي على عكس الجنة الّتي تكون الأبدان فيها في حال الشباب ولا سبيل للشيخوخة والتغييرات الاُخرى إليها، و (تجدد الآمال) واضح أيضاً عكس الجنة الّتي لا يوجد فيها شيء باسم الأمل، و (تقرب المنية وتباعد الأمنية) قد تم بيانه في القول السابق، و (منها إِلى سرور) أي إِلى سرور في الدنيا وما يتعلّق بأمر من أُمورها، وهكذا (منها إِلى محذور) أي المحذور من الدنيا ومن أحوالها.

3672 ـ اِنَّ الدُّنْيا خَيْرُها زَهِيدٌ وَشَرُّها عَتِيدٌ وَلَذَّتُها قَلِيلَةٌ وَحَسْرَتُها طَويلَةٌ تَشُوبُ نَعِيمُها بِبؤْس وَتَقْرِنُ سُعُودَها بِنُحُوس وَتَصِلُ نَفْعَها بِضُرٍّ وَتَمْزِجُ حُلْوَها بِمُرٍّ.

المراد من (حسرتها) الحسرات الّتي تحدث في الدنيا بسبب فوات أُمور دنيوية، فانّها بالنسبة للكثير من الناس أكثر من اللذات الّتي يتمتعون بها، وقد يكون المراد الحسرات الّتي تحدث في الآخرة بسبب المعاصي، أو التقصير في الإكثار من أفعال الخير، و «البؤس» يمكن أن يكون بمعنى مطلق الشدة، وقد يكون شدة الحاجة كما هو معناه الشائع، ويكون المراد انّ نعمتها مشوبة بشدة الحاجة للسعي من أجل اكتسابها والحفاظ عليها وسائر الحوائج للمقاصد الّتي لم تحصل، و (السعد) يطلق على ما فيه اليمن والبركة، ويقابل (النحس).

3673 ـ اِنَّ الدُّنْيا غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لا يَدُومُ رَخَاؤُها وَلا يَنْقَضِي عَناؤُها وَلا يَرْكَدُ بَلاؤُها.

(كون الدنيا معطية منوع) يعود إِلى انّها تعطي بعض الناس وتمنع بعضاً آخر ولا تعطيهم شيئاً، بل تعطي الإنسان حيناً وتمنعه حيناً اُخرى، بل كلّ من تعطيه تمنعه في النهاية، وهكذا كونها ملبسة نزوع.

3674 ـ اِنَّ الدُّنْيا كَالشَّبَكَةِ تَلْتَفُّ عَلى مَنْ رَغِبَ فِيها وَتَتَحَرَّزُ عَمَّنْ أَعْرَضَ عَنْها فَلا تَمِلْ إِلَيْها بِقَلْبَكَ وَلا تُقْبِلْ عَلَيْها بِوَجْهِكَ فَتُوقِعَكَ فِي شَبَكَتِها وَتُلُقِيَكَ فِي هَلَكَتِها.

أي ان تفعل كذلك وتركن إليها وتقبل عليها، ألقتك في شباكها وأوقعتك في هلكتها أي الهلاك الناشىء منه الهلاك الأخروي بل الدنيوي أيضاً حيث لا يكون خالياً من المشقة والأتعاب الشديدة إنْ لم تكن أشد منها.

3675 ـ اِنَّ الدُّنْيا تُعْطِي وَتَرْتَجِعُ وَتَنْقَادُ وَتَمْتَنِعُ وَتُوحِشَ وَتُؤْنِسُ وَتَطْمِعُ وَتُؤْيِسُ، يُعْرِضُ عَنْها السُّعَداءُ وَيَرْغَبُ فِيها الأَشْقِياءُ.

المراد انّ الدنيا تفعل بجماعة كذا وبجماعة أُخرى كذا، بل تفعل بشخص واحد حيناً كذا وحيناً آخر كذا، دون أن يكون هذا الاختلاف بسبب الأولوية والاستحقاق بل لمجرد الحظ والصدفة، فينبغي بالسعداء أن لا يغترّوا بها ولا يرغبوا فيها وليسعوا للآخرة، فانّ منعها وعطاءها يستندان إِلى الأهلية والاستحقاق، ولا يخفى انّ هذا كلام مسوق طبقاً لفهم عوام الناس، وتحقيقه انّ الدنيا ليس فيها إعطاء ومنع كما لا يوجد أثر لها في سائر المراتب المذكورة، بل كلّها تتم بتدبير الله تعالى وتقديره، غايته انّ عدم العناية الإلهية بالدنيا وما فيها لم يراعَ فيها استحقاق الناس بل تُركوا لسعيهم وكسبهم، فبعض تمتعوا بها وبعض حرموا فيها نظراً لاختلافهم في السعي ودرجاته وعدمه، وفي جماعة وجد هذا الاختلاف من قبل الله عز وجل غايته انّه ليس ذلك لصلاح الذين أعطاهم وسوء الذين منعهم، بل لأنّ الّذين أعطوا لا نصيب لهم في الآخرة، بل أعطوا نصيباً من الدنيا كي لا يُحرموا من نعمة الله تعالى تماماً، والّذين حرموا فلصلاح أنفسهم وصفاتهم وشدة صبرهم على الشدائد وصعاب الدنيا استحقوا أن لا يُلوَّثوا بأرجاس الدنيا حتّى يكرموا عوضاً عن ذلك بالقسط الأعلى والنصيب الأوفى في الآخرة، وجماعة أُخرى مع صلاحهم قد تمتعوا بهما معاً، لأنّ مصلحتهم كانت في ذلك لعلم الله عز وجل بأنّهم ان ضاقت الدنيا عليهم فانّهم لا يطيقون ذلك، وسبباً لتلوّثهم ببعض المعاصي، فوسّع عليهم في الدنيا كي لا ينقص نصيبهم في الآخرة، الّتي استحقوها ببعض الصفات والأفعال الحميدة، كما روعيت في هذه المجالات حِكم أُخرى يقصر القلم واللسان عن ذكرها وبيانها، بل لا تدركها العقول والأفهام أبداً، وبما انّ هدف هذا الكلام الاعجازي هو حثّ الناس على ترك الرغبة في الدنيا، اقتصر فيه بذكر المناط للاختلاف الواقع في الدنيا وعدم استناد ذلك على الأهلية والاستحقاق، ولم يتعرض للمزيد من البيان لبعض أسراره لقصر أفهام المخاطبين عن ادراكه واستيعابه، والله تعالى يعلم.

3676 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَعْرُوفَةٌ وَبِالْغَدْرِ مَوصُوفَةٌ لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَالاَْمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ.

«لا يسلم نزّالها» أي من المشاق والأتعاب الدنيوية، وفي الكثير من الناس من أوزارها ووبالها أيضاً، والمراد من (الأمان) هو الأمان من الفتن والبلايا الدنيوية، وهكذا وصول أُمور تستدعي الهلاك في الآخرة.

3677 ـ اِنَّ الدُّنْيا ظِلُّ الغَمامِ وَحُلُمُ المَنَامِ وَالفَرَحُ المَوْصُولُ بِالغَمِّ وَالعَسلُ المَشُوبُ بِالسَّمِّ سَلاَّيَةُ النِّعَمِ أَكَّالَةُ الاُمَمِ جَلاَّبَةُ النِّقَمِ.

تشبيه الدنيا بظل الغمام يعود إِلى عدم ثباتها وعدم بقائها، وبحلم المنام الجماع الّذي يراه في المنام لخسة لذاتها ونقصانها، وكأنّ مبناها مجرد التخيّل دون أن يكون لها حقيقة، وقد يكون (حلم المنام) بمعنى الرؤيا أي انّها مجرد حلم وخيال، و (كونها الفرح الموصول بالغم والعسل المشوب بالسم) واضح حيث لا يوجد فرح في الدنيا لا يصحبه الحزن، ولا توجد حلاوة محبوبة لا تشوبها مرارة مكروهة، كما هو واضح لكلّ من يتابع أحواله وأحوال الآخرين، والنعم الّتي تسلبها الدنيا هي النعم الدنيوية لأنّها لا تبقى لأحد، وإن بقيت حتّى الموت فانّها تسلب منه، وقد تشمل النعم الأخروية أيضاً فانّ الاشتغال بالدنيا والمعاصي فيها يسلبها، و (كون الدنيا أكالة الاُمم) يعود إِلى الأقوام الّتي فقدت فيها، ولذا يمكن القول انّها آكلة لها، و (كونها جلابة النقم) يعود إِلى انّها بسبب ما يُكسب فيها من المعاصي تكون جالبة للعقوبات، وقد يكون المراد من (النقم) مطلق المكروهات فلا حاجة لتوضيح وتبيين معنى «جلاّبة النعم».

3678 ـ اِنَّ الدُّنْيا لا تَفِيَ لِصَاحِب وَلا تَصْفُو لِشَارِب نَعِيمُها يَنْتَقِلُ وأَحْوالُها تَتَبَدَّلُ وَلذَّاتُها تَفْنى وَتَبِعاتُها تَبْقَى فَأَعْرِضْ عَنْهَا قَبلَ أَنْ تُعْرِضَ عَنْكَ وَاسْتَبْدِلْ بِها قَبْلَ أَنْ تَسْتَبْدِلْ بِكَ.

انّ (عدم وفاء الدنيا لأيّ مصاحب لها) واضح...، وهكذا (عدم الصفاء لأيّ شارب) لأنّها مشوبة دائماً بكدر الهموم والآلام لكلّ إنسان، فهي إذن بمثابة الماء الكدر بالطين والرسوبات، والمراد من (تبعاتها) الأوزار والوبال الّذي يكتسب فيها ويتبعها، (فاعرض) أي إذا علمت بانّ الدنيا بما فيها من شر لا تفي لك، وتعرض عنك وتستبدلك بغيرك، وتنتقل منك إليه، فأعرض عنها واهجرها واختر غيرها وهي الآخرة عوضاً عنها قبل أن تعرض عنك وتستبدلك بغيرك.

3679 ـ اِنَّ الدُّنْيا رُبَّما أَقْبَلَتْ عَلى الجَاهِلِ بِالإِتِّفاقِ وَأَدْبَرَتْ عَنِ العَاقِلِ بِالإِسْتِحْقَاقِ فَإِنْ أَتَتْكَ مِنْها سَهْمَةٌ مَعَ جَهْل أَوْ فَاتَتْكَ مِنْها بَغْيَةٌ مَعَ عَقْل فَإِيَّاكَ أَنْ يَحْمِلَكَ ذَلِكَ عَلى الرَّغْبَةِ فِي الجَهْلِ وَالزُّهْدِ فِي العَقْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزْرِي بِكَ وَيُرْدِيكَ.

المراد من (اقبال الدنيا على الجاهل باتفاق) انّه ليس للأهلية والاستحقاق، وليس له سبب ظاهري، لا أنّها لا سبب لها أساساً أو انّ الصدفة سببه، كما تم بيان ذلك في بداية شرح الكتاب، والمراد من (أدبرت عن العاقل بالاستحقاق) هي انّها تدبر عنه رغم استحقاقه أو تدبر عنه بسبب استحقاقه الادبار عنه، وبناءً على الأوّل يكون استحقاقه استحقاقاً ظاهرياً، وعلى الثاني استحقاقاً واقعياً لأنّه وإنْ كان ظاهراً مستحقاً للنعم الدنيوية إلاّ انّه يستحق إدبارها عنه واقعاً لوجود مصلحة ما، كما لو كانت الدنيا تقبل على الإنسان فانّه لا يبقى على حاله وسيرتكب بعض المعاصي، أو كان ذا قدرة على الصبر في الشدائد والضيق، ولذا رأى الله تعالى مصلحته في أن تنقضي الدنيا عليه في ضيق، فيصبر على ذلك فتسمو درجته في الآخرة عوضاً عن ذلك، فإذا بلغك نصيب من الدنيا مع الجهل، أو فاتك شيء منها مع وجود العقل فاحذر من دفع هذا الأمر إيّاك للرغبة في الجهل والرغبة عن العلم، ظناً من انّ ذلك ناشئ من حسن الجهل وقبح العلم، لأنّه ليس كذلك إذ لا شبهة في قبح الجهل وحسن العلم، بل انّ تمتع الجاهل بالدنيا ناشئ امّا من هوان الدنيا لدى الله تعالى وعدم قدرها فتصل إِلى أيٍّ شاءت، أو لكونه مستحقاً للإحسان ولم يكن أهلا لإحسان الآخرة، فأحسن إليه في الدنيا، أو لوجود حكمة ومصلحة أُخرى وإنْ لم يدركها العقل، و (حرمان العالم منها) أيضاً ليس لقبح العلم بل لوجود حكمة ومصلحة في ذلك ممّا ذكر أو غيره، (انّ ذلك يعيبك) إمّا لأنّ أساس هذا المعنى عيب في نفسه ويدل على قصور فهمه حيث لم يدرك انّ ذلك لم يحصل لحسن الجهل وقبح العلم بل له سبب آخر، وإمّا انّه يستدعي بقاء الإنسان على جهله وعدم اكتساب العلم، والجهل عيب له، و (يهلكك) أي الهلاك الأخروي أو انّ المعنى هو انّه يلقيك في الهلاك أو الحضيض.

وفي بيان هذه العبارة: (انّ الدنيا ربّما أقبلت على الجاهل بالاتفاق وأدبرت عن العاقل بالاستحقاق) يمكن القول(14): كثيراً ما تقبل الدنيا على الجاهل بالاتفاق أي تقبل عليه موافقة واستحقاقاً، فانّ الجنسية علة الضمّ إليه، لأنّ مرتبة ذلك دان ويطلب الدناءة فيجب أن يكون محل وروده دنيئاً والجاهل دنيء، وليس بالاتفاق المقابل للعادة والاستمرار، وكثيراً ما تدبر عن العاقل الحاذق باستحقاق، أي إدبارها عن العاقل يكون بالاستحقاق لأنّ موقعه موقع آخر، فإذا وردت خطأ ونزلت اشتباهاً وتبيّن لها مع التأمل والملاحظة انّها أخطأت الطريق حيث نزلت في غير محلها الطبيعي ندمت على ذلك ورحلت عنه، وعلى العاقل أن لا ييأس من إدبارها ولا يكون ذلك سبباً لركونه إِلى الجهل والإدبار عن العقل، إذ انّ لكلّ شيء أهلا، والأقوال اللاحقة دليل على ما ذكر. وتفسير العاقل بالعالم، وهكذا الجاهل بغير العالم لا يخلو من شيء أيضاً، والأولى تفسير العاقل بذي العقل والجاهل بنقيضه، والجاهل يقابل العالم العارف، ونقل اللغويون انّ (الاتفاق) بمعنى الموافقة، وليس بمعنى الصدفة والفجأة المعبّر عنه بالحظ والصدفة، والاتفاق بهذا المعنى متعارف ومعمول به في اصطلاح أهل هذا الزمان وفي كتب الحكماء والمتكلمين، ولكن في كلام اللغويين يكون (وافق) من باب المفاعلة بالمعنى المذكور، وليس الاتفاق من باب الافتعال فافهم.

3680 ـ اِنَّ مِنْ نَكَدِ الدُّنْيا أَنَّها لا تَبْقى عَلى حَالَةِ وَلا تَخْلوُ مِنْ إِسْتِحالَة تُصْلِحُ جَانِبَاً بِفَسَادِ جَانِب وَتَسُرُّ صَاحِباً بِمَسَاءَةِ صَاحِب فَالْكَوْنُ فِيها خَطَرٌ وَالثِّقَةُ بِها غَرَرٌ وَالإِخْلادُ إِلَيْها مُحَالٌ وَالإِعْتِمادُ عَلَيْها ضَلالٌ.

«النكد» بفتح النون والدال غير المنقوطة يعني الشدة والصعوبة، وجاء بمعنى شحة ماء البئر أيضاً، وكلاهما يناسبان المقام، فيكون المعنى انّ من صعوبة الدنيا وشدتها أو ضآلة منفعتها انّها لا تبقى، و (خطر) بالخاء المنقوطة والطاء غير المنقوطة المفتوحتين هو الاشراف على الهلاك، وشاع استعماله في كلّ ما يخشى ضرره، و (غرر) له المعنى والوزن نفسه و (مُحال) بضمّ الميم يطلق على الشيء المتغير عن صورته وشاع استعماله في غير الممكن، وعليه يكون المعنى: لا يجوز ولا ينبغي الركون إليه، و (مِحال) بكسر الميم هو الكيد والمكر ويمكن قراءته هنا بالكسر، فيكون المعنى: الكيد والمكر مع النفس.

3681 ـ اِنَّ الدُّنْيا سَرِيْعَةُ التَّحَوُّلِ كَثِيْرَةُ التَنَقُّلِ شَدِيدَةُ الغَدْرِ دَائِمَةُ المَكْرِ، فَأَحْوالُها تَتَزَلْزَلُ وَنَعِيمُها يَتَبَدَّلُ وَرَخَاؤُها يَتَنَقّصُ وَلَذَّاتُها تَتَنَغَّصُ وَطَالِبُها يَذِلُّ وَرَاكِبُها يَزِلُ.

(سريعة التحول) يعني انّ تغيرها وإدبارها متسارع ويتحقق بسرعة، و (كثيرة التنفّل) يعني انّ انتقالها من إنسان إِلى آخر كثير الوقوع، وهكذا جفاؤها شديد، ومكرها دائم.

3682 ـ اِنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ نَضِرَةٌ حُفَّتْ بِالشَّهَواتِ وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَتَحلَّتْ بِالآمالِ وَتزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُوُمُ حَبْرَتُها وَلا تُؤْمَنُ فَجْعَتُها غَرَّارَةٌ ضَرّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِذَةٌ بَائِدَةٌ أَكّالَةٌ غَوَّالَةٌ.

قد لا يكون (نضرة) بمعنى الوجه الحسن بل الأخضر شديد الاخضرار، أي انّها ذات خضرة وطراوة في الظاهر، و (حُفت بالشهوات) أي أحاطتها الشهوات والأُمنيات، و (راقت بالقليل) أي انّ عطاءها وبذلها قليل، و (بائدة) يعني زائلة عن كلّ إنسان وتنتقل عنه إِلى شخص آخر، أو زائلة تماماً وفانية، وقد يكون (بائدة) بهذا المعنى وليس بمعنى زائلة، و (آكلة) يعني آكلة الناس لأنّهم يُفقدون فيها، و (غوّالة) لها هذا المعنى أيضاً، أو لهلاك الناس معنوياً فيها.

3683 ـ اِنَّ الدُّنْيا يُونِقُ مَنْظَرُها وَيُوبِقُ مَخْبَرُها قَدْ تَزَيَّنَتْ بِالغُرُورِ وَغَرَّتْ بِزِينَتِها، دَارٌ هَانَتْ عَلى رُبِّها فَخُلِطَ حَلالُها بِحَرامِها وَخَيْرُها بِشَرِّها وحُلْوْها بِمُرِّها، لَمْ يُصَفِّها اللهُ لاَِوْلِيائِهِ وَلَمْ يَضُنَّ عَلى أَعْدائِهِ. «دار هانت» أي ما انّها دار موهنة عند الله تعالى لا عناية له بها، فتركها ولم يطهرها، ولذا يكون الحلال فيها مشوباً بالحرام، والخير بالشرّ، والحلو بالمرّ، و (لم يصفها) بيان لعلة وهنها على الله تعالى، أي انّ ذلها يعود إِلى انّه لم يصفّها ويخلّصها لأحبائه، و (لم يضن بها على أعدائه) إذن هي دار خلقها خالقها ليتمتع بها المحب والعدو كلاهما، ولذا لم يعتنِ بها وفي طهارتها من الحرام والشرّ والمرارة، عكس الجنة الّتي خلقها لخاصة أحبائه فطهّرها من كلّ نقص وعيب.

3684 ـ اِنَّ لِلدُّنْيا مَعِ كُلِّ شَرْبَة شَرَقَاً وَمَعَ كُلِّ أَكْلَة غَصَصاً، لا تُنالُ مِنْها نِعْمَةٌ إِلاَّ بِفِراقِ أُخْرى وَلا يَسْتَقْبِلُ فِيها المَرْءُ يَوْمَاً مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ بِفِراقِ آخَرَ مِنْ أَجِلِهِ وَلا يَحْيى لَهُ فِيها أَثَرٌ إِلاَّ ماتَ لَهُ أَثَرٌ.

(أَكْلة) بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح اللام تعني أكلة واحدة وبضم الهمزة تعني اللقمة وهي مناسبة هنا أيضاً إلاّ انّ الأوّل أنسب لموافقتها لوزن (شربة) بفتح الشين، و (شَربة) بفتح الشين وسكون الراء وفتح الباء تعني الشرب وجاءت بمعنى الماء الّذي يُشرب مرة واحدة وهي مناسبة هنا أيضاً، وعليه فالأنسب هو قراءة (أكلة) بضم الهمزة بمعنى اللقمة، (شرق) بفتح الشين المنقوطة والراء غير المنقوطة المفتوحتين، و (غصص) بالغين المنقوطة والصاد غير المنقوطة المفتوحتين يعني انسداد الحلق وبقاء شيء في الحلق، وهو كناية عن الحزن والغم، والمراد انّه لا توجد نعمة في الدنيا حتّى الشرب والأكل غير مشوبة بالغم والغصة، و (لا تنال منها نعمة إلاّ بفراق أُخرى) كما انّه (لا يستقبل فيها المرء يوماً من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله، ولا يحيى له فيها أثر إلاّ مات له أثر) و (الأثر) يعني العلامة، والمراد منه هنا هو الأعمال الّتي يقوم بها الإنسان، فهي علامة له فالغالب فيها انّ حدوث أحدها يكون بعد زوال الأُخرى، أو آثار الفضل الإلهي الّتي تظهر فيه تدريجاً، وحدوث كلّ منها يكون بعد فناء الآخر، وعليه يمكن أن يكون المراد من (أثر) هو البقية، وهي إحدى معانيه نظراً إِلى كون كلّ منها بقية من النعم الإلهية الّتي خصصها له، فأوّلا أحدث وجوده، وبعد الوجود تكون كلّ منها بقية لها يتم تحقيقها. وإذا قال قائل: انّ استقبال المرء لكلّ يوم من عمره لا يكون إلاّ بعد مفارقة يوم آخر، أمر لا مناص منه ولا يختص بالدنيا، وهكذا النعم الأُخرى الّتي يجب أن تحدث الواحدة تلو الأُخرى، ككلّ نفَس وشرب وأكل وغيرها، فهذا المعنى إذن لا يستدعي نقص للدنيا، فنقول في الجواب: بما انّ أيام عمر الدنيا وهكذا نعمها متناهية ومقدرة، فما يأتي منها على التوالي لا يأتي إلاّ بعد فناء السابق لها، وبما انّ نعم الآخرة غير متناهية ولا تقدير لها ولا حدود فما يتحقق منها لا ينقص شيئاً من العمر أو نعمه بل كلّ ما بقي يكون غير متناه كما كان في البداية وفي الحقيقة لا ينفذ إليها فتور أو نقصان.

3685 ـ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْق لِمَنْ صَدَّقَهَا، وَدَارُ عَافِيَة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَدَارُ مَوْعِظَة لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِها وَنَادَتْ بِفِراقِهَا وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَة وَتَبَكَّرَتْ(15) بِفَجِيعَة ترغِيباً وَتَرْهِيباً وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ وَحَمِدَهَا آخَرُونَ ذَكَّرَتْهُمُ فَذَكَرُوا وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا مِنها الغِيَرَ وَالعِبَرَ(16).

(كون الدنيا دار صدق) يعود إِلى انّها تصدق في أحوالها من الجفاء والتغيرات والتبدلاّت وعدم الانفكاك من الغمّ والحزن وأمثالها، وتبدو لمن له عين بصيرة فيصدّقها فيما تقول دون أن يكذبها بسبب حب زخارفها و الرغبة فيها تكبراً وعناداً، و (كونها دار عافية) على هذا المنوال أيضاً، فمن يفهم ما تقوله ويتنبّه له لا يغترّ بها، ويشتغل بما ينفعه من الاستعداد للسفر عنها، فيكون في عافية فيها ولا تضره، كما يكون غنياً في الآخرة بما حمله من زاد منها، وبهذا يتوضح أيضاً انّها دار موعظة لمن يتعظ بها «وآذنت ببينها» أي المفارقة لكلّ أحد، «ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها» أمر واضح لا يحتاج إِلى بيان.

(فمثلت لهم) الهدف من العبارة هو تأكيد المراتب المذكورة، وإثبات مواعظها بانّ بلايا الدنيا وأفراحها نموذج من بلايا تلك الدار وأفراحها، والهدف من هذه البلايا هو يقظة الإنسان بها إذا أدرك آلامها، ويتحذّر من أسباب البلايا الأخروية الّتي تكون أضعافها كماً وكيفاً، بل لا يمكن اعتبارها طرفاً لها، وهكذا إذا أدرك لذة سرورها لسرور تلك الدار الّتي تكون نسبتها إِلى سرور الدنيا على قياس النسبة ذاتها بين البلايا المذكورة، فيسعى لما يكون سبباً لاستحقاقها.

والمراد من (راحت بعافية وتبكرت بفجيعة) انّها تنقضي بالعافية حيناً وبالمصائب حيناً أُخرى حتّى يدرك الناس لذاتها وآلامها، ويكون ذلك داعياً لهم في توفير أسباب العافية في ذلك العالم، ويكون سبباً لخوفهم وحذرهم من ارتكاب ما يستدعي المصائب، و (تقديم ذكر الليل على النهار) يعود إِلى انّ الليل مقدم على النهار في الشريعة المقدسة، وليل كلّ نهار هو الليل السابق له، و (تقديم العافية على المصيبة) يعود إِلى تقدّمها رتبة بل وجوداً أيضاً، (فذمّها رجال غداة الندامة) يعني بداية وقت الندامة وهو زمان محاسبة الناس واعطاء كلّ إنسان جزاء عمله، وبتحقق ذلك يشعر المذنبون بالندامة ممّا عملوا، ويشرعون بذم الدنيا الّتي ابتلوا بسببها بما ابتلوا به، ويمكن أن يتم الحساب غداة يوم القيامة فيمكن حمل الغداة على ظاهره، و (حمدها آخرون) أي الصالحون في ذلك الحين نظراً إِلى عملهم بانّهم نالوا السعادة الأبدية بسببها، وفي كتاب نهج البلاغة ورد بعد (آخرون) ] يوم القيامة[ فيكون المعنى: وحمدها آخرون في يوم القيامة، وهذا هو تلك الندامة الّتي تكون للمذنبين غداة الندامة، ويكون للصالحين يوم الفرح والسرور، والذم والحمد هذان وإنْ لم يقعا وسيقعان فيما بعد إلاّ انّه عبّر عنه بلفظ الماضي إشارة إِلى وقوعه يقيناً، وقد كثر نظائره في القرآن الكريم، (ذكّرتهم) أي حمدها آخرون فذكّرتهم الدنيا بانّها لا اعتبار لها وبغنائها وهكذا سرور وحزن الآخرة، «ذكرتهم فذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا منها الغير والعبر» أي اتعظوا بأنّ الدنيا محل التبدلات ولا تبقى على وتيرة واحدة وكلّ ما يقع فيها موضع عبرة لمن كان له بصيرة.

3686 ـ اِنَّ الدُّنْيا مَنْتَهَى بَصَرِ الاَْعْمَى لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيئاً وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَالاَْعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَالاَْعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ.

3687 ـ اِنَّ لِلدُّنْيا رِجَالا لَدَيْهِمْ كُنُوزٌ مَذْخُورَةٌ مَذْمُومَةٌ عِنْدَكُمْ مَدْحُورَةٌ يُكْشَفُ بِهِمُ الدِّينُ كَكَشْفِ أَحَدِكُمْ رَأْسِ قِدْرِهِ، يَلوُذُونَ كَالجَرادِ فَيَهْلِكُونَ جَبَابِرَةَ البِلادِ.

المراد من (الرجال) العلماء وأولياء الله الّذين لديهم كنوز العلوم والأدعية، وهي مذمومة مدحورة عندكم أيّها الجهّال، وهؤلاء يفتحون ويظهرون أحكام الدين المبين، ويميطون ستار الخفاء عنها كمن يرفع غطاء القدر عنه، وإذا أرادوا هلاك طاغ من الطغاة يحيطون به كالجراد إذا هجمت على مكان، أي يتفقون ويتجهون لدفعه بالدعاء والتوجه الباطني فيهلكونه. وقد يكون المراد(17) من (هؤلاء الرجال) الإمام صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه ولديهم كنوز العلوم، ويظهر بهم الدين ويحيطون بالطغاة كالجراد ويهلكونهم، والله تعالى يعلم.

3688 ـ إِنَّ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ وَسَبِيلاَنِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَتَوَلاَّهَا أَبْغَضَ الاْخِرَةَ وَعَادَاهَا وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَاش بَيْنَهُمَا فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِد بَعُدَ مِنَ الاْخَرِ وَهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ.

(هما) يعني الدنيا والآخرة ومن يطلبهما بمثابة المشرق والمغرب والماشي بينهما، وقد حذف الجزء الثالث المشبّه من أجل الاختصار، والاعتماد على الظهور بعد ملاحظة المشبه به وأجزائه الثلاثة والضّرة هي المرأة يكون لها مع امرأة أُخرى زوج واحد، والمراد انّ الدنيا والآخرة مع وجود ما ذكر من التباعد والعداء بينهما بمثابة الضرّتين، أي انّ أكثر الناس قد تزوّجوا الاثنين، ويرغبون إليهما، ويسعون لهما غافلين عن انّهما لا يجتمعان معاً.

3689 ـ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ مَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى وَلاَ يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَسَابِقَةٌ أُمُورُهُ مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلاَمُهُ لا يَنْفَكُّ مُصاحِبُهُ مِنْ عَنَاء وَفَنَاء وَسَلَب وَحَرَب.

المراد انّ الدنيا كما لم تفِ للماضين ولم تبقَ لهم ستكون كذلك مع الجماعة الباقية. و (ما يعود ما قد ولّى) إمّا يحمل على الغالب والأكثر، أو المراد هو خصوص عمر كلّ إنسان، أي مدة عمره إذا انقضى وانتهى فانّه لا يعود، و (آخر فعاله كأوّله) بمثابة تأكيد ما سبق، و (متسابقة أُموره) يعني ان أُموره متشابهة ومتناظرة ويصبو لغاية ونهاية واحدة كالخيّالة المتسابقين ينوي كلّ فرد منهم التقدم وسبق الغير، والمراد من (متظاهرة أعلامه) هو المعنى ذاته أي انّ آثاره وعلائمه تعضد كلّ واحدة منها الأُخرى على دلالته على عدم وفائه وعدم بقائه لأحد، وسائر ما إدراكها فراسة من أحوال الدهر. و (سلب) بفتح السين غير المنقوطة واللام المفتوحة يعني سرقة المال، والمراد هنا هو المصدر المبني للمجهول له ويعني سرقة ماله، و (حرب) مفتوح الحاء والراء غير المنقوطين يعني سلب أيضاً وتأكيد له.

3690 ـ إِنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ لاَ تُخْطِي سِهَامُهُ وَلاَ تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ.

أي يرمي السليم بسهام المرض ويمرضه والناجي أي البريء الناجي من العذاب بالهلاك الأخروي أي بالذنب الّذي يسبب ذلك، وقد يكون المراد من (الهلاك) هو الهلاك الدنيوي، ومن (الناجي) المجرد والبعيد عنه.

3691 ـ اِنَّ الدُّنْيا لَمشْغَلَةٌ عَنِ الآخِرَةِ لَمْ يُصَبْ صَاحِبُها مِنها سَيبَاً إِلاَّ فَتَحَتْ عَلَيْهِ حِرْصَاً عَلَيْها وَلَهَجاً بِها.

المشغلة عن شيء عدم التوجه إليه وتركه، و (سيب) بفتح السين وسكون الياء بنقطتين في الأسفل هو العطاء، وفي بعض النسخ ورد بالياء المنقوطة المفتوحة، ويعني الحبل وكلّ ما يتمسك به للوصول إِلى شيء، والمراد هنا هو نصيب الدنيا الّذي يتمسكون به للتمتع به، أو الوسيلة الّتي تتخذ لتحصيل الدنيا.

وخلاصة القول: انّ الدنيا تشغل الإنسان عن الآخرة، ويزداد حرصه عليها كلّما وصل إليه منها شيئاً، فمن أراد الآخرة ينبغي أن لا يشغل نفسه بالدنيا، و (لهج) تأكيد ويعني حرص أيضاً.

3692 ـ اِنَّ الله تَعالى جَعَلَ الدُّنْيا لِما بَعْدَها وَابْتَلى فِيها أَهْلَها لَيعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا، وَلَسْنا لِلدُّنْيا خُلِقْنا وَلا بِالسَّعْي لَها أُمِرْنا وَإِنَّما وُضِعْنا فِيها لِنُبْتَلى بِها وَنَعْمَلَ فِيها لِما بَعْدَها.

المراد من (ابتلاء الله ليعلم) انّه يتعامل مع الناس معاملة من يختبرهم ويرى انّهم إنْ أطاعوا أثابهم، وإنْ عصوا عاقبهم، وإلاّ فانّ من الواضح انّ الله تعالى عالم بكلّ شيء وبما يحدث وغني عن الاختبار، وقد يكون ] ليعلم[ بصيغة المبني للمجهول فيكون المعنى اختبر أهلها فيها كي يعلم أيّهم أحسن سلوكاً، أي يكون معلوماً للناس ويتضح لهم، وعليه يمكن حمل (ليعلم) على ظاهره دون الحاجة إِلى التأويل، واستعمال لفظ الابتلاء مبني على هذا التأويل المذكور أو انّ الاختبار للناس أيضاً أيضاً ولكن بما انّ تعامل الله تعالى وأمره ونهيه يستدعي تحقق الاختبار للناس نسب الاختبار لله تعالى، والمراد انّه تعامل فيها مع أهلها ما تحصل للناس بسببه اختبار أهلها ليعلموا أيّهم أحسن عملا.

3693 ـ اِنَّ الدُّنْيا دَارٌ مُنْها لَهَا الْفَنَاءُ وَلاَِهْلِهَا مِنْهَا الْجَلاَءُ وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ قَدْ عُجِّلَتْ لِلطَّالِبِ وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا عَنْهَا بِأَحْسَنِ مَا يِحَضْرَكُمْ مِنَ الزَّادِ وَلاَ تَسْأَلُوا فِيها فَوْقَ الْكَفَافِ وَلاَ تَطْلُبُوا مِنْهَا أكْثَرَ مِنَ الْبَلاَغِ.

المراد من كونها (حلوة نضرة) حلاوتها وطراوتها حسب الظاهر لمن لا يملك عيناً بصيرة، و (قد عجلت للطالب) يعود إِلى انّ تلك الدار عاجلة حاضرة والآخرة دار آجلة سوف تأتي بعد مرة، (التبست بقلب الناظر) يعود إِلى انّ أكثر الناس خدعوا بحسن ظاهرها، وأصبحوا طلابها، وغفلوا عن خبث باطنها، (بأحسن ما يحضركم من الزاد) يعني أفضل عمل تقدرون عليه ممّا يمكن أن يكون زاداً للآخرة، و ] كفاف[ القدر الّذي يكفي من الرزق ويصدّ الإنسان من استجداء الناس، و (لا تطلبوا منها أكثر من البلاغ) تأكيد لما سبق.

3694 ـ اِنَّ الدُّنْيا لا يَسْلَمُ مِنْها إِلاَّ بِالزُّهْدِ فِيها، اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِها فِتْنَةً فَمَا أَخَذُوا مِنْها لَها أُخْرِجُوا مِنْهُ وَحُوسِبُوا عَلَيْهِ وَمَا أَخَذْوُا مِنْها لِغَيْرِها قَدِمُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ وَإِنَّها عِنْدَ ذَوِي العُقُولِ كَالظّلِّ بَيْنا تَراهُ سَائِغَاً حَتَّى قَلَصَ وَزَائِدَاً حَتَّى نَقَصَ وَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ سُبْحانَهُ إِلَيْكُمْ فِي النَّهْي عَنْها وَأَنْذَرَكُمْ وَحَذَّرَكُمْ مِنْها فَأَبْلَغَ.

المراد من (فما أخذوا منها لها) الشيء الّذي يؤخذ من الدنيا للدنيا وشهواتها، (اخرجوا منه) أي انّهم في النهاية سوف يخرجون منها ويحاسبون عليها، و (ما أخذوا منها لغيرها) أي من أجل أن ينالوا الآخرة بها دخلوا وأقاموا لأنّهم سوف يقبلون على ما حصلوا بها من الآخرة وسيقيمون فيه، و (قد أعذر الله سبحانه إليكم في النهي عنها) يعني نهاكم عنها بنحو لم يبقِ لكم العذر في طلبها، إذ لو لم تكن تلك النواهي لأمكن أن تعتذروا بانّ طلبنا لها ناشئ من انّنا لم نعرف سوءها ومفاسدها، ولكن بعد تلك النواهي لا يبقى عذر، و (فأبلغ) تأكيد لما سبق، يعني أبلغ ما يجب ابلاغه من النهي عنها والتخويف والحذر.

3695 ـ اِنَّ الدُّنْيا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام(18) وَلا مَحَلَّ قَرَار وَإِنَّما جُعِلَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الأَعْمَالَ الصَّالِحَة لِدَارِ الْقَرَارِ، فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَاز وَلا تَخْدَعَنَّكُمْ مِنها العَاجِلَةُ وَلا تَغُرَّنَّكُمْ فِيها الفِتْنَةُ.

(فكونوا منها على أوفاز) يعني لا تعتبروها محلّ قراركم، ولا تأنسوا وتطمئنّوا بها، بل كونوا وكأنّ أحدكم جالس على دوار ينقلكم إليها، و (لا تخدعنّكم منها العاجلة) أي العاجلة منها يعني نعمها الحاضرة، و (لا تغرنكم) بمعنى ] لا تخدعنكم[ أيضاً، و (الفتنة) تعني الامتحان والاختبار، كما تستعمل بمعنى الاضطراب أيضاً، والمراد منها هنا هو المال والمقام الدنيوي اللذين يمكن اختيار الناس بهما، بل هما في الحقيقة من أجل اختبارهم، أو انّهما بلاء واضطراب لهم كي يبتلوا بهما.

3696 ـ إِنَّ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الاَْمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ والورعُ عَنْ الْـمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَلاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ سُبْحانَهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَج مُسْفِرَة ظَاهِرَة وَكُتُب بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَة.

(الزهادة) تعني ترك الدنيا أو الرغبة عنها، والمراد انّ حقيقة الزهادة ليست ترك الدنيا كلياً بل أن لا يكون للإنسان آمال طويلة، وأن يشكر النعم الّتي تصله ويجنب نفسه عن المحرمات، و (فان عزب ذلك عنكم) يعني إذا لم يكن فيكم معنى الزهادة كلّه، فلابدّ أن لا يترك الجزءين الآخرين فانّهما واجبان ولا يجوز تركهما بتاتاً، عكس الجزء الأوّل وهو قصر الأمل، لأنّ ذلك من الفضائل وتركه لايستدعي العذاب والعقاب، والمراد من (أعذر الله سبحانه) انّه نهى عن المحرمات، وأمر بشكر النعمة، وأوعد بالعذاب على المخالفة لها، وعليه فانّه أعذر نفسه في تعذيب من يخالفها ولم يدع طريقاً لتوهم الاعتراض على الحيف والجور في ذلك، لأنّ من أنذر عن شيء يكون في تركه ضرر على الإنسان فلا مجال للاعتراض حينئذ عند المخالفة ولحوق الضرر، كالراكب الّذي يسير ويخبر الناس فمن لا يحيد إِلى جانب رغم علمه بالخير فأضرّ به الحيوان فانّ ذلك الراكب يكون قد طلب العذر مسبقاً فلا اعتراض لذلك الشخص عليه.

وقد يكون معنى القول انّ الله سبحانه قد أسقط عذر الناس ولم يدع لهم طريقاً للعذر، نظراً لما ذكر من انّه قد أخبرهم وأخافهم من عصيانه، فلا عذر لمن يعصي بعد ذلك(19).

والمراد من (حجج مسفرة ظاهرة) هم الأنبياء وأوصياؤهم، فكلّ واحد منهم حجة وبرهان واضح وبيّن من قبل الله تعالى، و (كتب بارزة العذر) يعني الكتب الّتي يظهر ويتوضح فيها عذر الله تعالى في عقاب العاصين، نظراً إِلى انّها تخبر الناس عن أحوال المعاصي واستحقاق العذاب والعقاب بارتكابها، وبعدها لا مجال لتوهم الحيف والجور في عقاب العاصين كما ذكر.

3697 ـ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ أَجْلِي جُنَّةً حَصِينةً فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَأَسْلَمَتْنِي فَحِينَئِذ لاَ يَطِيشُ السَّهْمُ وَلاَ يَبْرَأُ الْكَلْمُ.

(أجل) كما تكرر ذكره يطلق على مدة العمر، كما يطلق على زمان الموت، والظاهر انّ المراد هنا هو المعنى الأول، والمراد: انّ الأجل الّذي قدره الله تعالى لي ولا يكون أقلّ من ذلك جُنّة قويّة تحفظني وما لم ترتفع لا يمكن قطع حبل حياتي الرقيق بمائة سيف حاد، (فإذا حلّ يومي) أي في زمان موتي يفتح ذلك الدرع عني ويدعني ويترك الدفاع عنّي، وحينئذ لا يزيغ سهم هلاكي الموجّه إِليَّ عن الهدف وهو أنا ويصيبه طبعاً، «ولا يبرأ الكلم» أي يُجهزني، وذكر قبل هذا انّ الظاهر هو انّ هذا المعنى ينفع مع من يعلم بأجله المقدر كالإمام صلوات الله وسلامه عليه، وأمّا من لا يعلم ذلك فيجب عليه الاحتياط واجتناب ما فيه احتمال الضرر، وسرّه أنّ الأجل إذا كان حتمياً فهناك أجل معلّق أيضاً وهو أجل معلّق على شرط، كما إذا كان مقدراً لفلان انّه إذا ألقى بنفسه من السطح أو طعن نفسه بالسكين أو تقاتل مع فلان فسوف يقتل، وإن لم يفعل فانّه سيبقى، وعليه فانّ الاحتراز ممّا يحتمل فيه الضرر يمكن أن يكون دافعاً للأجل المعلّق.

3698 ـ قال (عليه السلام) لمن طلب منه شيئاً من بيت مال المسلمين ولم يكن مستحقا لعطائه:

إِنَّ هذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَلْبُ أَسْيَافِهِمْ فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ شَرِكْتَهُمْ فِيْهِ وَإِلاَّ فَجَنَا أَيْدِيهِمْ لاَ يَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ.

لا يخفى انّ الغنيمة الّتي تناله يد المسليمن من الجهاد مع الكفّار كان خمسها لأهل الخمس، والباقي إذا كان القتال بدون إذن الإمام فانّه له، وإذا كان بإذنه فما كان غير منقول كالأراضي والعقارات والبساتين كان الجميع للمسلمين، بمعنى انّ الإمام يَصرف ثرواتها في مصالحهم من المجاهدين وغيرهم، وما كان فيه منقولا كالنقود والأمتعة وما شاكلها فانّه ملك الجماعة الّتي شاركت في الجهاد، وذلك بعد إخراج الجعالات الّتي وضعها الإمام لجماعة أزاء بعض الخدمات كالدلالة على الطريق أو الأمر الّذي يعين المسلمين وهكذا حراسة الغنيمة ونقلها وأمثال ذلك(20)، وهكذا اخراج عطائه لجماعة منهم اضافة إِلى سهمهم نظراً لسعيهم المضاعف، أو إِلى جماعة لا يستحقون سهماً كالنساء والعبيد والكفّار إذا تعاونوا، وهكذا إخراج ما ينتخبه لنفسه كالجواد الجيد أو السيف الثمين أو الأمَة ذات الحسن وأمثالها، وما يتبقى بعدها يقسم بين المجاهدين، وكلّ من شارك في ذلك الجهاد من أجل الجهاد وإن لم يجاهد، وذلك بأن يعطى سهم واحد لمن لم يكن له فرس سواءًا كان راجلا أم راكباً لا على الخيل، وسهمان لمن كان له فرس، وثلاثة أسهم لمن كان له فرسان أو أكثر فحينئذ يظهر أنّ المال الّذي طلبه ذلك الشخص كان من المال الخاص بالمجاهدين، ولذا قال الامام صلوات الله وسلامه عليه: (انّ هذا المال ليس لي ولا لك وانّما هو للمسلمين) أي خاص للمجاهدين في ذلك الجهاد، و (جلب أسيافهم) يعني الشيء الّذي جلبته أسيافهم ونالته لهم، وهذه قرينة على انّ المراد من المسلمين المذكورين هم خصوص المجاهدين، والمراد من (فانْ شركتهم في حربهم شركتهم فيه) انّك ستكون شريكاً في الغنيمة الّتي حصلت بأيديهم بمشاركتك بعد ذلك وليس في المال المذكور، و (وإلاّ فجنا أيديهم) يعني ما كسبته أيديهم ونالته، (لا يكون لغير أفواههم) يعني خاص بهم ولا يمكن اعطاؤه للغير.

3699 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الإِنْسانِ لِلنَّاسِ جَمِيلَةً كَما يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي طَاعَتِهِ قَوِيَّةً غَيْرَ مَدْخُولَة.

المراد من (جمال نيّته للناس) أن لا يكون في قصده ونيّته الاضرار بالغير وأن يريد الخير للجميع، ولا يرضى بالإساءة لأحد، و (قوّة نيّته في طاعة الله) يعني أن يكون صامداً وثابتاً في ذلك ولا يعترضه الشك فيه وتكون خالصةً لله وغير مشوبة بهدف آخر، إذن (غير مدخولة) أي بالشك والشبهة أو بهدف آخر من الرياء وأمثاله بمثابة تفسير لقوله: «قوية».

3700 ـ اِنَّ العَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيا لَنِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ وَمَوْهِبَةٌ جَزِيلَةٌ.

والمراد انّه لا بأس بالعافية في الدنيا مع عدم ابتلائها بآفة عكس ما يظن بعض الناس، بل هي نعمة جميلة وموهبة جزيلة بشرط اقترانها بالعافية في الدين وعدم ابتلائها بآفة.

3701 ـ اِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يَعْمَلانَ فِيْكَ فَاعْمَلْ فِيهِما وَيَأْخُذانِ مِنْكَ فَخُذْ مِنْهُما.

المراد من (عمل الليل والنهار في الإنسان) انّهما يعملان في ضعفه وشيخوخته تدريجياً ويأخذان من عمره وبدنه، فالفقرة الثانية إذن تكون بمثابة التفسير والبيان لما سبق والمراد انّهما كما يعملان فيك ويأخذان منك فعليك أن تعمل فيهما وتأخذ نصيبك منهما بممارسة أعمال الخير فيهما، كي تتدارك وتعوض ضررهما وخسرانهما.

3702 ـ اِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اطَّلَعَ إِلى الأَرْضِ فَاخْتَارَ لَنا شِيْعَةً يَنْصُرُونَنَا وَيَفْرَحَوُنَ لِفَرَحِنا وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنا وَيَبْذَلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فِينا أُوْلئِكَ مِنّا وإِلَيْنا.

هذه العبارة مرت في هذا الباب مع تغيير طفيف، وهي غير موجودة في بعض النسخ لهذا الأمر، وقد ذُكر في شرحها انّ المراد من (الاطلاع إِلى الأرض) هو الاهتمام بتدبيرها يعني في العلم الأزلي حينما قام بتقدير تدبير الأرض اختار لنا أتباعاً، و (إلينا) يعني انّ رجوعهم في الدنيا والآخرة يكون نحونا.

 ***

 

الهوامش:

(1) الزخرف: 77.

(2) الإسراء: 97.

(3) العبارة لذا أمر.. الخ موجودة في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار فقط.

(4) عبارة (بناءً على شرحه أوّلا) وردت في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار فقط.

(5) من (ولم يحل ... وكون العارف) موجود في نسخة مكتبة مدرسة سبهسالار فقط ولا يوجد في النسخة الأصلية.

(6) في حاشية نسخة مكتبة سبهسالار كتبت هذه العبارة أيضاً: وفي كتاب نهج البلاغة نقل (مستظهر) بدون (أو) وعلى ذلك يكون هذا وصفاً للفرقة الاُولى الّتي استخدمت وسيلة الدين من أجل الدنيا، وينتصرون بنعم الله وحججه كما تم بيانه. منه مدّ ظلّه العالي.

(7) عبارة (بنعم الله... بإمامته) موجودة في نسخة مكتبة مدرسة سبهسالار فقط.

(8) قال الشارح(رحمه الله) في الهامش: (مأخوذ من الغول بمعنى الاهلاك أو الاضلال أو الاغفال أو من التغوّل بمعنى التلوّن أو الابتعاد نظراً إِلى انّه يبعد الناس عن الطريق) .

(9) التوبة: 37.

(10) القلم: 42.

(11) كتب الشارح(رحمه الله) في الهامش: ]فتن[ يعني وقع في الفتنة وأوقع في الفتنة وقد ورد كلاهما، وبناءً على الأوّل يجب قراءة (فتن) بصيغة المعلوم أي يقع في الفتنة، وبناءً على الثاني (فتن) بصيغة المبني للمجهول أي يوقع في الفتنة / منه.

(12) كتب في الهامش (أبصر بها) كنسخة بدل من النص بخط الشارح(رحمه الله).

(13) عبارة (في بعض النسخ... سهل) موجودة في نسخة مدرسة سبهسالار فقط ولا توجد في الأصل.

(14) هذه العبارة وترجمتها كتبت في قصاصة بقلم الشارح(رحمه الله) كمسودة ضمت إِلى أصل النسخة، ويبدو انّها كتبت كاعتراض على الشرح الماضي (من الشارح نفسه أو غيره) ولم يذكر ذلك في نسخة مكتبة مدرسة سبهسالار.

(15) في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار ورد (ابتكرت) بدلا عن (تبكرت) و (منها بالغير والعبر) بدلا عن (منها الغير والعبر).

(16) في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار ورد (ابتكرت) بدلا عن (تبكرت) و (منها بالغير والعبر) بدلا عن (منها الغير والعبر).

(17) عبارة (وقد يكون المراد..الخ) في نسخة مكتبة مسجد سبهسالار مذكورة ولا وجود لها في النسخة الأصلية.

(18) وضع الشارح(رحمه الله) الضمة والفتحة على الميم الاُولى في (مقام) وكتب فوقه معاً، أي يصح قراءة كلمة (مقام) بالوجهين.

(19) قال الشارح(رحمه الله) في الهامش: وما ذكر قبل هذا ] من أنذر فقد أعذر[ يمكن أن يكون لكلّ من المعنيين كما تم شرحه قبل هذا، وهو انّ من أخاف فقد طلب لنفسه العذر أو يسقط عذر من أخافه.

(20) قال الشارح(رحمه الله) في الهامش: (الأظهر ان اخراج الخمس المذكور في هذا القسم بعد اخراج الجعالات وقبل العطاء).