بعد ذلك استجاب له الله وانقذه من الغم ، حيث قال تعالى :
«فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين»(1) .
بعد ان لبث يونس عليه السلام في بطن الحوت فترة من الزمن ، وفي رواية عن ابي الجارود : لبث في بطن الحوت ثلاث ايام ، وروي غير ذلك(2) ، والله العالم» انقذه الله من ذلك السجن المظلم والموحش ، وكان قد اثر على جسده بعض الشيء ، وكان عندما خرج من بطن الحوت كانه فرخ دجاجة ضعيف لا جناح له ولا ريش ، حيث كان منهارا لا يمتلك القوة والقدرة على الحركة ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج الى ظل يستظل به عن حرارة الشمس .
مرة اخرى شمله اللطف الالهي وانبت الله له شجرة «القرع» ليستظل باوراقها العريضة الرطبة ، حيث قال سبحانه وتعالى في ذلك : «فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وانبتنا عليه شجرة من يقطين»(3) .
يا لها من موعظة عظيمة درس مهم وصلنا عن طريق هذا النبي العظيم يونس عليه السلام ، علينا ان نعتبر بهذا الدرس ، وخاصة اذا كنا نمتلك مسؤولية ادارية في الدولة ، وكيف نتعامل مع المجتمع من اجل سعادته وانقاذه من المطبات الاخلاقية والتيارات الفكرية المنجرفة ، حتى نوصله الى ساحل الامان ... .
اللجوء الى العالم :
بعد ان ترك يونس عليه السلام قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبين لهم قرب موعد الغضب الالهي ، خافوا من غضب الله وعادوا الى رشدهم ، والتجأوا
1ـ الانبياء : 88.
2ـ وروي تسع ساعات وروي ثلاث اسابيع ، وروي 40 يوما والله العالم .
3ـ الصافات : 146.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
302
الى الرجل «العالم» الذي آمن بيونس ولم يخرج معه كما خرج «العابد» وبقي بين قومه ، واتخذوه قائدا لهم .
قال لهم الرجل العالم اخرجوا الى الصحراء ، وفرقوا بين المراة وطفلها ، بين الحيوانات واطفالها ، وادعوا الله بتضرع واخلاص .
خرج القوم الى الصحراء كبيرا وصغيرا ومريضا وعاجزا واخذوا يدعون الله ويبكون وينتحبون باعلى اصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى باخلاص ان يتقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتباعهم نبي الله يونس .
وهنا استجاب الله دعائهم ، وازاح عنهم العذاب وانزله على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بالطاف الله .
عودة يونس عليه السلام
بعد هذا عاد النبي يونس عليه السلام الى قومه ، وذلك بعد ان انجاه الله سبحانه وتعالى من بطن الحوت ، ليرى ماذا صنع بهم العذاب الالهي ؟ ولكن ما ان عاد الى قومه حتى فوجيء بامر اثار عنده الدهشة والعجب ، حيث رآهم مؤمنين يعبدون الله عز وجل ويوحدونه بعدما كانوا يعبدون الاصنام .
يقول تعالى : «وارسلناه الى مئة الف او يزيدون * فآمنوا فمتعناهم الى حين»(1) .
بعد ان آمن قوم يونس ، بعث لهم الله نبيه يونس مرة ثانية واغدق عليهم النعم الالهية المادية والمعنوية لمدة معينة ، وزاد ايمان القوم بالله وبرسوله يونس ، واخذوا ينفذون تعليماته واوامره ، الى نهاية حياتهم وحلول اجلهم .
1ـ الصافات : 148.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
303
توضح لنا هذه القصة كيف ان قوما مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية بعودتهم الى احضان الرحمة الالهية وتوبتهم الى الله ، وانقاذ انفسهم من العذاب المحقق .
وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الاوان ، وانتخاب قيادة علمائية رشيدة وامتثال اوامرها واطاعتها .
قصة متي ابا يونس عليهما السلام :
روي عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ان داود النبي عليه السلام قال : يا رب اخبرني عن قريني ونظيري في منازلي ؟ فاوصى الله تبارك وتعالى اليه :
ان ذلك متي ـ ابا يونس عليه السلام ـ
قال : فاستاذن الله في زيارته فاذن له ، فخرج داود وسليمان ، حتى اتيا موضعه ، فاذا هما ببيت من سعف ، فقيل لهما : هو في السوق ، فسألا عنه فقيل لهما : اطلباه في الحطابين ، فسألا عنه ، فقال لهما جماعة من الناس : نحن ننتظره الآن يجيء فجلسا ينتظرانه .
اذ اقبل ـ متي ـ وعلى راسه الحطب ، فقام اليه الناس ، فالقى عنه الحطب فحمد الله وقال : «من يشتري طيبا بطيب» ؟ فساومه واحد وزاد بآخر ، حتى باعه من بعضهم .
قال : فلما سلما عليه ، فقال : انطلقا بنا الى المنزل ، واشترى طعاما بما كان معه ، ثم طحنه وعجنه ، ثم اجج نارا واوقدها ، ثم جعل العجين في تلك النار ، وجلس معهما يتحدث .
ثم قام وقد نضجت خبيزته فوضعها في الاجانة وفلقها وذر عليها ملحا ووضع الى جنبه مطهرة ماء ، وجلس على ركبتيه واخذ لقمة ، فلما وضعها الى فيه
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
304
قال : بسم الله ، فلما ـ اكها ـ قال الحمد لله ، ثم فعل ذلك باخرى واخرى ، ثم اخذ الماء فشرب منه فذكر اسم الله ، فلما وضعه قال :
الحمد لله يا رب ، من ذا الذي انعمت عليه ما اوليته مثل ما اوليتني .
قد صححت بصري وسمعي وبدني وقويتني حتى ذهبت الى شجر لم اغرسه ولم اهتم لحفظه ، وجعلته لي رزقا ، وسقت الي من اشتراه مني ، فاشتريت بثمنه طعاما لم ازرعه ، وسخرت لي النار فانضجته ، وجعلتني آكله بشهوة اقوى به على طاعتك فلك الحمد ، ثم بكى .
قال داود عليه السلام : يا بني قم فانصرف بنا ، فاني لم ار عبدا قط اشكر من هذا .(1)
«كان هذا العبد متي اب يونس سلام الله عليهما» .
فضل العالِم على العابد :
ذكرنا قبل هذا انه ، كان في قوم يونس عليه السلام رجلان احدهما عابد واسمه «تنوخا» والآخر عالِم واسمه «روبيل» وكانا قد آمنا بالنبي يونس عليه السلام واصبحا من مستشاريه .
فكان العابد يشير على يونس بالدعاء على قومه ، وكان العالِم ينهاه ويقول : لا تدع عليهم فان الله يستجيب لك .
فلما دعى يونس عليه السلام على قومه بالعذاب واستجاب الله له ، ذهب الى تنوخا العابد فاخبره بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه في اليوم المعين «في شوال يوم الاربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس» وقال له : انطلق اليهم واعلمهم بما اوحى الله الي من نزول العذاب عليهم .
1ـ قصص الانبياء : نعمة الله الجزائري ص493. وتنبيه الخواطر ج1 ص18.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
305
فقال العابد : دعهم في غمرتهم ومعصيتهم ، حتى يعذبهم الله تعالى ، فقال يونس عليه السلام : بل نلقي روبيل فنشاوره فانه رجل عالم حكيم من اهل بيت النبوة .
فانطلقا الى روبيل ، فاخبره يونس عليه السلام بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه .. ، فقال له روبيل :
ارجع الى ربك رجعة نبي حكيم وسله ان يصرف عنهم العذاب فانه غني عن عذابهم ، وهو يحب الرفق بعباده ، ولعل قومك بعدما سمعت ورايت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأنهم .
اعترض الرجل العابد على الرجل العالِم ودار نقاش شديد بينهما ، العابد يصر على نزول العذاب ، والعالِم يصر على رفع العذاب ، بعد ذلك قال العالِم للعابد : اسكت فانك رجل عابد لا علم لك .
ثم قال روبيل للنبي يونس عليه السلام : ارجع الى الله واساله ان يصرف عنهم العذاب ، ولعلهم اذا احسوا بنزول العذاب يتوبوا الى الله ، فيرحمهم فانه ارحم الراحمين ، ويكشف عنهم العذاب من بعدما اخبرتهم عن الله انه ينزل عليهم العذاب يوم كذا وكذا ... فاعترض تنوخا العابد مرة اخرى على روبيل العالم .. .
فابى يونس عليه السلام ان يقبل وصية العالِم ، فانطلق ومعه تنوخا العابد وخرجا من القرية ، وبقي الرجل العالِم في القرية مع قومه ولم يخرج معهم .
لما حان موعد نزول العذاب في شوال ، صاح روبيل العالِم باعلى صوته الى القوم وقال : انا روبيل شَفيق عليكم رحيم بكم وهذا شوال قد دخل عليكم ، وقد اخبركم يونس نبيكم ورسولكم ان الله اوحى اليه ان العذاب ينزل عليكم في وسط شهر شوال بعد طلوع الشمس ، ولن يخلف الله وعده ورسوله فانظروا ما انتم صانعون .
فافزعهم كلامه ووقع في قلوبهم الخوف والرعب فاتوا نحو روبيل وقالوا
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
306
له : ما تشير علينا يا روبيل فانك رجل عالم حكيم ، فامرنا بامرك واشر علينا برايك .
فقال لهم روبيل : فاني ارى لكم واشير عليكم ان تنظروا اذا طلع الفجر من يوم الاربعاء في وسط الشهر ، ان تعزلوا الاطفال عن الامهات في اسفل الجبل ، وتقفوا النساء في سفح الجبل ... ، فاذا رايتم ريحا صفراء اقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالبكاء والصراخ والتضرع الى الله والتوبة اليه وارفعوا رؤوسكم الى السماء وقولوا : ربنا ظلمنا انفسنا وكذبنا نبينا وتبنا اليك من ذنوبنا وان لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين ، فاقبل توبتنا وارحمنا يا ارحم الراحمين ، فاجمَعَ راي القوم على هذا .
فلما كان اليوم الموعود بنزول العذاب ، اقبلت ريح صفراء مظلمة لها صرير وحفيف وهدير ، فلما رأوها عجوا بالصراخ والبكاء والتضرع الى الله وتابوا اليه ، وصرخت الاطفال تطلب امهاتها ، وعجت سخال البهائم تطلب اللبن ، وعجت الانعام تطلب المرعى ، فلم يزالوا كذلك وروبيل يسمع صراخهم ويدعو الله بكشف العذاب عنهم .
فاستجاب الله دعاءهم وقبلَ توبتهم وابعد عنهم العذاب وانزله على الجبال والصحاري .
فلما راى قوم يونس عليه السلام ان العذاب قد صرف عنهم هبطوا من رؤوس الجبال الى منازلهم وضموا اليهم نساءهم واولادهم واموالهم وحمدوا الله على ما صرف عنهم .
فلما رجع يونس والعابد الى القرية ، قال روبيل العالِم الى تنوخا : اي الرايين كان اصوب واحق ان يتبع ، رأيي او رأيك ؟ فقال له تنوخا : بل رأيك كان اصوب ، ولقد اشرت برأي الحكماء العلماء ، وما اعطاك ربك من الحكمة مع
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
307
التقوى افضل من الزهد والعبادة بلا علم ... .
عن ابي حمزة ، عن ابي جعفر عليه السلام قال : عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد .(1)
وعن معاوية بن عمار قال : قلت لابي عبد الله عليه السلام : رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل ؟ قال : الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا افضل من الف عابد .(2)
موعظة :
روي انه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت ام سلمة في ليلتها ، فقدته من الفراش فدخلها من ذلك ما يدخل النساء ، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت اليه وهو في جانب من البيت رافعا يديه يبكي وهو يقول :
«اللهم لا تنزع مني صالح ما اعطيتني ابدا .
اللهم ولا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا .
اللهم لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا ابدا .
اللهم لا تردني من سوء استنقذتني منه ابدا» .
فانصرفت ام سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبكائها ، فقال لها ما يبكيك يا ام سلمة ؟ فقالت : بابي انت وامي يا رسول الله ولِمَ لا ابكي وانت بالمكان الذي انت به من الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تاخر ، تساله ان لا يشمت بك عدوا ابدا ، وان لا يردك في سوء استنقذك منه ابدا ، وان لا ينزع منك
1ـ 2ـ الكافي : ج1 ص33.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
308
صالح ما اعطاك ابدا ، وان لا يكلك الى نفسك طرفة عين ابدا .
فقال : يا ام سلمة وما يؤمنني ، وانما وكل الله يونس بن متي الى نفسه طرفة عين فكان منه ما كان .(1)
1ـ البحار : ج14 ص384.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
309
حكم و مواعظ
من حياة الانبياء عليهم السلام
(19)
من اخبار بني اسرائيل
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
310
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
311
مواعظ وحكم من اخبار بني اسرائيل
خمسة من المنجيات :
... عن الهروي قال : سمعت علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول : اوحى الله عز وجل الى نبي من انبياء :
اذا اصبحت فاول شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه ، قال : فلما اصبح مضى .
فاستقبله جبل اسود عظيم فوقف وقال : امرني ربي ان آكل هذا ، وبقي متحيرا ، ثم رجع الى نفسه فقال : ان ربي جل جلاله لا يامرني الا بما اطيق ، فمشى اليه لياكله ، فكلما دنا منه صغر حتى انتهى اليه فوجده لقمة ، فاكلها فوجدها اطيب شيء اكله .
ثم مضى فوجد طستا من ذهب فقال : امرني ربي ان اكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه ، والقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطست قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما امرني ربي عز وجل فمضى .
فاذا هو بطير وخلفه بازي فطاف الطير حوله فقال : امرني ربي ان اقبل هذا ، ففتح كمه فدخل الطير فيه .
فقال له البازي : اخذت صيدي وانا خلفه منذ ايام ، فقال : ان الله امرني ان لا اؤيس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها اليه ثم مضى .
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
312
فلما مضى اذا هو بلحم ميتة منتن مدوّد فقال : امرني ربي عز وجل ان اهرب من هذا ، فهرب منه ورجع .
وراى في المنام كانه قد قيل له : انك قد فعلت ما امرت به ، فهل تدري ماذا كان ؟ قال : لا ، قال له اما الجبل : فهو الغضب ان العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه ، كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي اكلتها .
واما الطست : فهو العمل الصالح ، اذا كتمه العبد واخفاه ، ابى الله عز وجل الا ان يظهره ليزينه به مع ما يدخر له من ثواب الآخرة .
واما الطير : فهو الرجل الذي ياتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته .
واما البازي : فهو الرجل الذي ياتيك في حاجة فلا تؤيسه .
واما اللحم المنتن : فهي الغيبة فاهرب منها(1) .
عدل الله :
عن ابي جعفر عليه السلام قال : مر نبي من انبياء بني اسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج قد نقبته الطير ومزقته الكلاب ، ثم مضى فرفعت له مدينة فدخلها فاذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجى بالديباج حوله المجامير .
فقال : يا رب اشهد انك حكيم عدل لا تجور ، عبدك لم يشرك بك طرفة عين امته بتلك الميتة ، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين امته بهذه الميتة .
قال الله عز وجل : عبدي : انا كما قلت حكم عدل لا اجور ، ذلك عبدي
1ـ عيون الاخبار : ص152 ، عنه البحار : ج14 ص457.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
313
كانت له عندي سيئة وذنب ، امته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبقى عليه شيء .
وهذا عبدي كانت له عندي حسنة فامته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي شيء .(1)
الموت رحمة :
عن ابي عبد الله عليه السلام قال : ان قوما فيما مضى قالوا لنبي لهم ادع لنا ربك يرفع عنا الموت ، فدعا لهم فرفع عنه الموت فكثروا حتى ضاقت عليهم المنازل وكثر النسل ، ويصبح الرجل يطعم اباه وجده وامه وجد جده ، ويوضئهم ويتعاهدهم ، فشغلوا عن طلب المعاش ، فقالوا : سل لنا ربك ان يردنا الى حالنا التي كنا عليها ، فسال نبيهم ربه فردهم الى حالهم .(2)
موعظة :
من مواعظ الامام امير المؤمنين عليه السلام للناس :
... ولكن الله سبحانه يختبر عباده بانواع الشدائد ، ويتعبدهم بالوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، واسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك ابوابا فتحا الى فضله ، واسبابا ذللا لعفوه .
فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكِبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، ... اما ابليس فتعصب على آدم عليه السلام لاصله ، وطعن عليه في خلقته فقال : انا ناريّ وانت طينيّ .
1ـ كتاب المختصر للحسن بن سليمان : عنه البحار 14ـ 457.
2ـ الكافي : 1ـ 72.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
314
واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ، «وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين»(1) .
فاذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الامور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ... .
واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من العقوبات بسوء الافعال ، وذميم الاعمال ، فتذكروا في الخير والشر احوالهم ، واحذروا ان تكونوا امثالهم ، فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل امر لزمت العزة به شانهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، «اي تباعدت الاعداء وزالت» .
وتدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، الم يكونوا اثقل الخلائق اعباء ؟ واجهد العباد بلاء ، واضيق اهل الدنيا حالا ؟ اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا الى دفاع .
حتى اذا راى الله جد الصبر منهم على الاذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا ، فابدلهم العز مكان الذل ، والامن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وائمة اعلاما ، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال اليه بهم .
فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء متفقة ، والقلوب معتدلة ، والايدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم وحدة ،
1ـ سبا : 35.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
315
الم يكونوا اربابا من اقطار الارضين ؟ وملوكا على رقاب العالمين ؟
فانظروا الى ما صاروا اليه في آخر امورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والافئدة ، وتشعبوا مختلفين , وتفرقوا متحازبين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم ... .
فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل عليهم السلام ، فما اشد اعتدال الاحوال ، واقرب اشتباه الامثال ، تاملوا امرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الاكاسرة والقياصرة اربابا لهم يجتازونهم(1) عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، الى منابت الشيح(2) ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ... .
فانظروا الى مواقع نعم الله عليهم حين بعث اليهم رسولا(3) فعقد بملته طاعتهم ، وجمع على دعوته الفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ؟ واسالت لهم جداول نعيمها ؟ والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فاصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عشيها فكهين ... .(4)
ملاحظة :
ذكرنا مختصرا من خطبة الامام امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة لاشتمالها على جمل قصص الانبياء عليهم السلام وعلل احوالهم ، والتنبيه على فائدة الرجوع الى قصصهم والنظر في احوالهم واحوال اممهم وغير ذلك من الفوائد
1ـ اي يبعدونهم عن دجلة والفرات .
2ـ اي ارض العرب .
3ـ المراد به نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
4ـ الخطبة اختصرناها من نهج البلاغة : 1/372ـ 395.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
316
التي لا تحصى ولا تخفى على من تامل فيها .
الزوجة الحمقاء :
روي ان الله اوحى الى نبي من الانبياء في الزمن الاول : ان لرجل في امته دعوات مستجابة ، فاخبر به ذلك الرجل ، فانصرف من عنده الى بيته فاخبر زوجته بذلك .
فالحت عليه ان يجعل دعوة لها فرضي ، فقالت : سل الله ان يجعلني اجمل نساء الزمان ، فدعى الرجل فصارت كذلك ، ثم انها لما رات رغبة الملوك والشبان المتنعمين فيها متوفرة زهدت في زوجها الشيخ الفقير وجعلت تغالظه وتخاشنه وهو يداريها ولا يكاد يطيقها .
فدعا الله ان يجعلها كلبة فصارت كذلك ، ثم اجمع اولادها يقولون : يا ابة ان الناس يعيرونا ان امنا كلبة نائحة ، وجعلوا يبكون ويسألونه ان يدعو الله ان يجعلها كما كانت ، فدعا الله تعالى فصيرها مثل التي كانت في الحالة الاولى ، فذهبت الدعوات الثلاث ضياعا .(1)
كفر العابد :
قال الطبرسي رحمه الله : عن ابن عباس قال : كان في بني اسرائيل عابد اسمه «برصيصا» عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده ، وانه اتي بامراة في شرف قد جنت وكان لها اخوة بها وكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ، فلما استبان حملها قتلها ودفنها ، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي احد اخوتها فاخبره بالذي
1ـ دعوات الراوندي : عنه البحار ج14 ص485.
حكم ومواعظ من حياة
الانبياء ـ الجزء الثاني
317
فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا ، ثم اتى بقية اخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له ، وانتشر الخبر حتى بلغ ذلك ملكهم .
فسار الملك والناس فاستنزلوه فاقر لهم بالذي فعل ، فامر به فصلب ، فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال : انا الذي القيتك في هذا ، فهل انت مطيعي فيما اقول لك اخلصك مما انت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة ؟ فقال : اكتفي منك بالايماء ، فاومأ له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل .
فاشار الله عز وجل الى قصته قائلا(1)«كمثل الشيطان اذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال اني بريء منك اني اخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما انهما في النار خالدَين فيها وذلك جزاء الظالمين»(2) .
العابد العاق :
... عن ابي جعفر عليه السلام قال : كان في بني اسرائيل عابد يقال له «جريح» وكان يتعبد في صومعته فجاءته امه وهو يصلي فدعته فلم يجبها ، فانصرفت ، ثم اتته ودعته فلم يلتفت اليها فانصرفت ، ثم اتته فدعته فلم يجبها ولم يكلمها فانصرفت وهي تقول : اسأل اله بني اسرائيل ان يخذلك .
فلما كان في الغد جاءت امراة زانية وكانت حامل وقعدت عند صومعته قد اخذها الطلق فادعت ان الولد من ـ جريح ـ ، ففشا في بني اسرائيل ان من كان يلوم الناس على الزنا قد زنى ، وامر الملك بصلبه ، فاقبلت امه اليهم تلطم وجهها ، فقال لها :
1ـ مجمع البيان : 9ـ 265. عن قصص الجزائري : 516.
2ـ الحشر : 16ـ 17.