حقيقة علم آل محمد (ع)
وجهاته
السيد علي عاشور
الفهرس
• تمهيد : (9)
• وجوب معرفة علم الإمام ( عليه السلام ) (11)
• سبب اخفاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) للعلم الرباني (13)
• الجهة الأولى : علم آل محمد ( عليهم السلام ) وأقسامه (17)
• مراتب علم آل محمد ( عليهم السلام ) وأقسامه (19)
• وجوه الجمع بين أحاديثهم الصعبة (21)
• الجهة الثانية : زمان علم آل محمد ( عليهم السلام ) (23)
• الجهة الثالثة : ماهية علم آل محمد ( عليهم السلام ) (31)
• العلم الكسبي الحصولي (33)
• العلم اللدني (35)
• الآيات الدالة على العلم اللدني (35)
• الأحاديث الدالة على العلم اللدني (53)
• الدليل العقلي (55)
• الفرق بين العلم اللدني الحضوري والكسبي الحصولي (57)
• العلم الإرادي (61)
• تمحيص الاحتمالات (63)
• شبهات حول العلم اللدني (69)
• رد الشبهات (70)
• الجهة الرابعة : منبع ومصدر حصول علم آل محمد ( عليهم السلام ) (79)
• الطائفة الأولى : ما دل أن مصدر علمهم القرآن والكتاب (79)
• الطائفة الثانية : ان علمهم من ليلة القدر (81)
• الطائفة الثالثة : ان علمهم من عامود النور (83)
• الطائفة الرابعة : ان علمهم وراثة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (85)
• الطائفة الخامسة : ان علمهم بواسطة القذف والنقر (87)
• الطائفة السادسة : ان علمهم بالإلهام (91)
• الطائفة السابعة : في أنهم محدثون (93)
• الطائفة الثامنة : ان علمهم بواسطة الوحي وجبرائيل (95)
• الطائفة التاسعة : ان علمهم بواسطة الروح (101)
• الطائفة العاشرة : ان علمهم بلا واسطة بل من الله بالمباشرة (105)
• الترجيح بين الطوائف العشر (113)
• الجهة الخامس : كيفية حصول علم آل محمد ( عليهم السلام ) (119)
• الجهة السادسة : سعة علم آل محمد ( عليهم السلام ) (121)
• الاحتمال الأول : انهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ (121)
• الاحتمال الثاني : علمهم بالكتاب والقرآن الكريم (123)
• الاحتمال الثالث : عندهم علم السماوات والأرض والجنة وكل غائبة فيهم (125)
• الاحتمال الرابع : علمهم بما هو كائن ويكون (127)
• الاحتمال الخامس : علمهم بما يحتاج إليه الناس وبأمورهم (129)
• الاحتمال السادس : عندهم جوامع العلوم وأصوله (131)
• الاحتمال السابع : عندهم علم جميع الأنبياء ( عليهم السلام ) وكتبهم السابقة
والملائكة (133)
• الاحتمال الثامن : انهم أعلم من الأنبياء ( عليهم السلام ) (135)
• الاحتمال التاسع : علمهم بكل شيء أو بما لا يعلمون (137)
• الاحتمال العاشر : علم آل محمد ( عليهم السلام ) للغيب (139)
• الآيات الدالة على علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للغيب (147)
• تمحيص الاحتمالات (155)
• علم آل محمد ( عليهم السلام ) بزمان ومكان موتهم (159)
• دفع اشكال معرفة الإمام بموته ( عليه السلام ) (163)
• أحاديث تساوي محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله ) (173)
- ص 1 -
حقيقة علم آل محمد ( عليهم السلام )
وجهاته
آل محمد ( عليهم السلام )
بين قوسي النزول والصعود
الكتاب الثاني
علم آل محمد ( عليهم السلام ) وجهاته
تأليف العلامة
السيد علي عاشور
‹
صفحة 7 ›
الإهداء :
إلى عشاق العلم والعلوم
إلى عشاق أصحاب العلم والملكوت
إلى عشاق المعلم الأول محمد وآل محمد
( عليهم السلام )
إليكم ايها العشاق نهدي هذه الباقة من
المفاهيم
إليكم نزف صدور أبحاث علم آل محمد (
عليهم السلام )
‹
صفحة 9 ›
*
تمهيد :
بعدما وصل الكلام إلى أن الله قد مكن
أهل البيت ( عليهم السلام ) من التصرف في كل
ما وصل إليه علمهم ، كان لا بد من
البحث عن علم آل محمد بل عن حقيقته ، ونحن
مأمورين بذلك وبالتصديق بكل ما جاء في
علمهم ، حتى روي عن أمير المؤمنين
علي ( عليه السلام ) : " اعلم يا
سلمان ان الشاك في أمورنا وعلومنا كالممتري في معرفتنا
وحقوقنا " ( 1 ) .
والبحث عن علم الإمام متوقف عليه بعض
الأبحاث المتقدمة والآتية .
وسوف نبحث هنا وبإجمال غير مخل الجهات
التالية :
1
- علم آل محمد وأقسامه .
2
- زمان علم آل محمد .
3
- ماهية علم آل محمد .
4
- مصدر حصوله وحلوله فيهم .
5
- كيفية حصوله .
6
- سعة علم آل محمد ( شموله للغيب ) .
‹
صفحة 11 ›
وجوب معرفة علم آل محمد ( عليهم
السلام )
وجوب معرفة علم الإمام
إضافة إلى أن معرفة علم الإمام من
الأمور الواجبة شرعا وعقلا من باب أن
نصب الإمام واجب عقلا ( من باب اللطف
) ونقلا ، وكذلك معرفة الإمام ، كما حقق
في العقائد .
ومعرفة الإمام هي معرفته بكل خصوصياته
وصفاته والتي منها العلم .
وذلك لان العقل عندما يحكم بوجوب
معرفة إمام الزمان ( عليه السلام ) لا يحكم على
شخصه فقط دون مشخصاته ، لوضوح ان
الحكم بمعرفته من أجل أنها معرفة لله أو
لا أقل تؤدي إلى معرفة الله ، إضافة
إلى أنها تقرب العبد من طاعة مولاه .
وهذا لا يعني القول بعدم بوجود الأثر
لمعرفة شخص الإمام . كيف ؟ ونفس
وجود الإمام - بلا معرفته - يعتبر
أمانا للأمة كما يأتي .
*
وكذلك الروايات عندما تخبر عن معرفة الإمام تشير إلى مشخصاته
كالمروي عن أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) : " من عرفني وعرف حقي فقد عرف الله " ( 1 ) .
ومعلوم معرفة شخص الإمام لا تؤدي
لمعرفة الله تعالى ، لا أقل لعامة الناس .
وعن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال :
" من شك في أربعة فقد كفر بجميع ما انزل الله
تبارك وتعالى أحدها : معرفة الإمام في
كل زمان بشخصه ونعته " ( 2 ) .
ومعلوم أن معرفة نعت الإمام معرفة لكل
صفاته ( عليه السلام ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام )
قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " . . وبعد معرفة
الإمام الذي به يأتم بنعته وصفته
واسمه في حال العسر واليسر " ( 3 ) .
ومعرفة نعت الإمام وصفته غير معرفة
اسمه ( عليه السلام ) .
وتقدم في الكتاب الأول الكلام حول
وجوب معرفة آل محمد ( عليهم السلام ) وأثاره .
ولكن هل يجب الاعتقاد به على التفصيل
أم يكفي الاجمال ؟
‹
صفحة 12 ›
وهل الاعتقاد بالعلم ضروري ، بحيث ان
من أنكره أنكر ضرورة من
ضروريات الدين أم لا ؟
اما بالنسبة للأول ، فالمسألة مربوطة
بالإمامة ، إذ ما هو القدر الذي يجب
معرفته من علم الإمام بحيث لا يكون
معه جاهلا لإمامه ( عليه السلام ) ، ولا يشمله حديث "
من لم يعرف امام زمانه مات ميتة
جاهلية " .
فإذا قلنا أن المعرفة الإجمالية لعلم
الإمام كافية في معرفة الإمام بصفاته ، كان
الواجب هو العلم الاجمالي . وإلا كان
الواجب العلم التفصيلي بعلوم الإمام .
والذي يقوى في النفس التفصيل بين أهل
العلم القادرين على المعرفة
التفصيلية ، وبين العوام الذين لا
يقدرون على تلك المعرفة .
فاما العوام فالواجب عليهم المعرفة
الاجمالية .
واما أهل العلم والقدرة فلا يكتفى
منهم بالإجمالية ، لأن معرفة الإمام منهم
تقتضي المعرفة التفصيلية ، فإذا قصروا
في معرفة علمه التفصيلي كانوا مقصرين في
نفس معرفة الإمام لمكان قدرتهم
العلمية .
وإن شئت قلت : معرفة العلم التفصيلي
للإمام واجب عيني ، إلا أنه منوط
بالقدرة ، فيخرج عامة الناس لعدم تحقق
القدرة العلمية فيهم .
على أنه يجب أن يكون الإمام أفضل أهل
زمانه من كل الجهات والتي من
أهمها العلم ، فكيف نريد أن نحكم عليه
بأنه الأفضل بلا المعرفة التفصيلية لعلمه ؟ !
إن قيل : يكفي ما نقل لنا رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) عنهم ؟
قلنا : الواجب الشرعي والعقلي على كل
انسان أن يعرف إمام زمانه ، وإلا
مات ميتة جاهلية ، كما في الأحاديث (
1 ) ، وهذا الواجب يجب تحصيله على كل فرد
بنفسه لا بنقل ناقل .
على اننا ننقل الكلام للنبي الأعظم (
صلى الله عليه وآله ) هل يجب معرفة علمه تفصيلا أم
‹
صفحة 13 ›
إجمالا ؟
فلا بد من معرفة كون النبي الأعظم (
صلى الله عليه وآله ) أفضل أهل زمانه من ناحية العلم
وغيره .
وعليه فالنبوة والإمامة متوقفة على
معرفة الأعلم ، نعم ثبوت النبوة يحصل
بالمعجزة .
ولا يمكن معرفة الأعلم إلا بعد
الاطلاع على كل علومه وعلوم الآخرين .
لان كل أعلم نبي أو وصي لوجوب تقديم
الأفضل على المفضول كما دلت
عليه العقول والنقول ( 1 ) .
ان قيل : كان الخضر أعلم من موسى (
عليهما السلام ) .
قلنا : أولا لا نسلم كونه أعلم ، وذلك
لما حققناه أن الأعلم أعلم في كل شئ ،
والخضر لم يكن أعلما من جميع الجهات ،
فموسى كان أعلم منه بالرسالة السماوية التي
أرسله الله ليبلغها للناس ، وإلا لكان
الواجب إرسال الخضر عوضا عنه .
ثانيا : علم النبوة المشروط في الباب
هو العلم الذي يحتاج اليه الناس في
حياتهم ، أو الذي يجب على النبي ( صلى
الله عليه وآله ) معرفته ، ومعلوم علم الخضر لم يكن كذلك ،
انما كان علما بالأمور الباطنية .
*
واما كون علم الإمام من الضروريات : فإن معرفة الإمام ضرورة من
ضروريات الدين ، فلا بد أن يكون العلم
- كصفة مهمة من صفات الإمام بل المعرفة
قد تتوقف عليه - أيضا ضرورة من
ضروريات الدين .
نعم على ما تقدم من الفرق بين أهل
العلم والعوام فان العوام لا يقدرون على
المعرفة لعدم تحقق القدرة فيهم ، فقد
لا تكون بالنسبة إليهم ضرورة ، نعم لو التفتوا
إليها لعلموا ببداهتها .
سبب اخفاء النبي للعلم الرباني
قد يقال ان أكثر الروايات عن أئمة أهل
البيت ( عليهم السلام ) والقليل منها عن رسول
‹
صفحة 14 ›
الله ( صلى الله عليه وآله ) فما سبب
ذلك ، وهل يراد أن يثبت لآل محمد ما لم يثبت للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أم
انهم
سواء في كل شئ ؟
وفي معرض الجواب نقول :
*
أولا : هناك روايات تفيد انهم سواء في كل شئ ( 1 ) ، ولا أقل هناك
روايات كثيرة تفيد انهم في العلم سواء
، كالمروي عن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال : " نحن
في العلم والشجاعة سواء " .
وفي رواية : " لا يكون آخرهم
أعلم من أولهم " .
وفي رواية : " أولنا كآخرنا
وآخرنا كأولنا " ( 2 ) .
ونحو ذلك من الروايات الآتية في ذيل
الكتاب ( 3 ) .
*
ثانيا : ان آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) أيضا كما يأتي كانوا يخفون كثيرا من
علومهم ، حتى
أخبروا أنفسهم بالعلة وهي عدم الكتمان
، فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : " والله لو أن على
أفواههم أوكية لأخبرت كل رجل منهم ما
لا يستوحش إلى شئ ، ولكن فيكم
الإذاعة ، والله بالغ أمره " ( 4
) .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) :
" لو كان لألسنتكم أوعية لحدثت كل امرئ بما له
وعليه " ( 5 ) .
وقال الإمام زين العابدين ( عليه
السلام ) :
اني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى
الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين
ووصى قبله الحسنا
يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي
: أنت ممن يعبد الوثنا
‹
صفحة 15 ›
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح
ما يأتونه حسنا ( 1 )
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام )
لمن سأله عن سبب رفع النبي عليا ( عليه السلام ) على كتفه ؟
فقال : " ليعرف الناس مقامه
ورفعته .
فقال : زدني ؟
فقال ( عليه السلام ) : " ليعلم
الناس انه أحق بمقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فقال : زدني ؟
فقال : " ليعلم الناس انه إمام
بعده والعلم المرفوع .
فقال : زدني ؟
فقال : " هيهات ، والله لو
أخبرتك بكنه ذلك لقمت عني وأنت تقول ان جعفر
ابن محمد كاذب في قوله أو مجنون
" ( 2 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" خالطوا الناس بما يعرفون ، ودعوهم مما
ينكرون ، ولا تحملوا على أنفسكم
وعلينا ، إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا
ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن
امتحن الله قلبه للايمان ( 3 ) .
وقال ( عليه السلام ) : " لا
تذيعوا سرنا ولا تحدثوا به عند غير أهله فان المذيع سرنا
أشد علينا من عدونا " ( 4 ) .
وقد بين الإمام العسكري ( عليه السلام
) علة عدم اخبارهم بالأمور الغيبية بقوله
لموسى الجوهري : " ألسنا قد قلنا
لكم لا تسألونا عن علم الغيب ، فنخرج ما علمنا
منه إليكم ، فيسمعه من لا يطيقه
استماعه فيكفر " ( 5 ) .
*
ثالثا : الظروف التي كان يعيشها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذلك بعض الأئمة
كانت
‹
صفحة 16 ›
مختلفة فرسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) كان في بداية الدعوة الإسلامية وقريب عهد بالجاهلية .
بينما أمير المؤمنين ( عليه السلام )
جاء بعده بسنوات ، وهكذا الأئمة واحدا بعد واحد .
وإذا أردنا أن نبرم هذا الكلام فلا
بأس بنقل كلام لسماحة الشيخ محمد الحسين
المظفر الذي يصلح أن يكون جوابا عن
هذا المطلب : قال بعد أن ذكر توقف الرسالة
على علم النبي ( صلى الله عليه وآله )
بكل الأشياء : فعلم الرسول بالعالم وإحاطته بما يحدث فيه
وقدرته على تعميم الاصلاح للداني
والقاصي والحاضر والباد ، من أسس تلك
الرسالة العامة وقاعدة لزومية لتطبيق
تلك الشريعة الشاملة .
غير أن الظروف لم تسمح لصاحب هذه
الرسالة ( صلى الله عليه وآله ) أن يظهر للأمة تلك
القوى القدسية والعلم الرباني الفياض
. وكيف يعلن بتلك المواهب والإسلام غض
جديد ، والناس لم تتعرف تعاليم
الاسلام الفرعية بعد ؟ !
فكيف تقبل أن يتظاهر بتلك الموهبة
العظمى وتطمئن إلى الايمان بذلك العلم .
بل ولم يكن كل قومه الذين انضووا تحت
لوائه من ذوي الايمان الراسخ ، وما خضع
البعض منهم للسلطة النبوية إلا بعد
اللتيا والتي وبعد الترهيب والترغيب " ( 1 ) .
أقول : عدم افصاح النبي الأعظم ( صلى
الله عليه وآله ) عن كنه علمه كان بالنسبة لعامة
الناس .
وإلا فقد أفصح لخاصة أصحابه عن كنه
حقيقته وحقيقة علمه ، بل وفي بعض
الأحيان كان يفصح للكثير من الصحابة
عن بعض الأمور الغيبية أو الغامضة
الجديدة ، كما تقدم في كثير من
الأحاديث حول عالم الأنوار ، وانه كان حول العرش
هو وآله ، وانه كان نبيا وآدم بين
الطين والماء .
إضافة إلى أحاديث أمير المؤمنين (
عليه السلام ) في وصف النبي الأعظم وعلمه وانه
علمه ألف باب من العلم يفتح منه ما
أراد ، والذي يشعر بأنه ليس تعليما كسبيا ، بل
إشارة إلى المنحة الربانية التي
أفاضها النبي على آل محمد ( عليهم السلام ) .
وسوف يأتي في كلام الغزالي ما يشير
إلى ذلك .
‹
صفحة 17 ›
حقيقة علم آل محمد ( عليهم السلام )
وأقسامه
*
الجهة الأولى :
علم آل محمد ( عليهم السلام ) وأقسامه
تقدم في الأحاديث ان الانسان مهما
حاول أن يذكر من الفضائل لآل
محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه
لن يبلغ هذه الحقيقة .
كيف ؟ ورسول البشرية يقول في الحديث
الصحيح :
"
يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت ، وما عرفني إلا الله وأنت ، وما عرفك
إلا الله وأنا " ( 1 ) .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) مخاطبا
عليا ( عليه السلام ) : " هذا رجل لا يعرفه إلا الله ورسوله " ( 2 ) .
وكيف يعرف علي ( عليه السلام ) وهو
القائل :
"
بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية
في الطوي البعيدة " ( 3 ) .
ويصف الإمام الصادق ( عليه السلام )
هذا العلم ليقول : " ان عندنا والله سرا من سر
الله وعلما من علم الله ، والله ما
يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن
قلبه للايمان ، والله ما كلف الله ذلك
أحدا غيرنا ، ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا .
وان عندنا سرا من سر الله وعلما من
علم الله ، أمرنا بتبليغه فبلغناه عن الله
عز وجل ما أمرنا بتبليغه " ( 4 )
.
‹
صفحة 18 ›
أقول : في هذه الرواية ان علمهم لا
يحتمله أحد حتى الأنبياء ، وفي الذيل أنهم
أمروا أن يبلغوا هذا العلم فبلغوه ،
فقد يقال : ما فائدة تبليغه مع أنه لا يحتمله أحد ؟ !
وللجواب عن هذا الإشكال لا بد من
تقسيم علم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
‹
صفحة 19 ›
مراتب علم آل محمد ( عليهم السلام )
*
مراتب علم آل محمد ( عليهم السلام ) وأقسامه
علم أهل البيت ( عليهم السلام ) في
حقيقته على مراتب :
1
- مرتبة لم يؤمروا بالكشف عنها ولا بتبليغها لعدم احتماله وفهمه على
حقيقته ، أو لشئ أخفي عنا .
وهذا ما دلت عليه طائفة من الروايات
منها الرواية المتقدمة ( 1 ) .
وفي بعض الروايات لم يوصف العلم بأنه
لا يحتمل ، بل وصف بأن " أمرهم
جسيم مقنع لا يستطاع ذكره " ( 2
) .
وهذا العلم هو ما يوصف بالعلم اللدني
- كما يأتي تفصيله - والذي كان الأئمة
يشيرون إليه إشارة إجمالية ، كما روي
عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى :
*
( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) * .
قال : " ورب الكعبة ورب البنية (
البيت ) ثلاث مرات ، لو كنت بين موسى
والخضر لأخبرتهما اني أعلم منهما ،
ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما " ( 3 ) .
وفي أحاديث الاسم الأعظم الآتية إشارة
إجمالية أيضا لهذا العلم .
2
- ومرتبة من علمهم أمروا بتبليغه ، كما دلت عليه الرواية المتقدمة في
مطلع البحث وهو أيضا على قسمين :
أ - قسم أمر أهل البيت ( عليهم السلام
) بتبليغه لكافة الناس ، وهو كل علم
صدر منهم ووصل إلى عامة الناس ، وهو
المبثوث في كتبهم وكتب شيعتهم .
ب - وقسم أمروا أن يبلغوه لخواص الناس
، ومن يقدر على فهمه
وتحمله ، أو عدم افشائه .
ويدل عليه : حديث أمير المؤمنين (
عليه السلام ) مع ميثم التمار عندما سأله عن معنى
‹
صفحة 20 ›
عدم احتمال الملك والنبي لعلم آل محمد
، فأخذ الأمير بشرح معنى عدم احتماله .
والحديث طويل ( 1 ) .
وما روي عنه ( عليه السلام ) أيضا
عندما سئل عن وجه الله ، قال : " أنا وجه الله " .
بينما قال للبعض الآخر عندما سأله :
" أوقدوا نارا ، فسألهم أين وجه النار ؟
قالوا : كل النار وجه النار .
قال ( عليه السلام ) : " كل شئ
وجه الله " ( 2 ) .
وما روي عن أبي عبد الله ( عليه
السلام ) : " اني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ،
وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار
، وأعلم ما كان وما يكون " .
قال : ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر
على من سمعه منه ، فقال : " علمت
ذلك من كتاب الله ان الله عز وجل يقول
: * ( فيه تبيان كل شئ ) * ( 3 ) .
وفي رواية مشابهة عن حماد قال :
" فبهت انظر إليه فقال : " يا حماد إن ذلك
من كتاب الله ، ثلاث مرات " ( 4
) .
ونحو ذلك من الروايات التي لم يكن
فيها أهل البيت ( عليهم السلام ) يصرحون بكل
شئ لأصحابهم ، إلا من امتحن الله قلبه
للإيمان ، وسوف يأتي بعضها .
نعم ، كما قال صادق آل محمد ( عليهم
السلام ) : " لو تدبر القرآن شيعتنا لما شكوا في
فضلنا " ( 5 ) .
*
ومن هذا الباب الطائفة التي تقول :
"
إن حديثنا صعب مستصعب لا يعرفه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد
امتحن الله قلبه للايمان " ( 6 )
.
‹
صفحة 21 ›
ومنها بلفظ : أن أمرهم صعب مستصعب .
وهي روايات كثيرة ( 1 ) .
وبذلك يرتفع التناقض بين الطائفتين :
1
- الأولى التي تقول : " ان حديثهم صعب - لا يحتمله لا ملك مقرب ولا
نبي " ( 2 ) .
2
- والثانية التي تقول : " ان حديثهم صعب - لا يحتمله إلا ملك مقرب أو
نبي مرسل " .
وهذا أحد الوجوه لرفع التناقض ،
وخلاصته : أن تحمل الطائفة الأولى على
أعلى مراتب علمهم ، والطائفة الثانية
على مرتبة أخرى وهي التي أمروا بتبليغها
للخواص .
وهناك وجوه أخرى منها :
وجوه الجمع بين أحاديثهم الصعبة
*
الوجه الثاني : ان تحمل الطائفة الأولى على عدم الإيمان والاعتقاد به
على الحقيقة .
ويشهد له ألسنة الروايات القائلة :
" صعب مستصعب لا يؤمن به نبي " ( 3 ) .
"
لا يعرفه " ( 4 ) " لا يقر به " ( 5 ) " لا يعمل به " (
6 ) " لا يصبر عليه " ( 7 ) .
فمن الناس من يقر به ويحتمله ومنهم من
لا يقر به ، ولكن يحتمله على اجماله .
*
الوجه الثالث : ان تحمل الطائفة الأولى على عدم معرفة وادراك باطن
‹
صفحة 22 ›
أحاديثهم ، وتحمل الثانية على ادراك
ومعرفة ظاهرها ، ويشهد له روايات ان
لحديثنا " ظهرا وبطنا " ،
أو لحديثنا " سبعين وجها " ( 1 ) .
*
الوجه الرابع : ان تحمل الأولى على أن : أمرهم لا يحتمل ، والثانية أن
حديثهم يحتمل ويراد بالأمر الأعظم من
الحديث .
خاصة بلحاظ ان بعض الروايات تعبر :
" ان أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق
من هتكه أذله الله " ( 2 ) .
وفي رواية : " أمر آل محمد جسيم
مقنع لا يستطاع ذكره " ( 3 ) .
*
الوجه الخامس : أن تحمل الأولى على عدم إمكان احتمال الأنبياء
والملائكة والناس لكامل وجوه أحاديثهم
.
وتحمل الثانية على احتمال الأنبياء
لبعض أو أكثر وجوه أحاديثهم .
*
ومن هنا يتضح ما ورد في تفاوت علم الصحابة ، كالمروي عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) قال : "
والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخا رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) بينهما
فما ظنكم بسائر الخلق " ( 4 ) .
نعم أول السيد المرتضى الحديث بأن
معنى : " لقتله " أي من شدة الحب ( 5 ) .
وفيه تكلف زائد ، لأن الحديث جاء في
تفسير الإمام لروايات " حديثنا
صعب مستصعب لا يحتمله إلا نبي مرسل
" .
خاصة أن هناك حديثا فيه : " لقال
: رحم الله قاتل سلمان " .
وهنا كلام للمحدث علي بن زين الدين
العاملي مفيد في دره المنثور
فليراجع ( 6 ) .
‹
صفحة 23 ›
زمان علم آل محمد ( عليهم السلام )
الجهة الثانية :
زمان علم آل محمد ( عليهم السلام )
قد يقال ان الروايات التي تحدد زمن
اتصاف آل محمد بالعلم قليلة ، باستثناء
التي تأتي في طي الأبحاث الآتية .
ولعل هذا البحث مرتبط بالأبحاث الآتية
، ذلك أن في الجهة الثالثة في ماهية
علم آل محمد ( عليهم السلام ) إذا
قلنا إن علمهم كسبي ، فزمانه عند التعلم ، وهو يختلف
باختلاف أحوال أهل البيت ( عليهم
السلام ) .
بينما إذا قلنا إنه لدني - كما وهو
الأرجح - فإنه لا يخضع لسنين التعلم ، بل
يكون زمانه هو زمان ولادة الإمام
المعصوم في الظاهر ، أو زمان وجوده في الواقع
كما يأتي .
وإذا قلنا إنه مربوط بالمشيئة ، بمعنى
انه إذا شاؤوا أن يعلموا علموا ، فان زمان
العلم يكون عند كل إرادة لهم .
هذا كله في الجهة الثالثة - ماهية
العلم - .
وكذلك في الجهة الرابعة : مصدر حصوله
، فإنه إذا رجحنا كونه بواسطة
الوحي أو جبرائيل أو المحدث أو
الإلهام أو الروح الآمرية أو مباشرة من الله ، فان
زمان العلم يكون عند اتصاف الإمام
بالإمامة أو عند الاختيار اللهي عز وجل .
وإن شئت قلت : عند احتياج الإمام
للعلم ، لا بمعنى تصديه لإجابة الناس ،
بل بمعنى أن خلو الإمام منه يعد نقصا
، فعند وجود الإمام في لوح الواقع إذا وجد
خاليا من العلم الرباني ، فهو محتاج
إلى هذا العلم .
على أنه يحتمل أن يكون زمان العلم
عالم الأنوار ، خاصة إذا اخترنا ان
المصدر الروح الآمرية أو المباشرة من
الله تعالى ، كما هو الصحيح .
اما إذا اخترنا - في الجهة الرابعة -
ان المصدر القرآن أو العامود النوراني ، أو
‹
صفحة 24 ›
انه وراثة من رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) ، أو من ليلة القدر ، فان زمان العلم يكون بحسب
الاختيار هناك ، فإذا اخترنا ليلة
القدر فزمان علمهم هو وقت نزولها ، وهكذا إذا
اخترنا غيرها .
وعلى كل حال سوف ننتظر الاختيار في
الأبحاث الآتية .
*
هذا ووردت بعض الروايات الصريحة في زمان علمهم منها :
منها ما عن أبي عبد الله ( عليه
السلام ) في خبر طويل في كيفية ولادة الإمام وانعقاد
نطفته جاء فيه : " فإذا استقرت
في الرحم أربعين ليلة نصب الله له عمودا من نور في
بطن أمه ينظر منه مد بصره ، فإذا تمت
له في بطن أمه أربعة أشهر أتاه ملك يقال له
حيوان وكتب على عضده الأيمن : * (
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته
وهو السميع العليم ) * فإذا وقع من
بطن أمه وقع واضعا يديه على الأرض رافعا
رأسه إلى السماء ، فإذا وضع يديه إلى
الأرض فإنه يقبض كل علم أنزله الله من السماء
إلى الأرض " .
إلى أن قال : " فإذا قالها ( 1 )
أعطاه الله علم الأول وعلم الآخر واستوجب
زيارة الروح في ليلة القدر " ( 2
) .
والروايات بهذا المضمون كثيرة ( 3 ) .
وفي رواية أخرى : " فإذا مضت
عليه أربعون يوما سمع الصوت وهو في بطن
أمه ، فإذا ولد أوتي الحكمة . . .
وزين بالعلم والوقار وألبسه الهيبة " ( 4 ) .
*
أقول : فهذه الروايات وأشباهها تثبت ان زمان علم آل محمد هو عند
‹
صفحة 25 ›
ولادة كل إمام ، ولكن على ما يأتي في
الأبحاث الآتية فان هذا الزمان لا يتناسب مع
ما نرجحه هناك .
خاصة أنه يمكن تأويل هذه الروايات بأن
الإمام كان لديه هذه العلوم ،
ولكن عند الولادة يجدد أو يؤكد للامام
ذلك ، كما قد يستفاد من لفظة " يقبض " .
على أنه قد كذب الناس بحصول العلم
للامام في زمن الولادة ، أو في الصغر ،
فكيف يصدقون أن علمهم منذ عالم
الأنوار ! !
فنحملها على اختلاف مستوى الصحابة .
-
ومنها ما ورد في الحديث المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
"
نبئت وآدم بين الروح والجسد " " وجبت النبوة لي وآدم بين الروح
والجسد " " كنت نبيا وآدم
بين الروح والجسد " ( 1 ) .
فكونه نبيا ينبأ في غاية الوضوح
والدلالة على تلقيه العلوم في ذلك العالم ، إذ
يستحيل أن الله اتخذه نبيا ونبأه وهو
فاقد للعلم .
وهذا يدل ان علم رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) كان قبل الخلق وفي زمان عالم الأنوار
والأظلة .
وهكذا أهل البيت ( عليهم السلام ) كما
تقدم في بعض روايات عالم الأنوار من تسبيحهم
لله وتقديسهم له تعالى .
ومن المعلوم ان تحمل النبوة وعبادة
الله وتقديسه لا تكون إلا بعد العلم .
والأصرح منه ما روي عن الإمام الباقر
( عليه السلام ) : " ان الله أول ما خلق خلق
محمدا وعترته الهداة المهديين ،
فكانوا أشباح نور بين يدي الله " .
قلت : وما الأشباح ؟
‹
صفحة 26 ›
قال : " ظل النور أبدان نورانية
بلا أرواح ، وكان مؤيدا بروح واحدة هي
روح القدس " ( 1 ) .
وعن الإمام العسكري ( عليه السلام ) :
" هذا روح القدس الموكل بالأئمة عليهم السلام
يوفقهم ويسددهم ويزينهم بالعلم "
( 2 ) .
وسوف يأتي روايات ان علمهم من روح
القدس ، وهذا صريح ان زمان
علمهم كل علمهم ، هو عالم الأنوار قبل
خلق الخلق .
وفي حديث عن الإمام الصادق ( عليه
السلام ) قال فيه : " فلما أراد أن يخلق الخلق
نشرهم بين يديه فقال لهم من ربكم ؟
فكان أول من نطق رسول الله وأمير
المؤمنين والأئمة صلوات الله عليهم ،
فقالوا : أنت ربنا ، فحملهم العلم
والدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة علمي وديني
وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون "
( 3 ) .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
في حديث جاء فيه : " ثم جعلنا عن يمين العرش ، ثم
خلق الملائكة فهللنا فهللت الملائكة ،
وكبرنا فكبرت الملائكة ، وكان ذلك من تعليمي
وتعليم علي ، وكان ذلك في علم الله
السابق ان الملائكة تتعلم منا التسبيح والتهليل ،
وكل شئ يسبح لله ويكبره ويهلله
بتعليمي وتعليم علي " ( 4 ) .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) : "
يا علي نحن أفضل ( من الملائكة ) خير خليقة الله على بسيط
الأرض وخيرة الله المقربين ، وكيف لا
نكون خيرا منهم ؟ وقد سبقناهم إلى معرفة الله
‹
صفحة 27 ›
وتوحيده ؟ ! فبنا عرفوا الله وبنا
عبدوا الله وبنا اهتدوا السبيل إلى معرفة الله " ( 1 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" نحن شجرة النبوة ومعدن الرسالة ، ونحن عهد
الله ونحن ذمة الله ، لم نزل أنوارا
حول العرش نسبح فيسبح أهل السماء لتسبيحنا ، فلما
نزلنا إلى الأرض سبحنا فسبح أهل الأرض
، فكل علم خرج إلى أهل السماوات والأرض
فمنا وعنا " ( 2 ) .
*
أقول : معرفة الله وتوحيده أفضل العلوم وأشرفها ، بل هي أصل العلم
وأصوله .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ان الله مثل لي أمتي في
الطين وعلمت الأسماء كما علم آدم
الأسماء كلها " ( 3 ) .
وفي رواية عن الإمام الباقر ( عليه
السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ان ربي مثل
لي أمتي في الطين وعلمني أسماء
الأنبياء - وفي نسخة - الأشياء ، كما علم آدم الأسماء
كلها فمر بي أصحاب الرايات ، فاستغفرت
لعلي وشيعته " ( 4 ) .
وعن الحسين بن علي ( عليهما السلام )
عن أبيه انه قرأ عليه أصبغ بن نباتة : * ( وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم ) *
الآية ، قال : " فبكى علي ( عليه السلام ) وقال : اني
لأذكر الوقت الذي أخذ الله تعالى علي
فيه الميثاق " ( 5 ) .
وقال الإمام الجواد ( عليه السلام ) :
" أنا محمد بن علي الرضا أنا الجواد ، أنا العالم
بأنساب الناس في الأصلاب ، أنا أعلم
بسرايركم فظواهركم ، وما أنتم صائرون
إليه ، علم منحنا به من قبل خلق الخلق
أجمعين ( 6 ) ، وبعد فناء السماوات والأرضين ،
‹
صفحة 28 ›
ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة أهل
الضلالة ، ووثوب أهل الشك ، لقلت قولا
تعجب منه الأولون والآخرون " .
ثم وضع يده الشريفة على فيه وقال :
" يا محمد أصمت كما صمت آباؤك من
قبل " ( 1 ) .
وروى صاحب بستان الكرامة أن النبي (
صلى الله عليه وآله ) كان جالسا وعنده
جبرائيل ( عليه السلام ) فدخل علي (
عليه السلام ) فقام له جبرائيل ( عليه السلام ) .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
" أتقوم لهذا الفتى .
فقال له ( عليه السلام ) : نعم انه له
علي حق التعليم .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
كيف ذلك التعليم يا جبرائيل ؟
فقال : لما خلقني الله تعالى سألني من
أنت وما أسمك ومن أنا وما اسمي ؟
فتحيرت في الجواب وبقيت ساكتا ، ثم
حضر هذا الشاب في عالم الأنوار
وعلمني الجواب ، فقال : " قل :
أنت ربي الجليل واسمك الجليل وأنا العبد الذليل
واسمي جبرائيل " .
ولهذا قمت له وعظمته " ( 2 ) .
*
أقول : مما لا شك فيه أن الرسول كان يعلم بتعليم علي ( عليه السلام ) لجبرائيل ،
انما
أراد أن يبين فضل أمير المؤمنين (
عليه السلام ) من لسان جبرائيل ، وتقدم في الكتاب الأول
ما يدل على ذلك .
وروى الصفوري قول أمير المؤمنين (
عليه السلام ) : " سلوني قبل أن تفقدوني عن علم
لا يعرفه جبرائيل وميكائيل " ( 3
) .
‹
صفحة 29 ›
وقد أشار محيي الدين ابن عربي في خطبة
الفتوحات المكية إلى ذلك بقوله :
"
الحمد لله الذي جعل الانسان الكامل معلم الملك وأدار بانقساره
طبقات الفلك " .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) فيما حدث عنه سلمان الفارسي في حديث خلقهم
أنوارا قبل السماء والأرض : " ثم
خلق منا ومن صلب الحسين تسعة أئمة ودعاهم
فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية
وأرضا مدحية ، وهواء وماء وملكا ، وأشركنا
بعلمه " ( 1 ) .
وفي حديث الإمام الصادق ( عليه السلام
) مع المفضل بعد ذكر الإمام رجعة أصحاب
الكساء وشكايتهم إلى رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) ما حل بهم قال : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام )
لفضة : " يا فضة لقد عرفه رسول
الله وعرف الحسين اليوم بهذا الفعل ( ضرب فاطمة
وإسقاط المحسن ( عليهما السلام ) )
ونحن في نور الأظلة أنوار عن يمين العرش " ( 2 ) .
هذا وروي عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) قوله :
"
في قاب قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم الأولين " ( 3 ) .
‹
صفحة 31 ›
الجهة الثالثة :
ماهية علم آل محمد ( عليهم السلام )
ويتردد هذا البحث بين ثلاثة احتمالات
:
1
- أن يكون علم آل محمد ( عليهم السلام ) علما كسبيا ، ويراد به أن علمهم بالتعلم
المتعارف بين الناس ، وإن شئت سميته
بالعلم الحصولي .
2
- أن يكون علم آل محمد ( عليهم السلام ) علما لدنيا غير كسبي ، بمعنى أن الله
أعطاهم هذا العلم بلا تكسب وتجهد ،
هذا بغض النظر عن كيفية الاعطاء ، والذي
هو الجهة الرابعة الآتية . وهذا العلم
يسمى بالعلم الحضوري .
3
- أن يكون علم آل محمد ( عليهم السلام ) علما متعلقا بالمشيئة والإرادة ، فمتى
شاؤوا أن يعلموا علموا أو أعلموا .
وهذا البحث أيضا يخضع لما يأتي من
أبحاث كما سوف نبين ذلك .
‹
صفحة 33 ›
العلم الحصولي واللدني لآل محمد (
عليهم السلام )
*
الاحتمال الأول :
العلم الكسبي الحصولي
ويدل عليه طوائف :
منها ما تواتر عن أمير المؤمنين (
عليه السلام ) : " علمني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألف
باب " ( 1 ) .
ومنها : روايات الازدياد الآتية في
الجهة الخامسة كقول الإمام الصادق ( عليه السلام )
:
"
ما من ليلة جمعة إلا ولأولياء الله فيها سرور " .
قلت : كيف ذلك ؟
قال : " إذا كان ليلة الجمعة
وافى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) العرش ووافى الأئمة ( عليهم السلام )
ووافيت معهم ، فما أرجع إلا بعلم
مستفاد ، ولولا ذلك لنفذ ما عندي " ( 2 ) .
وفي رواية : " انه ليحدث لولي
الأمر سوى ذلك كل يوم ( من ) علم الله
الخاص والمكنون العجيب المخزون مثل ما
ينزل في تلك الليلة من الأمر " ( 3 ) .
ونحوها من الروايات ( 4 ) .
ومنها : الروايات الآتية في الجهة
الرابعة ان منبع علمهم من القرآن أو من ليلة
القدر أو ان علمهم وراثة من رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) .
كل ذلك يدل في ظاهره أن علمهم كسبي
بالتعلم .
‹
صفحة 35 ›
حقيقة علم آل محمد ( عليهم السلام )
وجهاته
الآيات الدالة على العلم اللدني
*
الاحتمال الثاني :
العلم اللدني
ويدل عليه آيات وروايات :
الآيات الدالة على العلم اللدني
ويدل عليه من الآيات :
*
الآية الأولى قوله تعالى :
*
( وعلمك ما لم تكن تعلم ) * ( 1 ) .
قال الإمام الغزالي : ( اعلم أن العلم
يحصل من طريقين : أحدهما التعلم
الإنساني ، والثاني التعلم الرباني .
الطريق الثاني : إلقاء الوحي ، وهو ان
النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها
دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل
الفانية ، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها ،
وتتمسك بجود مبدعها وتعتمد على إفادته
وفيض نوره ، والله تعالى بحسن عنايته
يقبل على تلك النفس إقبالا كليا ،
وينظر إليها نظرا إلهيا ويتخذ منها لوحا ، ومن
النفس الكلي قلما وينقش فيها جميع
علومه ، ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس
القدسية كالمتعلم ، فيحصل جميع العلوم
لتلك النفس ، وينتقش فيها جميع الصور ، من
غير تعلم وتفكر ، ومصداق هذا قوله
تعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : * ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) *
)
( 2 ) .
إلى آخر كلامه ، ويأتي بعضه في الفرق
بين العلم اللدني والحصولي .
وروي عن قتادة في قوله تعالى : * (
وعلمك ما لم تكن تعلم ) * قال : " علمه
‹
صفحة 36 ›
الله بيان الدنيا والآخرة " ( 1
) .
وعن الضحاك قال : " علمه الخير
والشر " ( 2 ) .
وقال العلامة الطباطبائي : * ( وعلمك
ما لم تكن تعلم ) * ليس هو الذي علمه
بوحي الكتاب والحكمة فقط ، فإن مورد
الآية قضاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الحوادث الواقعة
والدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص
، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشئ ،
وان كان متوقفا عليهما ، بل رأيه
ونظره الخاص به .
ومن هنا ان المراد بالإنزال والتعليم
في قوله : * ( وأنزل الله عليك الكتاب
والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) * :
نوعان اثنان من العلم :
أحدهما التعليم بالوحي ونزول الروح
الأمين على النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
والآخر : التعليم بنوع من الإلقاء في
القلب والإلهام الخفي الإلهي ، من غير
إنزال الملك .
وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة
في علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى هذا ، فالمراد بقوله : * ( وعلمك
ما لم تكن تعلم ) * أتاك نوعا من العلم لو
لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في
إتيانه الأسباب العادية ، التي تعلم الانسان ما
يكتسبه من العلوم ) انتهى ( 3 ) .
*
أقول : ظاهر كلامه ان إيتاء الكتاب والحكمة بواسطة الوحي الخاص
(
جبرائيل ) إيتاء كسبي غير لدني ، وان علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) مصدره
شيئان :
1
- الوحي بالكتاب والحكمة .
2
- الإلهام أو القذف بالقلب .
*
والذي يقوى في النظر أن إيتاء الكتاب والحكمة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله )
إن كان
المراد به تذكير جبرائيل رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) بالآيات القرآنية والحكم الإلهية ، فهو كما
‹
صفحة 37 ›
قال علم كسبي ، ولكنه لا ينبئ عن
حقيقة علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالكتاب والحكمة .
وان كان المراد به نزول القرآن جملة
واحدة على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ،
فممنوع لأنه نزول غير كسبي ، وكيف
يكون كسبيا وهو من الله تعالى بالمباشرة كما
يأتي .
إن قيل : نزوله تدريجا كان بواسطة
جبرائيل ، ونزوله جملة واحدة كان أيضا
بواسطته ، قال تعالى : * ( نزل به
الروح الأمين على قلبك ) * ( 1 ) .
قلنا :
أولا : هذا مبني على تفسير هذه الآية
بنزوله جملة واحدة ، وإلا فقد يكون
المعنى : ان الروح الأمين نزل به
تدريجا على قلبك ، ولا تفسر الآية أصلا بالنزول
جملة واحدة .
والخلاصة : لا نسلم ان نزول القرآن
جملة واحدة على قلب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ،
كان بواسطة جبرائيل ، اما لعدم الدليل
عليه ، واما لعدم الحاجة إليه ، واما لما يأتي
من أن زمن علم رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) بالقرآن وغيره ، هو عرش الرحمن وقبل خلق
جبرائيل وغيره من الخلق ، واما لما
يأتي من الدليل على معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) للقرآن
قبل خلق جبرائيل .
ثانيا : لو سلمنا ان الآية تشير إلى
نزوله جملة واحدة بواسطة جبرائيل كما
استدل بها العلامة ، فانا لا نسلم ان
هذا النزول كسبي ، فصحيح ان جبرائيل يكون
الواسطة في انتقال القرآن إلى قلب
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكن ليس هو المعلم له
ولتفاصيله وآياته ، انما الله هو
المعلم الحقيقي وعلم الله لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) غير كسبي ، حيث
أن العلوم الكسبية غير ثابتة ومتغيرة
كما يأتي .
اما قوله ان مصدر علم رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) هو الكتاب والحكمة ، إضافة إلى
الإلهام والقذف .
فبغض النظر عن ما يأتي في مصدر علم آل
محمد ( عليهم السلام ) ، فانا نقول : هذا
‹
صفحة 38 ›
التفصيل حول العلم يتنافى مع حقيقة
العلم الذي هو نور يقذفه الله في قلب من
يشاء .
على أنه يتنافى أيضا مع حقيقة علم
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وزمان حصوله وكيفية
ذلك .
فان الحكمة والقرآن هي قسم من العلوم
الإلهية التي علمها الله لنبيه بقوله : * (
وعلمك ما لم تكن تعلم ) * ، أو حتى
قوله * ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) * .
فليس المراد أن العلم قسمان : قسم
لأحكام القرآن والحكمة الإلهية ، وقسم
لبقية الأمور .
لأنه :
أولا : الآية مطلقة * ( ما لم تكن
تعلم ) * فكل ما لا يعلمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قام
الله عز وجل بتعليمه إياه مباشرة ،
وبلا توسط مخلوق ، فكان لدنيا ، وهو شامل
لأحكام القرآن من حلال وحرام وقصص
ومواعظ ، وحكم ومعارف إلهية ، وأمور
غيبية ، وما شابه ذلك .
قال الشيخ الطبرسي في الآية : ( ما لم
تعلمه من الشرائع وأنباء الرسل الأولين
،
وغير ذلك من العلوم ) ( 1 ) .
ثانيا : هذا ينافي صريح القرآن الكريم
وانه فيه تبيان كل شئ ( 2 ) كما يأتي في
كثير من الروايات .
والخلاصة : علم رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) علم واحد لا يتجزأ ، وهو علم لدني بكل
شئ ، الشامل للقرآن والحكمة والأمور
الغيبية ونحوهم .
ولا يلزم لغوية نزول القرآن على رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لما قلنا إن المراد بالنزول
هو التدريجي ، اما لمؤانسة النبي
الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) - نظير نزوله على فاطمة ( عليها السلام ) - ، واما
لتذكيره ( صلى الله عليه وآله )
بالآيات ، لا لتعليم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المستتبع لجهله ، وأعلمية
جبرائيل
‹
صفحة 39 ›
عليه ، ولو بالواسطة .
ومرادنا بالتذكير ليس ان رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) قد نسي آيات القرآن والحكمة ،
انما كما قدمنا سابقا أنه لإبراز
حقيقة الوحي التي كانت عند الأنبياء السابقين ، والتي
اعتاد الناس عليها في الأنبياء وصحة
دعوتهم ، خاصة في المجتمع الجاهلي الذي لم
يصدق بنبوة الرسول الأعظم ( صلى الله
عليه وآله ) ، فلم يستطع النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا أن يبرز لهم الوحي
وصفاته وأسمائه وآثاره كما تقدم ويأتي
.
واما النزول الدفعي للقرآن ، فهو أيضا
ليس معناه ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان
يجهل أحكامه وابرامه وآياته ، وذلك
كما قدمناه من أن علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الواحد
من الواحد لا يتجزأ ، وزمانه قبل زمان
جبرائيل كما يأتي . والذي من ضمنه أحكام
القرآن الكريم والحكم الإلهية ، فلا
تغفل .
هذا وروي عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) قوله :
"
في قاب قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم الأولين " ( 1 ) .
‹
صفحة 41 ›
*
الآية الثانية قوله تعالى :
*
( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء ، تؤتي اكلها كل حين
بإذن ربها ويضرب الله
الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) * ( 1
) .
والشجرة الطيبة كما تواتر في الأحاديث
هي آل محمد والأئمة منهم عليهم
صلوات المصلين ( 2 ) .
وقوله تعالى : * ( تؤتي أكلها كل حين
) * فسرت بعلم الإمام وما يفتي به من
الحلال والحرام .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
* ( تؤتي اكلها كل حين ) * فقال : " ما يخرج إلى
الناس من علم الإمام في كل حين يسأل
عنه " ( 3 ) .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) :
" هو ما يخرج من الإمام من الحلال والحرام في كل
سنة إلى شيعته " ( 4 ) .
*
الآية الثالثة قوله تعالى :
*
( آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) * ( 5 ) .
فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" قال علينا عين ؟ "
فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا ،
فقلنا : ليس علينا عين .
‹
صفحة 42 ›
فقال : " ورب الكعبة ورب البنية
- ثلاث مرات - لو كنت بين موسى والخضر
لأخبرتهما اني أعلم منهما ولأنبئهما
بما ليس في أيديهما " ( 1 ) .
ومن المعلوم ان علم الخضر لدني بقوله
تعالى : * ( . . . آتيناه رحمة من عندنا
وعلمناه من لدنا علما ) * ولا يصح كون
آل محمد ( عليهم السلام ) علمهم كسبيا في حال كونهم
أعلم من الخضر وأفضل .
‹
صفحة 43 ›
*
الآية الرابعة قوله تعالى :
*
( علمه شديد القوى فأوحى . . . إلى عبده ما أوحى ) * ( 1 ) .
وهي الآية من آيات عديدة تصف عروج
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ربه حتى كان
قاب قوسين أو أدنى .
والروايات كثيرة ان النبي هو الذي دنا
فتدلى وكان قاب قوسين أو أدنى
رواها الفريقان من طرق ( 2 ) .
منها : ما روي عن علي بن الحسين (
عليهما السلام ) قال : " أنا ابن من علا فاستعلى فجاز
سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين
أو أدنى " ( 3 ) .
ومنها : ما عن الإمام الصادق ( عليه
السلام ) قال : " وذلك أنه يعني النبي ( صلى الله عليه وآله ) أقرب
الخلق إلى الله تعالى ، وكان بالمكان
الذي قال له جبرائيل لما أسري به إلى السماء :
تقدم يا محمد فقد وطأت موطئا لم يطأه
ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولولا ان روحه
ونفسه كان من ذلك المكان لما قدر أن
يبلغه ، وكان من الله عز وجل كما قال الله
عز وجل * ( قاب قوسين أو أدنى ) * أي
: بل أدنى " ( 4 ) .
وعنه ( عليه السلام ) قال : قال رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) : " كنت من ربي كقاب قوسين أو
‹
صفحة 44 ›
أدنى " ( 1 ) .
وفي تفسير القمي في قوله تعالى : * (
فأوحى إلى عبده ما أوحى ) * قال :
"
وحي مشافهة " ( 2 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" ان هذه الآية مشافهة الله لنبيه لما أسرى به إلى
السماء ، قال النبي ( صلى الله عليه
وآله ) : انتهيت إلى سدرة المنتهى " ( 3 ) .
ومنها الحديث المستفيض : قول جبرائيل
للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) : تقدم .
فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
" في هذا الموضع تفارقني " .
فقال جبرائيل : لو دنوت أنملة لاحترقت
( 4 ) .
وفي رواية : " يا جبرائيل لما
تخلفت عني ؟
قال : وما منا إلا له مقام معلوم ، لو
دنوت أنملة لاحترقت ، وفي هذه الليلة
بسبب احترامك وصلت إلى هذا المقام ،
وإلا فمقامي المعهود عند السدرة " ( 5 ) .
وفي رواية أخرى قال له : " تقدم
أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه أحد
من خلق الله قبلك " ( 6 ) .
وعن ابن عباس في قوله : * ( ثم دنا )
* قال : " هو محمد دنا إلى ربه " ( 7 ) .
ونحوه عن محمد بن كعب والإمام جعفر
الصادق ( عليه السلام ) وأنس ( 8 ) .
‹
صفحة 45 ›
وعن أبي سعيد قال : " لما أسرى
بالنبي اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو
أدنى " ( 1 ) .
وعن الإمام زين العابدين ( عليه
السلام ) في قوله تعالى * ( دنا فتدلى ) * قال : " ذاك
رسول الله دنى من حجب النور " (
2 ) .
ومن العجيب ما روى ان القصة في
جبرائيل ، وانه هو الذي دنا فتدلى ،
والعجب فيه أن الله تعالى إذا يريد أن
يدني جبرائيل منه لماذا يحضر النبي
الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ؟
وهل يراد بالإسراء والآيات مدح النبي
( صلى الله عليه وآله ) وتبيين فضله أم مدح جبرائيل
وتبيين فضله ؟ !
مع أن البعض منع ونفى ركوب جبرائيل مع
النبي ( صلى الله عليه وآله ) على البراق
لاختصاصه بشرف الاسراء ( 3 ) .
هذا إضافة إلى أن الآيات كلها في سياق
واحد : * ( ما ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) * إلى
آخر الآيات .
اما قوله تعالى : * ( علمه شديد القوى
) * فقيل ان الذي علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو
جبرائيل ، وقيل إن معلمه هو الله
تعالى ( 4 ) .
ولكن بقرينة قوله تعالى : * ( فأوحى
إلى عبده ما أوحى ) * والتي فيها أن الله
هو الموحي لعبده بالمباشرة والمشافهة
، يتعين كون المعلم هو الله تعالى ، وعلم الله لا
يكون إلا لدنيا ، إذ الكسبي زائل
متغير كما يأتي ، وهو المطلوب .
ويؤيده ، إضافة لما مر من روايات خاصة
، وروايات تخلف جبرائيل الدالة
‹
صفحة 46 ›
على أن جبرائيل لم يكن موجودا معهما
عند تعليم الله ذلك العلم الشديد القوي :
ما روي عن الإمام الصادق ( عليه
السلام ) قال : * ( ثم دنا فتدلى . . . فأوحى إلى عبده
ما أوحى ) * قال : " فدفع إليه
كتاب أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فأخذ كتاب
أصحاب اليمين بيمينه وفتحه فنظر إليه
فإذا فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم ، ثم
طوى الصحيفة فأمسكها بيمينه وفتح
صحيفة أصحاب الشمال فإذا فيها أسماء أهل
النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم
نزل معه الصحيفتان فدفعهما إلى علي " ( 1 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام )
قال : " حتى انتهى إلى ساق العرش فدنى بالعلم
فتدلى " ( 2 ) .
وعن الحسن قال : " دنا من عبده
محمد ( صلى الله عليه وآله ) فتدلى فقرب منه فأراه ما شاء
أن يريه من قدرته وعظمته " ( 3 )
.
فهذا يدل على أن الله تعالى أوحى له
وحي مشافهة ، كما تقدم في لسان
الرواية السابقة ، بغير توسط جبرائيل
، لأنه لم يتقدم معه وإلا لاحترق - كما تقدم
أيضا وان ما أوحي إليه هو من العلوم
والمعارف .
قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) :
" انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب
جبريل عن دنوه ودنا محمد إلى ما أودع
قلبه من المعرفة والايمان ، فتدلى بسكون
قلبه إلى ما أدناه ، وزال عن قلبه
الشك والارتياب " ( 4 ) .
وعنه ( عليه السلام ) أنه قال :
" أوحى الله إليه بلا واسطة " ( 5 ) .
ونحوه عن الواسطي ( 6 ) .
‹
صفحة 47 ›
وقال القاضي عياض : اعلم أن ما وقع من
إضافة الدنو والقرب هنا من الله
أو إلى الله ، فليس بدنو مكان ولا قرب
مدى ، بل كما ذكرنا عن جعفر بن محمد
الصادق ليس بدنو حد ، وانما دنو النبي
( صلى الله عليه وسلم ) من ربه وقربه منه ، أبانه عظيم منزلته
وتشريف رتبته ، واشراق أنوار معرفته
ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ، ومن الله
تعالى مبرة وتأنيس وبسط وإكرام ( 1 )
.
وفي رواية عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) قال : " فسمع النداء يقول : ادن يا محمد فدنا ،
فقطرت عليه من العرش قطرة ما أخطأت
فمه ، فوقعت على لسانه فكانت أحلى من
كل شئ ، فأراه الله بها علم الأولين
والآخرين " ( 2 ) .
ويشير اليه ما روي عن ابن عباس ضمن
حديث طويل عن رسول الله
قال ( صلى الله عليه وآله ) : "
. . * ( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) * قال : وسألني ربي فلم
أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا
تكييف ولا تحديد فوجدت بردها بين ثديي
فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني
علوما شتى . . . وعلمني القرآن فكان
جبرائيل ( عليه السلام ) يذكرني به
" ( 3 ) .
وتقدم الحديث الشريف " في قاب
قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم
الأولين " ( 4 ) .
فيتبين أن الوحي إلى النبي الأعظم (
صلى الله عليه وآله ) كان وحيا من قبل الله مباشرة ،
ووحي الله لا يكون إلا لدنيا .
‹
صفحة 49 ›
*
الآية الخامسة قوله تعالى :
*
( الرحمن علم القرآن علمه البيان ) * ( 1 ) .
وهي أصرح في الدلالة من الآية السابقة
، في كون النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) قد تعلم
القرآن من الله تعالى لا بتوسط أحد ،
ومما لا شك فيه أن تعليم الله لا يكون إلا لدنيا .
*
الآية السادسة قوله تعالى :
*
( وجعلناهم أئمة ، وأوحينا إليهم فعل الخيرات ) * ( 2 ) .
فقد ورد انهم المرادون بهذه الآية ،
كما تقدم في أدلة الولاية التكوينية من
القرآن ( 3 ) .
منها : ما روي عن أبي جعفر ( عليه
السلام ) قال في قوله تعالى : * ( وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا ) * قال أبو جعفر ( عليه
السلام ) : " يعني الأئمة من ولد فاطمة يوحى إليهم
بالروح في صدورهم " ( 4 ) .
وهي واضحة الدلالة أن الله تعالى هو
الذي يوحي إليهم .
*
الآية السابعة قوله تعالى :
*
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الايمان ) * .
‹
صفحة 50 ›
فعن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد الله
( عليه السلام ) عن العلم أهو علم يتعلمه العالم
من أفواه الرجال أم في الكتاب عندكم
تقرؤونه فتعلمون منه ؟
قال ( عليه السلام ) : " الأمر
أعظم من ذلك وأوجب ، أما سمعت قوله تعالى : * ( وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت
تدري ما الكتاب ولا الايمان ) * . . . بلى قد كان
في حالا لا يدري ما الكتاب ولا
الإيمان حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في
الكتاب ، فلما أوحاها إليه علم بها
العلم والفهم ، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى
من شاء فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم
" ( 1 ) .
وسوف يأتي عدة روايات حول الروح
الآمرية .
‹
صفحة 51 ›
*
الآية الثامنة قوله تعالى :
*
( ورحمتي وسعت كل شئ ) * ( 1 ) .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) في
تفسيرها : " علم الإمام ووسع علمه الذي هو من
علمه كل شئ " ( 2 ) .
وهذا أيضا صريح في أن علم الإمام (
عليه السلام ) من الله تعالى المتعين كونه لدنيا .
*
الآية التاسعة قوله تعالى :
*
( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) * ( 3 )
قال بعض المفسرين : ذلك هو الاسم
الأعظم تركب من الحروف الواردة في
فواتح السور ، وكان مكتوبا على خاتم
سليمان بن داود ، وبه لان الحديد لداود ،
وسخر الجن لسليمان ، وطوى الأرض للخضر
وبه تعلم العلم اللدني ، وبه أوتي عرش
بلقيس ، وبه يحيي عيسى الطير ( 4 ) .
وعن علي أمير المؤمنين ( عليه السلام
) في قصته مع وعمار في تحويل الحجر إلى ذهب
فقال ( عليه السلام ) : " ادع
الله بي حتى تلين ، فإنه اسمي ألان الله الحديد لداود " ( 5 ) .
‹
صفحة 53 ›
الأحاديث الدالة على العلم اللدني
الأحاديث الدالة على العلم اللدني
منها : ما تقدم في الطائفة السابعة من
القسم الثاني من أدلة الولاية التكوينية ،
أعني روايات اعطاؤهم علم الكتاب
وتفضيلهم على الذين عندهم علم من الكتاب
.
ومنها ما تقدم ضمن تفسير الآيات
المتقدمة على العلم اللدني .
وقال الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
" علمت كل لسان وكل كتاب وما كان وما سيكون
بغير تعلم ، وهذا سر الأنبياء أودعه
الله فيهم ، والأنبياء أودعوه إلى أوصيائهم ، ومن
لم يعرف ذلك ويتحققه فليس هو على شئ ،
ولا قوة إلا بالله " ( 1 ) .
ومن الروايات أيضا : روايات اعطاء
الإمام العلم بواسطة النور ، كالمروي
عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال :
" ان الإمام يسمع الكلام في بطن أمه . . . حتى إذا شب رفع
الله له عمودا من نور يرى فيه الدنيا
وما فيها ، لا يستر عنه منها شئ " ( 2 ) .
وفي رواية : " إذا أراد علم شئ
نظر في ذلك النور فعرفه " ( 3 ) .
ونحو ذلك من روايات عامود النور الآتية
( 4 ) .
وورد عن رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) قوله : " ليس العلم بكثرة التعلم انما هو نور يقذفه
الله في قلب من يريد الله أن يهديه
" ( 5 ) .
وفي الأثر : " العلم نور وضياء
يقذفه الله في قلوب أوليائه وأنطق به على
لسانهم " ( 6 ) .
‹
صفحة 54 ›
وفي آخر : " ما من عبد إلا
ولقلبه عينان وهما غيب يدرك بهما الغيب " ( 1 ) .
وفي ثالث : " فإذا أراد الله
بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن
بصره " ( 2 ) .
وفي الحديث القدسي في وصف الأولياء :
" أقبل عليهم بوجهي ، أترى من
واجهته بوجهي يعلم أحد أي شئ أريد أن أعطيه
، ثم قال عز وجل : أول ما أعطيهم
أن أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون
عني كما أخبر عنهم " ( 3 ) .
ومن روايات العلم اللدني روايات كونهم
معدن العلم وورثته ( 4 ) .
ومنها روايات كون عندهم جميع العلوم (
5 ) .
ومنها ما يأتي في الجهة السادسة من
علمهم بالكتاب والقرآن ، وهو فيه تبيان
كل شئ .
وكذلك روايات علمهم بما كان ويكون ،
وما شابه من هذه الروايات .
ومنها ما يأتي من علمهم للغيب .
ومنها : ما يأتي في الجهة الرابعة من
أن علمهم بإيحاء من الله مباشرة ، أو انه
قذف ونقر في القلوب ، أو انه تحديث .
فان هذا كله يدل على كون علمهم لدنيا
ويأتي توضيح الاستدلال بها في
الترجيح بين الاحتمالات .
‹
صفحة 55 ›
الدليل العقلي على العلم اللدني
هذا إضافة إلى الدليل العقلي الدال
على علمهم اللدني وذلك بعدة تقاريب :
*
التقريب الأول :
العلم الحضوري للإمام أكمل في اللطف
ان إرسال الرسل والأئمة لطف من الله
تعالى كما هو مبين في العقائد .
واللطف هو كل ما يبعد العبد عن
المعصية ، وإن شئت قلت هو ما دعا إلى فعل
الطاعة ( 1 ) .
وعليه ، فأولا : أنه من حسن الظن
بالله أن يجعل حججه على أكمل وجه
وأصبغ نعمة ، وهذا هو الأنسب مع حكمة
الله .
ومعلوم ان العلم اللدني أكمل من
الكسبي .
ثانيا : علم الناس بأن علم الإمام
لدني حاضرا في كل حال ولكل شئ ،
رادع لهم عن ارتكاب المعصية والبعد
عنها ومقرب لهم إلى فعل الطاعة ، لخوفهم من
تأنيب الإمام لهم على المعصية ،
ولفرحهم من مدحه لهم على الطاعات .
وفي الروايات ما يؤكد ذلك .
*
التقريب الثاني :
العلم اللدني أنفع للأمة
فإن الإمام كلما كان علمه محيطا بكل
الأشياء ، وعلى أكمل وجه من العلم
والإحاطة ، وكأن يعلم بما مضى وما سوف
يأتي ، وعلمه بخلفيات وأسرار الكلام ،
فان كل ذلك يكون أنفع للأمة ولمصالحها
الدينية والسياسية والاجتماعية ، الفردية
والنوعية .
‹
صفحة 56 ›
لأن الإمام ( عليه السلام ) بعلمه
اللدني لا ينخدع ، ولا تحصل عليه المنقصة لاحتياجه
إلى السؤال فيما لو فرض ان علمه غير
لدني ، ولما علم المنافقين والمخادعين وحيلهم .
وفي التاريخ شواهد جمة ان الإمام أو
الخليفة إذا لا يعلم ما في الصدور كيف
ينخدع ويصبح سخرية للرعية . بينما لو
كان عالما بخفايا الأمور كيف تجده يبرم
الأمور إبراما .
*
التقريب الثالث :
العلم اللدني أكمل للإمام
والعلم اللدني أكمل وأفضل للامام (
عليه السلام ) وعدمه منقصة ، إذ لو لم يكن علمه
لدنيا لوجد من هو أعلم منه ، والأعلم
أفضل ، والإمام يجب أن يكون أعلم
الموجودين وأفضلهم .
على أن العرف والعقل يحكمان بأن
الإمام والخليفة يجب أن يكونا أكمل
المخلوقات ، ويحكمان أيضا أن العلم
اللدني أكمل من الكسبي الحصولي التدريجي .
*
التقريب الرابع :
العلم الحصولي علم متغير لا يفيد
اليقين
العلم اللدني كما يأتي قريبا علم شريف
من الله تعالى يؤدي إلى اليقين بالمعلوم
،
أما العلم الحصولي الكسبي فإنه لا يفيد اليقين الجازم بالقضية .
ومعلوم أن العقل يحكم بوجوب كون
الاخبار الصادرة عن الإمام ( عليه السلام )
أخبارا يقينية ، وإلا لما أفاد
الاطمئنان عند الناس ، ولما وجب التصديق به .
‹
صفحة 57 ›
الفرق بين العلم اللدني والحصولي
الفرق بين العلم اللدني الحضوري
والكسبي الحصولي
للعلم بالأشياء طريقان : أن يتوصل إلى
الشئ بواسطة الخواص والعوارض
أو الشبح والظل وآثار الأشياء
ولوازمها ، وهذا يسمى بالعلم الحصولي .
وهناك طريق آخر وهو أن يتوصل للشئ من
خلال معرفة مبادئه وأسبابه ،
وهذا ما يسمى بالعلم الحضوري أو
اللدني ، والذي من آثاره هو الاطلاع على
أسرار وغيب العالم ، كما حصل مع الخضر
وموسى ( عليهما السلام ) .
قال المتأله السبزواري في اللآلي :
العلم حصولي وحضوري ، والحصولي هو
الصورة الحاصلة من الشئ عند العقل .
والحضوري هو العلم الذي هو عين
المعلوم لا صورته ونقشه ، كعلم المجرد
بذاته ، أو بمعلوله كعلم الحق تعالى
بمعلولاته عند المحققين ، وليس بتصور ولا بتصديق
لأن مقسمهما العلم الحصولي ) ( 1 ) .
وقال العلامة الطباطبائي : ( وللرواية
" من عرف نفسه عرف ربه " معنى آخر
أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية
في علم النفس ، وهو ان النظر في الآيات
الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر
فكري وعلم حصولي ، بخلاف النظر في
النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة
المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم
حضوري .
والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى
نظم الأقيسة واستعمال البرهان ، وهو
باق ما دام الانسان متوجها إلى
مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك
يزول العلم بزوال الاشراف على دليله
وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف .
وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها
وأطوار وجودها فإنه من العيان ،
‹
صفحة 58 ›
فإذا اشتغل الانسان بالنظر إلى آيات
نفسه وشاهد فقرها إلى ربها وحاجتها في
جميع أطوار وجودها ، وجد أمرا عجيبا ،
وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء
متصلة في وجودها وحياتها وعلمها
وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها
وسائر صفاتها وأفعالها ، بما لا يناهى
بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود
والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل
كمال ) ( 1 ) .
وقال صدر المتألهين في شرح أصول
الكافي ( شرح الحديث العاشر ) :
(
اعلم أن العلم بالأشياء الجزئية على وجهين :
أحدهما : ان يعلم الأشياء من الأشياء
، بحس أو تجربة أو سماع خبر أو شهادة
أو اجتهاد ، ومثل هذا العلم لا يكون
إلا متغيرا فاسدا محصورا متناهيا غير محيط ،
فإنه يلزم ان يعلم في زمان وجودها
علما ، وقبل وجودها علما آخر ، ثم بعده علما
آخر .
فإذا سئل العالم بهذا العلم عن حادث
ما ، كالكسوف مثلا حين وجوده يجيب
بجواب فيقول مثلا : انكسفت الشمس ،
وإذا سئل عنه قبل حدوثه يجيب بجواب آخر
فيقول : سيكون الكسوف ، ثم إذا سئل
بعده فيقول : قد كان الكسوف . فعلمه بشئ
واحد تارة كان وتارة كائن وتارة سيكون
، فيتغير علمه .
ومثل هذا العلم الانفعالي متغير فاسد
ليس بيقين إذ العلم اليقيني ما لا يتغير
أصلا .
وثانيهما : أن لا يعلم الأشياء من
الأشياء ، بل يعلم بمباديها وأسبابها ، فيعلم
أوائل الوجود وثوانيها ، وهكذا إلى أن
ينتهي إلى الجزئيات ، علما واحدا وعقلا
بسيطا محيطا بكليات الأشياء ،
وجزئياتها على وجه عقلي غير متغير ، فمن عرف
المبدأ الأول بصفاته اللازمة وعرف انه
مبدأ كل وجود وفاعل كل فيض وجود
عرف أوائل الموجودات عنه ، وما يتولد
عنها على الترتيب السببي والمسببي ، كما
‹
صفحة 59 ›
يتولد مراتب العدد من الواحد على
الترتيب ، وما من شئ من الأشياء يوجد إلا
وقد صار من جهة ما يكون واجبا بسببه
وسبب سببه إلى أن ينتهي إليه تعالى .
فيكون هذه الأسباب بمصادماتها تتأدى
إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية ) ( 1 ) .
فتحصل : ان العلم الحصولي الكسبي علم
بظواهر الأشياء وجزئياتها من
طريق نفس الأشياء يتغير ولا يفيد
اليقين ، وهذا العلم يتنزه عنه الأولياء فضلا عن
آل محمد ( عليهم السلام ) .
وان العلم الشهودي الحضوري علم بواقع
الأشياء وأسبابها - والذي يغني
عن العلم بجزئياتها - وانه هو علم
الأولياء فضلا عن أولي الأمر من آل محمد ( عليهم السلام ) .
وآثار هذا العلم إضافة إلى أنها
شهودية لعين الواقع وصقع الأمر ، أنه يؤهل
العالم به أن يطلع على أسرار الكون
والملكوت ، ويعطيه الأهلية لقدرة التصرف فيه ،
منتظرا منح القدرة من الله العزيز
المتعال .
قال الإمام الغزالي بعد تعريف الوحي
والإلهام والعلم الحاصل منهما : ( والعلم
الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا ،
والذي يحصل عن الإلهام يسمى علما لدنيا ،
والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في
حصوله بين النفس وبين الباري ، وانما هو
كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف
فارغ لطيف ، وذلك أن العلوم كلها
حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية
الأولى ، الذي هو في الجواهر المفارقة
الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل
الأول كنسبة حواء إلى آدم ( عليه السلام ) .
وقد بين ان العقل الكلي أشرف وأكمل
وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من
النفس الكلية ، والنفس الكلية أعز
وألطف وأشرف من سائر المخلوقات ، فمن إفاضة
العقل الكلي يتولد الإلهام ( كذا -
والصحيح الوحي ) ومن اشراق النفس الكلية
يتولد الإلهام ، فالوحي حلية الأنبياء
، والإلهام زينة الأولياء ( 2 ) .
‹
صفحة 60 ›
وقال القسطلاني : والعلم اللدني
الرحماني هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبي
الكريم عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم
، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة بأمر
يختص به صاحبه ، كما قال علي بن أبي
طالب ( عليه السلام ) وقد سئل : هل خصكم رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) بشئ دون
الناس ؟
فقال : " لا ، إلا فهما يؤتيه
الله عبدا في كتابه " ( 1 ) .
وقال الفيض الكاشاني : وليعلم ان علوم
الأئمة ( عليهم السلام ) ليست اجتهادية ولا
سمعية أخذوها من جهة الحواس ، بل
لدنية أخذوها من الله سبحانه ببركة متابعة
النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 2 ) .
‹
صفحة 61 ›
العلم الإرادي
الاحتمال الثالث : ان علم آل محمد (
عليهم السلام ) علم إرادي .
ويراد به ان علم آل محمد ( صلى الله
عليه وآله ) متوقفا على إرادتهم لهذا العلم متى احتاجوا
إليه ، وهذا ليس علما كسبيا لأنه لا
يحتاج إلى التكسب ، وليس علما للأشياء من
الأشياء ، انما هو علم منوط بإرادة
ومشيئة كل إمام ، وهذا هو فرقه عن العلم اللدني
إذ ليس علم الإمام حاضرا في كل آن آن
.
ويدل على هذا الاحتمال عدة روايات :
منها ما عن الإمام الصادق ( عليه
السلام ) : " ان الإمام ( عليه السلام ) إذا شاء أن يعلم اعلم " ( 1 ) .
وفي رواية : " إذا شاء أن يعلم
علم " ( 2 ) .
وفي ثالثة عن عمار الساباطي : سألت
أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الإمام يعلم الغيب
؟
فقال : " لا ، ولكن إذا أراد أن
يعلم الشئ أعلمه الله ذلك " ( 3 ) .
ونحوها ذلك من الروايات ( 4 ) .
وقد تقدم في الكتاب الأول روايات :
" قلوبنا أوعية لمشيئة الله فإذا شاء
شئنا " ( 5 ) .
الخالية عن باب العلم .
‹
صفحة 63 ›
*
تمحيص الاحتمالات
اما الاحتمال الأول : فأولا يكفي
لسقوطه معارضة الاحتمال الثاني والثالث له
بل ونفيه .
ثانيا : تقدم في الدليل العقلي أن
العلم الكسبي لا يليق بالامام المعصوم
المفترض الطاعة ، بل قد يعد نقصا ،
وذلك لعدم افادته اليقين القطعي .
ثالثا : لا يتناسب مع حالات آل محمد
المختلفة زمانا ومكانا ، ذلك أن العلم
الكسبي يحتاج إلى الزمان والمكان ، بل
هو خاضع في كثرته وقلته لهما ، فالزمان الذي
قضاه أمير المؤمنين في التعلم من رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) أو من القرآن أكثر من الزمان
الذي قضاه الحسن والحسين ( عليهما
السلام ) ، وهكذا في باقي الأئمة ( عليهم السلام ) ، والمسألة أوضح في
خاتم الأئمة الحجة القائم ( عليه
السلام ) .
فروايات الازدياد ان كان المراد منها
زيادة التكسب ، فإنها تجعل التفاوت
بين علم النبي والأئمة ( عليهم السلام
) أو هم فيما بينهم ، وتقدم انهم سواء .
على أن ذلك ينافي أصل علم الأئمة ( عليهم
السلام ) حيث إن بعض الأئمة - على الأقل -
كان منذ صغره يعلم علم ما كان وما
يكون ، كما روي عن حذيفة قال : سمعت
الحسين ابن علي ( عليهما السلام )
يقول : " والله ليجتمعن على قتلي طغاة بني أمية ويقدمهم عمر
بن سعد ، وذلك في حياة النبي ( صلى
الله عليه وآله ) " .
فقلت له : أنبأك بهذا رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) ؟
قال ( عليه السلام ) : " لا
" .
قال : فأتيت النبي فأخبرته .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : "
علمي علمه وعلمه علمي ، لأنا نعلم الكائن قبل كينونته " ( 1 ) .
والروايات كثيرة في ذلك يأتي بعضها .
وعليه : فروايات الازدياد لابد أن
تفسر :
‹
صفحة 64 ›
اما بأن الإمام يريد أن يبين ارتباطه
بالله أو بالعرش - على حسب لسانها -
وان علمه من علم الله تعالى .
واما يريد ( عليه السلام ) أن يخبر عن
حالاته الغيبية مع الله تعالى ولقائه رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) وعن عروجه
إلى العرش .
واما كون الإمام في مجلس لا يستطيع أن
يصرح بأكثر من ذلك اما للتقية واما
لتفاوت أصحابه - كما يأتي توضيحه - .
هذا ، ويمكن من بعض ألسنتها جعلها
دليلا على العلم اللدني ، وذلك أن
الازدياد يرجع في الواقع إلى العطاء
المباشر من الله تعالى ، خاصة في الرواية التي
عبرت عن العلم المستفاد " بالعلم
الخاص المكنون العجيب " .
نعم تبقى مسألة تكرار العروج إلى الله
للازدياد وأنه كل ليلة جمعة ، الذي
ظاهره التعلم التدريجي ، ولكن يجاب
عنه بما تقدم أنه للتأكيد على ارتباط آل
محمد ( عليهم السلام ) بالعرش وأن
علمهم من الله تعالى مباشرة .
على أنه لو صح لكان غير مضر ، لان
العروج وان كان ظاهره التدرج ، إلا
أنه في النهاية علم من الله تعالى
وعلم الله ليس كسبيا .
وأما روايات أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) : " علمني رسول الله ألف باب " فإنها كانت
في مقام تبيين انه أعلم من الخلفاء ،
وانه أقرب منهم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكان يغذيه
بالعلم .
واما تحمل على عدم تحمل الناس لأكثر
من ذلك ، خاصة وان أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) مع كل هذه
التصريحات وان علمه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ادعوا له
الربوبية .
هذا ويمكن تفسير هذه الروايات لتدل
على العلم اللدني أيضا ، وإليه أشار
الإمام الغزالي ، قال : ( وقال أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) " ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أدخل لسانه
في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من
العلم وفتح لي من كل باب ألف باب " .
وهذه المرتبة لا تنال بمجرد التعلم ،
بل يتمكن المرء في هذه المرتبة بقوة العلم
اللدني ، وكذا قال ( عليه السلام )
لما حكى عن عهد موسى ( عليه السلام ) ان شرح كتابه كان أربعين
‹
صفحة 65 ›
حملا : " لو اذن الله تعالى
ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) لأشرح في شرح الفاتحة حتى يبلغ أربعين
وقرا " .
قال : وهذه الكثرة والسعة والافتتاح
في العلم لا يكون إلا من لدن إلهي
سماوي ) ( 1 ) .
خاصة بعد ملاحظة انه ورد الحديث ومن
طرق بلفظ : " علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
عليا حرفا يفتح ألف حرف كل حرف منها
يفتح ألف حرف " ( 2 ) .
وفي رواية : " علم رسول الله
عليا كلمة تفتح ألف كلمة " ( 3 ) .
فهذا يدل على أنه ليس حصوليا .
اما الاحتمال الثالث : فإنه يكفي ما
تقدم من أدلة في الاحتمال الثاني لرده أو
تأويله وذلك :
ان آل محمد ( عليهم السلام ) وبسبب
الغلو فيهم أو بسبب الحفاظ على شيعتهم ، لم
يكونوا يصرحون بكل العلوم التي كانوا
يعلمونها إلا في المجالس الخاصة ، كما تقدم
عن الإمام الصادق ( عليه السلام )
عندما قال : " علينا عين " .
فقلنا : ليس علينا عين .
فقال : " ورب الكعبة ورب البنية
لو كنت بين الخضر وموسى لأخبرتهما اني
أعلم منهما ولأنبئهما بما ليس في
أيديهما " ( 4 ) .
وفي رواية طويلة تقدم طرفها قال فيها
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " يا عجبا
لأقوام يزعمون انا نعلم الغيب ، ما
يعلم الغيب إلا الله ، لقد هممت بضرب جاريتي
فلانة فهربت مني فما علمت في أي بيوت
الدار هي " .
‹
صفحة 66 ›
قال سدير : فلما ان قام عن مجلسه صار
في منزله وأعلمت دخلت أنا وأبو
بصير وميسر وقلنا له : جعلنا الله
فداك سمعناك أنت تقول كذا وكذا في أمر خادمتك ،
ونحن نزعم انك تعلم علما كثيرا ، ولا
ننسبك إلى علم الغيب ( 1 ) .
وذكر لهم الحديث المتقدم في مطلع
الطائفة السابعة من القسم الثاني من الأدلة
التكوينية ، كيف انه يعلم الكتاب كله
وانه أعلم من آصف .
وفي رواية قال ( عليه السلام ) :
" اني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم ما
في الجنة وأعلم ما في النار ، وأعلم
ما كان وما يكون " .
قال : ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر
على من سمعه منه .
فقال : " علمت ذلك من كتاب الله
" ( 2 ) .
ونحو ذلك من الروايات كثير ( 3 ) .
هذا ويكمن أن يقال : أن روايات توقف
علم الإمام على المشيئة ترجع إلى
الاحتمال الثاني أيضا ، لأنها ليست في
صدد نفي العلم اللدني للإمام ولا سلب العلم
عن الإمام في بعض الأزمنة ، انما هي
بصدد تبيين غزارة علمهم وانه لا يخفى عليهم
شئ في السماوات والأرض ، وانهم يعلمون
كل شئ متى أرادوا .
وإن شئت قلت : آل محمد في عيش دائم مع
الله ، وإرادتهم دوما مع الله تعالى ،
ولا تفكر إلا بالله وآياته وعباداته ،
فلا بد للإمام أن لا يخرج عن هذا العيش إلا
للضرورة - كما تقدم - فإذا احتاج إلى
علم ما لحل خصومة أو نحو ذلك استدعى
علمه المخزون بإرادته ومشيئته .
وهذا لا يستلزم النقص ، لأنه انما غاب
عن هذه العلوم ( علوم تصريف
الأمور ) للانشغال بعلوم أفضل وأشرف ،
لأن عيش الإمام مع الله هو التفكر في
آياته وعلم الله والعلم بصفاته
وأسمائه ، وهذا أشرف العلوم وأكملها .
‹
صفحة 67 ›
وعليه : فهذا تفصيل بين علمين للامام
: علم لا ينفك عن الإمام ، وهو العلم
الشريف بالله وبآياته ، وليس مربوطا
بالإرادة بل إرادة الإمام كلها متجهة لهذا
العلم تستدعيه في كل آن آن ، وتعيشه
لحظة بعد أخرى .
وعلم لا يرتبط بهذا الأمر ، بل يرتبط
بتصريف أمور الملك والخلافة لعامة
الناس ، فان هذا العلم يستدعيه الإمام
وقت الحاجة ، وهو المتوقف على الإرادة
بهذا المعنى .
على أن توقف علم الإمام على الإرادة
إذا فسر بما لا يرجع للعلم اللدني ، فإنه
يستلزم النقص على الإمام ، لأنه في
حالة عدم إرادته للعلم يكون جاهلا والعياذ
بالله ، ويكون غيره في تلك الفترة
أعلم منه ، ولو بالنسبة ، فتأمل .
أو لا أقل يوجب عدم الكمال ، ذلك لما
تقدم من أدلة عقلية على العلم اللدني
وأنه أكمل للامام وأقرب للطف .
‹
صفحة 69 ›
شبهات حول العلم اللدني
*
شبهات حول العلم اللدني
اعترض على العلم اللدني لآل محمد (
صلى الله عليه وآله ) ببعض الآيات والروايات .
أما الآيات ، فبقوله تعالى :
1
- * ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) * * ( لو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير ) * * ( قل لا أقول
لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا
أقول لكم اني ملك ان اتبع ما يوحى إلي
) * * ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض
الغيب إلا هو ) * ( 1 ) * ( لا يحيطون
بشئ من علمه إلا بما شاء ) * ( 2 ) .
2
- * ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) * ( 3 ) .
3
- * ( ومن حولك من الأعراب رجال منافقون ومن أهل المدينة مردوا على
النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) * ( 4
) .
4
- * ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ) * ( 5 ) .
5
- * ( قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلي انما إلهكم إله واحد ) * ( 6 ) .
6
- * ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) * ( 7 ) * ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن
يقضى إليك وحيه ) * ( 8 ) .
ومن الروايات :
1
- ما تقدم من قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : يا عجبا لأقوام يزعمون انا نعلم
الغيب . ونحوها من الروايات النافية
للغيب .
‹
صفحة 70 ›
2
- ما ورد في سهو النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونومه عن صلاة الصبح .
3
- ما ورد في اقدامهم على القتل وشرب السم .
4
- ما ورد في نفي الغلو عنهم وتقريع القائل به .
5
- ما ورد في أفعال الأئمة الظاهرية كبقية الناس .
رد الشبهات
اما الآيات : فيجاب عن الجميع أولا :
بأن هناك كثير من الآيات القرآنية
نزلت من باب ( إياك أعني واسمعي يا
جارة ) سواء التي ذكرت في باب العلم كالمتقدم
منها ، أم التي وردت في مختلف
المواضيع ، وإليك نموذجا منها :
قوله تعالى : * ( انا وإياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين ) * ( 1 ) .
ونقطع ان رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) وحده على الهدى والكفار على الضلال ، كما بينته
كثير من الآيات .
إلا أن النبي ( صلى الله عليه وآله )
أراد مجاراة الكفار لمصلحة ما .
وقوله تعالى : * ( ما كنت بدعا من
الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) * ( 2 ) .
ولا يشك مؤمن ان النبي ( صلى الله
عليه وآله ) يدري ما يفعل به بل الآيات الأخرى
مصرحة بذلك ، ونحن ندري ما يفعل بهم
أيضا .
وقوله تعالى : * ( فإن كنت في شك مما
أنزلنا إليك فسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك ) * ( 3 ) .
ولا يتوهم مسلم ان النبي ( صلى الله
عليه وآله ) شك في يوم من الأيام ، وأين قوله تعالى : * (
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
) * ( 4 ) .
‹
صفحة 71 ›
ثانيا : فرق بين النبي الأعظم ( صلى
الله عليه وآله ) وبين آل محمد ( عليهم السلام ) وذلك لكون زمن
النبي ( صلى الله عليه وآله ) زمن
تأسيس الاسلام وتركيز دعائمه الأساسية وهم قريبوا عهد
بالجاهلية ، ويدل عليه ما روي عن
الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : " ان علي بن
الحسين ( عليهما السلام ) كان يقرأ
القرآن فربما مر المار فصعق من حسن صوته ، وان الإمام لو
أظهر من ذلك شيئا لما احتمله الناس
" .
قيل له : ألم يكن رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : " ان
رسول الله كان يتحمل من خلفه ما يطيقونه " ( 1 ) .
ورواه الكليني بسند آخر ( 2 ) .
*
ويجاب عن الآيات الأولى النافية لعلم الغيب : بأنه لا يراد اثبات علم
الغيب لآل محمد ( عليهم السلام )
بالاستقلال أو بعرض علم الله تعالى الغيبي ، فان المنفي من
الآيات هو علم الغيب الذي يكون بعرض
علم الله تعالى ، لذا قال تعالى : * ( عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من
ارتضى من رسول ) * ( 3 ) .
وقال : * ( لا يحيطون بشئ من علمه إلا
بما شاء ) * ( 4 ) .
فالآيات لا تنفي أن يمنح ويمن الله عز
وجل بعلمه كله أو بعضه على من يشاء
كيفما يشاء وأينما يشاء ، انما هي
تنفي الغيب الذي يؤدي بصاحبه إلى الألوهية أو
الشريك لله .
وتقدم الكلام في ذلك في الكتاب الأول
في الولاية التكوينية .
وسوف يأتي زيادة توضيح عند ذكر الآيات
الدالة على علم للنبي
الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) للغيب
.
*
ويجاب عن الآية الثانية : انها عامة لكل الناس انما خوطب النبي بها لأنه
القارئ الأول للقرآن ، والمعني بمسألة
القرآن أكثر من غيره ، وإلا فرسول الله مطهر
‹
صفحة 72 ›
من هذه النواقص بآية التطهير .
على أن الآية تثبت عدم نسيان النبي
للقرآن ، والاستثناء ليس اثبات لنسيانه
انما هو لبقاء قدرة الله على اطلاقها
، نظير قوله تعالى في أهل الجنة : * ( خالدين فيها ما
دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك
عطاء غير مجذوذ ) * ( 1 ) .
*
ويجاب عن الآية الثالثة : بحملها على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالاستقلال
لا يعلم
المنافقين ، فالله يريد أن ينفي علم
النبي بالمنافقين بعرض علمه تعالى ، اما ان الله
أعلمه بأسمائهم فالآية لا تنفيه ، بل
هو مثبت بآيات أخرى وأحاديث متعددة ،
وكيف لا يعلم النبي ( صلى الله عليه
وآله ) بالمنافقين ، وكان يعلم خبر السماء والأرض ؟ !
وكيف لا يعلمهم وكان بعض صحابته
يعلمهم كما هو معروف عن حذيفة ( 2 )
؟
!
هذا إضافة إلى تصريح أهل البيت (
عليهم السلام ) بعلمهم التفصيلي للمنافقين ظاهرهم
وباطنهم ( 3 ) .
ومعلوم ان ما علمه الأئمة ( عليهم
السلام ) علمه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالأولوية وقد تقدم
قريبا أن علمه علمهم ( عليهم السلام )
.
*
ويجاب عن الآية الرابعة : بأنها واضحة في إرادة التفريق بين حالتين ،
الحالة الأولى قبل إعطاء الله الروح
الآمرية ، والحالة الثانية بعد هذا العطاء ، لذا جاء
قوله تعالى : * ( وكذلك أوحينا إليك
روحا من أمرنا ) * قبل هذه الآية .
نعم الآية لا تشير إلى زمن اعطائه
الروح الآمرية قبل النبوة أم بعدها وتقدم
مفصلا أنها قبل النبوة ، بل في عالم
الأنوار والأظلة .
ويجاب عن الآية الخامسة : أنها متعلقة
بقول الكافرين : * ( قلوبنا في أكنة مما
تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ) * فكأن
الكفار حاولوا أن يعتذروا من الايمان بأننا لا
‹
صفحة 73 ›
نفهم ما تقول ، فجاء الجواب : انما
أنا بشر ، أتكلم بنفس الكلام الذي تتكلمون فيه
وبنفس المنطق ، وما أخبركم به ليس من
عندي انما هو من عند الله تعالى .
وكونه بشرا لا ينافي اعطائه العلم
اللدني ، لذا كان أمير المؤمنين يصرح بذلك
فيقول : " أنا بشر مثلكم أجرى
الله على يدي المعاجز " ( 1 ) .
*
ويجاب عن الآية السادسة : بما فسرها الإمام الباقر ( عليه السلام ) بقوله : * ( لا
تحرك به لسانك لتعجل به ) * فالذي
أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانا
أمر الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا
، فلذلك كان يناجي به أخاه عليا دون
أصحابه " ( 2 ) .
فتكون الآية مؤيدة للعلم اللدني لا
نافية له .
قال الشيخ الطبرسي في الآية : لا تحرك
به لسانك لتعجل قراءته بل كررها
عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون
عن الأدلة ، ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا
إلى زيادة تنبيه وتقرير ( 3 ) .
على أن الآية ظاهرة في علم النبي (
صلى الله عليه وآله ) للقرآن قبل تعليم جبرائيل له ، كما
يأتي تفصيله في آية : * ( ولا تعجل
بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) * ( 4 ) .
في الترجيح بين الطوائف العشرة فارتقب
( 5 ) .
*
اما الروايات :
فالرواية الأولى وأمثالها النافية لعلمهم
للغيب واضحة انها كانت تريد أن ترد
على الغلاة ، فهم ينفون الغيب المساوق
للغلو ، لا علم الغيب الذي يكون من الله
تعالى .
‹
صفحة 74 ›
على أن الروايات هذه تحمل - كما تقدم
- على اختلاف مستوى الصحابة ، فلم
يكونوا يستطيعون التصريح بكل ما
يعلمون ، وقد تقدم توضيح ذلك قريبا .
-
اما الطائفة الثانية : وهي روايات نسيان النبي ونومه عن صلاة الصبح ،
فردها من أمور :
أولا : ان هذه الروايات وان كان بعضها
مرضي السند ، إلا أن القطع بصحتها
مشكل ، مع ما ورد من طوائف من
الروايات تؤكد عصمة آل محمد عن الخطأ ،
وتثبت لهم العلم بكل الأحكام الشرعية
، وان علمهم سواء فيه ، ولا تستثنى
النسيان لمصلحة ما ، كالتعليم وعدم
الغلو وما شابه ذلك من أسباب النسيان .
ثانيا : اثبات النسيان للنبي ( صلى
الله عليه وآله ) أو لآل محمد ( عليهم السلام ) ينافي مضمون آية
التطهير وآية : * ( وما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى ) * فمن أثبت النسيان
لرسول الله ( صلى الله عليه وآله )
فقد أثبته على الوحي الموحي إليه من الله تعالى بنص هذه الآية .
ثالثا : إثبات النسيان أو ترك الصلاة
الواجبة فيه نوع شين ونقص عند العرف
العام والخاص ، فأهل الصلاة في كل عصر
ومكان إذا ناموا عن صلاة الصبح
يعتبرون أنفسهم مذنبين مقصرين ،
ويستغفروا الله ويعتبروا ان الشيطان بال في
آذانهم - كما في بعض الروايات - ( 1 )
.
وإذا سئل البعض يحاول اخفاء هذا الأمر
حياء لما فيه من المنقصة والمهانة
بترك الواجب ، وهذا شئ مسلم ، ومن
ينكر ذلك فعليه أن يجرب وينام عن صلاته
ثم يعرضها أمام الناس .
فكيف يريدونا أن نتعقل ذلك في نبينا
نبي الهدى وآل بيته الأطهار المصطفين
الأخيار .
ولمن أراد مزيد بيان فليراجع رسالة
الشيخ المفيد ( قده ) في عدم سهو
‹
صفحة 75 ›
النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( 1 ) .
رابعا : إن اثبات السهو أو الاسهاء
يبطل نبوة النبي الأعظم وإمامة الأئمة
الطاهرين ( عليهم السلام ) ، ذلك أن
النبي والإمام يجب أن يكون أفضل وأعلم الموجودين في
كل أمر أمر وفي طيلة نبوته وإمامته ،
ولو وجد من هو أفضل منه للحظة واحدة ،
لوجب عقلا وشرعا أن يكون هو النبي
والإمام دونه . وعليه فإذا ثبت السهو على
النبي والإمام ( عليهما السلام ) فإنه
في تلك الفترة الزمنية غيره أفضل منه في صلاته مثلا ، لعدم
صدق السهو في حقه .
ان قيل : المعتبر في الأفضلية على نحو
المجموع .
قلنا : إن تعقلنا ذلك في غير المعصوم
، فانا لا نحتمله فيه ( عليه السلام ) ، ذلك لما حققناه
مفصلا في النص على أمير المؤمنين (
عليه السلام ) ( 2 ) ، من أن الأفضل أفضل في كل شئ ، ففي
العلم يجب أن يكون أعلم الناس ، وفي
الفقه أفقه الناس ، وفي السياسة أسيس
الناس ، وفي القضاء أقضى الناس ،
وهكذا في بقية صفات التفاضل ، كما يأتي مفصلا .
*
وقد سمعت من بعض مراجع التقليد انه كان يتوقف في استمرار مرجعيته
على الناس فيما لو دخل في الغيبوبة أو
الاغماء المتعمد منه ، كمرحلة العلاج وغير
المتعمد . مع أن العرف قد يتساهل في
هذه اللحظات .
خامسا : مسألة الاسهاء وهي ان النبي (
صلى الله عليه وآله ) لا يسهو ، ولكن الله بقدرته
أسهاه ، فهي وان كانت أقل محذور من
السهو ، إلا أنها أيضا بالنتيجة تؤدي لان
يكون النبي ( صلى الله عليه وآله )
نام عن صلاته الواجبة ، واحتاج إلى من يذكره في صلاته .
على أن الله عزت آلاؤه كيف يتعقل انه
من أجل نفي الغلو عن النبي أو من
أجل مصلحة التشريع ، يفرض على نبيه (
صلى الله عليه وآله ) المختار أفضل المخلوقين ترك واجب
يورث عليه النقص أو لا أقل عدم الكمال
، ويعد عند الناس من المعاصي الكبيرة ،
‹
صفحة 76 ›
وهل يعبد الله من حيث يعصى ! ؟
سادسا : ان الإمام لا يحتاج إلى أحد ،
بل كل الناس محتاجة إليه ، سواء في
الأمور الدينية أم الدنيوية ، أما
الدينية فلوضوح اشتراط الاخلاص في الأعمال
العبادية خاصة من آل محمد ( عليهم
السلام ) ، وقد حكم البعض ببطلان الوضوء إذا كان
بمساعدة الغير .
واما الدنيوية فللنهي الوارد من أهل
البيت ( عليهم السلام ) في الاعتماد على غير الله ،
لأن الاستعانة بالغير في الأمور
الدنيوية تنافي التوكل على الله من أئمة المسلمين .
على أن الحاجة للناس تجعل صاحب الحاجة
مفضولا في مقابل الفاعل .
وقد أنبى الله نبيه يوسف ( عليه
السلام ) عندما قال لرفيق سجنه : * ( اذكرني عند
ربك ) * ( 1 ) أي سيدك .
هذا وقال الإمام الصادق ( عليه السلام
) : " ان عندنا ما لا نحتاج إلى الناس وان الناس
ليحتاجون إلينا " ( 2 ) .
وعليه فإذا قلنا بسهو أو اسهاء النبي
والإمام لاحتاجا إلى من يذكرهما
بصلاتهما وأفعالهما ، ولذهب الوثوق
بصحة صلاتهما ، لاحتمال أن كل صلاة يؤدينها
يحتمل فيها السهو والغلط ، وكفى بذلك
منقصة أو عدم كمال .
سابعا : أنه وردت روايات كثيرة ان
الإمام لا يسهو ولا ينسى ، كالمروي عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :
" قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : والإمام المستحق للإمامة له
علامات : فمنها أن يعلم انه معصوم من
الذنوب كلها صغيرها وكبيرها لا يزل في
الفتيا ، ولا يخطئ في الجواب ولا يسهو
ولا ينسى " ( 3 ) .
ثامنا : اثبات السهو على الإمام يعني
عدم علم الإمام بما يأتي به ، وهو ينافي
‹
صفحة 77 ›
ما تقدم وما يأتي من سعة علمه وشموله
لكل شئ ، وما ورد من روايات تثبت
السهو لا تقوم في مقابل تلك الروايات
المستفيضة .
-
اما الرواية الثالثة : وهي روايات اقدامهم على القتل وتناول السم ، وهذا لا
ينافي علمهم اللدني ، إذ وردت طائفة
من الروايات تثبت علمهم الاجمالي
والتفصيلي بموتهم ( 1 ) ، وسوف نذكر
بعضها في الخاتمة .
بل هو يؤكد علمهم اللدني ، نعم يبقى
محذور اقدامهم مع العلم ، وجوابه
الاجمالي انهم كانوا يخيرون بين
البقاء في عالم المادة والهداية ، وبين العروج إلى
القرب المطلق من الله .
وإن شئت قلت : بين الصعود والنزول ،
فكانوا يختارون العروج والصعود إلى
القرب المطلق ، لأنه أقرب إلى واقعهم
وحالاتهم .
ولك أن تدعي ان مهمة الإمام المعصوم
كانت هداية البشر - وتقدم ان سبب
نزولهم إلى عالم المادة هو ذلك - ،
فلما انتهت مهمة هذا الإمام اما بانتهاء مرحلته واما
لفسح المجال أمام الإمام اللاحق ،
ليكمل مهمته ويعود إلى حيث أتى .
على أن الموت قد خط على ولد آدم مخط
القلادة على جيد الفتاة ، فلا محال
سوف تأتي اللحظة لانتقال الإمام من
حياته الدنيوية ، انما الخلاف في زمانها ، فيكون
الإمام المعصوم ولتلطف الله به قد
أعطي اختيار زمان العروج .
وسوف يأتي في الخاتمة تفصيل الكلام في
علم الإمام المعصوم بموته ( عليه السلام ) ورد
الشبهات فلا تغفل .
-
اما الرواية الرابعة : وهي نفي الغلو وتقريع صاحبه ، فهي تجري مجرى
الرواية الأولى ، إذ من الطبيعي أن
تكثر الرواية ضد من يدعي الربوبية لآل
محمد ( عليهم السلام ) ، والعلم
اللدني ليس فيه ادعاء الربوبية ، بل انما قال به من قال لتنزيه آل
‹
صفحة 79 ›
محمد عن النقص ، مع اعترافه انهم عباد
الله تعالى ، وانه هو الذي أعطاهم هذا العلم
الرباني .
-
اما الرواية الخامسة : وهي روايات تعاملهم مع الناس كأنهم منهم ، فهذا من
باب تواضعهم مع الناس ، ومن باب عدم
ادعاء الربوبية لهم أيضا .
على أن بعض التصرفات كانت واردة مورد
التقية ، أو لاختلاف مستوى
صحابتهم كما تقدم مرارا .
منبع ومصدر حصول علم آل محمد ( عليهم
السلام )
الجهة الرابعة :
منبع ومصدر حصول علم آل محمد ( عليهم
السلام )
والروايات في ذلك على عدة ألسنة ظاهر
أكثرها التنافي وينظمها طوائف :
*
الطائفة الأولى :
ما دل أن مصدر علمهم القرآن والكتاب
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال
: " والله اني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ،
وما في الجنة وما في النار ، وما كان
وما يكون إلى أن تقوم الساعة ، ثم قال : اعلمه
من كتاب انظر إليه هكذا ، ثم بسط كفيه
ثم قال : إن الله يقول : * ( انا أنزلنا إليك
الكتاب فيه تبيان كل شئ ) * ( 1 ) .
وفي رواية أخرى قال ( عليه السلام ) :
" اني لأعلم ما في السماوات وأعلم ما كان وما
يكون " .
ثم مكث هنيئة ، فرأى أن ذلك كبر على
من سمعه فقال ( عليه السلام ) : " علمته من
كتاب الله ، ان الله يقول * ( فيه
تبيان كل شئ ) * " ( 2 ) .
‹
صفحة 80 ›
وتقدم نحو هذه الروايات .
*
أقول : سوف يأتي في الطائفة الخامسة ان عندهم الجامعة ، وفيها كل ما
يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ،
وأن عندهم مصحف فاطمة ( 1 ) .
وفي رواية عنها ( عليها السلام ) :
وليس من قضية إلا وهي فيها ( 2 ) .
‹
صفحة 81 ›
*
الطائفة الثانية :
ان علمهم من ليلة القدر
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في
حديث جاء فيه : " فإذا كانت ليلة ثلاثة وعشرين
فيها يفرق كل أمر حكيم ، ثم ينهى ذلك
ويمضي " .
قلت : إلى من ؟
قال : " إلى صاحبكم ، ولولا ذلك
لم يعلم ما يكون في تلك السنة " ( 1 ) .
وعنه ( عليه السلام ) قال : " ان
الله يقضي فيها مقادير تلك السنة ثم يقذف به إلى
الأرض " .
فقلت : إلى من ؟
فقال لي : " من ترى يا عاجز
" ( 2 ) .
وفي رواية : " كتب الله فيها ما
يكون " ( 3 ) .
ونحو ذلك من الروايات ( 4 ) .
‹
صفحة 83 ›
*
الطائفة الثالثة :
ان علمهم من عامود النور
فعن أبي عبد الله الصادق ( عليه
السلام ) : " ان لله عامودا من نور حجبه الله عن جميع
الخلائق طرفه عند الله وطرفه الآخر في
اذن الإمام ، فإذا أراد الله شيئا أوحاه في إذن
الإمام " ( 1 ) .
وفي رواية إذا أراد الإمام ( 2 ) .
وفي حديث : " إذا شب ( الإمام )
رفع الله له عمودا من نور يرى فيه الدنيا وما
فيها لا يستر عنه منها شئ " ( 3
) .
وعن الإمامين الهادي والعسكري (
عليهما السلام ) : " إذا ولد رفع له عامود من نور في
كل مكان ينظر فيه الخلائق وأعمالهم
" ( 4 ) .
وفي أخرى : " إذا وقع إلى الأرض
رفع له عامود من نور يرى به أعمال
العباد " ( 5 ) .
*
أقول : والروايات بنحو ذلك كثيرة فلتراجع ( 6 ) .
‹
صفحة 85 ›
*
الطائفة الرابعة :
ان علمهم وراثة من رسول الله ( صلى
الله عليه وآله )
فعن أبي جعفر ( عليه السلام ) في حديث
عن علم الإمام علي ( عليه السلام ) قال : " وورث علم
الأوصياء وعلم من كان قبله " ( 1
) .
وفي حديث الإمام الصادق ( عليه السلام
) : " انا ورثنا محمدا " ( 2 ) .
وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال
: " اما بعد فان محمدا كان أمين الله في خلقه فلما
قبض كنا أهل البيت ورثته ، فنحن امناء
الله في أرضه ، عندنا علم البلايا والمنايا
وأنساب العرب ومولد الاسلام ، وانا
لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة
النفاق " ( 3 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في
حديث جاء فيه : " ورب الكعبة ورب البيت -
ثلاث مرات - لو كنت بين موسى والخضر
لأخبرتهما اني أعلم منهما ، ولأنبئهما بما
ليس في أيديهما ، لأن موسى والخضر
أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما هو كائن
إلى يوم القيامة .
وان رسول الله أعطي علم ما كان وما هو
كائن إلى يوم القيامة ، فورثناه من
رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
وراثة " ( 4 ) .
وفي رواية مشهورة في مدح آل البيت (
عليهم السلام ) : " أعطاهم فهمي وعلمي " ( 5 ) .
وعنه في رواية : " ان رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) لما قبض ورث علي ( عليه السلام ) علمه وسلاحه
‹
صفحة 86 ›
وما هناك ، ثم صار إلى الحسن ، ثم صار
إلى الحسين ( عليهما السلام ) ، ثم صار إلى علي بن
الحسين صلوات الله عليهم جميعا "
( 1 ) .
*
أقول : الروايات في ذلك كثيرة وبمختلف المضامين ( 2 ) .
‹
صفحة 87 ›
*
الطائفة الخامسة :
ان علمهم بواسطة القذف والنقر
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال
: " ان علمنا غابر مزبور ونكت في القلوب ونقر في
الأسماع .
فقال : اما الغابر فما تقدم من علمنا
، واما المزبور فما يأتينا ، واما النكت في
القلوب فإلهام ، واما النقر في
الاسماع فأمر الملك " ( 1 ) .
*
أقول : رواه المفيد بتفصيل أكثر جاء فيه : " . . . واما النكت في القلوب فهو
الإلهام والنقر في الاسماع حديث
الملائكة نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم ، واما
الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولن يظهر حتى يقوم قائمنا أهل
البيت ( عليهم السلام ) .
واما الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة
موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وكتب
الله الأولى .
واما مصحف فاطمة ( عليها السلام )
ففيه ما يكون من حادث وأسماء كل من يملك إلى
أن تقوم الساعة .
واما الجامعة فهي كتاب طوله سبعون
ذراعا إملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من فلق
فيه ، وخط علي بن أبي طالب ( عليه
السلام ) بيده فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم
القيامة ، حتى أن فيه أرش الخدش
والجلدة ونصف الجلدة " ( 2 ) .
وفي رواية عن الإمام الكاظم ( عليه
السلام ) : " مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه : ماض
وغابر وحادث ، فاما الماضي فمفسر ،
واما الغابر فمزبور ، واما الحادث فقذف في
‹
صفحة 88 ›
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حقيقة علم آل محمد (ع) وجهاته - السيد
علي عاشور - ص 88 - 98
القلوب ونقر في الأسماع ، وهو أفضل
علمنا ولا نبي بعد نبينا " ( 1 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام )
قال : قلت أخبرني عن علم عالمكم ؟
قال ( عليه السلام ) : " وراثة
من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن علي ( عليه السلام ) " .
قال : قلت : انا نتحدث انه يقذف في
قلوبكم وينكت في آذانكم .
قال : " أو ذاك " ( 2 ) .
ونحوه عن أبي جعفر ( 3 ) .
وعنه ( عليه السلام ) أنه قال :
" فينا والله من ينقر في اذنه وينكت في قلبه وتصافحه
الملائكة " ( 4 ) .
وعن أبي جعفر وقد سئل عن المحدث قال :
" ينكت في اذنه فيسمع طنينا
كطنين الطست ، أو يقرع على قلبه فيسمع
وقعا كوقع السلسلة يقع في الطست " .
فقلت : نبي ؟
فقال ( عليه السلام ) : " لا ،
مثل الخضر وذي القرنين " ( 5 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام )
قال : " ان منا لمن يعاين معاينة ، وان منا لمن ينقر
في قلبه كيت وكيت ، وان منا لمن يسمع
كما يقع السلسلة كله يقع في الطست " .
قال : قلت : فالذين يعاينون ما هم ؟
قال : " خلق أعظم من جبرئيل
وميكائيل " ( 6 ) .
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق ( عليه
السلام ) : قلت له : وكيف العلم في غيرها
أيشق القلب فيه أم لا ؟
‹
صفحة 89 ›
قال ( عليه السلام ) : " لا يشق
، لكن الله يلهم ذلك الرجل بالقذف في القلب حتى يخيل
إلى الاذن انه تكلم بما شاء الله علمه
، والله واسع عليم " ( 1 ) .
وفي حديث صحيح عن الحرث قال : قلت
لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما علم عالمكم
جملة يقذف في قلبه وينكت في اذنه ؟
قال : فقال : " وحي كوحي أم موسى
" ( 2 ) .
*
أقول : وروايات القذف والنكت كثيرة جدا وفيها الصحاح ( 3 ) .
‹
صفحة 91 ›
*
الطائفة السادسة :
ان علمهم ( عليهم السلام ) بالإلهام
*
أقول : تقدم في الطائفة السابقة بعض الروايات الدالة عليه .
وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) في
حديث طويل جاء فيه : " ان العبد إذا اختاره الله
عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك
وادع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم
إلهاما فلم يعي بعده بجواب " ( 1
) .
وعن الإمام الكاظم ( عليه السلام )
عندما سئل عن علمهم قال : " قد يكون سماعا
ويكون إلهاما ، ويكونان معا " (
2 ) .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
: " أعطاني الله خمسا وأعطى عليا خمسا - وعد منها :
"
وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام " ( 3 ) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
" والأوصياء قد ألهموا إلهاما من العلم علما جما ، مثل
جم الغفير " ( 4 ) .
ومن أدعية الإمام زين العابدين ( عليه
السلام ) : " اللهم صل على محمد وآله وألهمني
علم ما يجب لهما علي إلهاما واجمع لي
علم ذلك كله تماما " ( 5 ) .
‹
صفحة 93 ›
*
الطائفة السابعة :
في أنهم ( عليهم السلام ) محدثون
فعن ابن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد
الله ( عليه السلام ) : انا نقول إن عليا لينكت في
قلبه أو ينقر في صدره واذنه ؟
قال ( عليه السلام ) : " ان عليا
كان محدثا " .
قال : فلما أكثرت عليه قال ( عليه
السلام ) : " ان عليا يوم بني قريظة وبني النضير كان
جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره
يحدثاه " ( 1 ) .
ورواه المفيد بلفظ : " ولما رآني
قد كبر علي قوله قال . . . " ( 2 ) .
*
أقول : نزول جبرائيل وميكائيل على الإمام علي ( عليه السلام ) في كل الحرب من
الأمور المتواترة ، خاصة من حديث
الإمام الحسن ( عليه السلام ) عند خطبته بعد استشهاد
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما
يأتي في الطائفة الثامنة .
وقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) :
" ما ضرب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بسيفه ذي الفقار
أحدا فنجا ، وكان إذا قاتل ، قاتل
جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك
الموت بين يديه " ( 3 ) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
" ان عليا والحسن كانا محدثين " ( 4 ) .
وفي رواية : " عليا والحسن
والحسين " ( 5 ) .
‹
صفحة 94 ›
وفي رواية زاد : " وفاطمة كانت
محدثة " ( 1 ) .
*
أقول : الرواية مستفيضة في كون علي محدثا ( 2 ) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي الحسن (
عليه السلام ) : " الأئمة علماء صادقون مفهمون
محدثون " ( 3 ) .
وقال العلامة المجلسي : الأخبار
متواترة في أنهم عليهم السلام محدثون ( 4 ) .
وهو كما قال ( 5 ) .
هذا ، واعلم أن المراد بالمحدث في
الروايات أنهم يحدثون عن الله تعالى ، كما
روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام )
أنه قال في الحديث الذي روي فيه أن سلمان محدثا
قال : " انه كان محدثا عن امامه
( عليه السلام ) لا عن ربه ، لأنه لا يحدث عن الله إلا الحجة "
(
6 ) .
‹
صفحة 95 ›
حقيقة علم آل محمد ( عليهم السلام )
وجهاته
*
الطائفة الثامنة :
ان علمهم ( عليهم السلام ) بواسطة
الوحي وجبرائيل
منها : الحديث المتواتر عن الإمام
الحسن ( عليه السلام ) في أول خطبة خطبها بعد
استشهاد أمير المؤمنين ( عليه السلام
) قال : " لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعطيه الراية فيقاتل
جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره
" ( 1 ) .
*
أقول : تقدم في الطائفة السابعة انه كان ينزل ويحدثه لا فقط نزل لنصرته ،
وأخرج أحمد نزول جبرائيل وميكائيل
وإسرافيل للسلام على علي ليلة بدر ( 2 ) .
وتقدم حديث الإمام الصادق ( عليه
السلام ) الصحيح السند في علمهم انه : " وحي
كوحي أم موسى " ( 3 ) .
وعن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام )
: " انه محدث كصاحب سليمان وموسى وذي
القرنين " ( 4 ) .
وعنه ( عليه السلام ) قال : "
بيت علي وفاطمة من حجرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسقف بيتهم
عرش رب العالمين ، وفي قعر بيوتهم
فرجة مكشوفة إلى العرش معراج الوحي ،
والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحا
ومساء ، وفي كل ساعة وطرفة عين ، والملائكة
لا ينقطع فوجهم فوج ينزل وفوج يصعد .
وان الله تبارك وتعالى كشط لإبراهيم
عن السماوات حتى أبصر العرش ، وزاد
الله في قوة ناظره ، وان الله زاد في
قوة ناظرة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين
‹
صفحة 96 ›
صلوات الله عليهم أجمعين ، وكانوا
يبصرون العرش ولا يجدون لبيوتهم سقفا غير
العرش " ( 1 ) .
*
أقول : لا يتوهم أحد ان كثرة نزول الملائكة هو حاجة آل محمد ( عليهم السلام )
إليهم ، وإلا لفضلوا عليهم ، وهو خلاف
الأدلة والاجماع من فضل آل محمد ( عليهم السلام )
على الملائكة وجبرئيل ( 2 ) .
نعم ، القول انهم سفراء الله تعالى
لنقل أخبار أو تأكيدها ، أو أي هدف آخر
لا بأس به .
وان كان الذي يقوى في النفس انها تنزل
لخدمتهم أو للتبرك بهم وبصبيانهم ،
وقد دلت عليه بعض الروايات ليس هذا
موضع تفصيلها ( 3 ) .
منها ما عن أبي عبد الله ( عليه
السلام ) في الحديث عن كثرة الملائكة : " وما منهم أحد
إلا ويتقرب كل يوم إلى الله بولايتنا
أهل البيت " ( 4 ) .
وفي رواية : " ان جبرئيل زيد في
جماله لأنه تشرف وأصبح من آل
محمد ( عليهم السلام ) " ( 5 ) .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
: " قال جبرائيل : يا رب فاني أسألك بحقهم عليك إلا
جعلتني خادمهم .
قال تعالى : قد جعلتك .
فجبرائيل ( عليه السلام ) من أهل
البيت وانه لخادمنا " ( 6 ) .
‹
صفحة 97 ›
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : "
. . فان الملائكة لخدامنا " ( 1 ) .
*
أقول : تقدم في الكتاب الأول أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) علم حملة العرش ،
وأنهم ( عليهم السلام ) الذين علموا
الملائكة التسبيح والتقديس ، وأن عليا ( عليه السلام ) هو معلم
جبرائيل ، فكان له عليه حق التعليم (
2 ) .
*
وعن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : " ان فاطمة ( عليها السلام ) مكثت
بعد رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة
وسبعين يوما ، وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل يأتيها
فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيب نفسها
ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما
يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي يكتب
ذلك فهذا مصحف فاطمة " ( 3 ) .
وعنه ( عليه السلام ) في رواية صحيحة
رواها الكليني والصفار حول الجامعة والجفر
ومصحف فاطمة ( عليها السلام ) قال :
" وان عندنا لمصحف فاطمة ، وما يدريهم ما مصحف
فاطمة ؟ !
قال : مصحف فيه مثل قرآنكم وثلاث مرات
، والله ما فيه من قرآنكم حرف
واحد ، انما هو شئ أملاها الله وأوحى
إليها " . وبالهامش وفي نسخة : " أملاء الله
تعالى " ( 4 ) .
وفي رواية : " ما هو قرآن ،
ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها " ( 5 ) .
وفي ثالثة : " انما هو شئ القي
عليها بعد موت أبيها صلوات الله عليهما " ( 6 ) .
‹
صفحة 98 ›
وعن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام )
في حديث طويل : " هؤلاء أهل بيت أكرمهم الله
بسره وشرفهم بكرامته وأعزهم بالهدى
وثبتهم بالوحي " ( 1 ) .
وعنه ( عليه السلام ) في حديث طويل :
" وإليهم نفث ( بعث ) الروح الأمين .
وفي رواية عن الإمام علي ( عليه السلام
) في وصف الأئمة : " وإليهم بعث الأمين
جبرائيل " ( 2 ) .
وكثرت الرواية عنهم انهم : "
مهبط الوحي " ( 3 ) .
وفي حديث : " نحن ولاة أمر الله
وورثة وحي الله " ( 4 ) .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) :
" فليذهب الحسن يمينا وشمالا لا يوجد العلم إلا عند
أهل العلم [ أهل البيت ] الذين نزل
عليهم جبرائيل " ( 5 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" فليشرق الحكم [ بن عتيبة ] وليغرب ، أما والله لا
يصيب العلم - وفي رواية : لا يوجد -
إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرائيل " ( 6 ) .
وعن عمر بن يزيد قال : قلت : لأبي عبد
الله ( عليه السلام ) الذي أملاه جبرائيل على
علي ( عليه السلام ) أقرآن هو ؟
قال ( عليه السلام ) : " لا
" ( 7 ) .
ويدل على هذه الطائفة روايات نزول
الملائكة عليهم وإتيانها بالأخبار
إليهم ( 8 ) .
‹
صفحة 99 ›
بتقريب عدم انحصار الوحي بجبرائيل ،
أو لكون جبرائيل من الملائكة
بالجملة ، فنزولها عليهم نزول
لجبرائيل ( عليهم السلام ) .
وسوف يأتي في الطائفة التاسعة حديث :
" انا منا لمن يعاين معاينة وانه خلق
أعظم أو أكبر من جبرائيل وميكائيل
" .
وهناك روايات كثيرة منها ما هو صريح
في نزول جبرائيل وميكائيل ، ومنها
أنهما تراءيا لهم ( 1 ) .
*
ومما يؤكد هذه الطائفة قوله تعالى : * ( وجعلناهم أئمة ، وأوحينا إليهم فعل
الخيرات ) * ( 2 ) ، فقد ورد انهم
المرادون بهذه الآية ، كما تقدم في أدلة الولاية
التكوينية من القرآن ( 3 ) .
ومنها : ما روي عن أبي جعفر ( عليه
السلام ) قال في قوله تعالى : * ( وجعلناهم أئمة
يهدون بأمرنا ) * قال أبو جعفر ( عليه
السلام ) : " يعني الأئمة من ولد فاطمة يوحى إليهم
بالروح في صدورهم " ( 4 ) .
*
أقول : بعد قراءتك لهذه الروايات المتكثرة ، وقول العلماء بإمكان الوحي
لغير الأنبياء ، كأم موسى ومريم
وغيرها ( 5 ) ، يتضح ان نسبة نفي الوحي عن آل
محمد ( عليهم السلام ) إلى الشيخ
الأجل المفيد غير صحيحة ، جاء في كتابه أوائل المقالات :
(
وانما منعت نزول الوحي عليهم والايحاء بالأشياء إليهم ، للاجماع على المنع من
ذلك والاتفاق على أنه من يزعم أن أحدا
بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر ) ( 6 ) .
فهو بعد اعترافه بالايحاء لام موسى
منع الايحاء لآل محمد ( عليهم السلام ) ، مع
‹
صفحة 100 ›
الاعتراف انه ممكن عقلا .
وسبب عدم صحة هذه النسبة الروايات
المتقدمة .
واما تكفير من يقول به فغير صحيح ،
فكأنه وقع التباس بين الايحاء المساوي
والمساوق للنبوة ، وبين الايحاء غير
المساوي له ، فالاجماع قائم على حرمة الوحي
بعد نبينا ( صلى الله عليه وآله )
المساوق لنبوة الموحى إليه ، اما ادعاء الوحي لغير الأنبياء كوحي أم
موسى فهو خارج عن إجماعهم .
ولسنا في صدد إثبات كرامات لآل محمد (
عليهم السلام ) بسبب نزول الوحي عليهم ،
إذ ما نعتقد به انهم أفضل من جبرائيل
الذي ينزل عليهم بالوحي ، بل هم غير
محتاجين إلى وحي جبرائيل لغناهم بالله
تعالى .
نعم ان كان المراد كونه واسطة بينهم
وبين الله فالروايات أثبتت على أنهم
كانوا يوافون العرش كل ليلة جمعة ولا
يرجعون إلا بعلم مستفاد ، وأنهم كانوا
يحدثون عن الله مباشرة وبغير وحي ،
كما يأتي في الطائفة العاشرة ، فأية حاجة قد
تدعى لنزول جبرائيل ( عليه السلام )
عليهم ( عليهم السلام ) ؟ ! .
‹
صفحة 101 ›
*
الطائفة التاسعة :
ان علمهم ( عليهم السلام ) بواسطة
الروح
قال أبو حمزة : سألت أبا عبد الله (
عليه السلام ) عن العلم أهو علم يتعلمه العالم من
أفواه الرجال ، أم في الكتاب عندكم
تقرؤونه فتعلمون منه ؟
قال ( عليه السلام ) : " الأمر
أعظم من ذلك وأوجب ، أما سمعت قوله تعالى : * ( وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت
تدري ما الكتاب ولا الايمان ) * . . . بلى قد كان
في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان
، حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في
الكتاب ، فلما أوحاها إليه علم بها
العلم والفهم ، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى
من شاء ، فإذا أعطاها عبدا علمه الفهم
" ( 1 ) .
*
أقول : لا يستفاد من هذه الرواية ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان قبل النبوة
أو البعثة لا
يدري ما الكتاب والايمان ذلك أن
الرواية لم تحدد متى أوحى الله تعالى إليه الروح
التي علم بها ، فلعله أوحاها إليه في
عالم الأنوار كما تقدم في الحديث المشهور : "
نبئت وآدم بين الطين والماء " .
وعنه ( عليه السلام ) في حديث صحيح في
قوله تعالى : * ( وكذلك أوحينا إليك روحا
من أمرنا ) * قال : " خلق من خلق
الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان
مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
يخبره ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده " ( 2 ) .
وفي رواية جاءت بلفظ : " هو مع الأئمة
يفقههم " ( 3 ) .
وفي رواية زاد : " وهو من
الملكوت " ( 4 ) .
‹
صفحة 102 ›
*
أقول : روايات الروح الآمرية وانه مع الأئمة كثيرة فلتراجع ( 1 ) .
وفي الحديث الصحيح عن علي بن الحسين (
عليهما السلام ) عندما سئل بما تحكمون ؟
قال ( عليه السلام ) : " بحكم
الله وحكم داود ، فإذا ورد علينا شئ ليس عندنا تلقانا به
روح القدس " .
وزاد في رواية : " تلقانا به روح
القدس وألهمنا الله إلهاما "
وفي ثالثة : " ان الأوصياء
محدثون يحدثهم روح القدس ولا يرونه ، وكان
علي ( عليه السلام ) يعرض ما يسأل عنه
فيوجس في نفسه أن قد أصبت بالجواب ، فيخبر
فيكون كما قال " ( 2 ) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
" ان الله خلق الأنبياء والأئمة على خمسة أرواح : روح
القوة وروح الايمان وروح الحياة وروح
الشهوة وروح القدس ، فروح القدس من
الله ، وسائر هذه الأرواح يصيبها
الحدثان ، فروح القدس لا يلهو ولا يتغير ولا
يلعب ، وبروح القدس علموا - يا جابر -
ما دون العرش إلى ما تحت الثرى " ( 3 ) .
وفي رواية أبي عبد الله ( عليه السلام
) زاد : " فإذا قبض النبي ( صلى الله عليه وآله ) انتقل روح القدس
فصار في الإمام ، وروح القدس لا ينام
ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو . . . وروح القدس
ثابت يرى به ما في شرق الأرض وغربها
وبرها وبحرها " .
قلت : جعلت فداك يتناول الإمام ما
ببغداد بيده ؟
قال : " نعم ، وما دون العرش
" ( 4 ) .
وعن علي بن موسى الرضا ( عليهما
السلام ) قال : " ان الله أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة
‹
صفحة 103 ›
ليست بملك ، لم تكن مع أحد ممن مضى
إلا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي مع الأئمة منا
تسددهم وتوفقهم ، وهو عمود من نور
بيننا وبين الله " ( 1 ) .
وعن الإمام العسكري ( عليه السلام ) :
" هذا روح القدس الموكل بالأئمة عليهم السلام
يوفقهم ويسددهم ويزينهم بالعلم "
( 2 ) .
‹
صفحة 105 ›
علم آل محمد ( عليهم السلام ) مباشرة
من الله
*
الطائفة العاشرة :
ان علمهم بلا واسطة بل من الله
بالمباشرة
*
ويدل عليه آيات وروايات :
فمن الآيات :
قوله تعالى :
*
( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) *
فعن جعفر بن محمد الصادق ( عليهما
السلام ) في قوله تعالى : * ( فأوحى إلى عبده ما
أوحى ) * قال : " أوحى إليه بلا
واسطة " .
ونحوه عن الواسطي ( 1 ) .
وفي تفسير القمي : * ( فأوحى إلى عبده
ما أوحى ) * قال : " وحي مشافهة " ( 2 )
.
ومنها قوله تعالى :
*
( وعلمك ما لم تكن تعلم ) * ( 3 ) .
وقوله تعالى :
*
( علمه شديد القوى ) * ( 4 ) .
وهذا نص صريح أن الذي علمه هو الله
تعالى بالمباشرة ، وقد تقدم الكلام
فيهما في العلم اللدني فراجعه .
‹
صفحة 106 ›
ومنها قوله تعالى :
*
( ورحمتي وسعت كل شئ ) * ( 1 )
وقد تقدم حديث الإمام الباقر في
تفسيرها بقوله : " علم الإمام ، ووسع علمه
الذي هو من علمه كل شئ " ( 2 ) .
وهو صريح في المباشرية في العلم .
ومنها قوله تعالى :
*
( وكل شئ أحصيناه كتابا ) * .
*
( وكل شئ أحصيناه في امام مبين ) *
وسوف يأتي في علم الغيب شرحهما .
ومنها قوله تعالى :
*
( الرحمن علم القرآن علمه البيان ) *
وتقدم الكلام فيها في العلم اللدني .
‹
صفحة 107 ›
*
ومن الروايات :
ما تقدم في الطائفة الخامسة : "
ان منا لمن يعاين معاينة " ( 1 ) .
منها ما قاله الصادق ( عليه السلام )
: " ان منا لمن يعاين معاينة ، وان منا لمن ينقر في
قلبه كيت وكيت ، وان منا لمن يسمع كما
يقع السلسلة كله يقع في الطست " .
قال : قلت : فالذين يعاينون ما هم ؟
قال : " خلق أعظم من جبرئيل
وميكائيل " ( 2 ) .
فعلى أن المعاينة لغير جبرائيل ( عليه
السلام ) تكون على وزان روايات : " فأوحى اليه
وحي مشافهة " .
وعن معاذ عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) قال : " سبق العلم وجف القلم ومضى القدر
بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل " .
إلى أن قال ( صلى الله عليه وآله ) :
" عن الله أروي حديثي : ان الله تبارك وتعالى يقول يا بن
آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك
ما تشاء " ( 3 ) .
وعن عبد الله بن عمر قال : " ان
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يروي حديثه عن الله
عز وجل " ( 4 ) .
وقد عنون البخاري في صحيحة عنوانا :
" باب ذكر النبي وروايته عن ربه " .
وأخرج ثلاثة أحاديث :
عن قتادة عن أنس عن النبي يرويه عن
ربه قال : " إذا تقرب العبد إلي شبرا
تقربت اليه ذراعا " ( 5 ) .
‹
صفحة 108 ›
وعن محمد بن زياد نحوه قال : " .
. عن النبي يرويه عن ربكم . . " ( 1 ) .
وعن ابن عباس عن النبي فيما يرويه عن
ربه قال " لا ينبغي لأحد أن يقول إنه
خير من يونس " ( 2 ) .
قال القسطلاني بعد ذكر هذه الأحاديث
الثلاثة : ( قال الكرماني : الرواية
عن الرب أعم من أن تكون قرآنا أو غيره
بالواسطة أو بدونها ، لكن المتبادر إلى
الذهن المتداول على الألسنة كان بغير
الواسطة ) ( 3 ) .
وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني قول
الكرماني بلفظ : ( الرواية عن الرب
أعم من أن تكون قرآنا أو غيره بدون
الواسطة ، وان كان المتبادر هو ما كان بغير
الواسطة والله أعلم ) ( 4 ) .
وقال القاضي عياض : اعلم أن الله جل
اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب
عباده والعلم بذاته وأسمائه وصفاته
وجميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ( 5 ) .
وقال الإمام الجواد ( عليه السلام )
لمن سأله عن كيفية العلم بالمغيب :
"
نحن من علم الله علمنا ، وعن الله نخبر " ( 6 ) .
وعن سالم بن أبي حفصة قال : لما هلك
أبو جعفر محمد بن علي الباقر ( عليه السلام )
‹
صفحة 109 ›
قلت لأصحابي : انتظروني حتى أدخل على
أبي عبد الله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) فأعزيه
به .
فدخلت عليه فعزيته ثم قلت : انا لله
وإنا إليه راجعون ، ذهب والله من كان
يقول : " قال رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) " فلا يسأل عن من بينه وبين رسول الله ، لا والله لا
يرى مثله أبدا .
قال : فسكت أبو عبد الله ( عليه
السلام ) ساعة ثم قال : " قال الله تعالى : ان من عبادي
من يتصدق بشق تمرة فأربيها له "
.
فخرجت إلى أصحابي فقلت : ما رأيت أعجب
من هذا ، كنا نستعظم قول أبي
جعفر ( عليه السلام ) : " قال
رسول الله . . " بلا واسطة ، فقال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : "
قال الله
تعالى . . " بلا واسطة ( 1 ) .
*
أقول : لا يقال غاية الحديث ان الإمام الباقر ( عليه السلام ) لم يكن يسأل عن
سلسلة
الحديث ورواته عن رسول الله ، وذلك
لصدقه فكذلك الإمام الصادق ( عليه السلام ) .
لأنا نقول : ان صدق الإمام الباقر (
عليه السلام ) وعدم اتهامه على أحاديث رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) من
الأمور المسلمة خاصة عند الشيعة ، بل الأمر كذلك في كل أهل
البيت ( عليهم السلام ) .
فليس لكلامه محصل ، لأن الإمام علي (
عليه السلام ) لا يسأل عن الواسطة والحسن
والحسين وزين العابدين ( عليهم السلام
) كذلك ، وهكذا بقية الأئمة ، لذا لابد أن يحمل قول
الراوي : " بلا واسطة " انه
كان يعتقد ان الإمام الباقر ( عليه السلام ) يروي مباشرة عن
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وهكذا في الإمام الصادق ( عليه السلام
) فإنه يروي عن الله بلا واسطة ولا يتهم بذلك .
وسوف يأتي رواية النبي الأعظم ( صلى
الله عليه وآله ) عن الله بلا واسطة .
-
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في حديث المناجاة المشهور قال لمن اعترض
عليه
‹
صفحة 110 ›
كيف يناجي يوم الطائف عليا ( عليه
السلام ) : " ما أنا انتجيته بل الله تعالى انتجاه " ( 1 ) .
وفي بعض الروايات : " بل الله
ناجاه " ( 2 ) .
وفي رواية : " ما أنا بمناجي له
، انما يناجي ربه " ( 3 ) .
وعن حمران بن أعين قال : قلت لأبي عبد
الله ( عليه السلام ) : جعلت فداك بلغني ان الله
تبارك وتعالى قد ناجى عليا ( عليه
السلام ) .
قال ( عليه السلام ) : " أجل قد
كان بينهما مناجات بالطايف نزل بينهما جبرئيل " ( 4 ) .
وفي رواية عن أبي رافع عن رسول الله (
صلى الله عليه وآله ) : " نعم يا رافع ، ان الله ناجاه
يوم الطايف ويوم عقبة تبوك ويوم حنين
- وفي نسخة : خيبر " ( 5 ) .
وعنه ( عليه السلام ) قال : "
قال رسول الله لعلي : ان الله يوصيك ويناجيك .
قال : فناجاه يوم براءة قبل الصلاة
الأولى إلى صلاة العصر " ( 6 ) .
وعنه ( عليه السلام ) : " ان
الله ناجى عليا يوم غسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) " ( 7 ) .
*
أقول : والروايات كثيرة في مناجات الله لعلي عند الفريقين فلا تغفل ، بل
تكاد تصل إلى حد التواتر .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في
حديث طويل جاء فيه : " والإمام يجب أن يكون
عالما لا يجهل . . فهو في البقية من
إبراهيم . . . والرضى من الله ، والقول عن الله " ( 8 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" نحن من شجرة طيبة برأنا الله من طينة واحدة
‹
صفحة 111 ›
فضلنا من الله ، وعلمنا من عند الله
" ( 1 ) .
ويؤيده ما تقدم في الجهة الثالثة عروج
الإمام ( عليه السلام ) كل ليلة جمعة إلى العرش
ولا يرجع إلى بعلم مستفاد .
وقال الحسن ( عليه السلام ) لعائشة
عندما سألته كيف عرفت ما كان بيني وبين
النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قال : " هذا من علم الله "
( 2 ) .
وفي الروايات ما يقول : " ان
الله أعطاه علمه " ونحوها من التعابير ( 3 ) .
وتقدمت رواية مصحف فاطمة ( عليها
السلام ) الصحيحة الذي فيها : " هو شئ أملاها
الله وأوحى إليها " ، وفي رواية
: " ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها " ( 4 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" ان لله عامودا من نور حجبه الله عن جميع الخلائق ،
طرفه عند الله وطرفه الآخر في اذن
الإمام ، فإذا أراد الله شيئا أوحاه في اذن
الإمام " ( 5 ) .
وفي لفظ : " هو عامود من نور
بيننا وبين الله " ( 6 ) .
*
أقول : وروايات عامود النور الذي بين الإمام وبين الله كثيرة تقدم بعضها ،
وكلها تفيد أن لا واسطة بين الله
تعالى وبين الإمام ( عليه السلام ) في الاستلهام من العلم
الملكوتي ( 7 ) .
وعن علي بن موسى الرضا ( عليهما
السلام ) قال : " ان الله أيدنا بروح منه مقدسة
‹
صفحة 112 ›
مطهرة ليست بملك ، لم تكن مع أحد ممن
مضى إلا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي مع
الأئمة منا تسددهم وتوفقهم ، وهو عمود
من نور بيننا وبين الله " ( 1 ) .
فهنا فسر العامود بالروح .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في
خطبة له : " انا أهل بيت من علم الله علمنا ومن
حكم الله الصادق قلنا ، ومن قول
الصادق سمعنا " ( 2 ) .
‹
صفحة 113 ›
الترجيح بين الطوائف العشر
هذه مجموع الروايات التي تتحدث عن
مصدر ومنبع علم آل محمد ، وكما
عرفت اخترنا منها ما يدل على المقصود
وصنفناها على طوائف عشر خلاصتها : ان
منبع ومصدر علمهم :
1
- القرآن . 2 - ليلة القدر . 3 - عامود النور . 4 - وراثة من النبي .
5
- القذف والنقر . 6 - الإلهام . 7 - التحديث . 8 - الوحي وجبرائيل .
9
- الروح . 10 - من الله مباشرة .
والذي يقوى في النفس ان أرجح
الاحتمالات هو الاحتمال العاشر ، وذلك
لأمور :
أن روايات بابه كثيرة تصل بمجموعها مع
تأييدها بالآيات إلى حد التواتر
المعنوي .
وأيضا هذا الاحتمال يتناسب مع ما تقدم
من الأبحاث السابقة ، فمثلا في الجهة
الرابعة رجحنا ان علمهم لدني ، وهذا
يتناسب مع الاحتمال العاشر ولا يتناسب مع
البقية ، إلا إذا أرجعنا بعضها إلى
الاحتمال العاشر ، كالقذف والالهام والتحديث
والوحي والروح ، فعلمهم يكون من الله
مباشرة ، ولكن المباشرية تريد لا أقل ما
يدل عليها أو يشير إليها ، فيكون
القذف والإلهام والتحديث ونحوها إشارة إلى أن
علمهم من الله تعالى .
وكذلك بالنسبة للجهة الخامسة الآتية ،
فان المرجح فيها ان علمهم حصل
دفعة واحدة لا على دفعات ، وهو لا
يتناسب إلا مع الاحتمال العاشر .
وعليه فتكون نفس الأدلة التي دلت على
أن علمهم لدني ودفعة واحدة ، دليلا
على أن علمهم من الله تعالى بلا توسط
معلم .
ومن هنا لا بد من توجيه بقية
الاحتمالات ، وتفسير قول النبي وأهل
بيته ( عليهم السلام ) في التركيز على
القرآن والوحي وانتظار جبرائيل ونحوها من الأمور .
-
اما روايات القرآن الكريم ، فمما لا شك فيه أن النبي وأهل بيته لابد أن
‹
صفحة 114 ›
يركزوا على الدستور والقانون الأساسي
للإسلام ، وكونه دستورا كاملا شاملا كما
قال تعالى : * ( ما فرطنا في الكتاب
من شئ ) * وسوف يأتي في الجهة السادسة ان
القرآن فيه كل العلوم التي عند آل
محمد ( عليهم السلام ) ، وهو لا ينافي ان علمهم من الله العزيز
القدير .
والدليل على ذلك أن الأئمة عندما
كانوا يسألون عن علمهم ، كانوا يقولون :
نعلم ما كان ويكون ، فإذا اعترض عليهم
أو لم يتحمله البعض ، قالوا : علمناه من
كتاب الله ( 1 ) .
وقد تقدمت هذه الروايات في الجهة
الأولى .
-
واما روايات ان علمهم من ليلة القدر ، فإنهم كانوا يسألون عن ليلة القدر
على من تنزل وما هي ؟ .
فيجيب الإمام ( عليه السلام ) : انها
تنزل بأمر كل شئ أو مقادير تلك السنة ، فيسألون
على من تنزل ؟
أي من الأولى الذي تنزل عليه ليلة
القدر .
فكان الإمام ( عليه السلام ) يقول على
آل محمد أو على إمام الزمان .
لذا نجد في بعضها قال الإمام ( عليه
السلام ) : " من ترى يا عاجز ! ! " كما قدم .
ويحتمل ان الإمام أراد أن يثبت
إمامتهم بليلة القدر ، وان الذي تنزل عليه
ليلة القدر ويعلم كل أمر حكيم هو
الإمام المفترض الطاعة ، وهو منحصر بآل
محمد ( عليهم السلام ) ، فتكون من ضمن
الأدلة على إمامتهم .
هذا ويحتمل أيضا ان السائل لم يكن
ليتحمل أكثر من هذا الجواب ليعطيه
الإمام ( عليه السلام ) .
-
اما روايات عامود النور ، فهي اما ترجع إلى الوحي ، واما إلى الروح ، كما
في رواية الإمام الرضا ( عليه السلام
) في الطائفة التاسعة ( 2 ) .
‹
صفحة 115 ›
وإما إلى الاحتمال العاشر الصحيح ،
لأن العامود من نور كناية عن طريقة
إرسال الله عز وجل العلم لآل محمد (
عليهم السلام ) .
بل روايات العامود دليل على الاحتمال
العاشر ، لأنها تنفي وجود الواسطة
بين الإمام وبين مصدر علم الباري عز
وجل ، فتأمل .
-
واما روايات الوراثة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فهي للتأكيد على أنهم
أولى
برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من
غيرهم ، لذا كانوا يستدلون على إمامتهم وأولويتهم بسلاح
رسول الله وبعض مختصاته ، وذلك
للتأكيد على القرب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ،
والمسألة واضحة لمن تأمل كلام أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) في احتجاجه على أبي بكر وعمر
يوم البيعة ، أو احتجاجه يوم الشورى (
1 ) .
-
واما روايات القذف ، فهي إما ترجع للإلهام ، واما للاحتمال العاشر ، لأن
القذف عبارة عن الطريق لوصول علم الله
إلى آل محمد ( عليهم السلام ) .
-
واما روايات الإلهام والتحديث فهي مؤيدة للاحتمال العاشر ، إذ الإلهام لا
يكون إلا من الله مباشرة ، وكذلك
كونهم محدثين كما روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام )
أنه قال في الحديث الذي روي فيه أن
سلمان محدثا قال : " انه كان محدثا عن
امامه ( عليه السلام ) لا عن ربه ،
لأنه لا يحدث عن الله إلا الحجة " ( 2 ) .
-
واما روايات الوحي وجبرائيل ، فمن المسلم بالنسبة لروايات أهل
البيت ( عليهم السلام ) ان يقولوا ان
علمهم من الوحي وجبرائيل ، لأن علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) من
جبرائيل أو من الوحي بنص القرآن * (
إن هو إلا وحي يوحى ) * * ( نزل به الروح
الأمين على قلبك ) * ولن يكون آل محمد
بأفضل من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وعليه فالكلام لابد أن ينصب على سبب
ابراز علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) انه من الوحي
وجبرائيل فنقول :
‹
صفحة 116 ›
*
كانت الناس في الجاهلية الجهلاء ، ولن تتحمل نسبة العلم إلى النبي ( صلى الله عليه
وآله )
بلا توسط الوحي بينه وبين الله ، إما
لأن عادة ان الأنبياء يوحى إليهم .
واما لقرب عهدهم بالجاهلية وعدم
معرفتهم المعرفة الحقيقية للنبي الأعظم ،
حتى أنهم كانوا ينادونه من وراء
الحجرات باسمه .
وهم ، مع أنه ( صلى الله عليه وآله )
أبرز لهم مسألة الوحي ، كذبوه وقالوا : هذا من عنده ، أو
من عند سلمان الفارسي .
فكيف لو لم يبرز لهم الوحي وجبرائيل (
عليه السلام ) ! ؟ .
وما يشير إلى ذلك أن النبي ( صلى الله
عليه وآله ) عندما كان يأتيه الوحي ، كان يقول جاء
جبرائيل ، وذهب جبرائيل ، وأخبرني
جبرائيل عن الله تعالى ، وما شابه ذلك ، وما
ذاك إلا للتأكيد أن هناك إلها ودينا
وإسلاما ورسالة من السماء .
ومن هنا نفهم الآيات والروايات التي
تحدثنا ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يعطي
الجواب حتى ينزل الوحي ، فهو كان يعلم
الجواب ، ولكن يريد أن يغرز في نفوسهم
فكرة الوحي من السماء .
قال تعالى : * ( ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه ) * ( 1 ) .
فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل أن
ينقضي الوحي من السماء عليه ، كان مستعدا أن يقرأ على
الناس القرآن ، بل تقدم علمه للقرآن
منذ عالم الأنوار .
ونسبة العجلة للنبي ( صلى الله عليه
وآله ) لم يكن المراد بها حتى أن التوقيت غير مناسب ، بل
لابراز أن النبي ( صلى الله عليه وآله
) كان يعلم بالقرآن وآياته قبل أن ينزل عليه جبرائيل ،
وبالتالي تكون الآية دليلا على ما
نذكره وذكرناه سابقا أن جبرائيل كان يذكره
بالقرآن تذكيرا لا يجتمع مع النسيان .
ان قيل : يحتمل في الآية ان النبي (
صلى الله عليه وآله ) كان يستعجل بالقرآن فيتلو الآية
الأولى أو مطلعها قبل أن يكملها
جبرائيل أو قبل أن ينتهي من السورة .
قلنا : فعل النبي الأعظم ( صلى الله
عليه وآله ) هذا إما مع التفاته إلى بقية الآيات التي يكملها
جبرائيل ، وإما مع عدم التفاته لها .
‹
صفحة 117 ›
فعلى الأول لا معنى للنهي عن العجلة .
وعلى الثاني يكون النبي مفوتا للوحي
ومضيعا لبعض الآيات ، ولا قائل به
إلا من سفه قوله .
قال الشيخ الطبرسي في الآية : لا تحرك
به لسانك لتعجل قراءته بل كررها
عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون
عن الأدلة ، ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا
إلى زيادة تنبيه وتقرير ( 1 ) .
وقال سيد المفسرين : ويؤول المعنى إلى
أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد ،
لأن عندك علما في الجملة ، لكن لا
تكتف به واطلب من الله علما جديدا بالصبر
واستماع بقية الوحي . وهذه الآية مما
يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا
دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي
( صلى الله عليه وآله ) فلولا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم
يكن لعجلته بقراءة ما لم ينزل منه بعد
معنى ( 2 ) .
وقد أبطل السيد الطباطبائي نسبة عجلة
النبي ( صلى الله عليه وآله ) في القراءة قبل انتهاء
جبرائيل ( 3 ) .
*
أقول : عندي أن معنى الآية : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقرأ القرآن على
الناس أو
كان يبلغ بعض أحكامه ومعانيه للناس
مرة واحدة ، وذلك قبل أن ينزل الوحي
عليه به وقبل أن ينقضي اليه ، فجاء
الخطاب الإلهي ليقول : لا تعجل في تبليغ القرآن
،
وأبلغه للناس حتى قبل نزول جبرائيل به ، أبلغهم إياه بالتأني ليفهموه ويعملوا به ،
ولك أن تقرأه عدة مرات على الناس ولا
داعي للعجلة والاقتصار على المرة ، فان
قلوبهم لم تلن بعد ، واشكر الله ( وقل
رب زدني علما ) لما أتاك علم القرآن قبل أن
ينزل به جبرائيل .
وبذلك ننفي محذور نسبة العجلة إلى
النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
ويشير اليه ما روي عن ابن عباس ضمن
حديث طويل عن رسول الله
‹
صفحة 118 ›
قال ( صلى الله عليه وآله ) : "
. . * ( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) * قال : وسألني ربي فلم
أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا
تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها بين
ثديي فأورثني علم الأولين والآخرين
وعلمني علوما شتى ، فعلم أخذ علي كتمانه إذ
علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري ،
وعلم خيرني فيه ، وعلمني القرآن فكان
جبريل ( عليه السلام ) يذكرني به ،
وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي .
ولقد عاجلت جبريل ( عليه السلام ) في
آية نزل بها علي ، فعاتبي ربي وأنزل علي :
*
( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) * ( 1 ) .
وتقدم الحديث الشريف " في قاب
قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم
الأولين " ( 2 ) .
*
هذا الهدف من التركيز على جبرائيل ، ورأينا كيف ان النبي مع نص القرآن
انه * ( وحي يوحى ) * نجد ان عمر ومن
يدين بدينه ، كيف كذبوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) يوم
الوفاة وقالوا : ان الرجل ليهجر ( 3 )
.
فكيف لو لم يكن التركيز على الوحي
وجبرائيل ؟
والخلاصة : التأمل في صحابة النبي (
صلى الله عليه وآله ) وعدم اعتقادهم في كثير من الأمور
الغيبية يجعل النبي الأعظم لا يصرح
بكل علمه وحقيقة حاله .
وتقدم في مطلع الكتاب سبب اخفاء النبي
( صلى الله عليه وآله ) للعلم الرباني .
-
اما روايات الروح فيجري فيها ما جرى في جبرائيل أو تكون إشارة إلى
الطريق والواسطة لعلم الله تعالى .
لذا قال أبو جعفر ( عليه السلام ) في
قوله تعالى : * ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) * : "
يعني الأئمة من ولد فاطمة يوحي إليهم
بالروح في صدورهم " ( 4 ) .
‹
صفحة 119 ›
فجعل الروح واسطة للوحي النازل على
الصدور .
كيفية حصول علم آل محمد ( عليهم
السلام )
*
الجهة الخامس :
كيفية حصول علم آل محمد ( عليهم
السلام )
وهو مردد بين حصوله لأهل البيت بشكل
تدريجي يوما بيوم أو ساعة
بساعة ، وبين حصوله دفعة واحدة .
ويدل على الاحتمال الأول طائفة من
الروايات منها :
ما رواه أبو بصير قال : قلت لأبي جعفر
( عليه السلام ) بما يعلم عالمكم جعلت فداك ؟
قال ( عليه السلام ) : " يا أبا
محمد ان عالمنا لا يعلم الغيب ولو وكل الله عالمنا إلى نفسه
كان كبعضكم ، ولكن يحدث إليه ساعة بعد
ساعة " ( 1 ) .
وفي رواية عنه ( عليه السلام ) :
" ما من ليلة جمعة إلا وافى رسول الله العرش ووافى
الأئمة ووافيت معهم ، فما ارجع إلا
بعلم مستفاد ، ولولا ذلك لنفذ ما عندي " ( 2 ) .
وفي ثالثة : " لولا انا نزداد
لأنفدنا " ( 3 ) .
ونحو ذلك من الروايات ( 4 ) .
*
أقول : ويدل عليه أيضا ما تقدم من أن منبع علمهم عامود النور أو ليلة
القدر ، وكذلك ما دل على أن علمهم
كسبي حصولي .
فهذه الروايات تفيد أن حصول العلم
عندهم ( عليهم السلام ) كان بشكل تدريجي .
اما الاحتمال الثاني - كونه دفعة
واحدة - فيدل عليه ما تقدم من روايات ان
علمهم ( عليهم السلام ) لدني ، لبداهة
ان حصوله دفعة واحدة من الباري عز وجل .
ويدل عليه أيضا ما تقدم في زمان علمهم
، وانه في عالم الأنوار وقبل الخلق .
‹
صفحة 120 ›
وأيضا ما يأتي في الطائفة السادسة من
علمهم بما هو كان ويكون ، أو علمهم
بالغيب ، أو علمهم بما في اللوح
المحفوظ ، فان كل هذه الطوائف تستلزم ان يكون
حصول العلم لآل محمد ( عليهم السلام )
دفعة واحدة وتنفي كونه تدريجيا كسبيا .
وعليه : فهذا الاحتمال هو المتعين
لتناسبه مع الاحتمالات الصحيحة المتقدمة في
الجهات ، ومع الاحتمالات الصحيحة أيضا
الآتية في بقية الجهات .
اما الاحتمال الأول فإنه لا يتناسب مع
شئ منها ، فهو لا يتناسب مع كون
زمن علمهم كل علمهم عالم الأنوار ،
ولا مع كونه لدنيا ، ولا مع كون منبعه الله تعالى
ووحيه .
وسبب ابراز الأئمة للتدرج بالعلم :
إما للتأكيد على عبوديتهم واحتياجهم لله
تعالى .
واما لعدم تحمل السامعين لأكثر من ذلك
.
واما لإبراز علاقتهم بالله ، وانها
مستمرة يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة .
واما للتأكيد على عروجهم إلى عرش
الرحمن عزة آلاؤه للزيادة كل ليلة جمعة
الدال على الربط المعنوي بالله تعالى
.
هذا وقد تكون المسألة أعمق من ذلك ،
وهو حاجة الممكنات لواجب
الوجود ، وان الممكن في كل آن آن
يحتاج إلى الفيض الدائم من الواجب تعالى
ولولاه لما كان : * ( كلا نمد هؤلاء
وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا
)
* ( 1 ) .
فيكون الهدف أنهم يبرزون أمرا توحيديا
.
‹
صفحة 121 ›
سعة علم آل محمد ( عليهم السلام )
*
الجهة السادسة :
سعة علم آل محمد ( عليهم السلام )
الروايات مختلفة في سعة وضيق علم آل
محمد ، وتمامها في احتمالات :
*
الاحتمال الأول :
انهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ
فعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في
حديث طويل جاء فيه : " أنا صاحب اللوح
المحفوظ ألهمني الله عز وجل علم ما
فيه " ( 1 ) .
وقال في خطبة له من على المنبر :
" أنا اللوح أنا القلم أنا العرش " ( 2 ) .
وفي لفظ عنه ( عليه السلام ) : "
أنا اللوح المحفوظ وأنا القلم الأعلى " ( 3 ) .
وقال النبي الأعظم ( صلى الله عليه
وآله ) لعلي ( عليه السلام ) : " ان الله خلق من نور قلبك ملكا فوكله
باللوح المحفوظ ، فلا يخط هناك غيب
إلا وأنت تشهده " ( 4 ) .
وتقدم ويأتي علمهم بالكتاب كله ، وانهم
المرادون من قوله تعالى :
*
( ومن عنده علم الكتاب ) * هذا ، وقد فسر الكتاب باللوح المحفوظ ( 5 ) .
فيكون المراد * ( من عنده علم الكتاب
) * من عنده علم اللوح المحفوظ ، وهم
آل محمد الأطهار ( عليهم السلام ) على
ما تقدم .
‹
صفحة 122 ›
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" يا مفضل من زعم أن الإمام من آل محمد يعزب
عنه شئ من الأمر المحتوم فقد كفر بما
نزل على محمد " ( 1 ) .
‹
صفحة 123 ›
*
الاحتمال الثاني :
علمهم بالكتاب والقرآن الكريم
*
أقول : تقدم بعض هذه الروايات في الطائفة السابعة من النحو الأول من
أدلة الولاية التكوينية ( 1 ) .
وعن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام )
في تشخيص الإمام : " ولا يسأل عن شئ مما في
الدفتين إلا أجاب عنه " ( 2 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" والله اني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره ، كأنه
في كفي فيه خبر السماء وخبر الأرض ،
وخبر ما كان وخبر ما يكون ، قال الله تعالى :
*
( فيه تبيان كل شئ ) * ( 3 ) .
وفي رواية : " فنحن الذين
اصطفانا الله ، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه
تبيان كل شئ " ( 4 ) .
ويؤيد هذه الطائفة كل ما ورد بأنهم
الراسخون في العلم ( 5 ) .
‹
صفحة 125 ›
*
الاحتمال الثالث :
عندهم علم السماوات والأرض والجنة وكل
غائبة فيهم
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" ان الله أجل وأعظم من أن يحتج بعبد من عباده " .
وفي رواية : ان يفرض طاعة - ثم يخفى
عنه شيئا من أخبار السماء
والأرض " ( 1 ) .
*
أقول : هناك روايات كثيرة بهذا المعنى ذكرها المجلسي في بحاره والكليني في
كافيه والصفار في بصائره ( 2 ) .
وعنه ( عليه السلام ) : " اني
لأعلم ما في السماوات وأعلم ما في الأرضين ، وأعلم ما في
الجنة وأعلم ما في النار ، وأعلم ما
كان ويكون ، ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر
على من سمعه .
فقال : " علمت من كتاب الله ان
الله يقول : * ( فيه تبيان كل شئ ) * ( 3 ) .
وفي حديث طويل عنه ( عليه السلام ) في
خلق الإمام وتحديثه في بطن أمه وولادته
قال :
"
فإذا وضع يده إلى الأرض فإنه يقبض كل علم أنزله الله من السماء إلى
الأرض " ( 4 ) .
وعن أبي الحسن الأول ( عليه السلام )
في حديث طويل جاء فيه : " ان الله يقول : * (
‹
صفحة 126 ›
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في
كتاب مبين ) * ( 1 ) ثم قال جل وعز * ( ثم
أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا
) * ( 2 ) " فنحن الذين اصطفانا الله ، فقد
ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان
كل شئ " ( 3 ) .
وهناك روايات مشابهة ( 4 ) .
‹
صفحة 127 ›
*
الاحتمال الرابع :
علمهم بما هو كائن ويكون
وقد تقدم في الاحتمال الثالث بعض
رواياته .
وقال أبو عبد الله ( عليه السلام )
ابتداء منه : " والله اني لأعلم ما في السماوات والأرض ،
وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة
، ثم قال : اعلمه من كتاب الله انظر إليه هكذا
.
ثم بسط كفيه " ( 1 ) .
وعنه ( عليه السلام ) في كلامه عن
مصحف فاطمة ( عليها السلام ) : " اما انه ليس فيه من الحلال
والحرام ، ولكن فيه علم ما كان وما
يكون وما هو كائن " ( 2 ) .
وعنه ( عليه السلام ) في حديث صحيح عن
الجامعة والجفر والمصحف : " ان عندنا لعلم
ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم
الساعة " .
قلت : جعلت فداك هذا والله هو العلم .
قال : " انه لعلم ، وليس بذاك
" .
قلت : جعلت فداك فأي شئ هو العلم ؟
قال ( عليه السلام ) : ما يحدث بالليل
والنهار ، الأمر بعد الأمر والشئ بعد الشئ إلى
يوم القيامة " ( 3 ) .
*
أقول : مراد الإمام أن يثبت ان العلم ليس بالتعلم والقراءة من الكتب
والمصاحف انما هو ما يحدث لهم بالليل
بإفاضة من الله ، فيكون ( عليه السلام ) يشير إلى العلم
اللدني .
لذا رويت هذه الرواية بنحو آخر : قال
منصور : ان عندكم صحيفة طولها
‹
صفحة 128 ›
سبعون ذراعا فيها ما يحتاج إليه الناس
وان هذا العلم .
فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
" ليس هذا هو العلم انما هو أثر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ،
إن العلم الذي يحدث في كل يوم وليلة
" ( 1 ) .
وهناك روايات مشابهة بذكر التوراة
والإنجيل لا الصحيفة ( 2 ) .
وتقدم حديث كون الإمام أعلم من موسى
والخضر ( عليهما السلام ) لأنهما لم يعطيا علم
ما هو كائن ( 3 ) .
وفي لفظ : " اللهم يا من أعطانا
علم ما مضى وما بقي " ( 4 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما
يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة ،
وهي هذه الآية : * ( يمحو الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب ) * ( 5 ) .
وتبين هذه الرواية علم آل محمد (
عليهم السلام ) بكل ذلك ولكن التحرج في ذكر ذلك
للناس ، من جهة عدم استيعابه أو تحمله
، ولا ينافيه اخباراتهم ببعض ذلك كما تقدم
،
من أجل إبراز سعة علمهم .
أو يقال : أنهم ( عليهم السلام )
يخبرون بما يعلمون أن الله تعالى لا يمحوه .
‹
صفحة 129 ›
*
الاحتمال الخامس :
علمهم بما يحتاج إليه الناس وبأمورهم
تقدم بعض هذه الروايات في الثالث .
وقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
" لا يحتج الله تبارك وتعالى على خلقه بحجة لا يكون
عنده كل ما يحتاجون إليه " ( 1 )
.
والروايات في هذا المضمون كثيرة ( 2 )
.
وقال ( عليه السلام ) : " ان
الله أحكم وأكرم وأجل وأعلم من أن يكون احتج على عباده
بحجة ثم يغيب عنه شيئا من أمرهم
" .
وله ألفاظ أخرى ( 3 ) .
وفي حديث وقد سئل عن حال الإمام أيسأل
عن الحلال والحرام والذي
يحتاج الناس إليه فلا يكون عنده شئ ؟
قال ( عليه السلام ) : " لا ،
ولكن قد يكون عنده ولا يجيب " ( 4 ) .
‹
صفحة 131 ›
*
الاحتمال السادس :
عندهم جوامع العلوم وأصوله
فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
: " أعطاني الله خمسا وأعطى عليا خمسا ، أعطاني
جوامع الكلم وأعطى عليا جوامع العلم
" ( 1 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في
قوله تعالى :
*
( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) * .
قال : " الأئمة خاصة " ( 2
) .
ونحوه عن أبي جعفر ( عليه السلام ) (
3 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" عندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه
وأواخيه ( 4 ) " ( 5 ) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
" انا أهل البيت عندنا معاقل العلم وأبواب الحكم
وضياء الأمر " ( 6 ) .
‹
صفحة 133 ›
*
الاحتمال السابع :
عندهم علم الملائكة وجميع الأنبياء
وكتبهم السابقة
فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال
: " ان الله علمني علما أظهر عليه ملائكته وأنبياءه
ورسله ، فما أظهر عليه ملائكته ورسله
وأنبياءه فقد علمناه ، وعلما استأثر به فإذا بدا
لله في شئ منه أعلمنا ذلك ، وعرض على
الأئمة الذين كانوا قبلنا " ( 1 ) .
ونحوه عن أبي جعفر ( عليه السلام ) .
وله ألفاظ مشابهة ( 2 ) .
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) :
" ان الله جمع لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) علم النبيين بأسره ، وان
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صب
ذلك كله عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) " ( 3 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى
الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى
خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين " ( 4 ) .
وفي حديث ولادة الإمام علي ( عليه
السلام ) وتلاوته كل كتب الأنبياء ومدح النبي له
ما يؤيد هذا الاحتمال ( 5 ) .
*
أقول : الروايات في وراثتهم لعلم الأنبياء كثيرة ( 6 ) .
‹
صفحة 135 ›
*
الاحتمال الثامن :
انهم أعلم من الأنبياء
فعن علي بن الحسين ( عليهما السلام )
قال : " علمت والله ما علمت الأنبياء والرسل " .
ثم قال لي : " أزيدك ؟ " .
قلت : نعم .
قال : " ونزاد ما لم تزد
الأنبياء " ( 1 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" ان الله خلق أولي العزم من الرسل وفضلهم بالعلم
وأورثنا علمهم وفضلنا عليهم في علمهم
، وعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما لم يعلموا وعلمنا
علم الرسول وعلمهم " ( 2 ) .
*
أقول : الروايات كثيرة في تفضيلهم على الأنبياء جميعا ، وبعضها يفضلهم
على بعض الأنبياء ( 3 ) .
وتقدم نحوها في العلم اللدني .
ويؤيد هذه الروايات روايات توسل
الأنبياء بآل محمد ( عليهم السلام ) والتي تقدم
بعضها في مطلع الكتاب الأول ( 4 ) .
‹
صفحة 137 ›
*
الاحتمال التاسع :
علمهم بكل شئ أو بما لا يعلمون
قال تعالى : * ( وعلمك ما لم تك تعلم
) * ( 1 ) .
وهذه الآية تفيد ان الله تعالى علم
نبيه كل العلوم التي لا يعلمها بلا استثناء ،
فتكون الآية ناصة على رفع الجهل كل
الجهل عن نبي الهدى ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد تقدم معنى الآية مفصلا في العلم
اللدني .
وعن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) :
" ما يخفى على الإمام شئ " ( 2 ) .
وعن الإمام العسكري ( عليه السلام ) :
" ان الله أعطى حجته معرفة كل شئ " ( 3 ) .
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
في حديث كلام الشمس مع أمير المؤمنين وقولها له : يا
من هو بكل شئ عليم .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : "
قالت الصدق ، هو أعلم بالحلال والحرام والسنن والفرائض
وما يشاكل على ذلك " ( 4 ) .
وعن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال :
" انما منزلة الإمام في الأرض بمنزلة القمر في
السماء وفي موضعه ، هو مطلع على جميع
الأشياء كلها " ( 5 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" انهم علموا ما خلق الله وذرأه وبرأه " ( 6 ) .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في
قوله تعالى : * ( وكل شئ أحصيناه في إمام مبين
)
* ( 7 ) قال : " في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) " ( 8 ) .
‹
صفحة 138 ›
وقال ( عليه السلام ) : " أنا
رحمت الله التي وسعت كل شئ " ( 1 )
وعن أبي جعفر ( عليه السلام ) في حديث
ذكر فيه كتاب الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى فاطمة
ابنته فدفعته إلى علي بن الحسين قلت :
فما فيه يرحمك الله ؟
قال ( عليه السلام ) : " ما
يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى " ( 2 ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) : " معاشر الناس ما من علم إلا علمنيه ربي ، وأنا علمته
عليا " ( 3 ) .
وفي حديث : " . . فما علمني شيئا
الا علمه علي " ( 4 ) .
*
أقول : ويؤيد هذا الاحتمال ما تقدم في الاحتمال الثاني علمهم بالقرآن الذي
فيه تبيان كل شئ .
ويؤيده الحديث المستفيض : " لو
كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا " ( 5 ) .
كان هذا ذكر للروايات التي تفيد علمهم
لكل شئ بلا ذكر مصاديق العلوم ،
ولمن أراد تفصيل " علمهم لكل شئ
" فليرجع لما ذكره الشيخ الأربلي في كشف
الغمة والقاضي عياض في الشفاء والسيد
اللاري في كتابه ( حاجة الأنام إلى النبي
والإمام ) ( 6 ) .
‹
صفحة 139 ›
علم آل محمد ( عليهم السلام ) للغيب
*
الاحتمال العاشر :
علم آل محمد ( عليهم السلام ) للغيب
قبل البدء بأدلة الاحتمال لا بأس بالإشارة
إلى أن الذي يدعي علم الغيب
للإمام والنبي ( عليهم السلام ) لا
يدعيه على نحو الاستقلالية ، بل يدعي ان الله أطلع نبيه وأهل
بيته على الأمور الغيبية التي لم يطلع
عليها أحد .
وإن شئت قلت : علم الغيب لذات الشخص
وبلا توسط من الغير هو العلم
الثابت لواجب الوجود والذي هو عين
الذات ، وهذا مختص بالله ولغيره كفر .
اما العلم بالغيب الذي هو بتوسط الله
تعالى وليس هو عين الذات ، فهذا الذي
علمته الأئمة ورسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) .
قال تعالى : * ( ذلك من أنباء الغيب
نوحيه إليك ) * .
وعلى هذا يحمل قوله تعالى : * ( قل لا
أقول عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب
ولا أقول لكم اني ملك ان اتبع إلا ما
يوحى إلي ) * فنفى امتلاكه لخزائن الله ولم ينف
امكان تمليك الله خزائنه له أو لأي
بشر آخر ، وكذلك نفى كونه ملكا مع أنه أفضل
من الملك ، وقال : * ( اتبع ما يوحى
إلي ) * .
وليعلم أيضا ان الغيب اما نسبي واما
مطلق ، لأن الغيب هو الاطلاع على
الأمور الغيبية التي خفت عن الناس ،
وتارة يطلع الله عبده على أمر غيبي واحد
وأخرى يطلعه على مائة وثالثة يطلعه
على كل الأمور الغيبية .
ولذا ما يأتي من روايات تارة يدل
علمهم للغيب المطلق ، وأخرى علمهم
لبعض الأمور الغيبية .
فعن أبي عبد الله الصادق ( عليه
السلام ) قال : " والله لقد أعطينا علم الأولين
والآخرين " .
فقال له رجل من أصحابه : " جعلت
فداك أعندكم علم الغيب ؟
فقال له ( عليه السلام ) : "
ويحك اني أعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، ويحكم
وسعوا صدوركم ولتبصر أعينكم ولتع
قلوبكم ، فنحن حجة الله تعالى في خلقه ولن
‹
صفحة 140 ›
يسع ذلك إلا صدر كل مؤمن قوي قوته
كقوة جبل تهامة إلا بإذن الله ، والله لو أردت أن
أحصي لكم كل حصاة عليها لأخبرتكم
" ( 1 ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) لعلي : " ان الله أطلعني على ما شاء من غيبه وحيا
وتنزيلا وأطلعك عليه إلهاما " (
2 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" يا مفضل ان العالم منا يعلم حتى تقلب جناح
الطير في الهواء ، ومن أنكر من ذلك
شيئا فقد كفر بالله من فوق عرشه ، وأوجب
لأوليائه الجهل " ( 3 ) .
وقيل لابي جعفر ( عليه السلام ) : ان
شيعتك تدعي أنك تعلم كيل ما في دجلة . وكانا
جالسين على دجلة .
فقال له أبو جعفر ( عليه السلام ) :
" يقدر الله عز وجل أن يفوض علم ذلك إلى بعوضة
من خلقه ؟ "
قال : نعم .
فقال ( عليه السلام ) : " أنا
أكرم على الله من بعوضته ، ثم خرج " ( 4 ) .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام )
في خطبة يصف فيها الإمام : " فهو الصدق والعدل . .
يطلع على الغيب ويعطى التصرف على
الاطلاق " ( 5 ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" يا مفضل من زعم أن الإمام من آل محمد يعزب
عنه شئ من الأمر المحتوم فقد كفر بما نزل
على محمد ، وانا لنشهد أعمالكم ولا
يخفى علينا شئ من أمركم ، وان أعمالكم
لتعرض علينا ، وإذا كانت الروح وارتاض
البدن أشرقت أنوارها ، وظهرت أسرارها
وأدركت عالم الغيب " ( 6 ) .
‹
صفحة 141 ›
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه
ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف
أن تكفروا في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ألا وإني
مفضيه إلى الخاصة " ( 1 ) .
وقال ( عليه السلام ) : " فوالذي
نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين
الساعة ولا عن فئة تهدي مئة وتضل مئة
إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها " ( 2 ) .
وقال ( عليه السلام ) : " أيها
الناس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني
بطرق الأرض " ( 3 ) .
وقالت عائشة للحسن ( عليه السلام )
بعد أن أخبرها بما فعلته يوم وفاة الأمير ولم
يطلع عليه أحد سواها : يا ابن خبوت
جدك وأبوك في علم الغيب ، فمن ذا الذي
أخبرك بهذا عني ! ! ( 4 ) .
وعندما أخبرها بخفايا ضميرها وما
أخبرها به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من حربها
الأمير ( عليه السلام ) قالت : جدك
أخبرك بذلك أم هذا من غيبك ؟ !
قال : " هذا من علم الله وعلم
رسوله وعلم أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) " ( 5 ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) : " الغيب درجات منها سماع ومنها نبت في القلب " ( 6 )
.
وقال الإمام الحسن العسكري ( عليه
السلام ) لمن سأله عن القائم المنتظر عجل الله
فرجه : " ألسنا قد قلنا لكم لا
تسألونا عن علم الغيب فنخرج ما علمنا منه إليكم
فيسمعه من لا يطيق استماعه فيكفر
" ( 7 ) .
وعن الإمام زين العابدين ( عليه
السلام ) : " ألا إن للعبد أربع أعين : عينان يبصر بهما
‹
صفحة 142 ›
أمر دينه ودنياه ، وعينان يبصر بهما
أمر آخرته ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له
العينين في قلبه فأبصر بهما الغيب في
أمر آخرته [ وأمر آخرته ] " ( 1 ) .
ورواه المتقي الهندي في كنز العمال
بلفظ : " ما من عبد إلا وفي وجهه عينان
يبصر بهما أمر الدنيا ، وعينان في
قلبه يبصر بهما أمر الآخرة ، فإذا أراد بعبد خيرا
فتح عينيه اللتين في قلبه ، فأبصر
بهما ما وعده بالغيب ، فآمن بالغيب على الغيب "
(
2 ) .
وفي قصة أبو يوسف ومحمد بن الحسن
صاحبا أبا حنيفة ما يؤكد علم الإمام
الكاظم ( عليه السلام ) للغيب حيث قال
أحدهما لصاحبه : جئنا لنسأله عن الفرض والسنة
وهو الآن جاء بشئ من علم الغيب .
فسألاه من أين أدركت أمر هذا الرجل
الموكل بك انه يموت في هذه الليلة ؟
قال الإمام ( عليه السلام ) : "
من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي
طالب ( عليه السلام ) " ( 3 ) .
وأيضا في قصة اخبار الإمام الرضا (
عليه السلام ) ابن هذاب بما يجري عليه ما يزيل
الشك في الباب حيث قال ( عليه السلام
) له : " ان أخبرتك انك ستبلى في هذه الأيام بذي
رحم لك كنت مصدقا لي ؟ "
قال : لا ، فان الغيب لا يعلمه إلا
الله تعالى .
قال ( عليه السلام ) : " أوليس
الله يقول : * ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من
ارتضى من رسول ) * فرسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول
الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه
، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وان
الذي أخبرتك يا ابن هذاب لكائن إلى
خمسة أيام ، فإن لم يصح ما قلت فبهذه المدة ،
وإلا فاني كذاب مفتر ، وان صح فتعلم
انك الراد على الله وعلى رسوله .
ولك دلالة أخرى فتصاب ببصرك وتصير
مكفوفا فلا تبصر سهلا ولا جبالا وهذا
‹
صفحة 143 ›
كائن بعد أيام .
ولك عندي دلالة أخرى انك ستحلف يمينا
كاذبة فتضرب بالبرص " .
قال محمد بن الفضل : بالله لقد نزل
ذلك كله بابن هذاب ( 1 ) .
*
أقول : هذه رواية صريحة في علمهم للغيب لا ينكرها إلا ناصبي .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في
خطبة له : " والإمام يا طارق بشر ملكي وجسد
سماوي ، وأمر إلهي وروح قدسي ، ومقام
علي ونور جلي وسر خفي ، فهو ملك الذات
إلهي الصفات ، زائد الحسنات عالم
بالمغيبات ، خصا من رب العالمين ونصا من
الصادق الأمين " ( 2 ) .
وعن أبي جعفر الجواد ( عليه السلام )
لما أخبر أم الفضل بنت المأمون بما فاجأها مما
يعتري النساء عند العادة .
قالت له : لا يعلم الغيب إلا الله .
قال ( عليه السلام ) : " وأنا
أعلمه من علم الله تعالى " ( 3 ) .
*
أقول : وهذه رواية أخرى تنص على علمهم للغيب فلا تغفل وأزل الشك
من قلبك .
وفي خطبة لأمير المؤمنين يذكر فيها
صفات الإمام جاء فيها : " ويلبس الهيبة
وعلم الضمير ، ويطلع على الغيب ويعطى
التصرف على الإطلاق " ( 4 ) .
هذه روايات الغيب المطلق .
-
واما روايات اخبارهم بأمور غيبية فهي كثيرة جدا ، بل هي من معاجز آل
محمد ( عليهم السلام ) ، وقد تقدم
الكثير منها في الأبحاث السابقة كعلمهم بما في الضمائر وأعمال
العباد ، وكعلمهم بما يكون وما يأتي .
1
- ومنها اخبارات النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) بقتل الإمام الحسين ( عليه
السلام ) وتربته
‹
صفحة 144 ›
وزواره والبكاء عليه وما يجري له ( 1
) .
واخباراته ( صلى الله عليه وآله )
أيضا بخروج عائشة لقتال فرقة من المسلمين ونبح كلاب
الحوأب لها ( 2 ) .
وأخباراته ( صلى الله عليه وآله ) بما
يجري على ابنته فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من الظلم ( 3 ) .
*
أقول : اخبارات النبي لا يمكن حصرها بهذه الرسالة ( 4 ) .
بل ادعى القاضي عياض تواتره ( 5 ) .
2
- ومنها أخبار أمير المؤمنين بقتل الحسين وقاتله ( 6 ) .
واخباره ( عليه السلام ) طلحة والزبير
انهما لا يريدان العمرة انما البصرة ( 7 ) .
وأخباره ( عليه السلام ) بقضية
الخوارج وصاحب الثدية ( 8 ) .
واخباره ( عليه السلام ) عن قتل نفسه
( 9 ) .
واخباره ( عليه السلام ) بقتل ميثم
التمار وصلبه ( 10 ) .
‹
صفحة 145 ›
*
أقول : اخبارات أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالمغيبات كثيرة لا مجال لذكرها هنا
(
1 ) .
3
- ومنها اخبار فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بموتها ومكان دفنها ( 2 ) .
4
- ومنها اخبار الإمام الحسن ( عليه السلام ) عائشة بما فعلته يوم وفاة الأمير ( 3
) ،
وغيرها من اخباراته ( 4 ) .
5
- ومنها اخبار الحسين ( عليه السلام ) بقتله ( 5 ) وبكثير من الأمور الغيبية
الأخرى ( 6 ) .
6
- ومنها اخبار الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بكثير من الغيب ( 7 ) .
7
- ومنها اخبار الإمام الباقر ( عليه السلام ) باستخلاف عمر بن عبد العزيز واخباره
بأمور أخرى ( 8 ) .
‹
صفحة 146 ›
8
- ومنها أخبار الإمام الصادق ( عليه السلام ) بصنيعة أبا كهمش مع الجارية ، وبظلم
إبراهيم بن مهزم لأمه ، وبزنا بعض
الناس ، وما شابه من اخباراته ( 1 ) .
9
- ومنها اخبار الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بكثير من الأمور الغيبية ( 2 ) .
10
- ومنها اخبار الإمام الرضا ( عليه السلام ) في عدة وقائع معروفة ( 3 ) .
11
- ومنها اخبار الإمام الجواد ( عليه السلام ) في مكان الشاة وعلمه بما أضمره محمد
ابن علي الهاشمي ونحوها ( 4 ) .
12
- ومنها اخبار الإمام علي الهادي ( عليه السلام ) في وقائع متعددة ( 5 ) .
13
- ومنها اخبار الإمام العسكري ( عليه السلام ) وهو مستفيض ( 6 ) .
14
- وآخرها أخبار من صاحب الغيبة الحجة القائم المنتظر - أرواح العالمين
لتراب مقدمه الفداء ( 7 ) .
-
ونحو ذلك من اخباراتهم عليهم صلوات المصلين ( 8 ) .
هذا ويأتي في الخاتمة اخبارات الأئمة
جميعا بموتهم وكيفيته ، وهو من الأمور
الغيبية أيضا .
‹
صفحة 147 ›
الآيات الدالة على علم آل محمد (
عليهم السلام ) للغيب
الآيات الدالة على علم النبي للغيب
*
الآية الأولى قوله تعالى :
*
( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) * ( 1 ) .
فظاهر الآية امكان اطلاع من يرتضيه
الله لغيبه ، وهي لا تحدد مقدار الغيب ،
بل تبقى على اطلاقها .
وقد جاءت الرواية ان محمدا وآل محمد
ارتضاهم الله لذلك :
فقال الإمام الرضا ( عليه السلام )
لعمرو بن هذاب عندما نفى عن الأئمة ( عليهم السلام ) علم
الغيب محتجا بهذه الآية : " ان
رسول الله هو المرتضى عند الله ، ونحن ورثة ذلك
الرسول الذي اطلعه الله على غيبه
فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة " ( 2 ) .
وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) :
" * ( إلا من ارتضى من رسول ) * وكان والله محمد ممن
ارتضاه " ( 3 ) .
*
الآية الثانية قوله تعالى :
*
( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك - تلك من أنباء الغيب نوحيها
إليك ) * ( 4 ) .
وهذا نص صريح في علم النبي ( صلى الله
عليه وآله ) لأمور غيبية منا منه تعالى على نبي الهدى
صلوات الله عليه وآله .
*
الآية الثالثة قوله تعالى :
*
( وعلمك ما لم تكن تعلم ) * ( 5 ) .
وقد تقدم الكلام في الآية في العلم
اللدني .
‹
صفحة 149 ›
*
الآية الرابعة قوله تعالى :
*
( وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ) * ( 1 ) .
والإمام المبين هو أمير المؤمنين علي
( عليه السلام ) :
فعن الإمام الباقر ( عليه السلام )
لما نزلت هذه الآية قام رجلان فقالا : يا رسول الله من
الكتاب المبين أهو التوراة ؟
قال ( صلى الله عليه وآله ) : "
لا " .
قالا : فهو الإنجيل .
قال ( صلى الله عليه وآله ) : "
لا " .
قالا : فهو القرآن ؟
قال ( صلى الله عليه وآله ) : "
لا " .
فأقبل أمير المؤمنين ( عليه السلام )
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " هذا هو الإمام المبين الذي
أحصى الله فيه كل شئ " ( 2 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام )
أنه قال : " أنا والله الإمام المبين أبين الحق من الباطل
ورثته من رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) " ( 3 ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) : " معاشر الناس ما من علم إلا علمنيه ربي وأنا علمته
عليا ، وقد أحصاه الله في ، وكل علم
علمته فقد أحصيته في إمام المتقين وما من علم
‹
صفحة 150 ›
إلا علمته عليا " ( 1 ) .
وجاء في حديث الإمام الصادق ( عليه
السلام ) مع المفضل وكشفه عن قبر أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) ما يؤيد ذلك
قال المفضل : ودخلنا من مزارنا منها ( بقعة أمير المؤمنين )
إلى مولانا الصادق ( عليه السلام )
فوقفنا بين يديه .
فقال ( عليه السلام ) : " والله
يا مفضل ويا صفوان ما خرجتما عن البقعة عقدا واحدا ،
ولا نقصتما عنها قدما " .
فقلنا : الحمد لله ولك يا مولاي وشكرا
لهذه النعمة .
وقرأ ( عليه السلام ) : * ( وكل شئ
أحصيناه كتابا ) * وقوله : * ( وكل شئ أحصيناه في
إمام مبين ) * ( 2 ) .
وعن صالح بن سهل عن جعفر الصادق عليه
السلام قال : " * ( وكل شئ
أحصيناه في إمام مبين ) * في أمير
المؤمنين صلوات الله عليه نزلت " ( 3 ) .
وعن عمار بن ياسر قال : كنت مع أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) سائرا فمررنا بواد
مملوءة نملا فقلت : يا أمير المؤمنين
ترى أحدا من خلق الله يعلم عدد هذا النمل ؟
قال ( عليه السلام ) : " نعم يا
عمار أنا أعرف رجلا يعلم كم عدده وكم فيه ذكر وكم فيه
أنثى " .
فقلت : من ذلك الرجل ؟
فقال : " يا عمار أما قرأت في يس
* ( وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ) * ؟ "
فقلت : بلى يا مولاي .
قال : " أنا ذلك الإمام المبين
" ( 4 ) .
‹
صفحة 151 ›
وقال المتتبع العلامة الجزائري : فقد
تحقق في الأخبار العامة والخاصة ان قوله
تعالى : * ( وكل شئ أحصيناه في إمام
مبين ) * المراد به علي بن أبي طالب ( 1 ) .
وعن طاهر بن الحسن في حديث انتسابه
إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : " أنا
طاهر بن الحسن بن . . . . بن علي بن
أبي طالب الذي أنزل الله فيه * ( وكل شئ
أحصيناه في إمام مبين ) * هو والله
الإمام المبين ، ونحن الذين أنزل الله في حقنا :
*
( ذرية بعضها من بعض ) * " ( 2 ) .
*
أقول : ذكر في بعض التفاسير ان الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، وان الله
عبر عن اللوح بألفاظ متعددة كأم
الكتاب والكتاب المبين ( 3 ) .
وروي عن مجاهد أن الإمام المبين هو أم
الكتاب ( 4 ) .
وعن قتادة أن الإمام المبين هو الكتاب
المبين ( 5 ) .
وإذا صح ذلك فقد تقدم ان اللوح
المحفوظ هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( 6 ) .
وسوف يأتي في الآية التالية انهم هم
الكتاب المبين .
ومن طريق آخر تقدم في الكتاب الأول ان
أول ما خلق الله اللوح المحفوظ
وان أول ما خلق الله محمد وعلي
والأئمة ( عليهم السلام ) .
وهذا يشير إلى انهم اللوح المحفوظ
الذي حفظ الله فيه كل شئ أحصاه بعلمه
وقدرته فتأمل .
ومن طريق ثالث تقدم في الكتاب الأول
استفاضة الأخبار بأن عندهم علم
الكتاب وانهم المرادون بقوله تعالى :
* ( ومن عنده علم الكتاب ) * .
‹
صفحة 152 ›
هذا وقد فسر علم الكتاب باللوح المحفوظ
، كما نقله الشوكاني في تفسيره ( 1 )
.
فينتج : كونهم ( عليهم السلام )
الإمام المبين واللوح المحفوظ والكتاب المبين الذي خص
الله فيه كل شئ ، وهذا يشمل كل الأمور
الغيبية لأنها لا تخرج عن الشيئية ، بل
الآية مطلقة لكل أمر أمر .
‹
صفحة 153 ›
*
الآية الخامسة قوله تعالى :
*
( ورحمتي وسعت كل شئ ) * ( 1 ) .
فروي عن الإمام الباقر ( عليه السلام
) في تفسيرها : " علم الإمام ، ووسع علمه الذي
هو من علمه كل شئ " ( 2 )
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" أنا رحمت الله التي وسعت كل شئ " ( 3 ) .
*
الآية السادسة قوله تعالى :
*
( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين ) * ( 4 ) .
وقال عز من قائل :
*
( وكل شئ أحصيناه كتابا ) * ( 5 ) .
فهذه الآية تدل على إمكان كون علم كل
هذه الأمور الشاملة لعلم الحاضر
والماضي والمستقبل ولعلم الغيب ، يمكن
أن يحصيها حاص وهو الكتاب المبين .
وقد ورد في الأحاديث الشريفة ان آل
محمد صلوات الله عليهم جميعا هم
الكتاب المبين ( 6 ) .
ومن طرق ثاني تقدم ان الكتاب المبين
هو الإمام المبين ، وتقدم أيضا انهم هم
الإمام المبين في كل زمان .
‹
صفحة 154 ›
وفي المناقب سئل علي ( عليه السلام )
ان عيسى بن مريم كان يحيي الموتى وسليمان بن
داود كان يفهم منطق الطير ، هل لكم
هذه المنزلة ؟
قال ( عليه السلام ) : " ان الله
يقول في كتابه : * ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في
كتاب مبين ) * فنحن أورثنا هذا القرآن
الذي فيه ما يسير به الجبال وقطعت به
البلدان ويحيى به الموتى ، وأورثنا
هذا الكتاب فيه تبيان كل شئ " ( 1 ) .
ويشير إلى ذلك أيضا ما ورد عن الإمام
الصادق ( عليه السلام ) : فعن المفضل قال :
دخلت على الإمام الصادق ( عليه السلام
) ذات يوم فقال لي : " يا مفضل هل عرفت محمدا
وعليا وفاطمة والحسن والحسين : كنه
معرفتهم ؟ " .
قلت : يا سيدي ما كنه معرفتهم ؟
قال : " يا مفضل من عرفهم كنه
معرفتهم كان مؤمنا في السنام الأعلى " .
قال : قلت : عرفني ذلك يا سيدي ؟
قال ( عليه السلام ) : " يا مفضل
تعلم انهم علموا ما خلق الله عز وجل وذرأه وبرأه ،
وانهم كلمة التقوى وخزان السماوات
والأرضين والجبال والرمال والبحار ، وعلموا
كم في السماء من نجم وملك ، ووزن
الجبال وكيل ماء البحار وأنهارها وعيونها ، وما
تسقط من ورقة إلا علموها ولا حبة في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في
كتاب مبين ، وهو في علمهم وقد علموا
ذلك " ( 2 ) .
‹
صفحة 155 ›
*
تمحيص الاحتمالات
علم أن سعة علمهم مردد بين : ( العلم
بما في اللوح المحفوظ - العلم بالقرآن -
العلم بما في السماوات والأرض والجنة
والنار - العلم بما كان ويكون - علمهم بما
يحتاج إليه الناس - عندهم جوامع ومعدن
العلوم - عندهم علم جميع الملائكة
والأنبياء - انهم أعلم من الملائكة
وأولي العزم - العلم بكل شئ لا يعلمونه - العلم
بالغيب ) .
وهذه الاحتمالات ليست متنافية فيما
بينها لإمكان التداخل ، فما أثبت لهم
العلم باللوح المحفوظ لم ينف العلم
بالقرآن ولا بقية الاحتمالات ، وهكذا بالنسبة لكل
احتمال احتمال .
وعليه فجمعا بين هذه الاحتمالات نقول
: انهم يعلمون اللوح المحفوظ
والقرآن ، وما في السماوات والأرض وما
كان وما يكون وما يحتاج إليه الناس
وأمورا غيبية أخرى .
ويكون سبب هذه الاختلافات في الأجوبة
: اما عدم تحمل السائل لعلمهم
كما في روايات علمهم بالقرآن .
واما لأن العلم باللوح المحفوظ يشمل
كل العلوم قال تعالى : * ( وما يعزب عن
ربك من مثقال ذرة في الأرض وفي السماء
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين ) * ( 1 ) .
وقال تعالى : * ( بل هو قرآن مجيد في
لوح محفوظ ) * ( 2 ) .
واما لان العلم بالقرآن هو نفسه يرجع
إلى علمهم بكل شئ ، لأن القرآن فيه
تبيان كل شئ ( 3 ) ، ويرجع لما يحتاج
إليه الناس لأنهم يعتمدون على القرآن في
‹
صفحة 156 ›
التشريع .
والعلم بكل شئ يشمل كل الاحتمالات
السابقة لأنه كانت ألسنتها ان الله
أعلمهم بما لا يعلمون ، ولم يستثن
شيئا ، وبعضها انه أعلمهم بكل شئ ، وهذا يشمل
كل العلوم الغيبية وغيرها .
واما مسألة علمهم بعلوم الأنبياء ، ثم
في الاحتمال الآخر انهم أعلم من
الأنبياء ، فهذا ما أشار إليه الإمام
الباقر ( عليه السلام ) عندما أخبر ان الله جمع للنبي كل علوم
الأنبياء والنبي ( صلى الله عليه وآله
) جمعها لعلي .
فقال السائل : يا بن رسول الله فأمير
المؤمنين أعلم أم بعض النبيين ؟
فتعجب الإمام منه ( 1 ) .
فالروايات التي قالت إنه ورث أو تعلم
علم كل الأنبياء بنفسها تدل انه أعلم
منهم ، لأنه يكون قد جمع ما تفرق في
كل واحد منهم ( عليهم السلام ) .
ويؤيده ما ورد انه : " من أراد
أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى علي ومن
أراد أن ينظر إلى موسى في بطشه فلينظر
إلى علي " ( 2 ) .
وهكذا في بقية صفات الأنبياء ( عليهم
السلام ) .
فهو جمع العلم والشجاعة والحلم
المتفرق بهم .
هذا ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) : " من رأى عليا فقد رأى أولي العزم من الرسل
"
( 3 ) .
ولم يكن علي ( عليه السلام ) يشبه
الأنبياء بصفاته الخلقية ، فيتعين الشبه بالصفات
الخلقية .
وعلم الغيب أيضا يشمل علمهم بما يكون
لأنه اخبار عن أمور غيبية .
‹
صفحة 157 ›
وعليه فالمتعين هو علمهم بكل شئ ، وبه
قال العلامة الطباطبائي انه
متواتر ( 1 ) . وهو مساوق للعلم
بالغيب .
وإن شئت قلت : علمهم بكل علم ممكن ،
كما تقدم عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
"
معاشر الناس ما من علم إلا علمنيه ربي وأنا علمته عليا " ( 2 ) .
وقد تقدم في العلم اللدني كلام الغزالي
في الوحي والعلم الرباني للنبي ، وانه
يقتضي العلم بكل شئ قال : فيحصل جميع
العلوم لتلك النفس وينتقش فيها جميع
الصور من غير تعلم وتفكر ومصداق هذا
قوله تعالى لنبيه : * ( وعلمك ما لم تكن
تعلم ) * ( 3 ) .
ويأتي علم الأئمة بموتهم على التفصيل
، والتي هي أمور غيبية .
وعلم الغيب لابد أن يكون داخلا تحت
هذا الشئ .
اما ما ورد في نفي علم الغيب عنهم
فلما تقدم انهم ينفونه بكونه صفة لواجب
الوجود ، وانه عين الذات ، فالنفي كان
لعلم الغيب الاستقلالي ، ولم ينفوه بما هو من
الله تعالى .
قال العلامة المجلسي : ( قد عرفت
مرارا ان نفي علم الغيب عنهم معناه انهم لا
يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه
تعالى بوحي أو إلهام وإلا ، فظاهر أن عمدة
معجزات الأنبياء والأوصياء ( عليهم
السلام ) من هذا القبيل ) ( 4 ) .
وللعلامة الأميني كلام مشابه جميل لا
بأس بالرجوع إليه ( 5 ) .
ومما يؤيد ذلك قصة الإمام الجواد (
عليه السلام ) مع ابنة أم جعفر حيث علم منها ما لا
يعلمه إلا الله فسألته أم جعفر قائلة
: فمن أين لك علم ما لا يعلمه إلا الله وهي ؟ .
‹
صفحة 158 ›
فقال ( عليه السلام ) : " وأنا
أيضا أعلمه من علم الله " ( 1 ) .
وبعد هذا لا يصار إلى ما ذكره الشيخ
المفيد ( قده ) في أوائل المقالات ( 2 ) من
نسبة علم الغيب إلى المفوضة ، حيث فسر
علم الغيب بأنه من علم الأشياء بنفسها لا
بعلم مستفاد ، فكأنه وقع خلط بين
العلم الثابت لله كصفة لواجب الوجود وهو علم
استقلالي نابع من ذات الباري عزت
آلاؤه ، وبين العلم الذي يوصف به آل
محمد ( عليهم السلام ) والذي هو من
تعليم الله تعالى ، فليس هو بالعلم الاستقلالي ولا يعد صفة
لواجب الوجود .
فالأئمة يعلمون الأمور الغيبية من علم
الله ، كما بيناه .
*
فينتج :
أولا : أن علم الغيب لا يؤدي إلى
التفويض المحرم ، وان كان بمعنى التفويض
الصحيح ( 3 ) .
ثانيا : شمول علم الأئمة ( عليهم
السلام ) لعلم الغيب كما تقدم .
ثالثا : بقية الاحتمالات في سعة علم
آل محمد ( عليهم السلام ) لا تنافي علم الغيب .
رابعا : أن زمن امتلاك آل محمد (
عليهم السلام ) لعلم الغيب هو عالم الأنوار والأظلة .
خامسا : أن علمهم لدني غير كسبي مصدره
الله تعالى بلا توسط مخلوق .
‹
صفحة 159 ›
الخاتمة / علم آل محمد ( عليهم السلام
) بزمان موتهم
الخاتمة في أمور
*
الامر الأول :
*
علم آل محمد ( عليهم السلام ) بزمان ومكان موتهم
فعن بعض أصحابنا قال : قلت للرضا (
عليه السلام ) الإمام يعلم إذا مات ؟
قال : " نعم ، يعلم بالتعليم حتى
يتقدم في الأمر " .
قلت : علم أبو الحسن بالرطب والريحان
المسمومين الذين بعث إليه يحيى بن
خالد .
قال : " نعم " ( 1 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" ان أبي مرض مرضا شديدا - إلى أن قال - اني
ميت يوم كذا وكذا ، "
قال : فمات في ذلك اليوم ( 2 ) .
وكان الإمام الكاظم ( عليه السلام )
يعلم بموته على التفصيل ( 3 ) .
وكان أمير المؤمنين علي ( عليه السلام
) يعلم بموته وبقاتله على التفصيل ( 4 ) .
بل نقل الراوندي تواتره ( 5 ) .
وكان الإمام الحسين ( عليه السلام )
يعلم متى يموت وبأي أرض يموت ومن يستشهد
معه ( 6 ) .
‹
صفحة 160 ›
وكانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
كذلك ، فقامت واغتسلت وأوصت ( 1 ) .
بل ورد ان أصحاب الكساء صلوات الله
عليهم يعلمون ما يحل بهم في عالم
الأظلة والأنوار ( 2 ) .
وكذلك الإمام الرضا ( عليه السلام )
حيث قال لابن جهم : " فإنه سيقتلني بالسم وهو
ظالم لي ، أعرف ذلك بعهد معهود إلي من
آبائي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاكتم هذا علي
ما دمت حيا " ( 3 ) .
والإمام زين العابدين قال للإمام
الباقر ( عليهما السلام ) : " يا بني ان هذه الليلة التي
أقبض فيها " ( 4 ) .
بل ورد ان علمهم بموتهم من علامات
إمامتهم :
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير فليس
ذلك بحجة لله على خلقه " ( 5 ) .
*
أقول : هذه جملة من الأحاديث الدالة انهم يعلمون بموتهم على التفصيل ،
ولا يمكن لمنكر أن ينكر عليهم ذلك ،
فان ما تقدم من أحاديث ملزم لمن كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد .
هذا وما تقدم من أحاديث في سعة علمهم
وكيفيته وزمانه وجهاته ، كله يدل
انهم يعلمون بموتهم ، لأن علمهم بكل
شئ شامل لذلك ، وعلمهم بالغيب شامل له
أيضا ، وكون علمهم لدنيا حاضرا فيهم
شامل أيضا لذلك .
‹
صفحة 161 ›
نعم ، أنكر من أنكر العلم بموتهم من
جهة اشكال معروف ، وهو أنه إذا علم
بموته بالسم والقتل كيف يقدم عليه ؟ !
وهل يكون الإمام يعين قاتله على نفسه
؟ !
وهل يعتبر ذلك رميا للنفس في التهلكة
؟ !
إلا أنه يمكن رفع هذا الإشكال بعدة
إجابات ترفع حجة القول بإنكار علمهم
بموتهم ، فنقول وبالله المستعان ومن
آل محمد توسط المعونة :
‹
صفحة 163 ›
*
دفع اشكال معرفة الإمام بموته
*
الجواب الأول : ان يقال ان حالهم حال الشهداء الأبرار ، بل هم أفضل ،
فان بعض الشهداء يعلمون بزمان ومكان
استشهادهم ، والعرف لا يحكم عليهم
بالتهلكة وقتل النفس ، فان العمليات
الاستشهادية التي يقوم بها أبدال أهل الشام
في ألوية حزب الله ، أكبر دليل على
التضحية والفداء ، يخرجون من مقرهم
بسياراتهم المفخخة ويسير أحدهم إلى
الهدف اليهودي حتى إذا ما وصل إليه أطلق
زر التفجير ، فتنفجر سيارته بالأعداء
وهو في داخلها ، فعند حله لزر الأمان يعلم
بموته على التفصيل ، ومع ذلك يقدم من
أجل هدف أسمى وتنفيذ الأوامر الإلهية
المأخوذة على عاتقه .
*
الجواب الثاني : أن يكون الإمام ( عليه السلام ) عند موته مخيرا بين الموت والبقاء
،
ولكنه يختار الأفضل لعلمه ان الآخرة ولقاء
الله تعالى خير له من البقاء في الدنيا .
ويدل عليه ما روي عن الإمام الباقر (
عليه السلام ) : " نحن معشر إذا لم يرض الله
لأحدنا الدنيا نقلنا إليه " ( 1
) .
وحديث الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
" رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) البارحة وهو يقول : يا
علي عندنا خير لك " ( 2 ) .
وحديث الإمام الباقر ( عليه السلام )
أيضا قال : " أنزل الله تعالى النصر على
الحسين ( عليه السلام ) حتى كان بين
السماء والأرض خير : النصر أو لقاء الله فاختار لقاء الله
تعالى " ( 3 ) .
اما لماذا ما عند الله خير ؟ ولماذا
لم ينقله إليه قبل هذه المدة مع أنه في كل وقت
‹
صفحة 164 ›
ما عند الله خير لآل محمد ( عليهم
السلام ) ؟
فذلك لأن الإمام سفير الله تعالى في
أرضه ، وله مهمة هداية الناس ، فإذا
انتهت مدته وجاءت مدة الإمام الذي
بعده ، فان العلة التي اقتضت بقاءه قد ارتفعت
فيعود إلى مقره الأبدي .
وسوف يأتي توضيح ذلك في الجواب الصحيح
.
*
الجواب الثالث : ما ذكره العلامة المجلسي قال : ( ان التحرز عن أمثال تلك
الأمور ( كتناول السم ونحوه ) انما
يكون فيمن لم يعلم جميع أسباب التقادير الحتمية ،
وإلا فيلزم أن لا يجري عليهم شئ من
التقديرات المكروهة ، وهذا مما لا يكون .
والحاصل ان أحكامهم الشرعية منوطة
بالعلوم الظاهرية لا بالعلوم
الإلهامية ) ( 1 ) .
مراده : ان الانسان العادي إذا علم أن
ما يأكله سم يؤدي إلى الموت فإنه يمتنع
عن تناوله ويتحرز عنه لعدم علمه
بالأسباب الحقيقية للموت وعدم علمه بكيفية
موته من غير السم ، إذ لعل الانسان لو
يعلم ان موته سوف يقع بأمر أعظم من السم
،
أو انه سوف يموت أمام أطفاله فيما بعد ، لقبل بموته بالسم هذا ولتناوله من أجل انه
اختار أهون الموتتين وأصلحهما له
ولعياله .
اما أهل البيت ( عليهم السلام ) فهم
يعلمون كل التقديرات المكروهة والأفعال التي
سوف تحل بهم ، فمثلا رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) عندما خرج إلى المسجد الحرام كان يعلم ان
كفار قريش سوف يلقون عليه أثناء
الصلاة السل وفضلات الحيوان ، ومع علمه
خرج ، وهكذا في كثير من الأمور
المكروهة التي تحصل لهم ( عليهم السلام ) .
وعليه فالإمام يتعامل بالظواهر في
أمثال هذه الأمور كبقية الناس مع علمه
بما يحصل ، لذا ورد الحديث الشريف :
" نحن صبر وشيعتنا أصبر لأننا نصبر على ما
‹
صفحة 165 ›
نعلم وهم يصبرون على ما لا يعلمون
" ( 1 ) .
وعليه ، فعندما عرض على الإمام ( عليه
السلام ) العنب المسموم فإنه يتعامل معه على أنه
عنب ، ولا يتعامل معه على أنه سم مميت
تنزيلا لنفسه منزلة الأشخاص العاديين .
وإلا لو أراد الإمام التعامل معه على
أنه سم حقيقي لما تناوله وعندها لا يقع
عليه القتل أبدا مع علمه أن الله قد
كتبه عليه ! !
هذا ما يمكن أن يوجه به جواب العلامة
المجلسي .
وفيه : انه إن صح لا يفسر حقيقة علمهم
بموتهم .
على أنه التزم بأن فعل الإمام تهلكة
إلا أن تكليفه فيها غير تكليفنا نحن فيها ،
وهذا لا ملزم لنا للقبول به ، لما
يأتي في الجواب الصحيح .
*
الجواب الرابع : ما ذكره العلامة المجلسي أيضا من انه يمكن أن يقال : ( لعلهم
علموا انهم لو لم يفعلوا ذلك لأهلكوهم
بوجه أشنع من ذلك فاختاروا أيسر
الأمرين ) ( 2 ) .
أقول : هذا يصح بالنسبة لأمثالنا ذلك
اننا إذا علمنا بشرين فإننا نختار
أيسرهما .
اما آل محمد ( عليهم السلام ) فان
المسألة بالنسبة لهم تختلف ، فان الله هو الذي يقدر
أمورهم ، فلو علم الله ان تلك الموتة
أنفع للإمام أو للشيعة أو لمصلحة ما ، لأوجبها
عليهم ، وهم ( عليهم السلام ) لما
اختاروا غيرها .
وبعبارة أخرى : الإمام يعلم ما اختار
الله له من كيفية موته ، وهو ( عليه السلام ) لا
يريد إلا ما أراد الله ، فالمسألة
ليست مسألة علم الإمام بكيفية الموت فقط ، بل
المسألة تتعلق بشئ أعظم من ذلك ،
والتخيير للإمام في اختيار أي الموتتين مرتبط
بمقام يستحق أن يختار الإمام لأجله
فراق الشيعة .
‹
صفحة 166 ›
على أن الإمام الكاظم ( عليه السلام )
حاول الطاغية الرشيد قتله أولا بالسم فلم يفلح ،
ثم عاد وقتله بالسم نفسه ( 1 )
فالموتة الأولى كانت كالثانية .
*
الجواب الخامس : ما وردت به بعض الروايات ان الله ينسى الإمام لينفذ
حكمه فيه ، كالمروي عن الإمام الرضا (
عليه السلام ) في تناول الرطب من الإمام الكاظم ( عليه السلام )
فقال : " أنساه لينفذ فيه الحكم
" ( 2 ) .
وفي رواية أخرى : " غاب عنه
المحدث " ( 3 ) .
*
أقول : وهذا يرفع إشكال اقدام الإمام على تناول السم والرمي بالتهلكة
لأنه أكل العنب وهو لا يعلم انه مسموم
.
وفيه :
أولا : انه ينافي ما تقدم من روايات
وانه من علامات الإمام العلم بموته .
ثانيا : ينافي علم الإمام وسعته بما
تقدم في مواضع مختلفة ومستفيضة وانه
يشمل كل شئ .
ثالثا : تقدم نفي السهو عن الإمام .
رابعا : هذا الجواب لا يتناسب مع عظمة
الإمام إذ يكون الإمام لا يعلم إلى
أين يصير ، ولا يختار بنفسه ما عند
الله عز وجل من المقام المحمود ، ويكون كبقية
الناس يقدم على أمر خفي مجهول .
خامسا : اننا لا نحتاج إلى هذا الجواب
مع وجود الأجوبة الأخرى .
*
الجواب السادس : ما ورد في رواية الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : " ان
الله
عز وجل غضب على الشيعة فخيرني في نفسي
أو هم ، فوقيتهم والله بنفسي " ( 4 ) .
‹
صفحة 167 ›
وهذه الرواية مروية في حق الإمام
الكاظم ( عليه السلام ) فقط ، فهل يمكن تعدية
الحكم لكل إمام ( عليه السلام ) ؟ !
قد يقال : إنه ممكن في حق بعض الأئمة
ممن كانت الشيعة في زمانهم ، كما كانت
في زمن الإمام الكاظم ( عليه السلام )
، ولكن ماذا نفعل في شيعة قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ! !
نعم الرواية لا تفسر لنا حقيقة انتقال
الإمام إلى جوار ربه وعودته إلى عرش
الرحمن تعالى .
فالجواب لا يخلو من ضعف .
*
الجواب السابع : ما ذكره الشيخ المفيد ( قده ) قال في تخريج علم أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) بموته :
(
إذا كان لا يمتنع أن يتعبده الله بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه
الله بذلك من علو الدرجة ما لا يبلغه
إلا به ، ولعلمه تعالى بأنه يطيعه في ذلك طاعة
لو كلفها سواه لم يؤدها ، ويكون في
المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس
ما لا يقوم مقامه غيره ، فلا يكون
بذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ملقيا بيده إلى التهلكة ولا
معينا على نفسه معونة مستقبحة في
العقول ) ( 1 ) .
وعلى كلامه يكون أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) عالما بوقت استشهاده وانها في الصلاة
ويصبر على ذلك من أجل المرتبة المرجوة
، وهذا لا محذور فيه من هذه الناحية ، إذ
يحافظ على علم أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) باستشهاده ولا يدخل الجهل عليه .
ومسألة الدرجة الرفيعة أيضا لا إشكال
فيها ، إذ تحمل على الدرجة المعنوية
والقرب من الله تعالى ، لأن أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) يعبد الله عبادة الأحرار لا عبادة
التجار .
نعم ، مسألة صبر الأمير ( عليه السلام
) على الشهادة ، قد يفهم منها الجزع والخوف أو
لا أقل عدم الرغبة في هذا القتل ، لأن
الصبر لا يكون إلا على المكروه ، نعم هو صبر
‹
صفحة 168 ›
عن علم كما تقدم في الحديث : "
نحن صبر وشيعتنا أصبر لأننا نصبر على ما نعلم " .
فيكون في جواب الشيخ الأقدس محذور
الصبر على المكروه ، مع أن الشهادة
بالنسبة لغير أمير المؤمنين ( عليه
السلام ) عشق ، فكيف هي لأمير الموحدين علي بن أبي
طالب صلوات المصلين عليه ، وهو القائل
: " لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل
بثدي أمه " ( 1 ) .
وقال ( عليه السلام ) : " لولا
الآجال التي كتب الله لهم لماتوا شوقا إلى الله والثواب " ( 2 ) .
وانسه بالموت والشهادة ما هو إلا الحب
وعشق لقاء الله تعالى ، نعم أمير
الموحدين ( عليه السلام ) كان صابرا
على المكروه ، ولكن ليست هي الشهادة والقتل ، انما
صبره على فراق الله هو المكروه :
" إلهي صبرت على عذابك فكيف أصبر على
فراقك " ( 3 ) .
وعليه فلولا مسألة الصبر على المكروه
، فان جواب الشيخ المفيد متين وعلى
كل حال هو أفضل الأجوبة المتقدمة .
نعم هذه ليست عقيدة الشيخ المفيد لأنه
استبعد علم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وغيره
من الأئمة بموتهم ووقت ذلك ، ونفى
وجود أثر في ذلك ( 4 ) .
ولسنا في صدد الرد عليه ، انما أنت
خبير بوجود الأثر المستفيض ، وقد تقدم
منه شيئا يسيرا ، ونقلت لك الروايات
في علمهم بموتهم وعلمهم بالمغيبات .
*
الجواب الثامن : ما ذكره العلامة الطباطبائي في تفسيره ملخصه بقوله :
(
فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم
يؤثر ذلك في اخراج حادث منها ، وان
كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد
‹
صفحة 169 ›
الإمكان ) ( 1 ) .
مراده انه لو فرض علم الإمام مثلا
بوقت قتله وساعته ، فان علمه بذلك لا
يؤثر ولا يمنع وقوع القتل من باب ان
حدوث القتل يستند إلى علل وشرائط ، فإذا
تمت وجب تحقق الفعل والقتل ، كتحقق أي
معلول عند حصول علته التامة .
*
أقول : صحيح ان العلل إذا تمت وجب تحقق المعلول ، وان الشرائط إذا
توفرت وجب حصول القتل ، ولكن في ما
نحن فيه من اقدام الإمام ( عليه السلام ) على القتل
مع علمه به ، وانه لا يلزم منه
المساعدة على التهلكة ، في مثل هذا نحن نحاول معرفة
مدخلية علم الإمام في قتله ، وهل هو
مخير أم غير مخير ، وهل هو يعلم بذلك أو لا ؟
وتقدم في الروايات كونه عالما بقتله
وكونه مخيرا في ذلك ، وانه اختار
الأفضل ، وهو القتل والقرب من الله
تعالى ، ولو كان الأفضل هو البقاء لاختاره .
والخلاصة : ظاهر كلامه عدم اختيار
الإمام في زمن قتله ، وهذا منافي لبعض
الأخبار المتقدمة .
نعم ، لا يقال اختيار الإمام ينافي
قانون العلية ، لأنا نقول لو اختار الإمام
البقاء لما قتل ، ولما انهدم قانون
العلية الظاهري ، إذ يكشف عندها عن عدم تحقق
كافة العلل ، وهذا لا يلزم معه كون
قبول الإمام بقتله في هذا الوقت أحد أجزاء العلة
التامة .
على أنه لو كان يحمل على عشق الإمام
للقاء الله تعالى وفعله المستحيل من
أجل ذلك .
الجواب التاسع وهو الصحيح : اننا
قدمنا في الكتاب الأول - الولاية التكوينية
-
ان آل محمد كانوا أنوارا حول عرش الله ، وانما أنزلهم الله إلى الدنيا لهداية
البشر
المتوقفة عليهم .
ومعلوم ان هذا الهبوط خلاف طبع
الأولياء والعرفاء .
‹
صفحة 170 ›
والله سبحانه وتعالى أنزلهم على فترات
مختلفة ابتداء برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى
الإمام المهدي ( عج ) ، وجعل لكل إمام
( عليه السلام ) مدة محددة يقضي فيها مع أصحابه
ليهديهم ، فإذا انتهت مدة الإمام
الأول انتقلت المهمة إلى الإمام الثاني وهكذا .
وعند انتهاء مدة الإمام الأول ، فان
العلة التي اقتضت هبوطهم من عالم
الأنوار وعرش الرحمن ترتفع ، وإذا
ارتفعت العلة وجب ان يعودوا إلى مقرهم
الطبيعي .
ويؤيده قول رسول الله للرضا ( عليهما
السلام ) : " ما عندنا خير لك " ( 1 ) .
وقد تقدم أيضا في الكتاب الأول أحاديث
ان الإمام قلبه مع الله وشخصه مع
الخلق ، فهو عيشه الدائمي مع الله ،
ولكن لمصلحة الهداية كان مع البشر .
ويؤيده ما تقدم في الإمام الحسين (
عليه السلام ) انه خير بين النصر ولقاء الله فاختار
لقاء الله ( 2 ) .
وما روي عن امامنا زين العابدين (
عليه السلام ) : " والله لا يشغلني شئ عن شكره
وذكره في ليل ولا نهار وسر ولا علانية
، ولولا لأهلي علي حقا ولسائر الناس في
خاصهم وعامهم علي حقوقا لا يسعني إلا
القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى
أؤديها إليهم ، لرميت بطرفي إلى
السماء وبقلبي الله ثم لم أردهما حتى يقضي الله على
نفسي وهو خير الحاكمين " ( 3 ) .
ويؤيده أيضا ما روي عن الإمام الرضا (
عليه السلام ) في سبب إقدام أمير
المؤمنين ( عليه السلام ) على الصلاة
في المسجد مع علمه بابن ملجم وقتله له قال ( عليه السلام ) : " ذلك
كان ولكنه خير في تلك الليلة لتمضي
مقادير الله عز وجل ( 4 ) .
‹
صفحة 171 ›
وتكون مقادير الله ان مدة إمامة الإمام
الأول ( عليه السلام ) انتهت ليأتي الإمام الثاني
.
وبعبارة مختصرة : ليس الإشكال في سبب
موت الإمام ( عليه السلام ) وعروجه إلى
مقام قاب قوسين أو أدنى ، انما
الإشكال في هبوط الإمام من مقامه إلى هذه الدنيا .
اما مسألة رمي النفس في التهلكة ، فان
التهلكة هي وضع النفس في موضع
الضرر أو الخسارة ، واختيار الإمام (
عليه السلام ) للقاء الله وعودته إلى عرش الله ليس فيه
ضرر ولا خسارة ، بل هو ربح ومصلحة لمن
يعلم بمقامه عند الله ، ولمن يعلم من أين
أتى وإلى أين يعود .
وإن شئت قلت : نعم الضرر هذا ، لأن
الضرر من أجل مصلحة أعظم وأفضل
لا يعد ضررا ، وان عد فهو لا يلغي
الإقدام عليه من أجل المصلحة الكبرى .
وكما أن الشهيد الذي يعلم انه يقتل في
عمليته الاستشهادية فهو ضرر بهذا
المعنى ، ولكنه مغفور له لأنه يقدم
على فعل واجب أهم من ترك هذا الضرر المحرم في
غير هكذا موضع .
وبعبارة أخرى : كون الفعل هذا مرادا
لله تعالى أو للإمام ( عليه السلام ) يكفي في عدم
كونه تهلكة ، فافهم .
وهذا يتناسب مع ما ورد عن الإمام
الحسين ( عليه السلام ) ان قتله قضاء محتوم وأمر
واجب ( 1 ) لا مفر منه ، فالله تعالى
قدر له ذلك ، وان ولايته تنتهي إلى سنة 60 ه . ولا
حاجة لوجوده الظاهري بعد هذه السنة في
هداية الناس ، فيرجع إلى مكانه الأصلي
-
الأبدي الأزلي - .
وأيضا يؤيده ما تقدم عن الإمام الباقر
( عليه السلام ) عندما قرب أجله استدعى ابنه
الصادق ( عليه السلام ) وقال : "
ان هذه الليلة التي وعدت فيها " ( 2 ) .
‹
صفحة 172 ›
وكأنه كان ينتظرها بفارغ الصبر وكذلك
ما حصل من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عند
استشهاده : " فزت ورب الكعبة
" .
وهذا الوجه يتناسب مع قوله تعالى : *
( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم
الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون
) * ( 1 ) .
فالإمام الولي ينتظر لقاء الله تعالى
.
*
تنوير :
عزيزي القارئ لا تدع للشيطان عليك
سبيلا ليقول لك إذا مات الإمام فان
موضعه التراب والقبر ! ! لأن الإمام
لا يمكث في قبره أكثر من ثلاث أيام ، ثم ينقله
الله من قبره بروحه وجسده وعظمه ولحمه
إلى عرشه ، إلى مقره الأبدي والطبيعي .
وقد حكى الشيخ المفيد ( قده ) إجماع
فقهاء الإمامية عليه ( 2 ) وسوف نأتي
على تفصيل ذلك في الكتب القادمة وفيه
روايات مستفيضة تأتي ( 3 ) .
‹
صفحة 173 ›
تساوي محمد وآل محمد ( عليهم السلام )
*
الامر الثاني :
أحاديث تساوي محمد وآل محمد ( صلى
الله عليه وآله )
في الروايات والتي منها ما تقدم في
الكتاب الأول ومنها هنا ، نجد ان بعضها
يفضل بين رسول الله ( صلى الله عليه
وآله ) وبين آل محمد .
وبعضها يفضل بين النبي والإمام علي
وبين بقية آل محمد ( عليهم السلام ) .
وبعضها يفضل بين أصحاب الكساء وبين
بقية الأئمة .
وبعضها يفضل بين أصحاب الكساء والإمام
المهدي وبين بقية الأئمة .
هذا بصورة مطلقة .
وبعض الروايات تقول : " نحن في
العلم سواء " وبعضها : في الحلال والحرام .
فعن الإمام الهادي ( عليه السلام )
قال : " نحن في العلم والشجاعة سواء وفي العطايا
على قدر ما نؤمر " ( 1 ) .
ولم أجد - إلى الآن - ما يستدعي الخوض
في تفصيل وتفنيد هذه الروايات
لعدم الجدوى في ذلك ، لأن مقامهم
جميعا معروف ، وهم في مكان واحد يوم القيامة
في قبة العرش ، ولا يتنازعون فيه ، بل
ولا ينازعهم أحد في ذلك .
نعم ، ما نحن بصدد اثباته - وهو العلم
- يتوقف أن نذكر بعض الروايات التي
توجب التساوي بينهما أو لا أقل في
العلم بشكل مخصوص .
منها ما تقدم من طرق : " علي مني
وأنا من علي - حسين مني وأنا من حسين
وأصحاب الكساء مني وأنا منهم "
صلوات الله عليهم أجمعين .
ومنها الحديث المشهور : " أنا
وأنت وهذا الراقد والحسن والحسين في مكان
‹
صفحة 174 ›
واحد يوم القيامة " ( 1 ) .
ومنها ما عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) : " اني واثنى عشر من ولدي وأنت يا علي زر
الأرض - يعني أوتادها وجبالها - ، بنا
أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها فإذا ذهب
الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها
ولم ينظروا " ( 2 ) .
ومنها ما يأتي من طرق في حديث الأمان
: " أهل بيتي أمان للأمة " .
ومنها ما روي عن رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) أيضا قال : " اختاركما الله عز وجل مني
ومن أبيكما وأمكما ، واختار من صلبك
يا حسين تسعة تاسعهم قائمهم وكلهم في
المنزلة والفضل عند الله ( سواء )
واحد " ( 3 ) .
وعن الإمام العسكري : " أولنا
وآخرنا في العلم والامر سواء ، ولرسول الله
وأمير المؤمنين ( عليهما السلام )
فضلهما " ( 4 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" كلنا واحد من نور واحد " ( 5 ) .
ومنها ما تقدم أنهم جميعا من نور واحد
( 6 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في
وصف آل محمد ( عليهم السلام ) : " خلقهم الله من نور
عظمته " ( 7 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" والأئمة من أولادي يعلمون ويفعلون هذا إذا
‹
صفحة 175 ›
أحبوا وأرادوا ، لأنا كلنا واحد أولنا
محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد وكلنا محمد ،
فلا تفرقوا بيننا " ( 1 ) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
" علمنا واحد وفضلنا واحد ونحن شئ
واحد " ( 2 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام )
" . . فعلمني علمه وعلمته علمي " ( 3 )
وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
: " أولنا كآخرنا وآخرنا كأولنا " ( 4 ) .
ومنها ما روي عنهم انهم جميعا من طينة
واحدة ( 5 ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) لام سلمة : " كيف تجدين عليا في نفسك ؟ " .
قلت : لا يتقدمك يا رسول الله ، ولا
يتأخر عنك وأنتما في نفسي سواء .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : "
شكر الله فعلك يا أم سلمة لو لم يكن علي في نفسك مثلي لبرئت
منك في الآخرة ولم ينفعك قربك مني في
الدنيا " ( 6 ) .
*
أقول : تقدم في الكتاب الأول قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " كنت نبيا
وآدم بين الطين
والماء " .
وقول علي ( عليه السلام ) : "
كنت وليا وآدم بين الطين والماء ( 7 ) " .
وهذا يقتضي التساوي في الأظلة ، ويأتي
في الكتاب الرابع نحو هذه
الأحاديث التي توجب التساوي بينهما ،
وبعض أقوال العلماء في ذلك فارتقب .
‹
صفحة 176 ›
وقال الإمام الهادي ( عليه السلام ):
" من فرق بيني وبين جدي ؟ ! أنا هو وهو أنا " ( 1 ).
وقال الإمام المهدي ( عجل الله فرجه )
فيما رواه عنه الإمام الصادق ( عليهما السلام ) :
"
من أراد أن ينظر إلى محمد وأمير المؤمنين إليا فها أنا محمد . ومن أراد أن ينظر
إلى
الأئمة من ولد الحسين فها أنا هم
واحدا بعد واحد ، فها أنا هم ، فلينظر
إلي " ( 2 ) .