التاليالفهرس التفصيليالسابق

 

3 ـ إيفاد الإمام الحسن(عليه السلام) :

بعد أن عرف الإمام عليّ(عليه السلام) إصرار أبي موسى وعدم إفلاح الرسل معه; بعث إليه ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر، وأرسل معه رسالة فيها عزل أبي موسى عن منصبه وتعيين قرضة بن كعب مكانه ، وهذا نصّ رسالته : «أمّا بعد ، فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك نصيباً منه، يمنعك عن ردّ أمري وقد بعثت الحسن بن عليّ وعمار بن ياسر يستفزّان الناس ، وبعثت قرضة بن كعب والياً على المصر، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً ، فإن لم تفعل فإنّي قد أمرته أن ينابذك»[1] .

ووصل الإمام الحسن(عليه السلام) الى الكوفة فالتأم الناس حوله زمراً ، وهم يعربون له عن انقيادهم وطاعتهم ، ويظهرون له الولاء والإخلاص، وأعلن الإمام(عليه السلام) عزل الوالي المتمرّد عن منصبه ، وتعيين قرضة محلّه، ولكنّ أبا موسى بقي مصرّاً على موقفه ، فأقبل على عمار بن ياسر يحدّثه في أمر عثمان علّه أن يجد في حديثه فرجة، فيتّهمه بدم عثمان ليتّخذ من ذلك وسيلة الى خذلان الناس عن الإمام فقال له :

«يا أبا اليقظان! أعدوت فيمن عدا على أميرالمؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار؟» فأجابه عمّار : «لم أفعل ولم تسؤني» .

وعرف الإمام الحسن(عليه السلام) غايته، فقطع حبل الجدال ، وقال له : «يا أبا موسى! لِمَ تثبّط عنّا الناس؟» .

وأقبل الإمام يحدّثه برفق ولين لينزع روح الشرّ والعناد عن نفسه قائلاً  : «يا أبا موسى! والله ما أردنا إلاّ الإصلاح ، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء».

فقال أبو موسى : صدقت بأبي أنت واُمي ، ولكنّ المستشار مؤتمن .

فأجابه الإمام(عليه السلام) : «نعم» .

فقال أبو موسى : سمعت رسول الله يقول : إنّها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب ، وقد جعلنا الله عزّوجلّ إخواناً، وحرّم علينا أموالنا ودماءنا ، فقال : ( يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض  منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً)[2] ، وقال عزّوجل : ( ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنّم)[3] .

فردّ عليه عمّار قائلاً : «أنت سمعت هذا من رسول الله؟».

قال : أبو موسى : «نعم، وهذه يدي بما قلت» .

فالتفت عمّار الى الناس قائلاً : «إنّما عنى رسول الله بذلك أبا موسى ، فهو قاعد خير من قائم»[4].

وخطب الإمام الحسن(عليه السلام) في الناس قائلاً : «أيّها الناس! قد كان في مسير أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ورؤوس العرب ، وقد كان من طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم ، وتعلمون أنّ وهن النساء وضعف رأيهنّ الى التلاشي ، ومن أجل ذلك جعل الله الرجال قوّامين على النساء ، وأيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والأنصار كفاية ، فانصروا الله ينصركم»[5].

وبقي أبو موسى مصرّاً على موقفه يثبّط العزائم ، ويدعو الناس الى القعود وعدم نصرة الإمام ، فعنّفه الإمام الحسن(عليه السلام) قائلاً : «اعتزل عملنا أيّها الرجل ، وتنحّ عن منبرنا لا اُمّ لك» . وقام الإمام(عليه السلام) خطيباً بالناس فقال لهم :

«أيّها الناس! أجيبوا دعوة أميركم ، وسيروا الى إخوانكم ، فإنه سيوجد الى هذا الأمر من ينفر إليه ، والله لئن يليه اُولو النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة ، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، وأنّ أمير المؤمنين يقول : قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وأنّي أذكر الله رجلاً رعى حقّ الله إلاّ نفر ، فإن كنت مظلوماً أعانني ، وإن كنت ظالماً أخذ، والله إنّ طلحة والزبير لأول من بايعني ، وأوّل من غدرا، فهل استأثرت بمال أو بدّلت حكماً؟ فانفروا وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر»[6].

فأجابه الناس بالسمع والطاعة ، ولكن مالك الأشتر رأى أنّ الأمر لا يتمّ إلاّ بإخراج أبي موسى مهان الجانب محطّم الكيان ، فأقبل مع جماعة من قومه فأحاطوا بالقصر ثم أخرجوا الأشعري منه، وبعد أن استتبّ الأمر للإمام الحسن(عليه السلام)! أقبل يتحدّث الى الناس بالخروج للجهاد قائلاً : «أيّها الناس ، إنّي غاد، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر (أي على الدوابّ) ومن شاء فليخرج في الماء»[7] .

واستجابت الجماهير لدعوة الإمام، فلمّا رأى ذلك قيس بن سعد غمرته الأفراح، وأنشأ يقول :

وقالوا عليّ خير حاف وناعل***رضينا به من ناقضي العهد من بدل[8]

وعجّت الكوفة بالنفير ونزحت منها آلاف كثيرة ، وقد بدا عليهم الرضا والقبول، وساروا وهم تحت قيادة الإمام الحسن(عليه السلام)، فانتهوا الى ذي قار[9]وقد التقوا بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كان مقيماً هناك، فسرّ بنجاح ولده ، وشكر له جهوده ومساعيه .

4 ـ التقاء الفريقين في البصرة وخطاب الإمام الحسن(عليه السلام) :

وتحرّكت كتائب الإمام من ذي قار حتى انتهت الى الزاوية[10]. وبعث(عليه السلام) الى عائشة يدعوها الى حقن الدماء وجمع كلمة المسلمين ، كما بعث(عليه السلام) برسالة الى طلحة والزبير يدعوهما الى الوئام ونبذ الشقاق[11] إلاّ أنّهم جميعاً لم يستجيبوا لنداء الحقّ، وأصرّوا على مقاومة الإمام ومناجزته .

وكان عبدالله بن الزبير من أشدّ المحرّضين على الفتنة وإراقة الدماء  ، وقد أفسد جميع الوسائل التي صنعها أمير المؤمنين(عليه السلام) لتحقيق السلم ، وقد خطب في جموع البصريين ودعاهم الى الحرب، وهذا نصّ خطابه: «أيّها الناس! إنّ علي بن أبي طالب قتل الخليفة بالحقّ عثمان ، ثمّ جهّز الجيوش إليكم ليستولي عليكم ، ويأخذ مدينتكم ، فكونوا رجالاً تطلبون بثأر خليفتكم، واحفظوا حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأحسابكم وأنسابكم ، أترضون لأهل الكوفة أن يردوا بلادكم؟ إغضبوا فقد غوضبتم ، وقاتلوا فقد قوتلتم ، ألا وإنّ عليّاً لا يرى معه في هذا الأمر أحداً سواه، والله لئن ظفر بكم ليهلكنّ دينكم ودنياكم»[12].

وبلغ الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) خطاب ابن الزبير، فأوعز الى ولده الإمام الحسن(عليه السلام) بالردّ عليه، فقام خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال : «قد بلغتنا مقالة ابن الزبير في أبي وقوله فيه : إنّه قتل عثمان، وأنتم يا معشر المهاجرين والأنصار وغيرهم من المسلمين، علمتم بقول الزبير في عثمان ، وما كان اسمه عنده  ، وما كان يتجنّى عليه ، وأنّ طلحة يومذاك ركز رايته على بيت ماله وهو حيّ ، فأنّى لهم أن يرموا أبي بقتله وينطقوا بذمّه؟! ولو شئنا القول فيهم لقلنا.

وأمّا قوله : إنّ علياً ابتزّ الناس أمرهم ، فإنّ أعظم حجّة لأبيه زعم أنّه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه ، فقد أقرّ بالبيعة وادّعى الوليجة، فليأت على ما ادّعاه ببرهان وأنّى له ذلك؟ وأمّا تعجّبه من تورّد أهل الكوفة على أهل البصرة فما عجبه من أهل حقٍّ تورّدوا على أهل باطل! أمّا أنصار عثمان فليس لنا معهم حرب ولا قتال، ولكنّنا نحارب راكبة الجمل وأتباعها» .

5 ـ الإمام علىّ(عليه السلام) في الكوفة بعد حرب الجمل :

بعد أن وضعت حرب الجمل أوزارها توقَّف الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) شهراً في البصرة ، ثم غادرها متوجّهاً الى الكوفة، مخلّفاً عبدالله بن عباس عليها، وقد مكث أمير المؤمنين(عليه السلام) عدّة أشهر في الكوفة قبل أن يتحرك نحو صفّين لقتال القاسطين (أي معاوية وأنصاره)، وقد قام خلال هذه الفترة بتعيين وظائف ولاته وتنظيم الاُمور ، كما وتبادل الرسائل مع معاوية وغيره من المتمرّدين على خلافته(عليه السلام) .

6 ـ خطاب الإمام الحسن (عليه السلام) :

نقل العلاّمة المجلسي ـ رضوان الله تعالى عليه ، عن كتاب «العدد» ـ روايةً أشارت الى أنّ بعض أهل الكوفة اتّهموا الإمام الحسن(عليه السلام) بضعف الحجّة والعجز عن الخطابة، ولعلّ هذه الرواية متعلّقة بهذه الفترة[13].

وعندما سمع أمير المؤمنين(عليه السلام) بتلك الاتهامات دعا ولده الإمام الحسن(عليه السلام) ليلقي في أهل الكوفة خطاباً ، يفنّد فيه تلك المزاعم، وقد استجاب(عليه السلام) لدعوة أبيه(عليه السلام) ، وألقى في حشود من الكوفيين خطاباً بليغاً ، جاء فيه : «أيّها الناس! اعقلوا عن ربّكم، إنّ الله عزّوجلّ اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، ذرّيّةً بعضها من بعض والله سميع عليم ، فنحن الذرّيّة من آدم والاُسرة من نوح ، والصفوة من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل ، وآل من محمد(صلى الله عليه وآله) نحن فيكم كالسماء المرفوعة ، والأرض المدحوّة ، والشمس الضاحية ، وكالشجرة الزيتونة ، لا شرقية ولا غربية، التي بورك زيتها ، النبيّ أصلها ، وعليّ فرعها ، ونحن والله ثمرة تلك الشجرة ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا ، ومن تخلّف عنها فإلى النار هوى ...» .

وبعد أن انتهى الحسن (عليه السلام) من خطبته صعد الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) المنبر وقال : «يا بن رسول الله! أثبَتَّ على القوم حجّتَك ، وأوجبْتَ عليهم طاعتك، فويلٌ لمن خالفك»[14].



[1] حياة الإمام الحسن للقرشي : 1 / 434 .

[2] النساء  (4) : 29 .

[3] النساء (4) : 93 .

[4] حياة الإمام الحسن للقرشي : 1 / 434 ـ 435 .

[5] حياة الإمام الحسن : 1 / 436.

[6]حياة الإمام الحسن : 1 / 437 .

[7]حياة الإمام الحسن : 1 / 438 .

[8] الغدير : 2 / 76 .

[9] ذي قار : ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة يقع بينها وبين واسط . معجم البلدان : 7 / 8 .

[10] الزاوية: موضع قريب من البصرة . معجم البلدان : 4 / 37 .

[11] حياة الإمام الحسن للقرشي : 1 / 442 ـ 443 .

[12] حياة الإمام الحسن : 1 / 444 .

[13] زندگانى إمام حسن مجتبى، للسيد هاشم رسولي : 138 .

[14] بحار الأنوار : 43 / 358 .

 

التاليالفهرس التفصيلي