المقدمة
ليست دراسة التاريخ ترفاً فكرياً واستغراقاً في الماضي، يحجب عنا الواقع وأسئلته، و الحاضر ومشكلاته. بل الوعي التاريخي مقدمة لبناء الذات، ونحت المجتمعات وتحقيق النهضة والتغيير يستند إلى جملة عوامل، من بينها الفهم العميق للتاريخ، والرؤية المتوازنة للماضي.
صحيح أننا لا نتحمل مسؤولية ما قام به الأولون ولكن قطعاً ما قاموا به يشكل الأرضية والقاعدة لأي فعل جديد، فقراءة التاريخ والسّير في آثار الماضين، يوفر دروساً مهمةً للاتعاظ والاعتبار من (السلف) ومن تاريخ الشعوب والأمم.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(1).
____________
(1) سورة الروم: 109.
والعودة إلى التاريخ تمنحنا الفرصة للكشف عن نواميسه وقوانينه التي تحكم صعود الحضارات ونزولها ونهضة الشعوب وتقهقرها، وقيام الثورات وسقوطها، وظهور الدول وأفولها: {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}(2).. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}(3)، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}(4)، {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}(5).
هذا التأمل في التاريخ يمنح الفرد منا عمراً تاريخيا يختزن من خلاله كل تجارب السابقين.. فيتحرك عن بصيرة وإحاطة وخبرة، يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام):
____________
(1) سورة فاطر: 44.
(2) سورة الأحزاب: 62.
(3) سورة فاطر: 43.
(4) سورة آل عمران: 137.
(5) سورة النساء: 26.
فإذا كان للتاريخ ودراسته هذه الأهمية فكيف بقراءة سيرة الرسول والأئمة الأطهار (عليهم السلام) وهم القادة الربانيون الذين لا تمثل حياتهم جزءاً عظيماً وفصلاً منيراً من تاريخ الأمة فحسب، وإنما تعبّر عن دينها وشريعتها ومرجعياتها العقائدية والسلوكية فهم مهبط الوحي ومعدن العلم والسبيل إلى الله تعالى.
ولكن الباحث حينما يرجع إلى مصادر التاريخ وكتب السير يواجه عوائق عديدة تحول دون الاستفادة القصوى من هذا المعين المهم في نحت ثقافة المؤمن وبناء وعيه الديني والتاريخي.
فالسيرة جزء من التاريخ، والتاريخ تحكّم في كتابته السلاطين والدول التي سادت ثم بادت. فهو خاضع أولاً وبالذات للأهواء والعصبيات لا للميزان العلمي والموضوعية
____________
(1) نهج البلاغة: الكتاب 31 من وصيته للحسن (عليه السلام).
إن المواقف المبدئية والخط الرباني الذي اعتصم به أئمة أهل البيت فرفضوا الظلم ونبذوا الانحراف ونددوا بالجور جعلهم وجهاً لوجه مع مختلف الأنظمة الطاغوتية التي تحكمت في تاريخ المسلمين، من أمويين وعباسيين وغيرهم..
فالأئمة كانوا دوماً جبهة المعارضة: العلنية أحياناً، والخفية أحياناً أخرى، وقد لاقوا لأجل ذلك شتّى أنواع التنكيل والتعذيب والتشريد والسلطات الجائرة لم تقنع بما أصاب أهل البيت (عليهم السلام) من ويلات، فدسّت في صفوفهم - إمعاناً في الإيذاء - من يشوّه تعاليمهم ويضع الأحاديث والأكاذيب، بل في صفوف المسلمين جميعاً..
فضاع جزء كبير من الحقيقة بين مؤرخ يسعى لإرضاء
____________
(1) هاشم معروف الحسني: سيرة الأئمة الاثني عشر، ج1 ص7، دار التعارف ط1. 1997م.
«ولعلهم (عليهم الصلاة والسلام) وهم في مراقدهم يكابدون ممن جمعوا ما رواه الرواة عنهم من الآثار ودوّنوا جميع ما ينسب إليهم من الأقوال والأفعال بدون غربلة، ولا تمحيص، ليظهر الحصى من الجوهر والدّرر من الصدف. هؤلاء على ما بذلوا من جهد مشكور قد أمدّوا أعداء الإسلام والحاقدين عليه وعلى أهل البيت بالسلاح ويسّروا لهم بث سمومهم وتشويه العقيدة الشيعية، كما يبدو ذلك من مؤلفاتهم التي تصدر بين الحين والآخر»(1).
وما يكتب حديثاً عن سيرة الأئمة لا يخرج في الغالب عن كونه ترديداً لما ذكر في المراجع القديمة، وهذا يحول أيضاً دون استفادة المؤمن المعاصر من تاريخ الأئمة (عليهم السلام) وربط حياتهم بواقعه فكل دراسة أو قراءة للتاريخ هي ناظرة إلى مرحلتها
____________
(1) هاشم معروف الحسني: مصدر سابق ص9.
هذه بعض العوائق التي تواجهنا في كتابة السيرة.
وحينما نريد التعاطي مع سيرة الحسن (عليه السلام) تبرز إلى جانب كل ذلك مشكلة جديدة؛ إنها مظلمة التحريف والتزييف، ونحن نعلم أن جل الأئمة لم يسلموا من تشويه واتهام، فالحسين (عليه السلام) قتل بسيف جده؟!! والرضا (عليه السلام) بقبوله ولاية العهد أعطى الشرعية للعباسيين الظالمين! والإمام علي (عليه السلام) أمضى بيعة الخلفاء وتنازل عن حقه الشرعي! إلى آخره من تفسيرات تتنافى مع عصمتهم، وسلامة خطهم.
ولكن سيرة الحسن (عليه السلام) تواجه ما لا تواجهه سيرة أي إمام آخر من التأويلات الباطلة والتشويهات المقصودة.
فالحسن (عليه السلام) عند الكثيرين رجل مزواج مطلاق، تجاوز عدد زوجاته المائة وخمسين زوجة!! حتى أن الإمام علي (عليه السلام) ضجر منه فقال: «لا تزوجوا ولدي حسن فإنه مطلاق»!
ومؤرخ آخر: يرى أنه متردد ولا يمتلك شخصية قوية(1) ولا يملك أهلية القيادة..الخ.
ومن جهة ثانية أخضعت سيرة الحسن (للحط من شأنه والعياذ بالله) إلى مقارنات ظالمة تارة مع معاوية للتدليل على حنكة الأخير وعدم خبرة الإمام!!
وطوراً مع الإمام علي (عليه السلام) للتدليل على حزم علي (عليه السلام) وجرأته وضعف الحسن (عليه السلام) وتردده!
وطورا آخر مع الحسين (عليه السلام) للتدليل على ثورية الحسين (عليه السلام) وسلبية واستسلام الحسن (عليه السلام).
هذه الإثارات المجحفة في حق الحسن (عليه السلام) يغرزها عدم تأطير هذه البحوث بالإطار العقائدي للإمامة فهم ينظرون للحسن (عليه السلام) كقائد سياسي فحسب ويلغون صفته كإمام وحافظ للدين والقيم!!
____________
(1) انظر: هشام جعيط، الفتنة، دار الطليعة ص316.
فلتكن بعون الله دراستنا عن الحسن (عليه السلام) وخياراته الصعبة مسلحة بأدوات منهجية تتجاوز هذه الأخطاء والعوائق، حتى نفهم حقاً موقعه ونقرأ قراءة واقعية صلحه الذي كثر حوله اللغط والجدل. والدراسة تقوم إلى جانب هذه المقدمة على أربعة فصول وخاتمة.
الفصل الأول: الإمام الحسن من المهد إلى اللحد.
الفصل الثاني: معاهدة الصلح البنود والسياق التاريخي.
الفصل الثالث: أبعاد الصلح وأسراره.
الفصل الرابع: شبهات حول الصلح.
الخاتمة: صلح الحسن وخيارات الأمة الراهنة الصعبة!!
____________
(1) سيأتي تفصيل هذا المنهج في الفصل الرابع.
الفصل الأول:
الإمام الحسن (عليه السلام)
من المهد إلى اللحد
عاش الإمام الحسن (عليه السلام) على امتداد خمسة عقود تقريبا غنية بالأحداث والتحولات، هذه الحياة القصيرة نسبياً واكب الإمام عبرها منعرجات حاسمة في تاريخ الأمة الإسلامية تحكمت في مصيرها طوال قرون مديدة.
وبنظرة فاحصة يمكن أن نقسم حياة الحسن المجتبى إلى خمس مراحل:
- المرحلة الأولى: من الميلاد إلى وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله).
- المرحلة الثانية: الإمام الحسن في ظل الخلفاء.
- المرحلة الثالثة: الإمام في ظل إمامة علي (عليه السلام).
- المرحلة الرابعة: من استشهاد علي (عليه السلام) إلى عقد
- المرحلة الخامسة: من العودة إلى المدينة إلى استشهاده.
المرحلة الأولى: من الميلاد إلى وفاة الرسول.
ولد الإمام الحسن (عليه السلام) في منتصف رمضان من السنة الثالثة للهجرة (3هـ).
أسماه رسول الله حسناً حيث لم يشأ علي (عليه السلام) أن يسبق النبي في تسميته وكان أول من سمي بهذا الاسم. والحسين اشتق من هذا الاسم أيضا والمروي أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سمى حسناً وحسينا (رضي الله عنهما) واشتق اسم حسين من اسم حسن(1).
وعن جعفر بن محمد (عليه السلام) أن فاطمة (عليها السلام) حلقت حسناً وحسيناً يوم سابعهما ووزنت شعرها فتصدقت بوزنه فضة(2).
لقد عاش الحسن طفولته في أعظم بيوتات التاريخ في {بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36)
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي ط1 ج16 ص210.
(2) م. س ص211.
كانت طفولة فريدة نمت وترعرعت في أجواء الدين وعبق الرسالة في السنوات السبع الأخيرة من حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين وطد أركان الدولة الإسلامية داخل الجزيرة العربية وسقطت جميع حصون الشرك والكفر وأمنت الدولة الفتية وثغورها.
عاش الحسن طفولته في ظلال النبوة وهي تتحرك لتعلي كلمة (لا اله إلا اله محمد رسول الله) أولى الكلمات التي تناهت إلى سمعه من فم رسول الله وهو وليد، عاش طفولة غمرها الرسول بفيض من العاطفة والحنان، فالروايات تحدثنا أن الرسول كان يحمله على عاتقه وهو يقول: «اللهم إني أُحبه فأحبَّه».
وعن عائشة انه كان يأخذه فيضمه ويقول: «إن هذا ابني وأنا أحبه وأحب من يحبه».
وتروي كتب الحديث: أن الحسن كان يأتي جده وهو ساجد فيطيل السجود والحسن على ظهره فإذا فرغ قال للمصلين: لقد ترحلني الحسن فكرهت أن أعجله.
وللأسف فالتاريخ لا يحدثنا كثيراً عن الحسن في هذه الفترة ربما لصغر سنه، ولكن الروايات خلدت تلك الكلمات العظيمة التي رسخت حب الحسن في وجدان الأمة وعززت مكانته بين صفوفها:
«الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا».
«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».
«من أحبني فليحبهما ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله وأدخله النار».
إضافة إلى آيات الوحي النازلة في تمجيد أهل البيت عموماً وأصحاب الكساء، فالحسن أحدهم بلا نزاع.
مات الرسول ولما يبلغ الحسن الثامنة، مات رسول الله وهو يتوج حفيده بكلمات شامخة في حقه بأنه وريث هيبته وسؤدده «فقد أتت فاطمة (عليها السلام) بابنيها إلى رسول الله في شكواه الذي توفي فيه فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئاً فقال: أما حسن فله هيبتي وسؤددي وأما حسين فله جرأتي وجودي»(1).
امتزج حزن الحسن عن جده بحزن أمه الزهراء على أبيها فهي مازالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة.
المرحلة الثانية: الإمام الحسن زمن الخلفاء.
امتدت هذه الفترة إلى سنة 35ه تقريباً عام مقتل عثمان ومبايعة الإمام علي (عليه السلام) ولا يسعفنا التاريخ هنا أيضا بمعلومات
____________
(1) ابن أبي الحديد شرح النهج: ج16 ص211.
عاش الحسن في بداية هذه الحقبة مع أبويه أحزان رحيل الرسول (صلّى الله عليه وآله) والانقلاب الخطير الذي أقصيَ بموجبه الإمام علي عن الحكم. كان الحسن (عليه السلام) شاهداً على تلك الأحداث يمزق قلبه حزن فراق جده، والحزن لما أصاب أمه وأباه من ويلات القوم وكأنهم يثأرون من وصي الرسول وبنته (عليها السلام) لأجدادهم المشركين وعشائرهم في الجاهلية.
شهد الحسن الهجوم على بيت والديه، والتنكيل بعلي (عليه السلام) وغصب إرث الزهراء.. عاش أجواء المحاصرة لأهل البيت وأنصارهم، وشهد انقلاب القوم على أعقابهم {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللهَ شَيْئاً} (آل عمران: 144).
ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى توفيت الزهراء (عليها السلام) لتكون أول أهل الرسول لحوقاً به كما بشرها النبي على فراش الموت، مصيبة جديدة تهتز لها الطفولة البريئة ولما تلتئم
في خلافة أبي بكر يروي المحدثون موقفاً للحسن يعكس بوضوح ما يختزنه الإمام على صغر سنه من رفض واحتجاج: فقد رأى الحسن أبا بكر يخطب من فوق المنبر فيندفع نحوه وهو يقول: «انزل عن منبر أبي فيقول له الخليفة: بأبي أنت يابن رسول الله لعمري إنه منبر أبيك لا منبر أبي».
مات الخليفة الأول ولم يتجاوز عمر الحسن عشر سنوات لكنه مع خلافة عمر بن الخطاب بلغ أشده وتخطى سن الطفولة إلى عنفوان الشباب مما يجعلنا ننتظر منه دورا أعظم لكن الحصار المضروب على علي (عليه السلام) وآله سيبقى مستمراً. ولم يخض علي (عليه السلام) في الحياة السياسية إلا بمقدار الضرورة حيث يتدخّل في الحالات الطارئة التي تشكل خطراً غير عادي على الرسالة
وربما أرجع البعض الأمر إلى الحصار الذي ضربه الخليفة عمر على كبار الصحابة ومنعهم من الخروج من المدينة، وقد كان ألحق الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان بأهل بدر في العطاء (خمسة آلاف درهم). يقول هاشم معروف الحسني: «ومن المؤكد أنهما (أي الحسن والحسين) لم يشتركا في المعارك الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب بالرغم من أنها قد بلغت ذروتها في مختلف المناطق والانتصارات يتلو بعضهما بعضاً والأموال والغنائم تتدفق على المدينة من هنا وهناك ولم تظهر بادرة للإمام أبي محمد الحسن طيلة عهد الخليفة الثاني في حين أنه كان في السنين الأخيرة من خلافة ابن الخطاب قد أشرف على العشرين من عمره وهو سن يخوّله الاشتراك في الحروب والغزوات ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى انصراف أمير المؤمنين عن التدخل في شؤون الدولة والحياة السياسية، ومما لا شك فيه أن عدم اشتراك الإمام في الحروب والغزوات لم يكن مرده إلى تقاعس الإمام وحرصه على سلامة نفسه بل كان كما يذهب
وتؤكد كتب التاريخ من جهة أخرى مشاركة الحسن في فتح أفريقية بقيادة عبد الله بن نافع وأخيه عقبة في جيش بلغ عشر آلاف مجاهد كما شارك في غزو طبرستان في الجيش الذي جهزه عثمان بقيادة سعيد بن العاص. مع الحسن وعبد الله بن العباس وغيرهم من أجلاء الصحابة.
إزاء عثمان لم يكن للحسن موقف مضاد لموقف أبيه كما تحاول أن توهم بعض الدراسات فالحسن كان رهن إشارة أبيه في محاولاته للإصلاح مهما أمكن وتقريب وجهات النظر بين الثوار وعثمان. وبلغ الإمام علي قصار جهده في الإصلاح لكنه انسحب من الوساطة في الأخير بعد نكول عثمان عن وعوده التي قطعها للثوار وعدم التزامه بما تعهد به عبر وساطة الإمام حتى قال علي (عليه السلام): «والله لقد دافعت عن عثمان حتى خشيت أن أكون آثما».
____________
(1) هاشم معروف الحسني: سيرة الأئمة الاثني عشر، ج1 ص534.
ووقف مروان بن الحكم يهدد الحسن: «ألا تعلم يا حسن أن الخليفة قد نهى عن وداع أبي ذر والتحدث إليه فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك» ولكن الحسن لم يكترث له وودع أبا ذر بقول بليغ: «يا عماه لولا ينبغي للمودع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف وقد أتى القوم إليك فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها واصبر حتى تلقى نبيك ويحكم الله بينك وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين».
المرحلة الثالثة: الإمام الحسن في ظل حكم علي (عليه السلام).
لم يكن الحسن على خلاف مع أبيه، بل كان مع علي في كل صغيرة وكبيرة لا يعصى له أمر، كيف لا وهو الأدرى بإمامته ومكانته وأن «علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار».
في عهد علي (عليه السلام) سعى الحسن كما هو حال الأصحاب الأجلاء من خاصة علي لإنقاذ الخلافة وإصلاح حال الأمة بعدما فعل فيها الانحراف ما فعل. فكان رفيق درب أبيه في كل الحروب والوقائع: صفين والجمل والنهروان...
ولم يتوقف دوره على القتال بل اعتمد عليه أمير المؤمنين في مهمات أخرى مثل المهمة التي أوكله إياها الإمام علي باستنفار أهل الكوفة للقتال معه في حرب البصرة فسار الحسن (عليه السلام) مع عمار بن ياسر وزيد بن حومان وقيس بن سعد وخطب الحسن في الناس واستنفرهم للخروج وكان أبو موسى يثبّط عزائم
____________
(1) هاشم معروف الحسني: مصدر سابق ص542.
وأمر الحسن أبا موسى الأشعري بالتنحي قائلاً: «اعتزل عملنا لا أم لك وتنح عن منبرنا» ودخل مالك الأشتر القصر وأخرج الحرس منه، وخرج أبو موسى من المسجد واستجاب الناس للحسن وخرج معه للبصرة اثنا عشر ألفاً.
فالحسن كان حاضراً في كل مواقع القتال وإن كان علي يضنّ به وبأخيه الحسين فقد جاء في نهج البلاغة حين رأى الحسن يندفع في المعركة «املكوا عني هذا الغلام لا يهدني فإنني أنفس بهذين (يعني الحسن والحسين) على الموت لئلا ينقطع بهما نسل
وتؤكد المصادر الموثوقة أن الحسن بقي إلى جانب والده إلى آخر لحظة وكان يعاني ما يعانيه أبوه من أهل العراق ويتألم لآلامه ومتاعبه وهو يرى معاوية يبث دعاته في أنحاء العراق ويغوي السادة والزعماء بالأموال والمناصب حتى فرق أكثرهم عنه وأصبح أمير المؤمنين يتمنى فراقهم بالموت أو بالقتل ثم يبكي ويقبض لحيته ويقول متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من هذا(2).
وينبعث أشقاها فجر التاسع عشر من شهر رمضان ليغتال علياً وهو في أوج الاستعداد لقتال أهل الشام..
واستشهد الإمام في الحادي والعشرين من رمضان سنة 41هـ، وقبل وفاته يوصي لابنه الحسن (عليه السلام):
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال أوصى أمير المؤمنين إلى الحسن وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ثم دفع إليه الكتب والسلاح ثم قال لابنه
____________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 207 من خطب أمير المؤمنين.
(2) هاشم معروف الحسني: مصدر سابق ص552.
«يا بني أمرني رسول الله أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله ودفع إليّ كتبه وسلاحه وآمرني أن أمرك إذا حضرك الموت أن تدفعه إلى أخيك الحسين..
ثم أقبل على ابنه الحسن فقال: يا بني أنت وليّ الأمر ووليّ الدم فإن عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم»(1).
المرحلة الرابعة: من استشهاد أمير المؤمنين إلى عقد الصلح.
اجتمع الناس في مسجد الكوفة ينتظرون تأبين الفقيد الغالي علي (عليه السلام)، فقام الحسن (عليه السلام) خطيباً: «قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيسبقه بنفسه ولقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى
____________
(1) الكليني: أصول الكافي، كتاب الحجة باب الإشارة والنص على الحسن الحديث رقم 5.
ثم قام عبيد الله بن العباس بحذاء المنبر في المسجد الجامع وقال بصوته المدوي: «معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه يهدي به الله من اتبع الرضوان سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم».
____________
(1) ابن أبي الحديد: شرح النهج، ج16 ص224.