الفضائل
لأبى الفضل سديد
الدين شاذان بن جبرائيل بن إسماعيل ابن أبي طالب القمّي
نزيل المدينة النبوية
وهو صاحب كتاب (إزاحة العلّة) المذكور
في (البحار) وكان من مشايخ الإجازة، روى عنه فخار بن مَعْد الموسوي وروى هو عن
أبيه وعن العماد الطبَري صاحب كتاب (بشارة المصطفى) (المطبوع في النجَف)، وقد
عاصَر ابن إدريس، وتوفّي في حدود سنة 660 هـ،
منشورات المطبعة الحيدرية
ومكتبتها في النجف الأشرف
سنة الطبع: 1962 م - 1381 هـ.
الفهرس
إحياء عليّ (عليه السلام) للميّت
حديث
مولد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)
مولد
الإمام عليّ (عليه السلام)
خبر
ردّ الشمس لأمير المؤمنين (عليه السلام)
خبر
كلام الشمس معه (عليه السلام)
معاجز
أمير المؤمنين (عليه السلام)
خبر
الشيخ معاذ بن جبَل مع معاوية بن أبى سفيان
(خبر
مفاخرة عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهما السلام))
حديث
مفاخرة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع ولده الحسين (عليه السلام)
حكاية
وفاة سلمان الفارسي (رضي الله عنه)
في فضائل
الإمام عليّ (عليه السلام)
خبر
المنصور في فضل أهل البيت (عليهم السلام)
اعتراف
عمر بوصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام)
رؤية
إبراهيم أنوار النبيّ والأئمّة
خبر
المفلوج الذي أبرأه عليّ (عليه السلام)
خبر
كلام السبع مع عليّ (عليه السلام)
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة
والسلام على محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين، مِن الآن إلى يوم الدين.
إحياء
عليّ (عليه السلام) للميّت
حدّثني الشيخ الفقيه (أبو الفضل شاذان بن جبرئيل
القمّي) قال: حدّثني الشيح محمّد بن أبى مسلم بن أبي الفوارس الدارمي، وقد رواه
كثير من الأصحاب، حتى انتهى إلى أبي جعفر ميثم التمّار، قال: بينما نحن بين يدَي
مولانا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة وجماعة من أصحاب رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) مُحدقون به كأنّه البدر في تمامه بين
الكواكب في السماء الصاحية، إذ دخَل عليه من الباب رجلٌ طويل علية قِباء خز أدكَن
متعمّم بعمامةٍ أتحميّة صفراء وهو مقلّد بسيفين، فدخَل
من غير سلام ولَم ينطق بكلام فتطاول الناس بالأعناق، ونظروا إليه بالآماق، وشخَصوا
إليه بالأحداق، ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لا يرفع
رأسه إليه، فلمّا هدأت من الناس الحواس فحينئذٍ أفصَح عن لسانه كأنّه حسام جُذِب
مِن غمده، ثمّ قال: أيّكم المجتبى في الشجاعة، والمعمّم بالبراعة، والمدرّع
بالقناعة، أيّكم المولود في الحرَم، والعالي في الشيَم، والموصوف بالكرَم؟
أيّكم الأصلع الرأس، والثابت الأساس،
والبطل الدعّاس، والآخذ بالقَصاص، والمضيّق للأنفاس؟ أيّكم غصنُ أبي طالب الرطيب،
وبطَله المهيب، والسهم المصيب والقسم والنجيب؟ أيّكم خليفة محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذي نُصِر به في زمانه، وعزّ به سلطانه، وعظُم به
شأنه؟ أيّكم قاتل العُمَرين وآسر العُمَرين؟ فعند ذلك رفَع أمير المؤمنين (عليه
السلام) رأسه إليه فقال له (عليه السلام): (يا مالك، يا أبا سعْد بن الفضل بن
الربيع بن مدركة ابن نجيبة بن الصلْت بن الحارث بن الأشعث بن السمعمع
الدويني، سل عمّا بدا لك، فأنا كنزُ الملهوف، وأنا
الموصوف بالمعروف، أنا الذي أفرعتني الصمّ الصلاب، وأنا
المنعوت في كلّ كتاب، أنا الطود والأسباب أنا ق والقرآن المجيد، وأنا النبأ
العظيم، أنا الصراط المستقيم، أنا علي موآخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
وزوج ابنته ووارث عِلمه وعيبة حكمته والخليفة مِن بعده).
فقال الإعرابي: بلَغنا عنك إنّك معجز
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام الولي ليس لك
مطاول فيطاولك، ولا مُمانع فيصاولك، أهو كما بلغنا عنك يا فتى قومه؟ قال عليّ
(عليه السلام): (قل ما بدا لك)، فقال: إنّي رسولٌ إليك من ستّين ألف رجُل يُقال
لهم (العقيمية)،
وقد حملوا معي رجُلاً ميّتا قد مات منذ مدّة وقد اختُلِف في سببِ موته وهو على باب
المسجِد فإنْ أحييته علِمنا أنّك وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صادقٌ نجيب الأصل وتحقّقنا أنّك حجّة الله في أرضه،
وخليفةٌ في عباده، وإنْ لم تقدِر على ذلك ردَدته على قومه وعلِمنا أنّك تدّعي غير
الصواب وتُظهِر مِن نفسِك مالا تقدِر عليه.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا
أبا جعفر، (وهو ميثم التمّار) اركب
بعيراً وطُف في شوارع الكوفة ومحلاّتها، ونادِ مَن أراد أنْ ينظر إلى ما أعطى الله
عليّاً أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بعل فاطمة
(عليها السلام) ممّا أودعه رسول الله مِن العِلم فيه فليخرج إلى النجف غداً)، فهرع
الناس إلى النجف فلمّا رجع ميثم من النداء قال له عليّ (عليه السلام): (خذ
الإعرابي إلى ضيافتك، فغداة غد سيأتيك الله بالفرج) قال ميثم: فأخذت الإعرابي ومعه
محمل فيه ميّت فأنزلته منزلي وأخدمته أهلي، فلمّا صلّى أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) الفجْر خرَج وخرجْت معه ولَم يبقَ في الكوفة بَرٌّ ولا فاجر
إلاّ و خرَج إلى النجف، فقال (عليه السلام): (يا أبا جعفر، علَيَّ بالإعرابي
وصاحبه الميّت) فخرجتُ مِن عنده وإذا أنا بالإعرابي وهو راجل تحت القبّة التي فيها
الميّت فأتى بها إلى النجف، فعند ذلك قال (عليه السلام): (يا أهل الكوفة، قولوا
فينا ماتَرَونه، وارووا عنّا ما تسمعونه، وأوردوا ما
تُشاهدونه منّا)، ثمّ قال:
(يا إعرابي، ابرك جملَك واخرج صاحبك أنت وجماعة من المسلمين).
قال ميثم: فاخرج تابوتا من الساج وفيه
من قصَب وطاء ديباج فحلّه وإذا تحته بدرة من اللؤلؤ وفيها غلامٌ قد تمّ عذاره
بذوائب كذوائب المرأة الحسناء، فقال (عليه السلام): (يا إعرابي كم لميّتك هذا)
فقال: أحد وأربعون يوماً، فقال: (ما كان سبب موته)، فقال الإعرابي: يا فتى، أهله يريدون
أنْ تُحييه ليخبرهم مَن قتَلَه فيعلموه، لأنّه بات سالماً وأصبح مذبوحاً من الأُذن
إلى الأُذن، فقال له (عليه السلام): (مَن يطلب بدمه؟) قال خمسون رجلاً من قومه
يعضُد بعضُهم بعضاً في طلَب دمِه، فاكشف الشكّ والريب يا أخا رسول الله، فقال
(عليه السلام):
(هذا الميّت قتَلَه عمّه؛ لأنّه تزوّج ابنته
فخلاّها وتزوّج غيرها فقتَلَه حُنقا عليه) فقال الإعرابي: لسنا نرضى بقولك وإنّما
نريد أنّ يشهد هذا الغلام بنفسه عند أهله، مَن قتله حتى لا يقع بينهم السيف
والفتنة والقتال، فعند ذلك قام عليّ (عليه السلام) فحمِد الله وأثنى عليه وذكَر
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فصلّى عليه ثمّ قال: (يا
أهل الكوفة، ما بقرة بني إسرائيل بأجلّ مِن عليّ أخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإنّها أحيَت ميّتاً بعد سبعة أيّام) ثمّ دنا من
الميّت فقال: (إنّ بقرة بني إسرائيل ضرَب بعضها الميّت فعاش، وأنا أضربه ببعضي
فإنّ بعضي عند الله خيرٌ مِن البقرة كلّها) ثمّ هزّه برجله اليُمني وقال: (قُم
بإذن الله تعالى يا مدرك بن حنضلة بن غسّان بن يحيى بن
سلامة ابن الطبيب ابن الأشعث، فها قد أحياك الله تعالى على يدَيّ عليّ بن أبي طالب).
قال ميثم التمّار: فنهَض غلامٌ أحسَن من
الشمس أوصافاً ومِن القمر أضعافاً وقال: لبّيك لبّيك يا
حجّة الله تعالى على الأنام، والمتفرّد بالفضل والإنعام، فقال له عليّ (عليه
السلام): (مَن قاتلك؟) فقال: قاتلي عمّي الحاسد حبيب بن غسّان، فقال أمير المؤمنين
(عليه السلام): (انطلق إلى اهلك يا غلام) قال لا حاجة بي إلى أهلي، فقال أمير
المؤمنين (عليه السلام): (ولِمَ؟)، قال: أخاف أنْ أُقتَل ثانية ولا تكون أنتَ فمَن
يحييني؟ فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى الإعرابي وقال: (امض أنت إلى أهلِك واخبرهم بما رأيت) فقال الإعرابي: وأنا أيضاً قد اخترت المقام
معك إلى أنْ يأتي الأجل فلعَن الله تعالى مَن انجلى له الحق ووضح وجعل بينه وبين
الحقِّ سِترا، فأقاما مع عليّ (عليه السلام) إلى أنْ قتَلا معه بصفّين وسار أهل
الكوفة إلى منازلهم واختلفوا في أقاويلهم فيه (عليه السلام)
(خبر آخر):
عن ابن عبّاس (رضي الله عنه)، قال سمِعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (أعطاني الله تعالى خمساً وأعطى عليّاً (عليه
السلام) خمساً، أعطاني جوامِع الكلِم وأعطى عليّاً جوامع العِلم، وجعَلني نبيّاً
وجعَله وصيّاً، وأعطاني الكوثر وأعطاه السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام،
وأسرى بي إليه وفتَح له أبواب السماوات والحُجب حتى نظَر إليّ ونظرت إليه) قال:
ثمّ بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلتُ له: ما
يُبكيك يا رسول الله، فداك أبي وأُمّي قال: (بابن عبّاس، إنّ أوّل ما كلّمني به
ربّى (قال يا محمّد انظر تحتك)، فنظرت إلى الحُجُب قد انخرقت وإلى أبواب السماء قد
انفتَحَت ونظرت إلى عليّ وهو رافعٌ رأسه إليّ، فكلّمني وكلّمته وكلّمني ربّي عزّ
وجل).
قال: فقلت: يا رسول الله بما كلّمك ربّك
قال: (قال لي: (يا محمّد، إنّي جعلتُ عليّاً وصيّك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فاعلمه
فها هو يسمَع كلامك) فأعلَمته وأنا بين يدَي ربّى عزّ وجل فقال لي: (قد قبلت
واطّلعت) فأمر الله تعالى الملائكة يتباشرون به وما مرَرت بملأٍ من ملائكة
السماوات إلاّ هنّأوني وقالوا يا محمد والذي بعثك بالحق نبيا لقد دخل السرور على
جميع الملائكة باستخلاف الله عزّ وجل ابن عمك ورأيت حملة العرش قد نكّسوا رؤوسَهم
إلى الأرض، فقلتُ: يا جبرائيل، لمَ نكّس حمَلة العرش رؤوسهم؟ قال: يا محمّد، ما
مِن ملَك من الملائكة إلاّ وقد نظَر إلى وجه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
استبشاراً به ما خلا حمَلَة العرش، فإنّهم استأذنوا الله عزّوجل في هذه الساعة
فأذِن لهم فنظروا إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فلمّا هبَطت جعلتُ أُخبره
بذلك وهو يُخبرني به، فعلمتُ أنّي لم أطأ موطئاً إلاّ وقد كُشِف لعليّ عنه حتى نظر
إليه).
فقال ابن عبّاس (رضي الله عنه): فقلت:
يا رسول الله: أوصني، فقال: (عليك بمودّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، والذي
بعثني بالحقّ نبيّا لا يَقبل الله تعالى مِن عبدٍ حسنَةً حتى يسأله عن حبّ عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام)، وهو بقول أعلم، فمَن مات على ولايته قُبِل عمَله ما كان
منه، وإنْ لم يأتِ بولايته لا يُقبَل مِن عملِه شيء، ثمّ يؤمَر به إلى النار، يابن عباس، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً إنّ النار لأشدّ غضَباً
على مُبغِض عليّ (عليه السلام) منها على مَن زعَم أنّ لله ولداً، يابن عبّاس لو أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين
اجتمعوا على بغض عليّ بن أبي طالب مع ما يقَع من عبادتهم في السموات، لعذّبهم الله
تعالى في النار).
قلتُ: يا رسول الله، وهل يبغضه أحد؟
قال: (يابن عبّاس، نعَم يبغضه قومٌ يُذكر مِن أنّهم مِن
أُمّتي لم يجعَل الله لهم في الإسلام نصيباً، يا ابن عبّاس، إنّ مِن علامة بُغضهم
له تفضيلهم لمَن هو دونه عليه، والذي بعثَني بالحقّ نبيّاً ما بعَث الله نبيّاً
أكرم عليه منّي ولا وصيّاً أكرَم عليه من وصيّي).
قال ابن عبّاس فلَم أزَل له كما أمَرني
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأوصاني بمودّته وأنّه
لأكبر عملي عندي، قال ابن عبّاس: ثمّ مضى مِن الزمان ما مضى وحضَرَت رسولَ الله
(صلّى الله عليه وآله) الوفاة، فقلتُ فِداك أبي وأُمّي
يا رسول الله، (صلّى الله عليه وآله) وقد دنا أجلُك فما
تأمرني؟ قال: (يا ابن عبّاس، خالف مَن خالف عليّاً ولا تكونّن لهم ظهيراً ولا
وليّاً).
قلت: يا رسول الله، ولِم لا تأمر الناس
بترك مخالفته؟ قال: فبكى (صلّى الله عليه وآله) ثمّ
قال: (يا ابن عبّاس سبَق فيهم علم ربّي، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لا يخرج أحدٌ
ممّن خالفه من الدنيا وأنكر حقّه حتى يُغيّر الله تعالى ما به من نعمة، يا ابن
عبّاس إذا أردتَ أنْ تلقى الله تعالى وهو عنك راضٍ فاسلك طريقة عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) ومل معه حيث مال، ارض به إماما، وعاد من عاداه ووال من والاه، يا
ابن عبّاس حذر من أنْ يدخلك شكٌّ فيه؛ فإنّ الشكّ في عليّ كُفرٌ بالله تعالى).
(خبرٌ آخر)
عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام)، عن جابر بن عبد
الله الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ
جبرائيل (عليه السلام) نزَل علَيّ وقال: يا محمّد، إنّ الله تعالى يأمرك أنْ تقوم
بتفضيل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خطيباً على المنبر؛ ليبلّغوا من بعدهم ذلك
عنك، ويأمر جميع الملائكة أنْ يسمَعوا ما تذكره، والله يوحي إليك يا محمّد إنّ مَن
خالفَك في أمرك فله النار، ومن أطاعك فله الجنّة).
فأمَر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) منادياً نادى بالصلاة جامعة، فاجتمع الناس وخرَج النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) ورقى المنبر، وكان أوّل ما تكلّم
به: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ثمّ قال (صلّى الله
عليه وآله): (أيّها الناس، أنا البشير أنا النذير أنا
النبي الأُمّيّ، وأنا مبلّغكم عن الله عزّ وجل في رجلٍ لحمه لحمي ودمه دمي، وهو
عيبة عِلمي وهو الذي انتخبه الله تعالى من هذه الأُمّة واصطفاه وهذّبه وتولاّه،
وخلقني وإيّاه من نورٍ واحد وفضّلني بالرسالة وفضّله بالإمامة والتبليغ عنّي،
وجعلني مدينة العِلم وجعلَه الباب خازن العلم والمفتّش منه الأحكام، وخصّه بالوصية
وأبان أمره وخوّفَ من عداوته، وأزلَف لمَن والاه وغفَر لشيعته وأمر الناس جميعا
بطاعته، وأنّه عزّ وجل ويقول: مَن عاداه عاداني ومَن والاه والاني، ومَن آذاه
آذاني ومن ناصبه ناصبني، ومن خالفه خالفني ومن أبغضه أبغضني، ومَن أحبّه أحبّني
ومَن أراده أرادني ومَن كاده كادني ومن نصره نصرني،
أيّها الناس، اسمعوا لما آمركم به وأطيعوه فأنا
أُخوّفكم عقاب الله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ))، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام)
وقال: (معاشر الناس، هذا مولى المؤمنين
وحجّة الله على الخلق أجمعين، اللهم إنّي قد بلّغت وهُم عبادك وأنت القادر على
صلاحهم فأصلحهم برحمتك يا ارحم الراحمين، استغفر الله لي ولكم).
ثمّ نزَل عن المنبر فاتاه جبرائيل (عليه
السلام) فقال: (يا محمّد، إنّ الله تعالى يُقرئك السلام ويقول لك: جزاك الله تعالى
عن تبليغك خيراً؛ فقد بلّغت رسالات ربّك ونصحت لأُمّتك وأرضيت المؤمنين وأرغمت
الكافرين، يا محمّد، إنّ ابن عمّك مبتلى ومبتلىً به، يا محمّد، قل في كلّ أوقاتك
الحمد الله ربّ العالمين وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والحمد لله حق
حمده).
(خبرٌ آخر):
عن جابر بن يزيد الجعفي قال: خدمت سيّدنا الإمام عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) وودّعته وقلتُ أفدني فقال: (يا جابر، بلّغ شيعتي منّي السلام
وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزّ وجل ولا يقترب إليه إلاّ بالطاعة له،
يا جابر، مَن أطاع الله وأحبّنا فهو وليّنا ومَن عصى الله لم ينفعه حبّنا، ومَن
أحبّنا وأحب عدوّنا فهو في النار، يا جابر، مَن هذا الذي سأل الله تعالى فلَم
يعطه، وتوكّل عليه فلم يكفِه، ووثق به فلَم يُنجّه، يا جابر انزل الدنيا منك
كمنزلٍ نزلته فإنّ الدنيا للتحويل عنها، وهل الدنيا إلاّ دابّة ركِبتها في منامك
فاستيقظت وأنتَ على فراشك، هي عند ذوي الألباب كفئ الظلال، لا إله إلا الله أعذار
لأهل دعوة الإسلام، والصلاة تثبيت للإخلاص وتنزيه عن الكبر، والزكاة تزويد في
الرزق، والصيام والحج لتسكين القلوب، والقصاص والحدود لحقن الدماء، فإنّ أهل البيت
نظام الدين، جعلنا الله وإيّاكم من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهُم من الساعة
مشفقون).
(وممّا قاله النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) في فضل عليّ وأهل بيته):
عن ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: كان رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً إذا أقبل الحسن
(عليه السلام) فلمّا رآه بكى ثمّ قال: (إليّ إليّ يا
بنيّ)، فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه الأيمن، ثمّ أقبل الحسين (عليه السلام)
فلمّا رآه بكي ثمّ قال: (إليّ إليّ يا بنيّ) فما زال يدنيه
حتى أجلسه على فخذه الأيسر، ثمّ أقبلت فاطمة (عليه السلام) فلمّا رآها بكى ثمّ
قال: (إليّ إليّ يا بنيّة) فما زال يُدنيها حتى أجلسها
بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فلمّا رآه بكى
ثمّ قال: (إليّ إليّ يا أخي) فما زال يُدنيه حتى أجلسه
إلى جنبيه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى أحداً من هؤلاء إلاّ
بكيت، أوَ ما فيهم مَن تسر برؤيته؟
فقال (صلّى الله عليه وآله): (والذي بعثني بالحقّ نبيّاً وبشيراً ونذيراً واصطفاني
على جميع البرية، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل، وما على وجه الأرض
نسمة أحبّ إليّ منهم، أمّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنّه أخي وشقيقي وصاحب
الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كلّ مؤمن
وقائد كلّ تقيّ وهو وصيّي وخليفتي على أُمّتي في حياتي وبعد مماتي، مُحبّه مُحبّي
ومُبغضه مُبغضي، وبولايته صارت أُمّتي مرحومة، وبعد وفاتي صارت بالمخالفة له
ملعونة فإنّي بكيت حين أقبل لأنّي ذكرت غدر الأُمّة به بعدي، حتى أنّه ليُزال عن
مقعدي وقد جعلَه الله بعدي له، ثمّ لا يزال الأمر به حتى يُضرَب على قَرنه ضربةً
تخضّب منها لحيته في أفضل الشهور، وهو شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدىً
للناس وبيّنات من الهدى والفرقان.
وأمّا ابنتي فاطمة (عليها السلام)
فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعةٌ منّى وهي نور عيني
وثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبَي وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها
بين يدَي ربّها جلّ جلاله زهَر نورها للملائكة في السماء كما يزهر الكواكب لأهل
الأرض، فيقول الله عزّ وجل للملائكة: يا ملائكتي، انظروا أَمَتي فاطمة سيّدة نساء
خلْقي قائمة بين يدَيّ، ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبَلت بقلبها على عبادتي،
أُشهدكم أنّي قد آمنت شيعتها من النار، وأنّي لما رأيتها تذكّرت ما يَصنع بها بعدى،
وكأنّي بها وقد دخَل عليها الذلّ في بيتها وانتُهكت حُرمتها، وغُصبت حقَّها
ومُنِعت إرثها، وكُسِر جَنبُها وسقط جنينها، وهي تنادي: وامحّمداه،
فلا تُجاب وتستغيث فلا تغاث فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، فتذكر انقطاع
الوحي عن بيتها مرّة وتذكر فراقي أُخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقدي وفقد صوتي،
الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن، ثمّ تُرى ذليلةً بعد أنْ كانت عزيزة،
فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره، بملائكةٍ فتناديها بمنادات
مريَم ابنة عمران: يا فاطمة، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين،
يا فاطمة، اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين، ثمّ يبتدئ بها الوجَع فتمرض
ويبعث الله عزّ وجل إليها مريم ابنة عمران، فتمرّضها وتُؤنسها في علّتها فتقول عند
ذلك: يا ربِّ إنّي قد سئمتُ الحياة، وتبرّمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي، فيلحقها
الله عزّ وجل فتكون أوّل من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم علَيّ محزونةً مكروبة
مغمومة معصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهمّ العن ظالمها وعاقب من غصبها حقّها،
وأذلّ من أذلّها وخلّد في النار مَن ضربها على جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول
الملائكة عند ذلك: آمين.
(وأمّا الحسن) فإنّه ابني وولدي ومنّي
وقرّة عيني وضياء قلبي وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة وحجّة الله تعالى
على الأئمّة، أمره أمري وقوله قولي فمَن تبِعه فإنّه منّي ومن عصاه فليس منّي،
وأنّي نظرت إليه فذكرت ما يجرى عليه من الذلّ بعدي فلا يزال الأمر به حتى يُقتل
بالسمّ ظلماً وعدواناً، فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد بموته، ويبكيه كلُّ
شيء حتى الطير في جوِّ السماء والحيتان في جوف الماء، فمن بكاه لم تعمَ عيناه يوم
تعمى الأعيُن ومَن حزَن عليه لم يحزَن قلبه يوم تحزَن القلوب، ومَن زاره في البقيع
ثبتت قدماه على الصراط يوم تزِلّ فيه الأقدام.
(وأمّا الحسين) فإنّه منّي وهو ابني
وولدي وخير الخلْقِ بعد أخيه، وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين وخليفة ربِّ
العالمين، وكهف المتحيّرين وحجّة الله تعالى على الخلق أجمعين، وهو سيّد شباب أهل
الجنّة وباب نجاة الأُمّة أمره أمري وطاعته طاعتي، ومَن تبعه فإنّه منّي ومَن عصاه
فليس منّي، وأنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي وكأنّي به وقد استجار بحرَمي
فلا يُجار فأضمّه في منامي إلى صدري، وآمره بالرحلة مِن دار هجرتي فأُبشّره
بالشهادة فيرتحل إلى أرض مقتله وموضع مصرعه، لأرضِ كرْبٍ وبلاء وقتلٍ وفناء،
فتنصره عصابةٌ من المسلمين أُولئك سادة شهداء أُمّتي يوم القيامة، وكأنّي انظر
إليه وقد رُمِيَ بسهم فخرّ من فرسه صريعاً، ثمّ يُذبَح كما يُذبح الكبش مظلوماً).
ثمّ بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبكى مَن حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قال (صلّى
الله عليه وآله): (ويقول اللهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى
أهل بيتي)، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (إذا كان
يوم القيامة يُزيّن العرش بكلّ زينه، ثمّ يؤتى بمنبرين من نور طولهما مِئة ميل،
فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يسار العرش، ثمّ يؤتى بالحسن والحسين
(عليهما السلام)، فيقوم الحسن (عليه السلام) على أحدهما والحسين (عليه السلام) على
الآخر، يُزيّن الربُّ تبارك وتعالى بهما عرشه كما تُزيّن المرأة قرطاها).
ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (إذا كان يوم القيامة تأتي ابنتي فاطمة (عليها السلام)
على ناقة من نوق الجنّة مدبّجة الجنبين خطامها من اللؤلؤ الرطَب، قوائمها من
الزمّرد الأخضر ذنبها من المسك الأذفَر، عيناها من ياقوتٍ أحمر عليها قبّة من نور
يُرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، وباطنها من عفوِ الله وظاهرها من رحمة
الله، على رأسها تاجٌ من نور وللتاج سبعون ركناً، كلّ ركن مرصّع بالدرّ والياقوت
يُضيء لأهل الجنّة كما يضيء الكوكب الدرّيّ في أُفُق السماء، عن يمينها سبعون ألف
ملَك وجبرئيل آخذٌ بخطام الناقة وهو ينادى بأعلى صوته: يا أهل الموقف، غُضّوا
أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
فلا يبقى يومئذٍ نبيّ ولا كريم ولا صدّيق ولا شهيد إلاّ غضّوا أبصارهم حتى تجوز
فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء العالمين، فتجوز حتى تُحاذي عرش ربّها جلّ جلاله فتنزل
بنفسها عن ناقتها فتقول: إلهي وسيّدي احكم بيني وبين من ظلمني، واحكم بيني وبين من
قَتَل ولدي، فإذا النداء من قِبل الله تعالى: يا حبيبتي وبنت حبيبي سلي تُعطَي
واشفعي تُشفّعي وعزّتي وجلالي لأجاوزنّ ظلم ظالم،
فتقول: يا ألهي، ذرّيتي وشيعة ذرّيتي ومحبّي ذرّيتي، فإذا النداء من قِبل الله عزّ
وجل أين ذرّية فاطمة وشيعتها وشيعة ذرّيتها ومحبّو ذرّيتها، فيقبلون وقد أحاطوا
بهم ملائكة الرحمة فتقدمهم فاطمة حتى تدخلهم الجنّة وصلّى الله عليها وعلى أبيها).
(خبر آخر):
قال سماعة بن مهران أنّ الصادق (عليه السلام) قال له: (يا سماعة، مَن شرُّ
الناس؟)، قال: نحن يابن رسول الله، قال: فغضب (عليه
السلام) حتى احمرّت وجنتاه، ثمّ استوى جالساً وكان متّكئا وقال:
(يا سماعة، مَن شرّ الناس عند الناس؟)،
فقلت: والله ما كذبتك يا ابن رسول الله، نحن شرّ الناس؛ لأنّهم سمّونا كفّار، أو
رفَضةً فنظر إليّ ثمّ قال: (كيف بكم وبهم إذا سيق بكم إلى الجنّة وسيق بهم إلى
النار، فينظرون إليكم فيقولون مالنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم من الأشرار؟!، يا
ابن مهران، إنّه مَن أساء منكم إساءةً مشينا إلى الله
تعالى بأقدامنا يوم القيامة فنُشفّع فيه، والله لا يدخل النار منكم عشرة رجال، ولا
يدخل النار منكم ثلاثة رجال، والله لا يدخل النار منكم رجلٌ واحد، فتنافسوا في
الدرجات وأكدوا عدوّكم المفزع).
حديث مولد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)
قال الواقدي: أوّل ما افتتح به عقيل ابن
أبي وقّاص حين خطَب آمنة لعبد الله بن عبد المطّلب أنْ قال: (بسم الله الرحمن
الرحيم الحمد لله الذي جعلنا من نسلِ إبراهيم، ومن شجرة إسماعيل، من غصن نزال ومن
ثمرة عبد مناف)، ثمّ أثنى على الله تعالى ثناءً بليغاً، وقال فيه جميلاً وأثنى على
اللات والعزّى ومناة، وذكرهم بالجميل وقال: لا يستغني عنكم مع هذا كلّه وعقَد
النكاح ونظر إلى وهَب وقال: يا أبا الوداج، زوّجت كريمتك آمنة من ابن سيّدنا عبد
المطّلب على صداق أربعة آلاف درهَم بيض هجرية جياد، وخمسمِئة مثقال ذهبٍ أحمر، قال:
نعم، ثمّ قال: يا عبد الله، قبلت بهذا الصداق يا أيّها السيّد الخاطب، قال: نعم،
ثمّ دعا لهما بالخير والكرامة ثمّ أمر وهَب أنْ تُقدّم المائدة فقُدّمت مائدة خضرة،
فأُتي من الطعام الحار والبارد والحلو والحامض، فأكلوا وشرِبوا، قال: ونثَر عبد
المطّلب على ولده قيمة ألف درهم من النثار وكان متّخذاً من مسك بنادق ومن عنبرٍ
ومن سُكّر ومِن كافور، ونثر ذهَب بقيمة ألف درهم عنبر وفرح الخلق بذلك فرَحاً
شديداً.
(قال الواقدي): فلمّا فرغوا من ذلك نظر
عبد المطّلب إلى وهَب وقال: وربّ السماء إنّي لا أُفارق هذا السقف أو أُؤلّف بين
ولدي عبد الله وحليلته، فقال وهب: بهذه السرعة لا يكون فقال عبد المطّلب: لا بدّ
من ذلك فقام وهب ودخل على امرأته برّة وقال لها: اعلمي أنّ عبد المطّلب قد حلَف
بربّ السماء أنّه لا يفارق هذا السقف أو يؤلّف بين ولده عبد الله وبين زوجته آمنة،
فقامت المرأة من وقتها ودعَت بعشرة من المشاطات
وأمرتهنّ أنْ يأخذنَ في زينة آمنة، فقعدن حول آمنة فواحدة منهن تنقش يديها، وواحدة
تخضّب رجليها، وواحدة تسرّح ذوائبها ووحدة تمسحها بالملاء، فلمّا كان عند غروب
الشمس وفرغن من زينتها نصَبوا سريراً من الخيزران وقد فرشوا عليه من ألوان الديباج
والوشي، وأُقعدت الجارية على السرير وعقدن على رأسها تاجاً وعلى جبينها إكليلاً
وعلى عنقها مخانق الدرّ والجواهر، وتختّمت بأنواع الخواتيم.
وجاء وهَب وقال لعبد المطّلب: يا سيدي
قم إلى العروس، فقام عبد المطّلب إلى العروس وهي كأنّها فلقة قمر، من حُسنها،
وتقدّم عبد المطّلب إلى السرير وقبّله وقبل عين العروس، فقال عبد المطّلب لولده
عبد الله: اجلس يا ولدي معها على السرير وافرح برؤيتها، قال فرفع عبد الله قدمه
وصعد إلى السرير وقعد إلى جنب العروس، وفرح عبد الله وكان من عبد الله إلى أهله ما
يكون من الرجال إلى النساء، فواقعها فحملت بسيّد المرسلين وخاتم النبيّين وقام من
عندها إلى عند أبيه فنظر إليه أبوه وإذا النور قد فارق من بين عينيه وبقي عليه من
أثر النور كالدرهم الصحيح، وذهب النور إلى ثدي آمنة فقام عبد المطّلب إلى عند آمنة
ونظَر إلى وجهها، فلم يكن النور كما كان في عبد الله بل أنور، فذهب عبد المطّلب
إلى عند حبيب الراهب فسأله عن ذلك، فقال حبيب: اعلم أنّ هذا النور هو صاحب النور
بعينه، وصار في بطن أُمّه فقام عبد المطّلب وخرج مع الرجل وبقي عبد الله عند أهله
إلى أنْ ذهبت الصفرة من يديه، وذلك أنّ العرب كانوا إذا دخلوا بأهلهم يخضّبون
أيديهم بالحنّاء، ولا يخرجون من عندهم وعلى أيديهم أثر من الحنّاء، فبقي عبد الله
أربعين يوماً وخرج ونظر أهل مكّة إلى عبد الله والنور قد فارق موضعه، فرجع عبد
المطّلب من عند حبيب وقد أتى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
شهر واحد في بطن أُمّه، ونادت الجبال بعضها بعضاً والأشجار بعضها بعضاً والسماوات
بعضها يستبشرون ويقولون: ألا أنّ محمّداً قد وقع في رحم أُمّه آمنة وقد أتى عليه
شهرٌ ففرحت بذلك الجبال والبحار والسماوات والأرضون فرحاً برسول الله (صلّى الله
عليه وآله).
ثمّ إنّ الله تعالى أراد قضاه على فاطمة
بنت عبد المطّلب، فورد عليه كتاب من يثرب بموت فاطمة وكان في الكتاب أنّها ورِثت
مالاً كثيرا خطيراً فاخرج إلى عندهم بأسرع ما تقدر عليه، قال عبد المطّلب لولده عبد
الله: يا ولدي، لا بدّ لك أنْ تجيء معي إلى المدينة، فسافر مع أبيه ودخَلا مدينة
يثرب وقبض عبد المطّلب المال، ولمّا انتهيا من دخولهما المدينة بعشر أيّام اعتلّ
عبد الله علّةً شديدة وبقي خمسة عشرَ يوماً، فلمّا كان يوم السادس عشَر ماتَ عبد
الله فبكى عليه أبوه عبد المطّلب بكاءً شديداً، وشقّ سقف البيت لأجله في دار فاطمة
بنت عبد المطّلب وإذا بهاتف يهتف ويقول: قد مات مَن كان في صلبه خاتم النبيّين
وأيّ نفسٍ لا تموت.
فقام عبد المطّلب فغسّله وكفّنه في
سكّةٍ يقال لها (شين)، وبنى على قبره قبّةً عظيمة من جصٍ وآجر وأحكمه ورجع إلى
مكّة، واستقبله رؤساء قريش وبنو هاشم واتّصل الخبر إلى آمنة بوفاة زوجها، فبكَت
ونفشت شعرها وخدشت وجهها ومزّقت جيبها ودعت بالنايحات
ينُحن على عبد الله، فجاء بعد ذلك عبد المطّلب إلى دار آمنة وطيّب قلبها ووهَب لها
في ذلك الوقت ألف درهم بيض وتاجَين قد اتّخذهما عبد مناف لبعض بناته، وقال لها: يا
آمنة، لا تحزني فإنّك عندي جليلة لأجل مَن في بطنك فلا يهمّك أمرك فسكتت وطيّب
قلبها.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه شهران أمر الله
تعالى منادياً في سماواته وأرضه، ينادى في السماوات
والأرض والملائكة أنْ استغفروا لمحمّد (صلّى الله عليه وآله)
وأُمّته، كل هذا ببركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه ثلاثة أشهر، كان
أبو قحافة راجعاً من الشام، فلمّا بلغ قريباً من مكّة وضعت ناقته جمجمتها على
الأرض ساجدة، وكان بيد أبي قحافة قضيب فضربها بأوجع ضرب
فلَم ترفع رأسها، فقال أبو قحافة، فما أرى ناقة تركَت صاحبها وإذا بهاتف يهتف
ويقول: لا تضرب يا أبا قحافة، مَن لا يطيعك، ألا ترى أنّ الجبال والبحار والأشجار
سوى الآدميّين سجدوا لله؟ فقال أبو قحافة: يا هاتف: وما السبب في ذلك؟ قال اعلم
أنّ النبيّ الأُميّ قد أتى عليه في بطن أُمّه ثلاثة أشهر، قال أبو قحافة ومتى يكون
خروجه؟ قال: سترى يا أبا قحافة إنْ شاء الله تعالى، فالويل كلّ الويل لعبَدَة
الأصنام من سيفه وسيف أصحابه، قال أبو قحافة: فوقفت ساعة حتى رفعَت الناقة رأسها
فركبتها وجئت إلى عبد المطّلب.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) أربعة أشهر، كان زاهد على الطريق
من الطائف وكان له صومعة بمكّة على مرحلة، قال: فخرج الزاهد وكان اسمه حبيباً فجاء
إلى بعض أصدقائه بمكّة، فلمّا بلغ أرض الموقف وإذا بصبيٍّ قد وضع جبينه على الأرض
وقد سجَد على جبهته قال حبيب: فدنوت منه فأخذته وإذا بهاتف يهتف ويقول: خلِّ عنه
يا حبيب، ألا ترى إلى الخلائق من البرّ والبحر والسهل والجبل قد سجدوا لله شكراً
لمّا أتى على النبيّ الزكيّ الرضيّ المرضيّ في بطن أمّه خمسة أشهر، وهذا الصبيّ قد
سجَد لله شكراً قال حبيب: فتركت الصبيّ ودخلت مكّة وبيّنت ذلك لعبد المطّلب وعبد
المطّلب يقول: اكتم هذا الاسم فإنّ لهذا الاسم أعداء، قال: وذهب حبيب إلى صومعته
فإذا الصومعة تهتزّ ولا تستقر وإذا على محرابه مكتوب وعلى محراب كلّ راهب مكتوب يا
أهل البِيَع و الصوامع، آمنوا بالله وبرسوله محمّد بن عبد الله فقد آن خروجه،
فطوبى ثمّ طوبى لمَن آمن به، والويل كلّ الويل لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا
يأتي به من عند ربّه، قال حبيب: فقلت السمع والطاعة إنّي لمؤمنٌ وطائع غير منكر.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
في بطن أُمّه ستّة أشهر، خرج أهل المدينة واليمَن إلى العيد وكان رسمهم أنّهم
كانوا يجعلون في كلّ سنة ستّة أعياد، وكانوا يذهبون عند شجرةٍ عظيمة يقال لها ذات
أنواط، وهي التي سمّاها الله في كتابه ومناة الثالثة الأُخرى، فذهبوا في ذلك العيد
وأكلوا وشربوا وفرحوا وتقاربوا من الشجرة، وإذا بصيحةٍ عظيمةٍ من وسط الشجرة، وهو
هاتفٌ يقول: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ) الآية، وقال:
(يا أهل اليمَن، ويا أهل اليمامة، ويا أهل البحرين، ويا مَن عبد الأصنام، ويا من
سجَد للأوثان، جاء الحقّ وزهَق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً. يا قوم، قد جاءكم الهلاك قد جاءكم التلَف قد
جاءكم الويل والثبور)،
قال: ففزعوا من ذلك وانهزموا راجعين إلى منازلهم متحيّرين متعجّبين من ذلك.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه سبعة أشهر، جاء
سواد بن قارب إلى عبد المطّلب فقال له: اعلم يا أبا الحارث، أنّي كنت البارحة بين
النوم واليقظة فرأيت أبواب السماء مفتّحة، ورأيت الملائكة ينزلون إلى الأرض معهم
ألوان الثياب يقولون: زيّنوا الأرض فقد قرُب خروج مَن اسمه محمّد، وهو نافلة عبد
المطّلب رسول الله إلى الأرض وإلى الأسود والأحمر والأصفر، والى الصغير والكبير
والذكر والأُنثى، صاحب السيف القاطع والسهم النافذ، فقلت لبعض الملائكة: مَن هذا
الذي تزعمون فقال: ويحك هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف
فهذا ما رأيت، فقال له عبد المطّلب، اكتم الرؤيا ولا تُخبر بها أحداً لننظر ما
يكون.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) في بطن أُمّة ثمانية أشهر، كان في بحر
الهوى حوتٌ يقال له طينوسا وهي سيّدة الحيتان، فتحرّكت الحيتان
وتحرّكت الحوت واستوَت على ذنبها وارتفعت وارتفع الموج عنها، فقالت الملائكة إلهنا
وسيّدنا ترى ما تفعل طينوسا ولا تطيعنا وليس لنا بها
قوّة (قال): فصاح استحيائيل الملَك صيحةً عظيمةً وقال
لها: قرّي يا طينوسا، ألا تعرفين مَن تحتك؟ فقالت طينوسا: يا استحيائيل، أمَر ربّي
يوم خلَقني أنْ إذا ولِد محمّد بن عبد الله استغفري له ولأُمّته والآن سمِعت
الملائكة يبشر بعضُهم بعضاً؛ فلذلك قُمتُ وتحرّكْتُ، فناداها استحيائيل:
قرّي واستغفري فإنّ محمّداً قد ولد فلذلك انبطَحَتْ في البحر وأخذَت في التسبيح
والتهليل والتكبير والثناء على ربِّ العالمين.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) في بطن أُمّه تسعة أشهر، أوحى
الله إلى الملائكة في كلّ سماء أنْ اهبطوا إلى الأرض، فهبَط عشرة آلاف ملَك بيد
كلّ ملَك قنديل يشتعل بالنور بلا دهن، مكتوبٌ على كلّ قنديل لا إله إلا الله محمّد
رسول الله يقرأه كلّ عربيّ كاتب، ووقفوا حول مكّة في المفارز، وإذا بهاتف يهتف
ويقول: نور محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال:
فأُورد الخبر إلى عبد المطّلب فأمر بكتمانه إلى أنْ يكون.
(قال الواقدي): فلمّا كمُلت تسعة أشهر
لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) صار لا يستقرُّ كوكبٌ
في السماء إلاّ ينتقل من موضع إلى موضع، يبشرون بعضهم بعضاً والناس ينظرون إلى
الكواكب في السماء سائرات لا يستقرّنّ، فأقام ذلك ثلاثين يوماً.
(قال الواقدي): فلمّا تمّ لرسول الله (صلّى
الله عليه وآله) تسعة أشهر نظرت أمّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) آمنة إلى أُمّها برة وقالت: يا أُمّاه،
إنّي أُحبُّ أنْ أدخل البيت فأبكى على زوجي ساعة وأقطر دمعي على شبابه وحُسن وجهه،
فإذا دخلت البيت وحدي فلا يدخل علَيّ أحد، فقالت لها برة: ادخلي يا آمنة، وابكي
فحقّ لك البكاء، قال، فدخلتْ آمنة البيت وحدها، وقعت وبكت وبين يديها شمعٌ يشتعل
وبيدها مغزل من آبنوس وعلى مغزلها فلَقة من عقيقٍ أحمر، وآمنة تبكي وتنوح إذ
أُوجعت مِن طلقها فوثبَت إلى الباب لتفتحه فلَم ينفتح فرجِعت إلى مكانها وقالت: وا وحدتاه، وأخذها الطلق والنفاس وما شعَرت بشيء، حتى انشقّ
السقف ونزَلَتْ من فوق أربع حوريّات، وأضاء البيت لنور وجوههن وقُلن لآمنة: لا بأس
عليك يا جارية، إنّا جئناك لخدمتك فلا يهمّك أمرك وقعدَت الحوريّات واحدة على
يمينها وواحدة على شمالها وواحدة بين يديها وواحدة من ورائها، فهوّمَت عين آمنة
وغفَت غفوة (قال) ابن عباس: ما كان من أمر أُمّ النبيّ إلاّ أنّها كانت نائمة عند
خروج ولدها من بطنها، فانتبهت أُمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فإذا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) تحت ذيلها قد وضع
جبينه على الأرض ساجداً لله، ورفع سبّابتيه مشيراً بهما لا إله إلاّ الله.
(قال الواقدي): ولد رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) في ليلةِ الجمعة قبل طلوع الفجْر، في
شهر ربيع الأوّل ليلة سبعة عشَر منه في سنة تسعة آلاف وتسعمِئة وأربعة أشهر وسبعة
أيّام من وفاة آدم (عليه السلام).
(قال الواقدي): ونظرَت أُمّه آمنة وجه
رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا هو مكحّل
العينين منقّط الجبين والذقن، وأشرق في وجنتَي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نورٌ ساطع في ظلمة الليل ومرّ في سقف البيت وشقّ السقف،
ورأت آمنة من نور وجهه (صلّى الله عليه وآله) كلَّ
منظرٍ حسِن وقُصِر بالحرَم، وسقَط في تلك الليلة أربع وعشرون شرفة من إيوان كسرى،
وأُخمِدَت في تلك الليلة نيران فارس، وأبرَق في تلك الليلة برقٌ ساطع في كل بيتٍ
وغرفة في الدنيا، ممّا قد علم الله تعالى وسبَق في علمه أنّهم يؤمنون بالله ورسوله
محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ولم يطلع في بقاع الكفر -
بأمر الله تعالى - وما بقيَ في مشارق الأرض ومغاربها صنمٌ ولا وثَنٌ إلاّ وخرّت
على وجوهها ساقطةً على جباهها خاشعة،؛وذلك كلّه إجلالاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): فلمّا رأى إبليس لعنه
الله تعالى وأخزاه ذلك، وضَع التراب على رأسه وجمَع أولاده وقال لهم: يا أولادي
اعلموا أنّني ما أصابني منذ خُلِقت مثل هذه المصبية، قالوا:وما هذه المصيبة قال: اعلموا
أنّه قد ولد في هذه الليلة مولود اسمه محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) يُبطل عبادة الأوثان ويمنع السجود للأصنام ويدعوا إلى
عبادة الرحمان. قال: فنثروا التراب على رؤوسهم ودخَل إبليس لعنه الله تعالى في
البحر الرابع وقعد فيه للمصيبة هو وأولاده مكرهين أربعين يوماً.
(قال الواقدي): فعند ذلك أخذَت
الحوريّات محمّداً (صلّى الله عليه وآله) ولفَفْنَهُ في
منديل رومي، ووضعنه بين يدَي آمنة ورجَعن إلى الجنّة يبشرْن الملائكة في السماوات:
ولِد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ونزَل جبرئيل
وميكائيل (عليهما السلام) ودخلا البيت على صورة آدميَّين وهما شابّان، ومع جبرئيل
طشتٌ مِن ذهَب ومع ميكائيل إبريقٌ من عقيقٍ أحمر، فأخذ جبرائيل رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) وغسّله وميكائيل يصبّ الماء عليه
فغسّلاه وآمنة في زاوية البيت قاعدة فزِعة مبهوتة، فقال لها جبرئيل: (يا آمنة، لا
تغسّليه مِن النجاسة فإنّه لم يكن نجِساً ولكن غسّلناه من ظلمات بطنِك)، وفرِغا من
غسلِه وكحّلا عينيه ونقّطا جبينه بزرقةٍ كانت معهم ومسكٍ عنبر وكافورٍ مسحوقٍ بعضه
ببعض، فذرا فوق رأسه (صلّى الله عليه وآله) قالت آمنة
وسمِعت جلبة وكلاماً على الباب فذهب جبرئيل إلى عند الباب فنظر ورجَع إلى البيت
وقال: (ملائكة سبعُ سماوات على الباب يريدون السلام على النبيّ (صلّى الله عليه وآله))، فاتّسع البيت مدّ النظر ودخلوا عليه موكباً بعد موكب،
وسلّموا عليه وقالوا: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا محمود، السلام عليك يا
أحمَد، السلام عليك يا حامد.
(قال الواقدي): فلمّا دخل من الليل
ثُلثه أمر الله تعالى جبرئيل (عليه السلام) يحمل من الجنّة أربعة أعلام، فحمل
جبرئيل الأعلام ونزَل إلى الدنيا ونصب علَماً أخضر على جبلِ قاف، مكتوباً عليه
بالبياض سطران (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله)
(صلّى الله عليه وآله)، ونصَب علَماً آخر على جبل أبي
قُبيس له ذوابتان مكتوب على واحد منهما شهادة (أنْ لا إله إلا
الله)، وفي الثانية (لا
دين إلاّ دين محمّد بن عبد الله)،
ونصب علَماً آخر على سطح بيت الله الحرام له ذوابتان مكتوب على واحدة منهما (طوبى
لمن آمن بالله وبمحمّد والويلُ لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به من عند
ربّه)، ونصب علَماً آخر على ضريح بيت الله
المقدِس وهو أبيَض عليه خطّان مكتوبان بالسواد (لا غالب إلاّ الله
والثاني النصر لله ولمحمّد (صلّى الله عليه وآله)).
(قال الواقدي): وذهب استحيائيل ووقَف على ركنِ جبل أبي قُبيس ونادى بأعلى صوته:
(يا أهل مكّة آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)، وأمر الله تعالى غمامة أنْ
تُرفع فوق بيت الله الحرام وتنثر على البيت ريشَ الزعفران والمِسك والعنبَر،
فارتفعت الغمامة وأمطرت على ذلك البيت، فلمّا أصبحوا رأَوا ريش الزعفران والمِسك
والعنبَر يمطر على البيت، وخرجت الأصنام من بيت الله الحرام وجاؤا
إلى عند الحجَر وانكبّوا على وجوههم، وجاء جبرئيل بقنديلٍ أحمر له سلسلة من جزعٍ
أصفر وهو يشتعل بلا دهن بقدرة الله تعالى.
(قال الواقدي): وأبرَق من وجه النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) برقٌ وذهَب في الهواء حتى التزق بعنان
السماء، وما بقيَ بمكّةَ دارٌ ولا منظرٌ إلاّ ودخَلَه ذلك النور، ممّن سبَق في
قدرة الله تعالى وعِلمه أنّه يؤمن بالله وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وما بقِيَ في تلك الليلة كتاب من التوراة والإنجيل
والزبور وممّا كان فيه اسم محمّد (صلّى الله عليه وآله)
أو نعته إلاّ وقطر تحت اسمه قطرة دم، قال: لأنّ الله تعالى بعثه بالسيف، وما بقيَ
في تلك الليلة ديرٌ ولا صومعةٌ إلاّ وكُتِب على محاريبها اسم محمّد (صلّى الله
عليه وآله)، فبقيَت الكتابة إلى الصباح حتى قرأها
الرهبانية والديرانية وعلموا أنّ النبيّ الأُمّي قد ولِد.
(قال الواقدي): فعندها قامت آمنة
وفتَحَت الباب وصاحت صيحةً وغُشيَ عليها، ثمّ دعت بأُمّها برة وأبيها وهَب وقالت:
ويحكما أين أنتما أما رأيتما ما جرى علَيّ، إنّي وضعت ولَدي وكان كذا وكذا تصف
لهما ما رأته قال: فقام وهَب ودعا بغلامٍ وقال: اذهب إلى عبد المطّلب وبشّره وأهل
مكّة على المنابر، وقد صعدوا الصروح ينظرون إلى الذي رأوا من العجائب ولا يدرون ما
الخبَر، وكذلك عبد المطّلب قد صعد مع أولاده فما شعروا بشيء حتى قرَع الغلام الباب
ودخل على عبد المطّلب وقال: يا سيّدنا أبشر فإنّ آمنة وضعَت ذكراً فاستبشَر بذلك
وقال: قد علِمتُ أنّ هذه براهين ودلايل لمولودي، فذهب
عبد المطّلب إلى آمنة مع أولاده ونظروا إلى وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووجهه كالقمر ليلة البدر يسبّح ويكبّر في نفسه فتعجّب
منه عبد المطّلب.
(قال الواقدي): فأصبح أهل مكّة في يوم
الثاني صبيحة يوم السبت، ونظروا إلى القنديل والسلسلة والى ريش الزعفران والعنبر
ينزل من الغمَامة وينظرون إلى الأصنام وقد خرَجَت من مراكزها مكبّات على وجوهها،
وبقيَ الخلق على ذلك وجاء إبليس أخزاه الله على صورة شيخ زاهد وقال: يا أهل مكّة،
لا يهمنّكم أمر هذا فإنّما أخرج الأصنام بهذا الميل
العفاريت والمردَة واسجدوا لهنّ فلا يهمنّكم، وأمر
إبليس لعنه الله تعالى أنْ تُرد الأصنام إلى جوف بيت الله الحرام ففعلوا ذلك، وإذا
بهاتف يهتف ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان
زهوقاً).
(قال الواقدي): فأرسَل الله تعالى إلى
البيت حُلَلاً من الديباج الأبيض مكتوباً عليها بخطٍ أسود: (بسم
الله الرحمن الرحيم * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا
وقمراً
مُنِيرًا).
(قال الواقدي): فتعجّب الناس من ذلك
فبقيت الحُلَل على البيت أربعين يوماً، فذهب رجلٌ من آل إدريس كان بالثعلَبان وأتى،
وكانت يده دسمة فتمسّح بتلك الحُلَل والتُحَف بها فارتفعت الحلل من ليلتها ولو لم
يلتحف بها لبقيت على بيت الله الحرام هي والديباج إلى يوم القيامة.
(قال الواقدي): فاجتمع رؤساء بنى هاشم
وذهبوا إلى حبيب الراهب، وقالوا يا حبيب، بيّن لنا خبَر هذه الحُلَل وخروج الأصنام
من جوف بيت الله الحرام، والكواكب السائرات والبرقُ الذي أبرق في هذه الليلة والجلبات التي سمعنا، فما هي؟ فقال حبيب: أنتم تعلمون إنّ
ديني ليس دينُكم وأنا أقول الحق، إنْ شئتم فاقبلوا وإنْ شئتم لا تقبلوا، ما هذه
العلامات إلاّ علامات نبيٍّ مرسَل في زمانكم هذا، ونحن وجدنا في التوراة ذُكِر
وصفُه وفي الإنجيل نعتُه وفي الزبور اسمه، واسمه في الصحف وهو الذي يبطل عبادة
الأوثان والأصنام، ويدعوا إلى عبادة الرحمان، ويكون على العالم قاطعُ السيف طاعنُ
الرمح نافذ السهم تخضَع له ملوك الدنيا وجبابرتها، فالويل كلّ الويل لأهل الكفر
والطغيان وعبَدَة الأوثان من سيفه ورمحه وسهمه، فمَن آمن نجا ومَن كفَر هلَك فقام
الخلق من عنده مغمومين مكروبين ورجعوا إلى مكّة محزونين.
(قال الواقدي): وأصبح عبد المطّلب في
يوم الثاني ودعا بآمنة وقال: هاتي ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي، فجاءت آمنة ومحمّد
(صلّى الله عليه وآله) على ساعدها، فقال عبد المطّلب:
اكتميه يا آمنة ولا تُبديه لأحد فإنّ قريشاً وبني أُميّة يرصدون في أمره، قالت له
آمنة السمع والطاعة فجاء عبد المطّلب ومحمّد (صلّى الله عليه وآله)
على ساعده وأتى به إلى البيت الحرام، وأراد أنْ يمسح بدنه باللات والعزّى لتسكن
دمدمة قريش وبني هاشم ودخل عبد المطّلب بيت الله الحرام، فلمّا وضَع رجله في البيت
سمِع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول: (بسم الله
وبالله)، وإذا البيت يقول: السلام عليك يا محمّد، ورحمة الله وبركاته، وإذا بهاتفٍ
يهتف ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان
زهوقاً)، فتعجّب عبد المطّلب من صغر سنّه
وكلامه، وممّا قال له البيت فتقدّم عبد المطّلب لخزَنَة البيت وأمَرهم أنْ يكتموا
ما سمِعوا من البيت ومحمّد (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): فتقدّم عبد المطّلب إلى
اللاّت والعزّى وأراد أنْ يمسح بدَن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
باللاّت والعزّى، فجُذِبَ من ورائه فالتفت إلى ورائه فلَم يرَ أحداً، فتقدّم
ثانياً فجَذَبَه مِن ورائه الجاذب فنظَر إلى ورائه فلَم يرَ أحداً، ثمّ تقدّم
ثالثاً فجذَبه الجاذب جذْبةً شديدة حتى أقعدَه على عجزه وقال: مه يا أبا الحارث،
أتمسح بدناً طاهراً ببدنٍ نجس.
(قال الواقدي): فعند ذلك وقف عبد
المطّلب على باب بيت الله الحرام والنبيّ (صلّى الله عليه وآله)
على ساعده وأنشأ يقول:
الحمد الله الذي أعطاني |
|
هذا الغلام الطيِّب الأردان |
قد ساد في المهد على الغُلمان |
|
أُعيذه بالبيت ذي الأركان |
حتى أراه مبلغ الفتيان |
|
أُعيذه من كلّ ذي شنان |
حتى يكون بلغة الغشيان |
|
مِن حاسدٍ ذي ناظرٍ معيان |
(قال الواقدي): وخرَج عبد المطّلب متفكراً ممّا سمِع وردّ محمّد (صلّى
الله عليه وآله) إلى أُمّه، وقد وقَعَت الدمدمة بين
قريش وبني هاشم بسبب محمّد (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): فلمّا كان اليوم الثالث
اشترى عبد المطّلب مهداً من خيزرانٍ أسوَد مشبّكات من عاجٍ مرصّع بالذهَب الأحمر،
وله بكرتان من فضّةٍ بيضاء ولونه من جزَعٍ أصفَر، وغشّاه بجلالِ ديباجٍ أبيَض مكوكَب بالذهب وبعث إليها من الدرّ و
اللؤلؤ الكبار الذي تلعب به الصبيان في المهد، وبعث بألوان الفَرش، وكان
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا انتبه من نومه يُسبّح
الله تعالى بتلك الخرَز.
(قال الواقدي): فلمّا كان اليوم الرابع
جاء سواد بن قارب إلى عبد المطّلب وكان عبد المطّلب قاعداً على باب بيت الله
الحرام، وقد حفَّ به قريش وبنو هاشم فدَنا سواد بن قارب وقال: يا أبا الحارث، اعلم
أنّي قد سمِعت أنّه ولد لعبد الله ذكر وأنّهم يقولون فيه عجائب، فأُريد أنْ انظر
إلى وجهه هُنيئة، وكان سواد بن قارب رجلاً إذا تكلّم سُمِع وكان رجلاً صدوقاً فقام
عبد المطّلب وسواد بن قارب وجاء إلى دار آمنة (رضي الله عنها)، ودخلا جميعاً
والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان نائماً فلمّا دخلا
القبّة قال عبد المطّلب: اسكت يا سواد حتى ينتبه من نومه فسَكت، فدخلا قليلاً قليلاً حتى دخلا القبّة ونظرا إلى وجه النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) وهو في مهده نائم وعليه هيبة الأنبياء، فلمّا
كشَف الغطاء عنه برَق وجهه برقاً شقّ السقف بنوره والتزق في عنان السماء فألقى عبد
المطّلب وسواد أكمامهما على وجهيهما من شدّه الضوء، فعندها انكبّ سواد على النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) وقال لعبد المطّلب: أشهد على نفسي أنّى
آمنت بهذا الغلام بما يأتي به مِن عند ربّه، ثمّ قبّل وجنات النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) وخرجا جميعاً، ورجع سواد إلى موضعه وبقيَ عبد
المطّلب فرحاً نشيطاً.
(قال محمّد بن عمر الواقدي): فلمّا أتى
على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) شهر، كان إذا نظر
إليه الناظر يتوهمّ أنّه من أبناء سنَة لوقارة جسمه،
وتمام فهمه (صلوات الله عليه وآله)، وكانوا يسمعون من
التسبيح والتمجيد والثناء على الله تعالى.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) شهران مات وهَب جدّه أبو أُمّه
آمنة، وجاء عبد المطّلب وجماعة من قريش وبني هاشم وغسّلوه وهَيّأوه وحنّطوه
وكفّنوه ودفنوه على ذيل الصفا.
(قال الواقدي) فلمّا أتى على رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) أربعة أشهر ماتت أُمّه آمنة (رضي
الله عنها)، فبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بلا
أُم ولا أَب وهو من أبناء أربعة أشهر فبقيَ يتيماً في حِجر جدّه عبد المطّلب أبى
أبيه (رضي الله عنه) فاشتدّ على عبد المطّلب موت آمنة ليتم محمّد (صلّى الله عليه وآله) فلم يأكل ولم يشرَب ثلاثة أيّام فبعث عبد المطلب إلى
عند بناته عاتكة وصَفية وقال لهما: خذا محمّداً (صلّى الله عليه وآله)، والنبيّ لا يزداد إلاّ بكاءً ولا يسكن، وكانت عاتكة
تلعق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عسلاً صافياً ولا
يزداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلاّ تمادياً في
البكاء.
(قال الواقدي): فضجر عبد المطّلب فصار
لا يتهنّأ إنْ ينظر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو في تلك الحالة، فقال لابنته عاتكة: احضري نساء قريش
فلعلّه أنْ يقبل ثدي واحدة منهنّ ويرضعن ولدي وقرّة عيني محمّداً، فقالت ابنته
عاتكة: السمع والطاعة يا أبتي، فبعثت عاتكة بالجواري والعبيد نحو نساء بني هاشم
وقريش ودعتهن إلى إرضاع النبيّ (صلّى الله عليه وآله)،
فجئن إلى عاتكة واجتمعن عندها في أربعمِئة وستّين جارية من بنات صناديد قريش وأصل
بني هاشم فتقدّمت كلّ واحدة ودفعن - أراد أنّهنّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووضعن ثديهن في فم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فما قبِل واحدة وبقين متحيّرات وكان عبد المطّلب جالساً
فأمر بإخراجهنّ فخرجْن، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله)
لا يزداد إلاّ بكاءً وحُزناً لغيبة اللبن عنه (صلّى
الله عليه وآله)، فخرَج عبد المطّلب من الدار مهموماً
مغموماً إلى الكعبة وقعَد عند أستارها ورأسه بين ركبتيه كأنّه امرأة ثكلى، وإذا
بعقيل ابن أبي وقّاص قد أقبل وهو شيخ من قريش وأسنّهم، فلمّا رأى عبد المطّلب
مغموماً قال له: يا أبا الحارث: مالي أراك مغموماً فقال له عبد المطّلب: يا سيّد
قريش: اعلم أنّ نافلتي يبكي ولا يسكن شوقاً إلى اللبن من حين ماتت أُمّه، وأنا لا
أتهنّأ بطعامٍ ولا بشرابٍ محزون على ولدي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وعرضت عليه نساء قريش وبني هاشم فلَم يقبل ثدي واحدةٍ
منهنّ؛ وذلك أنّه ما من امرأة إلاّ وبها عيب وأنّ محمّداً لا يقبل ثدي مَن بها عيب
فلهذا امتنع، فتحيّرت وانقطعَت حيلتي فقال عقيل: يا أبا الحارث، إنّي لأعرف في
أربعة وأربعين صنديد مِن صناديد العرب امرأة عاقلة، أفصح لساناً وأصبح وجهاً وأرفع
حسَبَاً ونسَبَاً، وهي حليمة بنت أبي ذويب ابن عبد الله بن الحارث بن سخنة بن ناصر
بن سعد بن بكير بن زهر بن منصور بن عكرمة بن قيس ابن مضر بن نِزار بن معْد بن
عدنان بن أكرَد بن سخيب بن
يعرب بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمان.
(قال الواقدي): فقال عبد المطّلب يا
سيّدي وسيد قريش، لقد نبّهتني بأمرٍ عظيم وفرّجت عنّي، ثمّ دعا عبد المطّلب بغلامٍ
أسمه شمر دل وقال له: قم يا غلام، واركب ناقتك واخرج نحو حيّ بني سعد بن أبى بكر
وادع لي أبا ذويب بن عبد الله بن الحارث السعداوي، فذهَب الغلام واستوى على ظهر
ناقته، وكان حي بني سعد من مكّة على ثمانية عشَر ميلاً في طريق جدّة، قال: فذهب
الغلام نحو حيّ بني سعد فلَحِق بهم وإذا خيمتهم من مسح وخوص وكذلك خيم الأعراب في
البوادي، فدخل شمر دل الحيّ وسأل عن خيمة عبد الله بن الحارث فأعطوه الأثر فذهب
شمر دل إلى الخيمة، فإذا بخيمةٍ عظيمة رضيّة زاجة في
الهواء من خوص وإذا على باب الخيمة غلامٌ أسود، فاستأذن شمردل في الدخول فدَخل
الغلام وقال: أنعم صباحاً يا أبا ذويب
قال: فحيّاه عبد الله وقال له: ما
الخبَر يا شمر دل فقال: اعلم يا سيدي إنّ مولاي أبا الحارث عبد المطّلب قد وجّهني
نحوك وهو يدعوك فإنْ رأيت يا سيدي أنْ تجيبه فافعل، قال عبد الله: السمع والطاعة،
وقام عبد الله من ساعته ودعا بمفتاح الخزانة وعطى التاج ففتح باب الخزانة وأخرج
منها جوشنة فأفرغه على نفسه، فأخرج بعد ذلك دِرعاً
فاصلاً فأفرغه على نفسه فوق جوشنة، استخرج بيضةً عادية
فقلّبها على رأسه وتقلد بسيفين واعتلّ رِمحاً ودعا بنجيب فركبِه كالدكّة، وجاء نحو
عبد المطّلب فلمّا دخل تقدّم شمر دل وأخبَر عبد المطّلب، وكان جالساً مع رؤساء
مكّة مثل عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وجماعة من قريش، فلمّا
رأى عبد المطّلب عبد الله قام على قدميه واستقبله وعانقه وصافحه وأقعده على جنبه
والزق ركبتيه بركبتيه ولم يتكلّم حتى استراح، ثمّ قال له عبد المطّلب، يا أبا ذويب،
أتدرى بماذا دعوتك؟ قال يا سيّدي وسيد قريش ورئيس بني هاشم، حتى تقول فأسمع منك
وأعمل بأحسنه.
قال: اعلم يا أبا ذويب أنّ نافلتي محمّد
بن عبد الله مات أبوه ولم يبن عليه أثر، ثمّ ماتت أُمّه وهو ابن أربعة أشهر وهو لا
يسكن من البكاء إلى اللبن، وقد عرضت عليه أربعة وستين جارية من أشرف وأجلّ بني
هاشم فلَم يقبَل لواحدة منهن لبناً، والآن سمعنا أنّ لك بنتاً ذات لبَن فإنْ رأيت
أنْ تنفذها لترضع ولدى محمّداً (صلّى الله عليه وآله)،
فإنْ قبِل لبنها فقد جاءتك بأسرها وعلى غناك وغنى أهلك
وعشيرتك، وإنْ كان غير ذلك ترى ممّا رأيت من النساء غيرها فافعل، ففرح عبد الله
فرحاً شديداً ثمّ قال: يا أبا الحارث، إنّ لي بنتين فأيّهما
تريد قال: عبد المطّلب أُريد أكملها عقلاً وأكثر لبناً وأصوَن عِرضاً فقال عبد
الله: هاتيك حليمة، لم تكن كأخواتها بل خلقها الله تعالى أكمل عقلاً وأتمّ فهماً
وأفصح لساناً وأثجّ لبناً وأصدق لهجةً وأرحم قلباً منهن
جميعاً.
(قال الواقدي): فقال عبد المطّلب: إنّي
وربّ السماء ما رأيت إلاّ تلك فقال عبد الله: السمع والطاعة فقام من ساعته واستوى
على متن جواده وأخذ نحو بني سعد بعد أنْ أضافه، فلمّا وصل إلى منزله دخل على ابنته
حليمة وقال لها أبشري فقد جاءتك الدنيا بأسرها، فقالت
حليمة: ما الخبَر؟ قال عبد الله: اعلمي أنّ عبد المطّلب رئيس قريش وسيّد بني هاشم
سألَني إنفاذك إليه لترضعي ولده وتبشري بالعطاء الجزيل والسير الجميل، قال: ففرحت
حليمة بذلك وقامت من وقتها وساعتها واغتسلت وتطيّبت وتبخّرت وفرغت من زينتها،
فلمّا ذهب من الليل نصفَه قام عبد الله وزيّن ناقته وكانت مشرفه، فركبَت عليها
حليمة وركَب عبد الله فرسه وكذلك زوجها بكر بن سعد السعدي، وخرجوا من دارهم في داج
من الليل فلمّا أصبحوا كانوا على باب مكّة ودخلوها، وذهبت حليمة إلى دار عاتكة
وكانت تلاطف محمّداً (صلّى الله عليه وآله) وتلعقه
العسَل والزبد الطري.
فلمّا دخلت الدار وسمِع عبد المطّلب
بمجيئها جاء من ساعته ودخل الدار ووقَف بين يدَي حليمة، ففتحت حليمة جيبها وأخرجت
ثديها الأيسر وأخذت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
فوضعته في حجرها، ووضعت ثديها في فمه والنبي (صلّى الله عليه وآله)
يترك ثديها الأيسر ويضطرب إلى ثديها الأيمن، فأخذت حليمة ثديها الأيمن من النبي (صلّى
الله عليه وآله) ووضعت ثديها الأيسر في فمه؛ وذلك أنّ
ثديها الأيمن كان جهاماً لم يكن فيه لبن، وخافت حليمة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا مصّ الثدي الأيمن ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ بعده
الأيسر، فيأمر عبد المطّلب بإخراجها من الدار.
فلمّا ألحّت على النبيّ أنْ يأخذ الأيسر
والنبيّ يميل إلى الأيمن صاحت عليه: يا ولدي مصّ الأيمن حتى تعلم أنّه سيكون
جهاماً يابساً لا شيء فيه، قال: فضبط النبيّ على ثديها وأخرج خلَف الأيمن حتى
امتلأت فانفتح باللبن، حتى ملأ شدَقيه كفمّ رأس الزق بأمر الله تعالى وببركته (صلّى
الله عليه وآله)، فضجّت حليمة وقالت واعجباً منك يا
ولدي، وحقّ ربّ السماء ربّيت بثدي الأيسر اثني عشَر ولداً وما ذاقوا من ثدي الأيمن
شيئاً، والآن قد انفتح ببركتك، وأخبَرت بذلك عبد الله فأمرها بكتمان ذلك، فلمّا
شبِع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ترك الخلَف من ساعته
فقال عبد المطّلب: تكونين عندي نأمر لك بإفراغ دار بجنب داري وأعطيك كل شهر ألف
دِرهم بيض ودست ثياب رومية وكلّ يوم عشرة أمنان خُبز حواري ولحماً مشوياً، فلمّا
سمِع أبوها عبد الله ذلك أوحى لها أنْ لا تقيمي عنده، قالت يا أبا الحارث، لو جعلت
لي مال الدنيا ما أقمتُ عندك وتركت الزوج والأولاد، قال عبد المطّلب: فإنْ كان
هكذا فادفع إليك محمّداً على شرطَين، قالت: وما الشرطان؟ قال عبد المطّلب: أنْ
تحسني إليه وتنوّميه إلى جنبك، وتدثّريه بيمينك وتوسّديه
بيسارك ولا تنبذيه وراء ظهرك، قالت حليمة: وحقّ ربّ السماء إنّي منذ وقَع نظري
عليه قد ثبَت حبّه في فؤادي، فلَك السمع والطاعة يا أبا الحارث، ثمّ قال: وأمّا
الشرط الثاني أنْ تحمليه إليّ في كلّ جمعة حتى أتمتّع برؤيته؛ فإنّي لا أقدر على
مفارقته، قالت: أفعل ذلك إنْ شاء الله تعالى، فأمَر عبد المطّلب أنْ تغسل رأس
محمّد (صلّى الله عليه وآله) فغسَلت رأسه وزرّقت جبينه
ولفّته في خرق السندس.
ثمّ إنّ عبد المطّلب دفَعه إليها وأخذ
أربعة آلاف درهم وقال لها: تعالى يا حليمة، نمضي إلى بيت الله الحرام حتى أسلمه
إليك فيه، فحمله على ساعده ودخَل وطاف بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) سبعاً وهو على ساعده ملفوف بخرق السندس، ثمّ إنّه دفعه
إليها ومعه أربعة آلاف درهم بيض وأربعون ثوباً من خواصّ كسوته، ووهَب لها أربَع
جوارٍ رومية وحلل سندس، ثمّ إنّ عبد الله بن الحارث أتى بالناقة فركبتها حليمة،
وأخذت حليمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجرها
وشيّعه عبد المطّلب إلى خارج مكّة، ثمّ أخذت حليمة رسول الله إلى جنبها من داخل
خمارها، فلمّا بلغت حليمة إلى حي بني سعد كشفت عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأبرَق من وجناته نور فارتفع في الهواء طولاً وعرضاً
حتى التزق إلى عنان السماء.
(قال الواقدي) فلمّا رأى الخلق ذلك لم
يبقَ في حيّ بنى سعد صغير ولا كبير ولا شيخ ولا شاب إلاّ استقبلوا حليمة وهنّأوها
بما رزقها الله تعالى من الكرامة الكبرى، فذهبت حليمة إلى باب خيمتها وبركت الناقة،
والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) في حِجرها فما وضعته عند
الصغير إلاّ وحمله الكبير وما وضعته عند الكبير إلاّ وأخذه الصغير؛ وذلك كلّه
لمحبّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): فبقى
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند حليمة ترضعه وكانت
تقول: يا ولدي، وربّ السماء إنّك عندي لأعزّ وِلدي ضمرة، يا قرّة عيني أترى أعيش
حتى أراك كبيراً كما رأيتك صغيراً؟، وكانت تُؤثر محمداً على أولادها جداً ولا
تفارق محمداً عن عينيها.
(قال الواقدي): قالت حليمة والله ما
غسلتُ لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ثوباً مِن بولٍ ولا
غائط، بل كان إذا جاء وقت حاجته ينقلب من جنب إلى جنب، حتى تعلم حليمة بذلك وتأخذه
وتخدمه حتى يقضي حاجته، ولا شممت وربّ السماء من محمّدٍ رائحة نتنة قط، ولا شمَمتُ
منه شيئاً أبداً، بل كان يفوح منه رائحة المسك والكافور قالت حليمة: فلمّا أتى على
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) تسعة أشهر ما رأيت ما
يخرج منه ألبتّه؛ لأنّ الأرض تبتلع ما يخرج منه فلهذا لم أر.
(قال الواقدي): وكان من حليمة أنْ تحمل
محمّداً (صلّى الله عليه وآله) حين كملت له عشرة أشهر،
فقامت حليمة يوم الخميس وقعَدَت على باب الخيمة منتظرة لانتباه النبيّ (صلّى الله
عليه وآله)، أتزيّنه وتحملة
إلى جدّه عبد المطّلب، قال: فلم ينتبه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وأبطأ عن الخروج عن الخيمة إلى حليمة، فلم يخرج إلاّ بعد أربع ساعات فخرَج رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) مغسول الرأس مسرّح الذوائب
وقد زرّق جبينه وذقنه، وعليه ألوان الثياب من السندس والإستبرق، فتعجّبت حليمة من
زينة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ومِن لباسه ممّا رأت
عليه فقالت: يا ولدي، مَن أين لك هذه الثياب الفاخرة والزينة الكاملة؟ فقال لها
محمّد (صلّى الله عليه وآله): (أمّا الثياب فمِن الجنّة
وأمّا الزينة فمِن أفعال الملائكة)، قال: فتعجّبت حليمة من ذلك عجباً شديداً، ثمّ
حملته إلى عند جدّه في يوم الجمعة فلمّا نظر إليه عبد المطّلب قام إليه واعتنقه
وأخذه إلى حجره، فقال: يا ولدي، مِن أين لك هذه الثياب الفاخرة والزينة الكاملة
فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا جد، فاستخبر
ذلك من حليمة)، فكلّمته حليمة وقالت: ليس ذلك من أفعالنا فأمر عبد المطّلب حليمة
أنْ تكتم ذلك وأمَر لها بألف درهم بيض وعشرة دسوت ثياب وجارية رومية، فخرجت حليمة
من عنده فرحةً مسرورةً إلى حيّها.
(قال الواقدي): فلمّا أتى على النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) خمسة عشَر شهراً، كان إذا نظر إليه
الناظر يتوهّم أنّه من أبناء خمسِ سنين لتمام نموّ جسمة
وملاحة بدنه.
(قال الواقدي): فلمّا حمَلَت حليمة
النبيّ إلى حيّها حين أخذته من عند عبد المطّلب، وكان لها اثنان وعشرون رأسا من
المواشي، فوضَعت في تلك السنة كلّ شاة توماً ببركة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وخرَج من عندها ولها ألف وثلاثون رأساً من الثاغية والراغية.
(قال الواقدي): وكان لرسول الله (صلّى
الله عليه وآله) إخوة من الرضاعة يخرجون بالنهار إلى
الرعاء ويعودون بالليل إلى منازلهم، فرجعوا ذات ليلة مغمومين فلمّا دخلوا الدار
قالت لهم حليمة: مالي أراكم مغمومين قالوا: يا أمّنا إنّ في هذا اليوم جاء ذئب
وأخذ شاتين من شياتنا وذهب بها، فقالت حليمة: الخلَف والخير في الله تعالى. فسمِع
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قولهم فقال لهم: (لا
عليكم فإنّي استرجع الشاة من الذئب بمشيئة الله تعالى).
فقال ضمرة: وا
عجباً منك يا أخي، قد أخذها بالأمس فكيف تسترجعها اليوم، فقال النبيّ (صلّى الله
عليه وآله): (إنّه صغير في قدرة الله تعالى)، فلمّا
أصبحوا قام ضمرة وأخذ رسول الله على كتفه فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (مر بي إلى الموضع الذي أخذ الذئب فيه الشاتين)، قال:
فذهب برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى ذلك الموضع
فعند ذلك نزل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عن كتف أخيه
ضمرة وسجَد سجدةً لله تعالى وقال: (إلهي وسيدي ومولاي، تعلم حقّ حليمة عليّ وقد
تعدّى ذئبٌ على مواشيها، فأسألك أنْ تُلزم الذئب بردّ المواشي إلى عندي)، قال: فما
استتمّ دعاءه حتى أوحى الله تعالى إلى جبرائيل أنْ قل
للذئب أنْ يردّ المواشي إلى صاحبها.
(قال الواقدي): إنّ الذئب لمّا ذهَب
بالشاتين حين أخذها نادى منادٍ: أيّها الذئب احذر الله وبأسه وعقوبته، واحفظ
الشاتين اللتين أخذتهما حتى أردّها على خير الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله
بن عبد المطّلب (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا سمِع
الذئب النداء تحيّر ودُهِش ووكّل بتلك المواشي راعياً يرعاها إلى الصباح، فلمّا
حضر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودعا بدعائه قام
الذئب وردّ الشاتين وقد قدِم النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وقال: يا محمّد، اعذرني فإنّي لم أعلم أنّها لك، فأخذ ضمرة الشاتين ولم ينقص منها
شيء فقال ضمرة: يا محمّد، ما أعجَب شأنك وأنفذ أمرك، فبلغ ذلك إلى عبد المطّلب
فأمرهم بكتمانه فكتموه مخافة أنْ تأخذه قريش ويعملون في دمه.
(قال الواقدي): فبقيَ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) سنتين ونظر إلى حليمة وقال لها: (مالي
لا أرى إخوتي بالنهار وأراهم بالليل)، فقالت له: يا سيّدي، سألتني عن إخوتك هم
يخرجون في النهار إلى الرعاء، فقال لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا أمّاه أحبّ أنْ أخرج معهم إلى الرعاء، وأنظر إلى
البرّ والسهل والجبَل، وانظر إلى الإبل كيف تشرب اللبن من أُمهاتها وأنظر إلى القطايع وإلى عجائب الله تعالى في أرضه، وأعتبر من ذلك وأعرف
المنفعة من المضرّة)، فقالت له حليمة: أفتحب يا ولدي
ذلك قال: نعم.
فلمّا أصبحوا اليوم الثاني قامت حليمة
فغسَلت رأس محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وسرّحت شعره
ودهنته ومشّطته وألبسته ثياباً فاخرة، وجعَلت في رجليه نعلَين من حذاء مكّة
وعمَدَت إلى سلّة وأخذت منها أطعمة جيّده وبعثته مع أولادها، وقالت لهم: يا أولادي
أوصيكم بسيّدي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، أنْ تحفظوه
وإذا جاع فأطعموه وإذا عطَش فاستقوه وإذا أعيى فأقعدوه حتى يستريح، فقبلوا وصيّتها
وقالوا لها: يا أُمّنا، إنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله)
لأعزّنا وهو أخونا، وأنفذت معهم عبد الله بن الحارث وزوجها بكر بن سعد، فخرَج النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) وعلى يمينه عبد الله بن الحارث،
وعلى يساره زوجها بكر بن سعد، وضمرة وقرّة قدّامه والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) بينهم كالبدر بين النجوم فما بقيَ حجَر ولا مدَر إلاّ
وهُم ينادون: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا أحمَد، السلام عليك يا حامد،
السلام عليك يا محمود، السلام عليك يا صاحب القول العدل مخلصاً بالرضا، لا إله
إلاّ الله محمّد رسول الله، طوبي لمَن آمن بك والويل لمَن كفَر بك وردّ عليك حرفاً
تأتي به من عند ربّك، والنبيُّ (صلّى الله عليه وآله)
يردّ عليهم السلام، وقد تحيّر الذين معه ممّا يرون من العجائب، ثمّ إنّ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) أصابه حرُّ الشمس فأوحى الله تعالى إلى
استحيائيل أنْ مد فوق رأس محمّد (صلّى الله عليه وآله) سحابةً بيضاء فمدها، فأرسلت عَزَاليها كأفواه القِرَب
ورُشّ القطر على السهل والجبَل، ولم يقطر على رأس محمّد قطرة وسالت من ذلك المطر
الأودية، وصار الوحل في الأرض ما خلا طريق محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فإنّه يُنشر فيه من تلك السحابة ريشُ الزعفران وسنابل
المِسك، وكان في تلك البرّية شجرةٌ طويلة عادية قد يبست أغصانها وتناثرت أوراقها
مُنذ سنين، فاستند النبيّ إليها فأورقَت وأزهرَت وأثمرت وأرسلَت ثمارها من ثلاثة
أجناس أخضر وأحمر وأصفر.
وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هنالك يكلّم إخوته ورأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) روضةً خضراء فقال: (يا إخوتي، أُريد أنْ أمرّ بهذه
الروضة)، وكان وراء الروضة تلٌّ كؤود وعليه ألوان النبات فقال: (يا إخوتي، ما ذلك
التل)، فقالوا: يا محمّد، وراء ذلك البراري والمفاوز فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي قد اشتهيت أنْ أنظر إليه)، فقال القوم: نحن نمضي
معك إليه فقال لهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (بل
اشتغلوا أنتم بأعمالكم وأنا أمضي وحدي وأرجع إليكم سريعاً إنْ شاء الله تعالى)،
فقالوا جميعاً: مر يا محمّد، فإنّ قلوبنا متفكّرة بسببك.
(قال الواقدي): ثمّ إنّ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) مرّ في تلك الروضة وحده ونظر إلى تلك
البراري، وهو يعتبر ويتعجّب من الروضة حتى بلغ التل فنظر إلى جبلٍ شاهق في الهواء
كالحائط، ولا يتهيّأ له صعود لاعتداله وارتفاعه في الهواء، فقال النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) في نفسه: (إنّي أُريد أنْ أصعد
هذا التل فأنظر إلى ما ورائه من العجائب)،
قال الواقدي: فأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ
يصعد الجبل فلَم يتهيّأ له ذلك لاستوائه في الهواء، فصاح استحيائيل
في الجبَل صيحةً أرعشته فاهتزّ اهتزازاً وقال له: (أيّها الجبل ويحك اطلع محمّداً
(صلّى الله عليه وآله) خيرَ المرسلين فإنّه يريد الصعود
عليك، ففرِح الجبَل وتراكم بعضُه إلى بعض كما يتراكم الجلد في النار، فصعد النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) أعلاه، وكان تحت ذلك الجبَل
حيّات كثيرة من ألوان شتّى وعقارب كالبغال فلمّا همّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالنزول إلى تحت الجبل صاح بها الملَك استحيائيل صيحةً عظيمة وقال: (أيّتها الحيّات والعقارب،
غيّبوا أنفسكم في جحوركم وتحت صخوركم؛ لئلاّ يراكم سيّد المرسلين وسيّد الأولين
والآخِرين)، فسارعت الحيّات والعقارب إلى ما أمرهما استحيائيل
وغيّبت أنفسها في كلّ جُحرٍ، ونزَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
من الجبل فرأى عينَ ماءٍ بارد أحلى من العسَل وأليَن من الزُبد، فقعد النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) عند العين فنزل جبرئيل (عليه السلام)
في ذلك الموضع وميكائيل وإسرافيل ودردائيل، فقال
جبرئيل: (السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا حامد، السلام
عليك يا محمود، السلام عليك يا طه، السلام عليك يا أيّها المدثّر، السلام عليك يا
أيّها المليح، السلام عليك يا طاب يا طاب، السلام عليك يا سيّد يا سيّد، السلام
عليك يا فارَ قليط، السلام عليك يا طس، السلام عليك يا طسم، السلام عليك يا شمس
الدنيا، السلام عليك يا قمَر الآخرة، السلام عليك يا نور الدنيا والآخرة، السلام
عليك يا شمس القيامة، السلام عليك يا خاتم النبيّين، السلام عليك يا زهرة
الملائكة، السلام عليك يا شفيع المُذنبين، السلام عليك يا صاحب التاج والهراوة،
السلام عليك يا صاحب القرآن والناقة، السلام عليك يا صاحب الحجّ والزيارة، السلام
عليك يا صاحب الرُكن والمقام، السلام عليك يا صاحب السيف القاطع، السلام عليك يا
صاحب الرمح الطاعن، السلام عليك يا صاحب السهم النافذ، السلام عليك يا صاحب
المساعي، السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا مفتاح الجنّة، السلام عليك يا
مصباح الدين، السلام عليك يا صاحب الحوض المورود، السلام عليك يا قائد المسلمين،
السلام عليك يا مُبطل عبادة الأوثان، السلام عليك يا قائد المرسلين، السلام عليك
يا مظهر الإسلام، السلام عليك يا صاحب لا إله إلا الله محمّد رسول الله قولاً
عدلاً، طوبى لمَن آمن بك والويل لمَن كفَر بك وردّ عليك حرفاً ممّا تأتي به من عند
ربّك).
والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) يردّ عليهم السلام فقال لهم: (مَن أنتم؟): قالوا: (نحن
عباد الله) وقعدوا حوله قال: فنظر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
إلى جبرئيل صلوات الله عليه قال له: (ما اسمك؟) قال: (عبد الله) ونظر إلى وإسرافيل
وقال له: (ما اسمك؟) قال: اسمي عبد الله، ونظَر إلى ميكائيل وقال له: (ما اسمك؟)
قال: عبد الجبّار، ونظر إلى دردائيل وقال له: (ما
اسمك؟) قال: عبد الرحمان فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(كلّنا عباد الله تعالى)، وكان مع جبرئيل طشتٌ من ياقوتٍ أحمر ومع ميكائيل إبريقٌ
من ياقوتٍ أخضر وفي الإبريق ماءٌ من الجنّة فتقدّم جبرئيل (عليه السلام) ووضَع فمه
على فم محمّد إلى أنْ ذهبَت ثلاث ساعات من النهار، ثم قال: (يا محمّد، اعلم وافهم
ما بينته لك) قال: (نعم إنْ شاء الله تعالى)، وقد ملا جوفه عِلماً وفهماً وحكماً
وبرهاناً وزاد الله تعالى في نور وجهه سبعة وسبعين ضعفاً، فلم يتهيّأ لأحدٍ أنْ
يملا بصره من الرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال
له جبرئيل (عليه السلام): لا تخف يا محمّد.
فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ومثلي مَن يخاف وعزّة ربّي وجلاله وجوده وكرَمِه
وارتفاعه وعلوّ مكانه، لو علمتُ شيئا دون جلالِ عظمته لقلتُ لم أعرف ربّي قط)،
فقال: ونظر جبرئيل إلى ميكائيل وقال: حقٌّ لربّنا أنْ يتّخذ مثل هذا حبيباً ويجعله
سيّد وِلد آدم (عليه السلام)، ثمّ إنّ جبرئيل ألقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قفاه ورفَع أثوابه فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ما تريد تصنع يا أخي جبرئيل؟) فقال جبرئيل (عليه
السلام): لا بأس عليك فأخرج جناحه أخضر وشقّ بطن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ببندقة وأدخل جناحه في بطنه وخرق قلبه وشقّ المقلية
وأظهر نكتة سواد فأخذها جبرئيل فغسَلَها وميكائيل يصبّ الماء عليه فنادى منادٍ من
السماء يقول: يا جبرئيل، لا تقشّر قلب محمّد (صلّى الله عليه وآله)
فتوجعه، ولكن اغسله بزغبِك، والزغَب هو الريش الذي تحت الجناح، فأخذ جبرئيل زغبة
وغسَل بها قلب محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ردّ المقلبة إلى القلب والقلب إلى الصدر فقال عبد الله بن العبّاس
ذات يوم والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد بلغ مبلغ
الرجال: سألت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بأيّ شيءٍ
غُسِل قلبُك يا رسول الله، ومن أي شيء.
قال: (غُسل من الشكّ باليقين لا من
الكفر، فإنّي لم أكن كافراً قط؛ لأني كنت مؤمناً بالله من قبل أنْ أكون في صُلب
آدم (عليه السلام))، فقال له عمر بن الخطاب متى نُبّئت يا رسول الله؟ قال: (يا أبا
حفص نُبّئت وآدم (عليه السلام) بين الروح والجسَد) (قال): وأمّا ما كان من أمر
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فإنّ جبرئيل (عليه
السلام) قام وصبّ الماء على أرض قزوين فحصَل من ذلك في أرض قزوين أمرٌ عظيم، قال:
وعرَج جبرئيل (عليه السلام) وميكائيل إلى السماء فقال إسرافيل لمحمّد (صلّى الله
عليه وآله): ما اسمك يا فتى؟ فقال النبيّ (صلّى الله
عليه وآله): (أنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن
هاشم بن عبد مناف، ولي اسمٌ غير هذا)، قال إسرافيل: صدقت يا محمّد، ولكنّي أمرت
بأمرٍ فأفعله، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (افعل
ما أُمرت به) فقام إسرافيل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وحلّ أزرار قميصه، وألقاه على قَفاه وأخرج خاتماً كان معه وعليه سطران: الأوّل لا
إله إلا الله، والثاني محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
وذلك خاتم النبوّة فوضَع الخاتم بين كتفي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فصار الخاتم بين كتفيه كالهلال الطالع بجسمه، واستبان
السطران بين كتفيه كالشامة يقرأها كلُّ عربيّ كاتب، وفرغ إسرافيل من عمله وجاء بين
يديّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
ثمّ دنا دردائيل
قال: يا محمّد، تنام الساعة، فقال له: (نعم) فوضَع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رأسه في حِجر دردائيل وغفا
غفوةً فرأى في المنام كأنّ شجرة ثابة فوق رأسه وعلى
الشجرة أغصان غِلاظ مستويات كلّها، وعلى كلّ غصن من أغصانها غصنٌ وغصنان وثلاثة
وأربعة أغصان، ورأى عند ساق الشجرة من الحشيش مالا يتهيّأ وصفه، وكانت الشجرة
عظيمةً غليظة الساق زاجة في الهواء، ثابتة الأصل، باسقة
الفرع، فنادى منادٍ: يا محمّد، أتدرى ما هذه الشجرة؟ فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (لا يا أخي)، قال: اعلم أنّ هذه الشجرة أنت والأغصان
أهلُ بيتك والذي تحته محبّوك وموالوك، فابشر يا محمّد بالنبوةِ الأثير والرياسة
الخطيرة، ثمّ إنّ دردائيل أخرج ميزاناً عظيماً كلّ كفّة
منه ما بين السماء والأرض فأخذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)،
فوضعه في كفّة ووضع أصحابه في الكفّة الثانية فرجح بهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ عمَد إلى ألف رجلٍ من خواصّ أُمّته فوضعهم في
الكفّة فرجح بهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ عمد
إلى أربعة آلاف رجُل من أُمّته فوضعهم في الكفّة فرجح بهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ عمد إلى نصف أُمّته فرجح بهم النبيّ (صلّى الله
عليه وآله)، ثمّ عمد إلى أُمّته كلّهم ثمّ الأنبياء
والمرسلين ثمّ الملائكة كلّهم أجمعين، ثمّ الجبال ثمّ البحار ثمّ الرمال ثمّ
الأشجار ثمّ الأمطار، ثمّ جميع ما خلق الله تعالى فوزنهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فلم يعدلوه ورجَح النبيّ بهم، فلهذا قيل خير الخلق
محمّد (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّه رجح بالخلق أجمعين
وهذا كلّه يراه بين النوم واليقظة، فقال له دردائيل: يا
محمّد، طوبى لك ولأُمّتك وحُسنُ مآب، والويل كلَّ الويل لِمَن كفَر بك وردّ عليك
حرفاً ممّا تأتي به من عند ربّك، ثمّ عرجَت الملائكة إلى السماء فأتَت والله تلك
الشجرة التي رآها في المنام على وصفها، ونشرت أغصانها وخرجت أوراقها وأرسلت
أثمارها بأمر الله تعالى وعليها كل ثمرة من لون، واجتمع صفرة الشمس واختلطت بحمرة
الورق والألوان مختلطة بعضها ببعض.
(قال الواقدي): فلمّا طال مكث النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) طلبه في تلك المفاوز إخوته أولاد حليمة
فلَم يجدوه فرجعوا إلى حليمة وأعلموها بقصّته، فقامت ذاهلة العقل تصيح في حيّ بني
سعد فرفعت الصيحة في حيّ بني سعد: إنّ محمّداً قد فُقد، فقامت حليمة ومزّقت
أثوابها وخدَشَت خدّها ونفشَت شعرها وهي تعدو في البراري والمفاوز والقِفار، حافية
القدَم والشوك يدخل في رجلها والدم يسيل منها وهي تنادي وا
ولداه، وا قرّة عيناه، وا
ثمرة فؤاداي، ومعها نساء بني سعد يبكين معها مكشّفات الشعور مخدوشات الوجوه،
وحليمة تسقط مرّة وتقوم أُخرى، وما بقيَ في الحيّ شيخٌ ولا شاب ولا حرٌّ ولا عبد
إلاّ يعدو في البرّية في طلب محمّد (صلّى الله عليه وآله)،
وهم يبكون كلّهم بقلبٍ محترق، وركِب عبد الله بن الحارث وركِب معه آل بني سعد
وحلَف إذا ما وجدت محمداً (صلّى الله عليه وآله) الساعة
وضعت سيفي في آل بني سعد وغطفان، وأقتلهم من آخرهم وأطلب بدم محمّد (صلّى الله
عليه وآله)، وذهبَت حليمة على حالتها مع نساء بني سعد
نحو مكّة ودخلتها، وكان عبد المطّلب قاعداً عند أستار الكعبة مع رؤساء قُريش وبني
هاشم، فلمّا نظر إلى حليمة على تلك الحالة ارتعدت فرائصه وصاح ما الخبَر؟ فقالت
حليمة: اعلم أنّ محمداً قد فقدناه منذ أمس وقد تفرّق آل سعد في طلبه
قال: فغُشيَ عليه ساعة ثمّ أفاق وقال
كلمة لا يخذل قائلها: لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، يا غلام، هاتِ
فرَسي وسيفي وجوشني فقام عبد المطّلب وصعد إلى أعلى الكعبة ونادى: يا آل غالب، يا
آل عدنان، يا آل فِهر، يا آل نِزار، يا آل كنانة، يا آل مُضَر، يا آل مالِك،
فاجتمع عليه بطون العرَب ورؤساء بني هاشم وقالوا له: ما الخبر يا سيّدنا؟
فقال لهم عبد المطّلب: إنّ محمّداً لا
يُرى مُنذ أمس فاركبوا وتسلّحوا، فركِب في ذلك اليوم مع عبد المطّلب عشرة آلاف
رجُل فبكى الخلق كلّهم رحمة لعبد المطّلب، وقامت الصيحة والبكاء في كلّ جانب حتى
المخدّرات خرجْنَ من الستور - رقّة لعبد المطّلب - مع القوم إلى حيّ بني سعد وسائر
الأطراف وانجذب عبد المطّلب نحو حيّ عبد الله بن الحارث وأصحابه باكي العيون،
ممزّقي الثياب وكلّهم بتمام الأسلحة، فلمّا نظر عبد الله إلى عبد المطّلب رفَع
صوته بالبكاء وقال: يا أبا الحارث، واللاّت والعزّى وأساف ونائلة إنْ لم أجد
محمّداً وضَعت سيفي في حيّ بني سعد وغطفان وأقتلهم عن آخرهم، قال فرقّ قلب عبد
المطّلب على حيّ آل سعد، ارجعوا انتم إلى حيكم، واللاّت والعزّى إنْ لم أجد
محمّداً الساعة رجعت إلى مكّة ولم أدَع فيها يهودياً ولا يهودية، ولا أحداً ممّن
أتّهم بمحمّد فأمدّهم تحت سيفي مدّاً، ولأجعلنّ مكّة
طلباً لدم محمّد (صلّى الله عليه وآله).
(قال الواقدي): وأقبل من اليمَن أبو
مسعود الثقَفي، وورقّة بن نوفل، وعقيل بن أبي وقّاص وجازوا على الطريق الذي فيه
محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وإذا الشجرة ثابتة في
الوادي، فقال ورقة لأبي مسعود: إنّي سلكت هذا الطريق ثلاثين مرّة، فما رأيت قط هنا
هذه الشجرة، فقال عقيل: صدقت فمرّوا بنا حتى ننظر ما هي قال: فذهبوا جميعاً وتركوا
الطريق الأوّل، فلمّا بلغوا قريباً من الشجرة رأوا تحتَ الشجرة غلاماً أمرَد ما
رأى الراؤون مثله كأنّه قمر، فقال عقيل وورقة: ما هو
إلاّ جنّي، فقال أبو مسعود: ما هو إلاّ مِن الملائكة وهم يقولون والنبيّ (صلّى
الله عليه وآله) يسمَع كلامهم، فاستوى قاعداً فرأى
القوم ورأوه فقال أبو مسعود: من أنتَ يا غلام أجنّي أم إنسي؟ فقال النبيّ (صلّى
الله عليه وآله): (بل أنا إنسي)، فقال: ما اسمك؟ قال:
(محمّد بن عبد الله ابن عبد المطّلب ابن هاشم بن عبد مناف)، فقال أبو مسعود: أنتَ
نافلة عبد المطّلب، قال: (نعم)، قال كيف وقعت ها هنا؟ فقصّ عليهم القصّة من أوّلها
إلى آخرها فنزل أبو مسعود عن ظهر ناقته وقال: أتريد أنْ أمرّ بك إلى جدّك فقال
النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (نعم) فأخذه على قربوس
سرجه ومرّوا جميعاً حتى بلغوا قريباً من حيّ آل بني سعد، فنظر النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) في البرّية فرأى جدّه عبد المطّلب وأصحابه
لا يرونه فقالوا: يا محمّد إنّا لا نرى؛ وذلك أنّ نظرته نظرة الأنبياء فقال لهم:
مرّوا حتى أُريكم فمرّوا وإذا عبد المطّلب مُقبل هو وأصحابه، فلمّا نظر عبد
المطّلب إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وثَب عن فرَسه
وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى سرجه وقال
له: أين كنت يا ولدى وقد كنت عزمت أنْ أقتل أهل مكّة جميعاً؟ فقصّ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) على جدّه القصّة مِن أوّلها إلى آخرها،
ففرح عبد المطّلب فرحاً شديداً وخرج من خيله ورجله ودخل إلى مكّة، ودفَع إلى أبي
مسعود خمسين ناقة وإلى ورقة بن نوفل وعقيل ستّين ناقة قال: وذهبت حليمة إلى عبد المطّلب
وقالت له: ادفع إليّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله)
فقال عبد المطّلب: يا حليمة إنّي أحببت أنْ تكوني معنا بمكّة، وإلاّ ما كنت بالذي
أسلمه إليك مرّة أُخرى، فوهب لعبد الله ابن الحارث أبيها ألف مثقال ذهَبٍ أحمر
وعشرة آلاف درهَم بيض، ووهب لبَكر بن سعد جملة بغير وزن ووهب لإخوان النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) أولاد حليمة وهما ضمرة وقرّة أخواه من
الرضاعة مئتي ناقة، وأذن لهم بالرجوع إلى حيّهم.
(قال الواقدي): وكان في زمان عبد
المطّلب رجلٌ يقال له سيف بن ذي يزن المازني، وكان من ملوك اليمَن وقد أنفذ ابنه
إلى مكّة والياً من قِبَله وتقدّم إليه باستعمال العدل والإنصاف ففعَل ما أمره به،
ثمّ إنّ عبد المطّلب دعا برؤساء قريش مثل عتبة بن ربيعة، ومثل الوليد ابن المغيرة
وعتبة بن أبي معيط وأُمية بن خلَف ورؤساء بني هاشم، فاجتمعوا في دار الندوة وهي
الدار الموصلة في المسجد الحرام، فلمّا قعدوا وأخذوا مراتبهم ثمّ تكلّم عبد
المطّلب وقال: اعلموا إنّي قد دبّرت تدبيراً فقال المشايخ: وما دبرت يا رئيس قريش
وكبير بني هاشم؟ فقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أنْ تخرجوا معي نحو سيف بن ذي يزن
لتهنئته في ولايته وهلاك عدوّه؛ ليكون أرفق بنا وأميَل إلينا، فقالوا له بأجمعهم:
نِعمَ ما رأيت ونِعمَ ما دبّرت، ثمّ أمر عبد المطّلب أنْ يستحكموا آلات السفَر
ففرغوا من ذلك، قال فخرَج عبد المطّلب ومعه سبعة وعشرون رجلاً على نوقٍ جياد نحو
اليمن، فلمّا وصلوا إلى سيف بن ذي يزن بعد أيّام سألوا عن الوصول إليه، قالوا لهم:
إنّ الملك في قصر الوادي، وكان من عاداته في أوان الورد أنْ يدخل قصر غمدان ولا
يخرج إلاّ بعد نيف وأربعين يوماً، ولا يصل إليه ذو حاجة ولا زائر وأنتم قصدتم
الملك في أيّام الورد، فذهب عبد المطّلب إلى باب بستانه وكان لقصر غمدان في وسط
البستان أبواب، وكان لهذا البستان باب يفتح إلى البرّية وقد وكّل بذلك الباب بوّاب
واحد فقال عبد المطّلب لأصحابه: لعلّنا يتهيّأ لنا الدخول بحيلة ولا يتهيّأ لنا
إلاّ بها فقال القوم: صدقت.
(قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب
نزَل واتجه نحو الباب فنظر إلى البوّاب وسلّم عليه وضحَك في وجهه، ولم يُظهر
للبوّاب شيئاً ولم يقعد إلاّ إلى جانبه، ثمّ قال له: يا بوّاب دعني أنْ أدخل
البستان، فقال له البوّاب: واعجباً منك ما أقلّ فهمَك وأضعَف رأيك أمصروعٌ أنت؟
فقال له عبد المطّلب: ما رأيت من جنوني؟ فقال له البوّاب: أما علمت أنّ سيف بن ذي
يزن في القصر مع جواريه وخدَمِه قاعد، فإنْ أبصرك في بستانه أمر بقتلك وإنّ سفك
دمَك عنده أهوَن من شربة ماء، فقال له عبد المطّلب: دعني أدخل ويكون من الملِك إلى
ما يكون فقال له البوّاب: يا مغلوب العقل، إنّ الملِك في القصر وعيناه للباب والبوّاب
وإنّه قدر ما يرفق أنْ يأمر بقتلك.
فقال عقيل ابن أبي وقّاص: يا أبا الحارث،
أما علِمت أنّ المسارج لا تُضيء إلاّ بالدهن، فقال عبد المطّلب: صدقت (قال الواقدي):
ثمّ إنّ عبد المطّلب دعا بكيس من أديمٍ فيه ألف دينار وقال بعد أنّ صبّ الكيس بين
يدَي البوّاب: يا هذا، إنْ تركتني أدخل البستان جعلتُ هذا بِرّي إليك فاقبل صلتي
وخلّ سبيلي، فلمّا نظر البوّاب إلى الدراهم خرّ مبهوتاً وقال له البوّاب: يا شيخ،
إنْ دخلت ونظَر إليك الملِك وسألك عن كيفية دخولك ما أنت قائل له؟ قال عبد المطّلب:
أقول له كان البوّاب نائماً.
وشرَط عليه عبد المطّلب أنْ لا يكذّبه
إنْ دعاه الملك للمسائلة فيقول: غفوت وليس لي بدخوله علم،
قال: نعم، فقال عبد المطّلب إنْ كذبتني في هذا أصدقت الملك عن الصلة التي وصلتك
بها، فقال له البوّاب: ادخل يا شيخ، فدخل عبد المطّلب البستان وكان قصر غمدان في
وسَط الميدان والبستان كأنّه جنّة من الجنان، قد حُفّ بالورد والياسمين وأنواع
الرياحين والفواكه وفيه أنهارٌ جارية في وسطِه، وإذا سيف بن ذي يزن قد اتكأ على
عمود المنظرة من قصره وفي قصره يقول الشاعر:
اشرب هنيئاً عليك
التاج مرتفعاً *** في رأس غمدان دارا منك محلالا
اشرب هنيئا فقد شالت
نعامتهم *** وأسبل
اليوم في بُرديك أسبالا
قال: فلمّا نظر سيف بن ذي يزن عبد
المطّلب غضِب وقال لغلمانه: مَن ذا الذي دخَل علَيّ بغير إذني ليؤتَ
به سريعاً، فسعى إليه الغلمان والخدَم فاختطفوه من البستان، فلمّا دخل عبد المطّلب
عليه رأى قصراً مبنياً على حجَر مطلي بطلاء الورد منقّشاً بنقش اللازورد وورداً
على أمثال الورد، ورأى عن يمين الملِك وعن شماله وبين يدَيه من الجواري مالا عدد
لهنّ، ورأى قريب الملك عموداً من عقيقٍ أحمر وله رأس من ياقوتٍ أزرَق مجوّف محشّى
بالمِسك، ورأى عن يساره ثوراً من ذهبٍ أحمر على فخذه سيف نقمته مكتوب عليه بماء
الذهب شعر يقول:
رُبّ ليث مدجّج كان
يحمي *** ألف
قرنٍ مغمد الأغماد
وخميس مُلفف بخميسٍ *** بدّد الدهر
جمعَهم في البلاد
(قال الواقدي): فوقف عبد المطّلب بين
يدَي سيف ولم يتكلّم الملِك ولا عبد المطّلب، حتى كرع الملك في النور الذي بين
يديه فلمّا فرغ من شربه نظر إليه وكان سيف قد شاهد عبد المطّلب قبل هذا ولكنّه
أنكره، حتى استنطقه فقال له الملك: من الرجل؟ فقال أنا
عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن مُضَر بن نِزار بن معد
بن عدنان، حتى بلغ آدم (عليه السلام)، فقال له الملك: أنت ابن أُختي، فقال: نعم
أنا ابن أُختك؛ وذلك أنّ سيف بن ذي يزن كان من آل قحطان وآل قحطان من الأخ وآل
إسماعيل من الأُخت فعلِم سيف بن ذي يزن أنّ عبد المطّلب ابن أُخته، فقال سيف بن ذي
يزن: أهلاً وسهلاً وناقةً ورَحلاً، ومدّ يده إلى عبد المطّلب وكذلك عبد المطّلب
نحو الملك فأمره الملك بالقعود وكنّاه بأبي الحارث وقال: فأنتم معاشر أهل الشام
رجال الليل والنهار، وغيوث الجدب والغلاء، وليوث الحرب لضرب الطلى، ثمّ قال: يا
أبا الحارث فيم جئت؟
فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك
السعيد، جده الرفيع، مجده المطاع أمره المحذور، آفته المدرِك رأفته نحن جيران بيت
الله الحرام وسدَنة البيت، وقد جئت إليك وأصحابي بالباب لنهنّئك بولايتك وما فوّضه
الله تعالى من النصر بك وأجراه على يَدَيك من هلاك عدوّك، فالحمد لله الذي نصَرَك
وأقرّ عينيك وأفلَج حجّتك وأقرّ عيوننا بخذلان عدوّك، فأطال الله تعالى في سوابغ
نِعَمةِ مدّتك وهنّأك بما منحك ووصلها بالكرامة الأبدية، فلا خيّب دعائي فيك أيّها
الملك، ففرح سيف بدعائه وازداد له محبّة بما سمِع من تهنئته، ثمّ أمره أنْ يصير هو
ومَن معه بالباب من أصحابه إلى دار الضيافة إلى أنْ يؤمر بإحضارهم بعد هذا اليوم
إلى مجلسه، فمضى وحجّابه وخدَمه بين يديه إلى حيث أمرهم وخرج عبد المطّلب واستوى
على جمَلِه واتبعه أصحابه، وبين يديه غلمان الملك حوله حتى أنزلوه وأصحابه وبالغوا
بالتوصية به وبأصحابه فأمر الملك أنْ يجرى عليهم في كلّ يوم ألف درهم بيض، فبقي
عبد المطّلب في دار الضيافة شهرَين حتى تصرّمت أيام الورد، فلمّا كان في اليوم
الذي أراد فيه مجلسه للتسليم عليه والنظر في أمره ذكر عبد المطّلب في شطرٍ من
ليلته، فأمر بإحضاره وحده فدخل عليه الرسول فأمره وأعلمه بمراد الملك منه، فقام
معه إليه فإذا الملك في مجلسه وحده فقال لخدمه: تباعدوا عنّا، فلم يبقَ في المجلس
غير الملك وعبد المطّلب وثالثهم ربّ العزّة تبارك وتعالى، فقال له الملك: يا أبا
الحارث، إنّ من آرائي أنْ أُفوّض إليك علما كنت كتمته عن غيرك وأُريد أنْ أضعه
عندك؛ فإنّك موضع ذلك وأُريد أنْ تطويه وتكتمه إلى أنْ يظهره الله تعالى، فقال عبد
المطّلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك، فقال الملك، اعلم يا أبا الحارث، أنّ
بأرضكم غلاماً حسَن الوجه والبدن، جميل القدّ والقامة، بين كتفيه شامة المبعوث من
تهامة، أنبت الله تعالى على رأسه شجرةُ النبوّة، وظلّته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم
القيامة، مكتوب بخاتم النبوّة على كتفيه سطران: الأوّل لا اله إلاّ الله، والثاني
محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والله تعالى
توفّى أُمّه وأباه وتكون تربيته على يدَي جدّه وعمّه وأنا وجدت في كتب إسرائيل
صفته، أبيَن وأشرَح من القمَر بين الكواكب، وأنّى أراك جدّه فقال عبد المطّلب: أنا
جدّه أيّها الملك.
فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا
الحارث، ثمّ قال له الملك: إنّي أشهد على نفسي يا أبا الحارث، أنّي مؤمنٌ به وبما
يأتي به من عند ربّه، ثمّ تأوّه سيف ثلاث مرّات بأنْ يراه فكان ينصره وينظره
فيتعجّب منه الطير في الهواء، ثمّ قال: يا أبا الحارث، عليك بكتمان ما ألقيتُ عليك
ولا تظهره إلى أنْ يظهره الله تعالى فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك، ونظر
عبد المطّلب في لحية سيف بن ذي يزن سواداً وبياضاً وخرَج من عنده وقد وعده في
الحنّاء في غد ليرحلوا إلى أرض الحرّم إنْ شاء الله تعالى، فلمّا رجع إلى أصحابه
رآهم وجِلين خائفين وقد أكثروا الفكر فيه حين دعاه الملِك في مثل ساعته التي دعاه
فيها فقالوا له: ما كان يريد الملك منك قال عبد المطّلب يسألني عن رسوم مكّة
وآثارهم، ولم يخبِر عبد المطّلب أحداً بما كان بينه وبين الملك، وغدا عليهم رسول
الملك من غد يحضرهم مجلسه فتطيّبوا وتزيّنوا ودخلوا القصر وعبد المطّلب يقدمهم،
فدخلوا عليه فنظر عبد المطّلب فإذا برأسه ولحيته سواد حالك فقال له عبد المطّلب:
إنّي تركتك أبيض اللحية فما هذا؟ فقال
له إنّي استعمل الخضاب فقال أصحاب عبد المطّلب: إنْ رأى الملك أنْ يرانا أهلاً
لذلك الخضاب فليفعل،قال: فأمر
الملك أنْ يؤخذ بهم إلى الحمّام وكان القوم بيض الرؤوس واللحى فخضّبوا هناك فخرجوا
ولشعورهم بريق كأسوَد ما يكون من الشعر، ويقال إنّ سيفاً أوّل من خضّب رأسه ولحيته.
(قال الواقدي): ثمّ إنّ الملك أمر لكلّ
واحد ببدرة دراهم بيض، وحمَل كل واحد منهم على دابّة وبغل، وأمر لكل واحد منهم
بجاريةٍ وغلام وبتختِ ثياب فاخرة، ووهب لعبد المطّلب ضعفَي ما وهَب لهم ثمّ دعا
الملك بفرسه العقاب وبغلته الشهباء وناقته العضباء وقال: يا أبا الحارث، إنّ الذي
أسلمه إليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أنْ تسلّمها إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) إذا بلغ مبلغ الرجال، فقال له: اعلم أنّي ما طلبت على
هذه الفرس شيئاً إلاّ وجدته، وما قصَدَني عدوّ وأنا راكبٌ عليها إلاّ أنجاني الله تعالى
منه، وأمّا البغلة فإنّي كنت أقطع بها الدكادك والجبال
لحسن سيرها ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أنْ يتحفّظ ويجعلها لي تذكرة وبلّغه
عنّى التحية الكثيرة، فقال عبد المطّلب السمع والطاعة لأمر الملك.
ثمّ ودّعوه وخرجوا نحو الحرَم حتى دخلوا
مكّة فوقعت الصيحة في البلَد بقدومهم، فخرَج الناس يستقبلونهم وخرَج أولاد عبد
المطّلب، وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على صخرة
وقد ألقى كمّه على وجهه لئلاّ تناله الشمس حتى قارب عبد المطّلب، فنظر أولاده إليه
وقالوا: يا أبانا، خرجت إلى اليمن شيخاً ورجعت شابّاً قال: نعم أيّها الفتيان
سأخبركم بما ذكرتم فأخبرهم، ثمّ قال لهم: أين سيّدي محمّد (صلّى الله عليه وآله) فقالوا له: إنّه في بعض الطريق ينتظركم، ثمّ إنّ عبد
المطّلب سار نحوه حتى وصل إليه مع أصحابه فنزل عن مركوبه وعانقه وقبله بين عينيه،
وقال له: إنّ هذا الفرَس والبغلة والناقة أهداها إليك سيف بن يزَن ويقرأ عليك
التحية الطيبة، ثمّ أمر أنْ يُحمل رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) على الفرس، فلمّا استوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على ظهر الفرَس نشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً برسول
الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب
بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن
الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.
(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام
فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه
فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي
يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله
عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه
لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة
على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.
(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر
وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى
عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من
خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل
وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان
الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك
وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله
أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد
كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على
خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)،
واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه
تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد
المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد
العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد
المطّلب خجَلاً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب
هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد
الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.
(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام
فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه
فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي
يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله
عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه
لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة
على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.
(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر
وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى
عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ
أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود
أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش
والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد
المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان
له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم
بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر
وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد
المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع
فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد
المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من
عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله)
اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً فقالوا
كلّهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه ثمّ قال لهم عبد المطّلب: إنّ الرئيس عليكم من
بعدي الوليد بن المغيرة؛ فإنّه أهلٌ لأنْ يجمعنكم على الخير ويلمّ شملكم فضجّت
الخلق بأجمعهم وقالوا: قبلنا أمرك فنعم ما رأيته رئيساً ونِعم ما خلّفته فينا
بعدك، وصارت قريش وبنو هاشم تحت ركاب الوليد بن المغيرة لعنه الله تعالى، فعند ذلك
تغيّر وجه عبد المطّلب واخضرّت أظافر يديه ورجليه ووقع على وجنتيه غبار الموت
وأكثر التقلّب من جانب إلى جانب، ومرّة يقيض رجلاه ومرّة يبسط أخرى والخلائق من
قريش وبني هاشم حاضرون، وقد صارت مكّة في ضجّة واحدة وأراد النبيّ (صلّى الله عليه
وآله) أنْ يقوم من عنده ففتح عبد المطّلب عينيه وقال:
يا محمّد، تريد أنْ تقوم قال: (نعم) فقال عبد المطّلب: يا ولدي فإنّي وحقّ ربّ
السماء لفي راحة مادمت عندي قال: فقعد النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) فما كان إلاّ عن قليل حتى قضى نحبه.
(قال الواقدي): ثمّ قاموا في تغسليه
فغسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وجعلوه في أعواد المنايا، وحملوه إلى ذيل الصفا وما بقي
في مكّة شيخ وشاب ولا حرّ ولا عبد من الرجال والنساء إلاّ وقد ذهبوا في جنازته
وعظّموها ودفنوه، ورجَع الخلق من جنازته باكين عليه لفقده من مكّة فقالت عاتكة بنت
عبد المطّلب ترثي أباها:
ألا يا عين ويحك أسعديني |
|
بدمع وأكفّ هطل غزيرِ |
على رجلٍ أجلّ الناس أصلاً |
|
وفرعاً في المعالي والظهورِ |
طويل الباع أروَع شيظَمي |
|
أغرّ كغرّة القمَر المنيرِ |
وأبكى هاشماً وبني أبيه |
|
فقد فارقَت ذا كرمٍ وخيرِ |
وغيثاً للقرى في كل أرضٍ |
|
إذا ضنّ الغنى على الفقيرِ |
فقدنا من قريش في البرايا |
|
سحاب الناس في السنَة النرورِ |
وقالت صفية ترثي أباها:
أعينَيّ جَودا بالدموع السواكب |
|
على خيرِ شخصٍ من لؤي بن غالب |
أعينَيّ لا تستحسرا من بكاكما |
|
على ماجدِ الأعراق عفّ المكاسب |
أعينَيّ جودا عبرةً بعد عبرةٍ |
|
على الأسدِ الضرغام محضِ الضرائبِ |
أبي الحارثِ الفيّاض ذي الحلم والبها |
|
وذي الباع والماعون زين المناسبِ |
وذي المجدِ والعزّ الرفيع وذي الندا |
|
وذي العون عند المعضلات التوائبِ |
فإنْ تبكياه تبكيا ذا مهابةٍ |
|
كريم المساعي حلمه غير ذاهبِ |
وقالت برّة بنت عبد المطّلب تبكي أباها
وترثيه:
أعينَي جودا بالدموع الهواطل |
|
على النحرِ منّي مثل فيض الجداول |
ولا تسئما أنْ
تبكيا كلّ ليلةٍ |
|
ويومٍ على مولىً كريم الشمائل |
أعينَيّ لا يُغني وجيع بكاكما |
|
على خيرٍ حافٍ من معد وناعلِ |
على رجلٍ لم يورث اللوم جدّه |
|
أتمّ طويل الساعدين حلاحلِ |
أخي ثقة ماضي العزيمة ماجد |
|
له بيت مجدٍ ثابت غير فاصلِ |
بي الحارث الفياض ذي الباع والندا |
|
رئيس قريش كلها في القبائل |
فسقى مليك الناس موضع قبره |
|
بتو الثريا ديمة بعد وابل |
وقالت أروى بنت عبد المطّلب ترثي أباها:
ألا يا عين ويحك أسعديني |
|
بوبل واكف من بعد وبلِ |
بدمعٍ من دموعك ذي غروب |
|
فقد فارقت ذا كرم ونبلِ |
طويل الباع أروع ذي المعالي |
|
أبيك الخير وارث كلّ فضلِ |
وقالت آمنة بنت عبد المطلب تبكي أباها
وترثيه:
بكت عيني وحقّ لها البكاء |
|
على سمحٍ سجيته الحياء |
على سمح الخليفة ابطحي |
|
كريم الخيم ينميه العلاء |
على الفيّاض شبيه ذي المعالي |
|
أبيك الخير ليس له كفاء |
اقب الكشح أروع ذي أُصول |
|
له المجد المقدّم والثناء |
وكان هو الفتى كرماً وجوداً |
|
وبأساً حين تنسكب الدماء |
إذا هاب الكماة الموت |
|
حتى كأنّ قلوب أكثرهم هواء |
مضى قدماً بذي شطب خشيب |
|
عليه حين تبصره بهاء |
(قال الواقدي): ثمّ إنّ الوليد بن
المغيرة ترأّس من بعد عبد المطّلب واستقام أمره، وكان لعنه الله معانداً لرسول
الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان أبو طالب يحبّ رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) محبّةً لم يُرَ مثلها، وكان
ينوّمه بجنبه ويوسّده يمينه، ويدثّره يساره، وإذا قام
بالليل قام معه وإذا أراد أنْ ينام ينزعه ثيابه ويعرّيه ويأخذه في فراشه، وكان
يحبّ أنْ يلتزق جلده بجلده لمحبّته له وليُرضي الله تعالى بذلك، وكان إذا دخل جوف
الفراش لا يصير بينه وبين النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
حاجز حتى يختلط بدنه ببدنه، فعند ذلك رمدَت عين النبيّ رمداً شديداً وأصابه منه
وجَع حتى إنّه كان يأخذ خرقة سوداء ويضعها على عينيه، ولا يقدر أنْ يفتح بصره لما
كان به من الأذى والألم فعالجوه فتمادَت به العلّة وطالت به فدخل على أبي طالب من
ذلك غمٌّ شديد، وأحضر الأطبّاء فما ازداد إلاّ ألمَاً فأشارت إليه قريش وبنو هاشم
إلى أنْ يحمله إلى عند حبيب الراهب، ليدعوا له ربّه بالعافية والرحمة، وكان ذلك
لهم باباً فقال أبو طالب: نِعم ما دبّرتم ثمّ جاء إلى منزله فأخبر النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) بذلك، فقال له: الرأي رأيك.
(قال الواقدي): فلمّا كان في اليوم
الثاني غسَل رأس النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وزيّن
لباسه وجمّله بأحسن زينة وأركبه ناقةً جليلة، وكان حبيب على ثلاث مراحل من مكّة في
صومعته على طريق الطائف، فأخرج أبو طالب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالليل عن وهَج الشمس، فلمّا بلغ الصومعة نادى الغلام:
يا حبيب، فأجابه فقال: إنّ أبا طالب بن عبد المطّلب بالباب، فأمر أنْ يدخلا فدخلا
وقعد أبو طالب إلى جنب حبيب ولم يتكلّم حبيب حتى سكنا جميعاً، ثمّ قال أبو طالب:
يا سيّدي إنّ هذا ابن أخي (النبيّ) محمّد (صلّى الله عليه وآله)
به رمَد، وقد داويناه بكلّ دواء فلَم ينتفع ولم يبرَأ رمدُه، وقد جئتك لتدعوا له
ربّ السماء أنْ يعافيه ممّا به فقال له حبيب: تعال إلى عندي يا محمّد فقال له
محمّد (صلّى الله عليه وآله): (تعال أنت إلى عندي) فقال
أبو طالب: وا عجباً منك يا سيّدي أنت الشاكي، فقال له
رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (بل حبيب الشاكي)،
فغضِب حبيب وقال: يا محمّد، فما أشكو؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (أنت تشكو البرَص الذي على جسَدِك، وقد دعوَت ربّ
السماء ثلاثين سنة أنْ يعافيك فلَم يُجبك)، فقال حبيب: وكيف علِمت يا محمّد، وأنت
صبيّ صغير؟ فقال: (رأيته في النوم)، فقال: يا محمّد، تفضّل علَيّ وادع لي بالعافية
فكشَف عن وجهه (صلّى الله عليه وآله)، فبرق من وجهه برق
حتى أضاءت الصومعة من النور، وشقّ سقف الصومعة ومرّ
كالعمود حتى التزق إلى عنان السماء، وإذا بهاتف يهتِف ويقول: يا أهل الديرانية،
ويا أهل الرهبانية، ويا أصحاب الكتاب، آمنوا بالله وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قال: فوثب حبيب من صومعته وتعلّق بالنبيّ (صلّى الله
عليه وآله) وقال: أُشهدك يا محمّد على نفسي أنّي مؤمنٌ
بما تأتي به من عند ربّك، صغيراً وكبيراً قديماً وحديثاً، فاعتبَر الخلق بذلك ممّا
عاينوه وسمِعوه، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(يا حبيب ارفع ثيابك لتنظر الخلائق ما قلت ويكون صدقاً لكلامي)، فنظر الخلائق بعد
ما رفَع أذياله إلى ذلك البرَص الأبيض كالدرهم وعليه نقطة سوداء، فدعا النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) بدعَوَات مستجابات ومسَح يدَه
عليه فذهبت العلامة بإذن الله تعالى وبدعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
ثمّ قال: (يا عم، لو أحببتُ أنْ يعافيني
الله تعالى لدَعَوت الله سُبحانه وتعالى أنْ يعافيني ولم أجئ إلى هاهنا، ولكن قلت
يا عم، حتى تدري أنّي عند الله أجلّ مِن مثلك ومِن مثل حبيب وغيره من أهل الأرض
جميعاً)، ثمّ دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لنفسه
فبرِئ من وقته من رمَدِه فصارت عيناه أحسن ما يكون بمشيئة الله تعالى، فقال حبيب:
يا أبا طالب، احتفظ على هذا الغلام الذي وجدنا اسمه في التوراة لأشهَر من القمَر
في كبد السماء، وكذلك اسمه في الإنجيل في سورة يُقال لها المُبرهنة لأنوَر وأبهى
مِن كوكب الصبح، وأنّ لهذا الغلام شأناً عظيماً وسترى أمره عن قريب وتفرَح به يا
أبا طالب أشدّ ما يكون من الفرَح، واعلم أنّه طوبى لِمَن آمن به، والويل لمَن كفَر
به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به؛ فإنّ له من الأعداء عدَد نجوم السماء مع أنّ له حافضاً يحفظه وناصراً ينصره فطب نفساً وقر عيناً فإنّك تفرَح
به، ثمّ قام أبو طالب من عند حبيب واستوى على الناقة فكتَم أبو طالب ذلك ولم يُخبِر
به أحداً وقد رجعَت عينا النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
إلى حال العافية.
(قال عمر بن الخطّاب): سألت أبي وقلت له: يا أبَتي وكيف صار مفتاح
بيت الله الحرام إلى بني شيبة، قال: اعلم أنّ إبراهيم الخليل لمّا فرع من بنائه
حفَر وهدةً صغيرة في جوف هذا البيت - يعني الكعبة عن يمين الباب - وقال: (إنّي
حكمت على كلّ مَن يدخل جوف بيت الله الحرام أنْ يطرح في هذه الوهدة شيئاً من
الدراهم والدنانير، وغير ذلك من صنوف الأموال؛ ليكون ذلك برّاً لسدَنة البيت
ولخدَمَته من درهم إلى ما كان، ولم يكن بهذا الرسم لأحد من الملوك والفراعنة نصيب،
وكان مفتاح بيت الله الحرام بين يدَي بني أُميّة يرثون إمساك المفتاح عقباً بعد
عقب، فلَم يزالوا على عهده حتى وصل مفتاح بيت الله الحرام إلى أبى العاص بن أُمية
بن عبد شمس، وكان يفتح بيده وكان لهم بذلك عزٌّ وشرف ونُبل، ثم إنّ أبا العاص بن
أُميّة اتخذ دعوةً جلية وضيافةً خطيرة واتخذ الدعوة في بيت الخمار، وكثيراً ممّا
كان بنو أُمية ينفقون في دار الخمار ويأكلون ويشربون فيها، فلمّا اتخذ أبو العاص
الضيافة وأكَل الناس الطعام وغسَلوا أيديهم وشربوا حتى فُنيَ شرابهم، ولم تكن لهم
حيلة في ابتياع الشراب ولم يكن معهم شيء من الدراهم والدنانير ولا من الرهون،
فرهنوا مفتاح بيت الله الحرام عند الخمّار وأخذوا الخمر وشربوا وسكَر القوم وناموا،
فسمِع بذلك عامر بن شيبة فحمَل زِقّاً من خمْر وردّها إلى الخمّار واسترجع المفتاح
من الخمّار، وذهب به إلى بيته وغسَلَه بماء الكافور وطلاه بالغالية المتّخذة من
مسكٍ أذفَر فلفّه في خرقة الديباج، وكان المفتاح من ذهبٍ أحمر وهكذا كان حقّه؛
لأنّه مفتاح بيت الله الحرام.
(قال الواقدي): فأفاق القوم من سكرهم
فقام أبو العاص وذهب نحو الخمّار ليسترجع المفتاح وقد استرجعه عامر بن شيبة، فغضِب
أبو العاص وذهَب بجماعة من أهل بيته إلى باب دار عامر، فضربوه واعتدَوا عليه
واسترجعوا منه المفتاح على الكره فانصرف أبو العاص فرِحاً مسروراً فغضب عامر وذهَب
إلى مقام إبراهيم الخليل (عليه السلام) ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ البيت
العتيق، والركن الوثيق والحجَر الغريق وزمزم الدقيق، أنتَ تعلم أنّ أبا العاص رهَن
المفتاح في ثمَن الشراب، واستخفّ ببيتك ولم يعرِف حقّ بيتك وأنا استرجعته وغسلته
وفعلتُ به ما فعلت، اللهم إني أسألك أنْ تسلب هذا العزّ عن أبي العاص ومن أهل بيته،
ثمّ رجع إلى منزله
(قال الواقدي): فأصبح أهل مكّة يوم
الثاني وكان في الحرَم واجتمع الخلق بباب بيت الله الحرام يزورونه، فما كان إلاّ
هُنيئة حتى جاء أبو العاص ومعه المفتاح، والناس يتأخّرون عن طريقه تعظيماً له إذ
كان هو صاحب مفتاح بيت الله الحرام، فدنا أبو العاص إلى فتح الباب فأدخَل المفتاح
في مجرى القفل فلَم يدخل فيه المفتاح، فاحتال أبو العاص كلّ حيلة أنْ ينبعث
المفتاح في القفل فلَم يدخل فيه بأمر الله وقدرته، فانتفخت يد أبي العاص من مداومة
نفسه من الشدّة فوقَعَت الصيحة في العرَب، إنّ باب بيت الله الحرام قد انغلق حتى
ما عاد أنْ ينفتح فتعجّب الخلق من ذلك وبقى الباب مغلوقاً، والناس في مصيبةٍ
عظيمةٍ من أمره، فلمّا أتى على الناس شهر اجتمع بمكّة زهاء ألف رجل على أنْ يزوروا
بيت الله الحرام وقد نالهم الضجر لتطاول الأمر عليهم.
فلمّا أصبحوا يوم الاثنين هتَف بهم هاتف
يقول: إنّ باب بيت الله لا ينفتح على يدِ مَن يرهن المفتاح عند الخمّار، وليس لكم
حيلة دون أنْ تصدّوا كلّكم إلى عامر بن شيبة وتدفعوا إليه المفتاح، فإنّ الله قد
سلَب من بني أُميّة هذا العز، فصار الناس كلّهم إلى عامر بن شيبة وأخبروه بما كان
من قول الهاتف، فسمِع عامر منهم ذلك فسار إلى باب بيت الحرام ومعه المفتاح، فقال:
بسم الله ربّ السماء وأدخَل المفتاح في مجرى القفل فانفتح بأمر الله تعالى فدخل
الخلق إلى بيت الله الحرام، وسلب الله تعالى من بني أُميّة عزّهم وجعله إلى عامر
بن شيبة وجعله عقباً بعد عقب، ثمّ إنّه لا ينفتح إلى الساعة إلاّ على يدَي عامر
وأولاده فبقى عنده المفتاح إلى يوم فتح مكّة، فلمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) مكّة وكان في أيّام الحج فجعل غزوه سببا لحجّه،
فلمّا دخلها ذهَب إلى مكّة بيت الله الحرام وإذا الباب مغلق وكان عامر قد توارى مع
المفتاح، فبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في طلبه
فوقَع به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: يا عامر، أين المفتاح فقال: هو ليس
معي ففتّشه فلَم يكن معه فذهب إلى امرأته وقال لها: ويلَك أين المفتاح فإنّ رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) واقف، قالت: يا ابن أبي
طالب، مالي به عِلم فعلا بسيفه وأراد ضربها فرفَعت المرأة يدها لتتّقي السيف فسقط
من تحت ذيلها المفتاح، فوثب عامر بن شيبة وأخذه وقال: يا علي، أنا أسير به معك
فذهَب عامر بالمفتاح إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي قادر على
فتحه دون المفتاح غير أنّي أحببت أنْ أفتحه به)، فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) المفتاح وفتحه، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُريد الدخول وكان يُريد أنْ ينزع هذا الشرف من عامر فاغتمّ
لذلك عامر، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)،
فردّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المفتاح إلى عامر بن
شيبة وبقي ذلك في يده وبيد عقِبه إلى الآن.
(قال الواقدي): ثمّ إنّ المفتاح بقيَ
عند عامر إلى أيّام بني هاشم، فلمّا كان في أيّامهم زار الخلق بيت الله الحرام
وطرحوا في تلك الوهدة من العجائب من ذهَب وفضّة ودرّ ومرجان وزبرجَد، فلمّا مرّ
خَزَنَة البيت همّوا بغلقه فعمِد رجلٌ منهم إلى البيت فقبض على ما اجتمع في الوهدة
وسرَق منه، ولم يعلَمْ به أحد وغلقوا الباب وفرّ السارق بالمال فأخفاه من أصحابه.
قال: فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني
اجتمعت خَزَنَة البيت واعترفوا على أخذ باقي المال ليتقاسموه بينهم، ففتحوا الباب
فإذا بحيّةٍ قد جمَعت نفسها في الوهدة وهي حمراء كأنّها قطعةُ دم ولها رأسان رأسٌ
عند ذنبها ورأسٌ عند عنقها، وهي تنفخ وتصفر فنظر الخَزَنَة فلم يجسِر أحدٌ أنْ
يتقدّم إلى الوهدة لصولتها وهيبتها، وكانت منطوية في الوهدة مدورة فبقيَ الخلق
متعجّبين منها وممّا عاينوا منها، فقالوا: يا قوم، مَن كان منكم أذنَب فليتب إلى
ربّه وليقرّ بذنبه فما ظهَرَت هذه الحيّة في بيت الله الحرام إلاّ لأحدٍ قد أحدَث
خطيئة.
(قال الواقدي): فجاءهم
الرجل السارق فأقرّ بما فعَل، فقالوا كلّهم: ويلَك أما علِمتَ أنّ بيت الله الحرام
لا يحتمِل الغشّ والخيانة، فأمروه بردّ ما سرَق جميع ذلك، فأخذه القوم ثمّ قالت الحيّة:
أيّها العرَب وجيران بيت الله الحرام، إيّاكم والغش والخيانة فإنّ الله تعالى لا
يرضى بذلك، وتأخّرت الحيّة إلى عند الميزاب وغابت في الأرض إلى الساعة، وقال محمّد
بن اسحق: بل جاءت حمامة طائرة ودخَلَت بيت الله الحرام
وهي عظيمة الحلْق وأخذت الحيّة بمنقارها، وخرجت نحو سكّة الحنّاطين فغابت وما
ظهَرَت بعد ذلك إلى أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وهو بعد ثلاثين سنة وهذا ما وجدناه من الخبر بالتمام والكمال.
مولد الإمام عليّ (عليه السلام)
أخبَرنا الشيخ الإمام العالم الورِع
الناقل، ضياء الدين، شيخ الإسلام أبو العلاء الحسَن بن أحمد بن يحيى العطّار
الهمَدَاني (رحمه الله)، في همَدَان في مسجده، في الثاني والعشرين من شعبان، سنة
ثلاث ثلاثين وستّمِئة، قال: حدّثنا الإمام ركن الدين أحمد بن محمّد بن إسماعيل
الفارسي قال: حدّثنا عُمَر بن روق الخطابي قال: حدّثنا الحجّاج بن منهال، عن الحسن
بن عمران، عن شاذان بن العلاء قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد عن سالم، عن
خالد بن السري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألتُ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) عن ميلاد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
فقال:
(آه آه، سألت
عجَبَاً يا جابر، عن خيرِ مولود ولِد بعدِي على سنة المسيح، إنّ الله تعالى خلَقه
نوراً من نوري وخلقني نوراً من نوره، وكلانا من نورٍ واحد، وخلقنا من قَبل أنْ
يخلق سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحية، ولا كان طول ولا عرض ولا ظلمة ولا ضياء، ولا
بحر ولا هواء بخمسين ألف عام، ثمّ إنّ الله عزّ وجل سبّح نفسه فسبّحناه
وقدّس ذاته فقدّسناه ومجّد عظَمَتَه فمجّدناه، فشَكَر الله تعالى ذلك لنا فخلق من
تسبيحي السماء فمسَكَها والأرض فبطَحَها والبحار فعمّقها، وخلق من تسبيح عليّ
الملائكة المقرّبين فجميع ما سبّحت الملائكة لعليّ وشيعته، يا جابر، إنّ الله
تعالى عزّ وجل نسَلَنا فقذَف بنا في صلب آدم (عليه السلام)، فأمّا أنا فاستقررت في
جانبه الأيمن، وأمّا علي فاستقرّ في جانبه الأيسر، ثمّ إنّ الله عزّ وجل نقلنا من
صلب آدم (عليه السلام) في الأصلاب الطاهرة، فما نقَلَني من صلبٍ إلاّ نقَل عليّاً
معي فلَم نزَل كذلك حتى أطلعنا الله تعالى
من ظهرٍ طاهر، وهو ظهر عبد المطّلب، ثمّ نقلني من ظهرٍ طاهر وهو ظهر عبد الله
واستودعني خير رحِم وهي آمنة فلمّا ظهَرَت ارتجّت الملائكة وضجّت وقالت: إلهنا
وسيّدنا ما بال وليك عليّ لا نراه مع النور الأزهر؟ - يعنون بذلك محمّداً - فقال
الله عزّ وجل: إنّي أعلم بولّيي وأشفَق عليه منكم، فأطلَع الله عزّ وجل عليّاً من
ظهرٍ طاهر من بني هاشم فمِن قَبْل أنْ يصير في الرحِم، كان رجلٌ في ذلك الزمان
وكان زاهداً عابداً يقال له المثرم بن زغيب الشيقبان، وكان من أحد
العبّاد قد عَبَدَ الله تعالى مِتين وسبعين سنَة لم يسأله حاجة إلاّ أجابه، إنّ
الله عزّ وجل أسكَن في قلبه الحكمة وألهَمَه بحُسن طاعته لربّه، فسأل الله تعالى
أنْ يُريه وليّاً له فبَعث الله تعالى أبا طالب فلمّا بصَر به المثرم
قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بيَن يدَيه، ثمّ قال له: مَن أنت يرحمك الله تعالى؟
فقام رجلٌ من تهامة - قال: أي نهامة،
فقال: مِن عبد مناف، ثمّ قال: من هاشم فوثَب العابد وقبّل رأسه ثانيةً وقال: الحمد
لله الذي لم يمتني حتى أراني وليّه ثمّ قال: أبشر يا هذا فإنّ العليّ الأعلى
ألهَمَني إلهاماً فيه بشارتك، فقال أبو طالب: وما هو؟ قال ولَد يُولد من ظهرِك هو
وليّ الله عزّ وجل إمام المتّقين ووصيّ رسول ربِّ العالمين، فإنْ أنتَ أدركت ذلك
الولد من ظهرِك فاقرأه منّي السلام، وقل له: إنّ المثرم
يقرأ عليك السلام ويقول: أشهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) به تتمّ النبوّة، وبعليّ تتمّ
الوصيّة، قال: فبكى أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه عليّ، قال أبو
طالب: إنّي لا أعلم حقيقةَ ما تقول إلاّ ببرهان مبينٍ ودلالةٍ واضحة قال المثرم: ما تريد؟ قال: أُريد أنْ أعلم ما تقوله حقٌّ من ربِّ
العالمين ألهمك ذلك، قال: فما تريد أنْ اسأل لك الله تعالى أنْ يطعمك في مكانك
هذا؟ قال أبو طالب أُريد طعاماً من الجنّة في وقتي هذا، قال: فدعا الراهب ربّه قال
جابر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فما استتمّ
المثرم دعاءه حتى أُوتي بطبقٍ عليه فاكهةٍ من الجنّة
وعذق رطَبٍ وعِنَب ورمّان، فجاء به المثرم إلى أبي طالب
فتناول منه رمّانة ثمّ نهض من ساعته إلى فاطمة بنت أسد (رضي الله عنه) فلمّا
استودعها النور، ارتجّت الأرض وتزلزلت بهم سبعة أيّام حتى أصاب قريشاً من ذلك شدّة
ففزعوا، فقالوا: مروا بآلهتكم إلى ذروة جبَل أبي قُبيس حتى نسألهم يُسكنون لنا ما
نزَل بنا وحل بساحتنا، قال: فلمّا اجتمعوا على جبَل أبي قُبيس وهو يرتجّ ارتجاجاً
ويضطرب اضطراباً، فتساقطت الآلهة على وجهها فلمّا نظروا ذلك قالوا: لا طاقة لنا
ثمّ صعَد أبو طالب الجبَل وقال لهم: (أيّها ألناس،
اعلموا أنّ الله تعالى عزّ وجل قد أحدَث في هذه الليلة حادثاً وخلق فيها خلقاً،
فإنْ لم تطيعوه وتقرّوا له بالطاعة وتشهدوا له بالإمامة المستحقّة، وإلاّ لم يسكن
ما بكم، حتى لا يكون بتهامة سكَن قالوا: يا أبا طالب، إنّا نقول بمقالتك، فبكى
ورفَع يدَيه وقال، إلهي وسيّدي أسألك بالمحمّدية المحمودة والعلويّة العالية
والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة.
قال جابر: قال رسول الله (صلّى الله
عليه وآله): (فوالله الذي خلق الحبّة وبرَأ النسَمة قد
كانت العرَب تكتب هذه الكلمات، فيدعون بها عند شدائدهم في الجاهلية وهي لا تعلمها
ولا تعرف حقيقتها، متى ولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، فلمّا كان في الليلة
التي ولِد فيها (عليه السلام) أشرقت الأرض و تضاعَفَت النجوم، فأبصرت من ذلك عجباً
فصاح بعضهم في بعض وقالوا: إنّه قد حدَث في السماء حادث، إلا ترون إشراق السماء وضياءها وتضاعف النجوم بها، قال: فخرج أبو طالب وهو يتخلّل
سكك مكّة ومواقعها وأسواقها وهو يقول لهم: أيّها الناس ولِد الليلة في الكعبة حجّة
الله تعالى ووليّ الله فبقيَ الناس يسألونه عن علّة ما يرون من إشراق السماء،
فقال: لهم أبشروا فقَد ولِد في هذه الليلة وليٌّ مِن أولياء الله عزّ وجل، يختم به
جميع الشر ويتجنّب الشرك والشبُهات، ولم يزل يذكر هذه الألفاظ حتى أصبح فدخل
الكعبة وهو يقول: هذه الأبيات:
يا ربّ ربّ
الغسَق الدجي |
|
والقمَر المـُنبلِج
المـُضي |
بيّن لنا مِن حُكمك الـمَقضي |
|
ماذا ترى لي في اسم ذا الصبي |
فسمع هاتفاً يقول:
خُصِصتما بالولدِ الزكيّ |
|
والطاهر المطهّر المرضي |
إنّ اسمه مِن شامخٍ عليّ |
|
علِيٌّ اشتق من العلي |
فلمّا سمِع هذا خرَج من الكعبة وغاب عن
قومه أربعين صباحاً. قال جابر: فقلت يا رسول الله، عليك السلام أين غاب؟ قال: (مضى
إلى المثرم ليبشّره بمولد عليّ بن أبى طالب (عليه
السلام) في جبَل لكام، فإنْ وجده حيّاً بشّره وإنْ وجده ميّتاً أنذره)، فقال جابر:
يا رسول الله، فكيف يعرف قبره وكيف ينذره؟ فقال: يا جابر، اكتم ما تسمع فإنّه مِن
سرائر الله تعالى المكنونة، وعلومه المخزونة، إنّ المثرم
كان قد وصَف لأبي طالب كهفاً في جبَل لكام وقال له: إنّك تجدني هناك حيّاً او
ميّتاً، فلمّا أنْ مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخله، فإذا هو بالمثرم
ميّتاً جسده ملفوف في مدرعتين مسجّى بهما وإذا بحيّتين إحداهما أشدّ بياضاً من
القمَر، والأُخرى أشدّ سواداً من الليل المظلم وهما يدفعان عنه الأذى فلمّا أبصرتا
أبا طالب غابتا في الكهف، فدخل أبو طالب وقال: السلام عليك يا وليّ الله ورحمة
الله وبركاته، فأحيى الله تعالى بقدرته المثرم فقام
قائماً وهو يمسح وجهه وهو يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) وأنّ عليّاً وليَّ الله وهو الإمام من
بعده، ثمّ قال له المثرم: بشّرني يا أبا طالب، فقد كان
قلبي متعلّقا حتى مَنّ الله تعالى عليّ بك وبقدومك، فقال له أبو طالب: أبشر فإنّ
عليّاً طلَع إلى الأرض قال: فما كان علامة الليلة التي ولِد فيها؟ حدّثني بأتمّ ما
رأيت في تلك الليلة.
قال أبو طالب: نعم أُخبرك بما شاهدته
لمّا مرّ من الليل الثُلث أخذ فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما يأخذ النساء عند
ولادتها، فقرأت عليها الأسماء التي فيها النجاة فسكَن بإذن الله تعالى فقلت لها:
أنا آتيك بنسوة من أحبّائك ليعينوك على أمرك قالت: الرأي لك فاجتمعن النسوة عندها
فإذا بهاتف يهتف مِن وراء البيت: (امسك عنهنّ يا أبا
طالب فإنّ وليّ الله لا تمسّه إلاّ يدٌ مطهّرة)
فلَم يتمّ الهاتف كلامه حتى أتى محمّد بن عبد الله ابن أخي فطرد تلك النسوة
وأخرجهن من البيت، وإذا أنا بأربع نسوة قد دخلْن عليها وعليهن ثيابٌ من حرير بيض،
وإذا روايحهن أطيب من المسك الأذفر فقلن: السلام عليك
يا وليّة الله، فأجابتهن بذلك، فجلسن بين يديها ومعهنّ جونة من فضّة فما كان إلاّ
قليلاً حتى ولِد أمير المؤمنين (عليه السلام) فلمّا أنْ ولِد بينهنّ فإذا به قد
طلّع (عليه السلام) فسجَد على الأرض وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وحدة لا
شريك له وأشهد أنّ محمّداً رسول الله تُختَم به النبوّة وتُختَم بي الوصيّة).
فأخذته إحداهن من الأرض ووضعته في
حِجرها فلمّا حمَلته نظر إلى وجهها ونادى بلسانٍ طلِق يقول: (السلام عليك يا
أُمّاه)، فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: (كيف والدي؟) قالت: في نِعَم الله عزّ
وجل، فلمّا أنْ سمِعْت ذلك لم أتمالك أنْ قلت: يا بنيّ أو لستُ أنا أباك فقال: (بلى
ولكن أنا وأنت مِن صلبِ آدم فهذه أُمّي حوّاء)، فلمّا سمعت ذلك غضضت وجهي ورأسي وغطّيته بردائي وألقيت نفسي حياءً منها (عليها السلام) ثمّ
دنت أُخرى ومعها جونة مملوءة من المسك فأخذت عليّاً
(عليه السلام) فلمّا نظَر إلى وجهها قال: (السلام عليك يا أُختي)، فقالت: وعليك
السلام يا أخي فقال: (ما خبَر عمّي؟) قالت: بخير فهو يقرأ عليك السلام، فقلت: يا
بنيّ، مَن هذي ومَن عمّك؟
فقال: (هذه مريم ابنة عمران (عليها
السلام) وعمّي عيسى (عليه السلام)) فضمّخته بطيبٍ كان معها من الجنّة ثمّ أخذته
أخرى فأدرجته في ثوبٍ كان معها فقال أبو طالب: لو طهّرناه كان أخفّ عليه وذلك إنّ
العرب تطهّر مواليدها في يوم ولادتهم فقلن: أنّه ولِد طاهراً مطهّراً؛ لأنّه لا
يذيقه الله حرّ الحديد إلاّ على يدَي رجلٍ يبغضه الله تعالى وملائكته والسموات
والأرض والجبال، وهو أشقى الأشقياء فقلت لهن، مَن هو؟ قلن هو عبد الله بن ملجم
لعنه الله تعالى وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قال أبو طالب: فأنا كنت استمع قولهنّ ثمّ أخذه محمّد بن
عبد الله أخي من أيديهن ووضَع يدَه في يده وتكلّم معه وسأله عن كلّ شيء فخاطب
محمّد (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وخاطب عليٌّ محمداً
بأسرار كانت بينهما، ثمّ غابت النسوة فلم أرهن فقلت: في نفسي ليتني كنت أعرف ألامرأتين الأُخرين وكان عليّ (عليه السلام) أعلم بذلك فسألته
عنهنّ فقال لي: (يا أبت، أمّا الأُولى فكانت أُمّي حواء وأمّا الثانية التي ضمختني
بالطيب فكانت مريم ابنة عمران، وأمّا التي أدرجتني في الثوب فهي آسيه، وأمّا صاحبة
الجونة فكانت أُمّ موسى (عليه السلام))، ثمّ قال عليّ
(عليه السلام): (الحق بالمثرم يا أبا طالب، وبشّره
واخبره بما رأيت فإنّك تجده في كهف كذا في موضع كذا وكذا)، فلمّا فرغ من المناظرة
مع محمّد ابن أخي ومِن مناظرته عاد إلى طفوليّته الأُولى، فأنبئتك
وأخبرتك ثمّ شرحت لك القصّة بأسرها بما عاينت يا مثرم.
قال أبو طالب: فلمّا سمع المثرم ذلك منّي بكى بكاءً شديداً في ذلك وفكّر ساعة ثمّ سكَن
وتمطّى ثمّ غطّى رأسه وقال: بل غطّني بفضل مدرعتي، فغطّيته
بفضل مدرعته فتمدّد فإذا هو ميّت كما كان فأقمت عنده ثلاثة أيّام أكلّمه فلم يجبني،
فاستوحشت لذلك فخرجَت الحيتان وقالتا: الحق بوليّ الله فإنّك أحقّ بصيانته وكفالته
من غيرك، فقلت لهما: من أنتما؟ قالتا: نحن عمله الصالح خلقنا الله عزّ وجل على
الصورة التي ترى لنذب عنه الأذى ليلاً ونهاراً إلى يوم القيامة، فإذا قامت الساعة
كانت إحدانا قائدته والأُخرى سائقته ودليلة إلى الجنّة.
ثمّ انصرف أبو طالب إلى مكّة، قال جابر
بن عبد الله: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
(شرحت لك ما سألتني ووجَب عليك له الحفظ فإنّ لعليّ عند الله مِن المنزلة الجليلة،
والعطايا الجزيلة، ما لَم يُعطَ أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين،
وحبّه واجب على كلّ مسلم؛ فإنّه قسيم الجنّة والنار ولا يجوز أحد على الصراط إلاّ ببراءةٍ من أعداء عليّ (عليه السلام)). تم الخير والحمد الله
ربّ العالمين.
خبَر عطرفة
الجنّي
من دلائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) ما رواه زادان، عن سلمان قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً جالساً بالأبطح، وعنده جماعة من أصحابه وهو
مُقبِل علينا بالحديث إذ نظر إلى زوبعة وقد ارتفعت فأثارت الغبار، فما زالت تدنو
والغبار يعلو إلى أنْ وقَفت بحذاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وفيها شخصٌ فقال: يا رسول الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، اعلم إنّي وافدُ
قومي وقد استجرنا بك فأجرنا وابعث معي من قِبلك مَن يُشرف على قومنا فإنّ بعضهم قد
بغى على بعض؛ ليحكم بيننا وبينهم بحكم الله تعالى وكتابه، وخُذ على العهود
والمواثيق المؤكّدة لأردّه إليك سالماً في غداة غد، إلاّ أنْ يحدث علَيّ حادث من
عند الله فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (مَن أنت
وقومك؟).
قال: أنا عطرفة
بن شمراخ أحد بني كاخ، أنا وجماعة من أهلي كنّا نسترق السمع، فلمّا مُنعنا من ذلك
آمنّا ولمّا بعثك الله نبيّاً آمنّا بك وصدّقناك، وقد خالفنا بعض القوم وأقاموا
على ما كانوا عليه فوقَع بينا وبينهم الخلاف، وهم أكثر منّا عدداً وأشّد قوّةً وقد
غلبوا على الماء والمرعى وأضرّوا بنا وبدوابّنا، فابعث إليهم معي مَن يحكم بيننا
بالحق، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) اكشف لنا عن
وجهك حتى نراك على هيئتك التي أنت عليها، فكشف لنا عن صورته فنظرنا إلى شيخ عليه
شعرٌ كثير ورأسه طويل، وهو طويل العينين وعيناه في طول رأسه، مغيّر الحدَقَتين وله
أسنان كأسنان السباع، ثمّ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
أخذ عليه العهود والميثاق على أنْ يردّ عليه مَن يبعث في غداة غد، فلمّا فرِغ من
كلامه التفت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى أبي بكر
وقال: (مَن يمضي منكم مع أخينا عطرفة لينظر ما هُم عليه
وليحكم بالحق بينهم) قال: وأين هم؟ فقال: (هم تحت الأرض)، فقال: كيف نطبق النزول
إلى الأرض وكيف نحكم بينهم ولا نُحسِن كلامهم؟ فلم يرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جواباً ثمّ التفت إلى عمر بن الخطّاب فقال له مثل قوله
لأبي بكر، فأجاب مثل جواب أبي بكر، ثمّ أقبل على عثمان فقال له مثل قوله لهما
فأجابه كجوابهما، ثمّ استدعى بعلي (عليه السلام) وقال له: (يا علي، امضِ مع أخينا عطرفة وأشرف على قومه وانظر ما هم عليه، واحكم بينهم بالحق)،
فقام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: (السمع والطاعة) ثمّ
تقلّد سيفه.
قال سلمان: فتبعته إلى أنْ صار بالوادي
فلمّا توسّطه نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال لي: (شكر الله سعيك يا أبا عبد
الله، فارجع)، فرجعت ووقفت أنظر إليه ممّا يقع منه فانشقّت الأرض فدخل فيها وعادت
إلى ما كانت فدخَلَني من الحسرة ما الله أعلم به، كل ذلك إشفاقا على أمير المؤمنين
فأصبَح النبيّ وصلّى بالناس صلاة الغداة، ثم جلَس على الصفا وحفّ به أصحابه فتأخّر
أمير المؤمنين (عليه السلام) عن وقت ميعاده، حتى ارتفع النهار وأكثر الناس الكلام
فيه إلى أنْ زالت الشمس وقالوا: إنّ الجنّ واحتالوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فقد أراحنا الله تعالى من أبي تراب وذهَب افتخاره بابن
عمّه عليّاً وظهَرَت شماتة المنافقين، وأكثروا الكلام إلى أنْ صلّى النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) صلاة الظهر والعصر وعاد إلى مكانه، واظهر
الناس الكلام وأيسوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) وكادت الشمس تغرب فأيقَن
القوم أنّه ملَك وظهَر نفاقهم، إذ قد انشقّ الصفا وطلَع أمير المؤمنين (عليه
السلام) وسيفه يقطرُ دماً ومعه عطرفة فقام النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) وقبّل بين عينيه وجبينه وقال له (ما
الذي حبَسَك عنّي إلى هذا الوقت؟)، فقال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (سرت إلى
خلقٍ كثير قد بغوا على عطرفة وعلى قومه، فدعوتهم إلى
ثلاثِ خصال فأبَوا علَيّ ذلك أنّي دعوتهم إلى شهادة أنْ لا إله الله والإقرار بكَ
فأبَوا ذلك منّي، دعوتهم إلى أداء الجزية فأبَوا فسألتهم أنْ يصلحوا مع عطرفة وقومه لتكون المراعي والمياه يوماً لعطرفة
ويوما لهم فأبَوا ذلك فوضعت سيفي فيهم فقتلت منهم زهاء ثمانين ألف فارس، فلمّا
نظروا إلى ما حلّ بهم منّي صاحوا الأمان الأمان، فقلت:
لا أمان لكم إلاّ بالإيمان فآمنوا بالله وبك، ثمّ أصلحت بينهم وبين عطرفة وقومه فصاروا إخواناً وزال من بينهم الخلاف وما زلت
معهم إلى هذه الساعة)، فقال عطرفة: جزاك الله خيراً يا
رسول الله، عن الإسلام وجزى ابن عمّك عليّاً منّا خيراً، ثمّ انصرف عطرفة إلى حيث شاء.
ذكر عمر لمعاجز أمير
المؤمنين (ع)
(خبَر آخر):
روي عن الصادق (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغه عن عمر بن
الخطّاب شيء، فأرسل إليه سلمان (رضيَ الله عنه) وقال: (قل له: قد بلغني عنك كيت
وكيت وكرهت أعتب عليك في وجهك، فينبغي أنْ لا تذكر فيّ إلاّ الحق، فقد أغضيت على
القذى حتى يبلغ الكتاب أجله)، فنهض سلمان (رضيَ الله عنه) وبلّغه ذلك وعاتبه وذكَر
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر فضائله وبراهينه فقال عمر: عندي الكثير من
فضائل عليّ (عليه السلام) ولست منكرٌ فضله إلاّ أنّه يتنفّس الصعداء ويبغض
البغضاء، فقال سلمان (رضيَ الله عنه): حدّثني بشيءٍ ممّا رأيته منه، فقال عمر: نعم
يا أبا عبد الله خلَوت به ذات يوم في شيءٍ من أمر الخُمس فقطَع حديثي وقام من عندي
وقال: (مكانك حتى أعود إليك، فقد عرَضَت لي حاجة)، فما كان بأسرع من أنْ رجع علَيّ
ثانية وعلى ثيابه وعمامته غبارٌ كثير فقلت له ما شأنك؟ فقال: (أقبل نفرٌ من الملائكة
وفيهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يريدون مدينةً
بالمشرِق يقال لها صيحون، فخرجت لأُسلّم عليه وهذه
الغُبرة ركبتني من سرعة المشي)، قال عمر: فضحكت متعجّباً حتى استلقيت على قفاي
وقلت له: النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد مات وبلى
وتزعم أنّك لقيته الساعة وسلّمت عليه، فهذا من العجائب ممّا لا يكون، فغضب عليّ
(عليه السلام) ونظَر إليّ وقال: (أتكذّبني يا ابن الخطّاب؟) فقلت: لا تغضب وعُد
إلى ما كنّا فيه فإنّ هذا ممّا لا يكون أبداً، قال: (فإنْ أنت رأيته حتى لا تنكر
منه شيئاً استغفرت الله ممّا قلت وأضمرت، وأحدثت توبةً ممّا أنتَ عليه، وتركت لي
حقّاً)، فقلت، نعم.
فقال: (قم) فقمتُ معه فخرجنا إلى طرف
المدينة وقال: (أغمض عينيك) فغمضتها فمسحها بيده ثلاث مرّات ثمّ قال لي: (افتحهما)
فقتحتهما فنظرت فإذا أنا برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه رجلٌ من الملائكة لم أنكر منه شيئا، فبقيت والله
متحيّراً انظر إليه فلمّا أطلت النظر قال لي: (هل رأيته؟) فقلت: نعم قال (أغمض
عينيك) فغمضتها ثمّ قال: (افتحهما) ففتحتهما فإذا لا عين ولا أثر فقلت له: هل رأيت
من عليّ (عليه السلام) غير ذلك قال: نعم لا اكتم عنك خصوصاً أنّه استقبلني يوماً وأخذ
بيدي ومضى بي إلى الجبانة، وكنّا نتحدّث في الطريق وكان بيده قوس، فلمّا صرنا في
الجبانة رمى بقوسه من يده فصار ثعباناً عظيماً مثل ثعبان موسى (عليه السلام)، فتح
فاه وأقبل نحوي ليبتلعني فلمّا رأيت ذلك طار قلبي من
الخوف، وتنحّيت وضحكت في وجه عليّ (عليه السلام) وقلت له: الأمان يا عليّ ابن أبي
طالب، اذكر ما كان بيني وبينك من الجميل، فلمّا سمِع هذا القول استفرغ ضاحكاً
وقال:
(لطَفت في الكلام فإنّا أهلُ بيتٍ نشكُر
القليل)، فضرب بيده إلى الثعبان وأخذه بيده وإذا هو قوسه الذي كان بيده، ثمّ قال
عمر: يا سلمان، إنّي كتمت ذلك عن كل أحد وأخبرتك به، يا أبا عبد الله فإنّهم أهل
بيتٍ يتوارثون هذه الأُعجوبة كابراً عن كابر، ولقد كان إبراهيم يأتي بمثل ذلك وكان
أبو طالب و عبد الله يأتيان بمثل ذلك في الجاهلية، وأنا
لا أنكر فضل عليّ (عليه السلام) وسابقه ونجدته وكثرة عِلمه، فارجع إليه واعتذر
عنّي إليه واثنِ عنّي عليه بالجميل.
(خبر آخر):
روي أنّ امرأةً تركَت طفلاً ابن ستّة أشهر على سطح، فمشى الصبيّ يحبو حتى خرَج من
السطح وجلَس على رأس الميزاب فجاءت أُمّه على السطح
فما قدرت عليه فجاؤوا بسلّم ووضعوه على الجدار فما قدروا على الطفل من أجل طول
الميزاب وبعده عن السطح، والأُمّ تصيح وأهل الصبيّ كلّهم يبكون، وكان في أيّام عمر
بن الخطّاب فجاؤا إليه فحضَر مع القوم فتحيّروا فيه
وقالوا: ما لهذا إلاّ عليّ بن أبي طالب فحضر عليّ (عليه السلام) فصاحت أُمّ الصبيّ
في وجهه فنظر أمير المؤمنين إلى الصبي فتكلّم الصبيّ بكلامٍ لا يعرفه أحد فقال
(عليه السلام): (احضروا هاهنا طفلاً مثله)، فأحضروه فنظَر بعضهما إلى بعض وتكلّم
الطفلان بكلامِ الأطفال فخرج الطفل من الميزاب إلى السطح، فوقع فرح في المدينة لم
يُرَ مثله، ثمّ سألوا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن كلامهما فقال: (أمّا خطاب
الطفل الأوّل فإنّه سلّم عليّ بإمرة المؤمنين فرددت عليه، وأمّا ما أردت خطابه
لأنّه لم يبلغ حدّ الخطاب والتكليف فأمرت بإحضار طفلٍ مثله حتى يقول له بلسان
الأطفال: يا أخي ارجع إلى السطح ولا تحرق قلب أُمّك وأبيك وعشيرتك بموتك، فقال:
دعني يا أخي قبل أن أبلغ فيستولي علَيّ الشيطان، فقال: ارجع إلى السطح فعسى أنْ
تبلغ ويجيء من صلبك ولدٌ يحبّ الله ورسوله ويوالي هذا الرجل)، فرجع إلى السطح
بكرامة الله تعالى على يد أمير المؤمنين (عليه السلام).
(خبر آخر):
روي أنّ امرأتين جاءتا إلى عُمر بن الخطّاب ومعهما صبيّ صغير، فادّعت كلّ واحدة
منهما أنّ الولد ولدها، ولم يكن لواحدة منهما بيّنة فتحيّر في ذلك عمر بن الخطّاب،وقال: ما لهذا إلاّ عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) فأُحضَر (عليه السلام) فقصّوا عليه القصّة فأشار إلى قنبر
فقال: (سلّ سيفك واقسم الصبيّ بنصفين متساويين، واعط كلّ واحدةٍ منهما نصفَه)،
فبكَت الأُم وقالت: لا تقتله فإنّي رضيت بأنْ يكون لها جميعاً وسكتت الأُخرى فأمَر
صلوات الله عليه بردّ الصبيّ إلى أُمّه.
(خبر آخر):
روى عمّار بن ياسر (رضي الله) قال: كنت بين يدَي مولاي أمير المؤمنين (عليه
السلام)، وإذا بصوتٍ عظيم قد أخذ بمجامع الكوفة، فقال عليّ (عليه السلام): (اخرج
يا عمّار وآتني بذي الفقار البتّار للأعمار)، فجئت به إليه فقال: (اخرج وامنع
الرجل عن ظلامة المرأة، فإنْ انتهى وإلاّ منعته بذي الفقار)، قال عمّار فخرجت فإذا
أنا برجلٍ وامرأة وقد تعلّق الرجل بزمام جملِها والمرأة تقول: إنّ الجمَلَ جملي
والرجل يقول: الجملُ جملي، فقلت له: إنّ أمير المؤمنين ينهاك عن ظلم المرأة فقال:
يشتغل عليّ (بشغله) ويغسل يده من دماء المسلمين الذين قتلهم بالبصرة، يريد أنْ
يأخذ جمَلي ويدفعه إلى هذه المرأة الكاذبة، فقال عمّار (رضي الله عنه): فرجعت
لأخبر مولاي وإذا به قد خرَج ولاح الغضَب في وجهه، فقال له: (يا ويلَك، خلّ جمَل
هذه المرأة)، فقال: هو لي، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (كذبت يالعين) قال: فمن يشهد للمرأة يا عليّ؟ فقال: (الشاهد الذي لا
يكذبه أحد من أهل الكوفة)، فقال الرجل إذا شهد شاهد وكان صادقاً سلّمته المرأة
فقال عليّ (عليه السلام):
(تكلّم أيّها الجمَل لمَن أنت؟) فقال
الجمل بلسان فصيح: يا أمير المؤمنين، عليك السلام أنا لهذه المرأة منذ تسع عشرة
سنة، فقال (عليه السلام): (خذي جمَلِك وعارَض الرجل بضربة قسمه نصفين).
(خبر آخر):
قال بعض الثقاة اجتمع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
في عام فتح مكّة فقالوا: يا رسول الله، إنّ من شأن الأنبياء إذا استقام أمرهم أنْ
يدلّوا على وصيّ من بعدهم، فيقوم بأمرهم، فقال (صلّى الله عليه وآله): (إنّ الله تعالى قد وعدني أنْ يُبيّن لي هذه الليلة
الوصيّ من بعدي، والخليفة الذي يقوم بأمري بآيةٍ من السماء)، فلمّا فرِغ الناس من
صلاة العشاء الآخرة من تلك الليلة ودخل الناس البيوت وكانت ليلةً ظلماء لا قمر
فيها، فإذا نجم قد نزل من السماء بدويٍّ عظيم وشعاعٍ هائل، حتى وقَف على ذروة حجرة
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وصارت الحجرة كالنهار أضاءت الدور بشعاعه، ففزِع
الناس وجاؤوا يهرعون إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
ويقولون: إنّ الآية التي وعدتنا بها نزلَت وهو نجم قد نزَل على ذروة دار عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام)، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(فهو الخليفة من بعدي والقائم من بعدي والوصي من بعدي والولي بأمر الله تعالى، فأطيعوه ولا تخالفوه)، فخرجوا من عنده فقال الأول للثاني: ما
يقول في ابن عمّه إلاّ بالهوى وقد ركبته الغواية فيه حتى لو أراد أنْ يجعله نبيّاّ
من بعده لفعل، فأنزل تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ
وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) السورة.
وقال في ذلك العيوني:
من صاحب الدار التي انقض بها |
|
نجم من الأفِق فلم أنكرتم |
شفاعة الأمير
(خبر آخر):
روى الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه كان جالساً في الحرَم في مقام إبراهيم (عليه
السلام) فجاءه رجل شيخ كبير قد فنى
عمره في المعصية فنظر إلى الصادق (عليه السلام)، فقال: نِعم الشفيع إلى الله
للمذنبين، ثمّ أخذ بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
بحق جلاء وجهك يا وليّ |
|
بحقّ الهاشمي الأبطحي |
بحق الذكر إذ يوحي إليه |
|
بحقّ وصيّه البطَل الكمي |
بحق أئمّة سلفوا جميعاً |
|
على منهاج جدهم النبي |
بحق القائم المهدي إلاّ |
|
غفرت خطيئة العبد المتُسي |
قال: فسمِع هاتفاً يقول: يا شيخ، كان
ذنبك عظيماً ولكن غفرنا لك جميع ذنوبك لحرمة شفعائك، فلو سألتنا ذنوب أهل الأرض
لغفرنا لهم، غير عاقر الناقة وقتلة الأنبياء والأئمّة الطاهرين.
(خبر آخر):
معجزة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) روي أنّ جماعة من أصحاب رسول
الله أتوه وقالوا: يا رسول الله، عليك السلام،إنّ الله
اتخذ إبراهيم (عليه السلام) خليلاً وكلّم موسى تكليماً وكان عيسى (عليه السلام)
يُحيي الموتى، فما صنَع ربّك بك فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(إنّ الله سُبحانه وتعالى إنْ كان اتخذ إبراهيم خليلاً فقد اتخذني حبيباً، وإنْ
كان كلّم موسى من وراء حجاب فقد رأيت جلال ربّي وكلّمني مشافهةً، أي بغيرِ واسطة،،
وإنْ كان عيسى يُحيي الموتى بإذن الله تعالى فإنْ شئتم أحييت لكم موتاكم بإذنه
تعالى)، فقالوا: قد شئنا، فأرسَل معهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بعد أنْ
ردّاه بردائه كان اسم الرداء المستجاب، وأخذ منطقته فشدّه بها وسطه، ثمّ أمرهم أنْ
يسيروا مع عليّ (عليه السلام) إلى مقابر، فلمّا أتوا المقابر سلّم (عليه السلام)
على أهل القبور ودعا وتكلّم بكلامٍ لا يفقهوه فاضطربت الأرض وارتجّت وقام الموتى
وقالوا بأجمعهم: على رسول الله السلام، ثم ّعلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام)، داخلهم رعبٌ شديد فقالوا: حسبك يا أبا الحسَن أقلنا أقالك الله،
فأمسك عن استمرار كلام ودعاء فرجعوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقالوا: يا رسول الله، أقلنا أقالك الله، فقال لهم:
(إنّما رددتُم على الله، لا أقالكم الله يوم القيامة).
(خبر آخر):
روي عن الإمام عليّ (عليه السلام)، أنّه كان يطلب قوماً من الخوارج فلمّا بلَغ
الموضع المعروف اليوم بساباط، وكان هو ومَن تابعه من
الخوارج منهم عبد الله بن وهَب بن عمرو بن جرموز، فلمّا أنْ وصل إلى الموضع
المعروف بساباط ثوران أتاه رجلٌ من شيعته وقال: يا أمير
المؤمنين أنا لك شيعة ومحب ولي أخ وكنت شفيقاً عليه فبعثه عمر في جنود سعد بن أبي
وقّاص إلى قتال أهل المدائن فقُتِل هناك وكان من وقتِ مقتله إلى اليوم عدّة سنين
كثيرة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (فما الذي تريد منه؟) قال: أُريد أنْ
تُحييه لي.
قال عليّ (عليه السلام): (لا فائدة لك
في حياته)، قال: لا بدّ من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: (إذا أبيت إلاّ ذلك فأرني
قبره ومقتلَه)، فأراه إيّاه، فمدّ الرمح وهو راكب بغلته الشهباء فركز القبر بأسفل
الرمح فخرَج رجلٌ أسمر طويل يتكلّم بالعُجمة فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام):
(لم تتكلّم بالعجمة وأنت رجلٌ من العرَب؟)، فقال: (بلى ولكن بُغضك في قلبي ومحبّة
أعدائك في قلبي، فانقلب لساني في النار)، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، ردّه من
حيث جاء فلا حاجة لنا فيه، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (ارجع)، فرجَع
إلى القبر وانطبَق عليه أعاذنا الله من ذلك الحال،
والحمد الله على ولاية عليّ (عليه السلام).
خبر ردّ الشمس لأمير المؤمنين (عليه السلام)
وهو مشهور عند جميع الرواة قالوا: أنّه
لما رجَع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قتال أهل النهروان أخذ على النهروانات وأعمال العراق، ولم يكن يومئذ بني بيت ببغداد
فلمّا وافى ناحية براثا صلّى بالناس الظهر فرحلوا ودخَل
أرض بابل وقد وجبَت صلاة العصر فصاح الناس: يا أمير المؤمنين، هذا وقت العصر فقال
أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه أرض مخسوفٌ بها وقد خُسِف بها ثلاث مرّات ويُخشى
عليها تمام الرابعة فلا يحلّ لنبيّ ولا لوصيّ أنْ يصلّي بها فمَن أراد منكم أنْ
يُصلّي فليصل فقال المنافقون منهم: نعم هو لا يصلّي ويقتل مَن يصلّي يعنون بذلك
أهل النهروان قال جويرية بن مهران العبدي فتبعته في مِئة فارس وقلت والله لا أُصلى
أو يصلّي هو وإلاّ قلدنه صلاتي اليوم فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(اعملوا ما شئتم إنّه بما تعملون بصير)، فسارع
إلى أنْ قطَع أرضَ بابل وقد تدلّت الشمس للغروب، ثمّ غابت واحمرّ الأُفُق قال:
فالتفت إليّ وقال: (يا جويرية، هات الماء)، قال: فقدّمت إليه الإناء فتوضّأ ثمّ
قال: (إذن يا جويرية)، فقلت: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) ما وجَب وقت العشاء
بعد قال (عليه السلام): (قم وأذّن للعصر)، فقلت في نفسي: كيف يقول أذّن للعصر وقد
غربت الشمس؟ ولكنْ علَيّ الطاعة، فأذّنت فقال لي: (أقِم) ففعلت فبينما أنافي
الإقامة إذ تحرّكت شفتاه بكلامٍ كأنّه منطق خطاطيف لا يُفقه، فرَجَعت الشمس بصريرٍ
عظيم حتى وقَفَت في مركزها مِن العصر فقام (عليه السلام) وكبّر وصلّى وصلّينا ووراءه، فلمّا فرِغَ من صلاته وقَعَت الشمس كأنّها سراجة في
وسط ماء وغابَت اشتبكت النجوم وأزهرت، فالتفت إليّ وقال: (أذّن الآن للعشاء يا
ضعيف اليقين).
قال: ورُدّت له (عليه السلام) في حياة
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بمكّة، وقد كان النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) قد غشيه الوحي فوضَع رأسه في
حِجر أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحضَر وقت العصر فلَم يبرح من مكانه وموضعه حتى
غربت الشمس، فاستيقظ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وقال: (اللهمّ إنّ عليّاً كان في طاعتك فرُدّ عليه الشمس ليصلّي العصر).
فردّها الله عليه بيضاء نقيّة حتى صلّى
ثمّ غابت وقال السيد الحميري في ذلك قصيدته المعروفة بالمذهّبة، ومنها:
خير البرية بعد أحمد مَن له |
|
منّي الهوى والى بنيه تطربي |
أمسى وأصبح معصماً منّي |
|
له يهوى وحبل ولائه لم يقضبِ |
رُدّت عليه الشمس لـمّا فاته |
|
وقتُ الصلاة وقد دنَت للمغربِ |
حتى تبلّج نورها في وقتها |
|
للعصر ثمّ هوَت هوى الكواكب |
وعليه قد حبست ببابل مرّة أُخرى |
|
وما حسبت لخلقٍ معربِ |
إلاّ ليوشع أوله ولحبسها |
|
ولردّها تأويل أمرٍ معجبِ |
خبر
كلام الشمس معه (عليه السلام)
أبي ذرّ الغفاري قال: قال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): (إذا كان
غد وقت طلوع الشمس سير إلى جبانة البقيع، وقف على نشزٍ من الأرض فإذا بزغَت الشمس
سلّم عليها فإنّ الله تعالى أمرها أنْ تجيبك بما فيك)، فلمّا كان من الغد خرَج
أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه أبو بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، حتى
أتى البقيع ووقَف على نشزٍ من الأرض، فلمّا طلعت الشمس قال (عليه السلام): (السلام
عليكِ يا خلق الله الجديد المطيع له)، فسمع دويّ من السماء وجوابٌ قائل يقول: (السلام
عليك يا أوّل يا آخر، يا ظاهر يا باطن، يا مَن هو بكلّ شيءٍ عليم)،
فسمِع الاثنان الأوّل والثاني والمهاجرين والأنصار كلام الشمس فصُعِقوا، ثمّ
أفاقوا بعد ساعة وقد انصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك المكان، فقاموا
وأتَوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مع
الجماعة، فقالوا: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
إنّا نقول إنّ عليّاً بشرٌ مثلنا والشمس تُخاطبه بما يُخاطِب به الباري نفسه، فقال
النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (فما سمعتموه؟) قالوا
سمِعنا الشمس تقول: السلام عليك يا أوّل قال: (قالت الصدق هو أوّل مَن آمَن بي)،
فقالوا سمعناها تقول: يا آخر فقال: (قالت صدق هو آخر الناس عهداً بي يغسّلني
ويكفّنني ويدخلني قبري)، فقالوا: سمعناها تقول يا ظاهر فقال: (قالت الصدق هو الذي
أظهر علمي)، فقالوا: سمعناها تقول: يا باطن، فقال: (قالت الصدق هو الذي بطن سرّي
كلّه)، فقالوا: سمعناها تقول: يا مَن هو بكلّ شيءٍ عليم فقال: (قالت الصدق هو أعلم
بالحلال والحرام، والسُنُن والفرائض وما يشاكل على ذلك) فقاموا وقالوا: أوقعَنا
محمّد في طخياء وخرجوا من باب المسجد فقال في ذلك أبو محمّد العوني (رضي الله
عنه):
أمامي كليم الشمس
راجع نورها *** فهل
لكليم الشمس في القوم من مثل
معاجز أمير المؤمنين (عليه السلام)
(خبر الجام):
روي أنّ جبرئيل (عليه السلام) نزَل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بجامٍ من الجنّة، فيه فاكهة كثيرة فدَفَعه إلى النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) فسبّح الجام وكبّر وهلّل في يده،
ثمّ دفعه إلى أبي بكر فسكت الجام ثمّ دفعه إلى عمر فسكَت الجام ثمّ دفعه إلى أمير
المؤمنين (عليه السلام) فسبّح الجام وكبّر وهلّل في يده، ثمّ قال الجام: إنّي
أُمرت أنْ لا أتكلّم إلاّ في يد نبيّ أو وصيّ، ثمّ عرَج إلى السماء وهو يقول بلسان
فصيح يسمعه كلُّ أحد: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
(خبَر كلام الثعبان):
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان يخطِب يوم الجمعة على منبر الكوفة إذ
سمِع وحاة عدوِ الرجال يتواقعون بعضهم على بعض، فقال لهم: (مالكم؟) قالوا: يا أمير
المؤمنين، إنّ ثعباناً عظيماً قد دخَل من باب المسجد ونحن نفزع منه فنريد أنْ
نقتله، فقال: (عليه السلام): (لا يقربنّه أحدٌ منكم أبداً وطرقوا له فإنّه رسول قد
جاء في حاجة)، فطرقوا له فما زال يتخلّل الصفوف صفا بعد صف حتى صعد المنبر فوقع
فمه في إذن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فنق نقيقاً وتطاول وأمير المؤمنين
(عليه السلام) يحرّك رأسه ثمّ نقّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل نقيقه، ونزَل
عن المنبَر فانساب بين الجماعة فالتفتوا فلَم يرَوه فقالوا: يا أمير المؤمنين
(عليه السلام) ما خبَر هذا الثعبان فقال (عليه السلام): (هذا درجان بن مالك خليفتي
على المسلمين من الجن وذلك أنّهم اختلفوا في أشياء فأنفذوه إليّ وسألني عنها
فأخبرته بجواب مسائله فرجع إلى قومه).
(خبر الجمجمة):
عن أبي الأحوص عن أبيه عن عمّار الساباطي قال: قدم أمير
المؤمنين (عليه السلام) المدائن فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير فلمّا
صلّى قام وقال: دلف، قم معي، وكان معهم جماعة من أهل ساباط،
فما زال يطوف منازل كسرى ويقول لدلف: (كان لكسرى في هذا المكان كذا وكذا) ويقول
دلف: هو والله كذلك، فما زال كذلك حتى طاف المواضع وأخبر عن جميع ما كان فيها،
ودلف يقول: يا سيّدي ومولاي كأنّك وضعت هذه الأشياء في هذه الأمكنة، ثمّ نظَر
(عليه السلام) إلى جمجمة نخِرة فقال لبعض أصحابه: (خذ هذه الجمجمة)، وكانت مطروحة،
ثمّ جاء (عليه السلام) إلى الإيوان جلَس فيه ودعا بطست فيه ماء فقال للرجل: (دع
هذه الجمجمة في الطست) ثمّ قال (عليه السلام): (قسمتُ عليك يا جمجمة لتخبريني مَن
أنا ومَن أنت).
فقالت الجمجمة بلسانٍ فصيح: (أمّا أنتَ فأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وإمام المتّقين، وأمّا أنا فعبدُك وابن أمتِك كسرى أنو شيروان)، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (كيف حالك؟)، فقال: (يا أمير المؤمنين، إنّي كنت ملِكاً عادلاً شفيقاً على الرعايا رحيماً لا أرضى بظلم، ولكن كنت على دين المجوس وقد ولِد محمّد (صلّى الله عليه وآله) في زمان مُلكي فسقَط من شرفات قصري ثلاث وعشرون شرفة ليلةَ ولِد، فهمَمْت أنْ أُؤمِن به من كثرة ما سمِعت من الزيادة من أنواع شرَفِه وفضلِه، ومرتبته وعزّه في السماوات والأرض ومِن شرَف أهل بيته، ولكنّي تغافلت عن ذلك وتشاغلت عنه في الملك فيالها من نعمةٍ ومنزلةٍ ذهبَت منّي حيث لم أُؤمن به، فأنا محرومٌ من الجنّة لعدم إيماني به ولكنّي مع هذا الكفر خلّصني الله تعالى من عذاب النار ببركة عدلي وإنصافي بين الرعية، فأنا في النار والنار محرومة علَي فواحسرتاه لو آمنت به لكنت معك يا سيّد أهل بيت محمّد، ويا أمير المؤمنين)، قال فبكى الناس وانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهلهم وأخبروهم بما كان، وبما جرى من الجمجمة فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال المخلصون منهم: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله ووليّه ووصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال بعضهم: بل هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال بعضهم: بل هو الربّ وهُم مثل عبد الله بن سبأ وأصحابه، وقالوا: لولا أنّه الرب وإلاّ كيف يحيي الموتى قال: فسمِع بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فضاق صدره وأحضرهم وقال: (يا قوم، غلب عليكم الشيطان، إنْ أنا إلاّ عبد الله أنعَم علَيّ بإمامته وولايته ووصيّة رسوله (صلّى الله عليه وآله) فأرجعوا عن الكفر، فأنا عبد الله وابن عبده ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) خيرٌ منّي وهو أيضاً عبد الله وإنْ نحن إلاّ بشرٌ مثلكم)، فخرَج بعض من الكفَرَة وبقي قومٌ على الكفر ما رجعوا، فألحّ عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بالرجوع فما رجعوا، فأحرقهم بالنار وتفرّق منهم قوم في البلاد وقالوا: لولا أنّ فيه من الربوبيّة وإلاّ فما كان أحرقنا بالنار فنعوذ بالله من الخذلان.
(خبر
جمجمة أُخرى): روى أبو رواحة الأنصاري، عن المغربي
قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أراد حرب معاوية، فنظر إلى جمجمةٍ في
جانب الفرات وقد أتَت عليها الأزمنة فمرّ عليها أمير المؤمنين فدعاها فأجابته
بالتلبية، وتدحرجت بين يدَيه وتكلّمت بكلامٍ فصيح فأمرها بالرجوع فرجعَت إلى
مكانها كما كانت، فلمّا فرغ من حرب النهروان أبصرنا جمجمةً نخِرة بالية، فقال:
(هاتوها) فحرّكها بسوطِه وقال: (أخبريني مَن أنت فقيرة أم غنيّة شقيّة أم سعيدة،
ملِك أم رعيّة؟).
فقالت بلسانٍ فصيح: السلام عليك يا أمير
المؤمنين، أنا پرويز بن هرمز ملِك الملوك وكنت ملكاً
ظالماً فملَكت مشارقها ومغاربها، سهلها وجبلها، برّها وبحرها، أنا الذي أخذت ألف
مدينة في الدنيا وقتلت ألف ملِك من ملوكها، يا أمير المؤمنين، أنا الذي بنيت خمسين
مدينة وفضضت خمسمِئة جارية بكر واشتريت ألف عبدٍ تركي وألف أرمني وألف رومي وألف
زنجي، وتزوّجت بسبعين إلفاً من بنات الملوك وما ملِك في الأرض إلاّ غلبته وظلمت
أهله، فلمّا جاءني ملَك الموت قال لي: (يا
ظالم يا طاغي، خالفت الحق)، فتزلزلت أعضائي
وارتعدَت فرائصي وعرض عليّ أهل جنسي، فإذا هم سبعون ألفاً من أولاد الملوك قد
شقّوا من جنسي، فلمّا رفَع ملَك الموت روحي سكن أهل الأرض من ظلمي فأنا معذّبٌ في
النار أبد الآبدين وكّل الله بي سبعين ألف ألف من الزبانية في يد كلّ واحد منهم
مرزبة من نار، لو ضربت جبال الأرض لاحترقت الجبال وتدكدكت، وكلمّا ضربني الملك
بواحدة من تلك المرازب أشتعل في النار وأحترق فيُحييني الله تعالى ويعذّبني بظلمي
على عباده أبد الآبدين، وكذلك وكّل الله تعالى بعدد كلّ شعرة في بدني حيّة تلسعني
وعقرباً تلدغني، وكلّ ذلك أحسّ به كالحي في دنياه فتقول لي الحيّات والعقارب هذا
جزاء ظلمك على عباده، ثمّ سكتت الجمجمة فبكى جميع عسكر أمير المؤمنين وضربوا على
رؤوسهم وقالوا: يا أمير المؤمنين، جهلنا حقّك بعد ما أعلمنا رسول الله (صلّى الله
عليه وآله)، وإنّما خسرنا حقّنا ونصيبنا فيك وإلاّ فأنت
ما ينقص منك شيء، فاجعلنا في حلٍّ ممّا فرّطنا فيك ورضينا بغيرك على مقامك فنحن
نادمون، فأمر (عليه السلام) بتغطية الجمجمة، فعند ذلك وقَف ماء النهر من الجري وصعد
على وجه الماء كل حيوان وسمك كان في النهر، فتكلّم كلُّ واحدٍ منها مع أمير
المؤمنين (عليه السلالم) ودعا وشهد له بإمامته وفي ذلك يقول بعضهم:
سلامي على زمزم والصفا |
|
سلامي على سدرة المنتهى |
لقد كلّمَتك لدى النهروان نهاراً |
|
جماجم أهل الثرى |
وقد بدرت لك حيتانها |
|
تناديك مذعنةً بالولا |
(خبر
آخر): قال عمّار بن ياسر (رضي الله عنه): كنت
مع مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد خرَج من الكوفة، إذ عبَر بضيعةٍ يقال
لها النخلة على بعد فرسخين من الكوفة، فخرج منها خمسون رجلاً من اليهود قالوا: أنت
الإمام عليّ بن أبى طالب؟ فقال (عليه السلام): (أنا هو) فقالوا لنا صخرة مذكورة في
كتبنا عليها اسم ستّة من الأنبياء ونحن نطلب الصخرة فلم نجدها، فإنْ كنت إماماً
أوجد لنا الصخرة، فقال (عليه السلام): (اتبعوني) فسارع القوم خلفه إلى أنْ توسّط
بهم البر وإذا بحبلٍ من الرمل عظيم، فقال (عليه السلام): (أيّتها الريح انسفي
الرمل عن الصخرة بإذن الله تعالى)، فما كان إلاّ ساعة حتى نسَفَت الرمل عن الصخرة وظهرت
الصخرة، فقال (عليه السلام): (هذه الصخرة صخرتكم)، فقالوا: إنّ عليها اسم ستّة من
الأنبياء على ما سمعنا قرأنا في كتبنا، ولسنا نرى عليها الأسماء فقال (عليه
السلام): (أمّا الأسماء التي عليها فهي في وجهها الذي على الأرض فاقلبوها) فاعصوا
صبّوا عليها وهم جماعة زهاء ألف رجل، فما قدروا على قلبها فقال (عليه السلام):
(تنحّوا عنها) فمدّ يده إليها وهو راكب فقلَبها فوجدوا فيها أسماء الأنبياء الستّة
(عليهم السلام)، وهم أصحاب الشرايع وهم آدم ونوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله)
فقال نفر اليهود نشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله
عليه وآله)، وأنّك أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين
والحجّة على هل الأرض أجمعين، مَن عرفك فقد نجا وسعد ومن أنكرك فقد ضلّ وغوى وإلى
الجحيم هوى جلّت مناقبك عن التحديد، وكثُرت آثار نعمتك عن التعديد وحظّك من الله
حظٌّ سعيد وخيرك منه مزيد.
(خبر صفوان الأكحل (رضي الله عنه)):
روي عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) أنّه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام)
جالسا على دكّة القضاء، فنهض إليه رجل يقال له صفوان بن الأكحل وقال له: أنا رجلٌ
من شيعتك وعلَيّ ذنوب، فأريد أنْ تطهّرني منها في الدنيا لأصِل إلى الآخرة وما
علَيّ ذنب، فقال الإمام (قل لي بأعظم ذنوبك ما هيَ؟).
فقال: أنا ألوط بالصبيان،
فقال (عليه السلام): (أيّما أحبّ إليك ضربةٌ بذي الفقّار أو أقلب عليك جداراً أو
أضرم لك ناراً؛ فإنّ ذلك جزاء مَن ارتكب ما ارتكبته)، فقال: يا مولاي احرقني
بالنار لأنجو من نارِ الآخرة، فقال عليّ (عليه السلام): (يا عمّار اجمع ألف حزمة
قصب لضرمه غداة غد بالنار)، ثمّ قال للرجل: (انهض وأوصِ بمالك وبما عليك) قال:
فنهض الرجل وأوصى بماله وما عليه، وقسّم أمواله بين أولاده، وأعطى كلّ ذي حقٍّ
حقّه ثمّ أتى باب حجرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيت نوح (عليه السلام) شرقي
جامع الكوفة، فلمّا صلّى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يا عمّار، ناد بالكوفة
اخرجوا وانظروا حكم أمير المؤمنين)، فقال جماعة منهم: كيف يحرق رجلاً من شيعته
ومُحبّيه وهو الساعة يُريد حرقة بالنار فتبطل إمامته.
فسمِع ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)
قال عمار (رضي الله عنه): فأخذ الإمام (عليه السلام) الرجل وبنى عليه ألف حزمة من
القصَب وأعطاه مقدحة وكبريتاً وقال: (اقدح واحرق نفسك، فإنْ كنت من شيعتي ومحبّيّ
وعارفي فإنّك لا تُحرَق في النار، وإنّ كنت من المخالفين المكذّبين فالنار تأكل
لحمَك وتكسُر عظمك)، قال: فقدَح الرجل على نفسه واحترق القصب وكان على الرجل ثيابٌ
بيض فلَم تعلَق بها النار ولم يَقربها الدخان، فاستفتح الإمام (عليه السلام) وقال:
(كذَب العاذلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً) ثمّ قال: (شيعتنا أُمناء وأنا قسيم
الجنّة والنار وشهِد لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
في مواطِنَ كثيرة).
(خبر مالك بن نويرة):
قال البراء بن عازب: بينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
جالس في أصحابه إذا أتاه وفدٌ من بني تميم مالك بن نويرة، فقال: يا رسول الله
(صلّى الله عليه وآله)، علّمني الإيمان فقال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله): (تشهد أنّ لا إله إلاّ الله
وحده لا شريك له وأنّي رسول الله، وتصلّي الخمس وتصوم رمَضَان وتؤدّي الزكاة وتحجّ
البيت، وتوالي وصيّي هذا مِن بعدي - وأشار إلى عليّ (عليه السلام) بيده - ولا تسفك
دماً ولا تسرق ولا تخون ولا تأكل مال اليتيم، ولا تشرب الخمر وتوفى بشرائعي وتحلّل
حلالي وتحرّم حرامي، وتعطي الحقّ من نفسِك للضعيف والقويّ والكبير والصغير)، حتى
عدّ عليه شرائع الإسلام فقال: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
أعد علَيّ فإنّي رجل نسّاء، فأعاد عليه فعقدها بيده وقام وهو يجرّ إزاره وهو يقول:
تعلّمت الإيمان وربّ الكعبة.
فلمّا بعُد من رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) قال: (من أحبّ أنْ ينظر إلى رجلِ من أهل
الجنّة، فلينظر إلى هذا الرجل)، فقال أبو بكر وعُمر: إلى مَن تشير يا رسول الله،
فاطرق إلى الأرض فجدّا في السير فلَحِقاه فقالا: لك البشارة من الله ورسوله
بالجنّة فقال: أحسن الله تعالى بشارتكما إنْ كنتما ممّن يشهَد بما شهدت به، فقد
علمتما ما علّمني النبيّ محمّد (صلّى الله
عليه وآله)، وإنْ لم تكونا كذلك فلا أحسَن الله
بشارتكما فقال أبو بكر: لا تقل فأنا أبو عائشة زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قال: قلت ذلك فما حاجتكما قالا: أنّك من أصحاب الجنّة
فاستغفر لنا، فقال: لا غفَر الله لكما تتركان رسول الله صاحب الشفاعة وتسألاني
استغفر لكما.
فرجعا والكآبة لائحة في وجهيهما، فلمّا
رآهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تبسّم وقال:
(أفي الحقِّ مغضبة؟) فلمّا توفّي رسول الله ورجَع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك
بنو نويرة، فخرج لينظر مَن قام مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فدخَل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس فنظر
إليه وقال: أخو تيم، قالوا: نعم، قال فما فعَل وصيُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أمرني بموالاته؟
قالوا: يا أعرابي الأمر يحدث بعده الأمر،
قال: بالله ما حدَث شيء وإنّكم قد خنتم الله ورسوله ثمّ تقدّم إلى أبى بكر وقال من
أرقاك هذا المنبر ووصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
جالس فقال أبو بكر: اخرجوا الأعرابي البوّال على عقِبية
من مسجد رسول الله * ص * فقام إليه فنقذ بن عُمير وخالد بن الوليد فلَم يزالا
يلكزان عنقه حتى أخرجاه فركِب راحلته وأنشأ يقول:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا |
|
فيا قوم ماشأني
وشأن أبي بكر |
إذا مات بكر قام عمر ومقامه |
|
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر |
يدب ويغشاه العشار كأنّما |
|
يجاهد جما أو يقوم على قبر |
فلو قام فينا من قريش عصابةٌ |
|
أقمنا ولكن القيام على جمرِ |
قال: فلمّاً استتمّ الأمر لأبي بكر وجّه
خالد بن الوليد وقال له قد علِمت ما قاله مالك على رؤس
الأشهاد، ولستُ آمن أنْ يفتق علينا فتقاً لا يلتئم فاقتله.
فحين أتاه خالد ركِب جواده وكان فارساً
يُعد بألف، فخاف خالد منه فأمّنه وأعطاه المواثيق ثمّ غدَر به بعد أنْ ألقى سلاحه،
فقتله وأعرس بامرأته في ليلته وجعَل رأسه في قدرٍ فيها لحم جزور لوليمة عرسه وبات
ينزو عليها نزو الحمار والحديث طويل.
خبر الشيخ معاذ بن جبَل مع معاوية بن أبى سفيان
قال جابر ابن عبد الله الأنصاري (صلّى
الله عليه وآله): كنت أنا ومعاوية بن أبي سفيان بالشام،
فبينما نحن ذات يوم إذ نظرنا إلى شيخ وهو مقبل من صدر البرية من ناحية العراق،
فقال معاوية: عرّجوا بنا إلى هذا الشيخ لنسأله من أين أقبل والى أين يُريد، وكان عند
معاوية أبو الأعور السلَمي، وولدا معاوية خالد ويزيد، وعمر بن العاص قال: فعرَجنا
إليه فقال له معاوية من أين أقبلت يا شيخ، وأين تريد؟ فلَم يُجبه الشيخ فقال عمرو
بن العاص لم لا تجيب أمير المؤمنين، فقال الشيخ: إنّ الله جعل التحيّة غير هذه،
فقال معاوية: صدقت يا شيخ، وأخطأنا وأحسنت وأسأنا، السلام عليك، قال: وعليك السلام
فقال معاوية: ما اسمك يا شيخ؟
فقال اسمي: معاذ بن جبَل، وكان ذلك
الشيخ طاعناً في السن بيده شيءٌ من الحديد ووسطه مشدود بشريط من ليف المقل، وعليه
كساء قد سقطَت لحمته وبقيَت سداته، وقد بانت شراسيف
خدّيه وقد غطّت حواجبه عينيه، فقال معاوية: يا شيخ مِن أين أقبلت وإلى أين تريد؟
قال الشيخ أتيت من العراق أُريد بيت المقدِس، قال معاوية: كيف تركت العراق؟ قال
على الخير والبرَكَة والاتّفاق.
لعلّك أتيت من الكوفة من الغري؟ قال
الشيخ وما الغري قال معاوية: الذي فيه أبو تراب، قال الشيخ: مَن تعني بذلك ومن هو
أبو تراب؟ قال: عليّ بن أبي طالب، قال له الشيخ: أرغم الله أنفك ورضّ الله فاك
ولعن الله أُمّك وأباك، ولمَ لا تقول الإمام العادل، والغَيث الهاطل يعسوب الدين
وقاتل المشركين والناكثين والقاسطين والمارقين، سيف الله المسلول وابن عمّ الرسول
وزوج البتول، تاج الفقَهَاء وكنز الفقراء وخامس أهل العباء، والليث الغالب أبو
الحسَنَين عليُّ بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، فعندها قال معاوية يا شيخ،
إنّي أرى لحمَك ودمَك قد خالط لحم عليّ بن أبي طالب ودمَه، فلو مات على ما أنت
فاعل، قال لا اتهم في فقده ربّي وأجلل في بُعده حزني، وأعلم أنّ الله لا يميت
سيّدي وإمامي حتى يجعل مِن وِلده حجّةً قائمةً إلى يوم القيامة، فقال: يا شيخ، هل
تركت من بعدك امرءاً تفتخر به؟ قال: وكيف لا وقد تركت
الفرس الأشقر والحجَر المدوّر والمنهاج لِمَن أراد المعراج.
قال عمرو بن العاص: لعلّه لا يعرفك يا
أمير المؤمنين، فسأله معاوية فقال له: يا شيخ، هل تعرفني؟ قال من أنت؟ فقال: أنا معاوية
أنا الشجرة الزكية والفروع العليّة، أنا سيّد بني أُمية، فقال له الشيخ: بل أنت
اللعين ابن اللعين على لسان نبيّه في كتابه المبين، إنّ الله قال في قوله تعالى: (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)
والشجرة الخبيثه والعروق المُخبثة الخسيسة، الذي ظلَم
نفسه وربَه وقال فيه نبيّه: (الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان) الزنيم ابن آكلة
الأكباد الفاشي ظلمه في العباد، فعندها اغتاظ معاوية وحنق عليه فرد يده إلى قائم
سيفه وهمّ بقتل الشيخ ثمّ قال: لولا العفو أحسن لأخذت رأسك، ثمّ قال له: أرأيت لو
كنت فاعلاً ذلك؟ قال الشيخ: إذاً والله أفوز بالسعادة وتفوز أنتَ بالشقاوة وقَد
قتَل من هو شرٌّ منك مَن هو خيرٌ منّي.
فقال معاوية: ومَن ذلك؟ قال الشيخ عثمان
نفى أبا ذر وضربه حتى مات وهو خيرٌ منّي وعثمان شرٌّ منك. قال معاوية: يا شيخ هل
كنت حاضراً يوم الدار؟ قال: وما يوم الدار؟ قال معاوية: يوم قتَل عليٌّ عثمان،
فقال الشيخ: بالله ما قتله ولو فعَل ذلك لاعتلاه بأسيافٍ حِداد وسواعد شِداد، وكان
يكون في ذلك مطيعاً لله ولرسوله، قال معاوية: يا شيخ، هل حضرت يوم صفّين؟ قال: وما
غِبت عنها، قال: كيف كنت فيها؟ قال الشيخ: أيتمت منك أطفالاً وأرملت منك نسواناً،
كنت كالليث أضرب بالسيف تارة، وبالرمح أُخرى، قال معاوية: هل ضربتني بشيءٍ قط؟ قال
الشيخ: ضربتك بثلاثة وسبعين سهماً فأنا صاحب السهمين اللذين وقعا في بُردتك وصاحب
السهمين اللذين وقعا في مسجدِك وصاحب السهمين اللذين وقعا في عضُدَيك ولو كشَفت
الآن لأُريك مكانهما، فقال معاوية: للشيخ هل حضرت يوم الجمَل؟ قال: وما يوم الجمَل؟
قال معاوية: يوم قاتَلَت عائشة عليّاً، قال: وما غبت عنه، قال معاوية، يا شيخ،
الحقّ مع عليّ أم مع عائشة؟ قال الشيخ: بل مع عليّ، قال معاوية: يا شيخ ألَم يقل
الله وأزواجه أُمّهاتهم؟ وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
هي أُمّ المؤمنين.
قال الشيخ: ألَم يقل الله تعالى: (يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ - إلى قوله - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)، وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (أنت يا عليّ خليفتي على نسائي وأهلي، وطلاقهن بيدِك)،
أفتراها خالفت الله تعالى في ذلك عاصيةً الله ورسوله، خارجةُ من بيتها وهي في ذلك
سفَكَت دماء المسلمين وأذهبت أموالهم، فلعنة الله على القوم الظالمين وهي كامرأة
في توح النار ولبئس مثوى الكافرين.
قال معاوية: يا شيخ، ما جعلت لنا شيئاً
نحتجّ به عليك، فمتى ظلمت الأُمّة وطفيت عنهم قناديل الرحمة؟ قال: لمّا صِرتَ
أميرها وعمرو بن العاص وزيرها. قال: فاستلقى معاوية على قفاه من الضحك وهو على ظهر
فرسه. فقال: يا شيخ، هل لك من شيء تقطع به لسانك؟ قال: ما عندك؟ قال: عشرون ناقة
حمراء حملة عسلاً وبرّا وسمناً، وعشرة آلاف درهَم تنفقها على عيالك وتستعين بها
على زمانك، قال الشيخ: لست أقبلها، قال: ولِمَ ذلك؟ قال الشيخ: لأنّي سمِعت رسول
الله يقول: (درهَم حلال خيرٌ من ألف درهَمٍ حرام)، قال معاوية: لأن أقمت معي في
دمشق لأضربنّ عنقك. قال: ما أنا بمقيم معك فيها، قال معاوية: ولِمَ ذلك؟ قال
الشيخ: لأنّ الله تعالى يقول: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)
وأنت أوّل ظالم وآخر ظالم، ثمّ توجه الشيخ إلى بيت المقدِس وهذا آخر الحديث
(خبر مفاخرة عليّ بن أبي طالب وفاطمة
الزهراء (عليهما السلام))
روي أنّه جاء في الخبَر أنّ الإمام عليّ
بن أبي طالب (عليه السلام)، كان ذات يوم هو وزوجته فاطمة (عليه السلام) يأكلان
تمراً في الصحراء إذا تداعباً بينهما بالكلام فقال عليّ (عليه السلام): (يا فاطمة،
إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يحبّني أكثر منك)،
فقالت: (وا عجباً منك يحبّك أكثر منّي!؟ وأنا ثمرة
فؤاده وعضوٌ من أعضائه وغصنٌ من أغصانه، وليس له ولدٌ غيري؟)، فقال لها عليّ (عليه
السلام): (يا فاطمة، إنْ لم تصدّقيني فأمضي بنا إلى أبيك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قال: (فمضينا إلى حضرته (صلّى الله عليه وآله) فتقدّمَت وقالت: يا رسول الله، (صلّى الله عليه وآله) أيّنا أحبّ إليك أنا أم عليّ (عليه السلام)؟)، قال
النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (أنت أحبّ إليّ وعليّ
أعزّ علَيّ منك)، فعندها قال سيّدنا ومولانا الإمام عليّ ابن أبي طالب (عليه
السلام): (ألم أقلّ لك أنا ولَد فاطمة ذات التقى؟!).
قالت فاطمة: (وأنا ابنة خديجة الكبرى)،
قال عليّ (عليه السلام): (وأنا ابن الصفا).
قالت فاطمة: (أنا ابنة سدرة المنتهي)،
قال عليّ: (وأنا فخر الورى).
قالت فاطمة: (وأنا ابنة دنى فتدلى وكان
من ربّه قاب قوسين أو أدنى)، قال عليّ: (وأنا ولد المحصنات).
قالت فاطمة: (أنا بنت الصالحات
والمؤمنات)، قال عليّ: (خادمي جبرائيل).
قالت فاطمة: (وأنا خاطبني في السماء
راحيل وخدمتني الملائكة جيلاً بعد جيل).
قال عليّ: وأنا ولدت في المحلّ البعيد المرتقي،
قالت فاطمة: وأنا زُوّجت في الرفيع الأعلى وكان ملاكي في السماء، قال عليّ: أنا
حامل اللواء، قالت فاطمة: وأنا ابنة مَن عُرِج به إلى السماء،
قال عليّ: أنا ابن صالح المؤمنين، قالت
فاطمة: وأنا ابنة خاتم النبيّين، قال عليّ: وأنا الضارب على التنزيل، قالت فاطمة:
وأنا صاحبة التأويل، قال عليّ: وأنا شجرة تخرج من طور سينين، قالت فاطمة: وأنا
الشجرة التي تخرج أُكلها، أعني الحسن والحسين (عليهما السلام).
قال عليّ: وأنا المثاني والقرآن الحكيم،
قالت فاطمة: وأنا ابنة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
الكريم.
قال عليّ: وأنا النبأ العظيم، قالت
فاطمة: وأنا ابنة الصادق الأمين، قال عليّ: وأنا الحبل المتين، قالت فاطمة: وأنا
ابنة خير الخلق أجمعين، قال عليّ: أنا ليث الحروب، قالت فاطمة: أنا مَن يغفر الله
به الذنوب، قال عليّ: وأنا المتصدّق بالخاتم، قالت فاطمة: وأنا ابنة سيّد العالم،
قال عليّ: أنا سيّد بني هاشم، قالت: أنه ابنة محمّد المصطفى، قال عليّ: أنا الإمام
المرتضى، قالت فاطمة: أنا ابنة سيّد المرسلين، قال عليّ: أنا سيّد الوصيين، قالت فاطمة:
أنا ابنة النبيّ العربي، قال عليّ: وأنا الشجاع الكمي، قالت فاطمة: وأنا ابنة احمد
النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قال عليّ: أنا المبطل
الأروَع، قالت فاطمة: أنا الشفيع المشفّع، قال علي: أنا
قسيم الجنّة والنار، قالت فاطمة: أنا ابنة محمّد المختار، قال علي: أنا قاتل
الجان، قالت فاطمة: أنا ابنة رسول الملِك الديّان، قال عليّ: أنا خيرة الرحمان،
قالت فاطمة: وأنا خيرة النسوان، قال عليّ: وأنا مكلّم أصحاب الرقيم، قالت فاطمة:
وأنا ابنة من أُرسِل رحمة للمؤمنين وبهم رؤوف رحيم، قال عليّ: وأنا الذي جعل الله
نفسي نفس محمّد (صلّى الله عليه وآله) حيث يقول في
كتابه العزيز: (وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ).
قالت فاطمة: وأنا الذي قال فيّ: (أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ)، قال عليّ: أنا علّمت شيعتي القرآن،
قالت فاطمة: وأنا يعتق الله من أحبّني من النيران، قال: أنا شيعتي مِن علمي
يسطرون، قالت فاطمة: وأنا من بحر علمي يغرفون، قال عليّ: أنا الذي اشتق الله تعالى
اسمي من اسمه فهو العالي وأنا عليّ، قالت فاطمة: وأنا كذلك فهو الفاطر وأنا فاطمة،
قال عليّ (عليه السلام): أنا حياة العارفين، قالت فاطمة: أنا مسلك نجاة الراغبين،
قال عليّ: وأنا الحواميم، قالت فاطمة: وأنا ابنة الطواسين، قال عليّ: وأنا كنز الغنى، قالت فاطمة: وأنا الكلمة
الحسنى، قال عليّ: أنا بي تاب الله على آدم في خطيئته، قالت فاطمة: وأنا بي قبِل
الله توبته، قال عليّ: أنا كسفينة نوح من ركِبَها نجا، قالت فاطمة: وأنا أُشاركك
في الدعوى، قال عليّ أنا طوفانه، قالت فاطمة: وأنا سورته، قال عليّ: وأنا النسيم
المرسل لحفظه، قالت فاطمة: وأنا منّي انهار الماء واللبَن والخمر والعسَل في
الجنان، قال عليّ: وأنا الطور، قالت فاطمة: وأنا الكتاب المسطور، قال عليّ: وأنا
الرق المنشور، قالت فاطمة: وأنا البيت المعمور، قال عليّ: وأنا السقف المرفوع،
قالت فاطمة: وأنا البحر المسجور، قال عليّ: أنا علمي النبيّين، قالت فاطمة: وأنا
ابنة سيّد المرسلين من الأوّلين والآخرين، قال عليّ: أنا البئر والقصر المشيّد،
قالت فاطمة: أنا منّي شبّر وشُبير، قال عليّ: وأنا بعد الرسول خير البرية، قالت:
أنا البرّة الزكية).
فعندها قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): لا تكلّمي عليّاً فإنّه ذو البرهان، قالت فاطمة: أنا
ابنة مَن أُنزل عليه القرآن، قال عليّ: أنا البطين الأصلع، قالت فاطمة أنا الكوكب
الذي يلمع، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فهو
الشفاعة يوم القيامة، قالت فاطمة: وأنا خاتون يوم القيامة، فعند ذلك قالت فاطمة
لرسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تُحام لابن عمّك
ودعني وإيّاه، قال عليّ (عليه السلام): يا فاطمة، أنا مَن محمّد عصبته ونخبته،
قالت فاطمة: وأنا لحمه ودمه، قال عليّ أنا الصُحف، قالت فاطمة: وأنا الشرَف، قال
عليّ: وأنا وليّ الزلفى، قالت فاطمة: وأنا الخمصاء الحسناء، قال عليّ: وأنا نور
الورى، قالت فاطمة: وأنا الزهراء.
فعندها قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة: يا فاطمة، قومي وقبّلي رأس ابن عمّك فهذا
جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل مع أربعة آلاف مِن الملائكة يحامون مع عليّ
(عليه السلام)، وهذا أخي راحيل ودردائيل مع أربعة آلاف
من الملائكة ينظرون بأعينهم، قال: فقامت فاطمة الزهراء فقبّلت رأس الإمام عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) بين يدَي النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وقالت: يا أبا الحسن، بحق رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
معذرةً إلى الله عزّ وجل وإليك وإلى ابن عمّك، قال فوهبَها الإمام (عليه السلام)،
وقبّلت يد أبيها (عليه وعليهم السلام).
وهذا ما وجدناه في النسخة من الحديث على
التمام والكمال ونستغفر الله العظيم من الزيادة والنقصان ونعوذ بالله من سخط
الرحمان.
حديث مفاخرة عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) مع ولده الحسين (عليه السلام)
قال: حدّثنا سليمان بن مهران قال:
حدّثنا جابر، عن مجاهد قال: حدّثنا عبد الله بن عبّاس قال: حدّثنا رسول الله قال:
(لما عُرِج بي إلى السماء، رأيت على باب الجنّة مكتوباً لا إله إلاّ الله محمّد
رسول الله عليٌّ وليُّ الله، والحسن والحسين سبطا رسول الله، وفاطمة الزهراء صفوة
الله، وعلى ناكرهم وباغضهم لعنة الله تعالى).
(قيل):
إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان جالساً ذات
يوم وعنده الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ دخَل الحُسين بن عليّ فأخذه
النبيّ (عليه السلام) وأجلسه في حِجره، وقبّل بين عينيه وقبّل شفتيه وكان للحسين
(عليه السلام) ستّ سنين، فقال عليّ (عليه السلام): (يا رسول الله أتحبّ ولدي
الحسين؟)، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (وكيف لا
أحبّه وهو عضوٌ من أعضائي؟!)، فقال عليّ (عليه السلام): (يا رسول الله، أيّما أحبّ
إليك أنا أم الحسين؟)، فقال الحسين: (يا أبتي مَن كان أعلى شرفاً كان أحبّ إلى
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأقرب إليه منزلةً)، قال
عليّ (عليه السلام): (لولده أتفاخرني يا حسين)، قال: (نعم يا أبتاه إنْ شئت).
فقال
له الإمام عليّ (عليه السلام): (يا حسين أنا أمير المؤمنين، أنا لسان الصادقين،
أنا وزير المصطفى، أنا خازن علم الله ومختاره من خلقِه، أنا قائد السابقين إلى
الجنّة أنا قاضي الدَّين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
أنا الذي عمّه سيّد في الجنّة أنا الذي أخوه جعفر الطيّار في الجنّة عند الملائكة،
أنا قاضي الرسول أنا آخذٌ له باليمين، أنا حامل سورة التنزيل إلى أهل مكّة بأمر
الله تعالى، أنا الذي اختارني الله تعالى من خلقه أنا حبل الله المتين الذي أمر
الله تعالى خلقه أنْ يعتصموا به في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً)،
أنا نجم الله الزاهر، أنا الذي تزوره ملائكة السموات أنا لسان الله الناطق، أنا
حجّة الله تعالى على خلقِه أنا يد الله القوى أنا وجه الله تعالى في السموات، أنا
جنب الله الظاهر أنا الذي قال الله سبحانه وتعالى فيّ وفي حقّي: (بَلْ
عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ)،
أنا عروة الله الوثقى التي لا انفصام لها والله سميعٌ عليم، أنا باب الله الذي
يؤتى منه أنا علم الله على الصراط، أنا بيت الله مَن دخله كان آمناً فمن تمسّك
بولايتي ومحبّتي أمِن مِن النار، وأنا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أنا
قاتل الكافرين أنا أبو اليتامى أنا كهف الأرامل أنا عمّ يتساءلون عن ولايتي يوم
القيامة قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ)،
أنا نعمة الله تعالى التي أنعَم الله بها على خلقِه أنا الذي قال الله تعالى فيّ
وفي حقّي: (الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً)،
فمَن أحبّني كان مسلماً مؤمناً كامل الدين، أنا الذي بي اهتديتم أنا الذي قال الله
تبارك وتعالى فيّ وفي عدوّي: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْئُولُونَ)،
أي عن ولايتي يوم القيامة، أنا النبأ العظيم الذي أكمل الله تعالى به الدين يوم
غدير خم وخيبَر، أنا الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
فيّ: (من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)، أنا صلاة المؤمن أنا حيّ على الصلاة أنا حيّ
على الفلاح أنا حيّ على خير العمل، أنا الذي نزل على أعدائي سأل سائلٌ بعذابٍ واقع
للكافرين ليس له دافع، بمعنى من أنكر ولايتي وهو النعمان ابن الحارث اليهودي لعنه
الله تعالى.
أنا داعي الأنام إلى الحوض فهل داعي
المؤمنين غيري؟ أنا أبو الأئمّة الطاهرين مِن ولدي، أنا ميزان القسط ليوم القيامة،
أنا يعسوب الدين أنا قائد المؤمنين إلى الخيرات والغفران إلى ربّي، أنا الذي أصحاب
يوم القيامة من أوليائي المبرّؤون من أعدائي وعند الموت لا يخافون ولا يحزنون، وفي
قبورهم لا يُعذّبون وهم الشهداء و الصدّيقون وعند ربّهم يفرحون، أنا الذي شيعتي متوثّقون أنْ لا يوادّوا من حادّ الله و رسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أنا الذي
شيعتي يدخلون الجنّة بغير حساب، أنا الذي عندي ديوان الشيعة بأسمائهم، أنا عون
المؤمنين وشفيعٌ لهم عند ربّ العالمين، أنا الضارب بالسيفين أنا الطاعن بالرمّحين،
أنا قاتل الكافرين يوم بدرٍ وحنين أنا مُردي الكماة يوم أُحد أنا ضارب ابن عبد ودّ
لعنه الله تعالى يوم الأحزاب، أنا قاتل عمرو ومرحَب أنا قاتل فرسان خيبَر أنا الذي
قال فيّ الأُمين جبرئيل (عليه السلام): لا سيف إلاّ ذو الفقّار ولا فتى إلاّ عليّ،
أنا صاحب فتح مكّة أنا كاسر اللاّت والعزّى أنا الهادم هُبَل الأعلى ومناة الثالثة
الأُخرى، أنا علَوت على كتف النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وكسرت الأصنام، أنا الذي كسرت يغوث ويعوق ونسرا، أنا الذي قاتلت الكافرين في سبيل
الله أنا الذي تصدّق الخاتم، أنا الذي نمت على فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ووقيته بنفسي من المشركين، أنا الذي يخاف الجنُّ من
بأسي أنا الذي به يُعبَد الله أنا تُرجمان الله أنا علم الله أنا عيبة عِلم رسول
الله (صلّى الله عليه وآله)، أنا قاتل أهل الجمَل
وصفّين بعد رسول الله أنا قسيم الجنّة والنار).
فعندها سكت عليّ (عليه السلام) فقال
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للحسين (عليه السلام):
(أسمِعت يا أبا عبد الله، ما قاله أبوك وهو عُشر عُشَير مِعشار ما قاله من فضائله،
ومن ألف ألف فضيلة وهو فوق ذلك أعلى)
فقال الحسين (عليه السلام): (الحمد لله
الذي فضّلنا على كثيرٍ من عباده المؤمنين، وعلى جميع المخلوقين وخصّ جدّنا
بالتنزيل والتأويل، والصدق ومناجاة الأمين جبرئيل (عليه السلام) وجعلنا خيار مَن
اصطفاه الجليل، ورفَعنا على الخلق أجمعين، ثمّ قال الحسين (عليه السلام): (أمّا ما
ذكرت يا أمير المؤمنين، فأنت فيه صادقٌ أمين).
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (اذكر أنت يا ولدي فضائلك)،
فقال الحسين (عليه السلام): (يا أبت أنا الحسين بن
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأُمّي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، وجدّي
محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) سيد بني آدم
أجمعين، لا ريب فيه يا عليّ أُمّي أفضل مِن أُمّك عند الله وعند الناس أجمعين،
وجدّي خيرٌ من جدّك وأفضل عند الله وعند الناس أجمعين، وأنا في المهد ناغاني
جبرئيل وتلقاني إسرافيل، يا علي، أنت عند الله تعالى أفضل منّي وأنا أفخر منك
بالآباء والأُمّهات والأجداد).
قال: ثمّ إن الحسين (عليه السلام) اعتنق
أباه وجعل يُقبّله، وأقبل عليّ (عليه السلام) يُقبّل ولده الحسين وهو يقول: (زادك
الله تعالى شرفاً وفخراً وعلماً وحلماً، ولعَن الله تعالى ظالميك يا أبا عبد
الله)، ثمّ رجع الحسين (عليه السلام) إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهذا وجدناه مكتوباً على التمام والكمال ونستغفر الله
مِن الزيادة والنقصان ونعوذ بالله من سخط الرحمان.
حكاية وفاة سلمان الفارسي (رضي الله عنه)
حدّثنا الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن بن
عليّ بن محمّد المهدي بالإسناد الصحيح عن الأصبغ بن نباتة، أنّه قال: كنت مع سلمان
الفارسي (رحمه الله) وهو أمير المدائن في زمان أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب
(عليه السلام)، وذلك أنّه قد ولاّه المدائن عمر ابن الخطّاب فقام إلى أنْ وليَ
الأمر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال الأصبغ: فأتيته يوماً زائراً وقد مرِض
مرضه الذي مات فيه قال: فلَم أزل أعوده في مرضِه حتى اشتدّ به وأيقن بالموت قال:
فالتفت إليّ وقال: يا أصبغ عهدي برسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وقد أردفني يوماً وراءه، فالتفت إليّ وقال لي: (يا
سلمان، سيكلّمك ميّت إذا دنَت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدرى وفاتي دنَت أم لا، فقال
الأصبغ: ماذا تأمرني به يا سلمان، قال له: يا أخي تخرج وتأتيني بسرير وتفرِش عليه
ما يُفرش للموتى، ثمّ تحملني بين أربعة فتأتون بي إلى المقبرة، فقال الأصبغ حبّاً
وكرامة، قال: فخرجت مسرعاً وغبت ساعة وأتيته بسرير وفرشت عليه ما يُفرش للموتى،
ثمّ أتيته بقومٍ حملوه حتى أتوا به إلى المقبرة، فلمّا وضعوه فيها قال لهم: يا
قوم، استقبلوا بوجهي القبلة.
فلمّا استقبل القبلة بوجهه نادى بعلوِّ
صوته: السلام عليكم يا أهل عرَصة البلاد، السلام عليكم يا محتجبين من الدنيا، قال
فلَم يُجِبه أحد فنادى ثانية: السلام عليكم يا مَن جُعلت المنايا لهم غذاء، السلام
عليكم يا مَن جُعلت الأرض عليهم غطاء، السلام عليكم يا مَن لقوا أعمالهم في دار
الدنيا، السلام عليكم يا منتظرين النفخة الأولى، سألتكم بالله العظيم والنبيّ
الكريم إلاّ أجابني منكم مجيب، فأنا سلمان الفارسي مولى رسول الله (صلّى الله عليه
وآله) وأنّه (صلّى الله عليه وآله)
قال لي: (يا سلمان، إذا دنَت وفاتك سيكلّمك ميّت)، وقد اشتهيت أنْ أدري دنَت وفاتي
أم لا، فلمّا سكَت سلمان مِن كلامه فإذا هو بميّت قد نطَق مِن قبره وهو يقول:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يا أهل البناء والفناء المشتغلون بعرصة الدنيا،
ها نحن لكلامك مستمعون ولجوابك مسرعون، فسل عمّا بدا لك يرحمك الله تعالى.
قال سلمان: أيّها الناطق بعد الموت،
المتكلّم بعد حسرة الفوت أمِن أهل الجنّة أنتَ بعفوه أم من أهل النار بعدله؟ فقال:
يا سلمان، أنا ممّن أنعم الله تعالى عليه بعفوه وكرمه و أدخله
جنّته برحمته. فقال له سلمان: الآن يا عبد الله صف لي الموت كيف وجدته وماذا لقيت
منه وما رأيت وما عاينت. قال: مهلاً يا سلمان، فو الله إنّ قرضاً بالمقاريض ونشراً
بالمناشير لأهوَن عليّ من غُصَص الموت، ولسبعون ضربةً بالسيف أهوَن عليّ مِن نَزعة
من نزَعَات الموت. فقال سلمان: ما كان حالك في دار الدنيا؟ قال: اعلم أنّي كنت في
دار الدنيا ممّن ألهمني الله تعالى الخير، وكنت أعمل به وأُؤدي فرائضه وأتلو كتابه
وأحرص في برّ الوالدين، وأجتنب المحارم وأنزع عن المظالم، وأكدّ الليل والنهار في
طلب الحلال خوفاً من وقفة السؤال فبينا أنا في ألذّ العيش وغبطةٍ وفرح وسرور، إذ
مرضت وبقيت في مرضي أيّاماً حتى انقضت من الدنيا مدّتي وقرُب موتي فأتاني عند ذلك
شخصٌ عظيم الخلقة فظيع المنظر فوقف مقابل وجهي، لا إلى السماء صاعداً ولا إلى
الأرض نازلاً فأشار إلى بصري فأعماه والى سمعي فأصمّه وإلى لساني فأخرَسه، فصرت لا
أُبصر ولا أسمع فعند ذلك بكى أهلي وأعواني وظهر خبري إلى إخواني وجيراني.
فقلت له عند ذلك: من أنت يا هذا الذي
أشغلتني مِن مالي وأهلي وولدي؟ فقال: أنا ملَك الموت أتيتك لا نقلك من الدنيا إلى
الآخرة، فقد انقطعت مدّتك وجاءت منيّتك فبينا هو كذلك
يخاطبني إذا أتاه شخصان، وهما أحسن خلق الله ما رأيت أحسن منهما، فجلس أحدهما عن
يميني والآخر عن شمالي فقالا لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، قد جئناك بكتابك
فخذه الآن وانظر ما فيه، فقلت لهم: أيّ كتابٍ لي أقرأه؟ قالا: نحن الملَكان اللذان
كنّا معك في دار الدنيا نكتب مالك وما عليك، وهذا كتاب عملك فنظرت في كتاب الحسنات
وهو بيد الرقيب فسرّني ما فيه، وما رأيت من الخير فضحكت عند ذلك وفرحت فرحاً شديداً
ونظرت إلى كتاب السيّئات وهو بيد العتيد فساءني بما
رأيت وأبكاني، فقالا لي: أبشر فلَك الخير ثمّ دنا منّي الشخص الأوّل فجذب الروح
فليس من جذبةٍ يجذبها إلاّ وهي تقوم مقام كلّ شدّةٍ من السماء إلى الأرض، فلم يزل
كذلك حتى صارت الروح في صدري ثمّ أشار إليّ بجذبةٍ لو أنّها وضِعَت على الجبال
لذابت، فقبض روحي من عرنين أنفي فعَلا من أهلي عند ذلك الصراخ، وليس من شيء يقال
ويُفعل إلاّ وأنا به عالم، فعلاً اشتدّ صراخ القوم و بكاؤهم جزعاً علَيّ التفت
إليهم ملَك الموت بغيظ وقنوط وقال: (معاشر القوم ممّ
بكاؤكم فو الله ما ظلمناه فتشكّوا ولا اعتدينا عليه فتضجّوا وتبكوا، ولكن نحن
وانتم عبيد ربٍّ واحد ولو أُمرتم فينا كما أُمرنا فيكم لامتثلتم فينا كما امتثلنا
فيكم، والله ما أخذناه حتى فنى رزقه وانقطعت مدّته، وصار إلى ربٍّ كريم يحكم فيه
كما يشاء وهو على كل شيءٍ قدير، فإنْ صبرتم أُجرتم وإنْ جزعتم أثمتم، كم لي من
رجعةٍ إليكم آخذ البنين والبنات والآباء والأُمّهات)،
ثمّ انصرف عند ذلك عنّي والروح معه فعند ذلك أتى ملكٌ آخر فأخذها منه وتركها في
ثوبٍ أخضر من حرير، وصعد بها ووضعها بين يدي الله في أقلّ من طبْقة جفن على جفن.
فلمّا حصلت الروح بين يدي ربّي سبحانه
وتعالى سألَها عن الصغيرة والكبيرة وعن الصلاة والصيام في شهر رمضان، وحجّ بيت
الله الحرام وقراءة القرآن، والزكاة والصدقات وسائر
الأوقات والأيّام وطاعة الوالدين، وعن قتل النفس بغير الحق وأكل مال اليتيم وعن
مظالم العباد، وعن التهجّد بالليل والناس نيام وما يشاكل ذلك، ثمّ من بعد ذلك
رُدّت الروح إلى الأرض بإذن الله تعالى فعند ذلك أتاني غاسلٌ فجرّدني من أثوابي
وأخذ في تغسيلي فنادته الروح: (يا عبد الله، رفقاً بالبدَن الضعيف، فو
الله ما خرجت من عرقٍ إلاّ انقطع ولا عضوٍ إلاّ انصدَع)،
فو الله لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسّل ميّتا أبداً، ثمّ إنّه أجرى علَيّ الماء
وغسّلني ثلاثة أغسال وكفّنني في ثلاثِ أثواب، وحنّطني في حنوط وهو الزاد الذي خرجت
به إلى دار الآخرة، ثمّ جذب الخاتم من يدي اليمين بعد فراغه من الغسل ودفعه إلى
الأكبر من ولدي وقال آجرك الله تعالى في أبيك وأحسن لك الأجر والعزاء، ثمّ أدرجني
في الكفن ولفّني ونادى أهلي وجيراني وقال: هلمّوا إليه بالوداع، فأقبلوا عند ذلك
لوداعي فلمّا فرغوا من وداعي حُمِلت على سريرٍ من خشَب والروح عند ذلك بين وجهي
وكفني، حتى وضعت الصلاة فصلّوا عليّ فلمّا فرغوا من الصلاة حُمِلت إلى قبري ودلت
فيه فعاينت هولاً عظيماً يا سلمان، يا عبد الله اعلم أنّي لمّا وقعت من سريري إلى
لحدي تخيّل لي أنّي قد سقطت من السماء إلى الأرض في لحدي، وشرج علَيّ اللبْن وحثي
التراب علَيّ وواروني فعند ذلك سُلِبت الروح من اللسان وانقلب السمع والبصر، فلمّا
نادى المنادي بالانصراف أخذت في الندم و بكيت من القبر وضيقه وضغطه، وقلت: يا
ليتني كنت من الراجعين لعملت عملاً صالحاً فجاوبني مجيب من جانب القبر: (كَلاَّ
إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ)،
فقلت له: من أنت يا هذا الذي يكلّمني ويحدّثني؟ فقال:
(أنا منبّه) فقلت له: من أنت يا منبّه؟ قال: (أنا
ملك وكّلني الله عزّ وجل بجميع خلقه لأُنبّههم بعد مماتهم ليكتبوا أعمالهم على
أنفسهم بين يدي الله عزّ وجل)،
ثمّ جذبني وأجلسني وقال لي: اكتب عملك فقلت: إنّي لا أُحصيه فقال لي: أما سمعت قول
ربّكم: (أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ).
ثمّ قال لي: (اكتب
وأنا أملي عليك) فقلت: أين البياض؟
فجذَب جانباً من كفني فإذا هو ورق فقال: (هذه صحيفتك)
فقلت: من أين القلم؟ قال: سبّابتك فقلت: من أين المداد؟ قال: ريقك ثمّ أملى علَيّ
ما فعلته في دار الدنيا فلَم يبقَ من أعمالي صغيرة ولا كبيرة ثمّ تلا علَيّ: (لا
يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)،
ثمّ إنّه أخذ الكتاب وختمه بخاتم وطوّقه في عنقي فخيّل لي أنّ جبال الدنيا جميعاً
قد طوّقوها في عنقي، فقلت له: يا منبّه، ولم تفعل بي هكذا؟ قال: ألَم تسمع قول
ربّك: (وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)،
فهذا تخاطب به يوم القيامة ويؤتى بك وبكتابك بين عينيك منشوراً تشهد فيه على نفسك،
ثمّ انصرف عنّي فأتاني منكر بأعظم منظر وأوحَش شخص وبيده عمود من الحديد لو
اجتمَعت عليه أهل الثقلين ما حرّكوه من ثقله، فروّعني وأزعجني وهدّدني ثمّ إنّه
قبض بلحيتي وأجلسني ثمّ إنّه صاح بي صيحةً لو سمعها أهل الأرض لماتوا جميعاً، ثمّ
قال لي: يا عبد الله، أخبرني مَن ربّك وما دينك ومَن نبيّك وما أنت عليه وما قولك
في دار الدنيا؟ فاعتقلّ لساني من فزعه وتحيّرت في أمري وما أدري ما أقول، وليس في
جسمي عضوٌ إلاّ فارقني من الفزَع وانقطعت أعضائي وأوصالي من الخوف فأتتني رحمة من
ربّي فأمسك بها قلبي وأطلَق بها لساني فقلت له: يا عبد الله لِمَ تفزعني وأنا مؤمن
اعلم أني أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ الله ربّي ومحمّد نبيّي والإسلام ديني والقرآن
كتابي والكعبة قبلتي وعليّاً إمامي والمؤمنين إخواني، وأنّ الموت حق والسؤال حق
والصراط حق والجنّة حق والنار حق، وأنّ الساعة لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في
القبور فهذا قولي واعتقادي وعليه ألقى ربّي في معادي، فعند ذلك قال لي: الآن أبشر
يا عبد الله بالسلامة فقد نجوت ومضى عنّي وأتاني نكير وصاح بي صيحةً هائلة أعظم من
الأولى فاشتبكت أعضائي بعضها في بعض كاشتباك الأصابع، ثمّ قال: هات الآن عمَلك يا
عبد الله فبقيت حائراً متفكّراً في ردّ الجواب فعند ذلك صرف الله عنّي شدّة الروع
والفزع وألهمني حجّتي وحسن اليقين والتوفيق، فقلت عند ذلك: يا عبد الله رفقاً بي
ولا تزعجني فإنّي قد خرجت من الدنيا وأنا أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك
له، وأشهد أنّ محمّداً عبده رسوله وأنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والأئمّة
الطاهرين من ذرّيته أئمّتي، وأنّ الموت حق والصراط حق والميزان حق والحساب حق،
ومسألة منكر ونكير حق والبعث حق وأنّ الجنّة وما وعد الله من النعيم حق، وأنّ
النار وما وعد الله فيها من العذاب حق وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله
يبعث مَن في القبور، فقال: يا عبد الله أبشر بالنعيم الدائم والخير المقيم، ثمّ
إنّه أضجعني وقال: نم نومة العروس، ثمّ إنّه فتح لي باباً من عند رأسي إلى الجنّة
وبابا من عند رجلي إلى النار ثمّ قال: يا عبد الله انظر إلى ما صرت إليه من الجنّة
والنعيم، وإلى ما نجوت منه من نار الجحيم، ثم سدّ الباب الذي من عند رجلي وأبقى
الباب الذي من عند رأسي مفتوحاً إلى الجنّة فجعل يُدخل عليّ من روح الجنّة ونعيمها،
وأوسَع لحدي مدّ البصر وأسرج لي سراجاً أضوأ من الشمس
والقمر ومضى عنّي فهذه صفتي وحديثي وما لقيته من شدّة الأهوال، وأنا أشهد أنّ
مرارة الموت في حلقي إلى يوم القيامة، فراقب الله أيّها السائل خوفاً من وقفة
المسائل، وخف من هول المطّلع وما قد ذكرته لك هذا الذي لقيته وأنا من الصالحين،
قال: ثمّ انقطع عند ذلك كلامه.
فقال سلمان (رضي الله عنه): للأصبغ ومَن
كان معه هلمّوا إليّ واحملوني، فلمّا وصل إلى المنزل قال: حطوني
رحمكم الله فأنزلناه إلى الأرض فقال: أسندوني فأسندناه ثمّ رمق بطرفه إلى السماء
وقال: يا مَن بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، وهو يجير ولا يُجار عليه، بك آمنت
ولنبيّك اتبعت وبكتابك صدّقت وقد أتى بي ما وعدتني، يا من لا يخلف الميعاد اقبضني
إلى رحمتك وأنزلني كرامتك، فإنّي أشهد أنْ لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك وأشهد
أنّ محمّداً عبدك ورسولك، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين وإمام المتّقين والأئمّة من
ذريته أئمّتي وسادتي، فلّما كمّل شهادته قضى نحبه ولقيَ ربّه (رضي الله عنه)، قال
فبينا نحن كذلك إذ أتى رجلٌ على بغلة شهباء ملتئماً فسلّم علينا فرددنا السلام
عليه، فقال: (يا أصبغ جدّوا في أمر سلمان)، فأخذنا في أمره فأخذ معه حنوطاً وكفناً
فقال: (هلمّوا فإنّ عندي ما ينوب عنه)، فأتيناه بماء ومغسل فلَم يزل يغسّله بيده
حتى فرغ وكفّنه وصلّينا عليه ودفنّاه ولحّده بيده، فلمّا فرغ من دفنه وهمّ بالانصراف
تعلّقنا به وقلنا له: من أنت؟ فكشف لنا عن وجهه (عليه السلام) فسطع النور مِن
ثناياه كالبرق الخاطف، فإذا هو أميرُ المؤمنين فقلت له: يا أمير المؤمنين، كيف كان
مجيئك ومَن أعلمك بموت سلمان؟ قال: فالتفت إلي (عليه
السلام) وقال: (آخذ عليك يا أصبغ عهد الله وميثاقه أنّك لا تحدّث بها أحداً ما دمت
في دار الدنيا)، فقلت: يا أمير المؤمنين أموت قبلك.
فقال: (لا يا اصبغ، بل يطول عمرك)، قلت
له: يا أمير المؤمنين خذ عليّ عهداً وميثاقاً أنّي لك سامع مطيع أنّي لا أُحدّث به
أحداً حتى يقضي إليّ من أمرك ما يقضي وهو على كل شيءٍ قدير، فقال: (يا أصبغ بذا
عهد إلي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّي قد صليت
هذه الساعة بالكوفة، وقد خرجت أُريد منزلي فلمّا وصلت إلى منزلي اضطجعت فأتاني آتٍ
في منامي وقال: يا علي، إنّ سلماناً قد قضى فركبت بغلتي وأخذت معي ما يصلح للموتى،
فجعلت أسير فقرّب الله لي البعيد فجئت كما تراني وبهذا أخبرني رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)).
ثمّ إنّه دفنه وواراه فلم أدرِ أصعد إلى
السماء أم في الأرض نزل.
قبل أنْ يأتي الكوفة والمنادي ينادي
لصلاة المغرب فحضَر عندهم عليّ (عليه السلام)، وهذا ما كان من حديث وفاة سلمان الفارسي
(رضي الله عنه) على التمام والكمال والحمد لله حقّ حمده.
في فضائل الإمام عليّ (عليه السلام)
(خبر آخر): قال
جامع هذا الكتاب: حضرت الجامع بواسطة يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة سنة إحدى
وخمسين وستّمِئة، وتاج الدين نقيب الهاشميّين يخطب بالناس على أعواده، فقال بعد
حمد الله تعالى والشكر عليه وذكَر الخلفاء بعد الرسول، وقال في حق عليّ (عليه
السلام): إنّ جبرئيل (عليه السلام) نزَل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيده أترجة فقال له: (يا رسول الله، الحقّ يُقرئك
السلام ويقول لك: قد أتحفت ابن عمّك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بهذه التحفة،
فسلّمها إليه فسلّمها إلى عليّ (عليه السلام))، فأخذها بيده وشقّها نصفين فظهَر في
نصفٌ منها حريرة مِن سندس الجنّة عليها مكتوب تحفة من الطالب الغالب إلى عليّ بن
أبي طالب، وهو خبرٌ مليح.
(وعن القاروني):
حكاية عنه أنّه قام يوماً على منبره ومجلسه يومئذٍ مملوء بالناس في جمادي الآخرة
من سنة اثنين وخمسين وستّمِئة بواسطة، فذكَر ما رواه لي ابن عبّاس (رضي الله عنه)
أنّه قال: كان رسول الله في مسجده وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار، إذ نزل عليه
جبرئيل وقال: (يا محمّد، الحق يُقرئك السلام ويقول لك: أحضر عليّاً (عليه السلام)
واجعل وجهَك مقابل وجهه)، ثمّ عرج إلى السماء فدعا رسول الله بعليّ (عليه السلام)
فاحضره وجعله مقابل وجهه، فنزل جبرئيل ثانيةً ومعه طبَق فيه رطَب فوضعه بينهما،
ثمّ قال: (كُلا)، فأكلا ثمّ أحضر طستاً وإبريقاً وقال: (يا رسول الله، قد أمرك
الله أنْ تصبّ الماء على يدِ عليّ بن أبي طالب)، فقال النبيّ: (السمع والطاعة لِما
أمرني به ربّي)، ثمّ أخذ الإبريق وقام يصبّ الماء على يد عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام)، فقال له عليّ (عليه السلام): (يا رسول الله، أنا أولى بأنْ أصبُّ الماء
على يدِك).
فقال له: (يا عليّ، الله سُبحانه أمرني
بذلك)، وكان كلّما صبّ على يد عليّ الماء لا يقَع منه قطرة في الطست، فقال:(يا
رسول الله، ما أرى قطرة تقَع من الماء في الطست)، فقال (صلّى الله عليه وآله): (يا عليّ، إنّ الملائكة يتسابقون على أخذ الماء الذي
يقَع مِن يدك فيغسلون به وجوههم ويتباركون به).
(وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مَن قال لا إله إلا الله فُتِحت له أبواب السماء، ومن
تلاها بمحمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تهلّل
وجه الحق سبحانه وتعالى فاستبشر بذلك، ومَن تلاها بعليّ وليّ الله غفَر الله له
ذنوبه ولو كانت بعدد المطر).
عنه (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله
(صلّى الله عليه وآله): (عليٌّ خيرُ مَن أترك فمَن
أطاعه أطاعني ومَن عصاه عصاني).
(خبر عن ابن مسعود)
قال: كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليلة وقد
لجن فتنفّس الصعداء فقلتُ: خيراً يا رسول الله، قال: (نُعيت إلى نفسي)، فقلت: ألا
توصي يا رسول الله؟ فقال: (إلى مَن يا ابن مسعود؟)، فقلت أبي بكر فأطرَق هنيئة ثمّ
رفَع رأسه فتنفّس الصعداء فقلت: يا خيراً يا رسول الله، فقال: (نُعيت إلى نفسي) فقلت:
ألا توصي؟ فقال: (إلى مَن يا ابن مسعود؟)، فقلت: إلى عمر فأطرق رأسه هنيئة ثمّ
رفَع رأسه فتنفّس الصعداء فقلت خيراً يا رسول الله، فقال: (نُعيت إلى نفسي)، فقلت:
ألا توصي يا رسول الله؟ فقال: (إلى مَن يا ابن مسعود؟) فقلت إلى عثمان فأطرق رأسه
هنيئة ثمّ رفع رأسه وتنفّس الصعداء فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأُمّي ممّ
تتنفّس؟ قال: (يا ابن مسعود، نُعيت إلى نفسي)، فقلت: ألا توصي يا رسول الله؟ فقال:
(إلى مَن يا ابن مسعود؟)، فقلت: إلى عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) قال: (والذي
نفسي بيده لو اتبعوا آثار قدَمَيه لدخلوا الجنّة أجمعين).
(خبر آخر):
قيل لمّا آخى الله سبحانه وتعالى بين الملائكة، آخى بين جبرئيل وميكائيل، فقال
سُبحانه وتعالى: (إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر الآخر فأيّكما يؤثر أخاه بالحياة دون نفسه؟ فاختار كلّ منهما
الحياة، فقال: عزّ وجل أفلا تكونان مثل عليّ بن أبي طالب حيث آخيت بينه وبين حبيبي
محمّد وقد آثره بالحياة على نفسه في هذه الليلة، وقد بات على فراشه يفديه بنفسه
اهبطا فاحفظاه من عدوّه فهبطا إلى الأرض، فجلَس جبرئيل (عليه السلام) عند رأسه
وميكائيل (عليه السلام) عند رجليه وهما يقولان: بخٍ بخٍ
لك يا ابن أبي طالب مَن مثلك وقد باهى الله تعالى بك ملائكة السموات
وفاخر بك).
(خبرٌ آخر):
عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) قال كنت عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) في بعض غزواته، فمررنا بوادٍ مملوء نملاً فقلت: يا أمير المؤمنين:
ترى يكون أحد من خلق الله تعالى يعلَم كم عدد هذا قال: (نعم يا عمّار، أنا أعرف
رجلاً يعلم عدده وكم فيه ذكَر وكم فيه أُنثى)، فقلت: من ذلك الرجل يا مولاي؟ فقال:
(يا عمّار أما قرأت في سورة يس: (وَكُلَّ
شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)؟)،
فقلت: بلى يا مولاي، فقال: (أنا ذلك الإمام المبين).
(خبرٌ آخر): قيل
جاءت فاطمة إلى أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي باكية فقال: (يا يبكيك يا قرّة عيني لا أبكى لك
الله عيناً)، قالت: يا أبتي إنّ نساء قريش يعرنني ويقلن إنّ أباك زوّجك بفقيرٍ لا
مال له، فقال (صلّى الله عليه وآله): (يا فاطمة، اعلمي
أنّ الله اطلع على الأرض اطّلاعةً فاختار منها أباك،
ثمّ اطلع اطّلاعةً ثانية فاختار منها بعلك ابن عمّك ثمّ
أمرني أنْ أُزوّجك به، أفلا ترضين أنْ تكوني زوجة من اختاره الله وجعله لك بعلاً)،
فقالت (عليها السلام): (رضيت وفوق الرضا يا رسول الله صلّى الله عليك).
(خبر آخر)
وعن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: ّ(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، قال: نزلت في محمّد وأهل بيته، حين
جمع عليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ثمّ أدار عليهم الكساء وقال:
(اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم)، وكانت أمّ سلمة قائمة في
الباب فقالت: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنا
منهم؟ فقال لها: (يا أُمّ سلمة أنت على خير، أنت على خير).
(وعن إبراهيم بن مهران)
أنّه قال: كان في الكوفة رجلٌ تاجر يكنّى بأبي جعفر، وكان حسَن المعاملة مع الله
تعالى ومَن أتاه من العلويّين يطلب منه شيئاً أعطاه ويقول لغلامه: اكتب هذا ما أخذ
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبقي على ذلك زماناً، ثمّ قعد به الوقت وافتقر
فنظر يوماً في حسابه فجعل كلّ ما هو عليه اسم حيّ من غرمائه بعث إليه يطالبه، ومَن
مات ضرب على اسمه فبينا هو جالس على باب داره إذ مرّ به رجل فقال: ما فعل بمالك
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟!
فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً ودخَل منزله،
فلمّا جنّه الليل رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وكان الحسن والحسين عليهما السلام يمشيان أمامه، فقال لهما النبيّ (صلّى الله عليه
وآله): (ما فعل أبوكما؟) فأجابه عليّ (عليه السلام) مِن
ورائهما: (ها أنا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله))،
فقال له: (لم لا تدفع إلى هذا الرجل حقّه؟)، فقال عليّ (عليه السلام): (يا رسول
الله، هذا حقّه قد جئت به)، فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(ادفعه إليه) فأعطاه كيساً من صوفٍ أبيض فقال: (إنّ هذا حقّك فخذه فلا تمنع مَن
جاء إليك مِن ولدي يطلب شيئاً؛ فإنّه لا فقر عليك بعد هذا)، قال الرجل: فانتبهت
والكيس في يدي فناديت زوجتي وقلت لها: هاكِ فناولتها الكيس وإذا فيه ألف دينار
فقالت لي: يا ذا الرجل اتقّ الله تعالى، ولا يحملك الفقر على أخذ مالا تستحقّه،
وإنْ كنت خدعت بعض التجّار على ما به فاردده إليه
فحدّثتها بالحديث فقالت: إنْ كنت صادقاً فارني حساب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
فأحضَر الدستور وفتحه فلَم يجد فيه شيئاً من الكتابة بقدرة الله تعالى.
(خبر آخر)
عن عبد الله بن عبّاس أنّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (حبّ عليّ (عليه السلام) حسنة لا تضرّ معها سيّئة،
وبغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة)، وعنه (صلّى الله عليه وآله)
قال: (خُلقت أنا وعليّ من نورٍ واحد فمحبّي محبّ عليّ ومبغضي مبغض عليّ).
(وعن ابن عبّاس (رضي الله عنه))
برواية عكرمة مولاه قال: مررنا بجماعة وقد أخذوا في سبّ عليّ (عليه السلام) فقال
لي مولاي عبد الله بن عبّاس: أدنني من القوم، فأدنيته منهم فقال (رضي الله عنه):
يا قوم، من الساب لله تعالى؟ فقالوا: معاذ الله يا ابن عمّ رسول الله، فقال: مَن
الساب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقالوا: ما
كان ذلك، قال فمن الساب لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ قالوا: كان ذلك.
فقال: والله لقد سمِعت رسول الله بأُذني
هاتين وإلاّ صُمّتا أنّه قال: (مَن سبّ عليّاً فقد سبّني، ومَن سبّني فقد سبّ الله
تعالى، ومَن سبّ الله تعالى ألقاه على منخريه في النار)،وقال النبيّ (صلّى الله
عليه وآله): (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها فمَن أراد
المدينة فليأت الباب)، قيل دخل أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو في منزل أُمّ
سلمة، ورأسه في حِجر جبرئيل وهو في صورة دحية الكلبي، فسلّم وجلَس فقال له جبرئيل:
(وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين خذ رأس ابن عمّك وضعه في حِجرك
فأنت أولى به منّي) فأخذ رأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
ووضعه في حِجره فاستيقظ رسول الله فرأى رأسه في حِجر ابن عمّه عليّ (عليه السلام)
فقال له: (يا عليّ وأين الرجل الذي كان رأسي في حِجره؟)، فقال له: (يا رسول الله،
ما رأيت إلاّ دحية الكلبي)، قال له: (ما قال لك عند دخولك؟)، فقال: (لمّا دخلت
سلّمت عليه فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين) قال: (هنيئا لك يا عليّ فإنّه
الروح الأمين، أخي جبرئيل وهو أوّل من سلّم عليك بإمرة المؤمنين).
وعنه (عليه السلام) قال: (دعاني رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) ذات ليلة من الليالي وهي
ليلة مدلهمّة سوداء، فقال لي: خذ سيفك ومرّ في جبل أبي قُبيس فكلّ مَن رأيته
فاضربه على رأسه بهذا السيف ققصدت الجبل فلمّا علوته
وجدت عليه رجلاً أسود هائل المنظر كأنّ عينيه جمرتان فألهاني منظرة فقال: إليّ يا
علي، إليّ يا عليّ فدنوت إليه وضربته بالسيف فقطعته نصفين فسمِعت الضجيج من بيوت
مكّة بأجمعها، ثم أتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وهو بمنزل خديجة فأخبرته بالخبَر فقال: أتدرى من قتلت يا علي؟ قلت: الله ورسوله
أعلم، قال قتلت اللاّت والعزّى والله لا عادت تُعبد بعدها).
وعنه (عليه السلام) قال: (دعاني رسول
الله وهو بمنزل خديجة (رضي الله عنها) ذات ليلة، فلمّا صرت إليه قال: اتبعني يا
عليّ، فما زال يمشي وأنا خلفه ونحن نخرق دروب مكّة حتى أتينا الكعبة وقد أنام الله
تعالى كل عين، فقال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
يا عليّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: اصعد على كتفي، ثمّ انحنى النبيّ فصعدت على
كتفه فقلبت الأصنام على رؤوسها ونزلت وخرجنا من الكعبة حتى أتينا منزل خديجة (رضي
الله عنها)، فقال لي: أوّل من كسر الأصنام جدّك إبراهيم (عليه السلام) ثمّ أنت يا
علي، آخر من كسر الأصنام).
فلمّا أصبح أهل مكّة وجدوا الأصنام
منكوسة مكبوتة على رؤوسها، فقالوا: ما فعل هذا بآلهتنا إلاّ محمد وابن عمّه، ثمّ
لم يقم في الكعبة صنم).
(وقيل): دخل ضرار صاحب أمير المؤمنين
عليّ (عليه السلام) على معاوية ابن أبي سفيان بعد وفاته (عليه السلام) فقال معاوية
لضرار صف لي عليّاً وأخلاقه الرضية، فقال: والله كان شديد القوى بعيد المدى يتفجّر
الإيمان من جوانبه وتنطق الحمكة من نواحي لسانه، فيقول
فصلاّ ويحكم عدلاً، فأُقسم بالله فقد شاهدته في محرابه وقد أرخى الليل سدوله وهو
قائمٌ قابض على لحيته يتمَلْمَل تململ السليم، ويئنّ أنين الحزين ويقول: (يا دنيا
إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت فغرّي غيري لا حان حينك، أجلك قصير وعيشك حقير، في
قليلك حساب وفي كثيرك عقاب، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، آه من بُعد الطريق
وقلّة الزاد)، فقال معاوية: كان عليّ والله لكذلك، فكيف
حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن المرأة إذا ذُبِح ولدها في حِجرها، قال: فلمّا سمع
معاوية بكى وبكى الحاضرون.
(وقيل): إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبى
طالب (عليه السلام) صعد المنبر يوماً في البصرة بعد الظفَر بأهلها وقال: (أقول
قولاً لا يقوله أحدٌ غيري إلاّ كان كافراً، أنا اخو نبيّ
الرحمة وابن عمّه وزوج ابنته وأبو سبطيه)، فقام إليه رجل من أهل البصرة وقال: أنا
أقول مثل قولك هذا، أنا أخو الرسول وابن عمّه ثمّ لم يتمّ كلامه حتى أخذته الرجفة
فما زال يرجف حتى سقط ميّتاً لعنه الله.
وعنه (عليه السلام) أنّه كان ذات يوم
على منبر البصرة، إذ قال: (أيّها الناس، سلوني قبل أنْ تفقدوني، سلوني عن طُرق السموات فإنّي أعرف بها من طُرق الأرض)، فقام إليه رجل مِن
وسَط القوم وقال: أين جبرئيل في هذه الساعة فرمَق بطرفه إلى السماء ثمّ رمق بطرفه
إلى المشرق ثمّ رمَق بطرفه إلى المغرب فلَم يجد موطناً فالتفت إليه وقال: (يا ذا
الشيخ، أنتَ جبرئيل)، قال فصفَق طائراً من بين الناس فضجّ عند ذلك الحاضرون
وقالوا: نشهد أنّك خليفة رسول الله حقّاً.
(وعن مقاتل بن سليمان) قال: قال جعفر بن
محمّد الصادق (عليه السلام): (كان وصيّ آدم (عليه السلام) شيت بن آدم هِبة الله،
وكان وصيّ نوح سام وكان وصيّ إبراهيم إسماعيل، وكان وصيّ موسى يوشع بن نون، وكان
وصيّ داود سليمان، وكان وصيّ عيسى شمعون وكان وصيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو خير الأوصياء).
حدثنا محمّد بن عبد الجبّار العطّار
مرفوعاً عن زيد بن الحارث، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم التميمي، عن أبيه عن أبي
ذر الغفاري قال: بينما أنا بين يدي رسول الله إذ قام ثمّ ركَع وسجَد شكراً لله
تعالى، ثمّ قال: (يا جندب، مَن أراد أنْ ينظر إلى آدم في عِلمة وإلى نوح في فهمه
وإبراهيم في خلّته وموسى في مناجاته وعيسى في سياحته وأيّوب في صبره ببلائه،
فلينظر إلى هذا الرجل المُقبل الذي هو الشمس والقمر الساري والكوكب الدرّي، أشجع
الناس قلباً وأسخاهم كفّاً، فعلى مبغضه لعنة الله
تعالى)، قال: فالتفت الناس لينظروا مَن هو المقبل وإذا بعليّ بن أبى طالب (عليه
السلام).
قال: حدّثنا أبو عبد الله الحسين بن
أحمد المدايني قال: حدّثني عبد الله ابن هاشم، عن
الكلبي قال: أخبرني ميمون بن صعب المكّي بمكّة قال: كنّا عند أبي العبّاس بن سابور
المكّي فأجرينا حديث أهل الردّة بذكرنا خولة الحنفية، ونكاح أمير المؤمنين (عليه
السلام) لها، فقال: أخبرني أبو الحسن عبد الله بن أبى الخير الحسيني قال: بلغني
أنّ الباقر محمّد بن عليّ كان جالساً ذات يوم إذ جاءه
رجلان فقالا: يا أبا جعفر ألستَ القائل إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب لم
يرضَ بإمامة من تقدّم؟
قال: بلى، فقالا له: هذه خولة الحنفيّة
نكحها مِن سبيهم وقبل هديّتهم ولَم يُخالفهم عن أمرهم مدّة حياتهم، فقال الباقر:
(مّن فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله بن حزام؟)، (وكان محجوباً قد كُفّ بصره) فحضر
فسلّم على الباقر وأجلسه إلى جانبه وقال: (يا جابر، عندي رجلان ذكرا أنّ أمير
المؤمنين عليّ ابن أبي طالب رضي بإمامة مَن تقدّم عليه)، فسألهما الحجّة في ذلك
فذكروا له خولة فبكى جابر حتى أخضلّت لحيته بالدموع ثمّ قال: والله يا مولاي لقد
خشيت أخرج من الدنيا ولا أُسأل عن هذه المسألة، وأنّي والله كنت جالساً إلى جانب
أبي بكر وقد سبّوا بني حنيفة بعد قتل مالك بن نويرة من قِبل خالد بن الوليد،
وبينهم جارية مراهقة، فلمّا دخَلَت المسجد قالت: أيّها الناس ما فعل محّمد (صلّى
الله عليه وآله)؟ قالوا: قُبِض، فقالت: هل له بنية
تُقصَد؟ فقالوا: نعم هذه تربته (صلّى الله عليه وآله)
فنادت السلام عليك يا رسول الله، اشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّك عبده
ورسوله، وأنّك تسمع كلامي وتقدر على ردّ جوابي وأنّنا سُبينا مِن بعدك ونحن نشهد
أنْ لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، ثمّ جلست فوثب رجلان من المهاجرين والأنصار
أحدهما طلحة والآخر الزبير فطرحا ثوبيهما عليها، فقالت:
ما بالكم يا معاشر العرب تصونون حلائلكم
وتهتكون حلائل غيركم؟! فقالا لها: لمخالفتكم الله ورسوله حتى قلتم: إنّنا نزكّي
ولا نصلّي أو نصلّي فلا نزكّي، فقالت لهما: والله ما قالها أحد من بني حنيفة،
وإنّا نضرب صبياننا على الصلاة من التسع وعلى الصيام من
السبع، وأنّا لنخرج الزكاة من حيث يبقى في جمادى الآخرة عشرة أيّام ويوصي مريضنا
بها لوصيّة والله، يا قوم ما نكثنا ولا غيّرنا ولا بدّلنا حتى تقتلوا رجالنا
وتسبوا حريمنا، فإنْ كنت يا أبا بكر بحق فما بال عليّ لم يكن سبقك علينا وإنْ كان
راضياً بولايتك فلِم لا تُرسله إلينا يقبض الزكاة منّا ويسلّمها إليك، والله ما
رضي ولا يرضى، قتلت الرجال ونهَبت الأموال وقطعت الأرحام فلا نجتمع معك في الدنيا
ولا في الآخرة افعل ما أنت فاعله، فضجّ الناس وقال الرجلان اللذان طرحا ثوبيهما
إنّا لمغالون في ثمنك فقالت: أقسمت بالله وبمحمّد رسول
الله أنّه لا يملكني ويأخذني إلاّ مَن يخبرني بما رأت أُمّي وهي حامل بي، وأيّ شيء
قالت لي عند ولادتي؟ وما العلامة التي بيني وبينها؟
وإلاّ فإنْ ملكني أحد ولم يخبرني بذلك
بقرت بطني بيدي فيذهب ثمني ويكون مطالباً بدمي، فقالوا لها: أبدي رؤياك التي رأت
أُمّك وهي حامل بك حتى نُبدي لك العبارة بالرؤيا، فقالت الذي يملكني هو اعلم
بالرؤيا منّي وبالعبارة من الرؤيا فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلَسا، فدخل أمير
المؤمنين وقال: (ما هذا الرجف في مسجد رسول الله؟) قالوا: يا عليّ، امرأة من بني
حنيفة حرّمت نفسها على المؤمنين، وقالت: مَن أخبرني بالرؤيا التي رأت أُمّي وهي
حامل بي ووعدها لي فهو يملكني فقال أمير المؤمنين: (ما ادعت باطلاً اخبروها
تملكوها)، فقالوا: يا أبا الحسن ما فينا مَن يعلم الغيب أما علِمت أنّ ابن عمّك
رسول الله قُبِض وأنّ أخبار السماء انقطعت من بعده؟!
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما
ادعت باطلاً أُخبرها أملكها بغير اعتراض)، قالوا: نعم، فقال (عليه السلام): (يا
حنيفة، أُخبرك أملكك)، فقالت: من أنت أيّها المجتري دون
أصحابه؟ فقال: (أنا عليّ بن أبي طالب)، فقالت: لعلّك الرجل الذي نصّبه لنا رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) صبيحة يوم الجمعة، بغدير خم
علَماً للناس؟ فقال: (أنا ذلك الرجل)، قالت: من أجلك أُصبنا ومِن نحوك أُوتينا؛
لأنّ رجالنا قالوا: لا نسلّم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلاّ إلى مَن نصّبه
محمّد (صلّى الله عليه وآله) فينا وفيكم علماً، فقال
أمير المؤمنين: (إنّ أجركم غير ضائع، وأنّ الله تعالى يُؤتي كلّ نفس ما أتَت من
خير، ثمّ قال: يا حنفية، ألم تحمل بك أُمّك في زمان قحط مَنعت السماء قطرها والأرض
نباتها وغارت العيون حتى أنّ البهائم كانت تريد المرعى فلا تجد، وكانت أُمّك تقول:
إنّك حملٌ ميشوم في زمانٍ غير مبارك، فلمّا كان بعد
تسعة أشهر رأت في منامها كأنْ وضعتك وأنّها تقول: إنّك حمل ميشوم
وفي زمان غير مبارك، وكأنك تقولين: يا أُمّي لا تطّيرين بي فأنا حملٌ مبارك نشوت نشواً صالحاً ويملكني سيّد وأُرزق منه ولداً يكون لبني
حنيفة عزّاً)، فقالت: صدقت يا أمير المؤمنين، فإنّه كذلك، فقال: (وبه أخبرني ابن
عمّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)).
فقالت: ما العلامة بيني وبين أُمّي؟
فقال: (إنّها لمّا وضعتك كتَبَت كلامك والرؤيا في لوحٍ من نحاس وأودعته عتبة الباب
فلمّا كان بعد حولين عرضته عليك فأقررت به فلمّا كانت
ثمان سنين عرضَت عليك فأقررت به ثمّ جمعت بينك وبين
اللوح فقالت لك: يا بنية، إذا نزل بساحتكم سافكٌ لدمائكم ناهبٌ لأموالكم سابٍ
لذراريكم وسُبيت فيمن سُبى فخذي اللوح معك واجتهدي أنْ لا يملكك من الجماعة إلاّ
مَن يخبرك بالرؤيا بما في هذا اللوح)، قالت: صدقت يا أمير المؤمنين فأين اللوح قال
(في عقيصتك)، فعند ذلك دفَعت اللوح إلى أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه
السلام) ثمّ قالت: يا معاشر الناس، اشهدوا أنّي قد جعلت نفسي له عبدة، فقال (عليه
السلام): (بل قولي زوجة)، فقالت: اشهدوا أنّي قد زوجت نفسي كما أمرني بعليّ (عليه
السلام)، فقال (عليه السلام): (قد قبلتك زوجةً) فماج الناس فقال جابر: والله يا
أبا جعفر ملَكها بما ظهر من حجّة و تبيّن مِن بيّنته فلَعَن الله تعالى مَن اتضح
له الحق وجعل بينه وبين الحق ستراً.
وعن عبد الله بن عبّاس (رضي الله عنه)
قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (علّمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف باب من العِلم، ففتح لي من كل باب ألف باب)، قال
فبينما أنا معه (عليه السلام) بذي قار وقد أرسل ولده الحسن (عليه السلام) إلى
الكوفة ليستنفر أهلها فيستعين بهم على حرب الناكثين من أهل البصرة، إذ قال لي: (يا
بن عبّاس)، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: (فسوف يأتي ولدي الحسن من هذه الكور
ومعه عشرة آلاف فارس وراجل لا يزيد فارس ولا ينقص فارس)، قال ابن عبّاس (رضي الله
عنه): فلمّا طالعنا الحسَن بالجند لم يكن لي هَم إلاّ مسائلة الكاتب عن كمّية الجند
فقال لي: عشرة آلاف فارس وراجل، قال: فعلمت أنّ ذلك من تلك الأبواب التي علّمه بها
رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(وقيل) لمّا ماتت فاطمة بنت أسد والدة
أمير المؤمنين (عليه السلام) أقبل عليّ (عليه السلام) وهو باك فقال له النبيّ: (ما
يبكيك لا أبكى الله لك عينا؟)، قال: (توفيت أُمّي يا رسول الله)، فقال له النبيّ
(صلّى الله عليه وآله): (بل وأُمّي يا عليّ فلقد كانت
تجوّع أولادها وتشبعني وتشعث أولادها وتدهنني، والله لقد كانت في دار أبي طالب
نخلة وكنّا نتسابق إليها من الغداة لنلتقط ما يقَع منها في الليل وكانت (رضي الله
عنها) تأمر جاريتها وتلتقط ما تحتها من الغلس ثمّ تجنيه فيخرج بنو عمّي فتناولني
ذلك).
ثمّ نهض (صلّى الله عليه وآله) وأخذ في جهازها وكفَنها بقميصه (صلّى الله عليه وآله) وكان في حال تشييع جنازتها يرفع قدماً ويتأنّى بين
الآخر وهو حافي القدَم فلمّا صلّى عليها كبّر سبعين تكبيرة، ثمّ وسّدها في اللحد
بيده الكريمة بعد أنْ نام في قبرها ولقّنها الشهادتين فلمّا أُهيل عليها التراب
وأراد الناس الانصراف جعل يقول (صلّى الله عليه وآله):
(ابنك ابنك لا جعفر ولا عقيل عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام))، فقالوا له: يا رسول الله، فعلت فعلاً ما رأينا قط مثله مشيت متأنّيا
حافي القدّم وكبّرت سبعين تكبيرة، ونمت في لحدها وجعلت قميصك عليها، وقلت لها:
ابنك ابنك لا جعفر ولا عقيل فقال (صلّى الله عليه وآله): (أمّا التأنّي في وضع أقدامي في حال تشييع الجنازة
فلكثرة ازدحام الملائكة، وأمّا نومي في لحدها فإنّي ذكرت لها في حال حياتها ضغطة
القبر فقالت: واضعفاه فنمت في لحدها لأجل ذلك حتى كفيتها ذلك، وأمّا تكفينها
بقميصي فإنّي ذكرت لها القيامة وحشر الناس عراة، فقالت، وافضيحتاه
فكفنّتها به لتقوم يوم القيامة، وأمّا قولي لها ابنك فإنّه نزل الملكان وسألاها عن
ربّها فقالت: الله ربّي وقالا لها: من نبيك؟ فقالت: محمّد وقالا لها: مَن وليّك
وإمامك فاستحيت أنْ تقول ولدي فقلت: لها قولي ولدك عليّ بن أبى طالب ابنك ابنك فأقرّ الله تعالى بذلك عينها).
وقيل كان مولانا أمير المؤمنين (عليه
السلام) يخرج من الجامع بالكوفة فيجلس معه ميثم التمّار (رضي الله عنه) يحادثه
فقال له ذات يوم: (ألا أُبشّرك يا ميثم، أنْ أُريك الموضع الذي تُصلَب فيه والنخلة
التي تعلّق على جذعها؟)، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فجاء به إلى رحبة الصيارفة
وقال له ههنا ثمّ أراه نخلة وقال له: (يا ميثم على جذع هذه) فما زال ميثم (رضي
الله عنه) يتعاهد النخلة حتى قُطِعت وشُقّت نصفين فسُقِف بنصف منها وبقي النصف
الآخر، فما زال يتعاهد النصف في الموضع ويقول لبعض جوار الموضع: يا فلان إنّي
مجاورك عن قريب فأحسن جواري، فيقول ذلك في نفسه: يريد أنْ يشترى داراً في جواري، ولا
يعلم ما يُريد بقوله حتى قُبِض أمير المؤمنين (عليه السلام) وظفَر معاوية بأصحابه
فأخذ ميثم التمّار فيمن أخذ فأمر معاوية بصلبه فصُلِب على تلك الخشبة في ذلك
المكان، فلمّا رأى ذلك الرجل أنّ ميثم قد صُلِب في جواره قال: إنّا الله وإنّا
إليه راجعون، ثمّ أخبر الناس بقصّة ميثم وبما قال له في حال حياته، وما زال ذلك
الرجل يكنس تحت تلك الخشبة ويبخّرها ويصلّي عندها ويكرّر الرحمة عليه.
(وممّا رواه ابن عبّاس) أنّه قال: كنت
في مسجد رسول الله وقد قرأ القارئ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ) فقلت:
يا رسول الله، ما البيوت فقال (صلّى الله عليه وآله):
(بيوت الأنبياء (عليهم السلام))، وأومأ بيده إلى بيت فاطمة الزهراء (عليها
السلام).
(وعنه (رضي الله عنه)) قال: أقبل عليّ
بن أبي طالب (عليه السلام) إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)،
فقالوا له: يا رسول الله، جاء أمير المؤمنين، فقال (صلّى الله عليه وآله):
(إنّ عليّاً سمّي بإمرة المؤمنين قبلي)،
فقيل قبلك يا رسول الله؟ فقال: (وقبل موسى وعيسى)، قالوا: وقبل موسى وعيسى يا رسول
الله؟ قال (وقبل سليمان بن داود) ولم يزل يعد الأنبياء كلّهم إلى آدم ثمّ قال
(صلّى الله عليه وآله): (إنه لما خلق الله آدم طينا
خلَق بين عينيه ذرّة تسبّح الله وتقدّسه.
فقال: عزّ وجل لأسكنك رجلاً أجعله أمير
الخلق أجمعين، فلمّا خلق الله تعالى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أسكن الذرّة
فيه فسمّي أمير المؤمنين قبل خلق آدم).
(وقال أمير المؤمنين) لمّا بايعه
الملعون عبد الرحمان بن ملجم قال له: (إنّك غيور في بيعتي ولتخضبنّ هذه من هذا)
وأشار إلى كريمته ورأسه، فلمّا هلّ شهر رمضان جعل يفطر ليلة عند الحسَن وليلة عند
الحسين، فقال في بعض الليالي: كم مضى من الشهر؟ فقالا له: كذا وكذا يوماً، فقال
لهما: (في العشرة الآخرة تفقدان أباكما فكان كما قال (ع)).
ومن فضائله (عليه السلام) أنّه لمّا سار
إلى صفّين أعوز أصحابه الماء فشكَوا إليه الماء، فقال: (سيروا في هذه البرّية
واطلبوا الماء)، فساروا يميناً وشمالاً وطولاً وعرضاً فلَم يجدوا ماءً فوجدوا صومعة وبها راهب فنادوه وسألوه عن الماء فذكر
أنّه يُجلب إليه في كلّ أُسبوع مرّة واحدة فرجعوا إلى أمير المؤمنين فأخبروه بما
قال الراهب، فقال (عليه السلام): (الحقوا بي)، ثمّ سار غير بعيد، فقال: (احفروا
هاهنا)، فحفروا فوجدوا صخرةً عظيمةً، فقال: (اقلبوها تجدوا تحتها الماء)، فتقدّم
إليها أربعون رجلاً فلَم يُحرّكوها، فقال (عليه السلام): (إليكم عنها)، فتقدّم
وحرّك شفتيه بكلامٍ لم يُعلَم ما هو ثمّ دحاها بالهواء ككرةٍ في الميدان، فقال
الراهب وهو ينظر إليه، (وقد أشرف عليه): من أين أنت يا فتى؟ فنحن أُنزِل في كتابنا
إنّ هذا الدير بنيَ على البئر والعين وأنّها لا يظهر إلاّ نبيّ أو وصيَّ نبيّ فأيّهما أنت، فقال: (أنا وصيّ خير الأنبياء، أنا وصيّ سيّد
الأنبياء، أنا وصيّ خاتم الأنبياء، ابن عمّ قائد الغرّ المُحجّلين أنا عليّ بن أبي
طالب أمير المؤمنين).
قال: فلمّا سمع الراهب نزَل من الصومعة
وخرَج ومشى وهو يقول: مدّ يدك فأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول
الله، وأنّ عليّ بن أبي طالب وصيّه وخليفته من بعده، قال: ثمّ شرب المسلمون من
العين وماؤها أبيض من الثلج وأحلا من العسَل فرووا منه وسقوا خيولهم وملؤوا رواياهم ثمّ أعاد صلوات الله عليه وآله
الصخرة إلى موضعها، ثمّ ارتحل من نحوها إلى ديارهم.
قال: أخبرنا الواقدي عن جابر عن سلمان
الفارسي (رضي الله عنه) قيل: جاء إلى عمر بن الخطّاب غلام يافع فقال له: إنّ أُمّي
جحدَت حقّي من ميراث أبي وأنكرتني وقالت: لست بولدي فأحضرها وقال لها: لم جحدت
ولدَك هذا وأنكرتي وقالت: إنّه كاذب في زعمه، وليَ شهود
بأنّي بكرٌ عاتق ما عرفت بعلاً وكانت قد رشَت سبعة نفَر كلّ واحد بعشرة دنانير
وقالت لهم: اشهدوا بأنّي بكرٌ لم أتزوّج ولا أعرف بعلاً، فقال لها عمر بن الخطّاب:
أين شهودك فأحضرتهم بين يديه فقال بمَ تشهدون؟ فقالوا له: نشهد أنّها بكرٌ لم
يمسّها ذكَر ولا بعل.
فقال الغلام: بيني وبينها علامة أذكرها
لها عسى تعرف ذلك، فقال: قل ما بدا لك، فقال الغلام: فإنّه كان والدي في سعد بن
مالك، فقال له الحارث المزني وأنّي رُزقت في عامٍ شديد المحل وبقيت عامين كاملين
أرضع شاة، ثمّ أنّني كبرت وسافر والدي مع جماعة في تجارة فعادوا ولم يعد والدي
معهم، فسألتهم عنه فقالوا: إنّه درج فلمّا عرفَت والداتي الخبَر أنكرتني وقد
أخرتني الحاجة، فقال عمر: هذا مشكل لا يحلّه إلاّ نبي أو وصيّ نبيّ فقوموا بنا إلى
أبي الحسن عليّ (عليه السلام) فمضى الغلام وهو يقول: أين منزل كاشف الكروب أين
خليفة هذه الأُمّة؟ فجاؤوا به إلى منزل عليّ بن أبي طالب كاشف الكروب، ومحلّ
المشكلات، فوقف هناك يقول: يا كاشف الكروب عن هذه الأُمّة، فقال له الإمام: (ومالك
يا غلام؟)، فقال: يا مولاي أُمّي جحدتني حقّي وأنكرتني وزعمَت أنّي لم أكن ولدها،
فقال الإمام (عليه السلام): (أين قنبر؟) فأجابه:لبّيك
يا مولاي، فقال له: (امض واحضر المرأة إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله))، فمضى قنبر وأحضرها بين يدَي الإمام فقال لها: (ويلك
لِم جحدت ولدك؟)، فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بِكر ليس لي ولَد ولم يمسّني بشَر.
فقال لها: (لا تعدلي الكلام بابن عمّ
بدر التمام، ومصباح الظلام)، قالت: يا مولاي، احضر قابلة تنظرني أنا بكرٌ عاتق أم
لا فأُحضرَت فلمّا خلَت بها أعطتها سواراً كان في عضدها وقالت لها: اشهدي بأنّي
بكر فلمّا خرجَت مِن عندها قالت له: يا مولاي إنّها بكر، فقال (عليه السلام):
(كذبَت العجوز يا قنبر، عرّ العجوز وخُذ منها السوار)، قال قنبر: فأخرجته مِن
كتفها فعند ذلك ضجّ الخلايق فقال الإمام (عليه السلام):
(اسكتوا فأنا عيبة علم النبوّة)، ثمّ أحضر الجارية وقال لها: (يا جارية، أنا زين
الدين أنا قاضي الدين، أنا أبو الحسن والحسين (عليه السلام) إنّّي أُريد أنْ
أُزوّجك من هذا الغلام المدّعي عليك أفتقبلينه منّي
زوجاً؟) فقالت: لا يا مولاي، أتبطل شرع محمّد (صلّى الله عليه وآله)؟
فقال لها: بماذا؟ فقالت: تزوّجني بولدي
كيف يكون ذلك؟ فقال الإمام: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً لِم لا
يكون هذا منك قبل هذه الفضيحة؟)، فقالت: يا مولاي خشيت على الميراث، فقال لها
(عليه السلام): (استغفري الله تعالى وتوبي إليه) ثمّ أنّه (عليه السلام) أصلح
بينهما وألحق الولد بوالدته وبإرث أبيه وصلّى الله على محمّد وآله.
خبر ضرب الماء
وممّا روي عنه (عليه السلام) أنّه كان
جالساً في جامع الكوفة إذ أتوه جماعة من أهل الكوفة، فشكوا إليه زيادة الفرات
وطغيان الماء فنهض (عليه السلام) وقصد الفرات حتى وقَف بموضع يُقال باب المروحة
وأخذ القضيب بيده اليمنى وحرّك شفتيه بكلامٍ لا يفهمه أحد، وضرب بالقضيب الماء
ضربة فهبط نصف ذراع فقال لهم: (يكفى هذا؟)، فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ثمّ ضرب
ثانية فهبط نصف ذراع آخر فقال لهم: (يكفي هذا؟)، فقالوا: لا يا أمير المؤمنين،
فقال بكلامٍ لا نعرفه وضربه ثالثة فنقص ذراعاً آخر، فقال: (يكفي هذا؟)، فقالوا:
نعم يا أمير المؤمنين، فقال: (والذي فلق الحبّة وبرئ النسمة لو شئت لأبنت لكم
الحيتان في قراره)، وهذه فضيلة لا يقدر عليها أحد ونقل مثلها عن غيره (عليه
السلام).
وممّا رويَ أنّ رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) كان يقول: (تفوح روائح الجنّة من قبل قَرن
الشمس وا شوقاه إليك يا أويس القرني، ألا مَن لقيه
فليقرأه عنّي السلام)، فقيل: يا رسول الله ومَن أُويس القرني؟ فقال (صلّى الله
عليه وآله): (إنْ غاب لم يتفقّدوه وإنْ ظهر لم يكترثوا له، يدخل في شفاعته إلى الجنّة مثل ربيعة ومضر آمن بي
وما رآني ويُقتل بين يدي خليفتي أمير المؤمنين في صفّين).
(قال ابن شاذان) تأمّل أيّها الطاعن
بقلبك وانظر بعينك هذه الآيات التي خصّه الله بها والمعجزات التي شرّف الله بها
هذا الإمام وجعلها دالّة عليه وهدايته إليه (ليهلك مَن هلَك عن بيّنة ويَحيي مَن حيى عن بيّنة).
ومّما روي من فضائله (عليه السلام):
من حديث المقدسي ما يغني سامعه عمّا سِواه، وهو ما حُكي لنا أنّه كان رجل من أهل
بيت المقدس ورَد إلى مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
وهو حسَن الثياب مليح الصورة، فزار حجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقصد المسجد ولم يزَل ملازماً له مشتغلاً بالعبادة صائم
النهار قائم الليل وذلك في زمان عمر بن الخطّاب حتى رؤي أعبد الخلق، والخلق
يتمنّون أنْ يكونوا مثله، وكان يأتي إليه ويسأله حاجة فيقول المقدسي: الحاجة إلى
الله تعالى ولم يزَل على ذلك حتى عزَم الناس على الحج فجاء المقدسي إلى عمر وقال
له: يا أبا حفص قد عزَمت على الحج ومعي وديعة أحب أنْ تستودعها منّي إلى حين عودي
من الحج، فقال له عمر: هات الوديعة فأحضَر حقّة مِن عاج عليها قفل مِن حديد مختوم
بخاتم الشاب فتسلمه عمر وخرج الشاب مع الوفد، وخرج عمر معه إلى الوفد وقال
للمتقدّم على الوفد أوصيك بهذا الشاب وعليك به خيراً فرجع عمر، وكان في الوفد
امرأة من الأنصار مازالت تلاحظ المقدسي وتنزل بقربه حيث نزل، فلمّا كان في بعض
الأيّام دنت منه وقالت: يا شاب إنّي أرقّ لهذا الجسم الناعم المترف كيف بلبس الصوف؟
فقال لها: هذا جسم يأكله الدود ومصيره التراب هذا له كثير، فقالت: إنّي أغار على
هذا الوجه المضيء كيف تشعثه الشمس؟ فقال لها: يا هذه
اتقي الله وكفى فقد اشغلني كلامك عن عبادة ربّي، فقالت له: لي إليك حاجة فإنْ
قضيتها فلا كلام، وإنْ لم تقضها لي فما أنا بتاركتك حتى تقضيها لي، فقال لها: ما
حاجتك؟ قالت: حاجتي أنْ تواقعني فزجرها وخوّفها من الله
تعالى فلَم يردّها ذلك وقالت: والله لئن لم تفعل ما أمرتك به لأرمينّك بداهية من
دواهي النساء ومكرهنّ لا تنجوا منها.
فلم يلتفت ولم يعبأ بكلامهما، فلمّا كان
في بعض الليالي وقد سهر أكثر ليلته من عبادة ربّه ثمّ رقد في آخر الليل وغلب عليه
النوم، فاتته وتحت رأسه مزادة فيها زاده فنزعتها من تحت رأسه وطرحت فيها كيساً فيه
خمسمِئة دينار، ثمّ عادت بها إلى تحت رأسه فلمّا ثور الوفد قامت الملعونة وقالت:
يا لله ويا للوافد ويا وفد الله امرأة مسكينة وقد سُرِقت نفقتها ومالي إلاّ الله
وأنتم فجلس المتقدّم على الوفد وأمر رجالاً من الأنصار والمهاجرين أنْ يفتّشوا
رجال الأنصار والمهاجرين، ففتّشوا الفريقين فلَم يجدوا شيئاً، ولم يبقَ من الوفد
أحد إلاّ وفتّش رحله ولم يبقَ إلاّ المقدسي فأخبروا متقدّم الوفد بذلك.
فقال: يا مقدّم ما ضرّكم لو فتشتموه فله
أُسوة بالمهاجرين والأنصار وما يُدريكم أنْ يكون ظاهره مليحاً وباطنة قبيحاً، ولم
تزل المرأة حتى حملتهم على تفتيش رحله فقصده جماعة من الوفد وهو قائم يُصلّي،
فلمّا رآهم أقبل عليهم وقال لهم: ما بالكم وما خبركم؟ قالوا: هذه المرأة الأنصارية
ذكرت أنّها قد سُرق لها نفقة كانت معها، وقد فتّشنا رجال الوفد بأسرها ونحن لا
نتقدّم إلى رحلك إلاّ بإذنك؛ لِما سبق من وصيّة عمر بن الخطّاب فيما يعود إليك،
فقال: يا قوم، ما يضرّني ذاك فتّشوا ما أحببتم وهو واثق من نفسه، فأوّل ما نفضوا
المزادة التي فيها زاده وقَع منها الهميان فصاحت
الملعونة الله أكبر هذا والله كيسي ومالي وهو كذا دينار، وفيه عقدٌ لؤلؤ ووزنه كذا
وكذا مثقالاً، فاختبروه فوجدوه كما قالت الملعونة، فمالوا عليه بالضرب المُوجِع
والسبِّ والشتم وهو لا يُجيب جواباً فسلسلوه وقادوه راجلاً إلى مكّة، فقال لهم: يا
وفد الله بحق هذا البيت إلاّ ما تصدّقتم عليّ وتركتموني أقضي الحج وأشهد الله
تعالى ورسوله بأنّي إذا قضيت الحج عدت إليكم وتركت يدَي في أيديكم فأوقَع الله
الرحمة في قلوبهم فأطلقوه، فلمّا قضى مناسك الحجّ وما وجَب عليه من الفرائض عاد
إلى القوم وقال لهم: ها أنا عدت إليكم فافعلوا بي ما تريدون.
فقال بعضهم لبعض: لو أراد المفارقة لما
عاد إليكم اتركوه فتركوه فرجَع الوفد طالباً مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فأعوز تلك الملعونة زادها في بعض الطريق، فوجدت في بعض
الطريق راعياً فسألته الزاد فقال لها عندي ما تَريدين غير أنّي لا أبيعه فإنْ آثرت
أنْ تمكنيني مِن نفسك أعطيتك، ففعلت وأخذت منه زاداً فلمّا انحرفت عنه عرض لها
إبليس فقال لها: فلانة أنت حامل، قالت: ممّن؟ فقال لها من الراعي، فقالت: وا فضيحتاه، فقال لها: لا تخافي مع رجوعك إلى الوفد قولي لهم:
إنّي سمعت قراءة المقدسي فقربت منه فلمّا غلبني النوم
دنا منّي وواقعني، ولم أتمكّن من الدفع عن نفسي بعد
الفوات، وقد حملت منه وأنا امرأة من الأنصار وما معي جماعة من أهلي.
ففعلت الملعونة ما أشار عليها اللعين إبليس،
فلم يشكّوا في قولها لِما عاينوه أوّلاً من وجود المال في رحله، فعكفوا على الشاب
وقالوا له: يا هذا ما كفاك السرقة حتى فسقت فأوجعوه ضرباً وأوسعوه شتماً وسبّاً
وأعادوه إلى السلسلة وهو لا يردّ جواباً، فلمّا قربوا من المدينة على ساكنها
السلام خرَج عمر ومعه جماعة من المسلمين للقاء الوفد، فلمّا قربوا منه لم يكن لهم
إلاّ السؤال من الوفد عن المقدسي، فقالوا له: يا أبا حفص، ما أغفلك عنه وقد سرَق
وفسَق وقصّوا عليه القصّة، فأمر بإحضاره بين يديه وهو مسلسل، فقال: ويلك يا مقدسي،
أتُظهر خلاف ما يظنّ فيك حتى فضحك الله تعالى، والله لأنكّلنّ بك أشدّ نكال، وهو
لا يردّ جواباً، فاجتمع الخلق عليه وازدحم الناس إليه لينظروا ما يُفعل به، وإذا
بنورٍ قد سطع وشعاعٍ قد لمَع، فتأمّله الحاضرون وإذا به عَيبة علم النبوّة عليّ بن
أبى طالب فقال: (ما هذا الرهج في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله))، فقالوا له: يا عليّ الشاب المقدسي قد سرَق وفسَق،
فقال (عليه السلام): (والله ما سرَق ولا فسَق ولا حجّ أحدٌ غيره)، قال: فلمّا
أخبروا عمر قام قائماً فأجلسه مكانه فنظر إلى الشاب المقدسي مسلسلاً مطرقاً إلى
الأرض، والمرأة قائمة فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنا محلّ المشكلات،
وكاشف الكربات، ويلك قصّي عليّ قصّتك فأنا باب مدينة عِلم الرسول (صلّى الله عليه وآله))، فقالت: يا عليّ إنّ هذا الشاب سَرق مالي وقد شاهده
الوفد في مزادته، وما كفاه ذلك حتى كنت ليلة من الليالي قربت منه فاسترقني بقراءته واستنامني، ووثَب إليّ فواقَعني وما تمكّنت من المدافعة عن نفسي خوفاً من الفضيحة
وقد حملتُ منه، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): (كذبت يا ملعونة، فيما
ادعيت عليه.
يا أبا حفص، اعلم أنّ هذا الشاب مجبوب
ليس له إحليل وإحليله في حقّةٍ من عاج، ثمّ قال: يا مقدسي، أين الحقّة)، فعند ذلك
رفَع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي مَن أعلمك عن الحقّة فالتفت (عليه السلام)
إلى عمر وقال: (يا أبا حفص، قم هات وديعة هذا الرجل)، فأرسل عمر وأحضروا الحقّة
ففتحوها فإذا فيها خرقة من حرير، وبها إحليله فعند ذلك قال الإمام: (قم يا مقدسي)،
فقام فقال: (جرّدوه من ثيابه لينظر ويتحقّق حاله ممّن اتهمه بالفِسق)، فجرّدوه من
ثيابه وإذا هو مجبوب فضجّ العالم، فقال لهم: (اسكتوا واسمعوا منّي حكومةً أخبرني
بها ابن عمّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ
قال: (يا ملعونة، لقد تجريت على الله، ويلك الم تأتي
إليه وقلت له: كيت وكيت فلَم يجبك إلى ذلك، فقلت له: والله لأرمينّك بحيلة من حيل
النساء لا تنجو منها)، فقالت: بلى يا عليّ، كان ذلك، فقال (عليه السلام): (ثمّ
إنّك استنومتيه فجئت بالكيس فتركتيه في مزادته، أقرّي!
فقالت: نعم يا عليّ، فقال (عليه السلام): (اشهدوا عليها) ثمّ قال لها: (وهذا حملك
من الراعي الذي طلبت منه الزاد قال لك: إنّي لا أبيعك الزاد ولكن مكنيني من نفسك
وخذي حاجتك، ففعلت ذلك وأخذت الزاد وهو كذا وكذا)، قالت: صدقت يا عليّ، وضجّ
العالم فسكّتهم عليّ (عليه السلام)، فقال لها: (فلمّا خرجت من الراعي عرَض لك شيخ
صفته كذا وكذا فناداك وقال لك: يا فلانة لا بأس عليك أنت حامل من الراعي فصرخت
وقلت: وا سوأتاه، فقال لا تخافي وقولي للوفد: استنامني وواقعني المقدسي وقد حملت
منه فيصدّقوك لما ظهر لهم من سرقته، ففعلت ذلك كما قال لك الشيخ)، فقالت: كان ذلك
يا عليّ، فقال: (هو إبليس اللعين)، فعجب الناس من ذلك، فقال عمر: يا أبا الحسن ما
تريد أنْ تصنع بها؟ فقال: (يُحفر لها في مقابر اليهود إلى نصفها وتُرجَم
بالحجارة)، ففعل بها ذلك كما أمر مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمّا
المقدسي فلم يزل ملازم مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إلى أنْ قُبِض (رضي الله عنه) فعند ذلك قام عمر وهو يقول: لولا عليّ لهلَك عمر ولم
يصدّق إلاّ في ذلك ثمّ انصرف الناس وقد عجبوا من حكومة عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) ومن فضائله (عليه السلام).
قيل: إنّه كان في بعض غزواته وقد دنَت
الفريضة ولم يجد ماء يُسبغ به الوضوء فرمَق بطرفه إلى السماء والناس قيام ينظرون
فنزل جبرئيل وميكائيل (عليهما السلام) ومع جبرئيل سطل فيه ماء ومع ميكائيل منديل
ووضعا السطل والمنديل بين يدي أمير المؤمنين فأسبغ الوضوء من ذلك الماء ومسَح وجهه
الكريم بالمنديل فعند ذلك عرجا إلى السماء والخلق ينظر إليهما.
ومن فضائله (عليه السلام) ما ورَد عن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال (أُعطيت
ثلاثاً وعليّ مشاركي فيها وأُعطيَ عليّ ثلاثة ولم أُشاركه فيها)، فقيل: يا رسول
الله، وما الثلاث التي شاركك فيها عليّ (عليه السلام)؟ فقال: (لواء الحمد لي وعليّ
حامله، والكوثر لي وعليّ ساقيه، والجنّة لي وعليّ قاسمها، وأمّا الثلاث التي
أُعطيَت عليّاً ولَم أُشاركه فيها فإنّه أُعطي رسول الله صهراً ولم أُعطَ مثله،
وأُعطي زوجته فاطمة الزهراء ولَم أُعط مثلها، وأُعطي ولدَيه الحسن والحسين (عليهما
السلام) ولم أُعط مثلهما).
ومن فضائله (عليه السلام) أنّه كان هو
وفاطمة (عليها السلام) فدخَل عليهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهما يطحنان الجاورس فقال
النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (أيّكما أعيى؟) فقال
عليّ (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة يا رسول الله)،
فقال: (قومي يا بنيّة) فجلس النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
في موضعها مع عليّ (عليه السلام) فواساه في الطحن للحب.
وممّا ورد في كتاب الفردوس للجمهور ما
يرفع إلى رسول الله محذوف الأسانيد أنّه قال: (لو اجتمعت الخلائق على حبّ عليّ بن
أبي طالب ما خلَق الله تعالى النار).
ومن فضائله (عليه السلام) التي خصّه
الله تعالى بها دون غيره، ما رواه من أثق إليه عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه)
انّه قال: أتيت عليّ بن أبي طالب فقلت له: يا أمير المؤمنين لي ثلاثة أيّام كاملة
أصوم وأطوي وما أقتات، وهذا اليوم وهو اليوم الرابع، فقال لي (عليه السلام): (اتبعني
يا عمار)، فطلع مولاي إلى الصحراء وأنا خلفه إذ وقَف بموضع واحتفر، فظهر حِبٌّ
مملوء دراهم، فأخذ من تلك الدراهم درهمَين، فناولني منه درهماً واحداً وأخذ هو
الآخر، فقال له عمّار: يا أمير المؤمنين، لو أخذت من تلك ما تستغني به وتتصدّق منه
لمَّا كان في ذلك بأس.
فقال (عليه السلام): (يا عّمار، هذا
بقدر كفايتنا هذا اليوم)، ثمّ غطّاه وردمه وانصرف عنه ثمّ انفصل عنه عمّار وغاب
مليّاً ثمّ عاد إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: (يا عمّار، كأنّي بك وقد
مضيت إلى الكنز تطلبه؟)، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنّي قصدت الموضع لآخذ من
الكنز شيئاً فما وجدت له أثراً فقال (عليه السلام): (يا عمّار، لمّا علِم الله
تعالى أنّ لا رغبةَ لنا في الدنيا أظهرها لنا، ولمّا علم الله عزّ وجل أنّ لكم
إليها رغبة أبعدها عنكم).
وعنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (أخبرني جبرئيل (عليه السلام) أنّه قال لي: مَثَل حُبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في الناس مثل سورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في القرآن، فمَن قرأها مرّة واحدة كان له ثوب ثلث القرآن ومَن قرأها مرّتين كان له ثواب ثُلثَي القرآن ومَن قرأها ثلاثاً كان له ثواب مَن قرأ القرآن كلّه، وكذا حُبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فمَن أحبّه بلسانه
كان له ثواب ثُلث أُمّتك ومَن أحبّه بلسانه وقلبه كان له ثواب ثُلثي أُمّتك، ومَن أحبّه بلسانه وقلبه وعمله كان ثواب أُمّتك بأسرها.
(وفي ذكر اللوح المحفوظ الذي نزَل به
جبرئيل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما ينفع
للمستبصرين) وهو محذوف الأسانيد يُرفع إلى أبي بصير (رضي الله عنه)، روى أبو بصير
عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، عن محمّد الباقر (عليه
السلام) أنّه قال لجابر: (إنّ لي إليك حاجة، متى يخفّ عليك أنْ أخلو بك فأسألك
عنها؟)، فقال له جابر: أيّ الأزمنة أحببته يا مولاي، فخلا به أبو جعفر (عليه
السلام) فقال له: (يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يدِ أُمّي فاطمة (عليها
السلام)، وما أخبرَتك به أُمّي أنّه كان في اللوح مكتوباً).
قال جابر: أشهد بالله أنّي دخلت على
أُمّك فاطمة، في حال حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
أُهنّيها بولادة الحسين (عليه السلام)، فرأيت في يدها لوحاً أخضر فظننت أنّه
زمُرّد ورأيته مكتوباً بالنور الأبيض، فقلتُ: بأبي أنت وأُمّي يا بنت رسول الله،
ما هذا اللوح؟ قالت: (أهداه الله تعالى إلى رسوله (صلّى الله عليه وآله) فيه اسم أبي واسم بعلي وأسماء وُلدى وذِكر الأوصياء من
ولدي فأعطانيه أبي ليبشّرني بذلك)، قال: فقلت لها:
أرينيه يا ابنة رسول الله، فأعطته إيّاي ونسخته، فقال أبو جعفر (عليه السلام): (يا
جابر، هل لك أنْ تعرضه عليّ؟)، قال: نعم يا ابن رسول الله، فأنت أحقّ به منّي.
قال أبو جعفر: (فمشينا إلى منزل جابر
(رحمه الله)) قال أبو جعفر: (فأخرج لي صحيفةً من رقِّ فيها ما هذه صورته (بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذا كتابٌ من الله العزيز الرحيم، إلى محمّدٍ
نبيّه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين: عظّم
يا محمّد أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحَد آلائي، أنا الله لا إله إلاّ أنا، فمن رجا
فضل غيري وخاف غير عذابي أُعذّبه عذاباً لا أعرف به أحداً مِن خلقي إيّاي فاعبد
وعليّ فتوكّل، إنّي لم أبعث نبيّاً وكمُلت أيّامه وانقضت مدّته، إلاّ جعلتُ له
وصيّاً وأنّي فضّلتك على الأنبياء وفضّلت وصيّك على الأوصياء وأكرمته بشبليك
وسبطيك الحسن والحسين خازنَي وحيي، وأكرمت حسيناً بالشهادة وختمت له بالسعادة فهو
أفضل من استشهد فيّ، وأرفع الشهداء عندي درجة، وجعلت الكلمة التامّة معه والحجّة
البالغة عنده، وبعترته أُثيب وأُعاقب أوّلهم عليّ بن الحسين زين العابدين وزين
أوليائي الماضين عليهم صلواتي أجمعين، فهم حبلي الممدود الذي يخفهم رسولي لوجود
الكتاب معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا على رسولي في اليوم المعهود وذلك
يومٌ مشهود).
وروى أنَس بن مالك قال: سمِعَت أُذناي
أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول في عليّ بن
أبى طالب (عليه السلام): (عنوان صحيفة المؤمن يوم القيامة حبُّ عليّ). وعن ابن
عباس (رضي الله عنه) أنّه كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
في بيته، فغدا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان يحبّ أنْ لا يسبقه أحد إلى
رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فدخل وإذا النبيّ في
صحن داره وإذا رأسه الكريم في حِجر دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عليّ (عليه
السلام): (كيف أصبح رسول الله؟) فقال: بخير يا أخا رسول الله، فقال (عليه السلام):
(جزاك الله تعالى عنّا خيراً أهل البيت).
فقال له دحية الكلبي: إنّي أحبّك ولك
عندي فرحةٌ أزفّها إليك، أنت أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين، أنت سيّد ولد
بني آدم ما خلا النبيّين والمرسلين، لواء الحمد بيدك يوم القيامة أنت وشيعتك مع
محمّد وحزبه تُزفّون زفّاً زفّاً، وقد أفلح مَن والاك
وخسِر مَن تخلّى عنك فمحبّ محمّد محبّك، ومبغضك لنْ تناله الشفاعة من محمّد ادنُ
منّي يا صفوة الله، فأنت أحقّ بأخيك منّي، قال: فأخذ رأس رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) في حجره فاستيقظ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال: (ما هذه الهمهمة؟)، فأخبره بالحديث فقال (صلّى
الله عليه وآله): (يا عليّ، لم يكن دحية الكلبي، بل هو
جبرئيل سمّاك بما سمّاك به الله عزّ وجل وقد أمَر أنْ تكون محبّتك في قلوب
المؤمنين وبُغضك في قلوب الكافرين).
(وعن عبادة الأسدي):
قال بينا عبد الله بن عبّاس يحدّث الناس على زمزم، إذ جاءه
رجلٌ فقال: يا ابن عبّاس، ما تقول فيمن قال لا إله إلاّ الله ثمّ يكفر ولا أتى
بصومٍ ولا صلاةٍ ولا حجٍّ ولا قبلة ولا جهاد؟ فقال له ابن عبّاس: ويحك سل عمّا
يعنيك ودع عنك مالا يعنيك، فقال له الرجل: ما جئت إلاّ لهذا الأمر فقال: ممّن
الرجل؟ قال: من الشام، أخبرني بما سألتك عنه ويحك اسمع منّي إنّ مثل عليّ بن أبي
طالب كمثل موسى بن عمران، إذ آتاه الله التوراة فظنّ أنّه استوعب العلم كلّه حتى
صحب الخضر (عليه السلام) فأمَر له وعلّمه ولم يحسده، وأنّكم حسدتم عليّ بن أبي
طالب، فأمّا الغلام الذي قتله الخضر (عليه السلام) كان قتله لله تعالى رضىً ولموسى
سخطاً، وأنّ عليّا قتل الخوارج وكان قتلهم لله رضاً ولأهل الضلالة سخطاً، اسمع
منّي: إنّ رسول الله تزوّج بزينب بنت جحش فأولَم وليمة وكان يدخل عليه عشرة عشرة فلَبِث عندها أيّاما وليالي وتحوّل إلى بيت أمّ سلمة (رضي
الله عنها) فجاء عليّ (عليه السلام) وقام بالباب فقال (صلّى الله عليه وآله):
(إنّ بالباب رجلاً ليس ينزق ولا يخرق،
يحبّ الله تعالى ورسوله، قومي يا أُمّ سلمة وافتحي له الباب)، فقامت وفتحت له
الباب فأخذ بعضدي الباب حتى لم يحسا وعلم أنّها وصلَت لمخدرها فدخل الإمام (عليه
السلام) عند ذلك وقال: (السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته)، فقال (صلّى
الله عليه وآله): (وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا
قرّة عيني)، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) لها: (يا
أُمّ سلَمة أما تعرفيه؟) فقالت:
بلى يا رسول الله، عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: (يا أُمّ سلمة اشهدي له
أنّه وصيّي وولديه قرّة عيني وريحانتاي في الدنيا والآخرة، واشهدي يا أُمّ سلمة
أنّه خليفتي في أهلي، واشهدي أنّ لحمه ودمه من دمي، واشهدي يا أُمّ سلمة أنّه أوّل
مَن يرد عليّ حوضي وأنّه إمام المتّقين وأنّه وليٌّ في الدنيا والآخرة، واشهدي يا
أُمّ سلمة أنّه قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي).
(وروى)
عبد الله بن محمّد بن أبي ذر، قال: حدّثني عيسى بن عبد الله مولى تميم، عن شيخٍ
مِن قريش قال: رأيت رجلاً بالشام قد اسودّ وجهه وهو يغطّيه فسألته عن سبب ذلك،
فقال: نعم قد جعلت لله على أنْ لا يسألني أحد عن ذلك إلاّ أجبته وأخبرته، قال: كنت
شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كثير الذكر له فبينا أنا ذات ليلة
نائم إذا أتاني آتٍ في منامي فقال:
أنت صاحب الوقيعة في عليّ، فقلت: بلى
فضرب وجهي وقد اسودّ فبقي كما ترى.
(وبهذا الإسناد)
يرفعه إلى بشر بن جنادة، قال: كنت عند أبي بكر و هو في
الخلافة فجاء رجلٌ فقال له: أنت خليفة رسول الله؟ قال: نعم، قال: أعطني عِدَتي،
قال: وما عِدَتك؟ فقال: ثلاث حثوات يحثو لي رسول الله،
فحثا له ثلاث حثوات من التمر الصيحاني، وكانت رسماً على
رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: فأخذها وعدّها
فلَم يجدها مثل ما يعهَد من قال: خذها فما أنت خليفته، فلمّا سمِع ذلك قال: شدّوه
إلى أبي الحسَن فلمّا دخلوا به على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ابتدأ الإمام
بما يريده منه، وقال له: (تريد حثوات من رسول الله؟)،
قال: نعم يا فتى، فحثا له (عليه السلام) ثلاث حثوات في
كلّ حثوة ستّون تمرة واحدة على الأُخرى، فعند ذلك قال له الرجل: أشهد أنّك خليفة
الله وخليفة رسوله حقّاً وأنّهم ليسوا بأهلٍ لما جلسوا فيه.
فلمّا سمِع أبو بكر قال: صدق الله وصدَق
رسوله حيث قال في ليلة الهجرة - (ونحن خارجون من مكّة إلى المدينة) - (كفّي وكفّ
عليّ في العدد سَواء).
فعند ذلك كثر القيل والقال فخرَج عمر
فسكّتهم.
(وبالإسناد يرفعه إلى أنَس بن مالك) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ لله تعالى خلقاً لا هم من الجنّ ولا من الإنس يلعنون مبغضي عليّ بن أبي طالب)، (قيل): يا رسول الله، مَن هم؟ قال: (القنابر ينادون في الشجَر على رؤس الأشهاد ألا لعنة الله أعداء عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)).
خبر المنصور في فضل أهل البيت (عليهم
السلام)
(وعن أبي طالب أحمد بن الفرج بن الأزهر)
رفعه عن رجاله إلى سلمان بن سالم قال: أخبرني سليمان الأعمش، قال: وجّه إليّ
المنصور في جوف الليل أنْ أجِب الخليفة قلت: ما بعث إليّ إلاّ ليسألني عن بعض
فضائل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولعلّي إنْ أخبرته قتلني، فتطهّرت وتكفّنت
وتحنّطت ثمّ كتبت وصيّتي وصرت إليه فوجدت عنده عمر بن عبيدة فحمدت الله على ذلك فقلت
في نفسي: وجدت عنده عوناً صديقاً من أهل البصرة، فسلّمت عليه فقال: أُدن منّي يا
سليمان، فدَنوت منه وأقبلت على عمرو بن عبيد أسأله مثل ما يعهد مِن رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) ففاح منّي رائحة الحنوط، فقال المنصور:
يا سليمان، ما هذه الرائحة؟ والله إنْ لم تصدقني وإلاّ قتلتك، فقلتُ: يا أمير
المؤمنين أتاني رسولك في جوف الليل فقلت في نفسي: ما بعثَ إليّ في هذه الساعة إلاّ
ليسألني عن فضائل عليّ بن أبى طالب فإنّ أخبرته قتلني، فكتبت وصيّتي ولبست كفَني
وتحنّطت، قال: وكان فكبا فاستوى جالساً وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله
العليّ العظيم، ثمّ قال: أتكفّرني يا سليمان، ما اسمي؟ قلت: أمير المؤمنين، قال:
دعنا في هذه الساعة من هذا ما اسمي؟
قلت: عبد الله بن عليّ ابن عبد الله بن
عبّاس بن عبد المطّلب، قال: صدقت، فاخبرني بالله
وبقرابتي مَن رسول الله كم رويت مِن حديث في عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، وكم
فضيلةٍ سمِعت من جميع الفقهاء؟ قال: شيئاً يسيراً يا أمير المؤمنين مقدار عشرة
آلاف حديث فما زاد، قال: يا سليمان ألا أُحدّثك بحديث في فضائل عليّ (عليه السلام)
يأكل كلّ حديث رويته عن جميع الفقهاء فإنْ حلفت لي أنْ لا ترويها لأحَد من الشيعة
حدّثتك به، قلت: لا أحلف ولا أُحدّث به.
قال: اسمع كنت هارباً من بني مروان وكنت أدور في البلدان فأتقرّب إلى الناس بحبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وفضائله، وكانوا يشرّفوني ويكرموني ويعطوني حتى وردت بلاد الشام، وأهل الشام كلّما أصبحوا لعنوا عليّاً بمساجدهم؛ لأنّهم كلّهم خوارج وأصحاب معاوية، فدخلت مسجداً وفي نفسي منهم ما فيها فأُقيمت الصلاة فصلّيت الظهر وعليّ كساء خلِق، فلمّا سلّم الإمام اتكأ على الحائط وأهل المسجد حضور، وجلست ولم أرَ أحداً يتكلّم توقيراً منهم لإمامهم فإذا بصبيّين قد دخلا المسجد، فلمّا نظر الإمام إليهما قام ثمّ قال: ادخلا فمرحباً بكما ومرحباً بمَن سميتما باسمهما والله ما سمّيتكما باسمهما إلاّ لأجل حبّي لمحمّد وآل محمّد فإذا اسم احدهما الحسن والآخر الحسين، فقلت في نفسي:
قد أصبت حاجتي ولا قوّة إلاّ بالله،
وكان في جانبي فسألت منه مَن هذا الشيخ ومَن هذان الغلامان؟ فقال: الشيخ جدّهما
وليس في هذه المدينة أحدٌ يحبّ عليّاً سِواه، فلذلك سمّاهما الحسَن والحسين ففرحت
فرحاً شديداً، وكنت لا أخاف الرجال فدنوت من الشيخ وقلت: هل لك في حديثٍ أقرّ به
عينك قال: ما أحوَجني إلى ذلك وإنْ أقررتَ عيني أقررتُ عينك، فعند ذلك قلت: حدّثني
أبي، عن أبيه، عن جدّه، قال لي: من والدك؟ ومَن جدّك؟ فعلمت أنّه يريد نسَبي فقلت:
أنا عبد الله ابن محمّد بن عبد الله بن عبّاس أنّه قال: كنّا مع رسول الله وإذا
بفاطمة (عليها السلام) قد أقبَلت تبكي فقال لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ما يُبكيك لا أبكى الله لك عيناً)، فقالت: (يا أبَتِ
إنّ الحسن والحسين قد ذهبا منذ اليوم ولم أعلم أين ذهبا، وأنّ عليّاً مشى على
الدالية منذ خمسة أيّام يسقي البستان، وأنّي قد استوحشت لهما) قال (صلّى الله عليه
وآله): (يا أبا بكر، اذهب فاطلبهما، وأنتَ يا فلان).
فوجّه سلمان قال: ولم يزَل يوجّه حتى
مضى سبعون رجلاً في طلبهما ورجعوا ولم يصيبوهما فاغتمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ثمّ قام فوقَف على باب المسجد وقال: (إلهي بحقّ إبراهيم
خليلك، وبحقّ آدم صفوتك إنْ كانا قرّتا عيني في برٍّ أو بحر أو سهلٍ أو جبل فاخفظهما وسلّمهما على فاطمة سيّدة نساء العالمين)، قال: وإذا
باب من السماء قد فُتِح وإذا بجبرئيل قد نزَل من عند ربّ العالمين وقال: (السلام
عليك يا رسول الله، الحقّ يُقرئك السلام ويقول لك: لا تحزن ولا تغتمّ الغلامان هما
الفاضلان في الدنيا والآخرة، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة وأنّهما في حظيرة (أو
حديقة) بني النجار، وقد وكّلت بهما ملَكا يحفظهما إنْ قاما أو قعدا أو ناما أو
استيقظا)، قال فعند ذلك فرح النبيّ فرحاً شديداً فقام ومضى وجبرئيل (عليه السلام)
عن يمينه، والمسلمون حوله حتى دخل حظيرة بني النجار، فسلّم عليه ذلك الملَك
الموكّل بهما فردّ عليه السلام، والحسن والحسين نائمان وهما متعانقان وذلك الملَك
قد جعل جناحه فوقهما، وكل واحد منهما عليه ذراعة من شعر (أو صوف) والمداد على
شفتيهما فجثا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على ركبتيه
وانكبّ عليهما يُقبّلهما ويقول لهما: (حبيبَيّ وحبيبي) حتى استيقظا فرأيا جدّهما،
فحمل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الحسن وحمل جبرائيل
الحُسين، فخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من
الحظيرة، قال فحدّث مَن كان حاضراً عن ابن عبّاس قال: كان يقول: كلّما قبّلهما
وهما على كتفيه وكتف جبرئيل (عليه السلام): (مَن أحبّكما فقد أحبّني ومَن أبغضكما
فقد أبغضني)، فقال أبو بكر: أعطني احمل أحدهما يا رسول الله، قال: (نِعم المحمول
ونِعم المطيّة ونِعم الراكبان هما، وأبوهما وأُمّهما خيرٌ منهما، ونِعم مَن
أحبّهما)، فلمّا خرجا ومضَيا وتلقّاهما عمر.
فقال: (مَن أحبّهما)، قال ولم يزَل
النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سائراً حتى دخلت المسجد
وقال: (والله لأُشرفن اليوم ولديّ كما شرّفهما الله تعالى) ثمّ قال: (يا بلال نادِ
في الناس).
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (معاشر المسلمين بلّغوا عن نبيّكم ما تسمعون منه،
أيّها الناس ألا أدلّكم اليوم على خيرِ الناس جدّاً وجدّة؟)، قالوا: بلى يا رسول
الله، قال: (الحسن والحسين، جدّهما محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجدّتهما خديجة بنت خويلد سيّدة نساء أهل الجنّة).
(أيّها الناس ألا أدلّكم على خير الناس
أبا وأُمّا؟) قالوا بلي يا رسول الله قال: (الحسن والحسين أبوهما عليُّ بن أبي طالب،
وأُمّهما فاطمة بنت رسول الله وإنّ أباهما خيرٌ منهما يحبّ الله ويحبّ رسوله،
ويحبّه الله ورسوله سيّد العابدين وسيّد الأوصياء، أيّها الناس ألا أدلّكم على
خيرِ الناس عمّاً وعمّة؟)، قالوا بلى يا رسول الله، قال: (الحسَن والحسين عمّهما
جعفر الطيّار يطير مع الملائكة بجناحين مكلّلين بالدرّ والياقوت، وعمّتهما أمّ
هاني بنت أبي طالب، معاشر الناس هل أدلّكم على خير الناس خالاً وخالة؟)، قالوا:
بلى يا رسول الله، قال (الحسن والحسين خالهما القاسم ابن رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) وخالتهما زينب)، ثمّ قال: (اللهم إنّك تعلم
أنّ الحسن والحسين في الجنّة، وأنّ جدّهما وجدّتهما في الجنّة وأنّ أباهما وأُمّها
في الجنّة، وأنّ مِن كرامتهما على الله أنْ سمّاهما في التوراة شبّراً وشبيراً فهما سبطاي وريحانتاي في الدنيا والآخرة)، قال: فلمّا
سمِع الشيخ ذلك منّي كساني خِلعَته فبعتها بمِئة دينار، وقال: هل أدلّك على أخوين
في هذه المدينة أحدهما كان مؤذياً وكان يلعن عليّا (عليه السلام) كلّ يوم ألف مرّة؟
وكان يسبّه يوم الجمعة أربعة آلاف مرّة فغيّر الله ما به من نعمةٍ وصار آيةً
للسائلين، فهو هذا اليوم يحبّه وأخٌ لي يحبّ عليّاً منذ خرَج من بطنِ أُمّه فقم
إليه ولا تحتبِس عنده، والله يا سليمان لقد ركِبت البغلة وأنّي يومئذٍ لجائع فقام
معي الشيخ وأهل المسجد حتى صرنا إلى الدار، قال الشيخ: انظر لا تحتبس عنده فدفعت
الباب وقد كان معي، فإذا بشاب قد خرَج إليّ فلمّا رآني والبغلة تحتي قال: والله ما
كساك أبو فلان خلعته ولا أركبك بغلته إلاّ وأنت رجلٌ تحبّ الله ورسوله، ولأنْ
أقررت عيني لا قرّن عينيك.
والله يا سليمان إنّي لا أنْسَ بهذا
الحديث الذي سمِعته وتسمَعه، ثمّ قال: فقلت: أخبَرَني أبي عن جدّي عن أبيه قال:
كنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جلوساً بباب
داره وإذا بفاطمة (عليها السلام) قد أقبلت، وهي حاملة الحسن وهي تبكي بكاءً شديداً فاستقبلها (صلّى الله عليه وآله)
وقال: (وما يبكيك؟ لا أبكى الله لك عيناً)، ثمّ تناول الحسن من يدها فقالت: (يا أبة، إنّ نساء قريش يُعيّرنني ويقلن قد زوّجك أبوك بفقير لا
مال له)، فقال لها النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا
فاطمة ما زوجتك أنا ولكنّ الله تعالى زوّجك في السماء، وشهِد لك جبرئيل وميكائيل
وإسرافيل، اعلمي يا فاطمة إنّ الله تعالى اطّلع إلى الأرض اطلاعةً
فاختار منها أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع اطّلاعةً
ثانية فاختار بعلك فجعله وصيّاً، ثمّ زوّجك به من فوق سبْع سماواته،
وأمَرني أنْ أزوّجك به وأتّخذه وصيّاً ووزيراً.
فعليٌّ أشجعهم قلبّاً وأعلم الناس علماً
وأحلم الناس حِلماً وأحكم الناس حكماً وأقدم بالناس إيمانا وأسمحهم كفّاً وأحسن
الناس خُلُقا، يا فاطمة، إنّي آخذ لواء الحمد ومفاتيح الجنّة بيدي وأدفعها إلى
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فيكون آدم ومَن دونه تحت لوائه، يا فاطمة إنّي
مقيم غداً عليّاً على حوضي يسقي مَن يرد عليه من أُمّتي، يا فاطمة ابناك الحسن
والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وكان قد سبق اسمهما في التوراة مع موسى بن عمران (عليه
السلام) لكرامتهما عند الله يا فاطمة، يكسى أبوك حلّة مِن حُلَل الجنّة ولواء
الحمد بين يدَي وأُمّتي تحت لوائي، فأُناوله عليّاً لكرامته على الله) قال:
وينادي منادي: (يا محمّد، نِعم
الجدّ جدّك ونعم الأخ أخوك فالجد إبراهيم والأخ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)،
وإذا دعاني ربّ العالمين دعا عليّاً معي وإذا أحياني أحيى عليّاً معي وإذا شفّعني
ربّي شفّع عليّاً، وأنّه في المقام عوني على مفاتيح الجنّة فقومي يا فاطمة، إنّ
عليّاّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة).
(وبالإسناد أنّه قال): بينا فاطمة جالسة إذ أقبل أبوها (صلّى الله
عليه وآله) حتى جلَس إليها، فقال لها: (مالي أراك
حزينة؟) قالت: (بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، وكيف لا أبكي ولا أحزن وتريد أنْ
تفارقني؟)، فقال لها: (يا فاطمة، لا تبكي ولا تحزني فلا بدّ مِن فراقك)، فاشتدّ
بكاؤها وقالت: (يا أبتي، أين ألقاك؟)، قال: (تلقني على تلّ الحمد أشفع لأُمّتي)،
قالت: (يا أبت، وإنْ لم ألقك؟) قال:
(تلقني عند الصراط، جبرئيل عن يميني
وميكائيل عن شمالي وإسرافيل آخذ بحجزتي والملائكة من خلفي، وأنا أنادي أُمّتي
فيَهون عليهم الحساب، ثمّ أنظر يميناً وشمالاً إلى أُمّتي وكل نبيّ يوم القيامة
مشتغلٌ بنفسه، يقول: يا ربّ نفسي نفسي، وأنا أقول يا
ربّ أُمّتي أُمّتي فأوّل مَن يَلحق بي أنتِ وعليّ
والحسَن والحسين، فيقول الرب عزّ وجل: يا محمّد، إنّ أُمّتك لو أتوني بذنوب كأمثال
الجبال لغفرت لهم ما لَم يشركوا بي شيئاً ولم يُوالوا عدواً).
قال: فلمّا سمِع الشاب هذا منّي أمر لي
بعشرة آلاف درهم، وكساني ثلاثين ثوباً ثمّ قال لي: مِن أين أنت؟ قلت: من أهل
الكوفة، قال: أعربي أم مولى؟ قلت: بل عربي، قال: فكما أقررت عيني أقررت عينك. ثمّ
قال: ائتيني غداً في المسجد فلمّا رآني استقبلني وقال:
ما أعطاك أبو فلان؟ قلت: كذا وكذا، قال: جزاه الله خيراً وجمَع بيننا وبينه في
الجنّة فلمّا أصبحت يا سليمان، ركِبت البغلة وأخذت في الطريق الذي وصفه لي، فما
لبثت إلاّ قليلاً حتى رأيت بستانه على الطريق، وسمعت إقامة من المسجد فقلت والله لأُصلّيَنّ
مع هؤلاء القوم فنزلت عن البغلة ودخلت المسجد، فوجدت رجلاً قامته مثل قامة صاحبي
فصرت عن يمينه فلمّا صرنا في الركوع والسجود وإذا عمامته قد رمى بها مِن رأسه،
فنظرت في وجهه وإذا وجهه وجه خنزير ورأسه رأس خنزير، فلَم أعلم ما صلّيت ولا ما
قلت في صلاتي متفكّراً في أمره، فسلّم الإمام فتنفّس الرجل في وجهي وقال: أنت الذي
أتيت أخي بالأمس فأمر لك بكذا وكذا؟ فقلت: نعم، فاخذ بيدي وأقامني، فلمّا رآنا أهل
المسجد تبعونا فقال لغلامه أغلق عليهم الباب ولا تدع أحداً يدخل علينا، ثمّ ضرب
بيده إلى قميصه فنزعه وإذا جسده خنزير، فقلت: يا أخي ما هذا الذي أرى بك؟ قال: كنت
مؤذّن القوم، وكنت في كلّ يوم إذا أصبَحت ألعن عليّاً (عليه السلام) ألف مرّة بين
الأذان والإقامة، قال: فخرجت من المسجد ودخلت داري هذه وكان يوم الجمعة فلعنته
أربعة آلاف مرّة، ولعنت أولاده زمرةً فاتكأت على هذه الدكّة فذهَب بي النوم، فرأيت
في منامي كأنّ الجنّة قد أقبَلَت وإذا بعليّ (عليه السلام) فيها متّكئا، والحسن
والحسين معه متّكآن بعضهم لبعض مسرورين تحتهم مصليات من نور، وإذا أنا برسول الله (صلّى
الله عليه وآله) جالساً والحسن والحسين قدّامه وبيد
الحسين كأس، فقال: (صلّى الله عليه وآله):
(اسقني فشرِب وقال للحسين: اسق أباك
عليّاً (عليه السلام) فشرب، وقال: اسق أخاك الحسَن فسقاه، ثمّ قال: اسق الجماعة
فشربوا ثمّ قال: اسقي المتّكئ على الدكّة، فولّى الحسن بوجهه عنّي وقال: يا جدّاه
كيف أسقيه وهو يلعن أبي في كلّ يوم ألف مرّة)، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لي: (لعنك الله أتلعن عليّاً وتشتم أخي؟! مالك لعنك
الله تشتم ولدي الحسَن والحسين)، ثمّ بصَق النبيّ عليّ فملا وجهي وجسَدي فلمّا
انتبهت من منامي رأيت موضع بصاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
قد مسح كما ترى وصرت آيةً للسائلين، ثمّ قال لي: يا سليمان هل سمعت من فضائل عليّ (عليه
السلام) أعجَب من هذا الحديث يا سليمان، حبّ عليّ (عليه السلام) إيمان وبغضه نفاق،
فلا يحبّ عليّاً إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ كافر، فقلت: يا أمير المؤمنين، الأمان
قال: لك الأمان فقلت: يا أمير المؤمنين، فما حال من قتل هؤلاء؟ قال: النار ولا
أشكّ، فقلت: ومَن قتل أولادهم وأولاد أولادهم قال: فنكّس رأسه.
إتمام
خبر سليمان
(قال سليمان): إنّ الملك عقيم ولكن
حدّثني عن فضائل عليّ بن أبي طالب بما شئت، قال: قلت: مَن قتل ولده في النار.
فقال عمرو بن عبيدة: صدقت يا سليمان،
الويل ثمّ الويل لمَن قتل ولده، فقال المنصور: يا عمرو اشهد عليه فإنّه في النار،
فقال: قد أخبرني الشيخ الصدوق (يعني الحسن بن أنَس): إنّ مَن قتل أولاد عليّ لا
يشمّ رائحة الجنّة، قال: فوجدت المنصور قد غمض وجهه، فخرجنا فقال ابر جعفر: لولا
مكان عمرو ما خرَج سليمان إلاّ مقتولاً.
(وعن الإمام فخر الدين الطبري) يرفعه
إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: بينا نحن بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مسجده بالمدينة فذكر بعض الصحابة الجنّة، فقال رسول
الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ لله لواء مِن نور
وعموده من زَبرجد، خلقه الله تعالى قبل أنْ يخلق السماء بألفَي عام، مكتوبٌ عليه
لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله وآل محمّد خير البرية، وأنت يا عليّ أكرم
القوم)، فعند ذلك قال عليّ: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وأكرمنا بك، وشرّفنا بك)،
فقال (صلّى الله عليه وآله): (يا عليّ أما علِمت أنّ
مَن أحبّنا واتخذ محبّتنا أسكنه الله معنا؟) وتلا هذه الآية: (فِي
مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).
وبالإسناد عن ابن عبّاس (رضي الله عنه)، عن رسول الله في قوله عزّ وجل: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ): (المنذر أنا والهادي عليّ (عليه السلام)).
اعتراف عمر بوصيّة النبيّ (صلّى الله
عليه وآله)
لعليّ (عليه السلام)
(وعن القاضي الكبير): أبي عبد الله محمّد بن عليّ بن المغازلي، يرفعه إلى حارثة بن زيد قال: شهدت مع ابن الخطّاب حجّته في خلافته فسمعته يقول: اللهمّ قد عرفت محبتي لنبيّك وكنت مطّلعاً على سرّى قال: فلمّا رآني أمسَك وحفظت الكلام فلمّا انقضى الحجّ وانصرَفت إلى المدينة تعمدت الخلوة به، فرأيته يوماً على راحلته وحده فقلت له: يا أمير المؤمنين بالذي هو أقرب إليك من حبل الوريد إلاّ أخبرتني عمّا أُريد أنْ أسألك عنه، قال: سل عمّا شئت، قلت له: سمعتك يومَ كذا تقول كذا وكذا قال: فكأنّي ألقمته حجراً فقلت: لا تغضب فوا الذي أنقذني من الجاهلية وأدخلني في الإسلام ما أردت بسؤالي لك إلاّ وجه الله عزّ وجل، قال: فعند ذلك ضحك وقال: يا حارثة: دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد اشتدّ وجعه فأحببت الخلوة به وكان عنده عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) والفضل بن العبّاس، فجلست حتى نهض ابن عبّاس فبقيت أنا وعليّ (عليه السلام) فتبيّن لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أردت فالتفت إليّ وقال: (يا عمر، جئت تسألني إلى مَن يصير هذا الأمر)، فقلت: صدقت يا رسول الله، فقال: (يا عمر هذا وصيّي وخليفتي من بعدي، وخازن سرّي فمن أطاعه فقد أطاعني ومَن عصاه فقد عصاني ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن تقدّم عليه فقد كذّب بنبوّتي)، ثمّ دنا وقبّل مابين عينيه وأخذه وضمّه إلى صدره، ثمّ قال: (الله وليّك، الله ناصرك، والى الله مَن والاك وعادى الله مَن عاداك، أنتَ وصيّي وخليفتي من بعدي في أُمّتي)، ثمّ علا بكاؤه وانهملت بالدموع حتى سالت على خدّيه وعلى خدّ عليّ (عليه السلام)، فو الذي منّ عليّ بالإسلام لقد تمنّيت في تلك الساعة أنْ أكون مكانه على الأرض، ثمّ التفت إليّ وقال: (يا عمر، إذا نكث الناكثون، وقسط القاسطون، ومرَق المارقون، قام هذا مقامي حتى يفتح الله تعالى عليه وهو خير الفاتحين)، قال: فغاظني ذلك فقلت: يا عمر: فكيف تقدّمتموه وقد سمعت ذلك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال: يا حارثة، بأمرٍ كان، فقلت: مِن الله أم مِن رسوله أم مِن عليّ؟ فقال: لا، بل الملك عقيم والحقّ لابن أبي طالب من دوننا.
(وبالإسناد)
يرفعه إلى ابن عبّاس أنّه قال: أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
بيد عليّ بن أبى طالب فصلّيا أربع ركَعات، فلمّا سلّم رفَع يده إلى السماء وقال:
(اللهم سألك موسى بن عمران أنْ تشرح له صدره، وتيسّر له أمره وتحلّ عقدةً من لسانه
يفقهوا قوله، وتجعل له وزيراً من أهله تشدّ به أزره، وأنا محمّد أسألك أنْ تشرح لي
صدري وتيسّر لي أمري وتحلُل عقدةً من لساني يفقهوا قولي، وتجعل لي وزيراً من أهلي
أخي اشدّد به أزرى وأشركه في أمري).
قال ابن عبّاس: فسمعت منادياً ينادي: يا محمّد أُوتيت سؤلك، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ادع يا أبا الحسن، وارفع يدك إلى السماء، وقل: اللهم اجعل لي عندك عهداً معهوداً واجعل لي عندك ودّاً)، قال: فلمّا دعا نزل الأمين جبرئيل من عند ربّ العالمين وقال: اقرأ يا محمّد (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)
فتلاها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فتعجّب الصحابة والناس من سرعة استجابة دعائهما فقال
(صلّى الله عليه وآله): (أتعجبون؟ اعلموا أنّ القرآن
أربعة أرباع: ربعٌ فينا أهل البيت، وربعٌ قصص وأمثال، وربعٌ فرائض وإنذار، وربعٌ
أحكام والله أنزل في عليّ كرائم القرآن).
(وقال الصادق (عليه السلام)): (ولايتي
لعليّ بن أبى طالب أحبّ إليّ من ولادتي منه؛ لأنّ ولايتي له فرضٌ وولادتي منه
فضل).
(وبالإسناد يرفعه إلى زين العابدين
(عليه السلام)) قال: (كان رسول الله جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: أيّها
الناس، يطلع عليكم من هذا الباب رجلٌ من أهل الجنّة يسأل عمّا يعنيه، قال: فنظر
الناس إلى الباب فطلع رجلٌ طوال يشبه دجّال مصر فتقدّم وسلّم على رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) وجلَس، ثمّ قال: يا رسول الله، سمِعت
أنّ الله عزّ وجل يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)،
فما الحبل الذي أمر الله تعالى الاعتصام به؟ فأطرق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مليّاً ثمّ رفَع رأسه وأشار بيده إلى عليّ أمير
المؤمنين (عليه السلام) وقال: هذا الحبل الذي مَن تمسك واعتصم به نجا بعصمته في
دنياه، ولم يضل في آخرته.
فوثب الرجل إلى أمير المؤمنين واحتضنه
مِن ورائه وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وبحبل رسوله وهذا أمير المؤمنين، ثمّ قام
وخرج، فقام رجلٌ من الناس وقال: يا رسول الله، ألحقه وأسأله أنْ يستغفر لي؟ فقال:
إذا تجده موفقاً قال فلحقت الرجل فسألته أنْ يستغفر لي، فقال: أفهمت ما قاله لي
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما قلت له، قال: نعم
قال له الرجل: إنْ كنت تتمسّك بذلك الحبل يغفر الله تعالى لك، وإلاّ فلا غفَر الله
لك، قال: فرجعت وسألته عن ذلك الرجل فقال: هو أبو العبّاس الخضر (عليه السلام)).
(وبالإسناد) يرفعه إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: (قال رسول الله يا عليّ، ألا ترضى إذا جُمع الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحد حُفاة، عُراة، مشاة قد قَطع أعناقهم العطَش فيكون أوّل من يُدعى إبراهيم (عليه السلام) فيُكسى ثوبين أبيَضين، ثمّ يقوم عن يمين العرش ثمّ يفتح لي شعب إلى الجنّة ما بين صنعاء إلى البصرة، وفيه عدد نجوم السماء أقداح من فضّة فأشرب وأتوضّأ ثمّ أُكسى ثوبين أبيضين، ثمّ أقوم عن يمين العرش ثمّ تُدعى فتشرب وتتوضّأ ثمّ تُكسى ثوبين أبيضين، وما أُدعى لخيرٍ إلاّ دُعيت وتُشفع إذا شفعت).
ومن فضائله (عليه السلام): ما رواه
سلمان والمقداد بن الأسود الكندي، وعمّار بن ياسر العنسي وأبو ذر الغفاري وحذيفة
بن اليمان وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو الطفيل عامر
بن واثلة (رضي الله عنهم) أنّهم دخلوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فجلسوا بين يديه والحُزن ظاهرٌ في وجوههم فقالوا: نفديك
يا رسول الله، بأموالنا وأولادنا وأنفسنا وبالآباء والأُمّهات، إنّا نسمع في أخيك
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما يُحزننا، أتأذن لنا بالردّ عليه فقال (صلّى
الله عليه وآله): (وما عساهم أنْ يقولوا في أخي؟)،
فقال: يا رسول الله يقولون: أيّ فضل لعليّ بن أبي طالب في سبقه الإسلام، وإنّما
أدركه طفلاً ونحو ذلك، فهذا يُحزننا.
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (هذا يحزنكم؟) قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: (بالله
عليكم هل علمتم من الكتب المتقدّمة إنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) ذنب أبوه وهو
حمل في بطن أُمّه فخافت عليه من النمرود بن كنعان لعنه الله؛ لأنّه كان يقتل
الأولاد ويبقر بطون الحوامل، فجاءت به فوضعته بين
أثلاث بشاطئ نهر يتدفّق يُقال له خرزان، بين غروب الشمس إلى الليل، فلمّا وضعته
واستقرّ على وجه الأرض قام تحتها يمسح وجهه ورأسه ويُكثر من الشهادة بالوحدانية،
ثمّ أخذ ثوباً فاتّشح به وأُمّه ترى ما يصنع وقد ذُعِرت منه ذعراً شديداً، فهرول
مِن يدها مادّاً عينيه إلى السماء، وكان منه أنّه عندما نظر الكواكب سبّح الله
وقدّسه وقال: سبحان الملك القدّوس فقال الله فيه: (وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية.
وعلمتم أنّ موسى بن عمران كان قريباً من
فرعون وكان فرعون في طلبه، وكان يبقر بطون الحوامل من أجله، ولدته أُمّه فزعت عليه
فأخذته مِن تحتها وطرحته في التابوت وقال لها: يا أُمّي ألقيني في اليَمّ، فقالت
له وهي مذعورة من كلامه: إنّي أخاف عليك الغرَق، قال لها: لا تخافي ولا تحزني، إنّ
الله تعالى رادّي عليك، ثمّ ألقته في اليَمّ كما ذكر لها ثمّ بقي في اليمّ لا يطعم
طعاماً ولا يشرب شراباً معصوماً مدّة إلى أنْ رُدّ على أُمّه، وقيل بقيَ سبعين
يوماً فأخبر الله تعالى عنه: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ)
الآية.
وعيسى بن مريم (عليه السلام) إذا تكلّم
مع أُمّه عند ولادته وقصّته مشهورة، (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ
تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) الآية (وَالسَّلامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً). وقد علمتم جميعاً أنّي أفضل الأنبياء
قد خُلقت أنا وعليّ من نورٍ واحد، وأنّ نورنا كان يُسمع تسبيحه من أصلاب آبائنا
وبطون أُمّهاتنا في كلّ عصر وزمن، إلى عبد المطّلب فكان نورنا يظهر في آبائنا فلمّا
وصل إلى عبد المطّلب انقسم النور نصفَين نصفاً إلى عبد الله ونصفاً إلى أبي طالب
عمّي، وأنّهما كانا جلسا في ملأ من الناس يتلألأ نورنا في وجهيهما من دونهم، حتى
إنّ السباع والهوام كانت تسلّم عليهما لأجل نورنا حتى خرجنا إلى دار الدنيا، وقد
نزل عليّ جبرئيل عند ولادة ابن عمّي وقال:
يا محمّد، ربّك يقرئك السلام ويقول لك:
الآن ظهرت نبوّتك وإعلان وحيك وكشف رسالتك، إذ أيّدك الله تعالى بأخيك وخليفتك
ووزيرك من بعدك، والذي شدّ به أرزك وأعلن به ذكرك عليّ أخيك وابن عمّك فقم إليه
واستقبله بيدك اليمنى فإنّه من أصحاب اليمين وشيعته الغرّ المحجّلون،
قال: فقمت فوجدت أُمّي بعد أُمّي بين النساء والقوابل من حولها وإذا بحجابٍ قد
ضربه جبرئيل بيني وبين النساء، فإذا هي قد وضعته فاستقبلته قال: ففعلت ما أمرني به
جبرئيل ومددت يدي اليمنى نحو أُمّه، فإذا بعليّ قد أقبل على يدَي واضعاً يده
اليمنى في أُذنه بؤذّن ويقيم بالحنفيّة ويشهد
بالوحدانية لله وبرسالتي، ثمّ انثنى إلي وقال: السلام عليك يا رسول الله، فقلت له:
اقرأ يا أخي فو الذي نفسي بيده قد ابتدأ بالصحف التي أنزلها الله تعالى على آدم
وأقام بها فتلاها من أوّلها إلى آخرها حتى لو حضَر آدم لأقرّ له أنّه ألفَظ لها
منه، ثم تلا صُحف نوح ثمّ صُحف إبراهيم ثمّ تلا التوراة، حتى لو حضَر موسى لشهِد
له أنّه أحفظ لها، ثمّ قرأ الإنجيل حتى لو حضَر عيسى لأقرّ له أنّه أحفظ لها منه،
ثمّ قرأ القرآن الذي أنزل الله عليّ من أوّله إلى آخره، ثمّ خاطبني وخاطبني
وخاطبته بما يُخاطب به الأنبياء ثمّ عاد إلى طفوليّته، وهكذا أحد عشر إماماً من
نسله يفعل في ولادته مثل ما فعل الأنبياء (عليهم السلام)، فما يحزنكم وما عليكم من
قول أهل الشرك بالله تعالى، هل تعلمون أنّي أفضل الأنبياء وأنّ وصيّي أفضل
الأوصياء، وأنّ أبي آدم لمّا رأى اسمي واسم أخي وأسماء فاطمة والحسن والحسين
مكتوبات على ساق العرش بالنور فقال: إلهي هل خلقت خلقاً قبلي هو أكرم عليك منّى
فقال: الله تعالى يا آدم، لولا هذه الأسماء لما خلقت سماءً مبنية ولا أرضاً مدحية
ولا ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ولولاهم لما خلقتك، فقال، إلهي وسيّدي
فبحقّهم عليك إلاّ غفرت لي خطيئتي.
ونحن كالكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه
فقال: ابشر يا آدم فإنّ هذه الأسماء من ولدك وذرّيتك، فعند ذلك حمد الله تعالى آدم
(عليه السلام) وافتخر على الملائكة أنّه لم يعطي نبياً شيئاً من الفضل إلاّ أعطاه
لنا، فقام سلمان وأبو ذر ومَن معهما وهم يقولون: نحن الفائزون فقال: (عليه السلام)
انتم الفائزون ولكم خلقت الجنة ولعدوّكم خُلقت النار).
وممّا رواه ابن مسعود (رضي الله عنه) قال:
دخلت يوماً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلت:
يا رسول الله، أرني الحق لأتّصل به، فقال: (يا عبد الله لِج المخدَع)، قال: فولجت
المخدع وعليّ بن أبي طالب يصلّي وهو يقول في ركوعه وسجوده: (اللهمّ بحقّ محمّد
عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي)، فخرجت حتى أخبرت به رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) فرأيته وهو يصلّي ويقول: (اللهم بحقّ عليّ
ابن أبي طالب (عليه السلام) عبدك، اغفر للخاطئين من أُمّتي)، قال: فأخذني هلَعٌ
حتى غشي علَيّ فرفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رأسه
وقال: (يا ابن مسعود، أكفراً بعد إيمان؟)، فقلت: حاشا وكلاّ يا رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) ولكنّي رأيت عليّاً يسأل الله تعالى بك،
ورأيتك تسأل الله به، فلم أعلم أيّكم أفضل عند الله.
اجلس، فقال ابن مسعود: فجلست بين يديه
فقال لي: (اعلم أنّ الله تعالى خلقني وخلق عليّاً من نور عظمته قبل أنْ يخلق الخلق
بألفَي عام، إذ لا تقديس ولا تسبيح ففتق نوري فخلَق منه السموات
والأرض وأنا والله أجلّ من السموات والأرض، وفتق نور عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) فخلَق منه العرش والكرسي وعليّ بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسي، وفتق
نور الحسن فخلَق منه اللوح والقلَم والحسن أفضل من اللوح والقلَم، وفتق نور الحسين
فخلَق منه الجنان والحور العين والحُسين والله أجلّ من الجنان والحور العين.
ثمّ اظلمّت المشارق والمغارب فشكت
الملائكة إلى الله تعالى أنْ يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جلّ جلاله بكلمة
فخلق منها روحاً ثمّ تكلّم بكلمةٍ فخلق من تلك الروح نوراً فأضاف النور إلى تلك
الروح وأقامها أمام العرش، فزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء؛ ولذلك
سُمّيت الزهراء؛ لأنّ نورها زهرت به السموات يا ابن مسعود، إذا كان يوم القيامة
يقول الله جلّ جلاله لعليّ بن أبي طالب ولي: أدخلا الجنّة مَن شئتما وأدخلا النار
مَن شئتما، وذلك قوله تعالى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ)،
فالكافر من جحَد نبوّتي والعنيد من جحَد ولاية عليّ بن أبي طالب، فالنار أمده
والجنّة لشيعته ومحبّيه).
(قال أبو هاشم بن أبي علي): إنّ
الروايات صحّت أنّه لمّا بلغ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّ
الناس تحدّثوا فيه وقالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان كما نازع طلحة
والزبير وعايشة؟! واجتمع الناس، قال فخرج (عليه السلام) مرتدياً برِداء فرقى
المنبر فحمِد الله وأثنى عليه، وذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وصلّى عليه وقال: (يا معاشر المسلمين، قد بلغني أنّ قوماً قالوا: ما باله لم ينازع
أبا بكر وعمر وعثمان، كما نازع طلحة و الزبير وعايشة، فما كنت بعاجز، ولكن لي في
سبعة من الأنبياء أسوة أوّلهم نوح (عليه السلام) حيث قال تعالى في مخبراً عنه: (أَنِّي
مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)،
فإنْ قلتم: أنّه ما كان مغلوباً فقد كفرتم بتكذيب القرآن وإنْ قلتم: أنّه كان
مغلوباً فعلي أعذر، الثاني إبراهيم (عليه السلام) حيث أخبر الله تعالى عنه في قوله
لقومه: (وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)،
فإنْ قلتم: أنّه اعتزله من غير مكروه فقد كذّبتم القرآن، وإنْ قلتم: رأى المكروه
فاعتزلهم فعليّ أعذر، والثالث لوط حيث أخبر الله تعالى عنه في قوله لقومه: (لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، فإنْ قلتم: كان له قوّة فقد كذّبتم
القرآن وإنْ قلتم: أنّه لم يكن له بهم قوّة فعليّ أعذر، والرابع يوسف (عليه
السلام) حيث قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)،
فإنْ قلتم: أنّه ما دُعي لمكروهٍ يُسخط الله فقد كفرتم، وإنْ قلتم: أنّه دُعيَ إلى
ما يُسخط الله تعالى فعليّ أعذر.
والخامس موسى بن عمران (عليه السلام) حيث أخبر الله تعالى عنه: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فإنْ قلتم: أنّه فرّ منهم من غير خوفٍ فقد كذّبتم القرآن وإنْ قلتم: أنّه فرّ خوفاً على نفسه فعليٌّ أعذر، والسادس أخوه هارون حيث أخبر الله تعالى عنه: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ)، فإنْ قلتم: ما كادوا يقتلونه فقد كذّبتم القرآن وإنْ قلتم: كادوا يقتلونه فعليٌّ أعذر، السابع ابن عمّي محمّد (صلّى الله عليه وآله) حيث هرَب من الكفّار إلى الغار فإنْ قلتم: أنّه ما هرَب من خوفٍ على نفسه فقد كذبتم وإنْ قلتم هرب من خوف على نفسه فالوصيّ أعذر الناس، ما زلت مظلوماً مُذ ولدتني أُمّي حتى أنّ أخي عقيلاً كان إذا رمدت عينه يقول: لا تذروا عيني حتى تذروا عين عليّ فيذروني ما بي من رمد).
(وروي بالأسانيد) عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال:
(قدِم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حبرٌ من
أحبار اليهود، فقال: يا رسول الله، قد أرسلني إليك قومي وقالوا: إنّه عهِد إلينا
نبيّنا موسى بن عمران وقال: إذا بُعث بعدي نبيّ اسمه محمّد وهو عربيّ فامضوا إليه
واسألوه أنْ يخرج لكم من جبَل هناك، سبع نوق حمر الوبر، سود الحدَق فإنْ أخرجها
لكم فسلّموا عليه وآمنوا به واتّبعوا النور الذي أُنزل معه فهو سيّد الأنبياء
ووصيّه سيّد الأوصياء، وهو منه كمثل أخي هارون منّي، فعند ذلك قال: الله أكبر قم
بنا يا أخا اليهود، قال: فخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة، وجاء إلى جبَل فبسط البُردة وصلّى ركعتين وتكلّم
بكلامٍ خفي وإذا الجبَل يصرّ صريراً عظيماً، فانشقّ وسمِع الناس حنين النوق فقال
اليهود: مدّ يدك فإنّا نشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّك محمّد رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)، وانّ جميع ما جئت به صدقٌ وعدل، يا
رسول الله، فامهلني حتى أمضي إلى قومي وأُخبرهم ليقبضوا
عدّتهم منك ويؤمنوا بك، قال: فمضى الحبر إلى قومه بذلك ففرّوا بأجمعهم وتجهّزوا
للمسير وساروا يطلبون المدينة ليقضوا عدّتهم، فلمّا دخلوا المدينة وجدوها مظلمة
مسودّة بفقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد
انقطع الوحي من السماء وقد قُبض (صلّى الله عليه وآله)
وجلس مكانه أبو بكر فدخلوا عليه وقالوا: أنت خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟
قال: نعم، قالوا: أعطنا عدّتنا من رسول
الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: وما عدّتكم؟ قالوا:
أنت أعلم منّا بعدّتنا إنْ كنت خليفته حقّاً، وإنْ لم تكن خليفته فكيف جلست مجلس
نبيّك بغير حقٍّ لك ولست له أهلا؟! فقام وقعَد وتحيّر في أمره ولم يعلم ماذا يصنع،
وإذا برجل من المسلمين قد قام وقال: اتبعوني حتى أدلّكم على خليفة رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)، قال: فخرج اليهود من بين يدي أبى بكر
وتبعوا الرجل، حتى أتوا إلى منزل فاطمة الزهراء (عليها السلام) فطرقوا الباب، وإذا
الباب قد فتح وخرج إليهم عليّ وهو شديد الحُزن على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا رآهم قال: (أيّها اليهود تريدون عدّتكم من رسول
الله (صلّى الله عليه وآله)؟)، قالوا: نعم، فخرج معهم
إلى ظاهر المدينة إلى الجبل الذي صلّى عنده رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا رأى مكانه تنفّس الصعداء وقال:
(بأبي وأُمّي مَن كان بهذا الموضع منذ هنيئة)، ثمّ صلّى ركعتين وإذا بالجبَل قد انشقّ وخرجَت النوق، وهي سبع نوق، فلمّا رأوا ذلك قالوا: بلسان واحد نشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّ ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من عند ربّنا هو الحق وأنّك خليفته حقّاً ووصيّه ووارث عِلمه، فجزاه الله وجزاك عن الإسلام خيراً، ورجعوا إلى بلادهم مسلمين موحّدين.
(وبالإسناد) يرفعه إلى أنَس بن مالك قال:
دخل يهودي في زمن خلافة أبي بكر فقال: أُريد خليفة رسول الله، قال فجاؤوا به إلى
أبي بكر، فقال له اليهودي: أنت خليفة رسول الله؟ قال له أبو بكر: نعم، أما تنظرني
أنا في مقامه ومحرابه؟ فقال له: إنْ كنت كما تقول يا أبا بكر، أسألك عن أشياء فإنْ
كنت تجيب صدّقتك، قال: سل عمّا بدا لك وعمّا تريد، فقال اليهودي: أخبرني عمّا ليس
لله وعمّا ليس عند الله وعمّا لا يعمله الله، قال: فعند ذلك قال أبو بكر هذه مسائل
الزنادقة يا يهودي، قال: فعندها همّ المسلمون بقتل اليهودي فكان ممّن حضر ذلك ابن
عبّاس فزعق بالناس وقال: يا أبا بكر ما أنصفتم الرجل، فقال: أما سمِعت ما تكلّم به؟
فقال ابن عبّاس (رضيَ الله عنه) فإنْ كان عندكم جوابه وإلاّ أخرجوه حيث شاء، قال
فأخرجوه وهو يقول: لعن الله قوماً جلسوا في غير مراتبهم يريدون قتل النفس التي
حرّم الله تعالى بغير علم.
فخرج وهو يقول: أيّها الناس ذهب الإسلام
حتى لا تجيبوا عن مسألة وأين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وأين خليفته؟ قال: فتبعه ابن عبّاس وقال له: ويلك اذهب إلى عيبة عِلم رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) إلى منزل عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام)، فعند ذلك أقبل وقد خرَج أبو بكر والمسلمون في طلبه فلحقوه في بعض الطريق،
فأخذوه وجاؤوا به إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فاستأذنوا
للدخول ثمّ دخلوا عليه وقد ازدحم الناس يبكون وقوم يضحكون، فقال له أبو بكر: يا
أبا الحسن، إنّ هذا اليهودي سألني عن مسائل الزنادقة، فقال عليّ:
(ما تقول يا يهودي؟) قال: أسألك ويفعلون
بي ما يريدون هؤلاء القوم؟
قال: (وأيّ شيءٍ أرادوا أنْ يفعلوا بك؟)
قال: أرادوا أنْ يذهبوا بدمي؛ لأنّهم ما أجابوني عن مسائلي، قال له الإمام (عليه
السلام): (دع هذا وسل عمّا بدا لك يا يهودي وما شئت)، قال: يا عليّ، سؤالي لا
يعلمه إلاّ نبيّ أو وصيّ، قال: (سل عمّا تريد) فعند ذلك قال اليهودي: أخبرني عمّا
ليس عند الله وعمّا لا يعلمه الله، فقال له عليّ (عليه السلام): (شرطٌ يا أخا
اليهود) قال: وما الشرط؟ قال: (تقول معي قولاً عدلاً مخلصاً بالرضا، لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله)، قال: نعم يا عليّ، كيف ما أقول؟! فقال (عليه السلام): (يا
أخا اليهود، سألتَ عمّا ليس عند الله فليس عند الله ظلم)، فقال: صدقت يا أبا
الحسن، (وأمّا قولك عمّا ليس لله فليس لله ولَد ولا صاحبة ولا شريك)، قال: صدقت،
(وأمّا قولك عمّا ليس يعلمه، الله ما يعلم أنّ لله صاحبة ووزيراً ولا مشيراً وهو
قادرٌ على ما يُريد)، فعند ذلك قال: مدّ يدك فأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ
محمّداً رسول الله وأنّك خليفته حقّا ووصيّه ووارث عِلمه، فجزاك الله عن الإسلام
خيراً فضحك الناس عند ذلك، فقال أبو بكر: أنت يا علي كاشف الكربات، أنت يا علي
فارج الهمّ والغمّ، فعند ذلك خرج أبو بكر فرقيَ المنبر وقال: أقيلوني - ثلاثا -
فلست بخيركم وعليٌّ فيكم، قال: فخرج عليه عمر وقال: كيف يا أبا بكر وقد رضيناك
لأنفسنا؟ فنزل عن المنبر وأخبروا بذلك أمير المؤمنين.
(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي ذر (رضي الله
عنه) قال: أمَرنا رسول الله أنْ نسلّم على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) وقال: (سلّموا على أخي ووارثي وخليفتي في قومي ووليّ كلّ مؤمن ومؤمنة من
بعدي، سلّموا عليه بإمرة المؤمنين؛ فإنّه وليّ كلّ مَن يسكن الأرض إلى يوم
القيامة، ولو قدّمتموه لأخرجت الأرض بركاتها؛ فإنّه أكرم مَن عليها من أهلها)، قال
أبو ذر: فرأيت عمر قد تغيّر لونه وقال: أحقٌّ من الله يا رسول الله، قال: (نعم يا عمر،
حق من الله تعالى أمرني به وبذلك أمرتكم)، قال: فقام وسلّم عليه بإمرة المؤمنين
وكذلك أبو بكر ثمّ أقبلا على أصحابهما وقالا ما قالاه.
(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله: (إنّ الله خلقني وعليّاً
من شجرةٍ واحدة فأنا أصلها وعليّ فرعها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا أوراقها
فمَن تمسّك بها ومَن تخلّف عنها هوى).
(وعن سليم بن قيس) يرفعه إلى أبي ذر
والمقداد وسلمان (رضي الله عنهم) قالوا: قال لنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام): (إنّي مررت بالصهّاكي يوماً فقال لي: ما
مثَلُ محمّد في أهل بيته إلاّ كمثل نخلةٍ نبتت في كناسة، قال: فأتيت رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) فذكرت ذلك له فغضِب غضباً
شديداً، فقام فخرج مُغضباً وصعد المنبر ففزعت الأنصار ولبسوا السلاح لِما رأوا مِن
غضبه، ثمّ قال: ما بال أقوامٍ يعيّرون أهل بيتي وقد سمِعوني أقول في فضلهم ما
أقول، وخصصتهم بما خصّهم الله تعالى به وفضّل عليّاً (عليه السلام) عليهم لإكرامه
وسبقه إلى الإسلام وبلائه، وأنّه منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ
بعدي، ثمّ إنّهم يزعمون أنّ مثَلي في أهل بيتي كمثل نخلةٍ نبتت في كناسة، ألا أنّ
الله سبحانه وتعالى خلَق خلقه وفرّقهم فرقتين وجعلني في خيرها شعباً وخيرها قبيلةً
ثمّ جعلهم بيوتا فجعلني في خيرها بيتاً حتى حصلت في أهل بيتي وعشيرتي وبني أبي أنا
وأخي عليّ بن طالب.
ثمّ إنّ الله اطّلع إلى الأرض اطلاعةً فاختارني منهم ثمّ اطّلع عليهم ثانيةً فاختار أخي
وابن عمّي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في أُمّتي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنةٍ من بعدي،
فمَن والاه فقد والاني ومَن عاداه فقد عاداني ومن عاداني فقد عادى الله، ومن أحبّه
فقد أحبّ الله تعالى، ومن أبغضه فقد أبغض الله تعالى، فلا يحبّه إلاّ مؤمن ولا
يبغضه إلاّ كافر فهو زين الأرض بعدي وزين من أسكنتها، وهو كلمة الله التقوى وعروته
الوثقى، ثمّ قال: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)، أيّها الناس ليبلّغ مقالتي الشاهد
منكم الغائب، اللهمّ اشهد عليهم أنّ الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض نظرةً ثالثة
فاختار منها أحد عشر إماما وهُم من أهل بيتي خيار أُمّتي بعد أخي عليّ كلّما هلَك
منهم أحد قام آخر، كمثل نجوم السماء كلّما غاب نجمٌ طلَع آخر وهم أئمّة هادون
مهديّون لا يضرهم كيد مَن كادهم ولا خُذلان مَن خذلهم، لعن الله مَن كادهم ومَن
خذلهم هم حُجج الله تعالى في أرضه وشهدائه على خلقه من أطاعهم فقد أطاع الله تعالى،
ومَن عصاهم فقد عصى الله تعالى، ثمّ هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا
يفارقونه حتى يردوا علَيّ الحوض، أوّلهم ابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
وهو خيرهم وأفضلهم، ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين وأُمّهم فاطمة ابنتي، ثمّ تسعة
من ولد الحسين ثمّ بعدهم جعفر بن أبي طالب ثمّ عمّي حمزة بن عبد المطّلب، أنا خير
النبيّين والمرسلين وعليّ خير الوصيّين وأهل بيتي خير بيوت أهل النبيّين وفاطمة
ابنتي سيّدة نساء أهل الجنّة أجمعين، أيّها الناس، أترجون شفاعتي لكم وأعجز عن أهل
بيتي؟
أيّها الناس، ما مِن أحد غدا يلقى الله
تعالى مؤمناً لا يشرك به شيئاً إلاّ أجره الجنّة ولو أنّ ذنوبه كتراب الأرض، أيّها
الناس، لو أخذت بحُقّه باب الجنّة ثمّ تجلّى لي؟ الله عزّ وجل فسجدت بين يديه، ثمّ
أذن لي في الشفاعة لم أوثر على أهل بيتي أحداً، أيّها الناس عظّموا أهل بيتي في
حياتي وبعد مماتي، وأكرموهم وفضّلوهم لا يحلّ لأحدٍ أنْ يقوم لأحد غير أهل بيتي
فانسبوني مَن أنا)، قال: فقام الأنصار وقد أخذوا بأيدهم السلاح وقالوا: نعوذ الله
مِن غضب الله وغضَب رسوله، أخبرنا يا رسول الله مَن آذاك؟ يا رسول الله من آذاك في
أهل بيتك حتى نضرب عنقه؟
قال: (أنا محمّد بن عبد الله عبد
المطّلب)، ثمّ انتهى بالنسب إلى نِزار، ثمّ مضى إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله،
ثمّ مضى منه إلى نوح (عليه السلام)، ثمّ قال: (أنا وأهل بيتي كطينة آدم (عليه
السلام) نكاحٌ غير سفاح، سلوني، والله لا يسألني رجل إلاّ أخبرته عن نسَبِه وعن
أبيه)، فقام إليه رجل فقال: من أنا يا رسول الله؟
فقال: (أبوك فلان الذي تُدعى إليه)،
قال: فارتدّ الرجل عن الإسلام، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله)
والغضب ظاهر في وجهه: (ما يمنع هذا الرجل الذي يعيب على أهل بيتي وأهلي وأخي
ووزيري وخليفتي من بعدي ووليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ بعدي أنْ يقوم ويسألني عن أبيه
أين هو في جنّة أم في نار)، قال فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أنْ يذكر رسول الله
ويفضحه بين الناس، فقام وقال: نعوذ بالله من سخَط الله وسخَط رسوله، ونعوذ بالله
من غضَب الله وغضَب رسوله اعف عنّا عفى الله عنك، أقلنا أقالك الله، استرنا سترك
الله، اصفح عنّا جعلنا الله فداك، فاستحى النبيّ وسكت؛ فإنّه كان من أهل الحِلم
وأهل الكرم وأهل العفو، ثمّ نزل (صلّى الله عليه وآله).
(وممّا رواه) الحكَم بن مروان أنّ عمر
بن الخطّاب نزلت قضيّة في زمان خلافته فقام لها وقعد وارتجّ، ونظر مَن حوله فقال:
معاشر الناس والمهاجرين والأنصار، ماذا تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا: أنت أمير
المؤمنين وخليفة رسول الله تعالى، والأمر بيدك فغضِب من ذلك وقال: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)، ثمّ قال: والله لتعلمُنّ مَن صاحبها
ومَن هو أعلم بها، فقالوا: يا أمير المؤمنين كأنّك أردت عليّ بن أبي طالب؟
قال: إنّا نعدل عنه، وهل لقحت حرّة بمثله؟ قالوا: أنأتيك به يا أمير المؤمنين؟ قال: هيهات هناك شمخٌ من هاشم ونسَب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا يأتي فقوموا بنا إليه، قال: فقام عمر ومَن معه وهو يقول: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى)، ودموعه تهمل على خدّيه قال: فأجهش القوم لبكائه ثمّ سكت فسكتوا، وسأله عمر عن مسئلته فأصدَر جوابها فقال: أما والله يا أبا الحسن لقد أرادك الله للحق، ولكن أبى قومك، فقال له أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (يا أبا حفص عليك من هنا ومن هنا: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً))، قال فضرب عمر بإحدى يديه على الأُخرى وخرَج مسودّ اللون كأنّما ينظر في سواد، وهذا الحديث من كتاب أعلام البنوّة في القائمة الأُولى وفي وقف الأخلاطية.
(وممّا روي عن جماعة ثقاة) أنّه لمّا
وردت حرّة بنت حليمة السعديّة (رضي الله عنها) على الحجّاج بن يوسف الثقفي فمثلت
بين يديه، فقال لها: الله جاء بك فقد قيل عنك أنّك تفضّلين عليّاً على أبى بكر
وعمر وعثمان، فقالت: لقد كذب الذي قال: إنّي أُفضّله على هؤلاء خاصّة، قال: وعلى
مَن غير هؤلاء؟ قالت: أُفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان
وعيسى ابن مريم (عليهم السلام)، فقال لها: ويلك، أقول لك أنّك تفضّلين على الصحابة
وتزيدين عليهم سبعة من الأنبياء من أُولى العزم من الرسل؟! إنْ لم تأتي ببيانِ ما
قلتِ وإلاّ ضربت عنقك، فقالت: ما أنا مفضّلته على هؤلاء الأنبياء ولكن الله عزّ
وجل فضّله عليهم في القرآن بقوله عزّ وجل في آدم: (وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)
وقال في حقّ عليّ: (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)، فقال: أحسنت يا حرّة، فيم تفضلينه على
نوح ولوط؟ فقالت الله عزّ وجل فضّله عليهما بقوله: (ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)، وعليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) كان
مع ملائكة الله الأكبر تحت سدرة المنتهى، زوجته بنت محمّد فاطمة الزهراء التي يرضى
الله تعالى لرضاها ويسخط لسخطها.
فقال الحجّاج: أحسنت يا حرّة فيم
تفضلينه على أبي الأنبياء إبراهيم خليل الله؟ فقالت: الله عزّ وجل فضّله بقوله: (وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ومولاي أمير المؤمنين قال: قولاً لا
يختلف فيه أحد من المسلمين: (لو كُشِف الغطاء ما أزددت
يقينا)، وهذه كلمة ما قالها قبله ولا بعده أحد، قال: أحسنت يا حرّة فيم تفضّلينه
على موسى كليم الله؟
قالت بقوله عزّ وجل: (فَخَرَجَ
مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)،
وعليّ بن أبي طالب بات على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
لم يخَف حتى أنزل الله تعالى في حقّه:
(وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ)، قال الحجّاج: أحسنت يا حرّة، ففيم
تفضلينه على داود وسليمان؟ قالت الله تعالى فضّله عليهما بقوله عزّ وجل: (يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، قال لها: في أيّ شيء كانت حكومته؟
قالت: في رجُلين رجُل كان له كرم والآخر له غنَم فوقعت الغنَم بالكرَم فرعته
فاحتكما إلى داود (عليه السلام)، فقال: تُباع الغنم ويُنفق ثمنُها على الكرَم حتى
يعود إلى ما كان عليه، فقال له ولده: يا أبت، بل يؤخذ من لبنِها وصوفها.
قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ)
وأنّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (سلوني عمّا فوق العرش سلوني عمّا
تحت العرش سلوني قبل أنْ تفقدوني) وأنّه (عليه السلام) دخل على رسول الله يوم فتح
خيبر، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (للحاضرين
أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي)، فقال لها أحسنت فيمَ تفضلينه على سليمان؟ فقالت:
الله تعالى فضّله عليه بقوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)، ومولانا عليّ قال:
(طلّقتك يا دنيا ثلاثاً لا حاجة لي
فيك)، فعند ذلك أنزل الله تعالى فيه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً)، فقال: أحسنت يا حرّة ففيم تفضّلينه
على عيسى بن مريم (عليه السلام)؟ قالت:الله عزّ وجل فضّله
بقوله تعالى: (وَإِذْ
قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ
الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية، فأخّر الحكومة إلى يوم القيامة،
وعليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) لمّا ادّعى الحرورية فيه ما ادّعوه وهُم أهل
النهروان قاتلهم ولم يؤخّر حكومتهم، فهذه كانت فضائله لم تُعد بفضائل غيره أحسنت
يا حرّة خرجت من جوابك، لولا ذلك لكان ذلك، ثمّ أجازها وسرّحها سراحاً حسناً رحمة
الله عليها.
(وبالإسناد) يرفعه إلى جابر بن عبد الله
الأنصاري في قوله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال: الصادقون هُم محمّد وأهل بيته.
(وبالإسناد) يرفعه إلى جابر (رضي الله
عنه) في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)،
قال: البيّنة رسول الله، والشاهد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قوله تعالى: (وَنَادَى
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ)
الآية، (فَأَذَّنَ
مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، فيه حديثٌ طويل وقد ذكر أنّ عليّاً
(عليه السلام) هو المنادي وهو المؤذّن وكذلك في قوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ
يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) وفي
قوله تعالى: (وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)،
بعليّ (عليه السلام)، ذكروا فيه روايات كثيرة فيها الأعاجيب وسُئل الصادق (عليه
السلام) عن قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى)،
فذكر قرّائه نقلَه أقوالاً نقلت عنه أقرّ بها الجاحدون، وعن أبي عبد الله (عليه
السلام) في قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ):
(الراجفة للحسين ومأتمه، والرادفة لعليّ ابنه (عليه السلام)، وهو أوّل من ينفض
رأسه من التراب مع الحسين في خمسة وسبعين ألف وهو قوله عزّ وجل: (إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)).
عن عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه
السلام) أنّه قال: (لجدّي عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) في كتاب الله تعالى
أسماءٌ كثيرة، ولكن لا تعرفونها)، فقلتُ: وما هي؟ قال: (ألَم تسمع قول الله عزّ
وجل: (وَأَذَانٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ))، وقال أبو عبد الله: (إنّ الرجل إذ
صارت نفسه عند صدره وقت موته يرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)،
وهو يقول له: أنا البشير النذير، ثمّ يرى عليّ بن أبى طالب فيقول: أنا عليّ بن أبي
طالب الذي كنت تحبّني، أنا أنفعك)، قال: فقلت: يا مولاي، مَن هذا رجع إلى الدنيا؟
قال: (إذا رأى هذا مات) قال: (وذلك في
القرآن: (الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ)،
قال: يُبشّره لمحبّته إيّاه بالجنّة في الدنيا والآخرة، وهي بشارة إذا رآه أمِن من
الخوف)، قال أبو يمامة كنت عند أبي عبد الله في ليلة جمعة، فقال لي: (اقرأ) فقرأت
حتى بلغت إلى (يَوْمَ
لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلاّ مَنْ
رَحِمَ اللَّهُ)
فقال (عليه السلام): (نحن الذين يرحَم تعالى عباده بنا، نحن الذين استثنى الله
تعالى).
(وبالإسناد) يرفعه عن المغيرة، عن عليّ
بن أبى طالب (عليه السلام) قال: (قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مَن مات وهو يحبّك بعد موتك يختِم الله تعالى له
بالإيمان، ومَن مات وهو يبغضك مات ميتةً جاهليّة وحوسِب بما عمله).
(وبالإسناد) يرفعه عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) أنّه قال: لمّا
سار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلى صِفّين وقَف بالفرات وقال
لأصحابه: (أين المخاض؟)، قالوا: يا مولانا، ما نعلم أين المخاض، فقال لبعض أصحابه:
(امض إلى هذا التل وناد: يا جلندي أين المخاض). قال:
فسار حتى وصَل إلى التل ونادى: (يا جلندي، أين
المخاض؟)، قال: فأجابه من تحت الأرض خلقٌ كثير فبُهِت ولم يعلَم ما يصنع، فأتى إلى
الإمام (عليه السلام) وقال: يا مولاي جاوَبني خلقٌ كثير فقال (عليه السلام): (يا
قنبر، امض وقل يا جلندى بن كركر، أين المخاض)، قال: فمضى قنبر وقال: يا جلندي بن كركر أين المخاض فكلّمه واحد وقال:
(ويلكم، مَن قد عرَف اسمي واسم أبي وأنا
في هذا المكان قد صرت تراباً، وقد بقيَ قَحف رأسي عظماً نخِرة رميماً ولي ثلاثة
آلاف سنة، ما يعلم أين المخاض فهو والله أعلم بالمخاض منّي، ويلكم ما أعمى قلوبكم
وأضعف يقينكم، ويلكم امضوا إليه واتّبعوه فأين خاض خوضوا معه؛ فإنّه أشرف الخلق
على الله بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)). فاعتبر
أيّها المعتبر وانظر بعين اليقين إلى هذه المعجزات والفضائل التي ما جُمِعت في
بشرٍ سِواه.
(وبالإسناد) يرفعه إلى سليم بن قيس قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة والناس حوله إذ دخل عليه رأس اليهود ورأس النصارى فسلّما عليه وجلسا، فقال الجماعة: بالله عليك يا مولانا: اسألهم حتى ننظر ما يعلمون فقال لرأس اليهود: (يا أخا اليهود)، قال: لبّيك يا عليّ، فقال (عليه السلام): (كم اقتسمت أُمّة نبيّكم؟) قال: هو عندي في كتابٍ مكتوب، فقال (عليه السلام): (قاتل الله قوماً أنتَ زعيمهم يُسأل عن أمرِ دينه فيقول: هو عندي في كتاب)، ثمّ التفت إلى رأس النصارى وقال له: (كم اقتسمت أُمّة نبيّكم؟) قال: على كذا وكذا، فقال (عليه السلام): (لو قُلت ما قلت مثل ما قال صاحبك لكان خيراً لك من أنْ تقول وتُخطئ، ولا تعلم)، ثمّ أقبل على الناس وقال: (أيّها الناس، أنا أعلم بأهل التوراة من توراتهم، وبأهل الإنجيل من إنجيلهم، وأعلم بأهل القرآن مِن قرآنهم فأنا أُخبركم على كم اقتسمت الأمم، أخبرني به حبيبي وقرّة عيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ففي النار سبعون منها وواحدة في الجنّة، وهي التي اتبعت وصيّه، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة وهي التي اتبعت وصيّ عيسى (عليه السلام)، وافترقت أُمّتي ثلاثة وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنّة فهي التي اتبعت وصيّي، وضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: اثنتان وسبعون فرقةٌ حلّت عَقَد الله فيك، وواحدة في الجنّة وهي التي اتخذت محبّتك وهم شيعتك)
(وبالإسناد) يرفعه إلى سليم بن قيس أنّه
قال: لما قُتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) بكى ابن عبّاس بكاءً
شديداً، ثمّ قال: ما لقِيت هذه الأُمّة بعد نبيّها؟! اللهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ
بن أبي طالب (عليه السلام) ولولده وليّ، ومِن عدوّه وعدو ولده بريء، فإنّي مسلّم
لأمرهم ولقد دخلت على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عمّ رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال: (يا ابن
عبّاس هذه الصحيفة إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وخطّي بيدي).
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، اقرأها
علَيّ فقرأها وإذا فيها كل شيء مُنذ قُبِض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يوم قتْل الحسين (عليه السلام)، وكيف يُقتل ومَن
يقتله ومَن ينصره ومَن يستشهد معه فيها، ثمّ بكى بكاءً شديداً وأبكاني، وكان فيما
قرأه كيف يُصنع به وكيف تستشهد فاطمة وكيف يستشهد الحسين (عليه السلام)، وكيف تغدر
به الأُمّة فلمّا قرأ مقتل الحسين ومَن يقتله أكثر من البكاء، ثمّ أدرج الصحيفة
وقد بقيَ ما يكون إلى يوم القيامة، وكان فيها لمّا قرأها أمر أبي بكر وعمر وعثمان،
وكم يملك كلّ إنسان منهم، وكيف بويع عليّ بن أبي طالب ووقعة الجمَل ومسير عائشة
وطلحة الزبير ووقعة صفّين، ومَن يُقتل فيها ووقعة النهروان وأمر الحكَمَين ومُلك
معاوية ومَن يقتل من الشيعة وما يصنع الناس بالحسن وأمر يزيد بن معاوية، حتى انتهى
إلى قتل الحسين (عليه السلام) فسمِعت ذلك ثمّ كان كلمّا قرأ لم يزيد ولم ينقض،
ورأيت خطّه أعرفه في الصحيفة لم يتغيّر ولم يظفر فلمّا أدرج الصحيفة قلت: يا أمير
المؤمنين: لو كنت قرأت عليّ بقيّة الصحيفة قال: (لا يمنعني فيها ما ألقى من أهل
بيتك وولدك أمراً فظيعاً مِن قتلهم لنا وعداوتهم لنا وسوء مُلكهم ويوم قدرتهم
فأكره أنْ تسمعه فتغتم ويُحزنك ولكنّي أُحدّثك بأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أخذ عند موته بيدي ففتح لي ألف باب من العلم، تنفتح من
كلّ باب ألف باب، وأبو بكر وعمر ينظرون إليّ وهو يشير لي بذلك فلمّا خرجت قالا: ما
قال لك؟ قال: فحدّثتهم بما قال فحرّكا أيديهما ثمّ حكيا قَولي ثّم ولّيا يُردّدان
قولي ويخطران بأيديهما).
ثمّ قال: (يا ابن عبّاس إنّ ملك بني أُميّه إذا زال فأوّل ما يملك من بني هاشم وُلدُك فيفعلون الأفاعيل)، فقال ابن عبّاس: لأنْ يكون نسختي ذلك الكتاب أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس.
(وعن سُليم بن قيس) أنّه قال: أقبلنا من
صفّين مع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فنزل العسكر قريباً من دير نصراني قال:
فخرج إلينا من الدير شيخٌ جميل الوجه حسَن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يديه قال:
فجعل يتصفّح الناس حتى أتى عليّاً (عليه السلام) فسلّم عليه بالخلافة ثمّ قال:
إنّي رجل من نسل رجلٍ من حواريّ عيسى بن مريم (عليه السلام) وكان من أفضل حواريه
الاثني عشر وأحبّهم إليه وأبرّهم عنده، وإليه أوصى عيسى بن مريم وأعطاه كُتبه
وعلمه وحكمته، فلم يزَل أهل بيته على دينه متمسّكين بحبله فلَم يكفروا ولو لم
يرتدّوا ولم يغيّروا تلك الكتب.
فملّته لم تُبدّل ولم تُرد ولم تنقض
وتلك الكتب عندي وإملاء عيسى وخطّ نبيّنا بيده، فيه كلّ شيء يفعل الناس، كم ملك
وكم يملك منهم وكم يكون في كلّ زمان كل ملك منهم، ثمّ إنّ الله تعالى يبعث رجلاً
من العرَب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمان من أرض تهامة من قريةٍ يقال لها
مكّة يُقال له: أحمد وله اثنا عشر اسماً فذكر مبعثه ومولده وهجرته ومَن يقاتله
ومَن ينصره ومَن يعاديه، وكم يعيش وما تلقى أُمّته من الفرقة والاختلاف وفيه تسمية
كلّ إمامِ هدى وتسمية كلّ إمام ضلال إلى أنْ ينزل المسيح (عليه السلام) من السماء
في ذلك الكتاب ثلاثة عشَر رجلاً من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمان خيرة الله
خلقه إلى الله، والله وليّ مَن والاهم وعدوّ مَن عاداهم، فمَن أطاعهم أطاع الله
ومن أطاع الله فقد اهتدى، ومَن عصاهم ضل طاعتهم لله رضى ومعصيتهم لله معصية
مكتوبين بأسمائهم ونسبِهم ونعوتهم وكم يعيش كلّ واحد منهم بعد واحد، وكم رجل منهم
يستر دينه ويكتمه من قومه وما يظهر منهم، ومَن يملك وتنقاد له الناس حتى ينزل عيسى
(عليه السلام) على آخرهم فيصلّي عيسى خلفه ويقول: (أنّكم الأئمّة لا ينبغي لأحد
أنْ يتقدّمكم) فيتقدّم ويصلّي بالناس وعيسى خلفه الأوّل أفضلهم وله مثل أُجورهم
وأُجور من أطاعهم واهتدى بهديهم، أحمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واسمه محمّد بن عبد الله ويس وطه والفاتح والخاتم
والحاشر والعاقب والماحي والقائد في الساجدين (يعني في أصلاب النبيّين) وهو نبيّ
الله وخليل الله وحبيب الله وخيرته.
يراه بقلبله
ويكلّمهم بلسانه وأنّه يذكر فهو أكرم خلق الله على الله وأحبّهم إلى الله، فلَم
يخلق الله تعالى نبيّاً مرسلاً ولا ملَكاً مقرّباً من عصر آدم إلى من سِواه خيراً
عند الله ولا أحبّ إلى الله، فيقعده الله تعالى يوم القيامة بين يدي عرشه ويشفّعه
في كلّ من شفع له وباسمه جرى القلَم في اللوح المحفوظ، وفي أُمّ الكتاب يذكر محمّد
رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصاحبه حامل اللواء
يوم القيامة بين يدي عرشه يوم الحشر الأكبر وأخوه وزيره وخليفته ووصيّه في أُمّته
وأحبّ خلق الله إليه بعده عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عمّه لأبيه وأُمّه
ووليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ بعده، ثمّ أحد عشَر رجلاً من بعده من ولد محمّد (صلّى
الله عليه وآله) من ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)
سميّا ابنَيّ هارون شبّر وشُبير، وتسعة من ولده أصغرهما وهو الحُسين واحد بعد واحد
فآخرهم الذي يؤمّ لعيسى بن مريم وفيه تسمية كلّ مَن يملك منهم ومَن يستتر منهم
حديثه، وأوّل من يظهر منهم يملأ جميع بلاد الله قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً
وجوراً، يملك ما بين المشرق والمغرب حتى يظهره الله على أهل الأرض كلّها فلمّا
بُعث هذا النبيّ وأبي حتى آمن به وصدّقه وكان شيخاً كبيراً فمات وقال لي: إنّ
خليفة محمّد الذي هو في هذا الكتاب اسمه ونعته سيمرّ بك إذا مضى ثلاث أئمّة من
أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار، وهُم عندي مسمّون بأسمائهم وقبائلهم: وهم فلان
وفلان وفلان وكم يملك كلّ واحدٍ منهم فإذا جاء بعدهم
الذي كان له الحق فاخرج إليه وبايعه وقاتل معه، فإنّ الجهاد معه مثل الجهاد مع
رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والموالي له كالموالي
لله ولمحمّد، والمعادي له كالمعادي لله ولمحمّد.
يا أمير المؤمنين مدّ يدك حتى أُبايعك
فإنّي أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك
خليفته على أُمّته وشاهده على خلقه وحجّته على عباده، وأنّ الإسلام دين الله وأنا
ابرأ إلى الله من كلّ دينٍ خالف الإسلام وأنّه دين الله تعالى الذي اصطفاه ورضيه
لأوليائه، وأنّه دين عيسى بن مريم (عليه السلام) ومِن قبله كان من الأنبياء
والمرسلين الذين دان لهم مَن مضى من آبائي، وأنّي أتولّى وليك وأبرأ من عدوّك
وأتولّى الأئمّة الأحد عشر مِن ولدك وأتبرأ من عدوّهم وممّن خالفهم وأبرأ منهما
وممّن ظلمهم وجحَد حقّهم من الأوّلين والآخرين.
فعند ذلك ناوله يدَه المباركة وبايعه
فقال له: (أرني كتابك) فناوَله إيّاه فقال لرجلٍ من أصحابه: (قم مع هذا الرجل
فانظر ترجماناً يفهم كلامه فينسخه لك بالعربيّة مفسّراً فأتي به مكتوباً
بالعربية)، فلمّا أنْ أتوه قال لولده الحسين (عليه السلام): (آتني بذلك الكتاب
الذي بعثه إليك)، فأتى به فقال: (اقرأه وانظر أنت يا فلان الذي نسخته في هذا فإنّه
خطّي بيدي إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله))،
فقرأه فما خالفه حرفاً واحداً ما فيه تقديم ولا تأخير كأنّه إملاء رجلٍ واحد على
رجلين فعند ذلك حمِد الله الإمام (عليه السلام) وأثنى عليه، فقال: (الحمد الله
الذي لو شاء لم تختلف الأُمّة ولم تفترق، والحمد الله الذي لم ينسني ولم يُضيّع
أجرى ولم يحمل ذكرى عنده وعند أوليائه ورسله إذ طفى وحمل عند أولياء الشياطين
وحزبهم)، قال: ففرح بذلك مَن حضَر من شيعته من المؤمنين،وساء
ذلك كثيراً ممّن كان حوله من المعاندين حتى عرفنا ذلك في وجوههم وألوانهم.
(وبالإسناد) يرفعه عن سلمان والمقداد
وأبي ذر قالوا: إنّ رجلاً فاخر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال له: رسول الله
(صلّى الله عليه وآله): (يا عليّ فاخر أهل الشرق والغرب
والعجَم والعرَب فأنت أكرمهم وابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأكرمهم زواجاً وعمّاً وأعظمهم حَزما وحِلماً، وأقدمهم
سلماً وأكثرهم علماً بسنّتي وأشجعهم قلباً في لقاء الحرب وأجودهم كفّاً وأزهدهم في
الدنيا وأشدهم جهاداً وأحسنهم خلقاً وأصدقهم لساناً وأحبّهم إلى الله وإليّ،
وستبقى بعدى ثلاثين سنة تعبد الله تعالى وتصبر على ظلم قريش لك، ثمّ تجاهد في سبيل
الله إذا وجدت أعواناً فقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله، ثمّ تُقتل
شهيداً فتخضّب لحيتك من دم رأسك قاتِلك يعدل عاقر ناقة صالح في البغضاء لله والبعد
من الله، يا عليّ، إنّك مِن بعدي في كلّ أمرٍ غالب مغلوب مغصوب تصبر على الأذى في
الله وفى رسوله محتسباً أجرك غير ضايع عند الله، فجزاك
الله بعدي عن الإسلام خيراً).
(وبالإسناد) يرفعه عن سلمان وأبي ذر
والمقداد أنّه أتاهم رجلٌ مسترشد في زمن خلافة عمر بن الخطّاب وهو رجل من أهل
الكوفة فجلس إليهم يسألهم فقالوا له: عليك بكتاب الله فالزمه، وبعليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) فإنّه مع الكتاب لا يفارقه، فإنّا نشهد أنّا سمعنا من رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) أنّه يقول: (إنّ عليّاً مع الحقّ
والحقُّ معه، يدور معه كيفما دار، وأنّه أوّل مَن آمن بي وأوّل مَن يصافحني يوم
القيامة، وهو الصدّيق الأكبر والفاروق بين الحق والباطل، وهو وصيّي ووزيري وخليفتي
في أُمّتي من بعدي فيُقاتل على سنّتي)، فقال لهم الرجل: فما بال الناس يسمّون أبا
بكر الصدّيق وعمر الفاروق؟ فقالوا له: جهَل الناس حقّ عليّ كما جهِلوا خلافة رسول
الله (صلّى الله عليه وآله) وجهلوا حقّ أمير المؤمنين (عليه
السلام) وما ذلك لهما باسم؛ لأنّه اسم غيرهما والله إنّ عليّاً هو الصديق الأكبر
والفاروق الأزهر، والله إنّ عليّاً خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّه أمير المؤمنين أمرنا وأمرهم به رسول الله فسلّمنا
جميعاً عليه بإمرة المؤمنين يوم بايعناه في غدير خم.
(وبالإسناد) يرفعه عن جابر، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) قال: (خرجت أنا ورسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إلى صحراء المدينة فلمّا صرنا في الحدائق بين النخل صاحت نخلة بنخلة: هذا النبيّ
المصطفى وذا عليّ المرتضى، ثمّ صاحت ثالثة برابعة هذا موسى وذا هارون، ثمّ صاحت
خامسة بسادسة هذا خاتم النبيّين وذا خاتم الوصيّين، فعند ذلك نظَر إليّ رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) مبتسماً وقال لي: يا أبا الحسن،
ما سمِعت؟ قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: ما تسمّي هذه النخيل؟ قلتُ: الله ورسوله
اعلم قال: تسمّيها الصيحاني؛ لأنّها صاحت بفضلي وفضلك يا عليّ).
(وبالإسناد) يرفعه إلى جعفر بن محمّد
الصادق (عليه السلام)، عن أبيه، عن جدّه الحسين (عليه السلام)، عن عليّ (عليه
السلام) أنّه حدّثني عمر بن الخطّاب قال: سمِعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (فضل عليّ (عليه السلام) على هذه الأُمّة كفضل
شهر رمضان على ساير الشهور، ثمّ فضل عليّ (عليه السلام) على هذه الأُمّة كفضل يوم
الجمعة على ساير الأُيّام، فطوبى لمَن آمن به وصدّق بولايته، والويل كلّ الويل
لمَن جحده وجحد حقّه، إنّ حقّا على الله أنْ لا ينيله شيئاً مِن رَوحه يوم القيامة،
ولا تناله شفاعة محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(وبالإسناد) عن الإمام جعفر (عليه
السلام)، عن أبيه، عن جدّه الحسين (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله الأنصاري
قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فاطمة قلبي
وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري والأئمّة من ولدها أُمنائي وحبلها الممدود،
فمَن اعتصم بهم نجا ومَن تخلّف عنهم هوى).
(وبالإسناد) يرفعه إلى ابن عبّاس (رضي
الله عنه) قال: رفع القطر عن بني إسرائيل بسوء آرائهم في أنبيائهم، وأنّ الله
تعالى يرفع القطر عن هذه الأُمّة ببغضهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
(وبالإسناد) يرفعه إلى سلمان الفارسي (رضي
الله عنه) أنّه قال: كنا عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
إذ دخل أعرابي فوقف وسلّم علينا فرددنا عليه السلام، فقال: أيّكم بدر التمام
ومصباح الظلام محمّد رسول الله الملك العلاّم. أهذا هو الصبيح الوجه؟ فقلنا: نعم
يا أخا العرَب اجلس، فجلس فقال له: يا محمّد آمنت بك ولم أرَك وصدّقتك قبل أنْ
ألقاك غير أنّه بلغني عنك أمر.
فقال: (وأيّ شيء هو الذي بلغك عنّي؟)،
فقال دعوتنا إلى شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأنّك محمّد رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) فأجبناك ثمّ دعوتنا إلى الصلاة والزكاة
والصيام والحجّ والجهاد فأجبناك، ثمّ لم ترضَ عنّا حتى دعوتنا إلى موالاة ابن عمّك
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومحبّته أنت فرضته في الأرض أم الله تعالى فرضه
في السماء؟
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (بل فرضه الله تعالى من السموات
على أهل السموات والأرض)، فلمّا سمِع الأعرابي كلامه قال: سمعنا لما أمرتنا به يا
نبي الله فإنّه الحقّ من عند ربّنا، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا أخا العرب، أعطى الله عليه خمس خصال فواحدة منهن
خيرٌ من الدنيا وما فيها، إلا أُنبئك بها يا أخا العرب؟) قال: بلى يا رسول الله.
قال: (أخا العرب كنت جالساً يوم بدر فقد
انقضت عنّا الغزاة هبط جبرئيل (عليه السلام) وقال لي: أنّ الله يقرئك السلام ويقول
لك: يا محمّد آليت على نفسي بنفسي، وأقسمت عليّ بي أنّي لا أُلهم حبّ عليّ إلاّ
مَن أحببته أنا؛ فمَن أحببته ألهمته حبّ عليّ (عليه السلام))، ثمّ قال (صلّى الله
عليه وآله): (ألا أُنبئك بالثانية؟)
قلت: بلى يا رسول الله فقال (صلّى الله
عليه وآله): (كنت جالسا بعدما فرغت مِن جهاز عمّي حمزة
إذ هبط جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: قد فرضت
الصلاة ووضعتها عن المعتل، وفرضت الصوم ووضعته عن المسافر، وفرضت الحج ووضعته عن
المعتل، وفرضت الزكاة ووضعتها عن المُعدَم، وفرضت حبّ عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام) على أهل السموات والأرض فلَم أعط فيه رخصة).
ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله): (ألا أنبئك بالثالثة؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال:
(ما خلق الله خلقاً إلاّ وجعل لهم سيّداً فالنسر سيّد الطيور والثور سيّد البهائم
والأسد سيّد السباع والجُمعة سيّد الأيّام ورمضان سيّد الشهور وإسرافيل سيّد
الملائكة، وآدم سيّد البشر وأنا سيّد الأنبياء وعليّ سيّد الأوصياء)، ثمّ قال
(صلّى الله عليه وآله): (ألا أنبئك يا أخا العرب
بالرابعة؟) قلت: بلى يا رسول الله.
قال: (حبّ عليّ بن أبي طالب شجرةٌ أصلها في الجنّة وأغصانها في الدنيا، فمَن تعلّق بها في الدنيا أدخله الجنّة، وبغضه شجرةٌ أصلها في النار وأغصانها في الدنيا فمَن تعلّق بها في الدنيا أداه إلى النار)، ثمّ قال: (صلّى الله عليه وآله): (يا أعرابي، ألا أُنبئك بالخامسة؟)، قلت بلى يا رسول الله قال: (إذا كان يوم القيامة نُصبَ لي منبر على يمين العرش ثمّ نُصب لإبراهيم (عليه السلام) منبر يُحاذي منبري عن يمين العرش، ثمّ يؤتى بكرسيّ عالٍ مشرق زاهر يُعرف بكرسي الكرامة، فينصب بينها فأنا على منبري وإبراهيم على منبره وابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فما رأت عيناي بأحسن من حبيبٍ بين خليلين)، ثم قال (صلّى الله عليه وآله): (يا أعرابي حبّ عليّ حقٌّ فإنّ الله تعالى يُحبّ محبّيه، وعليّ (عليه السلام) معي في قصرٍ واحد)، فعند ذلك قال الأعرابي: سمعاً وطاعة لله ولرسوله ولابن عمّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
(وبالإسناد) يرفعه إلى جابر بن عبد الله
الأنصاري (رضي الله عنه) قال: كنّا جلوساً عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ ورَد علينا أعرابي أشعث الحال، عليه ثيابٌ رثّة
الفقرُ ظاهر بين عينيه، ومعه عياله فلمّا دخل المسجد سلّم على النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) وأنشد يقول:
أتيتك والعذارى تبكي برنّة |
|
وقد ذُهِلت أُمّ الصبيّ عن الطفلِ |
وأُختٌ وبنتان وأُمّ كبيرةٌ |
|
وقد كِدتُ مِن فقري أُخالط في عقلي |
وقد مسّني ضرٌّ وعري وفاقةٌ |
|
وليس لنا مالٌ يمرُّ ولا يحلي |
ولسنا نرى إلاّ إليك فرارنا |
|
وأين مفرّ الناس إلاّ إلى الرسُلِ |
قال: لما سمع النبي (صلّى الله عليه وآله) كلامه بكى بكاءً شديداً ثمّ
قال لأصحابه:
(معاشر الناس، إنّ الله ساق إليكم
ثواباً، وقاد إليكم أجراً والجزاء من الله غُرَفٌ في الجنّة تُضاهي غُرَف إبراهيم
الخليل (عليه السلام)، مَن منكم يواسي هذا الفقير؟) قال: لم يُجبه أحد، وكان في
ناحية المسجد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يصلّي ركَعَات تطوّعاً وكان قائماً
فأومأ بيده إلى الأعرابي فدنا منه فدَفَع الخاتم من يده إليه وهو في صلاته، فأخذه
الأعرابي وانصرف وقد أحسن مَن قال:
لي خمسة ترتجى بحبّهم الـ |
|
دنيا ويرجى من قبلهم الدين |
يأمن بين الأنام تابعهم |
|
لأنّهم في الورى ميامين |
ثمّ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) غشيه الوحي إذ هبط عليه جبرئيل (عليه السلام) ونادى:
(السلام عليك يا محمّد، ربّك يُقرئك السلام ويقول لك: اقرأ (إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، فعند ذلك قام النبيّ قائماً وقال:
(معاشر المسلمين: أيّكم اليوم عمَل خيراً حتى جعله الله وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟)،
قالوا: يا رسول الله، ما فينا مَن عمَل اليوم خيراً سوى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) فإنّه تصدّق على الأعرابي بخاتمه وهو في صلاته.
فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وجبَت الولاية لابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
ثمّ قرأ عليهم الآية، قال فتصدّق الناس على الأعرابي ذلك اليوم بخمسمِئة خاتم
فأخذها الأعرابي وولّى ولقد أحسن من يقول:
أنا مولى الخمسة نزلت فيهم السور |
|
أهل طه وهل أتى فاقرأوا واعرفوا الخير |
والطواسين بعدها والحواميم
والزمر |
|
أنا مولى لهؤلاء وعدوٌّ لمـَن كفر |
خبر الأسقف
(وبالإسناد) يرفعه إلى أنس ابن مالك أنه قال: وفد الأسقف البحراني
على عمر بن الخطّاب لأجل أدائه الجزية فدعاه عمر إلى الإسلام فقال له الأسقف: أنتم
تقولون: إنّ لله جنّة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ قال: فسكَت عُمر ولم
يردّ جواباً، فقال له الجماعة الحاضرين: أجبه يا أمير المؤمنين حتى لا يطعن في
الإسلام، قال: فأطرق خجَلاً من الجماعة الحاضرين ساعة لا يرَ جواباً، فإذا بباب
المسجد رجلٌ قد سدّه بمنكبيه فتأمّلوه وإذا به عيبة عِلم النبوّة عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام) قد دخل، قال: فضجّ الناس عند رؤيته فقام عمر بن الخطّاب والجماعة
على أقدامهم، وقال: يا مولاي، أين كنت عن هذا الأسقف الذي قد علانا منه الكلام؟
أخبره يا مولانا قبل أنْ يرتدّ الإسلام، فأنت بدر التمام ومصباح الظلام وابن عمّ
رسول الأنام.
فقال الإمام عليّ (عليه السلام): (ما
تقول يا أسقف؟)، قال: يا فتى، انتم تقولون أنّ الجنّة
عرضها كعرض السماوات والأرض فأين تكون النار؟ قال له الإمام: (إذا جاء الليل أين
يكون النهار؟) فقال له الأسقف: من أنت يا فتى؟ دعني حتى أسأل هذا الفظّ الغليظ،
أنبئني يا عمر عن أرضٍ طلعت عليها الشمس ساعة ولم تطلع مرّة أُخرى.
قال عمر: أعفني عن هذا واسأل عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ قال: أخبره يا أبا الحسن، فقال عليّ (عليه السلام):
(هي أرض البحر التي فلقها الله لموسى حتى عبر هو وجنوده، فوقعت الشمس عليها تلك
الساعة ولم تطلع قبل ولا بعد، وانطبق البحر على فرعون وجنوده)، فقال الأسقف: صدقت
يا فتى قومه وسيّد عشيرته أخبرني عن شيءٍ هو في أهل الدنيا تأخذ الناس منه مهما
أخذوا فلا ينقص بل يزداد.
قال عليّ (عليه السلام): (هو القرآن
والعلوم)، فقال: صدقت أخبرني عن أوّل رسول أرسله الله لا من الجن ولا من الإنس
فقال (عليه السلام): (ذلك الغراب الذي بعثه الله تعالى لمّا قتل قابيل أخاه هابيل
فبقيَ متحيّراً لا يعلَم ما يصنع به، فعند ذلك بعث غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف
يوارى سوءةَ أخيه)، قال: صدقت يا فتى فقد بقي لي مسألة واحدة أُريد أنْ يخبرني
عنها هذا، وأومأ بيده إلى عمر، فقال: يا عمر أخبرني أين هو الله؟ قال: فغضب عند
ذلك وأمسَك ولم يرِدّ جواباً، قال: فالتفت الإمام (عليه السلام) وقال: (لا تغضب يا
أبا، حفص حتى لا يقول أنّك قد عجزت)، فقال فاخبره أنت يا أبا الحسن، فعبد ذلك قال
الإمام: (كنت عند رسول الله إذ أقبل إليه ملَك فسلّم فردّ عليه السلام، فقال: أين
كنت؟ قال: عند ربّي فوق سبع سماوات قال ثمّ أقبل ملَكٌ آخر فقال: أين كنت؟ قال كنت
عند ربّي في تُخوم الأرض السابعة السفلى، ثمّ أقبل ملَكٌ ثالث فقال: أين كنت؟ قال:
كنت عند ربّي في مطلع الشمس، ثمّ جاء ملَك آخر فقال: أين كنت؟ قال: كنت عند ربّي
في مغرب الشمس فإنّ الله لا يخلو منه مكان ولا هو شيء ولا على شيء ولا من شيء (وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) (لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(لا
يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا
أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ) (يَعْلَمُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ
إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)،
قال فلمّا سمع الأسقف قوله قال له: مد يدك فإنّي أشهد أنّ لا إله إلاّ ألله وأنّ
محمّداً رسول الله وأنّك خليفة الله في أرضه ووصيَّ رسوله، وأنّ هذا الجالس الغليظ
الكفل الحبنطي ليس لهذا المكان بأهل، وإنّما أنت أهله
فتبسّم الإمام (عليه السلام).
(وبالإسناد) يرفعه إلى المقداد بن
الأسود الكندي (رضي الله عنه) قال: كنّا مع سيّدنا رسول الله وهو متعلّق بأسناد
الكعبة وهو يقول: (اللهم اعضدني واشدد أزري وأشرح صدري وارفع ذكري)، فنزل عليه
جبرئيل (عليه السلام) وقال: (اقرأ يا محمّد)،
قال: (وما أقرأ؟) قال: اقرأ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ
ذِكْرَكَ)،
مع عليّ بن أبي طالب صهرَك فقرأها النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
وأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه فأسقطها عثمان بن عفّان حين وحّد المصاحف.
(وبالإسناد) يرفعه إلى ابن عبّاس (رضي
الله عنه) أنّه قال رسول الله: (يدخل الجنّة من أُمّتي سبعون ألفاً لا حساب عليهم
ولا عذاب)، ثمّ التفت إلى عليّ (عليه السلام) وقال: (هم شيعتك وأنت إمامهم).
(وبالإسناد) يرفعه إلى عمر بن الخطّاب أنّه قال: أُعطي لعليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) خمس خصال، فلو كان لي واحدة منها لكان أحبّ لي من الدنيا
والآخرة، قالوا: وما هيَ يا عمر، قال: تزوّجه بفاطمة (عليها السلام)، وفتح بابه
إلى المسجد حين سُدّت أبوابنا، وانقضاض الكواكب في حجرته، وقول رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) له يوم خيبر (لأعطينّ الراية غداً
رجلاً يُحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، كرّاراً غير فرّار يفتح الله تعالى
على يديه بالنصر)، وقوله (صلّى الله عليه وآله) له:
(أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)، كنت أرجو أنْ تكون فيّ
من ذلك واحدة.
(وبالإسناد) يرفعه إلى ابن مسعود أنّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لمّا خلق الله تعالى آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال الحمد الله، فأوحى الله تعالى إليه حمدتني، عبدي وعزّتي وجلالي لولا عبادٌ أُريد أنْ أخلقهم مِن ظهرك لما خلقتك، فارفع رأسك يا آدم، انظر فرفع رأسه فرأى في العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله نبيّ الرحمة وعليّ أمير المؤمنين مقيم الحجّة، فمَن عرف حقّه زكا وطاب ومَن أنكر حقّه كفَر وخاب، أقسمت على نفسي وبعزّتي وجلالي أنّي أُدخل الجنّة من أطاعه وإنْ عصاني وآليت على نفسي أنْ أُدخل النار مَن عصاه وإنْ أطاعني).
(وبالإسناد) يرفعه إلى ابن مسعود أنّه قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لمّا أُسريَ بي إلى السماء قال لي جبرئيل (عليه السلام): قد أُمرت بعرض الجنّة والنار عليك، قال: فرأيت الجنّة وما فيها من النعيم ورأيت النار وما فيها من عذاب أليم، والجنّة لها ثمانية أبواب على كلّ بابٍ منها أربع كلمات كلّ كلمة منها خيرٌ من الدنيا وما فيها لمن يعرفها ويعمل بها)، قال: قال لي جبرئيل (عليه السلام): (اقرأ يا محمّد ما على الأبواب قال: قلت له: قرأت ذلك أمّا أبواب الجنّة فعلى الباب الأوّل مكتوب لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، لكلّ شيءٍ حيلة وحيلة العيش أربع خصال: القناعة، ونبذ الحقد، وترك الحسَد، ومجالسة أهل الخير
(وعلى الباب الثاني) مكتوب لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله عليٌّ
وليّ الله، لكلّ شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع: مسح رؤوس اليتامى،
والتعطّف على الأرامل، والسعي في حوائج المسلمين، وتفقّد الفقراء والمساكين.
(وعلى الباب الثالث) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، كل شيء هالك إلاّ وجهه، لكلّ شيء حيلة
وحيلة الصحّة في الدنيا أربع خصال: قلّة الكلام، وقلّة المنام، وقلة المشي، وقلّة الطعام.
(وعلى الباب الرابع) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله فمَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم
ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم والدَيه ومَن كان يؤمن بالله اليوم
الآخر فليَقُل خيراً أو يسكت.
(وعلى الباب الخامس) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، فمَن أراد أنْ لا يُشتمَ ومَن أراد أنْ لا
يُذَل، ومَن أراد أنْ لا يَظلِم ولا يُظلَم، ومَن أراد أنْ يستمسك بالعروة الوثقى
في الدنيا والآخرة فليقل: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله عليّ وليّ الله.
(وعلى الباب السادس) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، فمَن أحبّ أنْ يكون قبره واسعاً فسيحاً
فليبن المساجد، ومَن أحبّ أنْ لا تأكله الديدان تحت الأرض فليكنِس المساجد وليكنس
المساكين، ومَن أحبّ أنْ يبقى طريّاً نضراً لا يبلى فليكسوا المساجد بالبُسُط،
ومَن أراد أنْ يرى موضعه في الجنّة فليسكن في المساجد.
(وعلى الباب السابع) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، بياض القلوب في أربع خصال: عيادة المرضى،
واتّباع الجنائز، وشراء أكفان الموتى، ورد القرض.
(وعلى الباب الثامن) مكتوب لا إله إلاّ
الله محمّد رسول الله عليٌّ وليّ الله، فمَن أراد الدخول في هذه الأبواب الثمانية
فليمسك بأربع خصال وهي الصدقة والسخاء وحسن الخلق وكفّ الأذى عن عباد الله.
ثمّ رأيت أبواب جهنّم فإذا (على الباب
الأوّل) منها مكتوبٌ ثلاث كلمات وهي: مَن رجا الله تعالى سَعد، ومَن خاف الله
تعالى أمِن، والهالك المغرور مَن رجا غير الله وخاف سِواه
(وعلى الباب الثاني) مكتوب ثلاث كلمات:
مَن أراد أنْ لا يكون عُرياناً يوم القيامة فليكس الجلود العارية في الدنيا، ومَن
أراد أنْ لا يكون عطشاناً يوم العطش فليسق العطشان في الدنيا، ومَن أراد أنْ لا
يكون جائعاً في القيامة فليُطعم البطون الجائعة في الدنيا.
(وعلى الباب الثالث) مكتوب ثلاث كلمات:
لعنَ الله الكاذبين، لعنَ الله الباخلين، لعن الله الظالمين.
(وعلى الباب الرابع) مكتوب ثلاث كلمات:
أذلّ الله من أهان الإسلام، أذلّ الله من أهان أهل بيت النبيّ، لعَن الله من أعان
الظالمين على ظلم المخلوقين.
(وعلى الباب الخامس) مكتوب ثلاث كلمات:
لا تتّبع الهوى فإنّ الهوى مجانب الإيمان، ولا تُكثر منطقك فيما لا يعنيك فتقنط من
رحمة الله، ولا تكن عوناً للظالمين.
(الباب السادس) مكتوب أنا حرام على
المتهجّدين أنا حرام على الصائمين.
(وعلى الباب السابع) مكتوب ثلاث كلمات:
حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تحاسبوا، ووبّخوا أنفسكم قبل أنْ توبّخوا، وادعوا الله عزّ
وجل قبل أنْ تردوا عليه ولا تقدرون على ذلك).
(وبالإسناد) يرفعه إلى محمّد الباقر بن
جعفر الصادق (عليهم السلام) يرويه عن النسَب الطاهر إلى جدّه رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) أنّه قال: (إنّ الله تعالى جعَل ذرّية كلّ
نبيّ مِن صلبه، وجعل ذرّيتي مِن صُلب عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) وإنّ الله
اصطفاهم كما اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، فاتّبعوهم
يهدوكم إلى صراطٍ مستقيم فقدّموهم ولا تتقدّموا عليهم؛ فإنّهم أحلمكم صغاراً
وأعلمكم كباراً، فاتّبعوهم لا يدخلونكم في ضلالٍ ولا يُخرجونكم من هدى).
(وبالإسناد) يرفعه إلى أنَس بن مالك،
والزبير بن العوّام أنّهما قالا: قال رسول الله: (أنا ميزان العِلم وعليّ كفّتاه،
والحسن والحسين خيوطه، وفاطمة (عليها السلام) علاّقته والأئمّة مِن ولدهم عموده
فيُنصب يوم القيامة فيُوزن فيها أعمال المحبّين لنا والمبغضين لنا).
(وبالإسناد) يرفعه إلى سعد بن أبي وقّاص
أنّه بينا نحن بفناء الكعبة ورسول الله معنا، إذا أقبل علينا من الركن اليماني
شيءٌ على هيئة الفيل أعظم ما يكون من الفِيَلة، فتفل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقال: (لُعِنت وخُزيت يا ملعون)، فشك سعد فعند ذلك قام
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: (ما هذا يا رسول الله؟).
قال: (أو ما تعرفه يا عليّ؟)، فقال:
(الله ورسوله أعلم) فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(هذا إبليس) فوثَب أمير المؤمنين (عليه السلام) مِن مكانه كأنّه أسد وأخَذ بناصيته
وجذَبَه مِن مكانه ثمّ قال: (أقتله يا رسول الله؟) فقال (صلّى الله عليه وآله): (أو ما علِمت أنّه مِن المُنظرين إلى يوم الوقت
المعلوم)، فجذبه وتنحّى به خطوات، فقال له إبليس: مالي ومالك يابن
أبي طالب دعني مِن يدك فو عزّة ربّي ما يبغضك أحد إلاّ مَن شاركت أباه في أُمّه
فخلاّه مِن يده فأُنزل في ذلك: (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ
وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، يعنى بذلك شيعة عليّ بن أبي طالب
(عليه السلام).
(وبالإسناد) يرفعه إلى عمّار بن ياسر وزيد بن أرقم أنّهما قالا:
كنّا بين يدَي أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان يوم الاثنين لسبعة عشَر ليلة خلَت
من صفَر، وإذا بزعقةٍ عظيمةٍ قد ملأت المسامع، وكان عليّ (عليه السلام) بدكّة
القضاء فقال: (يا عمّار ائتني بذي الفقار) وكان وزنه
سبعة أمنان وثلث من بالمكّي فجئت به ثمّ انتضاه مِن
غمده وتركه على فخذه وقال: (يا عمّار هذا اليوم أكشف لأهل الكوفة فيه الغمّة
ليزداد المؤمن وفاقاً والمخالف نفاقاً يا عمّار، رأيت مَن في الباب؟)، قال عمّار:
فخَرجت وإذا على الباب امرأة في قبّة على جمَل وهي تبكي وتصيح يا غياث المستغيثين،
يا بغية الطالبين، ويا كنز الراغبين، ويا ذا القوّة المتين، ويا مُطعِم اليتيم،
ويا رازق العدِيم ويا محيي كلّ عظمٍ رميم، ويا قديماً سبَق قِدمه كلّ قديم ويا عون
مَن ليس له عون ولا معين، ويا طود مَن لا طود له، ويا كنز مَن لا كنز له، إليك
توجّهت وبولّيك توسّلت ولخليفة رسولك قصَدت، فبيّض وجهي وفرّج عنّي كربي.
قال عمّار: وحولها ألف فارس بسيوف
مسلولة فقومٌ لها وقومٌ عليها، فقلتُ: أجيبوا أمير المؤمنين (عليه السلام) أجيبوا
عَيبة عِلم النبوّة قال: فنزلَت من القبّة ونزَل القوم معها ودخلوا المسجد، فوقفت
المرأة بين يدَي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقالت: يا مولاي، يا مولاي، يا إمام
المتّقين إليك أتيت وإيّاك قصدت، فاكشف ما بي من غمّة فأنّك قادر عليه وعالم بما
كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، فعند ذلك قال (عليه السلام): (يا عمّار، نادِ
في الكوفة: ألا مَن أراد أنْ ينظر إلى ما أَعطى الله عليّاً أخا رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) فليأت المسجد)، قال: فاجتمع الناس حتى
امتلأ المسجد بالناس، وصار القدَم على القَدم فعند ذلك قال مولايّ (عليه السلام): (سلوا
ما بدا لكم يا أهل الشام).
فنهَض مِن بينهم شيخٌ كبير قد لبِس عليه
بُردة يمانيّة وحلّة عريشية وعمامة خراسانية، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويا كنز الطالبين، ويا مولاي هذه الجارية ابنتي قد
خطبها ملوك العرَب منّي وقد نكّسَت رأسي بين عشيرتي، وأنا موصوف بين العرَب وقد
فضحتني في أهلي ورجالي؛ لأنّها عاتقٌ حامل فأنا تلبس بن عفريس لاتّخذ لى نار ولا يُصام لي جار، وقد بقيت حائراً في أمري فاكشف عنّي
هذه الغُمّة فإنّ الإمام ترتجيه الأُمّة وهذه الغمّة عظيمة لم أرَ مثلها ولا أعظم
منها، فقال أمير المؤمنين: (ما تقولين يا جارية فيما قال أبوك؟) فقالت: يا مولاي
أمّا قوله إنّي عاتقٌ فقد صدَق وأمّا قوله إنّي حامل فو حقّك يا مولاي ما علمتُ
مِن نفسي خيانةً قط وأنّي أعلم أنّك أعلم بي منّي، وأنّي ما كذبت ففرّج عنّي يا
مولاي، قال عمّار: فعند ذلك أخذ ذا الفقار وصعد المنبر وقال: (الله أكبر (جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) ثمّ قال: عليّ بقابلة الكوفة) فجاءت امرأة يُقال لها لبنة وهي قابلة نساء أهل الكوفة، فقال
لها: (اضربي بينك وبين الناس حجاباً وانظري هذه الجارية أعاتق أم حامل)، ففعلت ما
أمرها به (عليه السلام) ثمّ خرَجَت وقالت: نعم يا مولاي هي عاتقٌ حاملٌ وحقّك يا
مولاي فعند ذلك التفت الإمام إلى أبي الجارية وقال: (يا أبا الغضَب، ألستَ من
قريةِ كذا وكذا من أعمال دمشق؟)، قال: وما هي القرية؟
قال: (قرية يقال لها أسعار)، فقال: بلى
يا مولاي، فقال: (مَن منكم يقدر هذه الساعة على قطعةٍ من الثلج؟) قال: يا مولاي
الثلج في بلادنا كثير ولكن ما نقدر عليه ههنا، فقال (عليه السلام): (بيننا وبين
بلدكم مِئتان وخمسون فرسخاً؟) قال: نعم يا مولاي.
ثمّ قال: (أيّها الناس انظروا إلى ما
أعطى الله عليّاً مِن العلم النبوي، الذي أودعه الله رسولَه من العلم الربّاني)،
قال عمّار بن ياسر فمدّ يده (عليه السلام) مِن على منبر الكوفة وردّها وفيها قطعةٌ
من الثلج يقطر منها، فعند ذلك ضجّ الناس وماج الجامع بأهلِه فقال (عليه السلام):
(اسكتوا ولو شئت أتيت بجباله، ثمّ يا قابلة خذي هذا الثلج اخرجوا بالجارية واتركي تحتها طشتاً، وضعي هذه القطعة ممّا يلي الفرج فسترين علقةً وزنها سبعة وخمسون درهماً ودانقان)، قال: فقال له جمعنا الله ولك يا مولاي، ثمّ أخذتها وخرجَت بها من الجامع وجاءت بطشت ووضعت الثلجة على الموضع كما أمرها (عليه السلام) فرمَت علقةً كبيرةً فوزنتها القابلة فوجدتها كما قال (عليه السلام)، وأقبلت القابلة والجارية فوضعَت العلقة بين يديه ثمّ قال (عليه السلام): (قم يا أبا الغضَب، خذ ابنتك فوالله ما زنَت وإنّما دخلت الموضع الذي فيه الماء فدخلت هذه العلقة في جوفها وهي بنت عشر سنين، وكبُرت إلى الآن في بطنها فنهض أبوها وهو يقول: أشهد أنّك تعلم ما في الأرحام وما في الضمائر، وأنّك باب الدين وعموده، قال فضجّ الناس عند ذلك وقالوا: يا أمير المؤمنين، لنا اليوم خمس سنين لم تمطر السماء علينا غيثاً وقد أمسك المطر عن الكوفة هذه المدّة وقد مسّنا وأهلنا الضرّ فاستسقِ لنا يا وارث عِلم محمّد فعند ذلك قام في الحال وأشار بيده إلى السماء فإذا الغيث قد انسجم وهمَل مُزناً وسال الغيث حتى صارت الكوفة غدرانا، فقالوا: يا أمير المؤمنين كُفينا من الماء وروينا، فتكلّم بكلام فمضى الغيث وانقطع المطر وطلعت الشمس، فلعن الله الشاك في فضل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
رؤية إبراهيم أنوار النبيّ والأئمّة
(وبالإسناد) يرفعه إلى عبد الله بن أبي
وقّاص عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:
(لمّا خلق الله إبراهيم الخليل كشف له عن بصره فنظر في جانب العرش نوراً، فقال:
إلهي وسيّدي ما هذا النور؟ قال: يا إبراهيم، هذا محمّد صفيّي، فقال: إلهي وسيّدي
إنّي أرى بجانبه نوراً آخر قال: يا إبراهيم هذا عليّ ناصر ديني، قال: إلهي وسيّدي
إنّي أرى بجانبهما نوراً آخر ثالثا يلي النورين، قال: يا إبراهيم هذه فاطمة تلي
أباها وبعلها فَطمت محبّيها من النار، قال: إلهي وسيّدي إني أرى نورَين يليان
الأنوار الثلاثة، قال: يا إبراهيم، هذان الحسن والحسين يليان أباهما وأُمّهما
وجدّهما، قال إلهي وسيّدي إنّي أرى تسعة أنوار قد أحدقوا بالخمسة الأنوار، قال: يا
إبراهيم هؤلاء الأئمّة مِن ولدهم، قال الهي وسيّدي وبمَن يعرفون؟
قال: يا إبراهيم، أولهم عليّ بن الحسين، ومحمّد ولد عليّ، وجعفر ولد محمّد، وموسى ولد جعفر، وعليّ ولد موسى، ومحمّد ولد علي، وعليّ ولد محمّد، والحسَن ولد عليّ، ومحمّد ولد الحسن القائم المهدي، قال: إلهي وسيّدي وأرى عدّة أنوار حولهم لا يُحصي عدّتهم إلاّ أنت، قال: يا إبراهيم، هؤلاء شيعتهم ومحبّوهم، قال: إلهي وسيّدي بمَ يُعرف شيعتهم ومحبّوهم؟ قال: يا إبراهيم بصلاة الإحدى والخمسين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والقنوت قبل الركوع، وسجدَتيّ الشكر، والتختّم باليمين، قال إبراهيم: اجعلني يا إلهي مِن شيعتهم ومحبّيهم، قال: قد جعلتك منهم فأنزل تعالى فيه: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) صدق الله تعالى ورسوله (قال: المفضّل ابن عمر إنّ إبراهيم (عليه السلام) لما أحسّ بالممات روى هذا الخبَر وسجَد فقُبِض في سجدته.
(وبالإسناد يرفعه إلى عبد الله بن
عبّاس) قال: لمّا رجعنا من حجّ بيت الله مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فجلسنا حوله وهو في مسجده إذ ظهر الوحي عليه فتبسّم
(صلّى الله عليه وآله) تبسمّاً شديداً حتى بانت ثناياه
فقلنا: يا رسول الله، ممّ تبسّمت؟ قال: (من إبليس اجتاز بنفر وهُم يتلون علينا،
فوقف أمامهم فقالوا: مَن ذا الذي أمامنا؟ فقال: أنا أبو مرّة فقالوا: تسمع كلامنا؟
فقال: نعم سوءة لوجوهكم ويلَكم أتسبّون مولاكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟
فقالوا له: أبا مرّة، من أين علمت أنّه مولانا؟ فقال: ويلكم أنسيتم قول نبيّكم
بالأمس: (مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه).
فقالوا: يا أبا مرّة، أنت من شيعته ومواليه؟ فقال ما أنا من شيعته ومواليه، ولكنّي أحبّه لأنّه ما أبغضه أحدٌ منكم إلاّ شاركته في ولده وماله، وذلك قول الله تعالى: (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)، فقالوا: يا أبا مرّة، أتقول في عليّ شيئاً؟ قال وما تريدون أنْ أقول فيه؟ اسمعوا ويلكم منّي، اعلموا أنّي عبدت الله تعالى في الجان اثني عشر ألف سنة فلمّا أهلك الله الجان شكوت إلى الله تعالى عزّ وجل الوحدة فأوتي بي إلى السماء الدنيا، فعبدت الله تعالى فيها أثني عشر ألف سنة أُخرى مع الملائكة فبينا نحن كذلك نسبّح الله تعالى ونقدّسه إذ مرّ علينا نور شعشعاني فخرّت الملائكة عند ذلك سُجّداً فقلنا نور نبيٍّ مرسل أو نور ملًكٍ مقرّب، فإذا النداء من قِبل عزّ وجل لا نبيّ مرسل ولا ملَك مقرّب هذا نور عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أخي محمّد).
خبر المفلوج الذي أبرأه عليّ (عليه
السلام)
(وبالإسناد يرفعه إلى ابن عبّاس) أنّه
قال: صلّى بنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صلاة
الغداة واستند إلى محرابه والناس حوله منهم المقداد، وحذيفة وأبو ذر وسلمان
الفارسي، وإذا أصوات عالية قد ملأت المسامع فعند ذلك قال (صلّى الله عليه وآله): (يا حذيفة، يا سلمان، انظروا ما الخبر)، قال: فخرجنا
فإذا هما بنفرٍ وهُم على رواحلهم وهم أربعون رجلاً
بأيديهم الرماح الخطية، وعلى رؤوس الرماح أسنّة من العقيق الأحمر، وعلى كلّ واحد
منهم بُدنة من اللؤلؤ وعلى رؤوسهم قلانس مرصّعة بالدرّ يقدمهم غلام لا نبات
بعارضيه كأنّه فلقة قمر وهم ينادون الحذار الحذار
البدار يا آل محمّد المختار، المنعوت في الأقطار (قال حذيفة): فأخبرت النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) بذلك فقال: (يا حذيفة، انطلق إلى حجرة
كاشف الكروب وعبدِ علاّم الغيوب الليث الهصور واللسان الشكور والهزبر الغيور،
والبطل الجسور، العالم الصبور الذي جرى اسمه في التوراة والإنجيل والفرقان
والزبور، انطلق إلى حجرة ابنتي فاطمة وأتني ببعلها عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام))، قال: فمضيت وإذا به قد تلقّاني وقال: (يا حذيفة، قد جئت تخبرني عن قومٍ
أنا عالمٌ بهم منذ خُلقوا ومنذ وُلدوا، وفي أيّ شيء جاؤوا).
فقال حذيفة: زادك الله تعالى يا مولاي
علماً وفهماً، ثمّ أقبل (عليه السلام) إلى المسجد والقوم مُحدقون برسول الله (صلّى
الله عليه وآله)، فلمّا رأوا الإمام (عليه السلام)
نهضوا قياماً على أقدامهم فقال لهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله):
(كونوا على مجالسكم)، فقعدوا.
فلمّا استقرّ بهم المجلس قام الغلام
الأمرد قائماً دون أصحابه وقال: أيّها الناس أيّكم الراهب إذ أسدل الظلام؟ أيّكم
المنزّه من عبادة الأوثان والأصنام؟ أيّكم الساتر عورات النسوان؟ أيّكم الشاكر لما
أولاه الرحمان؟ أيّكم الصابر يوم الضرب والطعان؟ أيّكم منكّس الأقران والفرسان؟
أيّكم أخو محمّد (صلّى الله عليه وآله) معدن الإيمان؟
أيّكم وصيّه الذي نصَر به دينه على ساير الأديان؟ أيّكم عليّ بن أبي طالب (عليه
السلام)؟
فعند ذلك قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا عليّ، أجب الغلام الذي هو في وصفِك علاّم، وقم
بحاجته)، فقال عليّ (عليه السلام): (ادن منّي يا غلام، إنّي أعطيك سؤالك والمرام
وأشفيك من الأسقام والآلام بعون الله العلاّم، فأنطق بحاجتك فإنّي أُبلغك أُمنيتك؛
ليعلم المسلمون أنّي سفينة النجاة، وعصا موسى والكلمة الكبرى، والنبأ العظيم
والصراط المستقيم)، فقال الغلام: إنّ معي أخاً لي، وكان مولعاً بالصيد فخرَج في
بعض أيّامه متصيّداً فعارضته بقرات وحش عشر، فرمى إحداهن فقتلها فانفلج من نصّه في
الوقت والحال، وقلّ كلامه حتى لا يكلّمنا إلاّ بالإيماء، قد بلغنا أنّ صاحبكم يدفع
عنه ما يجد وما قد نزل به، فإنْ شفى صاحبُكم علّته آمنّا به، ففينا النجدة والبأس
والقوّة والشدّة والمِراس ولنا الخيول والإبل والفضّة والذهب والمضارب العالية
ونحن سبعون ألف فارس، بخيولٍ جياد وسواعد شِداد ونحن بقايا قومِ عاد، فعند ذلك قال
أمير المؤمنين (عليه السلام): (أين أخوك يا عجاج بن الجلال ابن أبى الغضَب بن سعد
بن المقنّع بن عملاق بن ذهل بن صعب العادي)، قال: فلمّا سمع الغلام نسبه قال: ها
هو في هودج سيأتي مع جماعة منّا، يا مولاي، إنْ شفيت علّته رجعنا عن عبادة الأوثان
واتّبعنا ابن عمّك صاحب البُردة والقضيب والحُسام، قال: فبينا هم في الكلام وإذا
قد أقبلت امرأة عجوز بجنب محمل على جمَل فأبركته بباب المسجد، فقال الغلام: جاء
آخي يا فتى، فنهض أمير المؤمنين (عليه السلام) ودنا من المحمل، فإذا فيه غلام له
وجه صبيح ففتح عينه ونظر إلى وجه عليّ المرتضى فبكى وقال بلسان ضعيف وقلب حزين:
إليكم المشتكى والمُلتجأ يا أهل العبا.
فقال عليّ (عليه السلام): (لا بأس عليك
بعد اليوم) ثمّ نادى: (أيّها الناس اخرجوا الليلة إلى البقيع فسترون مِن عليٍّ
عجبا)، قال حذيفة بن اليمان فأجتمع الناس في البقيع من العصر إلى أنْ هدأ الليل
فخرج إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه ذو الفقار وقال: (اتبعوني حتى أُريكم
عجباً) فتبعوه فإذا هو بنارين متفرّقتين نارٌ قليلة ونارٌ كثيرة فدخل (عليه
السلام) في النار القليلة وقلَبها على النار الكثيرة (قال حذيفة): فسمِعت زمجرة
كزمجرة الرعد، فقلب النار بعضها على بعض ثمّ دخل فيها ونحن بالبُعد عنه، وقد
تداخلنا الرعب من كثرة زمجرة النار، ونحن ننظر ما يصنع بالنار ولَم يزل كذلك إلى
أنْ أسفر الصبح، ثمّ خمَدت النار ثمّ طلع منها وقد كنّا قد أيسنا منه، فوصل إلينا
وبيده رأس ذروته إحدى عشر إصبعاً له عينٌ واحدة في جبهته، وهو ماسك بشعره وله شعر
مثل شعر الدب، فقلنا له: عين الله تعالى عليك ثمّ أتى به إلى المحمل الذي فيه
الغلام وقال: (قلما يأذن الله تعالى يا غلام)، فما بقيَ عليك بأس فنهض الغلام
ويداه صحيحتان ورجلاه سليمتان، فأنكبّ على رِجل الإمام (عليه السلام) يُقبّلها وهو
يقول: مدّ يدك فأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله وأنّك
وليّ الله وناصر دينه، ثمّ أسلم القوم الذين كانوا معه، قال: فبقيَ الناس متحيّرين
لا يتكلّمون وقد بُهتوا لمّا رأوا الرأس وخلقته فألتفت (عليه السلام) وقال: (يا
أيّها الناس، هذا رأس عمرو بن الأخبل بن الأقيس بن
إبليس اللعين، وكان في أثني عشَر ألف فيلق من الجن، وهو الذي فعل بالغلام ما
شاهدتموه فضربتهم بسيفي هذا وقاتلتهم بقلبي هذا فماتوا كلّهم باسم الله الذي كان
في عصا موسى بن عمران، الذي ضرب البحر فانفلق اثنى عشر فريقاً فاعتصموا بطاعة الله
وطاعة رسوله ترشدوا).
(وبالإسناد) يرفعه إلى محمّد بن عليّ
الباقر (عليه السلام) أنّه قال: سُئل جابر بن عبد الله الأنصاري عن عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) قال: (ذلك والله أمير المؤمنين، ومُخزي المنافقين، وبَوار
الكافرين وسبب الله على القاسطين والناكثين والمارقين، ولقد سمِعت بأذني رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) يقول: علي بعدى خيرُ البشر فمَن
شكّ فيه فقد كفر).
(وبالإسناد) يرفعه الحسين العسكر عن
النسَب الطاهر إلى الحسين أنّه قال: (كنت مع أبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)
يوماً على الصفا، وإذا هو بدرّاج على وجه الأرض في الصفا، فوقف مولاي بإزائه فقال:
السلام عليك أيّها الدرّاج فأجابه يقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير
المؤمنين، فقال له أمير المؤمنين: أيّها الدرّاج ما تصنع في هذا المكان؟ فقال يا
أمير المؤمنين، أنا في هذا المكان منذ أربعمِئة عام أُسبّح الله تعالى وأُقدّسه وأحمده
وأُهلّله وأُكبّره وأعبده حقّ عبادته فقال (عليه السلام):
إنّ هذا الصفا لا مطعم فيه ولا مشرَب فمن أين مطعمك ومشربك؟ فقال له: يا مولاي،
وحق من بعث ابن عمّك بالحقّ نبيّاً وجعلَك وصيّاً إنّي كلّما جعت دعوت الله لشيعتك
ومحبّيك فأشبّع، وإذا عطشت دعوت الله على مبغضيك وظالميك فأروي:
أيّها السائل عمّا دونه النجم العلي |
|
خير خلق الله مِن بعد النبيّين عليّ |
هكذا أخبرنا عن ربّه الهادي النبيّ |
|
إنْ ما استخيرت عنه واضح الأمرُ جليّ |
وبه فاز الموالي وبه ضلّ الغوي |
|
لم يمل عنه وعن أبنائه إلاّ الشقي |
(وبالإسناد) عن أنَس بن مالك أنّه قال:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (اتبعوا الشمس
حتى تغرب فإذا غربت فاتبعوا الزهرة حتى تغرب، فإذا غربت فاتبعوا الفرقَدين) قيل:
يا رسول الله، وما الشمس والزهرة؟ وما الفرقدان؟ قال (صلّى الله عليه وآله): (الشمس أنا، والقمر عليّ والزهرة ابنتي والفرقدان
الحسَن والحسين).
(وبالإسناد) يرفعه إلى سلمان الفارسي
(رضي الله عنه) أنّه قال: صلّى بنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
صلاة الصبح، فلمّا سلّم قام وقال: (أين ابن عمّي عليّ والذي يقضي ديني وينجز
عِدتي؟)، فأجابه: (لبّيك لبّيك
يا رسول الله، ها أنا بين يديك)،
قال: (يا عليّ، أتريد أنْ أُعرّفك بفضلك من الله عزّ وجل؟).
فقال: (نعم يا حبيبي)، فقال: (يا عليّ
اخرج إلى صحن المسجد فإذا طلعت الشمس فكلّمها حتى تكلّمك)، قال سلمان فخرج علي (عليه السلام) إلى صحن المسجد فلمّا طلعت الشمس قال لها:
(السلام عليك أيّتها الشمس) قالت: (وعليك السلام يا أوّل يا آخر، يا ظاهر يا باطن،
يا مَن هو بكل شيء عليم).
قال: فضجّت الصحابة بأجمعهم وقالوا: يا
رسول الله، بالأمس تقول لنا: الأوّل والأخر صفات الله تعالى، قال: (نعم تلك صفات
الله وهو الله وحده لا شريك له، يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على
كل شيءٍ قدير)، قالوا فما لنا سمعنا الشمس تقول لعليّ هذا الكلام، أصار عليّ ربّاً
يعهد؟ فقال: (استغفر الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، لكلّ مقامٍ مقالاً
فاستغفروا الله وتوبوا إليه، أمّا قولها: يا أوّل فهو أوّل مَن آمن بي وصدّقني،
وأمّا قولها يا آخر فهو والله آخر من يواريني ويُلحدني، وأمّا قولها يا ظاهر، فهو
والله أظهر دين الله بالسيف، وأمّا قولها يا باطن فهو والله باطنٌ لعلمي، وأمّا
قولها يا مَن هو بكل شيء عليم فوعزّة ربّي ما علّمني
ربّي شيئاً إلاّ علّمته عليّاً وأنّه بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض)، ثمّ قال:
(يا عليّ، ادخل وافتخر) فدخَل وهو ينشد ويقول:
أنا للحرب إليها وبنفسي أصطليها |
|
نعمةً من خالق العرش بها قد خصّنيها |
وأنا مخمد نار الحرب في يوم اجبها |
|
ولي السبقة في الإسلام طفلاً ووجيها |
لي الفضل على الناس بزوجي وبنيها |
|
ثمّ فخري برسول الله إذ زوّجنيها |
فإذا أنزل ربّي آيةً علّمنيها |
|
ولقد أورثني العلم وقد صرت فقيها |
(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي سعيد الخدري أنّه قال: قال رسول الله:
(بُني الإسلام على شهادة أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان والحجّ إلى بيت الله الحرام، والجهاد وولاية
عليّ بن أبي طالب)، قال الراوي: قلت لأبي سعيد: ما أظنّ القوم إلاّ هلَكوا إذ
تركوا الولاية، قال: فما يصنع أبو سيعد إذا هلكوا.
(وبالإسناد) يرفعه إلى سالم بن أبي جعدة أنّه قال: حضرت مجلس أنس
ابن مالك بالبصرة، وهو يُحدّث، فقام إليه رجلٌ من القوم فقال: يا صاحب رسول الله،
ما هذه النمشة التي أراها بك؟ فإنّي حدّثني أبى، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (البرَص والجذام لا يبلو الله تعالى به
مؤمناً)، قال: فعند ذلك أطرَق أنَس بن مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع، ثمّ
قال: دعوة العبد الصالح عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) نفذت فيّ، فعند ذلك قام
الناس من حوله وقصدوه وقالوا: يا أنَس، حدّثنا ما كان السبب؟
فقال لهم: الهوا من هذا، فقالوا لا بدّ
أنْ تخبرنا بذلك، فقال: اجلسوا مواضعكم واسمعوا منّي حديثاً كان هو السبب لدعوة
عليّ (عليه السلام)، اعلموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
كان قد أُهدي إليه بساط شَعر من قريةِ كذا وكذا من قُرى المشرق يقال لها هندف، فأرسلني رسول الله إلى أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة
والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمان بن عوف الزهري، فأتيته بهم وعنده أخوه وابن عمّه
عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ قال: (يا أنس، ابسط البساط واجلس حتى تخبرني
بما يكون، ثمّ قال: (يا عليّ، قل: يا ريح احملينا).
قال: فقال الإمام عليّ (عليه السلام):
(يا ريح احملينا)، فإذا نحن في الهواء، فقال: (سيروا على بركة الله)، قال: فسرنا
ما شاء الله تعالى ثمّ قال: (يا ريح، ضعينا)، فوضعتنا فقال: (أتدرون أين أنتم؟)
فقلنا: الله ورسوله ووليّه أعلم، فقال: (هؤلاء أصحاب الكهف والرقيم الذين كانوا من
آيات الله عجباً، قوموا بنا يا أصحاب رسول الله، حتى نسلّم عليهم)، فعند ذلك قام
أبو بكر وعمر وقالا: السلام عليكم يا أهل الكهف والرقيم، فلَم يُجبهما أحد قال:
فقام طلحة والزبير فقالا: السلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم، قال: فلَم يُجبهما
أحد، قال أنَس: فقمت أنا وعبد الرحمان بن عوف وقلت: أنا أنس خادم رسول الله (عليه
السلام) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أصحاب الكهف والرقيم فلم يجيبنا أحد.
قال: فعند ذلك قام الإمام (عليه السلام)
وقال: (السلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم الذين كانوا من آيات الله عجباً)،
فقالوا: وعليك السلام يا وصيّ رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: (يا أصحاب
الكهف لم لا رددتم على أصحاب رسول الله؟)، فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله،
إنّنا فتيةٌ آمنوا بربّهم وزادهم الله هدى، وليس معنا إذن أنْ نردّ السلام إلاّ
إلى نبيّ أو وصيّ نبيّ، فأنت وصيّ خاتم النبيّين وأنت سيّد الوصيّين، ثمّ قال:
(أسمعتم يا أصحاب رسول الله؟)، قالوا: نعم يا أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
(فخذوا مواضعكم واقعدوا في مجالسكم).
قال: فقعدنا في مجالسنا ثمّ قال: (يا
ريح احملينا) فحملتنا فسرنا ما شاء الله إلى أنْ غربت الشمس، ثمّ قال: (يا ريح
ضعينا) فإذا نحن في روضة كالزعفران ليس بها حسيس ولا أنيس، نباتها القيصوم والشيح وليس
فيها ماء، فقلنا: يا أمير المؤمنين دنَت الصلاة وليس عندنا ماء نتوضّأ به، فقام
وجاء إلى موضع من تلك الأرض فرفس برجله فنبعت عين ماء عذب، فقال: (دونكم وما طلبتم
ولولا طلبتكم لجاء جبرئيل (عليه السلام) بماء من الجنّة)، قال فتوضّأنا به وصلّينا
ووقف يصلّي (عليه السلام) إلى أنْ انتصف الليل، ثمّ قال: (خذوا مواضعكم ستدركون
الصلاة مع رسول الله أو بعضها)، ثمّ قال: (يا ريح احملينا) فإذا نحن في الهواء ثمّ
سرنا ما شاء الله فإذا نحن بمسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وقد صلّى صلاة الغداة ركعةً واحدة فقضينا ما كان قد سبقنا بها رسول الله، ثمّ
التفت إلينا وقال لي: (يا أنَس تحدّثني أم أنا أُحدّثك بما وقع من المشاهدة التي
شاهدتها أنت؟) قلت: بل مِن فيك أحلى يا رسول الله، قال: فابتدأنا الحديث من أوّله
إلى آخره كأنّه كان معنا، قال: (يا أنَس تشهد لابن عمّي بها إذا استشهدك بها؟)، قلت: نعم يا رسول الله، قال: فلمّا ولّيَ أبو
بكر الخلافة أتى عليّ (عليه السلام) إليّ وكنت حاضراً عند أبي بكر والناس حوله،
فقال: (يا أنَس، ألست تشهد لي بفضيلةِ البساط، ويوم العين)، فقلت له: يا عليّ، قد
نسيت لكبري، فعندها قال لي: (يا أنَس، إنْ كنت كتمته مداهنة بعد وصيّة رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) لك فرماك ببياض في وجهك ولظىً في
جوفك وعمي في عينيك)، فما قمت من مقامي حتى برصت وعميت، وأنا الآن لا أقدر على
الصيام في شهر رمضان ولا غيره؛ لأنّ الزاد لا يبقى في جوفي، ولم يزَل على ذلك حتى
مات بالبصرة.
(وبالإسناد) يرفعه إلى عليّ بن موسى الرضا، يرفعه إلى النسب الطاهر
الزكيّ إلى سيّد الشهداء الحسين بن عليّ (عليه السلام) قال: (قال لي أبي: قال أخي
رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مَن سرّه أنْ يلقى
الله تعالى مُقبلاً عليه غير مُعرض عنه، فليوال عليّاً،
ومَن سرّه أنْ يلقى الله تعالى وهو عنه راضٍ فليوال
ابنه الحسَن (عليه السلام)، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله تعالى وهو لا خوفٌ عليه فليُوال ابنه الحُسين (عليه السلام)، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله
وهو يُمحّص عنه ذنوبه فليوال عليّ ابن الحسين (عليه
السلام) السجّاد، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وهو قرير عين فليوال
محمّد الباقر (عليه السلام)، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وهو خفيف الظهر فليوال جعفر الصادق (عليه السلام)، ومن أحبّ أنْ يلقى الله
وهو طاهرٌ مطهّر فليوال موسى الكاظم (عليه السلام)،
ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وهو ضاحكٌ مستبشر فليوال عليّ
بن موسى الرضا (عليه السلام)، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وقد رُفِعت درجاته وبُدِّلت
سيّئاته حسنات فليوال محمّد الجواد (عليه السلام)، ومَن
أحبّ أنْ يُحاسبه الله حساباً يسيراً فليوال عليّ
الهادي، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وهو مِن الفائزين فليوال
الحسن العسكري، ومَن أحبّ أنْ يلقى الله وقد كَمُل إيمانه وحسُن إسلامه فليوال الحجّة صاحب الزمان القائم المنتظر المهدي م ح م د بن
الحسن؛ فهؤلاء مصابيح الدجى وأئمّة الهدى وأعلام التُّقى فمَن أحبّهم وتولاّهم كنت
ضامناً له على الله الجنّة).
(وبالإسناد) يرفعه عنهم (عليهم السلام)
قال: إنّ ثوراً قتل حماراً على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
فرُفِع ذلك إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان
في جماعة من أصحابه منهم أبو بكر وعمر والزبير وسلمان وحذيفة، فالتفت النبيّ (صلّى
الله عليه وآله) إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر، اقض بينهم)،
قال: بأيّ شيءٍ أحكم بين الدواب؟ ثمّ قال: يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، بهيمة قتلت بهيمة فما عليها شيء، قال: فالتفت إلى عمر
فقال: (يا عمر، احكم بينهم)، قال: بأيّ شيءٍ أحكم بين الدواب؟
فالتفت إلى عليّ (عليه السلام) وقال:
(يا أبا الحسن، احكم بينهم)، فقال: (أجل يا رسول الله، إنْ كان الثور دخَل على
الحمار في مستراحة فلا ضمان على صاحب الثور، وإنْ كان
الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان على صاحب الثور)، فرفع رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) يده إلى السماء وقال: (الحمد لله الذي
لم يُخرجني من الدنيا حتى رأيتك تقضي بقضاء النبيّين).
(وبالإسناد) يرفعه صعصة
بن صوحان أنّه قال: أمطرت المدينة مطراً شديداً، ثمّ صحت فخرج النبيّ (صلّى الله
عليه وآله) إلى صحرائها ومعه أبو بكر فلمّا خرجا وإذا
بعليّ مقبل، فلمّا رآه النبيّ (صلّى الله عليه وآله)
قال: (مرحباً بالحبيب القريب ثمّ تلا هذه الآية: (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ
الْحَمِيدِ)
أنت يا عليّ منهم)، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وأومئ بيده إلى الهواء، وإذا برمّانة
تهوي إليه من السماء أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من العسَل وأطيب رائحة من المسك
فأخذها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومصّها حتى روى
ثمّ ناولها لعليّ (عليه السلام) ومصّها حتى روى ثمّ التفت إلى أبي بكر وقال: (يا
أبا بكر لولا أنّ طعام أهل الجنّة لا يأكله إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ لأطعمناك، فإنّ
طعام الجنّة لا يأكله أهل النار).
(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي الحمراء أنّه
قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمّا أُسريَ
بي إلى السماء رأيت مكتوباً على قائمة العرش: (أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني
وحدي، خلقت جنّة عدنٍ بيدَي، محمّد صفوتي مِن خلقي أيّدته بعليّ ونصرته به).
(وبالإسناد) يرفعه إلى عبد الله بن
مسعود وابن عبّاس أنّهما قالا: سمعنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: (أعطاني الله عزّ وجل خمساً وأعطى عليّاً مثلها،
أعطاني جوامع الكَلِم وأعطاني العِلم وجعلني نبيّاً وجعله وصيّاً، وأعطاني الكوثر
وأعطاه السلسبيل وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام، وأسرى بي إليه وفتَح لعليّ (عليه
السلام) أبواب السماء حتى نظرت إليه)، قال: ثمّ بكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقلنا له: فداك أبي وأُمّي يا رسول الله، ما يبكيك؟
قال: (يابن
عبّاس، أوّل ما كلّمني به ربّي عزّ وجل قال: يا محمّد انظر إلى ما تحتك، فنظرت
وإذا بالحُجُب قد اختُرقت وأبواب السماء قد فُتحت حتى نظرت إلى عليّ وهو رافع رأسه
إلى السماء، فكلّمني وكلّمته، فقال: يا رسول الله، اخبرني
بما قال، قال: إنّي جعلت عليّاً وصيّك وخليفتك مِن بعدِك، فاعلمه بذلك فعند ذلك
أمر الله الملائكة فحططت رأسي إلى علي (عليه السلام) وأعلمته بما قال لي ربّي فسجد
لله عزّ وجل وقال (عليه السلام): قد قبلت ذلك.
فعند ذلك أمر الله الملائكة أنْ تسلّم
على عليّ ففَعَلت فردّ عليهم السلام وجعَلَت الملائكة يتباشرون ثمّ ما مررت بصفٍّ
من الملائكة إلاّ وهم يهنّوني ويقولون: يا محمّد والذي بعثك بالحقّ نبيّاً لقد دخل
السرور علينا بابن عمّك، ورأيت حمَلَة العرش قد نكّسوا رؤوسَهم فقلت يا جبرئيل،
مالي أرى حمَلَة العرش قد نكّسوا رؤوسهم؟
قال: يا محمّد، لم يبقَ في السموات ملَك إلاّ وسلّم على عليّ (عليه السلام) إلاّ حمَلَة
العرش، فاستأذَنت الله عزّ وجل في المنظر الأعلى للنظر إلى عليّ (عليه السلام)
فأذِن لهم لينظروا إلى عليّ (عليه السلام)، قال: فلمّا هبَطت إلى الأرض جعلت
أُعلمه بذلك وهو يخبرني به، فعلمت أنّي ما وطئت موطئاً إلاّ قد كُشِف له حتى نظر
إليه.
فعند ذلك قال ابن عبّاس: يا رسول الله،
أحبّ أنْ توصيني بشيء قال: (يا ابن عبّاس اعلم إنّ الله عزّ وجل لا يتقبّل من أحد
حسنة حتى يسأله عن حبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أعلم بذلك فإنْ كان من أهل
ولايته قبل عملَه على ما كان فيه، وإنْ لم يكن من أهل ولايته فمَا يسأل عن شيء حتى
يؤمر به إلى النار لأشد غضباً على مبغضي عليّ ممّن زعَم أنّ لله ولداً، يابن عبّاس، لو أنّ الملائكة والأنبياء والمرسلين اجتمعوا على
بغضه لعذّبهم الله تعالى في جهنّم وما كانوا ليفعلوا)، قلت: يا رسول الله (صلّى
الله عليه وآله)، فكيف يبغضونه؟
قال: (يابن
عبّاس، يأتون قومٌ يذكرون أنّهم من أُمّتي لم يجعل الله تعالى لهم في الإسلام
نصيباً يفضّلون غيره عليه، فو الذي بعثني بالحقّ نبيّاً
ما خلق الله نبيّاً أكرم على الله منّي ولا وصيّاً أكرم على الله من عليّ (عليه
السلام)).
(قال ابن عبّاس): فلم أزل له محبّاً كما
أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
(وبالإسناد) يرفعه إلى ابن عبّاس أنّه
قال: لمّا حضرت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الوفاة
أتيت إليه وسلّمت عليه وقلت له: ما تأمرني به يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: (يا ابن عبّاس خالِف مَن خالَف عليّاً ولا تكن
لهم وليّاً)، قلت: يا رسول الله، لِم لا تأمر الناس بترك مخالفته، قال: فبكى حتى
أُغميَ عليه ثمّ أفاق وقال: (يابن عبّاس، سبق فيهم عِلم
ربّي، فوَالله لا يخرج أحد من الدنيا وقد خالفه وأنكر حقّه حتى يغيّر الله خلقه، يابن عبّاس، إذا أردت أنْ تلقى الله تعالى وهو عنك راض فاسلك طريقة
عليّ ومِل معه حيث مال، وارض به إماماً وعادِ مَن عاداه ووالِ مَن والاه، ولا
يداخلك فيه شك فإنّ اليسير من الشك فيه كُفر).
(وبالإسناد) يرفعه إلى عائشة أنّها
قالت: كنت عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فذكر
عليّاً فقال: (يا عائشة، لَم يكن قط في الدنيا أحدٌ أحبّ إلى الله منه، وأحبّ إليّ
منه ومِن زوجته فاطمة ابنتي، ومن ولَدَيه الحسَن والحسين (عليهما السلام) يا
عائشة، تعلمين أيّ شيء رأيت لابنتي فاطمة ولبَعلها؟)، قالت: لا، فاخبرني يا رسول الله.
قال: (يا عائشة، إنّ ابنتي سيّدة نساء
العالمين، وإنّ بعلها لا يُقاس بأحدٍ من الناس وإنّ ولديه الحسن والحسين هما
ريحانتاي في الدنيا والآخرة، يا عائشة، أنا وفاطمة والحسن والحسين وابن عمّي عليّ
في غرفةٍ من درّةٍ بيضاء أساسها من رحمة الله تعالى وأطرافها من عفو الله تعالى
ورضوانه، وهي تحت عرش الله تعالى وبين عليّ وبين نور الله بابٌ ينظر إلى الله
وينظر الله إليه، وعلى رأسه تاجٌ قد أضاء نوره ما بين المشرق والمغرب، وهو يرفل في
حلّتين حمراوين يا عائشة، خُلقت ذرّية محبّينا من طينة تحت العرش، وخلقت ذرّية
مبغضينا من طينةٍ الخبال وهي في جهنّم).
خبر كلام السبع مع عليّ (عليه السلام)
(وبالإسناد) يرفعه إلى منقذ بن الأبقع
وكان رجلاً من خواصّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كنت مع مولانا عليّ
(عليه السلام) في النصف من شعبان، وهو يريد أنْ يمضي إلى موضعٍ له كان يأوي إليه
بالليل، فمضى وأنا معه حتى أتى الموضع ونزَل عن بغلته ومضى لشأنه، قال: فحمْحَمَت
البغلة ورفَعت أذنيها قال: فحسّ مولاي فقال لي: (ما وراك يا أخا بني أسد ما دهاها)
قال: فنظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى البر فقال: هو سبعٌ وربّ الكعبة فقام
من محرابه متقلّداً ذا الفقار، وجعل يخطو نحو السبع ثمّ صاح به، فخاف ووقف يضرب
بذنبه خواصره.
قال: فعند ذلك استقرّت البغلة، فقال له:
(يا ليث وأبو الأشبال وأنّي قسوَر وحيدر فما جاء بك أيّها الليث؟ ثمّ قال: اللهمّ
انطِق لسانه)، فعند ذلك قال السبع: يا أمير المؤمنين، ويا خير الوصيّين، ويا وارث
عِلم النبيّين إنّ لي سبعة أيّام ما افترست شيئاً وقد أضرّ بي الجوع، وقد رأيتكم
من مسافة فرسَخين فدنوت منكم، فقلت: اذهب وانظر ما هؤلاء القوم ومَن هم، فإنْ كان
لي بهم مقدرة أخذت منهم نصيبي.
فقال (عليه السلام) مجيباً: (له يا ليث،
إنّي أبو الأشبال الأحدَ عشَر)، ثمّ مدّ الإمام (عليه السلام) إليه يده فقبض بيده
صوف قفاه وجذبه إليه فامتدّ السبع بين يديه فجعل (عليه السلام) يمسَح عليه من
هامته إلى كتفيه ويقول:
(يا ليث، أنت كلب الله في أرضه)، فقال
له السبع: الجوع يا مولاي فقال الإمام: (اللهم ائتيه
برزقه بحقّ محمّد وأهل بيته)، قال: فالتفت وإذا بالأسد يأكل شيئاً على هيئة الحمل
حتى أتى على آخره، فلمّا فرغ من أكله قام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين نحن
معاشر الوحوش لا نأكل لحم
محبّيك ومحبّي عترتك فنحن أهل بيت نتّخذ
محبّة الهاشميّين وعترتهم، فقال له: (أيّها السبع أين تأوي وأين تكون؟) قال: يا
مولاي إنّي مسلّط على أعدائك كلاب أهل الشام، أنا وأهل بيتي وهُم فريستنا ونحن
نأوي النيل.
قال: (فما جاء بك إلى الكوفة؟)، قال: يا
أمير المؤمنين، أتيت الكوفة لأجلك فلم أُصادفك فيها وقطعت الفيافي القفار حتى
وفّقت بك، ولك شوقي وأنا منصرف ليلتي هذه إلى القادسية إلى رجلٍ يقال له سنان بن
مالك بن وائل، وهو ممّن انفلت من حرب صفّين، وهو من أهل الشام ثمّ همَهَم وولّى.
قال منقذ بن الأبقع الأسدي فعجبت من ذلك
فقال لي عليّ (عليه السلام): (أتعجب من هذا؟ فالشمس أعجب من رجوعها آم العين في
نبعها، أم الكواكب في انقضاضها أم الجمجمة أم سائر ذلك، فو الذي
فلَق الحبّ وبرئ النسمة لو أحببت أنْ أُري الناس ما علّمني رسول الله (صلّى الله
عليه وآله) من الآيات العجائب والمعجزات لكانوا يرجعوا
كفّاراً).
ثمّ رجَع إلى مصلاّه ووجّه بي من ساعتي
إلى القادسية فوصلت قبل أنْ يتم مؤذّن الصلاة فسمِعت الناس يقولون افترس سنان
السبع فأتيت إليه مع مَن ينظر إليه فرأيت لم يترك السبع منه سوى أطراف أصابعه وانبوبى الساق ورأسه، فحملوا عظامه ورأسه إلى أمير المؤمنين (عليه
السلام) فبقيَت متعجّباً فحدّثت بحديث السبع وما كان منه مع أمير المؤمنين (عليه
السلام)، فجعل الناس يرمون التراب تحت قدميه فيأخذونه ويتشرّفون به قال: فلمّا رأى
ذلك قام خطيباً فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثمّ قال:
(معاشر الناس ما أحبّنا رجل ودخل النار،
وأبغضنا رجل ودخل الجنّة، وأنا قسيم الجنّة والنار هذا إلى الجنّة يميناً وهُم مَن
يحبّني وهذا إلى النار شمالاً وهم من يبغضني، ثمّ إنّ يوم القيامة أقول لجنّهم هذا
لي وهذا لك حتى تجوز شيعتي على الصراط كالبرق الخاطف والرعد العاصف والطير المُسرع
والجواد السابق) قال: فعند ذلك قام الناس بأجمعهم وقالوا: الحمد لله الذي فضّلك
على كثير من خلقه، ثمّ تلا هذه الآية: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
(وبالإسناد) يرفعه عن الأصبغ بن نباتة
قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقضي بين
الناس، إذ أقبل جماعة ومعهم أسوَد مشدود الأكتاف فقالوا: هذا سارق يا أمير
المؤمنين فقال (عليه السلام): (يا أسود، سرقت؟)، قال: نعم يا مولاي، قال: (ويلك
انظر ماذا تقول أسرقت؟)، قال، نعم.
فقال له: (ثكلتك أُمّك إنْ قلتها ثانية
قطعتُ يدَك، سرقت؟) قال: نعم فعند ذلك قال (عليه السلام): (اقطعوا يده فقد وجب
عليه القطع)، قال: فقطع يمينه فأخذها بشماله وهي تقطر فاستقبله رجلٌ يقال له ابن
الكوّاء فقال له: يا أسود من قطع يمينك؟
قال له: قطع يميني سيّد المؤمنين وقائد
الغرّ المحجّلين وأولى الناس باليقين، سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب (عليه السلام) إمام الهدى وزوج فاطمة الزهراء ابنة محمّد المصطفى، أبو الحسن
المجتبى وأبو الحسين المرتضى، السابق إلى جنّات النعيم مصادم الأبطال المنتقم من
الجهّال زكيّ الزكاة منيع الصيانة من هاشم القمقام ابن عم رسول الأنام الهادي إلى
الرشاد الناطق بالسداد، شجاع كميّ جحجاح وفيّ فهو أنور بطين أنزع أمين مِن حم ويس
وطه والميامين، محلّ الحرمين ومصلّى القبلتين خاتم الأوصياء لصفوة الأنبياء
القسورة الهمام والبطل الضرغام، المؤيّد بجبرائيل والمنصور بمكيائيل
المبين، فرض ربّ العالمين المطفي نيران الموقدين وخيرُ مَن مشى من قريش أجمعين
المحفوف بجندٍ من السماء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) على رغم
أنف الراغمين ومولى الخلق أجمعين.
قال: فعند ذلك قال له ابن الكوّاء: ويلك
يا أسود، قطع يمينك وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه، قال: وما لي لا أُثني عليه
وقد خالَط حبّه لحمي ودمي والله ما قطَع يميني إلاّ بحقٍّ أوجبه الله تعالى عليّ،
قال ابن الكوّاء: فدخلت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقلت له: يا سيّدي رأيت
عجباً فقال: (وما رأيت؟) قلت صادفت الأسود وقد قطعتَ يمينه وقد أخذها بشماله وهي
تقطر دماً فقلت: يا أسود، من قطع يمينك، فقال: سيّدي أمير المؤمنين (عليه السلام)
فأعدت عليه القول وقلت له: ويحك قطع يمينك وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه، فقال:
مالي لا أُثني عليه وقد خالط حبّه لحمي ودمي، والله ما قطعها إلاّ بحقٍّ أوجبه
الله تعالى، فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ولده الحسن وقال له: (قم وهات
عمّك الأسود)، قال: فخرج الحسن (عليه السلام) في طلبه فوجده في موضعٍ يقال له كندة
فأتى به إلى أمير المؤمنين، فقال: (يا أسود قطعت يمينك وأنت تثني عليّ)، فقال: يا
مولاي يا أمير المؤمنين، ومالي لا أُثني عليك وقد خالَط حبّك لحمي ودمي، فوالله ما
قطعتها إلاّ بحقٍّ كان عليّ ممّا ينجي من عذاب الآخرة، فقال (عليه السلام): (هات
يدَك)، فناوله إيّاها فأخذها ووضعها في الموضع الذي قطعت منه ثمّ غطّاها بردائه
وقام فصلّى (عليه السلام) ودعا بدعوات لم تردّد وسمعناه يقول في آخر دعائه:
(آمين)، ثمّ شال الرداء وقال: (اتّصلي أيّتها العروق كما كنت)، قال: فقام الأسود
وهو يقول: آمنت بالله وبمحمّد رسوله وبعليّ الذي ردّ اليد بعد القطع وتخليتها من
الزند، ثمّ انكب على قدميه وقال: بأبي أنت وأُمّي يا وارث علم النبوّة.
(وبالإسناد) يرفعه عن جعفر بن محمّد
الصادق (عليه السلام) قال: مرّ بامرأة بمنى تبكي وحولها
صبيان يبكون فقال لها: (يا أمة الله ما يُبكيك؟)، قالت: يا عبد الله إنّ لي صبية
أيتام وكانت لي بقرة ماتت وقد كانت لنا كالأُم الشفيقة نعمل عليها ونأكل منها، وقد
بقيت بعدها مقطوعاً بي وبأولادي لا حيلة لنا عليها، فقال: (يا أمة الله أتحبّين
أنْ أُحييها؟)، فألهمها الله تعالى قالت: نعم يا عبد الله، قال: فتنحى عنها وصلّى
ركعتين ثمّ رفع يده هنيئة وحرّك شفتيه ثمّ قام فمرّ بالبقرة فنخسها نخسة برجله،
وقال لها: (قومي بأذن الله تعالى)، فاستوت قائمة بأذن الله تعالى على الأرض فلمّا
نظرت المرأة إلى البقرة قامت وصاحت: واعجباه مَن تكون يا عبد الله؟ قال فجاء الناس
فاختلط بينهم ومضى (عليه السلام).
(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي وائل قال:
مشيت خلف عمر بن الخطّاب فبينا أنا أمشي إذ أسرع في مشيه فقلت له: على مشيتك يا
أبا حفص فالتفت
إليّ مغضباً وقال: أوَما ترى الرجل خلفي،
ثكلتك أُمّك أما ترى عليّ بن أبي طالب؟ فقال: يا أبا حفص، هذا أخو الرسول وأوّل
مَن آمن وصدّق به وشقيقه، قال: لا تقل هذا يا أبا وائل، لا أُمّ لك فوَالله لا
يخرج رُعبه من قلبي أبداً.
قلت: ولم ذلك يا أبا حفص؟ قال: والله
لقد رأيته يوم أُحد يدخل بنفسه في جمع المشركين كما يدخل الأسد بنفسه في زريبة
الغنم فيقتل منها ويخلّي ما يشاء، فما زال ذلك دأبه حتى أفضى إلينا ونحن منهزمون
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو ثابت، فلمّا
وصل إلينا قال لنا: (ويلكم أترغبون بأنفسكم عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد أنْ بايعتموه؟)، فقلت له من بين القوم: يا أبا
الحسن، إنّ الشجاع قد ينهزم، وأنّ الكرّة تمحو الفرّة
فما زلت أخدعه حتى انصرف بوجهه عنّي يا أبا وائل، والله لا يخرج رُعبه منّي أبداً.
(وبالإسناد) يرفعه إلى الثقاة الذين
كتبوا الأخبار أنّهم وضح لهم فيما وجَدوا، وبانَ لهم من أسماء أمير المؤمنين (عليه
السلام) ثلاثمِئة اسم في القرآن، منها ما رواه بالإسناد الصحيح عن ابن مسعود، قوله
تعالى: (وَإِنَّهُ
فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا
لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)،
وقوله تعالى: (وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ)،
وقوله تعالى: (إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)،
وقوله تعالى: (إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)،
فالمنذر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والهادي عليّ
بن أبي طالب (عليه السلام). وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ)
فالبيّنة محمّد والشاهد عليّ (عليه السلام)، وقوله تعالى: (إِنَّ
عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى)، وقوله تعالى: (إِنَّ
اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)، وقوله تعالى: (أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ
كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)،
جنب الله عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقوله تعالى: (وَكُلَّ
شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)
معناه عليّ (عليه السلام)، وقوله تعالى: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)،
وقوله تعالى: (ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)،
معناه عن حبّ عليّ بن أبي طالب، وقد ذكروا أسماء كثيرة لا نطيل بذكرها هنا، وهي
أشهر من أنْ تخفى وأكثر من ثلاثمِئة اسم وما بينها ههنا، ولكن نذكر ألقابه وكُناه.
كنيته: أبو الحسن وأبو الحسين وأبو شبّر
وأبو تراب وأبو النورين، وألقابه أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ
المُحجّلين، وقامع المارقين وصالح المؤمنين والصدّيق الأعظم والفاروق الأكبر،
وقسيم الجنّة والنار والوصيّ وأولى الخليقة وقاضي الدين ومُنجز الوعد، والمنحة
الكبرى وحيدرة الورى وصاحب اللواء والذائد عن الحوض، وأمير الإنس والجان والذابّ عن النسوان، الأنزع البطين
والأشرف المكين وكاشف الكرب ويعسوب الدين وباب حطّة وباب التقادم وحجّة الخصام
ودابّة الأرض، وصاحب العصا وفاضل القضا وفاضل الفضلا وسفينة النجاة، المنهج الواضح والمحجّة البيضاء وقصد
السبيل.
وقد روي عن النبيّ أنّه قال: (لعليّ
سبعة عشَر اسماً) فقال ابن عبّاس: أخبرنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: اسمه عند
العرب عليّ، وعند أُمّه حيدرة، وفي التوراة إليا، وفي الإنجيل بريا، وفي الزبور
قريا، وعند الروم بظرسيا، وعند الفرس نيروز، وعند
العجَم شميا، وعند الديلم فريقيا، وعند الكرور شيعيا، وعند الزنج حيم، وعند الحبشة
تبير، وعند الترك حميرا، وعند الأرمن كركر، وعند المؤمنين السحاب، وعند الكافرين
الموت الأحمر، وعند المسلمين وعد، وعند المنافقين وعيد، وعندي طاهر مطهّر، وهو جنب
الله ونفس الله ويمين الله عزّ وجل قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، وقوله: (بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).
الفهرس
إحياء عليّ (عليه السلام) للميّت
حديث
مولد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)
مولد
الإمام عليّ (عليه السلام)
خبر
ردّ الشمس لأمير المؤمنين (عليه السلام)
خبر
كلام الشمس معه (عليه السلام)
معاجز
أمير المؤمنين (عليه السلام)
خبر
الشيخ معاذ بن جبَل مع معاوية بن أبى سفيان
(خبر
مفاخرة عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهما السلام))
حديث
مفاخرة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع ولده الحسين (عليه السلام)
حكاية
وفاة سلمان الفارسي (رضي الله عنه)
في
فضائل الإمام عليّ (عليه السلام)
خبر
المنصور في فضل أهل البيت (عليهم السلام)
اعتراف
عمر بوصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام)
رؤية
إبراهيم أنوار النبيّ والأئمّة
خبر
المفلوج الذي أبرأه عليّ (عليه السلام)
خبر
كلام السبع مع عليّ (عليه السلام)