الفصل الثاني
تاريخ الإمام علي بن محمد الهادي (ع)
كانت سامراء عاصمة الدولة العباسية في أوج عزها وعمرانها ، وكان المتوكل هو تسنم كرسي الخلافة جاء به جماعة من الموالى والاتراك عام 232هـ . وكان قد تسلم الخلافة حاقداً على أئمتنا (ع) وعلى اصحابهم حذراً منهم كل الحذر . وهذا واضح لمن يراجع التاريخ كل الوضوح (1) بلغ في آل ابي طالب ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك ان كرب قرب الحسين السلام وعفى آثاره .
وفكر المتوكل ان يستقدم الامام علي بن محمد الهادي عليه السلام إلى سامراء من المدينة ، آخذاً بالأسلوب الذي اخترعه المأمون العباسي وسار عليه من بعده تجاه الامام الجواد محمد بين علي عليه السلام ، ومن بعده الأئمة (ع) . فان المأمون حين زوج ابنته أم الفضل للإمام الجواد عليه السلام ، كان قد وضع الحجر الأساسي للمراقبة الشديدة والحذر التام من الامام عليه السلام من الداخل ، مضافاً إلى مراقبته من الخارج .
_________________
(1) انظر الكامل جـ ، ص 304 ، ص 287 جـ 4 ص 51 ومقاتل الطالبين جـ 3 ص 424 .
صفحة (101)
وكان هذا الزواج وتقريبه إلى البلاط ، أسلوب ناجح الوصول إلى هذه النتيجة التي يراد بها جعل الامام عليه السلام بين سمع الخليفة وبصره ، وعزله عن قواعده الشعبية الموالية له ، وكفكفة نشاطه.
وإذ توفي الامام الجواد عليه السلام ، وتولى الامام الهادي عليه السلام الامامة بعده ، لم يكن ليفوت المتوكل ضرورة تطبيق نفس هذا الاسلوب عليه ، فهو يرى ان الامام حال وجوده في المدينة ، بعيداً عنه ، يشكل خطراً على الدولة لا محالة ، اذن فلا بد من استقدامه إلى سامرا حتى يأمن خطره ويهدأ باله ، ويضعه تحت الرقابة المباشرة منفصلاً عن قواعده الشعبية .
ومن ثم كانت الوشاية به – وهي ناقوس الخطر – كافيه لحفز المتوكل على ضعضعة حياة الامام الهادي عليه السلام ، ونقله من موطنه وداره في المدينة ، إلى العاصمة سامراء ، لكي يبدأ تاريخاً جديداً حافلاً في موطنه الجديد .
الاتجاه العام للامام الهادي (ع) :
في استقدام المتوكل اياه :
لم يكن من المصلحة في نظر الامام عليه السلام ، اعلان الخلاف ضد المتوكل ، وكذلك كانت سياسة ابيه وابنائه عليهم السلام بالنسبة إلى الخلافة العباسية ، حتى تكللت هذه السلبية بغيبة الامام المهدي عليه السلام
ولعلنا في غنى عن
اعطاء الفكرة الكاملة عن سبب هذه السلبية ، بعد وضوح ان ما يستهدفه الأئمة (ع) انما
هو تأسيس المجتمع الاسلامي العادل الواعي الذي يطبق تعاليم الاسلام بتفاصيلها ،
ويتعاون افراده في انجاح التجربة الاسلامية .
صفحة (102)
وهذا انما يتوفر بعد وجود عنصرين :
اولهما: وجود الخلافة الاسلامية بالشكل الذي كان يؤمن به الأئمة عليهم السلام ، وهو توليهم بانفسهم منصب الامامة ورئاسة الدولة الاسلامية ، أو من يعينونه ويختارونه لذلك .
ثانيهما : وجود المجتمع الذي يملك اكثرية كبيرة أو مئة بالمئة ، لو تحقق ، من الافراد الواعين المتشبعين بفهم الاسلام نصاً وروحاً ، ومستعدين للتضحية في سبيله ، ولقول الحق ولو على أنفسهم ، ورفض مصالحهم الضيقة تجاهه . والذين يبذلون – نتيجة لذلك – الطاعة المطلقة للحاكم الاسلامي الحق .
ولعلنا نستطيع ان نستوضح أهمية انضمام هذين العنصرين في تكوين الدولة الدولة الاسلامية ، اذا تصورنا تخلى بعضها عن بعض . في صورة ما إذا تولى الامام الحق منصب الرئاسة في مجتمع متضارب الآراء مختلف الاهواء ، يعيش افراده على اللذاذة الآنية والمصلحة الشخصية ، بعيدين عن الاسلام وعن الاستعداد للتضحية في سبيله باقل القليل . هل يستطيع الامام ان يقدم الخدمات الاسلامية المطلوبة ، لمثل هذا المجتمع .
كلا ، فان تطبيق العدل الكامل ، يحتاج إلى العمل الدائب والتضحيات الكبيرة والطاعة المطلقة للرئيس العادل ، وكل ذلك مما لا يمكن توفره في المجتمع المنحرف وغير الواعي.
صفحة (103)
ومن الأئمة عليهم السلام ، يرون المصلحة في تولي رئاسة الدولة الاسلامية في المجتمع المنحرف ، الذي أدى بمن تولى هذا المنصب منهم إلى المتاعب المضاعفة وإلى القتل في نهاية المطاف. وهم : جدهم الأعلى امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، ومن بعده ابنه الامام الحسن المجتبى عليه السلام ، إذ لو كان المجتمع واعياً ومضحياً في سبيل دينه في عصرهما (ع) لكان لهما خاصة وللامة الاسلامية عامة تاريخ غير هذا التاريخ .
ولم يكن المتجتمع في خلال عصور الأئمة جميعهم بأحسن حالاً من المجتمع الأول الذي قتل امير المؤمنين وخذل ابنه الحسن وقاتل ابنه الحسين عليهم السلام . ان لم يكن قد تزايد لهوه وبطره وحرصه على المصالح واللذاذات ، نتيجة لانكباب الخلفاء انفسهم على ذلك ، فان الناس بدين ملوكهم ، مع انعدام أو ضآلة المد الكافي لتوعية المجتمع وارجاعه إلى فهم دينه الحنيف .
ومن ثم لم يكن لهم في الخلافة مطمع، لانهم لم يكونوا يريدون السير على الخط (الأموي – العباسي) للخلافة، ذلك الخط المنحرف الذي يؤمن للناس اطماعهم ويقسم المجتمع إلى نعمة موفورة وإلى حق مضيع.
فكان الهدف الأساسي للأئمة عليهم السلام ينقسم إلى أمرين مترابطين :
أحدهما : حفظ المجتمع من التفسخ والانهيار الكلى ، أو بتعبير آخر : حفظ الثمالة المشعة من الحق ، المتمثلة بهم وبمواليهم وقواعدهم الشعبية. ثانيها: السعي إلى تأسيس المجتمع الاسلامي الواعي ، ورفع المستوى الايماني في نفوس افراده ، تمهيداً لنيل الخلافة الحقة وتطبيق المنصب الالهي الذي يعتقدون استحقاقه.
صفحة (104)
وكانوا يعملون على تنفيذ ذلك ، في حدود الامكان الذي يناسب مع الحذر من الجهاز الحاكم وتجنب شره . إذ لم يكن من المصلحة، ان يقوم الامام عليه السلام بحركة ثورية عشوائية بجماعة قليلة تؤدي به وبجميع أصحابه إلى الاستئصال التام ، ولا يتحقق شيء من ذينك الغرضين.
فهذا هو السر الاساسي للسلبية التي سار عليها الأئمة عليهم السلام تجاه السلطات الحاكمة ، وهو الذي يفسر لنا – على تفصيل وتحقيق لا مجال له هنا – اعلان الامام الحسن عليه السلام الصلح مع معاوية.
ورفض الامام الرضا عليه السلام ولاية العهد التي عرضها عليه المأمون.
وهوالسبب الذي ادى إلى الموقف السلبي للامامين العسكريين عليهما السلام اللذين نورخ لهما وهو الذي ادى – في نهاية المطاف – إلى غيبة الامام المهدي عليه السلام ، على ما سنعرف .
صفحة (105)
سفره إلى سامراء :
وشى عبد الله بن محمد الذي كان يتولى الحرب والصلاة بمدينة الرسول المنورة ، بالامام المهدي عليه السلام، وكان يقصده بالاذى. فبلغ إلى الامام خبر وشايته ، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه السلام ، وكذبه فيما سعى به (1) .
فنرى كيف ان عبد الله بن محمد يمثل الخط العام للدولة ، في الفزع من نشاط الامام وتصرفاته ، وكيف وصل به الحال إلى ان يرسل إلى المتوكل بخبره ، باعتباره حريصاً على مصالح الدولة ، ومنتبهاً على مواطن الخطر ؟! ولعله التفت إلى بعض النشاطات المهمة التي كان يقوم بها الامام بعيداً عن السلطات ، فاوجس منها خيفة حدت به إلى هذه الوشاية.
الا ان المتوكل كان يعلم بكل وضوح ، عدم امكان الحصول على أي مستند ضد الامام عليه السلام ، فان للأئمة عليهم السلام ، كما سبق ان قلنا اساليباً من الرمزية والاخفاء يمكنهم خلالها القيام بجملة من جلائل الأعمال .
_________________
(1) انظر الارشاد 313 .
صفحة (106)
لعل أهم دلائل الاخفاء ، هو تصديه إلى تكذيب الخبر برسالة يرسلها إلى المتوكل نفسه ، يكذب فيها التهمة ، وينفي عن نفسه صفة التأمر على الدولة . فان نشاطه كان مقتصراً في الدفاع عن قواعده الشعبية وتدبير أمورهم ، وليس له ضد الدولة أي عمل ، وان كان قد أوجب عمله توهم عبد الله بن محمد لذلك .
والمتوكل هو من عرفناه بموقفه المتزمت ضد الامام عليه السلام وكل من يمت اليه بنسب أو عقيدة . ولكنه يتلقى رسالة الامام (ع) بصدر رحب ، ويرسل له رسالة مفصلة كلها اجلال له واعظام لمحله ومنزلته.
يعترف بها ببرائته وصدق نيته ويوعز بعزل عبد الله بن محمد عن منصبه بالمدينة ، ويدعى الاشتياق اليه ويدعوه ان يشخص إلى سامراء مع من اختار من أهل بيته ومواليه (1) .
وهذا الطلب، وان صاغه المتوكل بصيغة الرجاء ، الا انه هو الالزام بعينه ، فان الامام عليه السلام ان لم يذهب حيث امره يكون قد اثبت تلك التهمة على نفسه واعلن العصيان على الخلافة ، وكلاهما مما لا تقتضيه سياسة الامام (ع) .
واما عام سفره هذا ، فقد ذكر في الارشاد (2) : ان الرسالة مؤرخة بجمادى الآخرة سنة ثلاث واربعين ومأتين وليس في هذا ما يلفت النظر لولا ما ذكره ابن شهر اشوب من ان مدة مقام الامام الهادي عليه السلام في سامراء من حين دخوله إلى وفاته ، عشرون سنة (3) .
_______________________________
(1) انظر نص الرسالة في الارشاد . الصفحة السابقة وما بعدها .
(2) انظر ص 314 .
(3) المناقب جـ 3 ص 505 .
صفحة (107)
واذ نعرف انه
عليه السلام توفى عام 254هـ (1) ، تكون سفرته هذه
قبل عشرين عاماً من هذا التاريخ أي سنة 234هـ . وهذا انسب بالاعتبار السياسي
، باعتبار كونه بعد مجيء المتوكل إلى الخلافة بعامين ، فيكون المتوكل قد طبق منهجه
في الرقابة على الامام في الاعوام الأولى من خلافته بخلافه على الرواية الثانية ،
التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكل أحد عشر عاماً . والله العالم بحقائق
الأمور.
اعطى المتوكل رسالته إلى احد صنائعه ، يحيى بن هرثمة ، ليسلمها إلى الامام في المدينة ، وامره باستقدامه إلى سامراء . فأسمعه يقول في روايته للحادثة(2) : فلما صرت اليها – يعني المدينة المنورة – ضج أهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله . فجعلت اسكنهم واحلف لهم اني لم أؤمر فيه بمكروه ، وفتشت بيته ، فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاء وما أشبه ذلك .
فنعرف من ذلك، مدى اخلاص اهل المدينة لامامهم عليه السلام ، وحرصهم عليه ، ومدى تأثيره الحسن فيهم، ولم يكن هذا الضجيج الكبير منهم ، إلا لمعرفتهم بوضوح سوء نية السلطات تجاه الامام وابتغائها الدوائر ضده.
_________________________
(1) انظر الارشاد ص 307 وابن الوردي جـ 1 ص 232 وابن خلكان ص 435 جـ 2 والطبري جـ 11 ص 157 والعبر جـ 2 ص 5 وابو الفداء جـ ص 254
(2) انظر المروج جـ 4 ص 84 وما بعدها
صفحة (108)
فكان تأسفهم وتأوههم ناشئاً من امرين :
احدهما: انقطاعهم عن الامام عليه السلام ، وحرمانهم من ارشاداته والطافه ونشاطه الاسلامي البناء . وهذا ما اراده المتوكل ، وقد حصل بالفعل بمقر الامام ، فانه لم يعد إلى المدينة بعد ذلك .
الثاني: مخافتهم على حياته ، لاحتمال قتله عند وصوله إلى العاصمة العباسية. وهذا هو الذي فهمه يحيى بن هرثمة من الضجيج – وحاول ان لا يفهم غيره – فحلف لهم انه لم يؤمر فيه بمكروه.
ولم يثن الضجيج هذا الرجل عن غرضه السياسي في التجسس ففتش دار الامام ، بالمقدار الذي حلا له ، فلم يجد فيه أي وثيقة تدل على التمرد أو الخروج على النظام العباسي . وبذلك يكون المتوكل قد فقد أي مستمسك يؤيد ما سمعه عنه أو خافه منه . واستطاع الامام عليه السلام ان يحافظ على مسلكه العام في السلبية .
وخرج الامام الهادي عليه السلام ، مصاحباً لولده الامام العسكري وهو وصي ، مع ابن هرثمة متوجهاً إلى سامراء . وحاول ابن هرثمة في الطريق اكرام الامام واحسان عشرته . وكان يرى منه الكرامات والحجج التي تدل على توليه طرق الحق ، وتوضح لهذا الرجل جريمته في ازعاج الامام وزعزعته والتجسس عليه ، وجريمة من امره بذلك أيضاً .
صفحة (109)
ويمر الركب ببغداد – في طريقه إلى سامراء – فيقابل ابن هرثمة واليها – بعد انتقال الخلافة عنها – وهو يومئذ اسحاق بن ابراهيم الطاهري . وهو ، بمقتضى منصبه ، محل الثقة الكبرى من قبل المتوكل ، بحيث جعله والياً على عاصمته الثانية وقائماً مقامه فيها . فنرى اسحاقاً الطاهري يوصى بن هرثمة بالامام مستوثقاً من حياته قائلاً له : يا يحيى ان هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمتوكل من تعلم وان حرضته على قتله ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك .
فيجيبه يحيى : والله ما وقفت له الا على كل امر جميل (1) .
ونحن حين نسمع هذا الحوار بين الرجلين اللذين يمثلان السلطات نفسها ويعيشان على موائدها ، نعرف كم وصل الحقد والتمرد على النظام القائم يؤمئذ ، وكيف أنه تجاوز القواعد الشعبية إلى الطبقة العليا الخاصة من الحكام ، مواضع ثقة الخليفة ومنفذي اوامره. كما نعرف مدى اتساع الذكر الحسن والصدى الجميل لافعال الامام وأقواله بين جميع الطبقات ، حتى بين الحكام انفسهم .
وحين يصل الركب إلى سامراء ، يبدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ، وقد عرفناه قائداً من القواد الاتراك المنتفعين بالوضع القائم ، ممن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في اعماله ويظهر من التاريخ ان وصيفاً كان هو الآمر رسمياً على ابن هرثمة ، ومن هنا قال له وصيف : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة ، لا يكون المطالب بها غيري .
______________________
(1) مروج الذهب جـ 4 ص 85 .
صفحة(110)
يقول ابن هرثمة : فعجبت من قولهما ، وعرفت المتوكل ما وقفت عليه وما سمعته من الثناء عليه ، فاحسن جائزته واظهر برّه وتكرمته (1) . وقد عرفنا مما سبق ان كل هذا الكرم الحاتمي ، على الامام عليه السلام ، لم يكن من أجل حفظ حق الامام ، وانما كان تغطية للمنهج السياسي الذي يريد المتوكل اتباعه ، وهو عزل الامام عن نشاطه وقواعده الشعبية والحذر مما قد يصدر منه من قول أو فعل .
ومن هنا نرى ، ان المتوكل أمر ان يحجب عنه الامام (2) في يوم وروده الأول إلى العاصمة العباسية. ونزل الامام في مكان متواضع يدعى بخان الصعاليك ، فقام فيه يومه (3) .
ومر عليه ، وهو في هذا الخان احد محبيه مقدري فضله ، صالح بن سعيد ، فاحزنه حال الامام عليه السلام ، فقال له : جعلت فداك في كل الامور ارادوا اطفاء نورك والتقصير بك حتى انزلوك في هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك .
ويسمع الامام (ع) ما قال ، فيجيب وكأنه قد التفت بعد استغراق تفكير ونشغال بال : ههنا انت يا ابن سعيد .
ثم يريد الامام (ع) ان يفهم هذا المشفق بان الحال الدينوية ، وان إلا أن حدوث مثل ذلك ، في ذلك الظرف العصيب ، لم يكن ليصل إلينا أكثر مما وصل منه فعلاً .
________________________
(1) المصدر والصفحة .
(2) الارشاد ص 314 .
(3) اعلام الورى ص 348 وانظر الارشاد أيضاً نفس الصفحة السابقة .
صفحة (111)
مضافاً ، إلى أن جملة من الأحداث ، كان في مستطاع أصحاب الإمام عليه السلام وأعدائه ، كما في مستطاع المؤرخ اليوم، استنتاج رأيه فيها، بصفته الوجود الممتد لرسول الله (ص) والممثل للقواعد الإسلامية الصحيحة. فنحن لا نحتاج إلا مزيد تفكير حين نريد معرفة رأيه باشخاص الخلفاء أو سلوكهم المنحرف أو الوزراء أو القواد ، ونشاطهم غير القائم على أساس العدل الإسلامي ، أو رأيه في الخوارج أو في هدم قبر جده الحسين عليه السلام ومنع الزوار عنه. فإن كل ذلك مما يرفضه رفضاً باتاً ويستنكره أشد الاستنكار . وكذلك الحروب والمناوشات التي كانت تقع في داخل البلاد الإسلامية ، قائمة على الطمع والتوسع . وكذلك تنصيب القضاة غير الاكفاء بنظر الإمام (ع) وجميع ما يصدرون من أحكام .
أما بالنسبة إلى حروب المسلمين مع الاغيار في الحدود الإسلامية ، فمن المستطاع القول بموافقته عليها ، باعتبارها القضية التي تخص الإسلام ، الذي يمثل الإمام حقيقته وجوهره . ولو كان الجهاد في ذلك الزمان في سبيل الله محضاً ـ كما كان على عهد رسول الله (ص) ـ لكان الإمام أول المبادرين إلى تأييده ، ولكننا أسلفنا في التاريخ العام أن فكرة الجهاد انحدرت في الأزمان المتأخرة إلى التجارة والمساومة .
صفحة(121)
فلم تكن هذه الناحية ، من الجهاد ، بمرضية للإمام عليه السلام ، وبخاصة وأن الاموال المغتنمة ، لم تكن تصرف في مصلحة الدين والأمة ، وإنما كانت : في الأغلب ، تصرف في الشؤون الخاصة للحكام .
وإنما الذي كون مرضياً للإمام عليه السلام ، هو نتيجة الجهاد وهو سقوط المنطقة الكافرة بين المسلمين ، ودخولها في بلاد الإسلام وخلاصها من حكم الكفر أو الإلحاد .
صفحة (122)
الخطوط العامة لمواقف الإمام (ع) :
كان الإمام الهادي عليه السلام في سامراء يمارس وظيفته الاعتيادية بصفته الإمام والقائد لمواليه والمشرف على مصالحهم والمدافع عن قضاياهم بمقدار الإمكان ، في تلك الحدود الضيقة التي تحدد بحدود الضغط والرقابة الموجهة إليه وإلى مواليه .
فكان له في ذلك موقفان :
الموقف الأول: اثبات الحق أو نقد الباطل ، بحسب وجهة نظره ، تجاه الناس من غير الموالين له ، سواء على المستوى العالي في الجهاز الحاكم ، أوعلى مستوى القواعد الشعبية العامة .
الموقف الثاني: المحافظة التامة على أصحابه ورعاية مصالحهم وتحذيرهم من الوقوع في الشرك العباسي، ومساعدتهم في إخفاء نشاطهم ، وما إلى ذلك ، بحسب الإمكان .
ولعلنا نستطيع أن نتكلم في كل موقف من هذين الموقفين ، بما يوضح الفكرة ويبسط الأمثلة التاريخية ، ويؤسس الاساس لما نريد التوصل إليه في نهاية المطاف ، من دون أن نكون مضطرين إلى ذكر كل شاردة وواردة في ترجمته عليه السلام .
صفحة (123)
الموقف الأول :
نشاطه (ع) تجاه من لا يعتقد بامامته :
ويتجلى هذا الموقف في عدة نقاط :
النقطة الأولى : النقد السياسي على المستوى الأعلى وهو ما يعبر عنه بلغة الفقه ، أنها كلمة حق أمام سلطان جائر .
ولعل أول وأوضح ما يندرج في هذا الصدد ، ما ذكره جماعة من المؤرخين العامة والخاصة ، من أنه سعى به (ع) إلى المتوكل ، وقيل أن في منزلة سلاحاً وكتباً ، وغيرها من شيعته وأوهموه أنه يطلب الأمر لنفسه فوجه إليه عدة من الأتراك ليلاً ، فهجموا على منزله على غفلة ، فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر ، وعلى رأسه ملحفة من صوف ، وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى ، فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل .
فمثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كاس ، فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جانبه ، ولم يكن في منزله شيء مما قيل عنه ولا حجة يتعلل بها.
صفحة (124)
فناوله المتوكل الكأس الذي في يده . فقال : يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني ، فاعفاه ، وقال : أنشدني شعراً استحسنه فقال : أني لقليل الرواية للشعر ، قال : لا بد أن تنشدني شيئاً . فأنشده :
باتوا على قلل الأجيال تحرسـهم غلب الرجال فما اغتنـم القـلل
واستنزلوا بعد عز مـن معاقلهم فأودعوا حفراً يابسـاً ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد مـا قبروا أين الاسرة والتيجـان والحلـل
أين الوجوه التي كـانت منعمـة من دونها تضرب الأستار والكلل
فافصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليـها الدود يقتتـل
قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الاكل قد أكلوا
قال : فاشفق من حضر على علي (ع) وظن أن بادرة تبدر إليه فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ثم أمر برفع الشراب . ثم قال : يا أبا الحسن ، أعليك دين ؟! قال : نعم ، أربعة آلاف دينار . فأمر بدفها إليه ، ورده إلى منزله مكرماً (1) .
ولعلنا نستطيع أن نفهم من هذه القصة ، عدة أمور:
الأول : مقدار الجو المكهرب الذي كان يعيشه الإمام (ع) تجاه السلطات ، وكيفية معاملتهم معه ، تلك المعاملة التي كان للأتراك اليد الكبرى في ارتكابها وتحمل جريرتها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ابن خلكان جـ 2 ص 434 ، وأبو الفداء جـ 1 ص 470 وابن الوردي جـ 1 ص 232 والمسعودي في المروج جـ 4 ص 11 .
صفحة (125)
الثاني : أن الإمام هو الذي اراد عن علم وعمد أن يكون في جوف الليل ، على الحالة التي رأوه عندها . فقد علم بنحو غيبي أو بطريق خاص ، بمثل هذا الهجوم المفاجيء . فأخفى مستنداته بنحو تام وبدأ بقراءة آيات في الوعد والوعيد ، مما يكون حجة على هؤلاء الأتراك المهاجمين . وإن تخيل الحكام والمؤرخون أيضاً أن القيام بهذه العملية كان على حين غرة منه وغفلة.
الثالث : أن الإمام اعطى لهذا المقام مقاله ، بالنحو الذي لا يكون مهدداً مباشرة للكيان القائم ، مع كونه واقعاً موقع التأثير البالغ ، لكون تذكيراً بالموت والعقاب في وقت التلبس بعصيان أوامر الله تعالى . وكان له من الشمول لكل موقف سياسي أو شخص منحرف ، ما يكفي لمتعظ .
الرابع : أن المتوكل كان في لا شعوره وفي مرحلة غامضة من بواطن نفسه ، يعترف بأمرين أولهما : أن الحق في جانب الإمام ، وأن قضيته عادلة ، ثانيهما : أن ما يقترفه من الأعمال ، انحراف عن الإسلام وعصيان لأوامر الله المتفق على ثبوتها بين المسلمين ، فهو يحس بوقع الجريمة ووخز الضمير . إلا أن كلاً من هذين الإحساسين تغطيها أغشية المال والملك والمصالح الشخصية ، الذي جعلته في قمة المنحرفين والمعادين لأهل البيت .
صفحة (126)
وعلى أي حال فقد استطاع الإمام أن يمس بإنشاده بواطن إحساسه ، فأبكاه ونجا من الشر والضرر الذي كان يحاوله ضده ، بل زاد المتوكل على ذلك باعطائه المال وصرفه إلى منزله معززاً مكرماً.
ومن مثل هذا الموقف ما كان من الإمام (ع) مع أحمد بن الخصيب ، ومن هو ابن الخصيب !؟ هو الذي استوزره المنتصر وندم على ذلك(1) وذلك لأن ابن الخصيب كان ضيق الصدر بطيئاً في حوائج الناس ظالماً ، ومن ذلك أنه ركب ذات يوم فتظلم اليه منظلم بقصه ، فأخرج رجله من الركاب فزج بها في صدر المتكلم فقتله فتحدث الناس في ذلك فقال بعض الشعراء في أثر ذلك :
قال للخليفة يا ابن عـم محمد اشكـل وزيرك أنه ركال
اشكله عن ركل الرجال فإن ترد مالاً فعند وزيرك الأموال (2)
وقد شارك جماعة الأتراك في تنصيب المستعين بعد المنتصر(3) ولكن المستعين نفاه عام 248هـ إلى اقريطش (اليونان)(4) .
ــــــــــــــــــــــ
(1) المروج جـ 4 ص 48 . (2) المصدر والصفحة .
(3) الكامل جـ 5 ص 3111 والمروج جـ 4 ص48 .
(4) الكامل ص 312 . المروج جـ 4 ص 61 .
صفحة (127)
قال الراوي : فتحير الحاضرون ، ونهض علي بن محمد (ع) فقال اثناء وزارته ، وقد قصر أبو الحسن عنه ، فقال له ابن الخصيب : سر جعلت فداك . فقال له أبو الحسن (ع) : أنت المقدم يقول الراوي : فما لبثنا إلا أربعة أيام حتى وضع الدهق على ساق ابن الخصيب ، وقتل (1) .
فهذا من النقد الضمني ، وإلقاء الحجة ، على هذا الوزير المنحرف ، من حيث لا يعلم ، ولكن الإمام (ع) قال له قولاً صريحاً ، نتيجة لاعتدائه عليه والحاحه في الانتقال من الدار التي قد نزلها وتسليمها إليه . قال الراوي: فبعث إليه أبو الحسن : لا قعدن بك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية ، فأخذه الله في تلك الأيام . وهذه هي دعوة المظلوم المستجابة ، وخاصة في مثل شأن هذا الإمام الممتحن (ع) .
ومن موارد إثبات الحجة على المستوى الحكومي العالي ، ما ورد بشكل مشهور عن زرافة حاجب المتوكل ، ما حاصله : أن مشعوذاً هندياً أراد أن يأنس المتوكل بلعبه . وكان الإمام (ع) حاضراً في المجلس فاراد الهندي أن يخجله ببعض شعوذاته ، ووجد من المتوكل رغبة في ذلك . فما كان من الإمام إلا أن أشار إلى صورة أسد مرسومة على إحدى الوسائد فوثبت الصورة على شكل أسد حقيقي فافترس الهندي المشعوذ وعاد إلى شكله الأول على الوسادة.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص 311 . والمناقب ص 511 جـ 3 .
صفحة (128)
قال الراوي : فتحير الحاضرون ، ونهض علي بن محمد (ع) فقال له المتوكل : سألتك بالله إلا جلست ورددته. فقال : والله لا يرى بعدها اتسطل أعداء الله على أوليائه ، وخرج من عنده . ولم ير الرجل بعدها (1) .
النقطة الثانية ـ إثبات الحجة على المستوى الشعبي العام :
وذلك : بالنحو الذي لا ينافي السلبية والحذر ، من السلطة القائمة : وذلك : على أحمد مستويين ـ أحدهما : المستوى الشخصي والآخر : المستوى الجماعي .
المستوى الأول : إثبات الحق وإقامة الحجة تجاه أشخاص باعيانهم . مثل موقف الإمام تجاه ذلك النصراني الذي جاء دار الإمام حاملاً إليه بعض الأموال . وبمجرد أن وصل أمام الدار خرج إليه خادم أسود . فقال له : أنت يوسف بن يعقوب. قال: نعم. قال : فانزل . واقعده في الدهليز ، فتعجب النصراني من معرفته لاسمه واسم أبيه، وليس في البلد من يعرفه ، ولا دخله قط ، ثم خرج الخادم فقال : المئة دينار التي في كمك في الكاغذ ، هاتها . فناولها إياه . وجاء فقال: ادخل ، فدخل ، وكان الإمام وحده . فطالبه الإمام (ع) بالإسلام والرجوع إلى الحق نتيجة للآيات التي رآها بقوله يا يوسف . ما آن لك ؟ فقال يوسف : يا مولاي ، قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمن اكتفى.
ـــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة جـ 3 ص 184 .
صفحة (129)
فقال: هيهات أنك لا تسلم . ولكنه سيسم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا. يا يوسف إن أقواماً يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك . كذبوا والله ، أنه لتنفع . امض فيما وافيت له ، فإنك سترى ما تحب . قال الراوي : فمضيت إلى باب المتوكل فنلت كل ما أردت وانصرفت (1) .
وعلى هذا المستوى موقف الإمام (ع) تجاه سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح ، الذي كان واقفياً ، فقال له الإمام(ع)، إلى كم هذه النومة أمالك أن تنتبه منها . قال : فقدح في قلبي شيئاً وغشي علي وتبعت الحق(2).
انظر إلى هذه الرمزية التي استعملها الإمام (ع) في كلامه ، بحيث لم يكن يصلح لفهمه إلى المخاطب ، وبذلك أدخله في مواليه وقواعده الشعبية، بعد أن كان حائداً عنه. إلى غير ذلك من الأمثلة التي نكتفي منها بما نقلناه.
المستوى الثاني: إثبات الحق أمام جماعة أوجماعات، عند سنوح الفرصة وتنجز المسؤولية : بشكل هادئ ليس فيه تحد للوضع القائم ، أو مقابلة الخط الحكام .
ـــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة جـ 3 ص 183 .
(2) المناقب جـ 3 ص 511 .
صفحة (130)
فمن ذلك : أنه كان لبعض أولاد الخلفاء وليمة دعا إليها الإمام الهادي عليه السلام . فلما رأوه انصتوا إجلالاً له . وجعل شاب في المجلس لا يوقره ، وجعل يلفظ ويضحك ، يدعوه إلى ذلك تجاهل وجود الإمام والتهوين من شأنه أمام جماعة المدعوين . فقال الإمام له : ما هذا الضحك ملء فيك ، وتذهل عن ذكر الله ، وأنت بعد ثلاثة ايام من أهل القبور. فكف عما هو عليه . وكان كما قال (1) حيث مات الشاب في الموعد المحدد . ولم يكن على أحد من المدعوين ، ألا أن يعرف موعد مدته ، ليعرف حق قول الإمام عليه السلام .
ومن ذلك : أن السلطات خرج في يوم من أيام الربيع ، إلا أنه صائف ، والناس عليهم ثياب الصيف ، أما الإمام (ع) فعليه لباد وعلى فرسه ثوب يحميه المطر ، وقد عقب ذنب فرسه. والناس يتعجبون منه ويقولون : ألا ترون إلى هذا المدني ، وما قد فعل بنفسه . قال الراوي : فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أن ارتفعت سحابة عظيمة، هطلت. فلم يبق أحد إلا ابتل حتى غرق بالمطر. وعاد عليه السلام ، وهو سالم في جميعه (2) . وهنا كان يكفي كل واحد من هؤلاء ، قليلاً من الإلتفات ليروا كرامة الإمام عليه السلام .
وهنا نلاحظ أن مشاركة الإمام (ع) لموكب السلطان في الخروج إلى الصيد ـ وهو لهو كان مفضلاً عند الخلفاء والوزراء في تلك العصور ـ ناتجة في الحقيقة عما عرفناه من سياسة الخلافة العباسية في حجز الإمام (ع) في بوتقة البلاط، وعزله عن قواعده الشعبية ونشاطه البناء ، لكي يكون دائماً تحت الرقابة والنظر.
ــــــــــــــــ
(1) المناقب جـ 3 ص 517 .
(2) المصدر السابق ص 516 .
صفحة (131)
النقطة الثالثة ـ جهاده العلمي :
ذلك الجهاد الذي كان يقوم به عليه السلام ، لكي يثبت حقاً أو يدفع باطلاً ، أو يجيب عن استفتاءات الخليفة له، أو يدفع تحديه عنه.
أما ما كان من إثبات الحق محضاً ، من دون أن يكون مسبوقاً بتحدٍ أو ازعاج . فمنه ما أجاب به عليه السلام عن سؤال الأهوازيين حين سألوه عن الجبر والتفويض . وهو بيان مطول بدأه بمقدمة حول إثبات الإمامة طبقاً للمفهوم الحق الذي يعتقده ، وأتبعه بالجواب الصحيح عن الأمر بين الأمرين (1).
ومنه ما أجاب به أحمد بن إسحاق حين سأله عن الرؤية وما فيه الخلق (2).
وأما ما كان من دفعة للباطل ، بعد اشتباه المسألة والتردد فيما هو الحق عند البعض ، فمنه ما تكلم به عليه السلام مع فتح بن يزيد الجرجاني ، لإزالة بعض الشبهات الواردة في ذهنه (3) ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظره في الاحتجاج جـ 2 ص 251 وما بعدها .
(2) انظره في المصدر والصفحة . (3) انظره في المصدر ص 260 .
صفحة (132)
وما ورد به على رجل عباسي حين عز عليه تقدم الإمام عليه ، مع اعتقاده أنه أشرف منه نسباً !! (1) .
وأما المتوكل واستفتاءاته وتحدياته للإمام عليه السلام ، فهو كثير ، فإن المتوكل في الوقت الذي يعوزه الفقه في عدد من الوقائع ، يضطر إلى الرجوع إلى الإمام لتذليل ما يواجهه من عقبات . ولكنه كان يمزج استفتاءاته بالتحدي ، فيسأل عن الحكمة أو الدليل بقصد الإحراج لا بقصد الفهم الصحيح ، على ما سنعرف . وكان الإمام (ع) يجيبه بالشكل الذي يراه مناسباً مع فهمه وفهم الحاضرين ، وموافقاً للمصلحة مع كونه مثبتاً للحق في نفس الوقت .
فمن ذلك أنه قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم . فقال يحيى بن أكثم ـ وهو قاضي القضاة يومئذ ـ قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود . وقال بعضهم يفعل به كذا وكذا .
فلما رأى المتوكل هذا الاختلاف بين الفقهاء. أمر بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري الإمام الهادي عليه السلام، لسؤاله عن ذلك . فلما قرأ الكتاب كتب عليه السلام : يضرب حتى يموت .
ــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الاحتجاج جـ 2 ص 260 .
صفحة (133)
فانكر يحيى وانكر فقهاء العسكر: سامراء ـ ذلك . فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سله عن ذلك فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجيء به سنة .
فكتب إليه : أن الفقهاء قد أنكروا هذا . وقالوا : لم يجيء به سنة ولم ينطق به كتاب . فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت .
فكتب عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كنا به مشركين . فلن يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (1) . فأمر به المتوكل ، فضرب حتى مات (2) .
ونستطيع أن نفهم من ذلك ، بوضوح ، أمرين :
الأول : أن المتوكل بالرغم من افتقاره إلى الرجوع إلى فتوى الإمام عليه السلام لحل مضلته ، لم يكن على استعداد لتنفيذ ما أمره الإمام إلا بعد مراجعته والتأكيد عليه في طلب الدليل .
الثاني : أننا نفهم من سياق الآية التي استشهد به الإمام ، طريقة فهمه عليه السلام للموقف ، وهو : أن الإسلام الذي أظهره هذا النصراني ليس إيماناً صحيحاً ، وإنما هو لقلقة لسان أظهرها للتهرب من إقام الحد والنجاة من العقاب . وكل من أظهر الإيمان خوفاً من العدل الالهي ، لا يكون الإيمان نافعاً له ، ويكون مستحقاً لمثل هذا العقاب الذي أمر به عليه السلام .
ــــــــــــــــــــــ
(1) المؤمن 84 ـ 85 . (2) المناقب جـ 3 ص509.
صفحة (134)
وقد يكون موقف المتوكل تجاه الإمام موقف التحدي صرفاً ، لا لأجل الحاجة إلى تطبيق الفتوى، ولا لأجل الحاجة إلى فهم الحق في المسألة ، ولا لأجل إثبات جدارة الإمام عليه السلام توخياً للإيمان به ، بل لمجرد التحدي.فمن ذلك أن المتوكل يقول لابن السكيت: أسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي! فيسأله ابن السكيت عن بعض ما يراه صعباً ومشكلاً ، فيخرج الإمام (ع) ظافراً من هذا التحدي ، ويجيب بما هو الحق الصريح. وإذ ينتهي الكلام مع ابن السكيت يبتدر يحيى بن أكثم ، فيقول : ما لابن السكيت ، ومناظرته ، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة،ورفع قرطاساً فيه مسائل ، فأملى علي بن محمد عليه السلام ، على ابن السكيت جوابها (1) .
انظر إلى تعليق ابن أكثم حين قرأ جواب الإمام ، تجده قد تخوف من عمق أجوبته ودقة علمه ، من أن يشارك في الدعاية له وتأكيد صدق قضيته ، وبالنهاية توسيع وتقوية قواعده الشعبية ، قال يحيى بن أكثم للمتوكل : ما تحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه. وأنه لا يرد علي بشيء بعدها إلا دونها. وفي ظهور علمه تقوية للرافضة (2) .
فهذه عدة نقاط من الموقف الأول للإمام في العاصمة العباسية .
ـــــــــــــــــــ
(1) المناقب جـ 3 ص 507 . (2) المصدر ص 509 .
صفحة (135)
الموقف الثاني :
موقفه مع أصحابه ومواليه .
وهو ما يرجع إلى المحافظة عليهم وحمايتهم من الإنحراف ومن الإرهاب العباسي . ومساعدتهم على قضاء حوائجهم بحسب الإمكان . ويندرج في هذا الموقف عدة نقاط :
النقطة الأولى :
حماية أصحابه وذويه من الإنحراف ، وبيع الضمير للحكام بأرخص الأثمان .
ولعل أهم وأوضح موقف وقفه الإمام (ع) في هذا الصدد ، موقفه في ردع أخيه موسى بن محمد بن علي بن موسى على آبائه الصلاة والسلام ، عن الإجتماع مع المتوكل في المجلس الذي كان يريده المتوكل له ، وهو مجلس اللهو والشراب، ليتوصل بذلك إلى هتك أخيه الإمام الهادي عليه السلام ، والتشهير به . ولكن الله تعالى أتم نوره ، ولم يتوصل المتوكل إلى مقصوده فإن المتوكل ، تحت سورة من الحقد والغضب ، قال لأصحابه في بعض مجالسه : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا(1) وجهدت أن يشرب معي وأن ينادمني ، فامتنع ، وجهدت أن أجد فرصة في هذا المعنى فلم أجدها . فقال له بعض من حضر المجلس : إن لم تجد من ابن الرضا ما تريده من هذا الحال ، فهذا أخوه موسى قصاف عزاف ، يأكل ويشرب ويعشق ويتخالع ، فأحضره واشهد به . فإن الخبر يشيع عن ابن الرضا بذلك . فلا يفرق الناس بينه وبين أخيه . ومن عرفه اتهم أخاه بمثل فعاله .
ـــــــــــــــــــ
(1) يعنى الإمام الهادي عليه السلام .
صفحة (136)
وجاء هذا الاقتراح مناسباً مع اتجاه المتوكل وبلسماً على جرح قلبه . فأمر باستقدامه إلى سامراء مكرماً ، وأمر له باستقبال فخم يحضر فيه جميع بني هاشم والقواد وجماهير الناس. وكان عازماً على أنه إذا قدم اقطعه أرضاً وبنى له فيها ، وحول إليها الخمارين والقيان ـ أي الجواري والمغنيات ـ وأمر بصلته وبره . وزاد على ذلك ـ لأجل تحقيق غرضه ـ أن أفراد له منزلاً سرياً يصلح أن يزوره فيه .
وإلى هنا ، حاول المتوكل ، بسلطته على شؤون الدولة ، أن تكون مؤامرته على هتك الإمام بواسطة التشهير بأخيه ، تامة. إلا أن ذلك مما لا يمكن أن يفوت الإمام خبره ، ولا يمكن أن يتغاضى عنه . لأنه هو المقصود بالذات ، في هذا التخطيط ، والعمل ضده عمل ضد الدين وضد سيد المرسلين ، باعتبار أنه يعتقد أنه الممثل الاساسي الأكمل لهذا المبدأ المقدس ، فوقف الإمام (ع) ضد هذه المؤامرة موقفه الحاسم .
خرج عليه السلام مع المستقبلين ، فتلقى أخاه في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون . فسلم عليه ووفاه حقه . ثم جاء دور تحذيره من المؤامرة وتنبيهه على ما ينبغي أن يتصرف . بالنحو الذي يقتضيه رضاء الله تعالى وتعاليم الإسلام .
صفحة (137)
فقال له الإمام : أن هذا الرجل (1) قد أحضرك ليهتكك ويضع منك ، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط . واتق الله يا أخي أن ترتكب محظوراً . فقال له متجاهلاً : وإنما دعاني لهذا ، فما حيلتي . قال له الإمام (ع) : فلا تضع من قدرك ولا تعص ربك ولا تغفل ما يشينك ، فما غرضه إلا هتكك .
وهنا بدأ الأعراض والتشكيك من موسى أخيه ، إذ لعله كان يحسن الظن بالمتوكل وينكر مؤامرته ، أو لعله يدركها وليس لديه منها مانع ، بالرغم مما فيها من الهتك له ولأخيه ولدينه. فكرر عليه أبو الحسن القول والوعظ ، وهو مقيم على خلافه . فلما رأى أنه لا يجيب ، وجد الإمام عليه السلام أن آخر الدواء الكي ، وأنه لا بد أن يقول قوله الحاسم ، مستمداً من وراء الغيب ، فقال له : إما أن المجلس الذي تريد الإجتماع معه عليه لا تجتمع عليه أنت وهو أبداً .
ثم انظر كيف يتم الله نوره ، ويأخذ بيد الإمام (ع) ... أن المتوكل لأسباب مجهولة ، تحول من ذلك الحماس العظيم للاجتماع مع موسى في درا منفردة في مجلس اللهو والطرب ، تحول إلى محاولة إبعاده وحجبه عنه وعدم الإجتماع به. حيث أقام موسى ثلاث سنين ، يبكر كل يوم إلى باب المتوكل ، فيقال له : قد تشاغل اليوم ، فيروح ، ويبكر ، فيقال له : قد سكر فيبكر ، فيقال له : قد شرب دواء . فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل (2) . ولم يجتمع معه على شراب (3) .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) يعني المتوكل العباسي . (2) نعرف من ذلك أن هذه الحادثة وقعت عام 244 .
(3) الإرشاد ص 312 وغيره .
صفحة (138)
النقطة الثانية :
حمايته لأصحابه من الإرهاب العباسي . وذلك بمقدار إمكنه ، ولا ينافي خطه السلبي العام .
ولعل أوضح موقف يروى من ذلك ، هو موقف الإمام مع محمد بن الفرج الرخجي ، إذ كتب إليه محذراً : يا محمد اجمع أمرك وخذ حذرك . فلم يفهم ماذا أراد الإمام بكلامه هذا ، ولو كان قد فهم لدفع عن نفسه شراً مستطيراً. يقول هذا الراوي: فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذي أراد بما كتب ، حتى ورد عليّ رسول حملني من وطني مصفداً بالحديد ، وضرب على كل ما أملك ، وكنت في السجن ثماني سنين .
ثم انظر إلى لطف الإمام عليه السلام به مرة أخرى ، حيث كتب إليه وهو في السجن : يا محمد بن الفرج لا تنزل في ناحية الجانب الغربي قال الراوي : فقرأت الكتاب وقلت في نفسي : يكتب إلى أبو الحسن بهذا وأنا في السجن أن هذا لعجب . فما لبث إلاّ أياماً يسيرة حتى فرج عني وحلت قيودي وخلى سبيلي (1) .
ويندرج في مساعدته لهم بطريق الدعاء. وهو الطريق الغيبي المتوفر دائماً ، للانقاذ من المصاعب وحل المشاكل . فكان الإمام عليه السلام يلجأ إليه حين يجد المصلحة في ارتفاع الصعوبة عن هذا الطريق .
ـــــــــــــــــــ
(1) إعلام الورى ص 342 .
صفحة (139)
فمن ذلك ما حدث به أحد المعاصرين لذلك العصر المتضررين من الحكم العباسي ، حيث
بقول : قصدت الامام يوماً فقلت: أن المتوكل قطع رزقي. وما أتهم في ذلك إلا علمه
بملازمتي لك. فينبغي أن تتفضل علي بمسألته... ولم يتفضل الامام بالوساطة الى
المتوكل - كما طلب - وانما تفضل عليه السلام بالوساطة مع الله تعالى ، وهو غاية
المأمول ونهاية المسؤول ذو القوة المتين. فقال الرجل : تكفى ان شاء الله، يقول
هذا الراوي : فلما كان الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً . فجئت اليه
فوجدته في فراشه. فقال : يا أبا موسى يشتغل شغلي عنك وتنسينا نفسك. أي شئ لك
عندي به . فقلت : الصلة الفلانية، وذكرت أشياء. فأمر لي بها وبضعفها.
وإلى هنا تأكد في ذهن هذا الرجل بان الامام قد نفذ وساطته المطلوبة ... فبدر
إلى الوزير الفتح بن خاقان وقال له مستفهماً : وافي علي بن محمد إلى ههنا
، أو كتب رقعة ! فأجاب الوزير بالنفي.
قال: فدخلت على الأمام . فقال
لي : يا أبا موسى هذا وجه الرضا. فقلت ببركتك يا سيدي، ولكن قالوا : انك ما
مضيت ولا سألت. فأجابه الامام عليه السلام ... انظر إلى جوابه إذ يسند النتيجة
إلى الارادة الألهية والعون الألهي حيث لا يوجد المعين . فأن أهل البيت عليهم
السلام قد أجابوه إلى كل ما يريد فأجابهم عز وجل إلى كل ما يريدون. وكل من كان
كذلك حصل على هذه النتيجة الكبرى.
صفحة (140)
لا محالة . قال الإمام عليه السلام : إن الله تعالى علم منا أنا لا نلجأ في المهمات
إلا إليه . ولا نتوكل في الملمات إلا عليه . وعودنا ـ إذا سألناه ـ الإجابة . ونخاف
أن نعدل فيعدل بنا
ويشبه هذا الموقف ، موقفه عليه السلام مع أيوب بن نوح ـ وهو من ثقات أصحابه (2) ـ حين تعرض له بالأذى قاضي الكوفة السائر في خط الجهاز الحاكم ، المدعو بجعفر بن عبد الواحد القاضي . فكتب إلى الإمام يشكو إليه ما ناله من الأذى. قال الراوي : فكتب إلي : تكفي أمره إلى شهرين . فعزل عن الكوفة في شهرين . واسترحت منه (3) .
ولعلنا في غنى عن التعليق على هذا الموقف من الإمام بأمرين :
أحدهما: إن الإمام عليه السلام اطلع بطريق سري غيبي أو طبيعي على قرار عزل هذا القاضي قبل شهرين من صدوره .
ثانيهما : أن الإمام عليه السلام استعمل في الجواب عبارة غامضة ، يمكن أن تخفى على الرقيب . فإنه لم يكن يمكن أن يفهم أحد أن المقصود هو قاضي الكوفة غير أيوب بن نوح .
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب جـ 3 ص 514 . (2) فهرست الشيح الطوسي ص 40 .
(3) كشف الغمة جـ 2 ص 176 .
صفحة (141)
النقطة الثالثة :
قضاء الإمام لحوائج أصحابه بحسب الإمكان. لعلنا قد تم لدينا ـ إلى حد الآن ـ التعرف على ما كان يعانيه أصحابه وقواعده الشعبية من ضيق في الحالة الإجتماعية والإقتصادية معاً ، نتيجة لإبعادهم عن المسرح العام سياسياً واجتماعياً ، وقد كان الإمام عليه السلام يتوخى من وراء مساعدتهم عدة فوائد :
أولاً : قضاء حوائجهم الخاصة.
ثانياً : تركيز ثقتهم به ، بصفته قائدهم الأعلى ومأملهم الأسمى عند الظروف القاسية ، والمعين عند عدم وجود المعين.
ثالثاً : تجديد نشاطهم الإجتماعي ، بحسب ما يراه لهم عليه السلام وتقتضيه سياسته في ذلك العصر . وهي ـ على ما عرفنا ـ : العمل في سبيل الله والعدل الإسلامي بشكل لا يثير الحقد والخطر عليهم .
وأهم ما يندرج في هذا الموقف : أنه دخل على الإمام جماعة من أفضل أصحابه وأوجههم عنده وعند قواعده الشعبية وهم : أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني . فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه . فقال عليه السلام لعثمان بن سعيد ، وكان وكيله : يا أبا عمرو ، ادفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار ويعلق على ذلك علماؤنا: بان هذه معجزة لا يقدر عليها إلا الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء (1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب جـ 3 ص 512.
صفحة (142)
وأما نحن فيمكننا أن نكتشف من وراء ذلك ... الموقف القيادي المركزي الذي كان يقوم به الإمام بين قواعده الشعبية ومواليه . ذلك الموقف الذي كانت تحاول الدولة العباسية الحيلولة دونه ... ولم تكن موفقة في ذلك إلى حد كبير. فالإمام يستلم الأموال الطائلة ـ بالطرق السرية أو العلنية الممكنة ـ مما يكون لدى مواليه من الضرائب الإسلامية كالخراج والزكاة والخمس. وهذا ما يتضح أيضاً لمن راجع تاريخ آبائه عليهم السلام ، وسيأتي في تاريخ ولده الإمام الحسن العسكري عليه السلام ما يشبه ذلك .
وإنما يتم تسليم هذه الأموال لكي تصرف في المصالح الإسلامية الإجتماعية العامة ـ بعيداً عن العاصمة العباسية ـ في تلك المهام التي تقتض صرف عشرات الآلاف من الدنانير . ونحن مهما بلغ بنا الخيال ، لا يمكن أن نتصور وصول الدين ، في قضاء الحوائج الشخصية ، إلى ثلاثين ألفاً . إلا أن يكون ديناً في عمل إجتماعي واسع أكبر من المصالح الشخصية والمسؤولية العائلية .وخاصة في أمثال هؤلاء من الفقاء والورعين ، مضافاً إلى أننا رأينا الإمام عليه السلام يعطي الاثنين بدون طلب أو شكوى في دين .
وعلى أي حال فهذه هي الخطوط العامة لسياسة الإمام (ع) ، فيما تمثله من موقفيه الرئيسيين تجاه مواليه وتجاه الآخرين .
صفحة (143)
موقف الخلافة العباسية من الإمام :
أشرنا فيما سبق أن موقف الخلفاء العباسيين ، يتجلى ـ فيما وصل إلينا من النقل التاريخي ـ في خصوص المتوكل ، ولا يبدو لغيره أثر يذكر. وقد ذكرنا ما يمكن أن يكون سبباً لذلك . فمن هنا ينحصر عنواننا في المقام في موقف المتوكل من الإمام عليه السلام . ونستطيع أن نلخص موقفه في عدة نقاط :
النقطة الأولى : تحديه من الناحية العلمية ، كما سبق . وقد رأينا كيف يخرج الإمام ظافراً من هذا التحدي .
النقطة الثانية : تقريبه من البلاط ودمجه في حاشية الخلافة بمقدار الإمكان ، ليكون الإمام على طول الخط بين سمعهم وأبصارهم فلا تفوتهم منه شاردة ولا واردة . وقد رأينا مقدار نجاحهم الضئيل في ذلك .
وقد سبق أن لاحظنا أن هذا كان هو الهدف الأساسي من استقدام الإمام إلى العاصمة العباسية . وكان الإمام يعطي من نفسه بإزاء ذلك وكأنه يوافق الدولة العباسية على سياستها تجاهه . فكان يحضر موائدهم ويخرج في مواكبهم كما سمعنا . ونستطيع أن نفهم موقف الإمام (ع) هذا ، لا على أساس التنازل أو التسامح مع الدولة ، فإن هذا مما لا يمكن أن يكون من شخصية كشخصية الإمام المبدأية الإسلامية القائدة لجماهير قواعده الشعبية من المسلمين .
صفحة (144)
وكان أي تنازل منه يعني السعي ضد المصالح الإسلامية لهذه الجماهير ، وهو ما لا يخفى ما فيه من قبح وخيانة على الشخص الإعتيادي فضلاً عن القائد العام. مضافاً إلى أنه لو تنازل لشعرت الدولة بتنازله ... فكان في الإمكان أن ينال عندها أقصى الحظوة والمنزلة والراحة ... ولارتفع ما كان محاطاً به من المراقبة والضغط مع أنه كان يتزايد باستمرار ، حتى أن المتوكل في آخر أيامه انتهى به الأمر إلى زج الإمام في السجن على ما سنسمع.
إذن فلم يكن موقفه متضمناً لشيء من التنازل ، وإنما كان ناشئاً من المصالح والمبررات الآتية :
أولها : الضغط والإكراه : فإن السياسة العباسية حيث استقرت على دمج الإمام بالبلاط ، كان مقتضى رفض هذه السياسة والإنصراف عن إجابة دعواتهم والحضور في مجالسهم .... إعلاناً صريحاً للمعارضة ... أو على الأقل إثارة لشك الحكام بأن الإمام متصد للمعارضة وخارج على الدولة ، وكل ذلك مما لا يريده الإمام (ع) بمقتضى سياسته السلبية تجاه الدولة .....
ثانيهما : أن الإمام (ع) كان حذراً من براثن الدولة عليه وعلى مواليه . فكأنه أراد التصريح بشكل عملي بعدم وجود ما تخشى منه الدولة عنده ، وهذا ما يؤثر نفسياً في تخفيف الشك ضده ... ومعه فقد ينفتح مجال جديد لنشاط جديد.
صفحة (145)
ثالثها : أن الإمام حين يعيش بين أكناف حكام الدولة مع من يحيطهم من القواعد والبطانة والمنتفعين والخدم وغيرهم من مختلف الطبقات ..فإنه عليه السلام يستطيع بلباقة تامة واحتراس شديد وبمقدار الفرصة السانحة.. أن يقول الحق بينهم ويدافع عن قضيته بين ظهرانيهم ... وهناك احتمال كبير – يؤيده احترامهم لشخص المهدي وإكبارهم لعلمه ونسبه:- أن يصل كلامه إلى قلوب بعضهم ، فإن السياسي مضافاً إلى كونه حاكماً مصلحياً ، هو في عين الوقت إنسان ذو عقل وقلب. وقول الحق يجد طريقه في العقل والقلب من أضيق طريق.
وبذلك يكتسب الإمام العطف على قضيته في المستويات العليا من الدولة. وقد سبق أن حملنا فكرة عن مقدار نجاحه في ذلك ، ولعل فيما يأتي من البحث ما يضيف إلى ذلك شواهد أخرى .
رابعها : إن الكيان الحكومي يومئذ كان قائماً بالصراحة على المحسوبية ، تؤثر فيه المصالح الشخصية وتجد فيها الواسطات طريقها المستقيم.
وهذا وإن كان دالاً على انحدار الأمة إلى حضيض لا تغبط عليه على أي حال ، وغير ملائم مع اتجاهات الإمام ومثله ...إلا أنه هو الواقع ..ومن الممكن الإستفادة من هذا الواقع بما ينفع الناس ويكون مصلحة لهم، لإذن فإتصال المهدي بالحكام مثل هذا الإتصال الوثيق يفتح أمامه فرصة أوسع للتوسط في تيسير حوائج اصحابه ومواليه وتخفيف ضرهم ودفع الأخطار عنهم ... بحسب ما يراه من المصلحة.
صفحة (146)
ولعلنا نستطيع أن نستوضح ملامح الموقف اللين الذي كان يقفه الإمام (ع) تجاه المتوكل من المثال التالي: فإن المتوكل ابتلي بقرحة وخراج أشرف على الموت ، وكان داؤه عند أطباء عصره منحصراً بأن يمس الجرح بحديدة فلم يجسر أحد أن يقوم بذلك لإحتمال أن المتوكل سوف يأمر بقتل من يقوم بذلك لما سيجده من الألم.
ووجلت أمه وجلاً شديداً ...وكانت تعتقد بالإمام (ع) وقربه من الله تعالى ...فنذرت أنه إذا عوفي أبنها المتكل فإنها تحمل إلى أبي الحسن الهادي عليه السلام مالاً جليلاً من مالها . ونبهها الفتح بن خاقان على أن تطلب من الإمام أن يصف دواء للمتوكل ..فأرسلت رسولاً بهذا الشأن إلى ألإمام . فقال عليه السلام : خذوا كسب الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الخراج فإنه نافع بإذن الله .أقول : ولا يخفى ما في ذلك من ترطيب للجرح خفي سره على الطب القديم الذي كان يداوي الدمل بإمرار الحديد عليه !!
وعلى أي حال فقد هزأ من حضر مجلس المتوكل من هذا الدواء باعتباره لم يسمع من طبيب . فينبري الفتح بن خاقان مدافعاً عن اقتراحه قائلاً : وما يضر من تجربة ما قال ... فوالله إني لأرجو الصلاح به.
فأحضروا هذا العقار ووضع على الخراج فانفتح وخرج ما كان فيه.
وبشرت أم المتوكل بعافية ولدها . فحملت إلى أبي الحسن عليه السلام عشرة الآف دينار مختومة بختمها ،من دون علم ولدها المتوكل .
صفحة (147)
ويحافظ الإمام (ع) على البدرة – وهي حزمة المال – غير مفضوضة الخاتم ولا مستعملة ..أياماً ، حتى حصلت كبسة سعيد الحاجب على داره بأمر المتوكل ، على ما سنذكر في النقطة التالية ، فيجد عنده البدرة المختومة ، فينقلها مع كيس آخر مختوم وسيف إلى المتوكل ، فلما نظر المتوكل إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها وسألها فذكرت له نذرها عند مرضه ، وقالت هذا خاتمي على الكيس ما حركه ... وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار ...فأمر لأن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لسعيد الحاجب: احمل ذلك إلى أبي الحسن .. واردد عليه السيف والكيس بما فيه. قال سعيد : فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت له : يا سيدي عزّ علي دخولي دارك بغير إذنك . ولكني مأمور ! فقال ليّ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (1).
انظر إلى الإحترام والتقديس الذي يتمتع به ألإمام (ع) في البلاط ، وإلى المكاسب التي حصل عليها فيه ، ولا ينبغي أن تفوتنتا المبررات السابقة لسياسة الملاينة التي ينتهجها الإمام ، بالرغم من انه يتلو حين يدق ناقوس الخطر قوله تعالى : "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
النقطة الثالثة : اضطهاد المتوكل لللإمام الهادي عليه السلام حيث أمر بكبس منزل الإمام (ع) عدة مرات .
ــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص310 ، والمناقب ص517
صفحة (148)
فإن السعايات والوشايات التي كانت ترتفع إلى المتوكل ضد الإمام بين آونة وأخرى .. كانت توقظ شكوكه وتثير شكوكه توجسه الكامن في نفسه، تجاه الإمام . ولعلنا نستطيع القول : بان شخصاً من الضالعين بركاب الحكم، يطلع صدفة على بعض آثار نشاط الإمام (ع) في سبيل مصالح مواليه، فيبالغ هذا الشخص فيه ، تملقاً للدولة، ويجعله خطراً يهدد كيانها القائم ، مع أننا عرفنا أن مثل هذا النشاط – بشكله المبالغ فيه - لم يكن موجوداً لدى الإمام علي عليه السلام. وعلى أي حال يثير هذا الساعي كوامن الخوف والتوجس في نفس المتوكل ، فيغريه ذلك بكبس دار الإمام للتأكد من صدق الوشاية أو كذبها .
والملاحظ في هذه العمليات أمران :
أحدهما: أن الوشاية دائماً كانت تبوء بالفشل ويرجع جواسيس الخليفة مؤكدين أنهم لم يجدوا في دار الإمام ما يثير التوجس . مما يوجب عود المتوكل إلى هدوئه واستمراره على إظهار احترام الإمام وتقديره.
وقد سبق أن أرجعنا ذلك ، إلى أن الإمام أفلح ، لطريق غيبي أو طبيعي ، في إخفاء مكامن الشك عن الدولة بالرغم مما كان يرده من الأموال والكتب ما كان يقوم به من إتصالات، وقد أطلعنا على صور موجزة للأساليب الرمزية التي كان يستعملها الإمام حين يريد التعبير عن أمر محظور في نظر الدولة.
صفحة (149)
ثانيهما : أن ألإمام وإن كان يظهر - عند الكبس على داره – سخطه بتلاوة أية من القرآن كالذي سمعناه من قوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ... الآية .إلا أنه كان يعين الشرطي المتجسس على مهمته.. فيسرج له الضياء ويدله على غرف الدار ... توخياً في الإيضاح العملي للدولة بانه لا يملك أي تشاط غريب، على انه لو أظهر أي مناوءة لمثل هذه المحاولة لكان مثيراً جديداً للشك .. هو في غنى عنه ، ومنافياً لسياسة الإمام السلبية تجاه الدولة.
وقد حدثت عدة حوادث كبس على داره عليه السلام ، فمن ذلك ما سبق أن نقلناه عن ابن خلكان وجمهور من المؤرخين الخاصة والعامة ، من كبس داره في نصف الليل وحمله إلى المتوكل وهو على مجلس الشراب ، واستنشاده الشعر ، فأنشد الأبيات التي اولها :
باتوا على قلل الأجيال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
ومن ذلك كبسة لدار الإمام نتيجة لسعاية البطحاني به إلى المتوكل وزعمه : أن عنده أموالاً وسلاحاً . فأمر المتوكل سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه ، فأخذ سعيد معه سلماً وذهب إلى دار الإمام وصعد عليها من الشارع إلى السطح ونزل خلال الظلام فلم يدر كيف يصل إلى الدار. قال سعيد :
فناداني أبو الحسن عليه السلام من الدار : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة . أقول: انظر إلى مساعدته عليه السلام لهذا المتجسس .. وإلى علمه بشخصه قبل رؤيته .. وإنما ناداه بذلك لإثبات الحجة عليه ، أثناء تلبسه بالجرم...
صفحة (150)
يقول : فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة . فقال لي : دونك البيوت – يعني الغرف - فدخلتها وفتشتها ، فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أمام المتوكل وكيساً مختوماً معه، فقال لي أبو الحسن عليه السلام : دونك المصلى فارفعه ، فوجدت سيفاً في جفن ملبوس . فأخذت ذلك ...إلى آخر الرواية كما سمعناها.
ويضطر هذا المتجسس ، في نهاية الشوط إلى الإعتذار من الإمام (ع) بكونه مأموراً . فيتلو الإمام قوله تعالى: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (1)
وفي حادثة أخرى : يصل إلى المتوكل خبر مال يصل من قم ، وهي إحدى مراكز الولاء للإمام علي (ع) ..إليه عليه السلام ، فيأمر وزيره الفتح بن خاقان أن يراقب الوضع ويأتي بالخبر ، فيرسل الوزير بعض مأموريه يدعى أبو موسى إلى الإمام ، فيجلس في مجلسه ساكتاً ، فيطالبه الإمام بتبليغ رسالة المتوكل قائلاً: لا يكون إلا خيراً .. يا أبا موسى ، لم لم تعد الرسالة الأولة ، فيجيب أبو موسى : أجللتك يا سيدي ، فيدله الإمام بكل وضوح على طريق الإطلاع على هذا الماال وييسر له السبيل إلى ذلك بقوله : المال يجيء الليل وليس يصلون إليه . فبت عندي.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص311 وانظر الفصول المهمة لأبن الصباغ ص298 وما بعدها بتغيير قليل
صفحة (151)
إنما يجيء المال
ليلاً تخفياً عن عيون الدولة ، ولكن ما الحيلة بعد
اطلاع
الدولة عليه ، وتحديد سياسة الدولة بالسلبية وعلى أي حال ، يبات أبو موسى
عنده ، وحين يجيء الليل يشتغل الإمام بالصلاة ، مدة من الزمن ..وبينما هو في
الركوع في إحدى صلواته ، إذ يقطعه بالسلام قبل إتمام ركعات الصلاة ،ويقول لأبي موسى
: قد جاء الرجل ومعه مال وقد منعه الخادم الوصول إليّ ، فاخرج فخذ ما معه
(1).
النقطة الرابعة :
إلقاء القبض على الإمام علي عليه السلام حين ضاق المتوكل ذرعاً بحقده على الإمام وبنشاط الإمام الذي لم يكن بمستطاعه التعرف عليه بسعة ووضوح ، وقد بذل كل ما بوسعه ولا زال إلى الجانب المهم من ذلك النشاط غامضاً عنه يظن به الظنون ولا يمكنه أن يحيط بمحتواه . وقد حمل المتوكل توجسه وحقده على أن يزج الإمام في السجن ، وذلك في الأيام الأخيرة من خلافته.
ولا يخفى ما في ذلك من التحدي للقواعد الشعبية والجماهير الواسعة المؤمنة بالإمام قائداً ورائداً وموجهاً وإماماً . فإن سجن القائد بمنزلة سجن كل قواعده الشعبية ،ويكون تحدياً لها وللمبدأ الذي يتخذه والهدف الذي يهدفه ،وهذا ما لم يكن للمتوكل منه مانع ، وهو الذي خرب قبر الحسين عليه السلام ومنع الزوار عنه ، على ما سمعنا.
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ص515 وما بعدها.
صفحة (152)
وقد وردت في سجن الإمام روايتان تتفقان على وقوع ذلك في وقت واحد قبل ثلاثة أيام من موت المتوكل ، ولكنها تختلف في جملة من التفاصيل .
الرواية الأولى : أنه حين قبض المتوكل على الإمام (ع) سلمه إلى علي بن كركر ليزج به في السجن ويراقبه فيه، فصادف ان سمعه بغا او وصيف - الشك من الراوي- ،وهما القائدان التركيان المتنفذان في الدولة يومئذ، على ما عرفنا في التاريخ العام ، سمع الإمام وهو في السجن يزمزم قائلاً : أنا أكرم على الله من ناقة صالح " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب" لا يفصح بالآية ولا بالكلام .ولم يفهم هذا القائد التركي مراد الإمام .فسأل عنه ، وكان المسؤول هو راوي هذه الرواية . قال الراوي : قلت :أعزك الله ،، توعد . انظر ما يكون بعد ثلاثة أيام .فلما كان من الغد أطلقه واعتذر إليه .
فلما كان في اليوم الثالث : ثار عليه الأتراك ،ومنهم باغر ويغلون واوتامش ، وقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر مكانه (1).
ويطيب لي ان أعلق على هذه الرواية بأمرين :
أحدهما: أن وعيد الإمام كان رمزياً إلى حد كبير ، إلى حد لم يفهمه القائد التركي .. وكان من الأهمية في الدولة ، بحيث أن الراوي حين فسره خاف أن يصرح بما فهمه بوضوح وإنما اختصر كلامه اختصاراً خشية أن يناله ضرر، ولا زال المتوكل في الحياة والحكم .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر احلام الورى ص346
صفحة (153)
ثانيهما: أننا نستطيع أن نعرف بالدقة تاريخ هذا التوعد الذي ذكره الإمام حال سجنه ، وهو اليوم الثاني لعيد الفطر من شهر ايلول عام 247 للهجرة .وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان بيد باغر ويغلون وجماعة من الأتراك ، في مجلس شرابه ليلة الرابع من شوال في نفس العام (1) ولم يكن بغا ولا وصيف ممن شارك في قتله ، وسلموا على ابنه المنتصر بالخلافة.
الرواية الثانية: أن المتوكل دفع الإمام أبا لحسن الهادي عليه السلام إلى سعيد الحاجب – الذي عرفناه – ليقتله. فوضعه سعيد في السجن حتى يتم قتله ،وحين قدم الراوي إلى سامراء في ذلك الحين دخل على سعيد. وكان سعيد يعلم بكونه موالياً للإمام علي (ع) . فقال له :أتحب أن تنظر إلى إلهك . يقصد بذلك الإمام استهزاء واستصغاراً . ولكن الراوي كان غافلا فلم يفهم وأجاب : سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار .
فأوضح سعيد مراده قائلاً :هذا الذي تزعمون أنه إمامكم . فصادف ذلك رغبة في نفس الراوي ، إلا أنه أجاب بحذر قائلاً ك ما أكره ذلك ، فأفهمه سعيد القصد من سجن الإمام (ع) وقال : وقد أمرني المتوكل بقتله وأنا فاعله ، وعنده صاحب البريد فقال : إذا خرج فادخل إليه .
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص303
صفحة (154)
وحين يخرج صاحب البريد من الإمام (ع) يدخل الراوي في الدار
- يعني الغرفة – التي حبس فيها الإمام ، فيرى قبراً يحفر ، قال: فدخلت وسلمت وبكيت بكاء شديداً ،فقال : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى قال: لا تبك فإنه لا يتم لهم في ذلك .فسكن ما بي .فقال ك إنه لا يلبث من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رايته .قال : والله ما مضى يومان حتى قتل.(1)
وهذه الواية لا تنافي الرواية الأولى ، في التوقيت ، فإن المراد من قتله في يومين : قتله بعد يومين : قتله بعد يومين ويكون سفك دمه في اليوم الثالث ، وهو نفس الموعد في الرواية الأولى .كما لا تنافي بينهما في تعيين من دفع المتوكل الإمام إليه ،إذ من الممكن أن نفترض أن المسؤول عن قتله هو سعيد الحاجب والمشرف عليه في سجنه هو علي بن كرر الذي تذكره الرواية الأولى كما أن خلو الأول من ذكر كون الغرض هو قتل الإمام ليس تنافياً صريحاً ، إذ من الممكن أن نفترض أن الغرض هو ذلك .
ولكنه لم يرد في تلك الرواية لنسيان الراوي لتفاصيل الحادثة ، أو خوفه من بعض سامعيه في ذكر محاولة المتوكل لقتل الإمام أو غير ذلك من الأسباب.
إلا أن الرواية الأولى ارجح من الثانية على أي حال .فإن الثانية تتضمن مضعفاً لإحتمال صحتها غير موجود في الأولى وذلك أنها نسبت للإمام (ع) قوله:أنه لا يلبث من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. فيقع السؤال عن صاحبه الذي قصده .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الخرايج والجرايج ص59
صفحة (155)
وظاهر الكلام أن المراد به سعيد الحاجب ، لأنه هو الذي كان الراوي قد رآه .
مع أن سعيد لم يقتل مع المتوكل ، بل بقي حياً حتى سنة 257 حين أرسله المعتمد لحرب الزنج * وإنما قتل معه الفتح بن خاقان .فلا بد أن نفترض فرضاً مخالفاً لظاهر الكلام :أن الراوي كان قد رأى الفتح بن خاقان أيضاً ، وأنه فهم من كلام الإمام ذلك ،والله العالم.
كما أن الرواية الأولى تتضمن مرجحاً لإحتمال صحتها ،وهو تسمية من باشر قتل المتكل من الأتراك ، وهو مطابق للتاريخ العام بشكل عام، وقد ذكرنا في المقدمة أن هذا يصلح قرينة على صحة الرواية ، كما يصلح مرجحاً للأخذ بها عند التعارض ،ولكننا بعد إسقاط الأضعف في مقدرار التعارض يمكن أن نأخذ بها في مداليلها وتواريخها الأخرى .
خاتمة المطاف :
لا بد لنا في نهاية الحديث عن تاريخ إمامنا الهادي عليه السلام ، أن نشير إلى موقفين له مهمين ، يشار إليهما في التاريخ بشكل موجز يكاد يكون عابراً .
الموقف الأول: موقفه عليه السلام من الموالي عامة والأتراك خاصة ،وهم من كانت العاصمة العباسية الجديدة :سامراء تزخر بهم ، وقد عرفنا مما سبق مدى تأثيرهم على السلطة وسيطرتهم على الخلفاء ، تنصيباً وعزلاً واختياراً وقتلاً .وكان الخليفة يضطر إلى أن يأخذهم بنظر الإعتبار كل الإعتبار.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص361.
صفحة (156)
ولا يخفانا قبل كل شيء ، أن هؤلاء الموالي لم يكونوا من الموالين للإمام ولا من قواعده الشعبية .بل كان أكثرهم الغالب ضده ومختلفين معه في المبدأ والمنهج ،ومن المسايرين لمبدأ الدولة ومناهجها ، والمنتفعين من الخلافة العباسية . وكان جملة منهم قواداً متنفذين بيدهم إعلان الحرب والسلم مع أي شخص في أطراف الدولة .وكانوا يخوضون الحروب في الغالب في الجيش الممثل للدولة وهو المنتتصر في الحرب غالباً ، وبذلك يغتنم الأتراك ومن إليهم أموالاً طائلة ، من الثراء على حساب المظلومين المقهورين تحت الحروب.
ولم يكن الإمام (ع) ليوافق على تصرفاتهم التي لم تكن قائمة على شيء من تعاليم الدين والعدل الإسلامي الصحيح ، وبخاصة أنه يعلم موقفهم ضده وضد مواليه ، حتى كان الخليفة العباسي يستخدمهم في الكبس على دار الإمام وحبسه وإزعاجه كما عرفنا .
ومن هنا ينبثق موقف الإمام (ع) حيث كان يحاول ، بحسب الإمكان ، وببطء ،وحذر ، لإقامة الحجة عليهم وإفهامهم صدق مبدئه وعدالة قضيته .ولا يخفى ما في ذلك من الفائدة المباشرة للإمام وأصحابه ومواليه ،فإنه بنشاطه هذا يخفف من غلواء المندفع منهم ضده ويقرب المعتدل منهم إليه ، أو يجعل الفرد منهم يشك في حال نفسه ويعيد النظر في سلوكه وشأنه.
ونستطيع أن نقسم موقف الإمام (ع) منهم إ لى نقطتين ، باعتبار موقفه من عامتهم تارة وموقفه من كبرائهم وقوادهم أخرى.
صفحة (157)
النقطة الاولى : في موقف الامام عليه السلام من جمهور الموالي وعامتهم في العاصمة العباسية.
ومن المستطاع القول بأن جهوده المستمرة اثمرت بعض الشيء في تقريب بعضهم اليه وايمانهم بفضله وربما بامامته . وكانت جهود الإمام عليه السلام متواصلة في ذلك.
فمن ذلك : أنه مر به تركي : فكلمه بالتركية .فنزل عن فرسه فقبل حافر دابته .قال الراوي: فحلفت التركي أنه ما قال لك الرجل؟ قال: هذا كتابي باسم سميت به في صغري ببلاد الترك ، ما علمه أحد إلا الساعة (1)، ولعلك لاحظت معي هذا التأثير الكبير الذي استطاع الإمام ان يصهر به التركي ، بإقامته هذه المعجزة البسيطة له. ومن ذلك : ما عن علي بن مهزيار – وهو من ثقات الائمة عليهم السلام ومعتمديهم – قال: ارسلت إلى ابي الحسن الثالث - يعني الامام الهادي (ع) – غلامي وكان صقلبياً. فرجع الغلام الي متعجباً . فقلت له : مالك يا بني؟ فقال: و كيف لا اتعجب ؟ ما زال يكلمني بالصقلبية كانه واحد منا ،وانما اراد بهذا الكتمان عن القوم (2).
ولعلك لاحظت معي، ان الامام استطاع بتكلمه بتلك اللغة ان يحصل على فائدتين : احدهما : التاثير على الغلام واكتساب اعجابه وتعجبه من اطلاع الامام ومعرفته ، ان لم يعتبرها معجزة من معاجزه.
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3 ص512
(2) المصدر و الصفحة
صفحة (158)
ثانيهما: انه بهذا الاسلوب اخفة مضمون الكلام عمن لا يريد اطلاعه عليه من عيون الدولة. فتراه يتكلم مع الغلام بلغته مع كونه عالما بكونه يحسن اللغة.
النقطة الثانية : موقفه عليه السلام من كبرائهم وقوادهم .ولا يخفى ما في الموقف الايجابي منهم من الدقة والحرج ،فانهم بصفتهم ممثلين للجهاز الحاكم ، يكون الحذر منه حذرا منهم ايضا. وبخاصة ان اكثرهم ينهج نهج اعدائه والطعن في شأنه.
ومن ثم لا نجد موقفا منقولا في التاريخ للامام عليه السلام تجاههم. ما عدا موقفه من بغا الكبير ، الذي كان يعتبره واحداً من اثنين او ثلاثة من القواد الاتراك ومتنفذيهم .فانه كان يملك تجاه الامام موقفاً معتدلاً ويشفق على قضيته بعض الشيء ، وربما انتج ذلك احياناً استعمال مركزه في رفع بعض الظلامات عنه وعن اصحابه.
يقول المسعودي (1) : وكان بغا كثير التعاطف والبر على الطالبين
ثم ينقل له تعطفاً على بعض الطالبين ،حيث كان قد حاول قتل عامل المعتصم على الكوفة ،فأمر المعتصم بغا هذا بإلقائه إلى السباع ..فلم يلقه .
إلا أنه امره بان يجهد الا يظهر في ايام المعتصم ..فوعده بذلك.
وكان هذا النشاط البناء لهذا القائد التركي ، في قضاء حولئج المؤمنين ، يرد مورد الرضا في نظر النبي (ص) .ومن هنا نسمع بغا
ــــــــــــــــــــ
1-المروج ج4 ص76
صفحة (159)
يقول: رايت في نومي النبي (ص) ومعه جماعة من اصحابه. فقال لي: يا بغا احسنت إلى رجل من امتي ، فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك. قال: فقلت يا رسول الله ومن ذلك الرجل ؟ قال : الذي خلصته من السباع فقلت : يا رسول الله .سل ربك أن يطيل عمري .
فرفع يديه نحو السماء وقال : اللهم أطل عمره وأتم أجله .فقلت: يا رسول الله ، خمس وتسعون سنة .فقال رجل كان بين يديه : ويوقي من الآفات ، فقلت للرجل: من انت .قال: أنا علي بن ابي طالب .
فاستيقظت من نومي ،أنا أقول : علي بن أبي طالب .
ومهما كان رأيك في صدق الاحلام وكذبها ،فإننا وجدنا بغا يعيش نيفا وتسعين سنة حتى توفي عام 248 (1) وفي نقل آخر انه كان حياً عام 153 حين قتل وصيف التركي(2)..... وعلى أي حال فهذا لا يعدو ان يكون مرجحاً لطول عمره.
وينقل التاريخ للامام الهادي عليه السلام موقفاً واحداً اتجاه بغا الكبير يدل على التأييد الضمني له، وذلك اثناء وجود الإمام في الدينة المنورة قبل انتقاله إلى سامراء ، فإنه في عام 230 هـ أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ،ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم رغم القتال الشديد ،بل انتصروا فازداد شرهم واستفحل امرهم .فوجه إليهم الواثق العباسي بغا الكبير ففرقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون (3).
ــــــــــــــــــــ
(1) المصدر والصفحة (2) المصدر ج4ص75
(3) الكامل لإبن الأثير ج5ص335
صفحة (160)
وبالطبع فإن مثل هذه الحوادث المؤسفة تؤلم قلوب الناس وبخاصة قلب المؤمن الذي يشعر بتعاليم الاسلام والمسؤولية الدينية .فكيف بحال الامام عليه السلام ... ومن ثم نرى الامام حين ورود بغا بجيشه الى المدية. نراه يقول لاصحابه : اخرجوا بنا حتى ننظر الى تعبئة هذا التركي .يقول الراوي :فخرجنا فوقفنا.(1)
وكان الامام (ع) بصفته الرئيس والموجه لأصحابه ومواليه يريد أن يشجع بغا ويؤيده ضد هذا العمل التخريبي المؤسف ،وإن كان التاريخ قد أهمل تماماً ، ما إذا وقع بين الإمام وبغا شيء من الكلام أو بين أصحابهما شيء من المداولات .
الموقف الثاني : للإمام عليه السلام تمهيده لغيبة حفيده محمد بن الحسن بن علي الحجة المنتظر ،وذلك بتحضير الذهنية العامة لدى قواعده الشعبية ، لتقبل فكرة الغيبة .
وتبليغ الإمام عن ذلك كان منصباً على مواليه ومقتصراً على أصحابه الخاصين ، ولم يكن يعم الآخرين ،لأنهم لم يكونوا يؤمنون بتسلسل خط الأئمة الإثني عشر ، إذن فيكون تبليغهم بذلك تبليغاً بلا موضوع.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص270
(2) انظر الإعلام الورى ص243 وكشف الغمة ص178 ج3
صفحة (161)
ويلاحظ في تبليغ الإمام عليه السلام التخطيط لحماية الحجة المهدي عند غيبته . فكلام الإمام حوله محاط بهالة من القدسية والغموض ، ومشفوع بالتأكيد المتزايد بأنه لا يحل لأحد ذكر اسمه .وذلك توصلاً إلى عدم تسر به إلى الجهاز الحاكم .
وقد وردت عنه – بهذا الصدد- عدة أحاديث نقتصر على بعضها:
فمن ذلك قوله (ع) – في كلام له : ومن بعدي الحسن ابني .فكيف للناس بالخلف من بعده ، قال الراوي : فقلت :وكيف ذلك يا مولاي .
قال: لأنه لا يرى شخص هو لا يحل ذكر اسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا ،كما ملئت جوراً وظلماً
ومن غامض قوله (ع) في ذلك :إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم .وقوله .فإني لكم بالخلف بعد الخلف (1).
ولا يخفى ما في الغموض من مصلحة خفاء المهدي (ع) حتى من أصحابه ومواليه .فإن المستوى العام الذي يجب ان يشتركوا فيه هو الإيمان بوجوده ،وأنه الثاني بعد الإمام الهادي (ع) وهو معنى : الخلف بعد الخلف .إلا أن معرفتهم بالتفاصيل فهو مما لا سبيل إليه، لأن أفراد أصحابه ومواليه يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم أمام الإغراء والتهديد ،فإذا عرفنا أن الدولة كانت مستعدة لبذل المستحيل ومختلف أساليب الإغراء والتهديد في سبيل القبض عليه ، لعلمنا أنه يجب أن
ــــــــــــــــــــ
(1) نظر الإكمال المخطوط وانظر الخبر الأول في الكافي المخطوط.
صفحة (162)
يبقى اسم المهدي (ع) ومكانه وسائر أموره غامضة ومختفية حتى عن كثير من الموالين ، لما يخشى من ضعفهم أمام الجهاز الحاكم.
ولذا سنرى الإمام الحسن العسكري لا يعرض ابنه المهدي (ع) إلا على القليل من أصحابه بالمقدار الذي تقوم به الحجة على الناس مع الضمان الكامل لنجاته من براثن الجهاز الحاكم ، فكان موقف المهدي عليه السلام تمهيداً لموقف ابنهالإمام العسكري عليه السلام من ذلك ، وتهيئة للذهنية العامة تجاهه.
صفحة (163)