الفصل الرابع
في تَاريخ الإمَام المهْدي (ع)
خِلالْ حـَيَاة أبيَه
وهذا الفصل في حقيقته مكمل للقسم الأول من الكتاب ولتاريخ الامام العسكري (ع) بالذات ، حيث يعرض إلى موقفه عليه السلام من ولده مفصلاً ، ثم إلى وفاته عليه السلام وإلى النتائج التي ترتبت على ذلك حيث يبدأ تاريخ الغيبة الصغرى الذي تعقد له القسم الثاني الآتي أن شاء الله تعالى .
عرض عام :
تميزنا بوضوح خلال سيرنا التاريخي، الظروف التي عاشها الامامين العسكريين عليهما السلام وولد فيها الامام المهدي (ع). فالبلد سامراء عاصمة الدولة العباسية يومذاك . وابوه وجده عليهما اللام ، قد قهرا من قبل السلطات على الاقامة في سامراء تطبيقاً لسياسة التقريب إلى البلاط .. التي عرفناها .
وهما عليهما السلام يتكقلان الاصلاح الاسلامي مهما وسعهما الأمر. ويمثلان جانب المعارضة الصامدة أمام انحراف الحكام عن الخط الرسالي الذي جاء به نبي الاسلام (ص)... بالشكل الذي لا يتنافى مع سياسة الملاينة التي اتخذاها تجاه الدولة .
صفحة (237)
وهما يقومان في عين الوقت بالرعاية العامة لمصالح أصحابها ومواليهما في شؤونهم العامة دائماً والخاصة في كثير من الاحيان. ويكون النشاط في الغالب سرياً محاطاً بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً. ويختص الصيح منه بالخاص من الأصحاب الذين تعرف منهم قوة الارادة والصمود أمام ضغط الحكام .
والامامين عليهما السلام يقبضان الاموال ويوزعانها بحسب الامكان عن طريق الوكلاء المنتشرين لهم في مختلف بقاع البلاد الاسلامية. والوفود ترد بين حين وآخر من الموالين لهم في الأطراف حاملة المال والمسائل من بلادهم لأجل تسليمها وتبليغها للامام عليه السلام .
واما السلطات، بما فيهم الخليفة نفسه، على اختلاف شخصه وبما فيهم الأتراك والموالي، وخاصة القواد منهم. وكذلك العباسيون بشكل عام وعلى رأسهم الموفق طلحة بن المتوكل . وكذلك الوزراء والقضاة كإبن ابي داؤد وابن أكثم وابن ابي الشوارب وغيرهم .. كل هؤلاء يمثل خطاً واحداً من الناحية السياسية والاجتماعية ، اساسه الانتفاع المصلحي من الدولة القائمة المتمثلة بالخلافة العباسية . والحرص عليها أشد الحرص ، حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم . فكان ذلك موجباً لحذر السلطات الدائم والتوجس المستمر من كل قول أو فعل يصدر من الامام عليه السلام أو من احد اصحابه .. فكان السجن والأغلال هو النهاية الطبيعية لكل من يفكر في ولاء الامام أو التعامل الاجتماعي معه.
صفحة (238)
بل ان الأمر ليشتد ويتأزم أحياناً فينتهي الامر إلى القاء القبض على الامام نفسه. ومن المعلوم ان القاء القبض على القائد ، هو سجن لكل مبادئه ومثله وقواعده الشعبية وتحد لها. ويبقى الامام مسجوناً مدة ، ثم يخرج ليسجن مرة ثانية .
وكانت السلطات تحاول جاهدة عزل القواعد الشعبية ، للأمام عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فكان الفرد منهم يعاني الخوف والفقر والمرض ، من دون ان يجد ناصراً أو معيناً سوى ادعية امامه عليه السلام وقلوب اخوانه.
على اننا عرفنا ان الامام لم يكن مريداً الاستيلاء على السلطة في ذلك المجتمع المنحرف .. وانما كان غاية همه رعاية مصالح أصاحبه وادارة شؤونهم .. وكان هذا النشاط هو الذي يثير السلطات وينفرها ، منظماً إلى وهمها الخاطيء بإحتمال أخذ الامام بحقه الذي يعتقده مشروعاً في الاستيلاء على السلطة .. فكانت تبذل الجهود الجبارة ضد ذلك.
وقد استطاع الأمامان عليهما السلام ، بالرغم من كل ذلك ومن سياسة المراقبة والتقريب إلى البلاط .. ان يخفيا نشاطهما ويسترا الاموال والواردة اليهما والصادرة عنهما والتعاليم التي تبلغ من قبلهما. وبذلك استطاعا أن يأمنا قسطاً كبيراً من العذاب الذي كان يصيبهما وأصحابهما لولا ذلك ، وان يحققا كثيراً من المصالح التي كانت مما يحال دونهما بغير ذلك.
صفحة (239)
على ان السلطات بمختلف طبقات حكامها وموظفيها وأهل الأمر النافذ فيها ، وعلى تفاوتهم في التعصب أو حسن التفكير .. كانوا يعرفون في قرار قلوبهم وداخل نفوسهم ، حق الامام ويحترمونه بالغ الاحترام ويعتبرونه خير خلق الله في عصره بما له من العبادة والعلم والاخلاق والنسب .. لا يختلف في ذلك الموالون عن غيرهم، ولا الخلفاء عمن سواهم. وبخاصة المعتمد الذي رأيناه – في ابان احساسه بالضعف – يأتي إلى الامام العسكري عليه السلام بنفسه ويتوسل اليه ان يدعو له بالبقاء في الخلافة مدة عشرين عام .. فيجيبه الامام إلى طلبه ويدعو له.
وهذا الخليفة العباسي، هو الذي عاصر ايام الامام المهدي عليه السلام من أولها ، وتوفي الامام العسكري عليه السلام في أيامه . وهو الذي تصدى للفحص عن تركه الامام وورثته ومراقبة الحوامل من نسائه على ما سنذكر .. وكل ذلك يدل على انه يعرف الحي ويخاف منه .. ويفرق من فكرة المهدي ووجوده .. لعلمه انه الامام القائم بالحق الساحق للإنحراف والمنحرفين من الحكام والمحكومين .
وقد كانت أفكار المسلمين وبخاصة الموالين للأئمة عليهم السلام ، مليئة بالاعتقاد بوجود المهدي (ع) للتبليغ المستمر المتواتر منذ زمان النبي (ص). إلى زمان الامام الحسن العسكري (ع). يتعاضد في ذلك سائر المذاهب الاسلامية . ففي عين الوقت الذي يبلغ الامامان العسكريان عليهما السلام عن ولدهما المهدي (ع) ..
صفحة (240)
يكتب البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في صحاحهم اخباره وكلهم يعيشون في تلك الفترة من الزمن أو متقدمون عليها قليلاً(1) .. يروون هذه الأخبار عن النبي (ص) جيلاً بعد جيل .
ولم يكن ليفوت الامامين العسكريين (ع) التمهيد المباشر لغيبة الامام المهدي (ع) وتعويد أصحابهم فكراً سلوكاً عليها ، وذلك باتخاذ تظام الوكلاء أولاً وتخطيط الاحتجاب عن الناس ثانياً .. وكلا الامرين سوف يكون مطبقاً في الغيبة الصغرى للمهدي عليه السلام قليلاً مجملاً لبعده النسبي عن عهد المهدي عليه السلام . وقد تكفل القس
الأكبر من ذلك أبوه الامام العسكري عليه السلام .
فهذه هي الظروف العامة والخاصة التي ولد فيها الامام المهدي ، وقد عرفنا لكل فقرة منها شواهد ودلائل استعرضناها بالتفصيل .
أم المهدي(ع) :
يحسن بنا، وقد عرفنا تفاصيل ابيه وجده عليهما السلام. ان نحمل فكرة كافية عن امه الراضية المرضية المجاهدة كما وردت في التاريخ بشكل عام وفي مصادر الخاصة بشكل خاص .
ـــــــــــــــ
(1) فمن المتقدمين عليها البخاري صاحب الصحيح المتوفي عام 256 . ومسلم صاحب الصحيح المتوفي عام 261 . ومن المعاصرين لهذه الفترة ابن ماجة القزويني المتوفي عام 273 وأبو داود السجستاني المتوفي عام 275 وأبو عيسى الترمذي المتوفي عام 279 ( أنظر وفيات الاعيان وغيره ) .
صفحة (241)
كانت رضي الله عنها قبيل حملها بولدها المهدي (ع) امة مملوكة جلبت بواسطة الفتح الاسلامي الذي كان جارياً على قدم وساق في تلك العصور من بعض مدن الكفر إلى سامراء ، ودخلت في ملكية بعض أفراد اسرة الامام العسكري عليه السلام .
وكانت تسمى في ذلك المجتمع بأماء مختلفة، فهي: ريحانة ونرجس وسوسن وصقيل . وان كان الغالب عليما بين أفراد العائلة : نرجس . ويعود تعدد اسمائها إلى أحد أسباب :
السبب الاول: صلة الحب والرحمة بالجارية من قبل مالكها ، فهو يناديها بأفضل الأسماء لديه واجملها في ذوقه. ولذا كان جملة منها من أسماء الأزهار . لكن لا على ان يكون كل ذلك اسمها الحقيقي .. بل على اساس ان يحتفظ بالاسم الحقيقي في نفسه ويناديها بأي اسم شاء .. تودداً واستلطافاً .. واذ تسامع الناس بإختلاف النداء زعموا ان لها أسماء كثيرة ، ووردنا في التاريخ ذلك .
كذلك كان حال الجواري المحضيات عند مواليهن ... ولعله يكون منطبقاً على أم المهدي عليه السلام .
السبب الثاني: ان المجتمع في ذلك الحين ، إذ كان يجلب العبد أو الأمة بطريق السبي من البلاد البعيدة التي لا يحمل عنها وعن لغتها أي فكرة محددة ... ويكون للمالك حق التصرف فيه ، يستخدمه ويبيعه ويشتريه .. ولا يشعر بوجود شخصية هذا العبد أو ارادته ، أو أن يكون في مستقبل الدهر علماً من الاعلام ..
صفحة (242)
لكي يجب ويرسم معالم شخصيته لكي تبقى واضحة المعالم في اذهان مؤرخيه ، بل ان العبد حين يجلب، يعجز العربي عن نطق اسمه الأصلي غالباً ، لقيامه على لغة اجنبيه لا يقوى على تلفظ كلماتها ،، وهو لا يهتم بأن بصنع لعبده أو أمته أسماً معيناً ، وانما حسبه ان يدعوه باللغة العربية بأي لفظ جرى على لسانه ، ومن هنا تكونت عادة في ذلك المجتمع ، باسباغ عدة اسماء على العبيد ، فكان ان اخذت اسرة الامام العسكري (ع) بهذه العادة ، واسبغت على هذه الجارية عدة اسماء ، حتى اننا رأينا الاسرة اذ وجدت ان اثر الحمل لا يظهر عليها ، على ما سنسمع ، لم تتحاش عن إسباغ اسم جديد عليها ، هو صقيل.
السبب الثالث : انها رضوان الله عليها عاشت تخطيطاً خاصاً ، في تبديل اسمها بين آونة واخرى ، ودعائها بعدة اسماء في وقت واحد أ، في اوقات مختلفة ، عاشت ذلك منذ دخلت هذه العائلة الكريمة ، لأنها ستصبح أماً للمهدي (ع) وسترى المطاردة والاضطهاد من قبل السلطات وستعيش في السجن مدة من الزمن ... اذن فيجب القيام بهذا المخطط تجاهها إمعاناً في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها ، ولاجل أن يختلط في ذهن السلطات ان صاحبة أي من هذه الاسماء هي المسجونة وأي منها هي الحامل وأي منها هو الوالدة وهكذا ... حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساء كثيرات ، ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة .
صفحة (243)
وهذا الاحتمال الثالث ، هو – بلا شك – الاحتمال الراجح في ام المهدي ( ع ) .
وإذ نريد ان نعرف أول مالك لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام .. تواجهنا فرضيتان ، بإعتبار اختلاف الأخبار الواردة عن ذلك ، اجدهما : انها كانت ملكاً للامام الهادي عليه السلام ، وثانيتهما : انها كانت ملكاً لحكيمة اخت الهادي رضي الله عنها ، ولكل من الفرضيتين خبر وقصة ...
الفرضية الاولى : انها دخلت أولاً في ملكية الامام على الهادي (ع)، وهو الذي قام بتزويجها لابنه العسكري عليه السلام .
وذلك : ان الامام عليه السلام حين يريد ان يحصل على زوجة اينه : ام المهدي (ع) ، يدعو نخاساً من بائعي العبيد موالياً له قد علمه أحكام الرقيق وفقهه في تجارته، يدعى بشر بن سليمان النخاس ... يدعوه فيأمره بالسفر من سامراء إلى بغداد ويحدد له الزمان والمكان والبائع ، ويصف له الجارية وبغض سلوكها ، فمن ذلك: انها تمتنع من السفور ولمس من يحاول لمسها ، وإذ يضر بها النخاس ، تصرخ بالرومية صرخة ، قال الامام : فاعلم انها تقول : واهتك ستراه! .. ومن ذلك:انها تنطق العربية بطلاقة ويعطيه الامام عليه السلام صرة من النقود وكتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية ومختوم بخاتمه الخاص.
صفحة (244)
ويذهب بشر النخاس إلى بغداد ويشاهد كل ما حدده له الامام ، ورآه تدفع عن نفسها المشترين بضراوة قائلة لأحدهم : لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رعبة .. فأشفق على مالك ، فيقول بائعها النخاس: فما الحيلة ولا بد من بيعك ، فتقول الجارية : وما العجلة ، ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته ، وهنا يقوم بشر إلى بائعها ويقدم له الكتاب ويأمره بدفعه إلى الجارية قائلاً : انه لبعض الاشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه ، فناولها لتتأمل منه اخلاق صاحبه فإن مالت اليه ورضيت به فانا وكيله في ابتياعها منك، وقد جرى كل ذلك بحسب وصف الامام وامره وتخطيطه.
وإذ تقرأ الكتاب ، ينقلب منها الحال انقلاباً عجيباً ، فتبكي بكاء شديداً ، وتقول لبائعها : بعني من صاحب هذا الكتاب ، فإن امتنعت قتلت نفسي ، وتحلف بالايمان المحرجة المغلظة على ذلك ، واذ يرى بائعها ذلك يطلب من بشر النخاس ثمناً كبيراً ، فتطول المعاملة بينهما حتى يستقر الثمن على مقادار ما في الصرة التي حملها من الامام ، فيعطيه للبائغ ويستلم الجارية ، ويذهب بها إلى الحجرة التي كان يأوي اليها في بغداد .
وإلى هنا رأينا في هذه الجارية أربعة أوصاف يندر وجود واحد منها فضلاً عن المجموع في جارية مسبية حديثة العهد بهذا المجتمع ، وكل منها جار على خلاف السلوك الاعتيادي للعبيد ، فهي : أولاً : تنطق العربية بطلاقة ، وثانياً : تمتنع من السفور وتتحاشى يد اللامس ، وثالثاً ترفض أي مشتر يتقدم لشرائها، وتقترح على بائعها أن تعين هي مشتريها لأجل أن يسكن قلبها إلى أمانته .
صفحة (245)
ورابعاً: انها رغبت رغبةً شديدة بالامام عليه السلام ، وبكيت وهددت بالانتحار إذا لم يبعها منه . فماذا قرأت في الكتاب وكيف حصل لها معه هذه الرابطة القوية والرغبة الأكيدة ؟!.
كل ذلك يراقبه بشر النخاس ويعجب منه. وتتولد في ذهنه علامات استفهام كبيرة! وتتأكد هذه العلامات وضوحاً حين رآها انها بمجرد أن استقر بها المقام في غرفته في بغداد .. اخرجت كتاب الامام (ع) من جيبها وصارت تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفونها وتمسحه على بدنها . فيقول لها متعجبأً منها : اتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟! .
وإذ تجيبه عن سؤاله .. تراها تغطيه بياناً ضافياً ، عن تاريخها وأحوالها ، يفسر كل تصرفاتها الحالية .. نلخص منه المهم فيما يلي: انها مليكة بنت يشوعاء بن قيصر ملك الروم . وامها من ولد أحد الحواريين المنتسب إلى وصي المسيح شمعون.
ويحدث في يوم من الأيام ان يحاول جدها القيصر تزويجها من ابن اخيه، فيعقد لذلك أعظم مجالسه ابهة وجلالة واكثرها من حيث عدد الحاضرين وأسخاها من حيث الذهب والجواهر الموزعة على أطراف المكان وعلى العرش الموضوع هناك المهيء للعريس الجديد .. فبينما يصعد ابن اخيه على العرش تتساقط الصلبان وتنهار الاعمدة ويخر الصاعد مغشياً عليه . ويتشائم القيصر والاساقفة ، ويبادره كبيرهم قائلاً : ايها الملك اعفنا من ملاقات هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني .
صفحة (246)
وعلى أي حال .. فهي ترى في تلك الليلة فيما يرى النائم انه انعقد في قصر جدها القيصر مجلس متكون من المسيح شمعون وعدة من الحواريين . ويدخل محمد صلى الله عليه وآله وجماعة معه وعدد من سبنيه فيخف المسيح لإستقبال معتنقاً له فيقول له نبي الاسلام (ص) : يا روح الله اني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لإبني هذا . تقول: وأومى بيده إلى ابي محمد صاحب هذا الكتاب. فنظر المسيح إلى شمعون فقال : قد اتاك الشرف ، تصل رحمك برحم رسول الله وسلامه عليه قال : قد فعلت . فصعدوا ذلك المنبر وخطب محمد (ص) وزوجني من ابنه .. وشهد المسيح عليه السلام وشهد بنو محمد (ص) والحواريون .
وعلى اثر هذا الحلم يعلق في نفسها حب الامام العسكري ابي محمد عليه السلام ، بالرغم من انها تخاف ان تقص هذه الرؤيا على ابيها وجدها مخافة القتل . ثم انها تصاب على اثر حرمانها من حبيبها بمرض شديد ، ويحضر لها جدها كل الأطباء فلا يفهمون من دائها شيئاً. ويطول بها الداء .. فيقترح عليها جدها ان تقترح عليه شيئاً ترغبه لكي ينفذ لها رغبتها عسى أن تحس بالسعادة في مرضها . فتقول له : يا جدي أرى أبواب الفرج علي مغلقة ، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من اسارى المسلمين وفككت عنهم الاغلال وتصدقت عليهم ومنيتهم بالخلاص .. رجوت ان يهب المسيح وامه في عافية وشفاء . فينفذ لها جدها القيصر رغبتها .. فتتجلد في إظهار الصحة وتتنارل يسيراً من الطعام . فيسر جدها بتحسن حالتها ويزيد في اكرام الاسارى واعزازهم .
صفحة (247)
ثم انه يزورها في المنام بعد أربع ليال : مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد عليهما السلام . فتقوم العذراء بتعريف الزهراء لمليكه قائلة : هذه سيدة النساء أم زوجك ابي محمد عليه السلام . وإذ تعرفها مليكة تتعلق بها وتبكي وتشكو اليها امتناع ابي محمد (ع) من زيارتها فتجيبها الزهراء عليها السلام : ان ابني ابي محمد لا يزورك وانت مشركة بالله على دين مذهب النصارى. ثم تأمرها بأن تشهد الشهادتين ، فيدفعها الحب والشوق إلى امتثال هذا الأمر. وتدخل في الاسلام في عالم الرؤيا. واذ تسمع منها الزهراء (ع) ذلك ، تضمها إلى صدرها وتعدها بزيارة ابي محمد لها.
وبعد ذلك يبدأ أبو محمد بزيارتها كل ليلة ، بدون اسثناء . قائلاً لها : ما كان تأخيري عنك إلا لشركك ، وإذ قد اسلمت فأني زائرك كل ليلة .. إلى أن يجمع الله شملنا في العيان .
ثم ان أبا محمد عليه السلام يخبرها في بعض زياراته ، بأن جدها سيجرد جيشاً لقتال المسلمين في موعد حدده لها. وأمرها أبو محمد (ع) – وهو يريد ان يخطط لها طريق الاجتماع به في العيان – أمرها ان تتنكر في زي الخدم وتخرج من طريق معين لتلحق بطلائع الجيش الأسلامي ، ليأسروها وينقلوها إلى بلادهم . ففعلت ذلك حتى وصلت إلى بشر النخاس . وأنكرت في غضون ذلك شخصيتها ، ولم تخبر أحداً بإنتسابها إلى قيصر الروم ، وإذ يسألها مالكها عن اسمها : تدعي ان اسمها : نرجس . اذن فهي التي اختارت لنفسها هذا الاسم.
صفحة (248)
وإذ تنتهي الجارية في قصتها إلى هذا الحد .. يستطيع بشر النخاس ان يفسر كل تصرفاتها ، ما عدا معرفتها للغة العربية. فيسألها عن ذلك فتخبره بانه بلغ من ولوع جدها وحمله اياها على تعلم الآدب ان عين لها امرأة ترجمان تزورها صباحاً ومساء وتفيدها اللغة العربية ، حتى استمر عليها لسانها واستقام.
ويذهب بها بشر النخاس إلى سامراء ويدخلها على الامام الهادي عليه السلام . فيقول لها : كيف أراك الله عز الاسلام وذل النصرانية وسرف أهل بيت محمد (ص). قالت : كيف اصف يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني.
ثم يتصدى الامام عليه السلام لإمتحانها وسبر اعوار ايمانها ومعرفة درة اخلاصها . فنظر كيف يخيرها بين العاجل والآجل .. بين الدنيا والدين .. إذ يقول لها : فإني اريد أن اكرمك : فأيما احب اليك عشرة آلاف درهم أم بُشرى لك بها شرف الابد . قالت : بل الشرف . واذ وجدها الامام واعية لموقفها مضحية في سبيله بكل عال ورخيص . قال لها : فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً . قالت: ممن؟. قال عليه السلام متسائلاً : ممن خطبك رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ - وعين لها الوقت – قالت: من المسيح ووصيه. قال : فممن زوجك المسيح ووصيه؟ قالت . من ابنك ابي محمد . قال فهل تعرفينه. قالت : فهل خلوت ليلة من زيارته اياي منذ الليلة التي اسلمت فيها على يد سيدة نساء العالمين ، أمه.
صفحة (249)
وعندئذ يستدعي الامام الهادي عليه السلام ، اخته حكيمة ويأمرها بأن تأخذ ترجس إلى منزلها وتعلمها أحكام الاسلام . ويقول : فإني قد زوجت ابي محمد الحسن عليه السلام وأم القائم عليه السلام (1) .
وأود ان اعلق على هذا الخبر بعدة تعليقات:
التعليق الأول: اننا نستطيع أن نعين تاريخ شراء الجارية وزواج الامام العسكري (ع) بها . فإنه كان في زمان الامام الهادي عليه السلام ، وقد أراد ان يزوج ابنه الحسن عليه السلام قبل ان يتوفى عام 254هـ . ليولد من هذه المرأة الجليلة مهدي هذه الأمة القائم بدولة الحق. وسيأتي ان ولادة المهدي (ع) كانت بعد وفاة جده الهادي (ع). فإذا استطعنا ان تعرف انه لم يمر زمان طويل بين زواجها كان في نفس هذا العام 254 هـ .
التعليق الثاني:انه قد يورد على هذا الحديث بعض الاعتراضات التي يمكن الجواب عنها على أصولنا الأعتقادية، ويبقى الجواب عنها عند من لا يؤمن بهذه الأصول معلقاً على التسليم بها على اننا سنقول اننا غير ملزمين بإعتبار هذا الخبر إثباتاًًًًًًً تاريخياً كافياً.
ــــــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة ) . وانظر الغيبة للشيخ الطوسي ص 124 وما بعدها المناقب ج 3 ص 538 وما بعدها
صفحة (250)
الإعتراض الأول : أنه متضمن لعلم الامام الهادي عليه السلام بأمور غائبة غير منظورة
. في حين ان الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
والجواب على ذلك : انه بعد فرض ثبوت امامته ، يكون ذلك ممكناً في حقه. ونحن لا ندعي علمه بالغيب مباشرة كعلم الله عز وجل . وإنما ندعي ان الامام إذا أراد ان يعله شيئاً اعلمه الله تعالى اياه ، كما نطقت بذلك بعض الأخبار.
والمصلحة الرئيسية من الناحية الاجتماعية ، في ذلك هي ان الامام قائداً لأمة ورئيس لدولة وموكول اليه تطبيق العدل الاسلامي الالهي على البشرية. فأحسن طريق لنجاح عمله وقيادته، من الناحيتين النظرية والعملية معاً ، وهو منصوب لتطبيق أعلى أهداف الاسلام وممثل لأحد أيام الله الكبرى التي اخذها الله تعالى بنظر الاعتبار في كونه.
الاعتراض الثاني: ان الايمان بمضمون هذا الحديث ، متوقف على الايمان بالاحلام . وهو خرافة من الخرافات.
والجواب عن ذلك : يكون بأحد أمور ثلاثة :
أولاً: ان ما هو الخرافة ، هو الايمان المطلق بصدق جميع الاحلام ، وهذا لم يقل به مفكر ، ولا هو الذي تدعيه ولا يتوقف عليه صحة هذا الحديث . وانما الشيء الذي لا شك فيه هو صحة بعض الاحلام وتحققها في الواقع . وهذا أمر ضروري لمن راجع حوادث الحياة ونظر في الكتب المؤلفة في ذلك كدار السلام للحاج ميرزا حسين النوري والاحلام للدكتور علي الوردي . وغيرها .
صفحة (251)
اذن فمن الممكن ان يكون هذا المذكور في الحديث أحد الاحلام المطابقة للواقع ، وخاصة بعد ان اتصف بحوادث ومميزات لا تعدو علم الحياة والعين. فلو صلحت هذه الرواية للأثبات التاريخي لم تكن هذه الجهة موجبة لضعفها أو الطعن فيها .
ثانياً: ان هناك فكرة تقول: بان رؤية النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) في المنام لا يمكن أن تكون كاذبة . لأن المنام الكاذب من الشيطان والشيطان لا يمكن أن يتصور بصورة النبي أو الامام ويستشهد لذلك يما نسب إلى النبي (ص) من قوله: من رآنا فقد رآنا ويقول الامام العسكري عليه السلام لأحد أصحابه في المنام أيضاً : وأعلم ان كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة (1) .
فإذا تمت هذه القاعدة - والله العلم بحقيقتها- لم يكن بالامكان ان يقال : بان ذلك الحلم الذي وجد فيه رسول الله (ص) والأئمة عليهم السلام بما فيهم الامام العسكري (ع)، أو هو مستقلاً حين كان يأتيها كل ليلة ... حلم كاذب.
ثالثاً : اننا غير مضطرين لأن نلتزم من هذا الحديث بحرفية الرؤيا . بل يمكننا ان نحمله على نحو من الرمزية ونقول: ان أم مهدي عليه السلام ، كانت وهي في بلادها الأولى كانت ملهمة بشكل غامض بعض خطوط مستقبلها والحنين اليه ، بمقدار بحيث انها حين واجهت هذا المستقبل احبته واخلصت له .
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج 3 ص 534 .
صفحة (252)
وهذه مصلحة الهية عظيمة ، باعتبار ما يعلمه الله تعالى من كونها أماً للمهدي عليه السلام ، وما سوف ترى في سبيل ذلك من الضغط والطاردة والعذاب. اذن فهي تحتاج إلى الهام خاص – ولو بشكل لا شعوري غامض – يوجب تربيتها وتوجيه عواطفها بالشكل المخلص المؤمن . فإنها ، لو كانت مجردة عن هذا الالهام وكانت مشتراة من السوق من دون اخلاص سابق وتربية داخلية، لأمكن لها ان تجزع من التعذيب فتبوح بأمر ولدها، ويؤدي الحال إلى القاء القبض عليه وقتله. وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون .. كيف؟. وقد ذخره الله عز وجل بقدرته الكبرى لمستقبل الاسلام وارساء قواعد الحق .
أما انكار وجود الالهام كحقيقة كونية الهية ، تتحقق بارادة الله تعالى عند وجود المصلحة .. فهذا تكذيب للقرآن إذ ينسب الالهام إلى النحل قائلاً :"واوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الحبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ذللا"(1) . وينسب عز وجل هذا الالهام بعض مراتبه إلى الانسان إذ يقول عز من قائل : "فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كانما يصعد في السماء" (2) .
اذن فلتكن الظاهرة التي احسب بها وعاشتها ام المهدي ، شكلاً من اشكال الالهام .
ــــــــــــــــــــ
(1) السورة 16 / 68 - 69 .
(2) السورة 6 / 125 .
صفحة (253)
الاعتراض الثالث: ان هذا الحديث دال على ان اسلامها وزواجها كان في عالم الرؤيا . وهو مما لا يمكن ان يعترف بشرعيته وقانونيته.
والجواب عليه: ان هذا الحديث وان كان دالاً على ذلك ، إلا اننا لا تدعي الاكتفاء به بطبيعة الحال. وانما اصبحت مسلمة في عالم اليقظة والعيان ... أما حال وجودها في بلادها الاولى بعد ان اعتقدت بصحة الطيف ومطابقته للواقع، فاستيقظت معتقدة للاسلام . أو أنها اسلمت حين قالت للامام الهادي عليه السلام : يا ابن رسول الله .. فإن هذا الوصف متضمن للأعتراف بالاسلام بكل وضوح، أو انها اصبحت مسلمة حين علمتها حكيمة تعاليم الاسلام امتثالاً لأمر اخيها عليه السلام ، وعلى أي حال فقد تم اسلامها قبل زواجها من الامام العسكري عليه السلام .
واما ما قد يخطر على البال من انها إذا كانت قد بقيت غير مسلمة في عالم اليقظة والعيان حتى حين وصولها إلى سامراء ، فكيف زارها الامام أبو محمد (ع) في المنام .. فجوابه : ان هذا كلام من يؤمن بالاحلام .. وأما من لا يؤمن بها لا يعتبر الزيارة في عالم الرؤيا شيئاً يؤخذ بنظر الاعتبار. ومعه فنقول للمؤمن بالاحلام المتكلم بهذا الكلام: ان زيارة الامام في المنام يكفي فيها الاسلام في المنام! وأما لقاء العيان واليقظة فيحتاد إلى اسلام حقيقي في عالم اليقظة.
وأما زواجها ، فلم يكن ما وقع منه في المنام كافياً أيضاً وانما تم بإنشاء الامام الهادي (ع) لعقد الزواج حين قال : - كما نطق الحديث - : فإني قد زوجت ابا محمد الحسن عليه السلام وأم القائم. بعد ان احرز رضاها ورضاه . وهو وليهما وولي المؤمنين .
صفحة (254)
الأعتراض الرابع : ان هذا الحديث دال على تساقط الصلبان وانهيار الاعمدة ، من دون سبب ظاهر . فكيف كان ذلك؟
والجواب عن ذلك: انه مما لا شك فيه ، من الناحية الاسلامية ، ان ما يعتقده المسيحيون أصبح بعد بعثة نبي الاسلام (ص) ، باطلاً والمقيم عليه ضالً مضلاً. وان مقتضى الهداية إلى الصراط المستقيم هو الاهتداء بنور الاسلام والاعتقاد بعقائده والالتزام بعدله .
فمن الممكن القول: ان هذا الذي حدث ، هو معجزة الهية حدثت للتوصل إلى غرضين : احدهما : استنكار بقاء هؤلاء على المسيحية مع امكانهم الدخول في الاسلام ومعرفتهم بوجوده ، فإن الأولى بمصالحهم ان يعتنقوه لا ان يحاربوه ، ثانيهما : استنكار زواج هذه الامرأة من ابن عمها ، فإنها مقدرة في علم الله الأزلي لأن تكون زوجة للإمام العسكري واماً للمهدي. لا ان تكون كما يشاء جدها زوجة لإبن اخيه. بحدوث هذه المعجزة يحصل في قلوبهم تشاؤم من حصول هذا الزواج ، فلا يقومون به . كما قد اعرضوا عنه فعلاً .
الاعتراض الخامس:ان هذه الرواية تدل على شيئين متنافيين . فبينما تنص في أولها على ان الامام الهادي (ع) هو الذي كتب الكتاب الذي حمله بشر النخاس إلى الجارية ... نراها بدل بعد ذلك على ان كاتبه هو الامام العسكري (ع) . كقولها : وأومأ بيده إلى أبي محمد صاحب هذا الكتاب . وقولها : يعني على صاحب هذا الكتاب.
صفحة (255)
والجواب عن ذلك : ان الرواية دلت على ان كاتب الكتاب هو الامام الهادي(ع). إلا انها دلت في عين الوقت ان هذه الجارية كانت تتوهم ان كاتبه هو فتى احلامها وزوج مستقبلها الامام العسكري عليه السلام . وليس بين الامرين أي تنافي . ولا تعلم ان ما في الكتاب يدل على تحديد شخصية كاتبه حتى تعرفه بذلك .
اذن فليس شيء من هذه الاعتراضات وارد على هذا الحديث ومضعف لدلالته وما يعرب عنه من حديث وتاريخ. وانما الاعتراض الوحيد الذي يمكن صدقه ، هو ان هذا الحديث ضعيف من ناحية اثباته التاريخي ، بإعتبار كونه مجهول الرواة ضعيف السند .
التعليق الثالث : الذي نعلقه على هذه الرواية :
ان هذه الرواية مهملة من حيث التاريخ . ونحن وان استطعنا ان نعرف وقت شراء الجارية إلا انه لا يمكن تحديد وقت هذا القتال الذي وقع بين الروم والمسلمين. ذلك القتال الذي أصبحت مليكة نتيحة له اسيرة للمسلمين. كما انه لا يمكن تجديد مكانه على وجه التعيين فإن سائر أطراف الدولة الاسلامية كانت مسرحاً لحروب ومناوشات وفتوحات في ذلك العصر. وأغلبها كان بين الروم والمسلمين.
فإن لفظ الروم كان يستعمله العرب في ذلك الحين بشكل مجمل واسع المعنى . فإنهم كانوا يصطلحون بهذا اللفظ على كل بلاد مسيحية خارج حدود بلاد الاسلام. وهذا معنى شامل لكثير من مناطق الأرض .
صفحة (256)
فهو يشمل سوريا ولبنان وتركيا قبل فتحها الاسلامي ، ثم يستمر إلى ما وراءها شمالاً مما هو الآن تحت حكم الاتحاد السوفييتي . وقد دخل قسم منه في الأسلام وبقي الكثير منه مسيحياً إلى حد الآن . كما يمتد هذا اللفظ غرباً ليشمل اوروبا كلها بما فيها اليونان وايطاليا وفرنسا واسبانيا وصقلية وغيرها مما كان معروفاً يومذاك . وكانوا إذا أرادوا التدقيق في التعبير عن اوروبا ، قالوا : الفرنجة أو الافرنج ، تمييزاً لها عن سائر بلاد الروم . وهو أيضاً لفظ مجمل يشمل كل أقطار اوروبا تقريباً.
لا يستثنى من لفظ الروم ، بحسب اصطلاحهم .. من وجه العالم المعروف يومئذ ، إلا ما كان في شرق بلاد الاسلام : كالهند والصين وما كان في جنوبها كافريقيا.
والصحيح تاريخياً ان الروم هم شعب دولة روما ، التي هو الآن عاصمة ايطاليا ، وكان الاسم الرسمي للملك عندهم هو القيصر . وهي دولة استطاعت ان تسيطر على رقعة ضخمة من العالم .. من حوض البحر الأبيض المتوسط . كالشمال الافريقي واليونان وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين ، حتى كانت تسمى كل هذه المناطق بدولة الروم ، ومن هنا وقع الاجمال والاختلاط في معناه لدى الناس في تلك العصور ... وحتى كانت العاصمة لهذه الدولة الجبارة هي القسطنطينية ، وهي ليست في ايطاليا ، وغير قريبة من روما! وانما تقع في الجزء الاوروبي من تركيا فعلاً . وتسمى اليوم باستانبول . وكان لسقوطها بأيدي الجيش الاسلامي من الاهمية و (الاستراتيجية) السيء الكثير. اذ يعني انحسار الحكم الرومي عن بلاد الشرق وانكماشه في داخل اوروبا المسيحية.
صفحة (257)
وعلى أي حال ، فإنه يمكن ان يفهم من هذه الرواية ان الملك نفسه كان خارجاً مع جيشه للحرب ، وهو ما كتن يحدث فعلاً في الحروب المهمة الواسعة . فبذلك يمكن أن نلتفت إلى الحادثة التي ينقلها التاريخ العام في سنة 249 هـ ، حيث نزل ملك الروم بنفسه إلى الحرب مع خمسين ألفاً ، وحصل بينه وبين المسلمين قتال شديد ، قتل فيها من الفريقين خلق كثير(1) . فالمظنون ان هذه هي الحادثة المشار اليها في الحديث .
وكان الامام العسكري عليه السلام في هذا العام ، عمره سبعة عشر عاماً ، يعيش تحت ظل ابيه عليه السلام ثم ان ام المهدي عليه السلام بعد ان سبيت في الحرب رقيت عند مالكها حتى عام 254هـ حين أراد بيعها ، فاشتراها الامام عليه السلام ليزوجها من ابنه عليه السلام . والرواية على أي حال ، لا تدل على سرعة بيعها بعد الاسر ، وان كان المفهوم منها بشكل عام ، هو ذلك . والله العالم .
الفرضية الثانية: ان المالك لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام ، هو حكيمة اخت الامام الهادي (ع) وهذه فرضية بسيطة ومختصرة ، تكفينا في الاثبات التاريخي ان لم تكفنا الفرضية الأولى ، ولم نقتنع بمدلول ذلك الخبر . والخبر الوارد في هذه الفرضية يهمل بالكلية التعرض لأصل هذه الجارية أو ترجمة حياتها أو تاريخ ورودها إلى بلاد الاسلام أو تاريخ شرائها .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج 5 ص 312 .
صفحة (258)
وانما يبدأ الحديث انه في يوم من الايام يزور الامام العسكري عليه السلام عمته حكيمة رضي الله عنها ، فيرى جاريتها فيحد النظر اليها. فتقول له: يا سيدي لعلك هويتها أفارسلها اليك. فينفي الامام عليه السلام الهوى الجنسي عن نفسه ، فإنه مناف فمقام الامام وعصمته، ويعطي السبب المنطقي الصحيح لعمله . وذلك انه اجاب عمته قائلاً: لا يا عمة ، ولكني اتعجب منها . فقالت له : وما اعجبك؟ . فقال عليه السلام : سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً . فقالت له : فارسلها اليك يا سيدي . فيوقف الامام العسكري (ع) ذلك على اذن ابيه ، قائلاً : استأذني في ذلك ابي .
قالت : فلبست ثيابي واتيت منزل ابي الحسن عليه السلام . فسلمت عليه وجلست . فبدأني وقال : يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني ابي محمد عليه السلام . وتجمع بينه وبينها في منزلها . فيقيم الامام عندها اياماً ، حتى يتوفى والده عليه السلام بعد ايام ، فينتقل الامام العسكري (ع) مع زوجته إلى دار ابيه (1) .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين .. تسخة مخطوطة .
صفحة (259)
وهذه الرواية تتفق مع سابقتها على عدة خصائص ، منها : ان ام المهدي عليه السلام كانت جارية مملوكة ، وان اسمها نرجس وان زواج الامام العسكري كان في حياة ابيه واذنه . ولذا نستطيع ان نعتبر اتفاقهما على ذلك اثباتاً تاريخياً كافياً له. إلا ان هذه الرواية تعين وقوع الزواج في الأيام الاخيرة من حياة الامام الهادي (ع). ولم يكن هذا واضحاً من الرواية السابقة .
وليس على هذه الرواية من اعتراض من الناحية الشكلية ، إلا اعتراض واحد ، وهو ان الامام العسكري (ع) حين زار عمته كيف جاز له ان يحد النظر إلى جاريتها مع انها ليست زوجته ولا مملوكته في ذلك الحين. ويأتي الجواب واضحاً بسيطاً، وهو انه نظر اليها بإذن مالكتها . والمالك إذا اذن لشخص في النظر إلى مملوكته جاز للمأذون له النظر شرعاً في حدود اذن المالك.
وهذا وان لم يذكر في الرواية إلا انه أخذ مفروض التحقق في الرواية ، للتسالم الواضح في المجتمع المسلم على عدم جواز النظر إلى مملوكة الغير إلا بإذنه . لذا كان من الواضح في ذهن الراوي ان السامع المسلم سوف يفهم تلقائياً وجود الاذن في النظر ... ومن هنا اهمله من سرده من لفظ الرواية .
صفحة (260)
ولادة الامام المهدي (ع):
ولد عليه السلام عند الفجر من يوم النصف من شهر شعبان(1) وحيث يقع الفجر ما بين الليل والنهار، فقد عبر بعضهم ان ولادته كانت في الليل وبعضهم عبر باليوم حيث قال: في يوم الجمعة كالصدوق في اكمال الدين وابن خلكان في الوفيات .
أما عام ولادته فالمشهور انه عام 255هـ(2) وليس على ذلك اعتراض إلا ما يذكره الكليني في الكافي والصدوق في اكمال الدين. فإنهما يرويانها على وجهين ، فتارة قالا : انه ولد عام 255هـ وتارة اخرى قالا : انه ولد عام 256هـ (3) ، وتنافيهما في الرواية يوجب الأخذ بالمشهور كما هو واضح .
وعلى ذلك يكون قد ولد عليه السلام بعد وفاة جده الامام الهادي عليه السلام بحوالي عام ، وبعد مجئ المهتدي العباسي إلى الحكم بأقل من شهر. حيث استخلف المهتدي لليلة بقيت من رجب وولد الامام المهدي في النصف من شعبان في نفس العام. وبقى المهتدي في الحكم حوالي عام واحد حيث ازاله الأتراك وبايعوا المعتمد عام 256هـ وبقي المعتمد في الحكم ثلاثاً وعشرين سنة ، حتى عام 279هـ على ما سمعنا فيما سبق .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الكافي (مخطوط ) واكمال الدين ( مخطوط ) ووفيات الاعيان ج 3 ص 316 والارشاد ص 326 واعلام الورى ص 393 . ونور الابصار ص 170 .
(2) انظر الارشاد ص 326 واعلام الورى ص 393 . وابن خلكان ج 3 ص 316 وابن الوردي ج 1 ص 232 وأبو الفداء ج 1 ص 47 والاتحاف ص 69 واليواقيت والجواهر ص 288 والفصول المهمة ص 310 ونور الأبصار ص 170
(3) انظر للصدرين المخطوطين .
صفحة (261)
ويعاصر الامام المهدي عليه السلام من حياة ابيه خمس سنوات ، حيث يصعد أبوه إلى الرفيق الأعلى عام 260هـ على ما سبق ان عرفنا. وقد انصب النشاط الرئيسي خلال ذلك على امرين رئسيين : احدهما : الحذر التام من السلطة الحاكمة . ثانيهما : تعرف خواص ابيه (ع) .
ومهما يكن من أمر ، فالمهم الآن ان نحمل فكرة عما تدلنا عليه الروايات من حوادث ولادة الامام المهدي عليه السلام:
ان الامام العسكري عليه السلام تزوره عمته حكيمة في يوم من الأيام ، وتبقى عنده إلى
المساء . وحين تريد ان تنصرف يرجوها الامام عليه السلام ان تبيت في داره هذه الليلة
، فإنه سيولد فيها المولود الكريم على الله عز وجل ، حجة الله في أرضه . فتسأله
العمة : ومن أمه ؟. فيقول الامام عليه السلام : ترجس ! فتنفي العمة أن يكون بنرجس
اثر للحمل . فيؤكد لها الامام (ع) ذلك قائلاً : هو ما أقول لك فتفحصها العمة جيداً
وتقلبها ظهراً لبطن فلا تجد أثر الحمل . فتعود فتخبره تارة أخرى . فيبتسم الامام
عليه السام ويعطيها الحجة الواضحة والمبرر الالهي الصحيح في ذلك ، قائلاً : إذا كان
وقت الفجر يظهر لك الحبل .. لأن مثلها كمثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها
أحد إلى وقت ولادتها ، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام .
وهذا نظير موسى عليه السلام .
صفحة (262)
وحاصل البرهان الذي يتضمنه كلام الامام عليه السلام بعد ايضاح مقدماته هو: أن الله تبارك وتعالى اقتضت حكمته الازلية ان يستهدف في خلق البشرية هدايتها وارشادها واخراجها من الظلمات إلى النور . قال تعالى : "وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون"(1). ولاجل هذا الهدف الأعلى كانت بعثات الانبياء والرسل مبشرين ومنذرين . ومن هنا كان وعد الله القاطع بإقامة دولة الحق على الأرض . فإن الأرض لله يرثها عباده المتقون
والهدف الالهي إذا كان لزومياً ومهما ، توصل الله تعالى اليه بقدرته ، بما شاء من الوسائل والطرق ، فإنه القادر على كل شيء الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون . فان كان في الامكان تحقق الهدف بالطريق الطبيعي ، فهو .. والا توصل الله تعالى إلى ايجاده عن طريق خرق النظام الكوني الطبيعي بالمعجزات . كما تحدثنا عنه وفصلنا القول فيه في رسالتنا عن المعجزة في المفهوم الاسلامي وأهون بالجهد البشري أن يكون حائلاً أو مانعاً بين ارادة الله تعالى وبين تنفيذ ما يريده من الأهداف في خلقه .
وإذ يكون ضغط السلطات الحاكمة عالياً، ويكون لوجود الفرد المطارد أثراً مهم في تحقق الهدف الالهي ، ولم يمكن حفظه من السلطات بطريق طبيعي، اذن يتعين حفظه بطريق اعجازي .. توصلا إلى الهدف الكبير وهو هداية البشرية في مستقبل الدهر.
ــــــــــــــــــ
(1) الذاريات 51- 56
صفحة (263)
وبين يدينا الآن مثالاً لذلك : احدهما : النبي موسى بن عمران على نبينا وعليه السلام . فان الله تعالى حين تعلق غرضه المهم الملزم بهداية البشرية به في زمان مستقبل .. وكان ذلك متوقفاً على ولادته صحيحاً سالماً ولم يكن ذلك ممكناً للضغط العالي التوجه من قبل سلطات فرعون يومئذ . اذن يتعين حفظه بطريق اعجازي تحفظاً على الغرض الالهي الكبير الذي سيكون موسى عليه السلام المسؤول الرئيسي لتنفيذه وتطبيقه في حينه.
المثال الثاني : الامام المهدي عليه السلام الذي تعلق الغرض الالهي المهم الملزم بهداية البشرية به في الزمان المستقبل وتنفيذ وعد الله تعالى بدولة الحق على يده . وذلك يتوقف على ولادته وبقائه سالماً . ومن هنا افاض الله تعالى عنايته الخاصة وارادته اللانهائية ، تحفظاً على غرضه الكبير وتحدياً للجهد البشري المتواضع الذي تبذله السلطات .. بإقامة المعجزة في اخفاء الحمل من ناحية وفي بقائه أمداً طويلاً من الدهر من ناحية ثانية .
وحيث كان المثال الأول واضحاً في اذهان المسلمين ، اذن فلا بعد في قدرة الله تعالى أن يقوم بذلك بالنسبة إلى المهدي (ع) ايضاً. والمعجزة في اخفاء الحمل يكون – في الأرجح – على هذا الترتيب : وهو ان النطفة خلال مدة الحمل تنمو ببطء شديد أو لا تنمو على الاطلاق ، ثم انها قبل الولادة بوقت قصير قد لا يزيد على دقائق تنمو بسرعة حتى يكتمل الجنين ، ويكون قابلاً للميلاد ، في الجو السري الخاص البعيد عن أعين السلطات .
صفحة (264)
وبذلك لا يتمكن أحد من الفاحصين حتى القوابل ، خلال المدة الاعتيادية للحمل .. من التعرف على وجوده . فضلاً عن مجرد النظر. وذلك : لأن الطب إلى يومنا الحاضر عاجز عن التعرف إلى الحمل في شهره الأول ، فكيف بالعصور السابقة .. عصور الخلافة العباسية فلو بقي الجنين ، بارادة الله تعالى ، على شكله في الشهر الأول طيلة مدة الحمل ، لم يتمكن أحد ان يخمن وجود الحمل على الاطلاق ، في تلك العصور.
ولا يخفانا أيضاً ، ما في التوقيت في الفجر ، من اهمية خاصة في زيادة الحذر والخلفاء ، فإن هذه العائلة كانت في ذلك الوقت في يقظة . وكل من يتولى السلطة والتجسس يغط في نوم عميق .
ثم ان حكيمة إذ تسمع تأكيد الامام عليه السلام ، تعود إلى نرجس فتخبرها بما قال وتسألها عن حالها . فتقول نرجس : يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا . ثم ان نرجس نامت واشتغلت حكيمة بالصلاة ، لكي تؤدي صلاة الليل ، وجلست للدعاء عقيب الصلاة ، وهي في كل ذلك ترقب نرجس . فلا تجد عليها إلا النوم الهادي لا تقلب جنباً عن جنب . وهناك من الأخبار ما يدل على أن نرجس نفسها قامت من نومتها فأدت صلاة الليل ثم نامت مرة اخرى . وهي لا تحس بشيء.
صفحة (265)
حتى إذا كان وقت طلوع الفجر ، وثبت نرجس من نومها فزعة ، فضمتها حكيمة إلى صدرها . وقالت لها : اسم الله عليك ، هل تحسين بشيء . قالت : نعم يا عمة. أقول: نعرف من ذلك ان جنينها قد كبر واكتمل . وتم هذا في دقائق أو أقل . وهذا يفسر لنا وثوبها من نومها فزعة .
وهنا يأمر الامام عليه السلام حكيمة بأن تقرأ عليها سورة الدخان التي تبدأ بقوله تعالى : "بسم الله الرحمن الرحيم . حم . والكتاب المبين . انا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنا كما مرسلين" . ولا يخفى ما في قراءة هذه الأيات من المناسبة لقتضى الحال .
وحينما يحين وقت الولاة ، يحدث نوع من الغموض بين الأمرأتين بحيث لا تطلع حكيمة على نرجس ، وقد عبر عن ذلك في بعض الروايات بالفترة .. وهي نوع من الغفلة أو النعاس .. أصابتهما معاً . وعبر عنه في رواية اخرى ، بقول حكيمة : حتى غيبت عني نرجس فلم أرها ، كأنه ضرب بيني وبينها حجاب . والمعنى المفهوم منها واحد ، والغرض منه هو عدم الاطلاع على نرجس حين خروج الامام عليه السلام .
وتنتبه حكيمة، فتجد الامام المهدي عليه السلام ساجداً على الأرض يقول شيئاً من الكلام ، يعطى به المفهوم الواعي الكبير الذي خلقه الله من اجله والغرض الذي أوكله اليه والوعد العظيم الذي اناطه به . لكن الروابات تختلف في اللفظ الذي قاله . ففي احدها انه قال : اشهد ان لا اله إلا الله وان جدي محمد رسول الله وان ابي امير المؤمنين .
صفحة (266)
ثم عد اماماً اماماً إلى ان بلغ إلى نفسه . ثم قال : اللهم انجز لي ما وعدتني واتمم لي امري وثبت وطأتي ، واملأ الأرض بي عدلاً . وفي رواية اخرى انه قال : الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين . زعمت الظلمة ان حجة الله داحضة . ولو اذن لنا في الكلام لزال الشك . وفي رواية ثالثة : انه عليه السلام تلا قوله تعالى "شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم .." إلى آخر الآية . وفي رواية رابعة : انه تلا قوله تعالى: "ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .." الى آخر الآية .
ونحن كمسلمين ، لا ينبغي ان تستغرب ذلك أو بستنكره ، فانه ليس بدعاً في الدهر ، وليس شاذاً في افعال الله تعالى وقدرته الكبرى. وهذا القرآن يصرح بكل وضوح بنطق عيسى بن مريم في المهد : "قال اني عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبياً .." اذن فهو نبي في صغره ايضاً ، والمهدي عليه السلام له الشبه به من كلتا الناحيتين . أما النطق فباعتبار هذا الذي سمعناه . وأما الامامة في الصغر فلانه تولاها وعمره خمس سنوات بعد وفاة ابيه عام 260 للهجرة .
وينزل الحجة المهدي عليه السلام إلى الأرض بدون دماء نظيفاً مفروغاً منه فيستدعى به أبوه عليه السلام ، فتحمله حكيمة اليه ، فيأخذه ويضع لسانه في فيه ويمر يده على عينيه وسمعه ومفاصله. ثم يقول له : تكلم يا بني. فقال:اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم صلى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة إلى ان وقف على ابيه . ثم احجم .
صفحة (267)
أقول : والروايات تنسب اليه عليه السلام بعد ميلاده كلاماً واحداً ، ولكنها تختلف في زمانه . فالأكثر انه تكلم عند أول ولادته وواحدة منها تقول انه تكلم بعد حمله إلى ابيه – وهو ما نقلناه اخيراً – ويكون مقتضى الجمع بين الروايات انه قد تكلم مرتين، باعتبار ان كل رواية اثبتت شيئاً لم تنفه الرواية الاخرى . إلا ان النتيجة ، وهي تكلمه مرتين ، يكون منافياً مع فحوى سائر الروايات فالأرجح هو الأخذ بالروايات الأكثر وهو انه تكلم بكلام واحد بعد ولادته مباشرة . فإنها بتعددها تكفي للإثبات التاريخي ، وان كان القطة بمثل هذه المسألة مما لا حاجة اليه من الناحية الدينية أو الاجتماعية .
والمفهوم من سياق أكثر الروايات انه لم يكن حال ولادة المهدي إلا امه وحكيمة . وكان والده يشتغل بالصلاة والدعاء في طرف آخر من الدار ، مراقباً للوضع عن كثب ، إلا ان هناك رواية تصرح باستقدام عجوز قابلة من جيرانهم بشكل غامض شديد الكتمان ، للقيام بالتوليد(1) وفي هذا منافات لأكثر الروايات ، ومعه فالارجح الأخذ بالأكثر دون هذه الرواية.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص 145 . وأعلم ان ما ذكرناه من قصة الميلاد مسيقى من روايات عديدة ، موجودة – في الأغلب – في اكمال الدين للشيخ الصدوق . الا ان مما يساعد على سعة الاطلاع في هذا الصدد مراجعة كتاب الغبية للشيخ الطوسي والخرايج والجرايح للقطب الرارندي والبحار ج 13 للعلامة المجلسي ومنتخب الأثر للصافي وغيرها .
صفحة
(268)
ما بعد المولد :
يولد الامام المهدي عليه السلام ، شأنه في ذلك شأن آبائه عليهم السلام ، مختوناً ، ولكن والده يقرر امرار الموسى عليه لإصابة السنة(1) فإنه لا ينبغي أن تتخلف السنة الاسلامية عن أحد .
ويأمر الامام العسكري عليه السلام ، ابا عمر وعثمان بن سعيد ، وهو من أخص أصحابه لديه .. بأن يعق عن المولود الجديد عدداً من الشياه وان يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل لحماً ويوزعه على الفقراء(2) وما أكثرهم في ذلك المجتمع المنحرف، وخاصة في القواعد الشعبية للأمام المعزولين اجتماعياً واقتصادياً .
وقد وصلت شاة مذبوحة إلى محمد بن ابراهيم الكوفي ، باعتبارها عقيقةعن المولود الجديد (3) .
ويتباشر الأصحاب الخاصون بميلاد الامام المهدي عليه السلام فيزور أحدهم الامام العسكري (ع) فيهنؤه بولادة ابنه القائم (4) ويجتمع اثنان من الأصحاب فيبادر أحدهما الآخر قائلاً : البشارة. ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمد عليه السلام ، وأمر بكتمانه . فيسأله الآخر السؤال المعتاد ... يسأله عن أسم المولود الجديد ، فيقول له : سمي محمد وكني بجعفر (5).
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين المخطوط . (2) انظر المصدر .
(3) انظر المصدر . (4) انظر المصدر .
(5) انظر المصدر .
صفحة (269)
ويبقى على الامام العسكري عليه السلام، وظيفة مزدوجة تجاه ولده الجديد ، تحتاج كل منهما إلى تخطيط خاص، ويحتاد الجمع بينهما إلى غاية في الحذر واللباقة الاجتماعية .
الوظيفة الأولى: اثبات وجود الامام المهدي عليه السلام تجاه التاريخ وتجاه الامة الاسلامية ، وتجاه مواليه الذين يعتبرون المولود الجديد امامهم الثاني عشر بحسب نص النبي (ص) حين قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش . فليس من الممكن ولا المنطفي أن يبلغ الحذر والتوقي إلى اخفائه الكامل بحيث يؤدي انطماس اسمه وانكار وجوده . مع كونه عليه السلام الامام الثاني عشر لمواليه والقائد المذخور لدولة الحق .
على انه لا بد من اقامة الحجة في وجوده على الموالين خاصة وعلى المسلمين عامة ، بحيث يكون هناك تواتر في الأخبار عن وجوده ورؤيته ، يدحض به قول من يزعم وجوده ورؤيته ، أو انه ليس للامام العسكري عليه السلم من ولد.
الوظيفة الثانية: حماية الامام المهدي عليه السلام من السيف العباسي والمطاردة الحكومية، التي عرفنا مناشئها وتخطيط السلطات لها ، وتجنيد كل قواها وعيونها من اجلها .
اضف إلى ذلك ما اشرنا اليه من ان الجهاز الحاكم ، كان يعرف في دخيلة نفسه حق الامام ودالة قضيته وصدق قولة.
صفحة (270)
وانما كان يمنعهم عن اتباع الحق : الملك العقيم والمصالح العريضة المتعلقة بالخلافة العباسية مضافاً إلى تعصب وراثي قديم . ومن هنا كانوا يشعرون ان ولادة المهدي عليه السلام، وهو الشخص الذي ملأ رسول الله (ص) أسماعهم بانه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ضلماً وجوراً ... ان ولادته يعني الحكم على نضامهمبالموت المحتم وفضح مخططتهم المنحرفة وأساليب عصيانهم لأوامر الاسلام واهمال طاعة الله تعالى وعدم الاهتمام بالأمة الاسلامية. وبعبارة اقرب: انهم كاموا يدركون ان مجتمعهم الذي يحكمونه قد امتلأ .. بفعل انحرافهم وسوء تصرفهم... ضلماً وجوراً. إذن فمن المنطقي ان يتصدى الامام المهدي عليه السلام لكي يملأه قسطاً وعدلاً... وهذا ما يخافونه ويرهبونه.
وهم وإن لم يحددوا بالضبط تأريخ
ميلاد الأمام المهدي عليه السلام، لمدى السرية التامة المحاطة فيها تحاههم... إلا
انهم يعلمون، على الاجمال ان زمانه قد اظلهم وانه على وشك الوجود. فانه يكفيهم ان
يعرفوا ان الامام العسكري غليه السلام يكون في السلسلة التي وعد بها رسول
الله (ص) الاما الحادي عشر... لكي يكون ولده الثاني عشر... وهو المهدي. ويدل على
ذلك أيضاً وعلى جهلهم بتحديد التأريخ ما نعرض له من مراقبتهم للحوامل عند وفاة
الامام العسكري (ع) ظناً منهم بوجود الامام المهدي (ع) جنبناً في رحم احدى
النساء. مع انه كان مولودا ً قبل خمس سنوات، كما أطلع على ذلك الخاصة من مواليه.
وإذا كان نشاط الأمامين العسكريين عليهما السلام، وهو مقتصر على حفظ مصالح قواعدهم
الشعبية، ومشفوعاً بسياسة السلبية والمسالمة
صفحة (271)
ومن هنا كان عمل السلطات في تلك الظروف اقرب شبهاً بالحركات العصبية التي يقوم بها المخنوق عند خنقه أو الغريق قبل انقاذه .. فإنها تعلم بوجود شيء خطر مشرف عليها ، شديد الاهمية بالنسبة اليها .. ولكنها تشعر بالعجز تجاهه ، ضيق الباع في الوصول اليه والوقوف عليه . بالرغم من وجود القوة والمال والضمائر الاجيرة في جانبها، وليس في الجانب الآخر إلا العزل والفقراء والمضطهدون ... ولعلها تحس تجاه ذلك بالتحدي لقوتها وعزتها فتزيد من نشاطها وتبذل المستحيل في سبيل الحصول على الامام المهدي (ع) والقبض عليه .
فكانت هاتان الوظيفتان المزدوجتان للامام العسكري عليه السلام ، توقفه في موقف غاية من الدقة والحرج .. وبخاصة وان كلتا الوظيفتين ضرورية بالنسبة اليه لا يمكنه ان يتخلى عنها .
ويزيد الموقف دقة ، ان الامام العسكري يعيش في هذا المجتمع الصاخب ، تحت الأضواء المسلطة عليه من كل الجهات والرقابة الاحتماعية التي تلاحقه ، لعدة اسباب : منها : انه الرجل المثالي الاسلامي في عبادته واخلاقه وعلمه ونسبه في نظر الجميع. ومنها : انه القائد والموجه لقواعد شعبية واسعة من المسلمين . ومنها : انه يمثل جبهة المعرضة ضد السلطات الحاكمة.
صفحة (272)
ومنها: ان الحكومة تستمر في تقريبه من البلاط ودمجه في الحاشية . ومن المعلوم ان الشخص الذي يكون له بعض هذا الخصائص ، فضلاً عن جميعها يكون لولده اهمية كبيرة وخبراً منتشراً واسعاً ، وخاصة إذا كان للمولود اهمية خاصة .. كان مهدي هذه الامة . اذن فمن طبيعة المجتمع ان تتوجه الانظار من كل حدب وصوب إلى ميلاد الامام المهدي عليه السلام ، وبخاصة من قبل السلطات الذين يعيش في بلاطهم ويزوره في الاسبوع مرتين.
ومن ثم كان أقرب تخطيط للخروج من هذا المأزق ، ترك الاعلان الاجتماعي عن ولادة المولود الجديد بالكلية ، وكأن شيئاً لم يحدث على الاطلاق ، بالنسبة إلى الفهم العام ، وترك الأحداث تسير في مجراها الاعتيادي من دون اثارة أي انتباه أو فضول أو شك من أحد في شيء من النشاط أو القول أو العمل . حتى ان خادم الباب في بيت الامام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً(1) واذا لم يحصل الشك والانتباه لم يحصل الفحص والسؤال .
ومما ساعد الامام العسكري(ع) على الاخفاء مساعدة كبرى ، تطبيقة سياسة الاحتجاب على نفسه ، وانقطاعه عن أصحابه ومواليه إلا بواسطة المراسلات ، كما عرفنا ، حيث استطاع عليه السلام بذلك تحقيق نتيجتين اساسيتين: احداهما : تعويد قواعده الشعبية على فكرة الاحتجاب والقيادة غير المباشرة ، كما سبق ان أوضحنا.
ــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين . (مخطوط) .
صفحة (273)
وثانيهما: استقطاب المهام التي كان يقوم بها ، والحوادث التي كان يعيشها .. بشكل منفرد بعيد عن الانتباه وتسليط الأضواء والضوضاء .. لا يكاد يعرف بكل مهمة أحد إلا أهل الصلاة بها. وحيث كان اخفاء ولده من مهامه الرئيسية ، فلم يكن ذلك بممتنع عليه بعد تخطيط الاحتجاب .
وقد ساعد على الاخفاء أيضاً مساعدة كبيرة ، تحول انتباه الدولة والمجتمع إلى حرب صاحب الزنج الذي بدأ أعماله التخريبية في جنوب العراق والأهواز في عام ميلاد المهدي عليه السلام .. عام 255 على المشهور في ميلاده . والمتتبع للتاريخ العام يعرف ما أوجده هذا المخرب من الفزع والقلق في اذهان الشعب عامة والجهاز الحاكم خاصة . ومن المعلوم ان المجتمع الذي يسوده القلق الذهني يكون فكره مركزاً على ما يخاف منه ومن الصعب أن يلتفت إلى شيء آخر . كالفرد الواحد اذا خاف وحشاً تركز نظره وفكره وقوته عليه . فكذلك المجتمع بشكل أو بآخر. فكان وجود صاحب الزنج خير صارف ذهني للفهم العام عن الالتفات إلى ميلاد الامام المهدي عليه السلام.
إلا ان هذه الفكرة سوف تبقى تجيش بشكل غامض في ذهن السلطات المتمثلة في الخليفة
المعتمد نفسه .. وتتجلى بأوضح صورها على ما سوف يقوم به عند وفاة الامام العسكري
عليه السلام. اذ يكون المعتمد في ذلك الحين مرتاحاً بعض الراحة من الناحيتين
السياسية والعسكرية .. بعد ان أوكل قتال صاحب الزند إلى اخيه ابي أحمد الموفق ، قبل
عامين .. سنة 258هـ كما عرفنا ، وقد استقل الموفق تدريجاً بالحرب وغير الحرب من
شؤون الدولة وعزل الخليفة عن الأمر والنهي وعن النشاط السياسي بالكلية. فمن هنا
توفر للمعتمد بعض الوقت للتفكير في أمر آخر ... هو البحث عن الوريث الشرعي للامام
عليه السلام.
صفحة (274)
وعلى أي حال ، لم يكن إلى حد التاريخ الذي نتكلم عنه ، قد ثار حول ولادة المهدي (ع) أي احساس أو التفات أو شك من قبل المجتمع أو السلطات .. نتيجة لمجموع هذه الخصائص والملابسات ... وكأنه حادث غير موجود !! .
وإلى هنا استطاع الامام الحسن العسكري عليه السلام أن يضمن بكل بساطة .. حماية ولده المهدي عليه السلام من الجهاز الحاكم ومن كل من يدور في فلكه .. وبذلك قام بالوظيفة الثانية خير قيام .
واما الوظيفة الأولى له عليه السلام ، وهي اثبات وجوده للتاريخ وللأمة الاسلامية عامة ولمواليه خاصة ... فكان يجب – تحت الظروف التي عاشها الامام – ان تتقلص وان تضمر ، وان يختص التبليغ بوجوده ورؤيته ، بكل شخص يعلم من قوة ايمانه واخلاصه في عقيدته ان له من صلابة الارادة ما لا يمكن أن تلين أمام أي ضغط من السلطات بحيث يكون على استعداد ان يقدم نفسه فداء في سبيل امتثال أمر امامه (ع) بالكتمان. كما انه لا بد ان يعلم من رجاحة عقله اتزانه ولباقته ، انه يكتم ذلك في المجتمع كتماتاً تاماً ، ولا يتهور بإذاعة السر إلى من لا ينبغي ان يذيعه له ، وله الخبرة الكافية بالخاصة الذين يمكن ان يتبادل واياهم هذا الخبر ... وهكذا كان .. وبمقدار هذا التبليغ خطط الامام العسكري عليه السلام .
صفحة (275)
وكان هذا سبباً لحجب المولود الجديد ، حجباً تاماً مطلقاً عن الجمهور غير الموالي له. بل حتى عن جمهور الموالين ممن لم يحرز فيه قوة الارادة وعمق الاخلاص.
وكان كل من يطلعله الامام على المولود الجديد ، فيرويه اياه أو يخبره عنه ، مكلفاً تكليفاً الزامياً بأمرين لا مناص له منهما ، وهو يطبقهما بإعتبار اخلاصه وقوة ارادته وايمانه . وهما:
أولاً : وجوب الكتمان . وقد سمعنا فيما سبق ان أحد الأصحاب يقول للآخر : ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمد (ع) وأمر بكتمانه ويكتب الامام العسكري عليه السلام لأحمد بن اسحاق : ولد لنا مولود ، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً. فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته. احببنا إعلامك ليسرك الله به ، مثل ما سرنا به . والسلام (1) .
وقد عرفنا ، بكل وضوح وجه المصلحة في هذا الكتمان .
ثانياً : حرمة إطلاع أحد على اسمه عليه السلام . وهو أسلوب في الكتمان ورد التأكيد عليه بشكل خاص .
ولا يخفى ان اسم المهدي المنتظر أساساً ، معلوم لدى الأمة ، بإخبار نبيها (ص) حين قال: اسمه إسمي . وهذا يعني بكل وضوح ان اسمه محمد . وهذه المعرفة لا يختلف فيها الناس من موالين وغيرهم .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين المخطوط .
صفحة (276)
ولكن السلطة القائمة ، إذ تريد أن تطارد المهدي المنتظر في شخص المولود الجديد ، لا بد لها من امرين : أولاً: ان تعرف ولادته. أذ مع الغفلة عنها، لا يمكنها بطبيعة الحال ان تجرد المطاردة الفعلية الحقيقية ضد المولود. وثانياً : ان تعرف شخصه بإسمه . إذ بدونه لا يمكن ان تحارب فيه المهدي المنتظر . لإحتمال أن يكون المهدي هو ولد آخر للإمـام العسكري (ع) لعله ولد ولم يولد بعد – فيما تحتمله السلطة – وهي ليس لها غرض معين إلا ضد المهدي المنتظر على وجه التعيين .
مضافاً إلى وضوح ان الاسم يكسب الفرد شخصيته القانونية والاجتماعية التي يمكن أن تعين ويشار اليها به . وأما مع الجهل به إلى جانب الجهل بشكله أيضاً ، فيكتسب بذلك نحواً من الغموض وعدم التعيين ، في ذهن السلطات ، فتحار عند التحث عنه ، انها تبحث عن أي شخص على وجه التحديد . وهذا الغموض – على أي حال – يعطي المهدي المبحوث عنه رهبة في صدورهم وهالة قدسية في احساسهم وشعوراً بالعجز تجاهه. وفي هذا ما فيه من التسبب إلى ضعف معنويات السلطة وخاصة الجنود الفاحصين المطاردين من قبل الدولة .
وطبقاً لهذا التكليف الثاني .. سمعنا الامام الهادي عليه السلام حين يبشر بحفيده المهدي (ع) يقول : لانكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره بإسمه . قال الراوي فقلت : فكيف نذكره؟ قال : قولوا : الحجة من آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
صفحة (277)
ونسمع عثمان بن سعيد العمري ، وهو الوكيل الأول للحجة (ع) يقول لمن يسأل عن اسمه :اياك ان تبحث عن هذا (1) . ويقول لآخر : نهيتم عن هذا(2) . وفي حادثة مشابهة يقول : ابنه الوكيل الثاني محرم عليكم أو تسألوا عن ذلك. ويضيف : ولا أقول هذا من عندي وليس لي ان احلل واحرم ، ولكن عنه عليه السلام يعني الحجة المهدي (ع). ولكننا لا نجد نهياً عن التسمية وارداً عن الامام العسكري عليه السلام ، وهذا له سبب نقوله في مستقبل البحث ان شاء الله تعالى .
والذي أود ايضاحه في هذا الصدد ، أن هناك احتمالاً راجحاً تؤكده الحوادث ، هو ان المراد من كتم الاسم كتم الشخص نفسه واخفاء ولادته عمن لا ينبغي أن يصل اليه الخبر. وعليه فهناك تكليف واحد بالكتمان متعلق بالولادة والأسم معاً ، بإعتبارهما يعبران عن معنى أصيل واحد . وليس المراد بكتمان الاسم حرمة التصريح به مع غض النظر عن حرمة التصريح بولادته المحافظة عليه بشكل عام .
ومن ثم نرى أن من يضطلع ببيان ذلك هو عثمان بن سعيد دون المام العسكري عليه السلام . وذلك : لما سنسمعه من ان السلطات بعد ان أيست من العثور على الوريث الشرعي للامام العسكري ، قررت الجزم بعدم وجوده اساساً ، وتقسيم ميراث الامام بين الورثة الآخرين .
ــــــــــــــــــ
(1) النظر الاكمال المخطوط . (2) الغيبة ص 215 .
(3) المصدر ص 219 .
صفحة (278)
وبذلك اسقطت السلطة وجود الحجة المهدي عليه السلام من حساب قانونها وغضت النظر عنه بالكلية . وان كانت المخاوف تبقى تعتمل في نفسها على ما سنسمع . ومن المعلوم والحال هذه ان أي تصريح جديد بإسم المهدي (ع) أو تلويح بشخصه أو تأكيد على ولادته ، سوف يثير من جديد التفات السلطات وتجديدها للمطاردة والبحث . وهذا هو الخطر الذي كان قد ابتعد عن الامام إلى حد كبير بعد يأس الدولة من العثور عليه .ومن هنا تأتي التأكيدات من قبل عثمان بن سعيد في هذا الزمن المتأخر نسبياً بالنهي عن التسمية .. فهو تارة يقول : أياك ان تبحث عن هذا . فإن عند القوم ان هذا النسل قد انقطع(1) والمراد بالقوم الحكام وبهذا النسل الأئمة عليهم السلام . ويعلله في رواية اخرى قائلاً : فإن الأمر عند السلطان ان ابا محمد (ع) مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه ، واخذه من لاحق له. وصبر على ذلك (2) . إلى غير ذلك من التأكيدات التي سنبينها في فترتها التاريخية الخاصة.
ومن الواضح ان اثارة السلطات من جديد لا يفرق فيه بين ذكر اسمه أو مولده ، أو التعرض لأي شأن من شؤونه.
وأما الامام الهادي عليه السلام ٍ، فالمظنون أنه يشير إلى خصوص هذه الفترة التاريخية ، أو اليها وإلى ما بعدها إلى انتهاء زمان الغيبة الصغرى ، فإن التصريح بإسمه والإخبار عن ولادته ووجوده ، كان خطراً عليه في مثل تلك الأزمنة .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الاكمال المخطوط .
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص 147 .
صفحة (279)
ومعه نعرف ان هذا الحكم غير ساري المفعول إلى ايامنا هذه ، إذ من المعلوم عدم وجود إي خطر عليه من التصريح بإسمه هذا اليوم .. ان لم يكن – بالعكس – متضمناً للدعوة اليه ونشر فكرته العادلة واهدافه الكبرى واما الامام الحسن العسكري عليه السلام ، فكان الموقف في ايامه مختلفاً عن الموقف في عصر الغيبة الصغرى الذي يبدأ بوفاته، ويفتتحه عثمان بن سعيد بسفارته عن المهدي (ع) فإن السلطات في ذلك العصر المتأخر كانت قد ايست من القاء القبض على المهدي عليه السلام ، حتى قررت الغاء وجوده القانوني كوريث شرعي لأبيه فكان في التصريح بإسمه اعادة للشك إلى ذهن السلطة . وأما في زمان ابيه عليهما السلام . فلم تكن السلطة قد التفتت إلى ولادته أو أحست بشيء يدل عليه . ومن المعلوم اختلاف الحالة النفسية عند السلطة بين كونها غافلة أساساً عن الشيء وبين كونها ملتفتة عاجزة آيسة . فإنها في هذه الحالة الثانية تكون أقرب ذهناً وأكثر توجهاً إلى تصيد الخبر الشارد واللفظ الوارد عن الامام المهدي عليه السلام .
إلا اننا سنلاحظ من الامام العسكري عليه السلام ، انه وان لم ينه عن التسمية .. إلا
انه ياخذ الحيطة من هذه الجهة .. فلا يصرح بإسمه لأحد من خاصته ممن يريهم ولده
المهدي ، بل يكتفي بقوله لهم : هذا
صاحبكم يعني أنه الإمام
بعده عليه السلام ،ويقتصر في التصريح باسمه على اقل القليل.
صفحة (280)
وفي الحقيقة أن
التكليف الشرعي الإسلامي، المتعلق بالإمام العسكري عليه السلام بالتبليغ ولإقامة
الحجة على وجود ولده والتكليف المتعلق بأصحابه بالإيمان بإمامهم الثاني عشر
....يكفي فيه هذا المقدار من الإطلاع وإن كان الإسم مجهولاً .إذ يكفيهم بينهم وبين
الله أن يؤمنوا بوجود إمام يرجعون إليه في الأحكام والمشاكل. ولا يتوقف ذلك على
معرفة شخصه وإمكان الإتصال به عن طريق سفرائه.
وإذ يريد الإمام العسكري عليه السلام ان يثبت وجود ولده المهدي (ع) ، يختار من
مواليه وأصحابه من كان له صلابة في الإيمان وعمق في الإخلاص ،وبخاصة اؤلئك
الذين يربطون بينه وبين قواعده الشعبية وينقلون منه وإليه المراسلات والتوقيعات.
فإنهم خير من يستطيع أن يبلغ خبر ولادة الحجة المهدي إلى الجماهير الموالية للإمام
(ع) فإن هذه الجماهير تعرف سلفاً وثاقة هؤلاء الأشخاص وإيمانهم وإخلاصهم واعتماد
الإمام عليهم في الربط بينه وبينهم.
ومن ثم لن يفرق شيئاً على الفرد من القواعد الشعبية الموالية بين أن يرى الإمام المهدي بنفسه أو يسمع عنه من أبيه ... وبين أن يبلغه وجوده محفوفاً بقرائن الإثبات من قبل هؤلاء الأصحاب الموثوقين ... يستلم الفرد منهم الخبر كما يستلم الفتوى من الإمام عليه السلام .
صفحة (281)
على اننا ستعرف أن الكثيرين من الأصحاب ، قد تيسرت لهم رؤيته. كان جملة من حاول الوصول إلى المهدي عليه السلام في الغيبة الصغرى ، تيسر له ذلك .إذن فيكفي الفرد الموالي أن يكثر السؤال من كثيرين ممن يعرف فيه التقدم والرسوخ في علاقته مع الإمام العسكري عليه السلام ، وممن شاهد ولده المهدي (ع) من غيرهم ... ليحصل عنده التواتر الموجب للعلم بوجود إمامه الثاني عشر . ولئن كان التواتر قد وصلنا من الطرق الخاصة والعامة إلى هذا العصر .. فكيف في ذلك الزمن الذي كانت كل القرائن تدل عليه وكل الأيدي تشير إليه ، وكان هم ابيه ووكلائه وأصحابه ... هو التأكيد على وجوده والتبليغ عنه إلى كل صالح للتبليغ.
ولعل أوسع إعلان يقوم به الإمام العسكري بين أصحابه عن ولادة ابنه وإمامته من بعده ، ووجوب طاعته عليهم ، وانه عليه السلام قبل وفاته بأيام ، وقد كان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه ، منهم محمد بن عثمان العمري ومعاوية بن حكيم ومحمد بن ايوب بن نوح ..... يعرض عليهم ابنه عليه السلام ويقول: هذا امامكم من بعدي وخليفتي عليكم .اطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في اديانكم . ويضيف منبهاً لهم إلى ان هذه هي فرصتهم الوحيدة في المهدي (ع) قائلاً: اما انكم لا ترونه بعد يومكم هذا(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) انظرإكمال الدين – نسخة مخطوطة.
صفحة (282)
ونجد أنه عليه السلام عرض على ولده وعلى اصحابه في اليوم الثالث من ولادته ،واعطاهم المفهوم الصحيح الأساسي الذي أوكله الله تعالى إليه ،وعين لهم تكليفهم تجاهه بصفته الإمام بعد أبيه .وقال لهم : هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم ..وهو القائم الذي تمد إليه الأعناق بالإنتظار .فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً ، خرج فملأها قسطاً وعدلاً.
فهذا وذاك هو الإعلان الرسمي الكبير الذي قام به الإمام العسكري عليه السلام ،على طرفي المدة ، بعد الميلاد وقبل الوفاة ...لكي يكون هو الأساس الضخم لإقامة الحجة تجاه القواعد الشعبية الموالية ، وكان خلال هذه المدة يعرضه على أشخاص بمفردهم حين يزورونه. فمنهم: عمرو الأهوازي حيث أراه أبو محمد (ع) ولده المهدي (ع) وقال: هذا صاحبكم(1).
ومنهم شخص آخر يزور الإمام عليه السلام ويريد أن يتأكد من وجود الإمام بعده قائلاً : يا سيدي من صاحب هذا الأمر ، يعني الإمامة. فيأمره الإمام العسكري (ع) برفع ستر كان مسبلاً على باب غرفة إلى جنبه ،فيرفعه الرجل فيخرج إليهم غلام يقدره الراوي بعشر أو ثمان سنين، واضح الجبين أبيض دريّ المقلتين شثن الكفين معطوف الركبتين ، في خده اليمن خال ،وفي رأسه ذؤابة . فيجلس على فخذ أبي محمد عليه السلام ، فيقول الإمام للرجل هذا هو صاحبكم ، ثم وثب الغلام فقال له أبوه كيا بني ادخل إلى الوقت المعلوم(2) يعني وقت ظهوره عجل الله فرجه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال المخطوط
(2) انظر الإرشاد ص329وص330 مكرراً.
صفحة (283)
ولا يخفى في تقدير الراوي لعمر المهدي عليه السلام ، لا ينافي من عرفناه من أن عمره حين وفاة أبيه خمس سنين ، فإن هذا بحسب عدد السنين هو الصحيح ،وأما بحسب النظر إلى نمو المهدي عليه السلام ونشاطه البدني ، فلا يمكن أن نستبعد أن يبدو في ظرف خمس سنين أو أقل كابن ثمان سنين أو أكثر . وذلك انطلاقاً من أحد أساسين :
الأساس الأول: الميزان الطبي الطبيعي: فإنه من المشاهد وجداناً أن كثيراً من الناس لا يمكنهم تقدير اعمارهم بشكل دقيق ، إذ يبدو للناظر أنهم أكبر من عمرهم الحقيقي بعدة سنوات أو أصغر بعدة سنوات .
فإذا أضفنا إلى ذلك نشاطاً متزايداً وصحة موفورة لم نستبعد أن يبدو الصبي على ضعف عمره الحقيقي ...حتى على الموازين الطبية الطبيعية .
الأساس الثاني : ما ورد في بعض رواياتنا من أن نمو الإمام المعصوم يكون عادة أسرع من غيره . فمن ذلك ما ورد عن الإمام العسكري (ع) نفسه يقول: عن اولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم . وأن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين المخطوط
(2) انظر إكمال الدين المخطوط.
صفحة (284)
ولعل بالإمكان ان نفسر هذا الأساس الثاني بالأساس الأول أيضاً ، والله العالم .
وممن عرضه عليه الإمام العسكري عليه السلام ، رجل من أهل فارس قصد الإمام عليه السلام لتشرفه بخدمته .فأذن له الإمام بذلك ، فكان مع الخدم يشتري لهم الحوائج من السوق .وبقي على هذه الحال حتى أصبح خاصاً وارتفعت الكلفة بينه وبين الإمام ..فكان يدخل الدار من دون استئذان إذا لم يكن فيها إلا الرجال.
وبينما هو داخل عليه في يوم من الأيام ، والرجال عنده ، إذا سمع حركة في البيت – يعني الغرفة - .وناداه الإمام: مكانك لا تبرح . يقول : فلم أجسر أخرج ولا أدخل .فخرجت عليّ جارية معها شيء مغطى .ثم أن الإمام ناداه وأمره بالدخول فدخل الغرفة .فنادى الجارية فرجعت ، فأمرها الإمام ان تكشف ما معها ، فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه، قدره الراوي بسنتين .وقال الإمام : هذا صاحبكم .ثم أمر الجارية فحملته فلم يره بعد ذلك حتى توفي الإمام العسكري أبو محمد صلوات الله عليه(1).
فنرى هذا البواب بالرغم من ملازمته للدار ودخوله من دون استئذام أحياناً ..لم يفهم بولادة الإمام المهدي عليه السلام ولم يحس بتجدد أي امر جديد في الدار .واكتفى الإمام العسكري (ع) بعرضه عليه مرة واحدة كما هو الشأن مع جملة أصحابه وخاصته .بل حتى لو فرضنا أن هذا البواب قد ورد إلى خدمة الإمام (ع) بعد ميلاد ولده عليه السلام ، فإنه أيضاً لم يفهم به إلا في اليوم الذي شاء له الإمام ذلك .
ـــــــــــــــــــ
(1) أنظر الإكمال المخطوط .وأوصول الكافي ( مخطوط)
صفحة (285)
وهذه الرواية وإن كان المفهوم السطحي منها يدل على اختصاص الرؤية بهذا البواب ، لكننا لو دققنا النظر نجد ان الرجال الذين كانوا عند الإمام والجارية التي جاءت بالمهدي (ع) كلهم قد شاهدوه بطبيعة الحال . وإن كان الراوي ناقلاً للقصة من زاويته الخاصة .
وممن عرضه الإمام العسكري عليه رجل من أصحابه يقول: رأيت صاحب الزمان عليه السلام ووجهه يضيء كالقمر ليلة البدر ، ورأيت على سرته شعر يجري كالخط ، وكشفت الثوب عنه . فوجدته مختوناً .فسألت أبا محمد (ع) عن ذلك فقال : هكذا ولد وهكذا ولدنا ، ولكننا سنمر الموس عليه لإصابة السنة(1) ، يشير بذلك إلى أن القانون العام في الأئمة عليهم السلام أن يولدوا مختونين ..ولكن السنة الإسلامية في الختان لا ينبغي أن تتخلف عن أحد . فلا بد من إمرار الموس عليه تحفظاً على شكل الختان ، وعلى التعليم الإسلامي العام.
ومن هنا تعرف أن هذه الرؤية كانت قبل امرار الموسى ، وهو ما يستحب عمله في الإسلام في اليوم الثالث أو السابع من حياة الطفل .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال المخطوط.
صفحة (286)
وممن عرضه الإمام العسكري (ع) من أصحابه :أحمد بن اسحاق بن سعد الأشعري ،وهو من خاصة الإمام وتقاته ، وأعطاه الفكرة الواعية الصحيحة عن غيبة الإمام المهدي ، وافهمه عدة براهين عن إمكان الغيبة وصحتها ، ومجال البحث والتدقيق في هذه البراهين ليس هو هذا الكتاب ، بعد أن مقتصراً على الجهة التاريخية للإمام المهدي عليه السلام ، ولعلنا نستقصي الكلام فيها في بحث مقبل.
وعلى أي حال فإن احمد بن اسحق يقصد زيارة الامام عليه السلام يريد ان يساله الخلف من بعده ... ومن يتولى الامامة بعد وفاته ويضطلع بشؤون الأمة عند ذهابه إلى ربه، فيدخل على الإمام، فيقول له الإمام مبتدئاً: يا احمد بن اسحق ان الله تبارك وتعالى لم يخل الارض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى ان تقوم الساعة ، من حجة على خلقه ، به يدفع البلاء عن اهل الارض وبه ينزل الغيث وبه تخرج بركات الارض.
قال: فقلت: يا ابن رسول الله .فمن الامام والخليفة بعدك؟
فينهض الامام عليه السلام مسرعاً ويدخل احدى الغرف ، ثم يخرج وعلى عاتقه غلام كان وجهه القمر ليلة البدر .من ابناء ثلاث سنين .
ثم يقول: يا أحمد بن اسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا .إنه سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيه(1) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن اسحق ، مثله في هذه الأمة مثل الخضر عليه السلام ،ومثله مثل ذي القرنين .والله ليغيبن غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله عز وجل على القول بإمامته ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه.
ـــــــــــــــــــ
(1) أي أنه متحد معه (ص) في الأسم والكنية .
صفحة (287)
قال احمد بن اسحق : فقلت : يا مولاي فهل من علامة يطمئن بها قلبي .فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربي فصيح ، أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه ، ولا تطلب أثراً بعد عين ، يا أحمد بن اسحق.
قال أحمد بن اسحق: فخرجت مسروراً ، فلما كان الغد عدت إليه ، فقلت له: يا ابن رسول الله ، لقد عظم سروري بما مننت علي فما السنة الجارية من الخضر وذي القرنين ، قال: طول الغيبة يا احمد . قلت : يا رسول الله : إن غيبته لتطول. قال: أي وربي حتى يرجع عن الأمر وأكثر القائلين به ، فلا يبقى إلا من أخذ الله عز وجل عهده بولايتنا وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه . يا احمد بن اسحق هذا أمر من أمر الله وسر من سر الله وغيب من غيب الله ، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين ، تكن معنا في عليين.
وفاة الإمام العسكري (ع):
وإذ يؤدي هذا الإمام الممتحن الصابر مسؤوليته التامة تجاه دينه ومجتمعه وولده ، يريد الله تعالى أن يلحقه بالرفيق الأعلى ..وذلك عام 260 للهجرة ... حيث اعتل عليه السلام في اول يوم من شهر ربيع الأول من ذلك العام (1) ولا زالت العلة تزيد فيه والمرض يثقل عليه حتى توفي في الثامن من الشهر.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص325والمناقب ص524 ج3.
صفحة (288)
ويتوفى سلام الله عليه، عن تسع وعشرين سنة من العمر ، وقد سبق أن ذكرنا أن الغالب في البشر أن يكون الفرد في مثل هذا العمر في أوج الصحة والقوة ، فما الذي أودى بهذا الإمام الممتحن الصابر في زهرة شبابه ، غير العمل التخريبي من قبل الجهاز الحاكم ، ولم يكن ينقل عنه ضعف في المزاج أو اعتلال سابق في الصحة أو مرض وراثي ، ولا أي شيء غيره.
وبمجرد أن يعتل الإمام عليه السلام يصل الخبر إلى الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، الذي رأينا الإمام (ع) يزوره في بعض الأيام فيحتفي به حفاوة بالغة .ويقول لولده أحمد حيث سأله عنه :يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره.
وهنا تنتصب أمامنا همزة استفهام كبيرة ...في سبب الوصول السريع لهذا الخبر إلى الوزير .ربما كان ذلك إنتشار الخبر في المجتمع باعتبار شعور المجتمع بالأسف تجاه مرض الإمام عليه السلام .وربما كان عن طريق ما لديهم من العيون والمخبرين المنتشرين بين أفراد الشعب المطاردين للإمام ومواليه .وربما كان الإطلاع الوزير على سبب مرضه باعتباره ناشئاً من الجهاز نفسه، وهو إلقاء السم إليه من قبل بعض المجرمين من محسوبي الدولة ، والذي يبعد الإحتمالين الأولين ما عرفناه من انعزال الإمام واحتجابه حتى من مواليه وجملة من أصحابه فضلاً عن عيون الدولة ومخبريها ..
صفحة (289)
فكيف يصل الخبر بمثل هذه السرعة الى الوزير ، ما لم يتحقق الإحتمال الثالث ، وهو علم الوزير بالسبب ،ومن هنا نراه يعرف ويجزم أن الإمام يشرف على الموت، ولا يبدي احتمالاً في شفائه ، وإنما يعيّن له الجماعة التي تلازمه وترقب ساعة موته . فلو لم يكن يعرف السبب لفكر باحتمال شفائه ولو باعتباره شاباً قوي البنية لا تؤثر فيه الأمراض عادة.
وعلى أي حال ، فهو يركب من ساعته الى البلاط ..دار الخلافة ..لكي يخبرالخليفة بمرض الإمام (ع) ويستصدر منه الأمر بتعيين جماعة من خدمه الثقات لديه للإشراف على حال الإمام ومراقبته في صورة القيام بخدمته وتنفيذ حاجاته ، وهكذا كانت السياسة العباسية تجاه الإمامين العسكريين ،وكان الإكرام والإعظام يستبطن دائماً قصد المراقبة والمطاردة والتنكيل .وقد رأينا ذلك من المتوكل تجاه الإمام الهادي عليه السلام ، بكل وضوح ،ونراه بوضوح الآن أيضاً.
ثم يرجع الوزير مستعجلاً ، ومعه خمسة من خدم المعتمد كلهم من ثقاته وخاصته، منهم نحرير الخدم. ومن نحرير هذا! أنه الذي تولى سجن الإمام عليه السلام في يوم من الأيام ، وكان يضيق عليه ويؤذيه، وحلف: والله لأرمينه إلى السباع .
ويأمرهم الوزير بلزوم دار الحسن عليه السلام وتعرف خبره وحاله، فإن الإمام في مثل هذا الحال يحتاج إلى الرعاية الدائمة والدولة تحتاج إلى الإتصال الدائم بإخباره ومعرفة ساعة وفاته .وتحتاج إلى معرفة أمر آخر ..أعمق من ذلك وأعقد .. وهو السر العميق الذي لا زال الإمام(ع) يحافظ على كتمانه خمسة أعوام متطاولة ....وهو وجود ولده المهدي (ع).
صفحة (290)
فلعل بقاء الخدم الخمسة في الدار ومرابطتهم الدائمة فيها .. تنتج ولو صدفة – إطلاع أحدهم على أي تصرف مريب أو على أي همزة للإستفهام تدل الطريق على الإمام المهدي عليه السلام.. والدولة كما عرفنا ، لم تكن مطلعة إلى ذلك الحين على ولادته ..ولكنن قلنا أنها كانت تعرف الحق ، وتعترف في دخيلة ضميرها بصدق الإمام ..فهي تتوقع – بكل وضوح- إنجاب الإمام العسكري (ع)) للمهدي وها قد أوشكت حياته على الإنتهاء ، ولم يبلغها وجود ولده ،إذن فهي تحاول جاهدة أن تعرف ..وأن تنسم الهواء .وأن تتشمم الأنباء عن ذلك بكل طريق .
وبعث الوزير إلى نفر من المتطببين ، فأمرهم بزيارته وتعهده صباحاً ومساءً .إلا أن طبهم لم يكن مجدياً ورأيهم لم يكن حصيفاً ...ولعلهم لم يباشروا العلاج بشكل حقيقي يتوقع ممه الشفاء ، فإنه لم يمر إلا يومين أو ثلاثة حتى أوصلوا الخبر إلى الوزير بأن الإمام قد ضعف وأن حاله قد ثقل ..فأمر هؤلاء الأطباء بملازمة داره وعدم مغادرته.
وبعث إلى قاضي القضاة ،وهو على ذلك الحين : الحسين بن أبي الشوارب الذي تولى هذا المنصب منذ عام 252هـ(1) فأحضره إلى مجلسه فجاءه ابن أبي الشوارب ، فأمر الوزير ان يختار عشرة ممن يوثق بدينه وورعه وأمانته ... فاختارهم له وأحضرهم.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص334
صفحة (291)
فأرسلهم الوزير إلى دار أبي محمد الحسن عليه السلام ..حيث الإمام المريض(ع) وأمرهم بملازمته ليلاً ونهاراً. إذن فقد أصبح عدد الملازمين له – سوى الأطباء – خمسة عشر نفراً من قبل الدولة ، وكلهم في حالة مراقبة وإنصات وتأهب ، ويبقون ملازمين له حتى يتوفى عليه السلام.(1)
ولكن وجود هؤلاء القوم في الدار ، لم يمنع الإمام من أن يتفرغ في ليلة وفاته في إحدى غرف الدار ، لأجل كتابة عدد كبير من الكتب إلى المدينة ... وأن يرسل رسولاً إلى المدائن بكتبه ..كل ذلك لأجل حفظ عدد من المصالح الأجتماعية والتخطيط لها إلى ما بعد وفاته عليه السلام.
وإذ يطلع الفجر من اليوم الثامن من ربيع الأول ، لا يكون ساعتئذ معه في الغرفة إلا صقيل الجارية ، وهي نرجس أم المهدي عليه السلام ،وعقيد الخادم ،وهو من خدم الإمام عليه السلام – تقول الرواية -: من علم الله عز وجل غيرهما .تشير إلى وجود ولده المهدي عليه السلام أيضاً معهم .
فيأمر الإمام عليه السلام أن يؤتى بماء مغلي بالمسطكي ، فجاؤا به في قدح .فيقرر الإمام البدء بأداء الصلاة أولاً ..ويأمرهم بأن يساعدوه .فجاؤا له بمنديل وبسطوه في حجره لأجل الوضوء .فيأخذ عليه السلام من صقيل الماء ويتوضأ ويصلي صلاة الصبح على فراشه ...
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص319
صفحة (292)
وإذ ينتهي من الصلاة يأخذ القدح لكي يشرب ، فيستولي عليه ضعف المرض ، فترتجف يده ، ويضرب القدح ثناياه مع حركة اليد الرتيبة ،ولم يستطع أن يستمر بالشرب ،فتأخذ صقيل القدح من يده .فيستلقي ويسلم الروح من ساعته صلوات الله عليه(1).
وبذلك نفهم أن الإمام استطاع بطريقته في الإخفاء والرمزية ، وبلبلقته الإجتماعية ..أن يقضي الرجال الخمسة عشر، عن مجاوراته ويحجبهم عن أموره الخاصة، فيكمل ما ينبغي أن يقوم به من أعمال قبل أن تدركه المنية ، ثم يتوفى بمعزل عنهم.
وإذا كان هذا النشاط الذي قام به ، قد خفي عليهم ، فمن الأولى والأوضح أن يخفقوا في مهمتهم الأساسية..، يبقى ما هو أهم في الإخفاء وأعمق في عور الإبهام عليهم .. وهو وجود المهدي عليه السلام ..يبقى في حجابه وخفائه .. لم يستطيعوا أن يجدوا له أي أثر أو يقعوا على ما يؤدي إليه أو يدل عليه.
وبمجرد أن يذاع خبر وفاته في سامراء ،وهي البلدة التي يؤمن كل من فيها بأن الإمام خير من فيها علماً وزهداً وعبادة ونسباً ، لا يختلفون في ذلك باختلاف مناصبهم وأعمالهم باختلاف ولائهم وعدائهم .فمن الطبيعي لهذه البلدة وهي تفقد هذا الرجل العظيم أن تضج ضجة واحدة ، وإن تعطل أسواقها ، وأن يجتمع الناس للشهادة والسير في جنازة الإمام عليه السلام .حتى كان ذلك اليوم شبيها ً بيوم القيامة وركب بنو هاشم والكتاب والقضاة والمعدلون إلى جنازته وتجهيزه .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال ( المخطوط)
صفحة (293)
وإذ يفرغون من تهيئته وتجهيزه، يبعث الخليفة المعتمد إلى أخيه أبي عيسى بن المتوكل ، فيأمر بالصلاة عليه. فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه ، دنى أبو عيسى منه ، فكشف عن وجهه ، فعرضه على الحاضرين من بني هاشم من العلويين والعباسيين والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين وقال – ما أطرف ما قال - هذا الحسن بن علي بن الرضا عليهم السلام ، مات حتف أنفه على فراشه .
وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان . ثم غطى وجهه وصلى عليه وأمر بحمله.
إن ذهن الجهاز الحاكم ، المتمثل الآن بأبي عيسى بن المتوكل ، مشحون بالتوجس والحذر، مما يرونه مرتسماً في أذهان الناس بوضوح ، وإن لم تصرح به الأفواه ،وهو التهمة للجهاز الحاكم بأنه هو الذي سبب موت الإمام عليه السلام بشكل أو آخر ، لأنه كان يمثل دور المعارضة الصامدة الصامتة ضده .ولعلنا نستطيع الآن أن نلمس اللاعج الكبير الذي يختلج في ذهن الجهاز الحاكم بعد أن أجهز على الإمام فعلاً وتسبب إلى موته حقيقة ..إنه يريد – بأي طريق – أن يبقى هذا الأمر في غاية الخفاء ،وأن يبقى ثوبه ، على المستوى العام ..
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص320
صفحة (294)
أبيض نقياً من دم الإمام عليه السلام حتى لا يبوء بلعنة التاريخ وانتقام الأمة ،والمثل يقول : يكاد المجرم أن يقول خذوني انظر إلى الأسلوب الطريف الذي نفيت به هذه التهمة إن الدولة تستخدم شخصيتها وقوتها في (الفتوى) بنزاهتها، أمام هذا الجمع الغفير، وتتخذ من سكوت الجمع دليلاً على الموافقة. متغاضية عن أن شخصاً من هؤلاء لا يمكنه ، بأي حال ، أن يفتح فاه بأي اعتراض أو استنكار ، وإلا سيكون مصيره معروفاً لدى لجميع.
والأطرف من ذلك ، أن جميع الحاضرين ،وكل المجتمع متسالمون على ذلك في نفوسهم ، ويعلمون شأن هذه (الفتوى) إلا إنها الأسلوب الغريب الذي تلجأ إليه السلطات رغم كل ذلك .
وكانت هناك صلاة أخرى ...خاصة.. قد صليت على الإمام قبل ذلك في داره ...بعيداً عن المستوى الرسمي العام الذي سمعناه .. بين أصحابه ومواليه.
وهنا تبرز شخصية جديدة لم تكن قد برزت في التاريخ لحد الآن ، هي شخصية (جعفر بن علي) أخو الإمام العسكري وعم الإمام المهدي عليهما السلام ..وهو الذي سيكون له الأثر السيء في إثارة السلطة على عائلى الإمام عليه السلام على ما سوف نسمع في مستقبل الحديث.
يرى جعفر ان الإمام العسكري(ع) سوف لن يكون له خلف ظاهر ورريث واضح ، إذن فهناك فرصة موسعة للإصطياد بالماء العكر .
صفحة (295)
ولا بد – في نظره – من استغلال هذه الفرصة للوصول إلى التزعم على القواعد الشعبية الموالية لأخيه ، واستقطاب الأموال التي كانت ولا تزال تحمل إليه من أطراف البلاد الإسلامية ،والحصول على إرث أخيه العسكري عليه السلام . ويتم كل ذلك بإدعاء الإمامة بعد أخيه .. وأول مستلزمات ذلك وأقربها هو أن يباشر الآن الصلاة عليه.
ومن ثم نجد الإمام العسكري (ع) بعد وفاته ، وقبل إخراجه للجمهور ، مسجى في داره .وجعفر بن علي واقف على باب الدار يتلقى من موالي أخيه التعزية بالوفاة والتهنئة بالإمامة ،وهو مرتاح له كأنه هو الوضع الطبيعي. ولا يخفى أن إجمال الفكرة في أذهان هؤلاء من حيث وجود ولد عند الإمام وعدم وجوده ..ساعد على هذا الإيهام إلى حد كبير .وقد عرفنا أن الظروف القاسية التي عاشها الإمام عليه السلام لم تكن مساعدة بأي حال على إيضاح الفكرة وإبلاغ المفهوم إلى سائر القواعد الشعبية في العاصمة وغير العاصمة .
ولكنا سنسمع بعد قليل مخطط جعفر بن علي قد مات في مهده ولم يكتب له النجاح .واستطاع الإمام المهدي أن يستقطب عواطف وقيادة مواليه ..أما مباشرة أو عن طريق نوابه وسفرائه على ما سنعرف.
صفحة (296)
وبعد قليل يخرج عقيد الخادم ، الذي سمعنا اسمه في حادثة الوفاة . ويقول له : يا سيدي قد كفن أخوك ، فقم للصلاة عليه فيدخل جعفر ويدخل جماعة من الشيعة يقدمهم عثمان بن سعيد العمري المعروف بالسمان ، الذي سيصبح النائب الأول للإمام الغائب فيرون الإمام العسكري صلوات الله عليه على نعشه مكفناً .فتقدم جعفر بن علي ليصلي على اخيه.
وإذ صلى جعفر ، فقد اكتسب في نظر المجتمع بعض الحق ،ووضع لبنة أساسية في مخططه ، وحصل على سابقة قانونية يمكنه أن ينطلق منها للتغرير بجماهير الموالين ،وهو ما لا يمكن أن يحدث مع وجود الإمام المهدي (ع) وقدرته على الأخذ بزمام المبادرة لدفه هذه الشبهة ، ورفع البدعة ،وإنقاذ مواليه من التورط بغير الحق من حيث لا يعلمون.
إذن فلا بد أن يبادر الإمام المهدي (ع) إلى منع عمه عن الصلاة على الإمام (ع) ويحرمه من هذه ( السابقة القانونية)، ويجوز هذه السابقة لنفسه ،وهو أحق بذلك ..لكونه الإمام بعد أبيه والوريث الشرعي له .ومن ثم يشاهد الواقفون صبياً يخرج بوجهه سمرة بشعرة قطط بأسنانه تفليج ، فيجذب رداء جعفر بن علي ويقول له: تأخر يا عم ، فأنا أحق بالصلاة على أبي . فيتأخر جعفر ، من دون مناقشة، وقد اربد وجهه وعلته صفرة ، ويتقدم الصبي عليه السلام ، ويصلي على أبيه(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) إكمال الدين (المخطوط)
صفحة
(297)
لاحظ معي ... أنه كان في إمكان المهدي (ع) أن يصلي على جثمان أبيه في الخفاء قبل أن يدعي جعفر للصلاة عليه ...لكي تبقى صلاة جعفر بن علي هي الصلاة الرسمية على المستوى الخاص ..إلا أن هذا هو الذي لا يريده المهدي ، ويحاول التأكيد على نفيه و(إقامة الحجة) ضده.
انظر الآن ..أن من جملة الواقفين إن لم يكن أكثرهم ، هو ممن هنى جعفر لإمامة قبل لحظات ..يرى الآن بأم عينه فشل جعفر ، وتتضح أمامه بدعته ومغالطاته ،وسوف يكون كل فرد لساناً في نقل ما راى من الحق إلى الآخرين ...فقد كان ذلك بمنزلة الإعلان العام من قبل الإمام المهدي (ع) في فضح مخطط عمه وإحباط مقصوده.
وكان جعفر ليناً في تأخره عن الصلاة ..بالرغم من اصفرار وجهه، أسفاً على فشل مخططه ،وخجلاً من هؤلاء الحاضرين الذين تقبل منهم التهنئة بالإمامة، من دون أن ينفيها عن نفسه ..إنه على أي حال ، لا يستطيع مكافحة الحق الراسخ في ضمير الأمة، بسنة رسول الله (ص) وجهود الإمام العسكري (ع) ..فإنه سيفتضح إن فعل ذلك ..أكثر مما هو عليه ... وسوف لن يرى إلا الإشمئزاز والإزورار من القواعد الشعبية التي يتوقع منها التأييد.
وعلى أي حال ، فبعد أن تنتهي هذه الصلاة الخاصة، يحمل جثمان الإمام عليه السلام للجمهور لكي تصلى عليه صلاة أخرى (رسمية!) ويتم تشييعه وحمله إلى مثواه الأخير ، وقد دفن إلى جنب أبيه الهادي عليهما السلام.
صفحة
(298)
جعفر بن علي
يحسن بنا الآن ان نستعرض بإيجاز سوابق جعفر بن علي وماضيه حتى يتضح لنا التحديد التام لموقفه ، وما سيقوم به من نشاط .
وأول ما يواجهنا من ذلك ، موقف أبيه الإمام الهادي عليه السلام منه ، في اول ولادته ، حيث نرى ان العائلة كلها سرت بولادته سوى أبيه (ع) فسألته امرأة في ذلك .فقال : هوني عليك وسيضل به خلق كثير(1).
ولما ترعرع وشب انحراف عن تعاليم الإسلام وعن توجيه والده وإمامه عليه السلام ،واتخذ طريق اللهو وشرب الخمر والمجون تأثراً بهذا الخط المنحرف الذي كان يعيش على موائده الكثيرون في تلك العصور .
ومن ثم نرى والده عليه السلام يأمر أصحابه بالإبتعاد عن جعفر وعدم مخالطته ، معلماً إياهم بأنه خارج عن تعاليمه عاصي لأمره ونهيه .وكان يقول لهم : تجنبوا ابني جعفراً ، فإنه مني بمنزلة نمرود من نوح الذي قال الله عز وجل فيه :قال نوح :إن ابني من أهلي :قال الله : يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (2) فإن المنطق القرآني ، قائم على ان الوالد إذا كان مقتفياً خطى والده في اتباع الحق فهو ولده على الحقيقة .وأما إذا كان زائغاً عن الحق منحرفاً عن طريق العدل ...فهو وإن كان مولوداً منه ، لا أنه ليس من أهله ، لأنه عمل غير صالح.
ـــــــــــــــــــ
(1) كشف الغيبة ج3 ص175
(2) انظر تاريخ سامراء ج2 ص251. نقلاً عن مدينة المعاجر.
صفحة
(299)
وهذا بعينه هو حال الإمام الهادي عليه السلام مع ابنه جعفر .
وأصبح هذا المسلك معروفاً عنه مشهوراً فيه ، حتى لنرى أن أحمد بن عبيد الله بن خاقان ، الذي يروي اجتماع والده بالإمام العسكري عليه السلام ، نراه إذ سألوه عن جعفر يقول : ومن جعفر فيسأل عن خبره أو يقرن بالحسن (ع) . جعفر معلن بالفسق فاجر شريب خمور.
أقل من رأيته من الرجال ،واهتكهم لنفسه ، خفيف ، قليل في نفسه (1). ونرى أبا الأديان حين رأى حعفر يهني بالإمامة – كما سمعنا – يقول في نفسه : إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة ، ويضيف لأني كنت أعرف بشرب النبيذ ويقام في الجوسق -: القصر – ويلعب بالطنبور(2).
ولكنه بالرغم من ذلك ، كان يحاول اخوه الإمام العسكري عليه السلام جهد الإمكان ، الستر عليه والتخفيف من انحرافه .وذلك : باستصحابه معه تارة ،وبالتوسط لدى السلطات تارة أخرى ،وهكذا .
إلا أن ذلك لم يكن مفيداً في كفكفة جماح جعفر أو التخفيف من إنحرافه .
فقد سمعنا في فصل تاريخ الإمام العسكري عليه السلام أنه يدخل على اصحابه في السجن لأجل أن يبشرهم بموعد خروجهم ، ويدلهم على رجل كان عيناً للسلطات ضدهم ،وكان معه أخوه جعفر.(3)
ـــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص319. (2) أنظر إكمال الدين ( المخطوط)
(3) أعلام الورى ص354
صفحة
(300)
وقد كانا معاً مسجونين في عهد المعتمد ، فيرسل المعتمد رسولاً إلى السجن لأجل إبلاغ الإمام العسكري سلامة ولإطلاق سراحه .وحين يصل الرسول يجد على الباب حماراً ملجماً والإمام قد لبس خفه وطيلسانه ، فأدى له الرسالة .يقول الراوي :فلما استوى على الحمار ، وقف .
فقلت له: ما وقفك يا سيدي. فقال لي: حتى يجيء جعفر .فقلت: إنما أمر بإطلاقك دونه .فقال له: ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دار واحدة جميعاً ، فإذا رجعت وليس هو معي ،كان في ذلك ما لا خفاء به عليك.
فمضى الرسول وعاد
يقول المعتمد :قد أطلقت جعفراً لك ، لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك ،وما يتكلم
به ، فخلى سبيله فصار معه على داره(1).
وكل ذلك لم يكن يؤثر في جعفر، في شدة انحرافه وقوة اندفاعه ، ونراه أنه بمجرد أن
يرى أخاه قد أسلم الروح ، يتصدى للإصطياد بالماء العكر، واستغلال الموقف
بالشكل الذي يحرز به الزعامة وجباية الأموال ..لولا أن الله تعالى أتم نوره ولو كره
المنحرفون.
ويستفاد من الأخبار، ان لهذا لرجل ، بصورة رئيسية ، ثلاث نشاطات منحرفة مضادة للحق وللإمام المهدي عليه السلام .
ـــــــــــــــــــ
(1) ناريخ سامراء ج2 ص256
صفحة (301)
أولاً : ادعاؤه الإمامة بعد أخيه الحسن بن علي العسكري عليهما السلام ،وقد توسل إلى ذلك بوسائل منها :ما سمعناه من محاولته الصلاة على أخيه .ومنها ما سنسمعه من توسطه عند الدولة في ان تجعل له مرتبة أخيه في الزعامة على القواعد الشعبية الموالية .وقد باء في كلتا لمحولتين بالفشل الذريع.
ثانياً: إنكاره وجود الوريث الشرعي للإمام العسكري (ع) ،ومن ثم ادعاؤه استحقاق التركة ، واستيلاؤه عليها بإذن من السلطات الحاكمة .وسنجد أن الإمام المهدي عليه السلام يقف بنفسه ضد هذا النشاط بشكل لا ينافي مع غيبته الصغرى.
ثالثاً:إنه حين يسمع الإحتجاج عليه ، يوعز إلى الدولة باحتمال وجود المهدي (ع) ، فتتجدد في قلبها الشجون، وتبدأ سلسلة من المطاردات والإعتقالات على ما سوف يأتي ،وتنتهي الحملة بإضطهاد الموجودين من عائلة الإمام العسكري عليه السلام ، وعدم العثور على الإمام المهدي عليه السلام.
وهذا هو الذي عبر عنه في الأخبار يكشف ما أوجب الله عليه كتمانه وستره.
ونحن لا بد أن نسير مع كل واحد من هذه النشاطات ، لنرى مخطط جعفر بن علي ونتائجه ،واسلوب وقوف المهدي (ع) ضده .
ادعاؤه الإمامة بعد أخيه:
وقد ساعدت عدة أمور على تخطيط هذا الإدعاء ، أو تخيلها جعفر مساعدة له:
الأمر الأول: ما قلناه من خلو الجو على الصعيد الإجتماعي من منافس ظاهر مطالب بحقه بين الناس ،وإذا خلا الجو للقبرة كان لها أن تبيض وتصفر ، وللمنحرف أن يصطاد بالماء العكر.
صفحة (302)
الأمر الثاني: ما قلناه أيضاً من إجمال فكرة وجود المهدي (ع) وولادته فعلاً ، في أذهان الناس .الأمر الذي ساعد عليه ما عرفناه من عدم تمكن الإمام العسكري عليه السلام من الإعلان الإجتماعي العام عن وجود ولده ..،كان يوصي كل من يعرضه عليه بالكتمان ووجوب الستر والسكوت.
الأمر الثالث: ما حاول جعفر من الصلاة على أخيه ، باعتبار أنها تعطيه (سابقة قانونية) يستفيد منها اجتماعياً في إدعائه للإمامة . لأن المفروض أنه لا يصلي على الإمام إلا وريثه الشرعي أو الإمام الذي بعده ، على ما نطقت به بعض الأخبار .
الأمر الرابع : توسطه إلى الدولة ، لكي تجعل له مثل مقام أخيه في شيعته ، بإزاء مال سنوي يدفعه إليها مقابل عشرين ألف دينار (1).
انظر إلى مقدار الربح الذي يتوقعه جعفر حين وصوله إلى هدفه وتوليه الإمامة المزعزمة ..بحيث يستطيع أن يتحمل بها مثل هذه الغرامة السنوية الكبيرة .
وهذا يفسر لنا لإطلاعه على مقادير الأموال التي كانت تصل من أطراف العالم الإسلامي إلى أبيه وأخيه، وتقديره للموقف من هذه الناحية تقديراً حسناً.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص320 وغيره.
صفحة (303)
أنه يشعر بذلك ويريد أن يستفيد منه لمصالحه الخاصة ، من دون أن ينظر بعينه للمصادر التي كان أبوه وأخوه عليهما السلام يصرفان فيها هذه الأموال، والمشاريع والمساعدات الإجتماعية التي كانا يقومان بها ، مما سمعنا طرفاً منه فيما سبق .
وقد باءت كل هذه الأمور بالفشل ، بسبب عدة عوامل استطاعت أن تحول ضد نجاحها واستشراء نتائجها:
العامل الأول:
كونه مشهوراً بالفسق واللهو والمجون .. وقد سمعنا تعليق أحدهم وهو يرى جعفراً يهنأ بالإمامة، بقوله: إن يكن هذا هو الإمام ، فقد بطلت الإمامة.
ومن المعلوم أن جميع أفراد المجتمع ،وخاصة القواعد الشعبية الإمامية ، يدركون أن من أوليات وواضحات سلوك الإمام هو السلوك الصالح والخلق المثالي الرفيع ...كذلك اعتادوا من الإمامين العسكريين عليهما السلام وآبائهما عليهم السلام . وأما مع خلاف ذلك ، فمن غير المحتمل تقليد الفرد للإمامة بأي حال من الأحوال. وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام: قال:"إني جاعلك للناس إماماً .قال: ومن ذريتي .قال: لا ينال عهدي الظالمين"(1).والإنحراف الذي كان عليه جعفر هو الظلم بعينه ، إذن فهو لا ينال عهد الله بالإمامة .
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة 2-124
صفحة
(304)
العامل الثاني: إن الموقف أصبح مختلفاً اختلافاً كبيراً في الزمان المتأخر عن وفاة الإمام العسكري عليه السلام ، عما كان عليه ساعة وفاته حين تمكن جعفر أن يتلقى التهاني بالإمامة .
فالموقف في تلك الساعة ، وإن كان صعباً ومعقداً ، حتى أن السمان وهو عثمان بن سعيد الذي سيصبح الوكيل الأول للحجة، وعقيد الخادم الذي رأيناه يحضر وفاة الإمام العسكري عليه السلام ..لم يكن لهما رأي أو مناقشة في صلاة جعفر على اخيه ، بالرغم مما يعلمان به من وجود الامام المهدي عليه لسلام .
ومهما تكن وجهة نظرهما آنئذ ،فان الموقف اصبح ينكشف والطريق يتعبد ،كلما تقدم الزمان ،بفضل جهود العاملين في سبيل اعلاء راية الحق ،وعلى راسهم الوكيل الاول عثمان بن سعيد نفسه. فأننا وان فهمنا ان الفكرة كانت مجملة في اذهان الجمهور العام ..إلا ان الصفوة المختارة التي عرض عليها الامام العسكري عليه السلام ولده ،وهم اكثر من خمسين ،كانت لا تزال في الوجود متحمسة للدفاع عن قضيتها ضد أي انحراف. يضاف اليهم من يشاهد الحجة المهدي (ع) في غضون هذا الزمن ومن يصل اليه توقيعاته في قضاء حاجاته الشخصية والاجتماعية ..وهم عدد ضخم لا يستهان به.
وأول من فتح الباب لإتضاح هذا الطريق هو الحجة المهدي (ع) حين بادر إلى منع عمه من الصلاة على الإمام عليه السلام ،امام جماعة من مواليه ،كان جملة منهم قد هنأ جعفراً بالإمامة وقد رأينا جعفراً لم يمانع في تأخره عن الصلاة.
صفحة
(305)
وإن نفس وقوع الجدل
بين الموالين ..في إمامة جعفر والمحاولات الجاهدة لإحباط خططه من قبل المخلصين ،
ليتمخض شيئاً فشيئاً عن وضوح الفكرة وانجلاء الغمامة الذهنية عن العموم.
العامل الثالث: البيان الذي اصدره الإمام المهدي عليه السلام بنفسه، في نفي إمامة
عمه، والتأكيد على بطلانها والبرهنة على كذبها.
وذلك أن جعفر كتب إلى بعض الموالين كتاباً يدعوه إلى نفسه ، ويعلمه أنه القيم بعد اخيه ،ويدعي ان عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه ، وغير ذلك من العلوم كلها .وحين يصل الكتاب إليه يستنكر مضمونه ويشك بما فيه ، فيذهب على أحمد بن اسحق الأشعري ، والذي يعرفه وعرفناه أنه أخص أصحاب الإمام العسكري عليه السلام وأقربهم لديه، فيخبره بأمر هذا الكتاب ويعرضه عليه. فيبادر ابن اسحاق للكتابة إلى الحجة المهدي (ع) بواسطة سفيره ويجعل كتاب جعفر في ضمن كتابه ليطلع عليه المهدي عليه السلام.
فيرد الجواب إلى أحمد بن اسحق ، شديد اللهجة ، مستنكراً أشد الإستنكار ، متحدياً لجعفر في إثبات الإمامة أقوى التحدي ،ويؤسفنا أن يكون ذكر نص الكتاب خروج عما نتوخاه من الإختصار(1) ولكننا نذكر بإيجاز النقاط التي اكد عليها الحجة المهدي (ع) في كتابه :
أولاً: وجود الخطأ الإملائي في كتاب جعفر :
ثانياً : إن الله تعالى ميز آباءه من الأئمة عليهم السلام عن إخوتهم وبني عمهم بميزات ، وجعل بينهم فرقاً واضحاً "بأن عصمهم من الذنوب وبرأهم من العيوب وطهرهم من الدنس ونزههم من اللبس ، وجعلهم خزان علمه ومستودع حكمته وموضع سره وأيدهم بالدلائل ولولا ذلك لكان الناس على سواء ولا دعى أمر الله عز وجل -: الإمامة – كل أحد ، ولما عرف الحق من الباطل ولا العالم من الجهل".
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإحتجاج ج2 ص279 وما بعدها.
صفحة
(306)
ثالثاً : نفيه لكون جعفر عالماً بالحلال والحرام ،وأنه لا يعرف حتى حد الصلاة ووقتها ،وإنما يزعم ذلك طلباً للشعوذة .
رابعاً :ت ذكير الناس بفسقه ،وإن ظروف مسكره منصوبه ، وآثار عصيانه مشهورة قائمة.
خامساً : تحديه بمطالبته إقامة آية أو حجة أو دلالة . فإن كان فليذكرها ، والإ بطلت دعواه.
سادساً : تحديه من الناحية العلمية . ومطالبة أحمد بن اسحق أن يمتحنه في ذلك .ويسأله عن آية من كتاب الله يفسرها أو صلاة يبين حدودها وما يجب فيها ،فإن لم يجب علم السائل حاله ومقداره من العلم .
سابعاً: نفي ان تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام:
ويختم المهدي (ع) كتابه بالدعاء لله بحفظ الحق على أهله. ويقول: وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحق واضمحل الباطل وانحسر عنكم .
صفحة (307)
العامل الرابع : مما أدى إلى فشل مخطط جعفر بن علي :هو شعور الدولة بالعجز عن تأييده وإجابة طلبه فإنه إذ يعرض الطلب الذي سمعناه على الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، ويقول له:
اجعل لي مرتبة اخي...وانا اوصل اليك كل سنة عشرين الف دينار... يشعر الوزير بعجز الدولة تماماً عن إجابته. فإنه لا يمكن بأي حال ان يفرض جعفر اماماً على الجماهير الموالية لابيه عليه السلام فان العقائد ليست مما يمكن فرضه ولا مما يشترى بالمال ، ولا مما يحصل بقوة السلاح ولا باي طريق آخر ، سوى صدق البرهان والتوفيق الالهي لشخص بالامامة. فانه حينئذ يستطيع ان يثبت امامته لاي احد بالطريق الذي يراه كما تيسر لآبائه عليهم السلام واما مع فقدان ذلك فليس الى فرض الامامة من سبيل.
وان التجربة المعاصرة ، لتعيش في ذهن الوزير بوضوح .وهي ان الجماهير الموالية للائمة عليهم السلام بالرغم من اضطهاد الدولة لهم ومطاردتهم والتنكيل بهم ومعاناتهم الفقر والمرض والعزلة السياسية والاجتماعية كانوا لا يزدادون الا ولاء وتقرباً من الائمة عليهم السلام .فالدولة حين ارادت ان تتوصل الى رفض امامة الائمة (ع) بكل ما تملك من سلاح ،لم تستطع فكيف تستطيع الدولة ان تزرع اماما جديدا في قلوب المعارضة لها المنكرة لتصرفاتها المعاينة من آلامها ونكباتها.
صفحة (308)
ولذا نرى الوزير يستهين بجعفر ويزجره ويسمعه ما يكره . ويقول له الحقيقة الواضحة :يا احمق. السلطان اطال الله بقاء جرد سيفه في الذين زعموا ان اباك واخاك ائمة ليردهم عن ذلك .فلم يتهيأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً ، فلا حاجة بك إلى سلطان يرتبك مرتبهم ، ولا غير سلطان .وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا(1) ثم أن الوزير استقله واستضعفه وأمر ان يحجب عنه فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات.
وإذ تضيق بجعفر هذه الوجوه ، يصعد إلى الخليفة ، آملاً أن يجد في البلاط ما لم يجده عند الوزير .فإن جعفر يعلم أن من مصلحة الدولة إيقاع الخلاف والإغتشاش بين الجمهور الموالية لآبائه (ع) وإيقاع الشك فيهم في اتجاه خط الإمامة وأنه يعرض خدماته على الدولة للقيام بمثل هذا العمل ،لا بإزاء مال يقبضه منها . بل بإزاء مال يدفعه إليها.
ولكنه يواجه عند الخليفة المعتمد ما واجه عند الوزير ، من الموقف النفسي والإزدراء الإجتماعي.
قال له المعتمد :اعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا. إنما كانت بالله عز وجل ،ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه .وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة ، لما كان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وكثرة العبادة ، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته ، فلا حاجة بك إلينا ،وإن لم تكن عندهم بمنزلته ،ولم يكن فيك ما كان في أخيك . لم نغن عنك في ذلك شيئاً(2).
ـــــــــــــــــــ
(2) انظر الإكمال المخطوط وانظر الخرايج والجرايح ص186.
صفحة (309)
إنه نفس الإسلوب الذي اتخذه الوزير وعين الإتجاه ، وهو يؤكد ما سبق أن أكدنا عليه ، من معرفة الخليفة بالحق وإيمانه بصدق الإمام العسكري وعدالى قضيته ،وإنما كان يمنعه من اتباعه التمسك بالسلطان وبالمصالح الشخصية والنظر إلى الهدف القصير.
وإنما يصرح المعتمد بهذا التصريح الخطير ، بالنسبة إليه وإلى كيانه ..باعتباره يواجه جعفراً وهو ابن الإمام وأخو الإمام .وهو من أعرف الناس بهما ، بالرغم من انحرافه عنهما .فليس هذا التصريح بالنسبة إليه سراً يكشف أمراً خفياً يذاع ،وليس جعفر من القواد الأتراك أو من متعصبي بني العباس ليخشى المعتمد من سطوته عليه.
كما أنه ليس من الجماهير الموالية للإمام – بشكل عام - ، ليخاف تحولهم إلى الولاء نتيجة لهذا التصريح ،وإنما جاء هذا التصريح عفو الخاطر ، باعتباره العذر الوحيد في رفض طلب جعفر وبيان العجز عن تنفيذه.
ادعاؤه أنه الوريث الشرعي لتركة الإمام العسكري (ع) :
وقد انطلق جعفر بن علي في ادعائه هذا من فكرتين ادعائيتين أيضاً :
إحداهما : عدم وجود ولد للإمام العسكري (ع) ، ليكون هو الوريث الشرعي .ومن هنا كان هو الوريث ، باعتباره أخاً للموروث .
ثانيتهما : كونه الإمام بعد أخيه ،إذن فهو – على اقل تقدير – المشرف الأساسي والولي الأعلى على هذه الأموال الموروثة.
صفحة (310)
وكلا هذين الأمرين ، قد علمنا زيفهما بكل وضوح ، بعد وجود الحجة المهدي (ع) ولداً للإمام العسكري (ع) وكونه هو الإمام بعده ، دون عمه.
ولكن جعفرا انطلق من هذه المدعيات إلى الحجز على ميراث الإمام (ع) كله، والإستيلاء عليه ومنع سائر الورثة منه ، وساعدته السلطات على ذلك ، فإنها بعد أن بحثت وبذلت جهدها في الفحص والمطاردة ، ولم تقع للمهدي على أثر، لم تجد وريثاً غير جعفر، ولم تجد في دعوى جعفر للوراثة الشرعية كذباً واضحاً – في مرتبة الإثبات القانوني على الأقل- فسمحت له بالإستيلاء على مجموع التركة.
ولئن كانت عاجزة عن تنفيذ مطلبه الأول ، حتى لقد انصرفت عنه وهي آسفة ، فمطلبه هذا على أي حال ممكن التنفيذ ، وتمكينه من التصرف في الأموال أمر ميسور.
وهذا هو الذي يشير إليه عثمان بن سعيد في بعض مجالسه مع أصحابه – على ما سمعنا- قائلاً: فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد عليه السلام مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه .وأخذه من لا حق له .وصبر على ذلك. وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرف عليهم أو ينيلهم شيئاً(1).
انظر إلى الأثر الإجتماعي
التخريبي الذي انتجه مخطط جعفر ، فإنه وإن فشل في الإمامة ، إلا أنه لم يفشل في
الإستيلاء على الميراث.
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص147 ص219
صفحة (311)
ولم يكتف بحصته من الإرث ، بحسب ما هو المشروع في الإسلام ، لو كان وارثاً ..بل استولى على المجموع. فنتج عن ذلك بطبيعة الحال ، أن أفراد العائلة الآخرين لم يبق لهم مأوى ولا ملبس ولا مطعم .فبقوا يجولون في الطرقات ..لا يستطيع أحد ان يلتفت إليهم او يدعي معرفته بهم أن يمدهم بشيء من الخير ، لأنه بذلك يعرض نفسه للتنكيل من قبل الدولة.
يبقى اعتراض واحد قد يخطر على الذهن، وهو أن المهدي (ع) نفسه كان يتمكن من أن يظهر ويسيطر على العالم ، ويمد عائلته بما تحتاج إليه من أسباب المعاش ، فلماذا لم يفعل؟
وجواب ذلك واضح كل الوضوح ، وهو :إنه لو كان يظهر في ذلك الحين ، لكان يقتل لا محالة ، بعدما عرفنا وسنعرف الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في البحث عنه ، ولفشل مخططه في هداية العالم والسيطرة عليه ، إذ لا يطيعه يومئذ ولا يسير في إمرته إلا أقل القليل من أصحابه ممن لا يغني لفتح شبر من الأرض ، فضلاً عن البسيطة كلها .وأما المجتمع فلن يستمع إلى ندائه ، وسيكون عوناً للدولة عليه .
وإنما أعد الله تعالى ظهوره عند وجود عدد مهم من ذوي النفوس القوية والقلوب المؤمنة والعقول الواعية . بحيث يستطيع أن يفتح بهم العالم ، كما سيأتي برهانه في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة .وحيث لا يكون الوقت ملائماً للظهور ، وكانت هداية العالم لا تتحقق إلا بالتأخير إذن فمن المنطقي جداً بل الضروري حقيقة ، التضحية بمصالح عائلته الخاصة في سبيل ذلك الهدف الإلهي الأعلى.
صفحة (312)
وربما يعترض هنا فيقال : إنه وإن لم يمكنه الظهور، إلا أنه يمكنه مساعدة أهله حال غيبته .فإنه يمكن إرسال الأموال إليهم بالطريق الذي كانت تخرج به التوقيعات والمراسلات عنه عليه السلام .
وجوابه أيضاً واضح ، بعد العلم ان التوقيعات والمراسلات ،إنما كانت تصدر عن المهدي (ع) في النطاق السري الخاص الذي لا يتجاوز مواليه ، إلى أي شخص يشك بارتباطه بالسلطة أو ضعفه تجاهها ، إذ من الواضح ان السلطة لو كانت تطلع على هذه المراسلات ، لكانت المستمسك الرئيسي الذي تأخذه ضده عليه السلام.
إذا عرفنا ذلك نعلم أن دفع المهدي (ع) للأموال إلى عائلته بشكل يغنيهم وييسر حالهم ، يكون ملفتاً للنظر ومثيراً للتساؤل في ذهن السلطة ، وخاصة وان هذه العائلة لا زالت تحت المراقبة والتركيز .. فيكون له من المضاعفات ما لا يخفى ،وأما مواصلتهم سراً بالمال اليسير عن طريق سفرائه .. فهو أمر محتمل، لا يمكن نفيه.
وقبل أن ننطلق إلى النشاط الثالث
لجعفر بن علي ، يحسن بنا أن نتميز بوضوح موقف الإمام المهدي عليه السلام من عمه
تجاه ذلك، بحسب ما هو المروي في تاريخنا الخاص.
صفحة (313)
حيث نجد الإمام عليه السلام ، يقف أمام عمه وجهاً لوجه، ويصارحه بالحق ، توخياً إلى كفكفة اندفاعه والتخفيف من النتائج المؤسفة التي ترتبت على اعماله ...لو كان جعفر. ممن يمكن أن يؤثر فيه النصح والتوجيه.
فنراه عليه السلام ، حينما ينازع جعفر في الميراث ، ويحاول الإستيلاء عليه ، يخرج عليه السلام على عمه من موضع لم يعلم به ويجابهه بالقول : يا جعفر مالك تعرض في حقوقي . ثم يغيب عنه ويذهب (ع) إلى حيث لا يعلم به عمه ، فيتحير جعفر ويبهت ، ويطلبه بعد ذلك في الناس ويحاول أن يقع له على اثر فلم يستطع.
وفي حادثة أخرى بعد ذلك ، نجد المهدي عليه السلام يقف من عمه مثل هذا الموقف الحاسم . وذلك :أن الجدة أم الإمام العسكري عليه السلام ، توفيت ،وكانت قد أوصت أن تدفن في الدار ..إلى جنب زوجها وولدها الإمامين العسكريين عليهما السلام . ونازع جعفر ، محتجاً بمزاعمه القديمة وقال : هي داري لا تدفن فيها.
وهنا ، تكتسب القضية شأناً أكبر من الميراث ..إنه ضرورة احترام هذه الجدة المقدسة ،وتنفيذ وصيتها ، طبقاً لتعاليم القرآن الكريم . والدار وإن كانت لجعفر ، بحسب قانون السلطات الحاكمة ، ولكنها في االواقع ، ملك للوريث الشرعي الحقيقي ، وهو الولد ، وليس للأخ أي حصة من المال مع وجود الولد . في قانون الإسلام .
ومن لا يملك ليس له حق في أن يأذن وأن يتصرف.
صفحة (314)
ومن هنا بادر الإمام المهدي عليه السلام ، على مجابهة عمه بالقول بنحو الإستفهام الإستنكاري- : يا جعفر ، دارك هي؟ . ثم لم يستطع جعفر ان يراه بعد ذلك (1)
وسنبقى جاهلين – باعتبار غموض النقل التاريخي – بما إذا كان لهذا القول أثره في نفس جعفر وضميره ، فسمح بدفن الجدة في الدار ... أو لم يسمح ..وكان سبيل هذا القول هو سبيل القول الأول ، وهو التسامح و العصيان له.
وعلى أي حال ، يكون المهدي (ع) قد أدى ما يشعر به من المسؤولية تجاه أعمال جعفر ، من ضرورة إفحامه في دعاواه الباطلة والتوصل ـ جهد الإمكان – إلى التخفيف من نتائجها السيئة.
كشفه ما أوجب الله عليه ستره :
وهو الإفصاح عن وجود المهدي عليه السلام بنحو أو آخر .أمام السلطة ، مما أوجب شدتها في المراقبة والمطاردة.
ونحن في هذا الصدد ، لا بد أن نعود بالكلام عن تاريخ الإمام عليه السلام ، من حيث تركناه ، لنعرف بالتفاصيل – الترابط بين الحوادث التاريخية التي انتجت أن يقوم جعفر بمثل هذا العمل .
تركنا جثمان الإمام العسكري مسجى في الدار وقد انتهى ولده المهدي (ع) من الصلاة عليه ..بعد أن سحب عمه عنها فتأخر وقد علا وجهه الإصفرار .ولكننا نجده مع ذلك ، لا يترك موقفه ، بل يبقى مستمراً في مخططه ممثلاً دور الإمام بعد أخيه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر كلا الحادثتين في إكمال الدين ( المخطوط) .
صفحة (315)
وإذ ينتهي الإمام المهدي عليه السلام من الصلاة ،ويذهب ، وقد اتضح لجميع الحاضرين وجه الحق ..يتوجه أحدهم إلى جعفر بالسؤال عن هذا الصبي الذي اقام الصلاة ، لكي يقيم الحجة علي جعفر ويفهم ما إذا بقي مستمراًُ على مخططه بعد اتضاح الحق أولاً ، فيقول له : يا سيدي من الصبي؟ فيجيب جعفر : والله ما رأيته قط ولا أعرفه .
ولعله صادق في انه لم يره ، فإنه – بفسقه – لم يكن أهلاً لأن يريه الإمام العسكري (ع) إياه.ولكنه كاذب في نفي معرفته ، بعد أن سمع هذا الصبي يقول : تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على ابي .وهلا لو كان قد بقي جاهلاً بمعرفته ، أن يصمد على موقفه ويكذب الصبي في دعواه ..او يعيد الصلاة مرة ثانية ، مع ان شيئاً من هذا لم يحدث .
مما يدل على اتضاح الحق لكل الحاضرين ، وتسالمهم على أنه هو الإمام المهدي (ع) .
وبعد فترة من الوقت. يرد وفد من الوفود التي كانت تتواتر على الإمام العسكري (ع) من أطراف العالم الإسلامي ، فتصل إليه وتسلمه ما تحمله من الأموال من مختلف ما دفعوا الحقوق الإسلامية في تلك البلاد. وتسأله ما تشاء من السمائل الشخصية والإجتماعية ، فتنهل منه مختلف التعاليم والتوجيهات.
ويكون هذا الوفد من قم ، يدخل سامراء وهو لا يعلم بوفاة الإمام العسكري (ع)... فيسأل عنه الناس فيقول لهم الناس: أنه قد فقد .
صفحة (316)
قالوا: فمن وارثه؟.... فيشير الناس إلي أخيه جعفر بن علي . فيسأل الوفد عنه ، فيقال لهم :إنه قد خرج متنزهاً وركب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنون .فيتشاور الوفد فيما بينهم ويقولون : هذه ليست من صفة الإمام ..وقال بعضهم : أمضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على اصحابها ، ثم يقررون مقابلته واختباره.
فانتظروا رجوعه من نزهته ، ودخلوا عليه و حيوه و عزوه وهنوه.
وقالوا له : يا سيدي نحن قوم من أهل قم ، ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها .وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد بن علي الأموال .فقال: أين هي؟ ...قالوا :احملوها إليّ !... وإلى هنا يرى جعفر إحدى أمنياته في استيلائه على الإمامة قد تحقق ، وقد كسب الربح الأول في اليوم الأول .
ولكن يقف دون ذلك حجر عثرة وعائق صعب ، لم يستطع اقتحامه .وذلك أنهم قالوا له: إلا أن هذه الأموال خبراً طريفاً ، فقال: وما هو؟ قالوا : عن هذه الأموال لجمع – أي لعدد من الناس – ويكون فيها عامة الاشيعة الدينار والديناران ، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه ،وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد عليه السلام يقول. جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا وكذا ومن عند فلان كذا وكذا ،حتى يأتي على أسماء الناس كلهم .ويقول ما على الخواتيم من نقش.
صفحة (317)
أنظر إلى إسلوبهم الذي استطاعوا به (اصطياد) جعفر وإفحامه ..إنهم ولا شك ، لم يكونوا بحاجة لأن يسمعوا كل هذه التفاصيل من الإمام العسكري (ع) في كل مرة يغدون عليه ،وإنما كان هذا هو الأسلوب الاساسي الذي يعرفون به إمامة الإمام الجديد إذا تولى هذا المنصب العظيم بعد أبيه ،لأجل أن يتأكدوا أن الأموال قد دفعت إلى وليها الحقيقي والإمام الصادق الذي استطاع إقامة الحجة .
فكان الوفد ، يطلب إقامة الحجة من الإمام الجديد عن هذا الطريق ...وعلى هذا الأساس طلبوا من جعفر ذكر التفاصيل ،فإن أجاب علموا أنه هو ألإمام ، ودفعوا إليه عن طيب خاطر ورضاء ضمير. وإن لم يجب ..فهو ليس بإمام ،وليس له الصلاحية لقبض هذه الأموال في الشريعة الإسلامية .
ولكن جعفر يحاول أن يجد في كلامهم نقطة للمناقشة ليحاول النفوذ منها ..فيقول لهم : كذبتم ، تقولون على أخي ما لا يفعله . هذا علم الغيب ... متغافلاً عن قوله تعالى :" لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول". وأنه يمكن لكل شخص أن يعلم ما يعلمه الله تعالى إياه، فليس مستبعداً أن يكون الإمام ،وهو الوجود الثاني للقيادة الإسلامية بعد الرسول (ص) والإمتداد الطبيعي لرسالته العالمية ...أن يكون ملهماً من قبل الله عز وجل بعض الحقائق ليستعملها في شؤون قيادته وإقامة لحجة على إمامته ، عند اقتضاء المصلحة لذلك.
صفحة (318)
فلما سمع القوم كلام جعفر ، جعل بعضهم ينظر إلى بعض ..أن هذا ليس هو الإمام ، وليس في الإمكان دفع المال إليه ..وقد فشل في نتيجة الإختبار. فقال لهم جعفر: احملوا هذا المال إليّ. قالوا: أنا قوم مستأجرون، وكلاء أرباب المال .لا نسلم المال إلا بالعلامات التي نعرفها من سيدنا أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام . فإن كنت الإمام فبرهن لنا. وإلا رددنا الأموال على أصحابها يرون فيها رأيهم.
إنه تحد صارخ لجعفر ..وهو تحد لا يستطيع إلا الإمام الحق ان يخرج من مأزقه ،أما صاحب المخطط التخريبي فلم يعلمه الله تعالى شيئاً ليقوله لأحد .وأحسّ جعفر بالإنهيار والضغف مرة أخرى ، بعد تنحيته عن الصلاة علي أخيه ....إن للإمامة مسؤوليات .لا يستطيع ظهره أن ينوء بها ...ولكنه لا يستطيع أن يتنازل أو يتخاذل ...لا بد أن يقف صامداً على مخططه إلى آخر الخط ، فإنه إذا فشل في المحاولة الأولى بالحصول على المال ، فلا بد أن يفشل في المحاولات التالية ... أمام الوفود الأخرى ،أن أقرب طريق وأقوى ضمان للإستيلاء على هذه الأموال هو التوسط لدى السلطات ، لأجل إلزام هؤلاء القوم بدفعها.
ومن هنا يبادر جعفر بالذهاب إلى المعتمد ،وهو يمثل أعلى سلطة في البلاد – من الناحية القانونية – على الأقل ، لكي يتملق له ويشكو عنده هذا الوفد ليساعده في ابتزاز ما عندهم من المال.
وإذ يسمع المعتمد الشكوى يأمر بإحضار الوفد ، فيحضرون وتدور بينه وبينهم ، المحاورة التالية :
قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر .
صفحة (319)
قال الوفد: اصلح الله أمير المؤمنين ، إنا قوم مستأجرون ،وكلاء لأرباب هذه الأموال ،وهي وداعة جماعة. وأمرونا أن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة .وقد جرت بهذا العادة مع أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام .
فقال الخليفة : وما كانت العلامة؟.
قال الوفد: كان يصف الدنانير وأصحابها، والأموال وكم هي .فإذا فعل ذلك سلمناها إليه ،وقد وفدنا عليه مراراً، فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا ،وقد مات ،فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر – يعني الإمامة – فليقم لنا بما كان يقيمه لنا أخوه ،وإلا رددناها على أصحابها .
وهنا بدر جعفر فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء قوم كذابون على اخي ..وهذا علم الغيب.
نفس الإستدلال من اقوم .ونفس الجواب من جعفر ، يريد به افحام القوم أمام المعتمد ، لأجل لن يكسب مساعدته ضدهم .وهم وإن لم يوافقوا على اعتراضه ، باعتبار اعتقادهم بالإمامة ، واعتبروا ذلك دليلاً على عدم إمامته .إلا أن المفروض في المعتمد ، وهو يمثل خطأ لا يؤمن بالامامة ، أن يوافق على هذا الإعتراض ويلزم القوم بما لا يعتقدون .إلا أنه يشاء الله تعالى ...ويريد المعتمد أن ينتصر الحق أمام جعفر ، وعلى طول الخط ..ليبوء مخططه بالفشل .إن المعتمد غير مطلع على نوايا جعفر وأهدافه بالتفصيل ..إلى حد الآن ، ولكنه يعلم أنه خائن لمسلك أبيه وأخيه.
صفحة (320)
والخائن يجب ترك نصرته والوقوف إلى جانبه... إن المعتمد لا ينطلق في جوابه من حيث انطلق جعفر في اعتراضه... وإنما ينطلق من منطلق الوفد نفسه.. من الحقيقة الواضحة بأن الوكيل لا يستطيع التصرف إلا في حدود إذن موكله، وحيث ذكر هؤلاء أنهم غير مأذونين بتسليم المال إلا بعد الدلالة وإقامة الحجة ، إذن فلا بأس بعدم تسليمهم المال.
ومن هنا قال المعتمد: القوم رسل ،وما على الرسل إلا البلاغ المبين . فبهت جعفر ولم يرد جواباً ،أنه يسمع من المعتمد لأول مرة ما لم يكن متوقعاً ..إنه قول منصف ، إلا أن جعفر ليأسف أن يكون قول المنصف دائماً، ضد مخططه.
ثم يطلب القوم من الخليفة أن يأمر لهم شخصاً يدلهم على الطريق ، حتى يخرجون من البلدة ، فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها.
وإذ يصبحون في خارج البلدة ،ويحدث ما لم يكن في الحسبان ...أنهم جاؤوا إلى هذه البلدة يحملون الأموال إلى الإمام عليه السلام ... ومن غير المنطقي أن يرجعوا إلى بلدهم آيسين و يعلنوا عدم وجود الإمام ، فتبقى الأمة في حيرة وضلال ،مع أن الحجة المهدي موجود وقادر على الإتصال بهم وإفهامهم ما هو الحق ،إن ذلك لن يكون بادرة حسنة في منطق الدعوة الإلهية .إذن فلا بد من الإتصال بهذا الوفد ، وإلقامة الحجة عليه وإفهامه وجود إمامه ..على الطريقة المتبعة مع سائر الموالين .. ليكون هذا الوفد لساناً للحق في بلاده ونقطة انطلاق إلى القواعد الشعبية الموالية .
صفحة (321)
وستكون مقابلة هذا الوفد للإمام المهدي (ع) ثاني اتصال له بالناس في يوم وفاة ابيه ، وكان الول هو صلاته عليه السلام الله عليهما ، يرسل المهدي (ع) خادمه ، إلى خارج البلدة ، ويعطيه لامفتاح الرئيسي لإفهام هذا الوفد الحائر ما هو الحق .فيأمره بأن يتبعهم ويناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ..ويلقنها إياه ويخرج الخادم خارج البلدة ، ويصيح بهم بأسمائهم ، قائلاً لهم: أجيبوا مولاكم.
وهنا يجد القوم أن هذا الخادم قد علم الغيب فيخطر لهم احتمال أنه هو الإمام ..غافلين عن إمكان التعلم أي أحد إذا وجد الفرصة المناسبة فيبدرونه قائلين:أنت مولانا؟ فقال الخادم: معاذ الله ، أنا عبد مولاكم ، فسيروا إليه، واستصحبهم معه حتى وصلوا إلى دار الإمام العسكري عليه السلام ، فدخلوا فوجدوا الإمام المهدي قاعداً على سرير كأنه قمر ، عليه ثياب خضر .فسلموا عليه فرد عليهم السلام .ثم قال عليه السلام :جملة المال كذا وكذا دينار.
حمل فلان كذا وحمل فلان كذا .ولم يزل يصف ، حتى وصف الجميع ثم وصف ثيابهم ورحالهم وما كان معهم من الدواب ، فخروا سجداً لله عز وجل لما عرفهم ، وقبلوا الأرض بين يديه ، وسألوه عما أرادوا ، فأجابهم ، فحملوا إليه الأموال .
وهنا، وأمام ذلك الوفد القمي ، يفتح الإمام المهدي عليه السلام ، باب التاريخ الجديد ، تاريخ الغيبة الصغرى، تاريخ الوكالة والسفارة ، وهو تاريخ سوف يعيشه الناس سبعين عاماً من الدهر على ما سنسمع ..
صفحة (322)
فيأمر الوفد أن لا يحمل إلى سر من
رأى بعدها شيئاً من المال ، وأنه ينصب لهم ببغداد رجلاً تحمل إليه الأموال وتخرج
منه التوقيعات ..ويخرج الوفد (1).
وبقي جفعر يجتر حقده ..إنه يعلم من هو المقصود بهذه الأموال ، فما هو بالبعيد عن
بيانات أبيه وأخيه ،وقد رأى المهدي (ع) في هذا اليوم وهو يدفعه عن الصلاة .. إذن
فهو المقصود بالأموال .وستصل إليه حين يشاء. وما دام المعتمد ، معتمده من أول
الأمر. بعد أن باع ضميره للسلطات وتمرغ في أوحال الإنحراف ، فمن المنطقي في نظره أن
يشكو وفد القميين مرة أخرى، إلى الخليفة... إنه سيقول له: إتهم دفعوا المال إلى
المهدي. وسوف لن تكون هذه الشكوى ضد الوفد نفسه ، بعد أن وقف المعتمد إلى جانبهم ،
بل ستكون ضد المهدي نفسه ، وتتضمن بكل صراحة تأليباً للسلطات عليه.
وتجد السلطات بغيتها القصوى وهدفها الأعلى الذي كانت ولا تزال تجد في طلبه فلا تقع
عليه .إنه الآن رهن يديها وقريب المتناول منها... أليس عمه الآن يعرب عن وجوده ويدل
على شاطه .. إنها ستقبض عليه .. وبذلك تستطيع أن تتخلص من الوجود الرهيب الذي يقض
مضاجعها ويملؤها رعباً وفرقاً ، لأنه سوف يبدل ظلمها عدلاً ويحول جورها قسطاً.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين (المخطوط)
صفحة (323)
يفكر المعتمد بذلك بمنطق المصلحة
العليا والمهمة التي يمليها عليه الملك والجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في
دولته ، ويمليها عليه هذا العدد الضحم من القواد والوزراء والقضاة والعاملين في
الدولة، ويمليها عليه سائر المحسوبين والمنسوبين الى الدولة ، والموالين لها ،
والسائرين في خطها بشكل وآخر .فيأتي كل ذلك في ذهنه ضخماً مجللاً مهما لا يمكنه
التخلي عنه بحال من الأجوال ..وأي فشل ذريع وفضيحة كبرى سوف تناله وتنال دولته لو
حصل ذلك ..ولا يمكن أن يحول احترامه للإمام العسكري (ع) والإيمان بعدالة قضيته ،
دون ذلك ، ودون المبادرة إليه بكل حزم وشدة.
ومن هنا نرى المعتمد حيت يستمع لكلام جعفر. ووشايته بالمهدي (ع) ، يرسل الخيل
والرجال إلى دار الإمام الحسن العسكري (ع)، فيكسبونه ويفحصون في كل غرفة ودهاليزه ،
فلا يجدون شيئاً، وليتهم يكتفون بذلك، وإنما اشتغلوا بالنهب والسلب والغارة على ما
رأوا من متاع الدار .
وبينما هم مشغولون بالنهب ، يتحين الامام المهدي فرصة غفلتهم ، ويخرج من الباب ،
تقول الرواية : وهو يومئذ لبن ست سنين – وقد عرفنا انه ابن خمس سنين- فلم يره احد
منهم حتى غاب
(1) الخرايج والجرايجص164
صفحة (324)
انهم لا يعرفون بالتحديد عمن
يبحثون واي شخص سوف يجدون، فالفكرة غامضة في اذهانهم بعيدة عن مخيلتهم ..فلن يكن
من البعيد، أن لا يلتفتوا وهو في نشوة السلب والنهب ، إلى وجود صبي يخرج من بين
أيديهم ، بكل بساطة وبلا ضوضاء .
ولا يجد هؤلاء الرجال في الدار ، بعد أن تبعثر أصحابها وتشتت شملها إلا الجارية
صقيل أم المهدي عليه السلام ، فيقبضون عليها ويرفعونها إلى الجهات الحاكمة.
ومن هنا تبدأ المحنة الأساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة. تلك المحنة التي
واجهتها ، بكل صمود وإخلاص وإيمان .واستطاعت برغم الضغط الحكومي ان تخرج ظافرة في
المعركة ، وأن لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر ، فقد أوجب الله تعالى عليه
كتمانه ،وأبقت ولدها محجوباً مصوناً من الإعتداء.
إنهم ـ أولاً ـ طالبوها بالصبي ،
فأنكرته ،ومعناه أنها ادعت أنها لم تلد ،وأنه لا وجود لهذا الصبي على وجه الأرض
..إنها تخبر بما لا تعتقد ..ولكنه كذب جائز بل واجب في الشريعة الأسلامية .فإننا
نعرف ان الكذب يكون جائزاً في ما إذا كان سبباً في إصلاح ذات البين ،ويكون واجباً
فيما إذا توقف عليع إنقاذ نفس محترمة من الموت أو ما دونه من أنواع التنكيل الشديد
.. وهو الآن كذلك بالنسبة إلى ولدها المهدي (ع) .فكيف إذا توقف على هذا الكذب
البسيط مستقبل الإسلام وسعادة البشرية وقيام المهدي بدولة الحق.
وتزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في إخفاء ولدها ، وتأخذ الحيطة له. فتدعي ان لها
حملاً. ويقع كلامها في ذهن الحكام موقعاً محتملاً.
صفحة (325)
فإننا عرفنا أن الدولة كانت تنتظر
ولادة المهدي عليه السلام من الإمام العسكري عليه السلام .وها قد انتهت
حياته ولم تر له ولداً ، فهو إذن أما موجود في الخارج أو محمول في الأرحام .وحيث لا
تكون الدولة مسبوقة بوجوده في الخارج ،وهي قد جردت حملة التفتيش ولم تجده ..إذن فهو
حمل ..ومن المحتمل ان يكون هذا الحمل الذي تدعيه هو المهدي المطلوب ،فحسبهم ان
يراقبوا هذه الجارية الى حين ولادته.
ومن هنا وقعت هذه الجارية تحت المراقبة الشديدة المستمرة. حيث جعلوها بيم نساء
المعتمد ونساء الموفق ونساء القاضي ابن ابي الشوارب ..وهن نساء أعلى رجال لدولة
.ولا زالوا يتعاهدون أمرها في كل وقت ويراعونها وطالت المدة ولم يحصلوا على شيء.
وبقيت الجارية على هذه الحال حتى واجهت الدولة مشكلات أساية في المجتمع ،واضطرت إلى
خوض الحروب في عدة جبهات ، فاشتغلوا بذلك عن هذه الجارية، فخرجت عن
أيديهم ، الحمد لله رب العالمين .
وتعد الرواية أربع حوادث رئيسية شغلت الدولة
ـــــــــــــــــــ
(1) قالت الرواية : إلى أن دهمهم أمر الصغار ،وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان
بغتة، وخروجهم من سر من رأى ،وأمر أصحاب الزنج بالبصرة ، وغير ذلك. انظر
إكمال الدين ( المخطوط ) مع سائر تفاصيل القبض على أم المهدي عليه السلام.
صفحة (326)
كان يمارس نشاطه في الأطراف ،
فإنه بعد أن استولى على بلاد فارس ونازل الحسن بن زيد العلوي فيها في وقعات عديدة
شعر المعتمد في سنة 262 بالعجز عن يعقوب بن الليث ، فكتب إليه بولاية خراسان وجرجان
، فأبى يعقوب ذلك حتى يوافي باب الخليفة ، فخاف المعتمد .
فتحول من سامراء إلى بغداد. وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وبذلك تحولت جبهة القتال من
فارس إلى بغداد. وتحول معاندوا الصفار من االحسن بن زيد وغيره من حكام الأطراف ،
إلى الخليفة نفسه .
وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس ، فنزل واسط ، فتقدم المعتمد وقصده يعقوب .فتقدم
المعتمد أخاه الموفق بجمهرة الجيش واستطاع الموفق أن يهزم الصفار، فاستبيح عسكره
وكسب اصحاب الخليفة ما لا تحد ولا يوصف . وعاد الصفار بنفسه منهزماً الى فارس
وبالرغم من ان المعتمد كان قد عقد للموفق لحرب صاحب الزنج منذ عام 258 ،وخرج بنفسه
لتشييعه كما سمعنا. إلا أننا نرى الموفق إلى حين منازلته للصفار. لم ينازل الزنج
منازلة فعالة، وإنما كانت تلك المهمة ملقاة على عاتق قواد آخرون في الدولة ، ولم
ينازله الموفق، إلا بعد أن ظهر عجز الآخرين واندحارهم ، في زمن متأخر جداً.
ثانيهما: خروج هؤلاء الحكام : المعتمد والموفق ، من سامراء إلى بغداد كما سمعنا.
(1) انظر الكامل ج6 ص7-8 والعبر في خبر من غير ج2 ص 24.
صفحة (327)
ثالثهما: موت عبيد الله بن يحيى
بن خاقان ، الوزير ، الذي استوزره المعتمد من حين تسلمه للحكم عام 256 . وكان له مع
الامام العسكري عليه السلام واخيه جعفر موقفاً محموداً ،فقد حصل موته فجأة بسبب
سقوطه على دابته في الميدان .فسال دماغه من منخريه واذنه فمات لوقته وذلك عام 263(1).
رابعهما: مشاكل صاحب الزنج: وقد حملنا عنه في الفصل الاول فكرة منفصلة وقد كان ذلك
الى ذلك الحين يحاول سبق الزمن في التخريب والقتل والاحراق وابادة الجيوش التي
تنازله واستباحة الاموال والنساء كما عرفنا.
ولعلنا نستطيع ان نضع ايدينا على سبب آخر ، لانشغال الدولة عن ام المهدي عليه
السلام ،هو موت ابن ابي الشوارب ،قاضي القضاة عام 261
وعلى أي حال ، فنفهم من ذلك أن أم
المهدي (ع) ، بقيت تحت رقابة الدولة أكثر من عام ، بل اكثر من عامين،
لأننا عرفنا أن إلقاء القبض عليها كان بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام ، بمدة
غير طويلة، نتيجة لوشاية جعفر ... إذن فقد تم ذلك خلال شهر ربيع الأول من عام 260.
على حين ان هذه الحوادث التي دهمت الدولة ، وقع أولها وهو موت ابن أبي
الشوارب عام 261 ،وكانت واقعة الصفار عام 262 وموت الوزير عام 263.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص15 ، وأنظر الطبري أيضاً.
(2) الكامل ج6 ص21
صفحة (328)
والمظنون أن حادثة الصفار بما
أوجبته من خروج المعتمد والموفق من سامراء ، كانت هي السبب الرئيسي في خروجها
من الأسر . وقد و قعت بالتحديد خلال شهر جمادى الثانية من عام 262(1)
فتكون ام المهدي عليه السلام ،قد بقيت في الأسر عامين وما يزيد على الشهرين .
ومن هنا تعرف ، ان المقصود الأساسي من حجزها ومراقبتها ليس هو البحث عن جنينها او
انتظار ولادتها ، وإلا كان يكفي للتأكد من ذلك أن تمضي عدة أشهر فقط، وإنما كان
المقصود هو اضطهادها وعزلها عن مجتمعها أولاً ، واحتمال اتصال ولدها بها خلال هذه
المدة ، لو كان موجوداً، ..ثانياً .إلا أن مخططهم باء بالفشل الذريع.
تعليق على الأحداث : أود في ختام هذا الفصل أن اشير إلى عدة نقاط مهمة ، عسى أن
تتجلى بعض جوانب الغموض فيما عرفنا من التاريخ.
النقطة الأولى: إن غيبة الإمام
المهدي عليه السلام ، ليس لها مبدأ معين نستطيع أن نشير إليه .وإنما الأمر هو الذي
عرفناه من وجود الإمام عليه السلام من حين ولادته ، في جو من الكتمان والحذر
والإحتجاب ، وحرص والده عليه السلام على المحافظة البالغة عليه وعدم وصول خبره الى
السلطة أو من يدور في فلكها أو من يلين امامها ، ولم يكن يعرض ولده إلا على الخاصة
من أصحابه كما عرفنا .
ـــــــــــــــــــ
(1) على ما يظهر عن ابن الأثير في الكامل ج6ص8
صفحة (329)
وسوف نناقش في مستقبل البحث ، الخرافة القائلة بأن بدأ الغيبة كان من حين نزول
المهدي عليه السلام إلى السرداب ، تلك الخرافة التي نفخ فيها جملة من المفكرين
وضخمها عدد من المؤرخين ، واعتبروها من النآخذ على عقيدة الإمامية في المهدي .
وسنرى أن رواية واحدة مجهولة السند واردة في ذلك، على أننا لو اعتبرناها اثباتاً
تاريخياً ، فهي تنص على أنه خرج من السرداب أمام الجلاوزة الذين كبسوا على الدار
على ما سنسمع.
مضافاً إلى أن الإعتقاد بذلك منضمن لمفهوم خاطىء كاذب ..وهو أن المهدي (ع) وقبل
نزوله إلى السرداب لم يكن محتجباً وكان من المتيسر لكل الناس ان يروه، وكانت حادثة
السرداب هي الحد الفاصل بين الظهور والإحتجاب .وقد عرفنا بكل وضوح وتفصيل بطلان ذلك
وعدم قيامه على أساس ، وقد حملنا فكرة كافية عن حرص والده على حجبه وإخفائه ، فلم
يكن لحادثة السرداب أي أثر .
صفحة (330)
على أننا سنعرف أن هذه الحادثة لا تصلح ، من حيث وجودها التاريخي ـ لو صحت ـ أن تكون مبدأ للغيبة ، فإننا سنعرف أنها وقعت بفعل المعتضد العباسي، وقد استخلف عام 279 أي بعد وفاة الإمام العسكري (ع) وبدأ عصر الغيبة الصغرى ..عصر إمامة المهدي (ع) وقيادته للمجتمه بواسطة السفراء ... بتسعة عشر عاماً. فاسمع واعجب!!
النقطة الثانية: إن الإمام المهدي
عليه السلام ، بدأ بنفسه عصر سفارته ووكالته ، المسمى بعصر الغيبة الصغرى ، حيث
استطاع أن يتصل بالمجتمع ، متمثلاً بوفد القيمين ، ويصرح لهم شفوياً ، بتنصيبه
للسفير حين يكون الناس على بينة من أمرهم في نشاطهم وتصرفهم وأموالهم ،وتكون الحجة
قائمة، في هذا النص القانوني، على صدق السفارة والسفير.
ولم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الجماهير الوالية . بعد أن كان نظام الإمامين
العسكريين عليهما السلام، إذ يوعز إلى الوفد بحمل المال إلى وكيله في بغداد ..لا
يسمي لهم شخصاً معيناً يكون هو الوكيل ، وذلك لعدم حاجتهم إليه.
صفحة (331)
باعتبار إن هذا المال الذي كانوا
يحملونه قد وصل إلى الإمام نفسه ،وسوف لن يحملوا مالاً آخر قبل مضي عام من الزمن
تقريباً ، فان الوفد من كل بلد يكون عادة قي كل عام مرة ،فاذا جاؤا حينئذ فسوف
يستطيعون التعرف عليه والسؤالعن اسمه وسوف يدلهم الكثيرون عليه.
اذن فغاية ما يستطيع هذا الوفد أن يبلغه الآن إلى جماهير الموالين في سامراء وقم
وغيرهم من المدن ،وهو أن يعطيهم أصل فكرة الوكالة ،وضرورة الرجوع إلى الوكيل في
بغداد ، وعدم لزوم البحث عن مقابلة المهدي (ع) بنفسه.
وأما اسم الوكيل ، وتعيينه في عثمان بن سعيد العمري ، فهذا ما يحتاج إلى بيان آخر،
وفي الحق أنه قد صدرت فيه عدة بيانات بعضها من افمام العسكري (ع) وبعضها من المهدي
(ع) نفسه على ما سنسمع في القسم الثاني من هذا التاريخ .
النقطة الثالثة : أن مركز الثقل والإدارة السياسية للقواعد الشعبية الموالية اجتماعياًُ واقتصادياً ، ستنتقل بإيعاز من الإمام المهدي عليه السلام من سامراء إلى بغداد. بالرغم من بقاء سامراء عاصمة للخلافة العباسية ما دام المعتمد في الحياة، تسعة عشر عاماً اخرى وتنتهي بانتهاء حياته عام 279 ثم ينتقل مركز الثقل في الخلافة ايضاً الى بغداد مع بدأ خلافة المعتضد بن الموفق بن المتوكل في ذلك العام.
إن الوكيل منذ الآن ، سيمارس نشاطه في بغداد ،وستحمل الأموال إليه هناك ، وتخرج التوقيعات منه .وفي ذلك ما لا يخفى من البعد عن الرقابة المباشرة للسلطات عن الإحتكاك الدائم بالطبقة الأرستقراطية في العاصمة ، من القواد الأتراك وغيرهم ممن يمثل خط الدولة على طوله.
صفحة (332)
ولئن كان الإمامان العسكريان قد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في سامراء وسياسة التقريب من البلاط و الدمج في حاشية الخليفة.. وكان الإمامان لا يريدان إعلان الإحتجاج وإثارة النزاع.. لئن كان ذلك فهو أمر خاص بحياتهما ..وأما بعد أن ذهبا إلى ربهما العظيم صامدين صابرين ،وآلت الإمامة إلى المهدي عليه السلام ،وهو الثأر على الظلم والطغيان ، فقد آن لهذه السياسات المنحرفة ان تنتهي ،ولهذا المخطط الحكومي أن يقف عند حده، ينبغي لوكلاء المهدي عليه السلام أن يواجهوا الجمهور متخلصين من هذا العبء متحررين من هذا الإضطهاد ... حتى يستطيعوا أن يمارسوا عملهم بشكل أفضل وبحرية أوسع ، .وبخاصة أن مواقفهم – بصفتهم وكلاء عن المهدي ـ تجعل موقفهم دقيقاً حرجاً تجاه السلطة ،ويزيد حراجة فيما إذا كانوا يمارسون عملهم في سامراء .
على أننا ينبغي أن لا نبالغ في الحرية التي سيكتسبونها عند البعد عن العاصمة ،،إنها حرية نسبية ، بمعنى أن حالهم في بغداد أحسن بقليل وإخفاء نشاطهم أسهل .ولكن الخط العام الذي كانت ولا زالت تمشي عليه الحكومة، موجود أيضاً وهو مطاردة الجمهور الموالي ومراقبته وإبعاده عن الحياة ااسياسية والإجتماعية والإقتصادية ، فالحجز والضيق بمعناه العام ، لا تختلف فيه بغداد عن سامراء شيء.
صفحة (333)
وهذه الحرية النسبية التي
سيكتسبها الوكلاء في بغداد ، ستبقى سارية المفعول ، ما دامت بغداد بعيدة عن العاصمة
وأن تسعة عشر عاماً يمر على ذلك كفيل بترسخ الوكلاء اجتماعياً والتفاف الجماهير
الموالية حولهم ...بحيث لن يكون إنتقال العاصمة إلى بغداد ، تارة أخرى، أهمية ضد
نشاطهم ،كالأهمية التي ستكون فيما لو انتقلت العاصمة مع بدء عصر الوكالة أو وجدت
الوكالة في قلب العاصمة .
وهذا كله يجري في النطاق الخاص ،وأما السلطات الحاكمة ، فسون لن تكون مسبوقة بذلك ،
لما يحيط كل نشاط يقوم به الوكلاء من السرية والرمزية بشكل يشبه من بعض الوجوه ما
رأيناه من الإمامين العسكريين عليهم السلام ، على أنه المستطاع القول بأن الوكلاء
أضيق من الإمامين (ع) نشاطاً وأقل منهما رمزية ،وإن كانوا أكثر منهما سرية وتستراً
،وقد أوجبت هذه السرية تعذر تطبيق تلك السياسة القديمة على الوكلاء ، من قبل
السلطات ، بطبيعة الحال .
واما على المستوى الحكومي ، فالحملة ضد المهدي عليه السلام ستبقى سارية المفعول
عشرين عاماً على اقل تقدير ، حتى بعد الإنتقال إلى بغداد ،ولا تسأم الحكومة.
من ذلك ولا تيأس ..وإن اتسقطت وجوده القانوني وميراثه عن نظر الإعتبار ،وبالطبع،
فإنه مما يحدد عزمها ويثيرها، ما يبلغها ، بشكل مباشر عن نشاط الوكلاء وما ترى من
اعتفاد الجمهور الموالي بوجود المهدي عليه السلام وغيبته، ونيابة هؤلاء السفراء عنه
عليه السلام ... ولكنها لن تستطيع النجاح .. وسيحالفها الفشل ..إلى آخر الخط
.
صفحة (334)
النقطة الرابعة : إننا سبق أن
عرفنا عدة حوادث ولم نعرف تاريخها المحدد، منها : توسل جعفر بن علي بالوزير عبيد
الله بن خاقان ،على ان يجعل له مرتبة أخيه عليه السلام ،ومنها توسله بالمعتمد
لتنفيذ نفس الغرض.
ومنها وقوف المهدي عليه السلام تجاه أطماع جعفر حين مطالبته بالإرث ، ومنها: وقوفه
عليه السلام مطالباً تنفيذ وصية جدته.
ومن المؤسف أننا لا نستطيع الوصول إلى التحديد المنضبط لهذه الأمور، فإنه من مناطق
الفراغ في التاريخ على أي حال .وإنما غاية ما نتوخاه هو الإلتفات إلى ما تقتضيه
طبيعة الأشياء في ترتيب هذه الحوادث.
المظنون ان أولى هذه الحوادث وقوعاً ، هو مطالبة جعفر بن علي بالإرث، فإن مناقشات
الإرث تقع عادة في غضون الايام الاولى من وفاة المورث ،وخاصة اذا كان احدهم حريصاً
ومستعداً للمناقشة والجدل ،كجعفر نفسه. واما توسله الى السلطات ،فقد كان بعد ان مضت
مدة كافية ثبت فيها بالتجربة عند جعفر ،بأن مخططه قد فشل وأن إمامته قد رفضت لدى كل
من اتصل به من جماهير الموالين وشيوخهم ، وهذا ما يحتاج الى بعض الزمان حتى يتمخض
الجدل الذي قام بين الماولين حول اثبات ذلك او رفضه ونشر الموقف الذي اتخذه المهدي
عليه السلام تجاه عمه بينهم.
صفحة (335)
وحيث كانت السلطات هي الركيزة
الاساسية لجعفر في مخططه ، فقد لجأ إليها .مبتدئاً بالوزير ومنتهياً بالخليفة ،
لعلها تستطيع ان يفرض جعفراً على الموالين فرض، وقد عرفنا ما واجهه من عجز السلطات
ورفضها لطلبه.
وعلى أي حال فمن المستطاع القول ان هذه الحوادث الثلاث جميعاً ، قد حدثت خلال
الاشهر الاولى المتعقبة لوفاة الامام العسكري عليه السلام في نفس عام 260.
واما وفاة الجدة رضي الله عنها ،فهو متأخر عن مطالبته بالارث ،كما تدل عليه الرواية
نفسها
النقطة الخامسة: انه لا بد لنا من اجل حفظ الحقيقة والموضوعية في البحث ان نذكر من
اشرنا اليه قبل قليل ، وهو ان جعفر بعد ان مضى عليه زمان يمارس النشاط العدائي
للامام المهدي وعائلته والممالىء للسلطات الحاكمة ايس من نجاحه وسيطر عليه الحق
فكبح جماح نفسه وترك عمله ورفع اليد عن سلوكه المنحرف ، وتاب الى الله من ذنوبه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال الدين (المخطوط) .
صفحة (336)
وعندئذ يخرج التوقيع من الامام
المهدي عليه السلام في العفو عنه والتجاوز عن تقصيره ، تطبيقاً لقوله تعالى :" فمن
تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم"(1)
.وقوله تعالى :" وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى"(2).
يخرج هذا التوقيع بواسطة السفير الثاني: محمد بن عثمان بن سعيد العمري ،
جواباً على سؤال في ضمن عدة استفتاءات تقدم بها: اسحاق بن يعقوب إلى الإمام المهدي
عليه السلام بواسطة هذا السفير .وكتب الإمام عليه السلام فيما يخص جعفر قائلاً
:وأما سبيل عمي جعفر وولده . فسبيل أخوة يوسف عليه السلام
وهذا البيان من الإمام المهدي عليه السلام . يدل على العفو عن جعفر ، لنفس السبب
الذي عفي به عن أخوة يوسف ، وهو اعتذراهم ورجوعهم إلى الحق وتوبتهم عما فعلوه.
ـــــــــــــــــــ
(1) 5/39
(2) 20/82
(3) انظر الإكمال المخطوط ،تاريخ سامراء ج2 ص249 عن الإحتجاج ،وفي الإحتجاج ص283 ج2
ط النجف عام 1386 وسبيل ابن عمي جعفر وهو خطأ تورطت فيه المطبعة .
(4) 12/91-92
صفحة (337)
ومن المؤسف أن لا يكون تاريخ هذا البيان معروفاً بالتحديد وإنما غاية ما نعرفه هو خروجه بواسطة الوكيل الثاني للإمام المهدي عليه السلام ، محمد بن عثمان العمري المتوفي عام 305(1) . واما تاريخ توليه الوكالة بعد ابيه فمجهول لجهالة تاريخ وفاة ابيه عثمان بن سعيد على ما سنسمع. ومن هنا لا نستطيع ان نحدد مقدار الزمان الذي استمر جعفر يمارس نشاطه فيه. ولا الزمان الذي تاب فيه وصدر عنه العفو، غير انه كان قبل سنة 305 وهو تاريخ مديد غير محدد وهذا من فجوات التاريخ المؤسفة . وعلى الله قصد السبيل .
خاتمة هذا القسم :
استطعنا في هذا القسم الأول :
أن نحيط بالمهم من الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة الإمامين العسكريين عليهما
السلام هذه الظروف التي انبثقت فيها الغيبة الصغرى كما احطنا بالمهم من تاريخ
الامام المهدي عليه السلام ، بحسب ما ورد في تاريخنا الخاص ، في ولادته ونشأته في
زمان أبيه ، وما نتج عن ذلك بشكل مباشر بعد وفاة أبيه .
وبذلك ينتهي القسم الأول من هذا التاريخ ، وهو في واقعه قسم تمهيدي، لما كرس له هذا
التاريخ من ذكر للغيبة الصغرى والإحاطة بخطوطها العامة وأساليب الإمام عليه السلام
في تدبير أمور مواليه وقيادتهم وهذا ما نتعرض له خلال القسم الثاني.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر هامش الإحتجاج ج2 ص282 عن خلاصة العلامة ،وانظر الخلاصة : القسم الأول ص.149.
صفحة (338)