الفصل الرابع
السفارات المزورة عن المهدي (ع)
ابتليت السفارة عن الإمام المهدي (ع) والسفراء ، بعد أعوام قلائل من أول عهدهم ، بدعاوى السفارة كذباً وزوراً ، طمعاً في ابتزاز الأموال والتزعم على الناس .
مناشيء التزوير :
السفارة الكاذبة في واقعها تشويه منحرف لمفهوم السفارة الصادقة العادلة، ومن هنا جاءت متأخرة عنها بسنوات ، وذلك: لأن القواعد الشعبية الموالية في زمان الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام ،وإن كانت قد اعتادت على وجود السفراء عن الإمام عند احتجابه عن الناس تمهيداً للغيبة الصغرى ،كما عرفنا ،إلا أنه من المحتمل اساساً للفرد العدي – لو التفت الى ذلك – ان يحتجب الامام المهدي (ع) عن قواعده الشعبية ،ولا يوكل عنه شخص على الاطلاق .
صفحة (489)
وانما ثبت عزمه عليه السلام على التوكيل خلال هذه الفترة ،عن طريق تصريحه هو عليه السلام وتصريح ابيه العسكري عليه السلام واعمال السفراء في اثبات وكالتهم وقد استعرضنا كل ذلك بالتفصيل.
فاذا ثبت عزمه عليه السلام على إيجاد الوكالة أو السفارة عنه .
انفتح باب إمكان دعوى السفارة الكاذبة وتزوير الدعوى بالإتصال بالمهدي .خاصة بعد معلومية أن ألإتصال به سر لا يمكن لأحد الإطلاع عليه أو السؤال عن مكانه وزمانه .فتكون دعوى الإتصال به سراً بمكان من الإمكان ، ولن يمنى المزور بصعوبة وإحراج من هذه الجهة.
يعضده في ذلك عدة أمور: إحداها: ضعف الإيمان وسوء الإخلاص وقابليته للإنحراف. ثانيهما: الطمع بالأموال التي يحصل عليها عن هذا الطريق .إذ يتخيل المزور أن الحقوق الشرعية التي تدفع إلى السفير الصادق ستدفع إليه.
ثالثها: فسح المجال للشهرة الإجتماعية والتقدم بين الناس، والتحكم في القواعد الشعبية الموالية للإمام عليه السلام ، وإصدار الأوامر والنواهي بزعم أنه صادر عنه عليه السلام.
صفحة (490)
ولا يهم بعد ذلك ، أن نفهم أن مدعي السفارة الكاذبة ، هل كان يعتقد ضمناً بكذب السفير الصادق ،كما صرح به الشلغماني بالنسبة إلى السفير الثاني ، على ما سنسمع ،أو كان المزور يعتقد بكذب فكرة السفارة اساساً ، إذن فلا فرق في نظره بينه وبين ذلك السفير ، فكما ادعى غيره السفارة يمكن له أيضاً ذلك.
أو كان المزور يعتقد بصدق السفارة وصدق السفير، ولكنه كان طامعاً بالمصالح الشخصية التي أشرنا إليها، فأدعى السفارة تقديماً لمصالحه الشخصية على المصالح الدينية شخصية وإجتماعية.
لا يهمنا إثبات مثل هذه الإتجاهات للمزور قد تخطر في الذهن يحسن التعرض لها ومناقشتها.
الإتجاه الأول: أن يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً ويأمره بتبليغ بعض التعليمات، ثم يكذبه وينفي سفارته بلسان سفير آخر. وهذا غير محتمل اساساً لما نعتقده في الإمام المهدي (ع) من العصمة التي هي في حقيقتها عمق في العدالة والإخلاص والإيمان ،ومعه يكون اجل واعظم من ان يقوم بمثل هذا التغرير والغدر. فان مثل هذا العمل غدر بمثل هذا السفير المفروض .وتعزيز الجهل بالنسبة الى القواعد الشعبية الموالية ..وكلاهما ظلم يجل عنه المعصوم ويتنزه.
الإتجاه الثاني: أن يرسل الإمام المهدي عليه السلام . سفيراً على اساس الدوام والإستمرار ،ويكون السفير في مبدأ أمره عادلاً صادقاً .ولكن هذا السفير لقلة إخلاص وضعف إيمانه ، يتأثر بالأموال والمغريات فيصبح منحرفاً وتظهر منه العقائد والأعمال الباطلة. فيعلن الإمام المهدي (ع) على يد سفير آخر عزله عن السفارة ولعنه.
وهذا مما لم يحدث بالخارج ،وإنما الذي حدث أن الشلغماني كان وكيلاً عن السفير ابن روح فعزله السفير بعد انحرافه ، على ما سنسمع ولم يكن سفيراً للمهدي بحال .على ان هذا غير ممكن اساساً ، بحسب ما عرفناه من سياسة الإمام المهدي (ع) في تعيين السفراء ، من أن السفارة موقف دقيق وخطر، فلا بد أن يكون شخص السفير بمرتبة من الإخلاص بحيث لو كان المهدي عليه السلام تحت ذيله عنه لما كشفه، وهذه المرتبة من الإخلاص لا يحتمل توفرها بالنسبة إلى من ينحرف بعد ذلك ويفسد حاله عقيدة وسلوكاً.
فإن الفسق بعد الإيمان، لا يكون إلا من نقطة ضعف مركوزة في نفس الفرد، ناشئة من تقصيراته وسوء اختياره .ومن الصعب جداً بل غير الممكن عادة ان نتصور شخصاً مؤمناً حقاً من دون ان يشوب إيمانه وإخلاصه نقص أو تقصير ... ثم ينحرف انحرافاً كبيراً بحيث يكون مستحقاً للعنة والتشنيع.
إذن فالشخص القابل للإنحراف في مستقبل أمره ، لا يكون قابلاً للسفارة أساساً ، وضعف الإيمان أمر لا يخفى على الفرد الواعي فضلاً عن الإمام المهدي "ع" .إذن فكيف يرسله سفيراً؟ وخاصة أنه من المحتمل أن يكشف عن المهدي (ع) ويدل عليه السلطات عليه بعد الإنحراف. وهذا خطر، كان يخطط الإمام دائماً للتقصي عنه والتحذر منه .
على انه لو كان الفرد سفيراً في مبدأ أمره ،لأمكن أن يتلقى من تعاليم المهدي (ع) وتوجيهاته ،ما يصون به إيمانه من الإنحراف وعقيدته من الإسفاف .وقد عرفنا كيف كان السفراء الصادقون يتلقون العلوم والتوجيهات منه عليه السلام ،لأجل تكميلهم وتعميق ثقافتهم الإسلامية بغض النظر عن المصالح العامة.
الإتجاه الثالث: ان يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً في قضايا معينة وأزمات محددة ، لا على اساس الدوام والإستمرار .وهذا ما يحتمل حدوثه، وهو في واقعه من السفارة الصادقة ،لا من الكاذبة، وهذه السفارة تنتهي بأداء العمل الموكل الى الفرد ، ولا تستتبع الإنحراف بعدها على أي حال.
الإتجاه الرابع: أن نتصور أن مدعي السفارة كاذباً ، لا يعلم بكذب نفسه ، بل يتخيل نفسه صادقاً .وذلك :أنه استطاع أحد المحتالين الماكرين أن يخيل له أنه هو المهدي ، فيجتمع به في الخفاء ويعطيه التعاليم ويقبض منه الأموال بزعم كونه هو المهدي. ويبقى السفير معتقداً بصحة سفارته ،وهو كاذب في الحقيقة ، وخاصة وهو لم يشاهد الإمام المهدي عليه السلام قبل ذلك ولم يحمل من شخصه أي فكرة سابقة إلا أن هذا وإن كان محتملاً في حق بعض البسطاء مبدئياً لعدة أيام أو لعدة أشهر – مثلاً - ولكن مثل هذا التزوير غير قابل للبقاء، لان هذا السفير المغرر به ، سينكشف له خلال الزمان ما في صاحبه الماكر من هفوات ونقص وقصور ..بحيث يثبت لديه أنه ليس مهدياً بل رجل ماكر محتال.
صفحة (493)
وإذا لم ينتبه انتبه الناس إلى ذلك ،وخاصة العلماء الموالين لخط الأئمة عليهم السلام ومفكريهم ومبرزيهم ..فإننا لا ننسى بهذا الصدد الأجوبة والبراهين والحجج التي اعتاد الناس صدورها من السفراء الأربعة ،وكانو يتطلبونها من كل مدع للسفارة ،فإذا عجز السفير أو عجز صاحبه عن إقامة الحجة ، ثبت تزويره لا محالة.
على أن مثل هذه السفارة، بل كل سفارة كاذبة، تكون مبتورة الأول عادة، غير منصوص عليها من قبل شخص سابق قام الدليل على صدقه، وإنما تكون قائمة فقط على اساس زعم المدعي .على حين عرفنا كيف أن السفارة الصادقة منصوص عليها من قبل الإمام المهدي (ع) وأبيه العسكري (ع) .. مضافاً إلى نص بعضهم على بعض ، وما ظهر على أيديهم من الحجج والبراهين.
التسلسل التاريخي للتزوير:
بدأ التزوير على ما يدل عليه تاريخنا الخاص – في عهد السفير الثاني الشيخ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه، وأما أبوه السفير الأول، فد كان أقوى وأسمى من أن يعارضهم عارض، بعد تاريخه المجيد مع الإمامين العسكريين الماضيين عليهما السلام ،وثناؤهما العاطر عليه ،واداؤه لمختلف أنواع الجهاد في عهدهما وبموجب توجيهاتهما وتعاليمهما، فلن يكون للظنون أن تحوم وللمطامح أن تطمح لمعارضته أو مضايقته، فإنه ستجابه بالنقد والإنكار من كل جانب.
كما أن الظرف لم تكن لتساعد على دعوى السفارة .فإن الغيبة الصغرى لا زالت في أولها، وتتبع السلطات ومطاردتهم للمهدي (ع) ولكل من يمت إليه بصلة ، قوية، وعائلته يتسكعون في الطرقات لا يجرؤ أحد على التعرف عليهم أو الإقتراب منهم ،وقد كانت سفارة عثمان بن سعيد جهاداً كبيراً وتضحية عظمى فكيف ان يعرض الشخص نفسه للمطاردة والخطر تلقائياً بانتحال السفارة.
على ان التزوير لا يكاد يحتمل وجوده قبل أن يعتاد الناس على هذا النحو من السفارة عن الامام المهدي ، وهذا الإعتياد يحتاج في تحققه إلى زمن بطبيعة الحال ، تعيشه القواعد الشعبية تجاه السفارة الصادقة .وهو ما لم يتحقق في أول الغيبة الصغرى ،وخلال الأعوام القليلة التي قضاها عثمان بن سعيد في السفارة.
وقد توفر المزورون خلال الفترة الطويلة التي قضاها السفير الثاني في سفارته .وتاريخنا الخاص ،وان لم يضع الحروف على النقاط من حيث تواريخ التزوير وعدد من جهاته، على ما سنسمع.. إلا أنه على أي حال يدل على بدء السفارة الكاذبة في زمن هذا السفير.
فقد ادعى السفارة زوراً عن الإمام المهدي عليه السلام في زمان
أبي جعفر محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه ، عدة أشخاص :أولهم :أبو
محمد الشريعي . قال الراوي :وأظن اسمه كان الحسن .وهو أول من أدعى
مقاماً لم يجعله الله فيه (1).ومحمد
بن نصير النميري ،
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص244
صفحة (495)
ادعى ذلك الأمر بعد الشريعي(1)، وأحمد بن هلال الكرخي(2)، وأبو طاهر محمد بن علي بن بلال البلالي(3).وأبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخي أبي جعفر العمري رضي الله عنه ،واسحاق الأحمر(4) ورجل يعرف بالياقطاني(5).
وقد كان بعض صالحيهم في مبدأ أمرهم ،ومن أصحاب الإمامين الهادي والعسكري . فانحرفوا وسلكوا مسلك التزوير .
فجابههم العمري رضي الله عنه بكل قوة وانتصر عليهم ،وخرجت من المهدي التواقيع والبيانات بلعنه والبراءة منهم ، والتأكيد على كذب سفارتهم وسوء سريرتهم.
واما الشيخ الحسين بن روح السفير الثالث، فقد ابتلي بأشدهم تأثيراً ، اوسعهم أصحابا: محمد بن الشلغماني العزاقري(6).وكان في مبدا امره مؤمناً مستقيماً، بل وكيلاً لابن روح. ثم ظهر انحرافه وسقم عقيدته على ما سياتي تفصيله.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ لطوسي ص244 (2) المصدر ص245
(3) المصدروالصفحة (4) البحار ج13 ص79
(5) المصدر والصفحة (6) غيبة الشيخ الطوسي ص248
(7) المصدر ص255
صفحة (496)
واخرهم في دعوى السفارة الكاذبة – على ما يظهر من عبارة الشيخ الطوسي(7) ابو دلف الكاتب ،حيث كان على ذلك الى ما بعد وفاة السمري السفير الرابع .قال الراوي ، فلعناه وبرئنا منه ،لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر من مس ضال مضل.
بقي شخص ممن نسبت إليه دعوى االسفارة ،هو الحسين بن منصور الحلاج ، المعروف بمذهبه الصوفي ،وله في هذه الدعوى مكاتبة مع ابي سهل ابن اسماعيل بن علي النوبختي ..كشفه فيها ابو سهل وأفحمه .ولم يعين تاريخ هذه المكاتبة ، إلا أنها كانت – على المظنون ، في زمن الحسين بن روح.
فهؤلاء الذين قامت حركة التزوير على ايديهم ، فلا بد من التعرض إليهم، في حدود ما دل عليه تاريخنا .. معتمدين نفس الترتيب الذي ذكرناه في تعدادهم ،فإنه يرجع إلى ناحية تسلسلهم في تاريخ دعوى السفارة في الجملة.
أولهم أبو محمد الشريعي .
قال الراوي: أظن اسمه كان الحسن ،وكان أصحاب أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام ، ثم أصبح من اصحاب الحسن بن علي العسكري عليه السلام .
ثم أنه انحرف ،وكان اول من ادعى مقاماً لم يجعله الله فيه ،ولم يكن اهلاً له، وكذب على الله تعالى وعلى حججه عليهم السلام ، ونسب اليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء ، فلعنته الشيعة وتبرات منه .
صفحة (497)
وخرج توقيع الامام علي بلعنه والبراءة منه .ثم يظهر منه القول بالكفر والإلحاد(1).
هذا ما قاله التاريخ ،ولم يزد .
ثانيهم: محمد بن نصير.النميري الفهري(2) كان من اصحاب الامام العسكري عليه السلام .فانحرف وافتتن، وأصبح يستخدم اسم صحبته للإمام العسكري (ع)، هذا العنوان العظيم الذي يعرف الناس شأنه وجلالته ، في الربح المادي والمنفعة الشخصية.
فكتب الامام العسكري كتاباً شديد اللهجة ضده وضد شخص اخر يدعى بابا القمي ويسمى الحسن بن محمد يكشف فيه انحرافهما ويظهر البراءة منهما،ويقول مخاطباً احد اصحابه:أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي،فأبرأ منهما.فاني محذرك وجميع موالي ،وأني ألعنهما ، عليهم لعنة الله .مستأكلين ،يأكلان في الفتنة ركساً إلى آخر بيانه عليه السلام(3).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص244 (2) المصدر ص244
(3) الكشي ص438 (4) المصدر والصفحة
صفحة (498)
وكان يدعي انه رسول نبي، وأن علي بن محمد
الهادي ارسله وكان يقول بالتناسخ ،ويغلو في ابي الحسن
رآه بعض الناس وغلام له على ظهره ،قال الراوي فليقته فعاتبته على ذلك ، فقال إن هذا من اللذات ،وهو من التواضع لله وترك التجبر(1).
وتبعه في أقواله جماعة، سموا بالنميرية ، ذكروا أن منهم: محمد بنموسى بن الحسن بن الفرات(2)،وهو لا محالة، والد علي بن محمد بن موسى بن الفرات الذي وزر بعد ذلك للنقتدر المعاصر لسفارة ابن روح ، استوزره عام 299 (3) وبقي على ما يزيد على الثلاث سنين في الوزارة. فمن هذا يظهر كيف تؤيد السلطات خط الإنحراف الداخلي عن الأئمة عليهم السلام ، بنحو خفي لا يكاد يلتفت إليه.
وعلى أي حال ،فإنه حين اعتل محمد بن نصير النميري العلى التي توفي فيها ، قيل له ـ وهو مثقل اللسان – لمن الامر من بعدك؟
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص244 وما بعدها .،رجال الكشى ص438 بلفظ مقارب ونحوه في فرق الشيعة .
(2) فرق الشيعة ص93
(3) المروج ص213 ج4
صفحة (499)
فقال بلسان ضعيف ملجلج: احمد: فلا يدروا من هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق .فقالت فرقة :أنه أحمد لبنه . وفرقة قالت :هو احمد بن موسى بن الفرات "وهو اخو علي بن محمد بن موسى وزيرالمقتدر" وفرقة قالت : انه احمد بن ابي الحسين بن بشر بن يزيد فتفرقوا فلا يرجعون الى شيء(1)
ثالثهم : احمد بن هلال .
الكرخي(2) العبر تائي(3) ولد عام 180 للهجرة وتوفي عام 267(4) أي انه عاصر الامام الرضا عليه السلام ومن بعده حتى الامام العسكري عليه السلام الذي توفي عام 260 كما عرفنا .وعاصر الغيبة الصغرى لمدة سبع سنوات ادعى خلالها الوكالة على المهدي . له كتاب يوم وليلة ، كتاب نوادر ،يرويه النجاشي في رجاله عنه بسنده اليه(5) اتخذ مسلك الصوفية وحج اربعا وخمسين حجة عشرون منها على قدميه لقيه اصحابنا في العراق وكتبوا عنه(6)
ذمه الامام العسكري على ما روي عنه(7) وبعده تبنى المهدي عليه السلام التحذير منه فكتب الى قوامه بالعراق (8) احذروا الصوفي المتصنع وورد على القاسم بن العلا ،نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال .
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ ص245 وفرق الشيعة ص94 ورجال الكشي ص438
(2) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص245 (3) انظر رجال النجاشي ص65 ورجال الكشى ص449
(4) انظر رجال النجاشي ص65 (5) انظر المصدر ص65
(6) رجال الكشى ص449 (7) انظر رجال النجاشي ص65
(8) يعني وكلاؤه والقائمون بامره اجتماعياً.
صفحة (500)
فانكر رواة اصحابنا بالعراق ذلك ،لما كانوا كتبوا من رواياته فحملوا القاسم بن العلا على ان يراجع في امره فخرج اليه الامام المهدي بيان مفصل ، نصه:
" قد كان امرنا نفذ اليك في المتصنع ابن هلال – لا رحمه الله – بما قد علمت .ولم يزل – لا غفر الله ذنبه ولا اقال عثرته - يداخلنا في امرنا بلا اذن منا ولا رضى ،يستبد برايه فيتحامى ديوننا ،ولا يمضي من امرنا اياه الا بما يهواه ويريده. ارداه الله في ذلك نار جهنم فصبرنا عليه حتى بتر الله بدعوتنا عمره ،وكنا قد عرفنا خبره قوماً من موالينا في ايامه – وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص كم موالينا ،ونحن نبرأ إلى ألله من ابن هلال ،لا رحمه الله ولا ممن يبرأ منه .
وأعلم الإسحاقي(1) سلمه الله وأهل بيته بما اعلمناك من حال هذا الفاجر ، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين ومن كان يستحق أن يطلع على ذلك .فإنه لا عذر لا حد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا قد عرفوا اننا نفاوضهم بسرنا ونحمله إليهم ، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى.(2)
وواضح من هذاالبيان أنه صادر بعد موت ابن هلال ،لعله مات بعد التوقيع السابق وبعد هذا البيان .كما أنه يتضح منه ان ابن هلال كان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع) – ولو بالواسطة – إلا أنه كان يستبد برأيه فيها ، ولا يطبق منها إلا ما يريد وكيف يريد .
ــــــــــــــــ
(1) المظنون انه: احمد بن اسحاق الاشعري القمي.
(2) رجال الكشي ص450
صفحة (501)
فدعا عليه الإمام المهدي (ع) فبتر الله عمره .
وعلى أي حال ، فقد ثبت قوم على إنكار ما خرج فيه ، ولم يفد فيهم هذا القول البليغ ، فعادوا القاسم بن العلا على ان يراجع فيه ، فخرج إليهم من الإمام المهدي (ع) :
" لا شكر الله قدره .لم يدع المرزءة بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه ،وأن يجعل ما من به عليه مستقراً ولا يجعله مستودعاً .وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان – لعنه الله – وخدمته وطول صحبته فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولم يمهله ، والحمد لله لا شريك له وصلى الله على محمد وآله وسلم (1).
وهذا التوقيع في واقعه، بيان الإنحراف هذا الشخص بعد الإيمان .وكيفية ذلك بحسب القواعد العقائدية الإسلامية ، إنه في الحقيقة راجع إلى سوء عمل الشخص الناشيء من بعض نقاط الضعف في إيمانه وإخلاصه ، فيترتب على عمله ازدياد البعد عن الإيمان والإخلاص أكثر فاكثر ..فيزيغ الله قلبه ويبدله بعد الإيمان كفراً.
والذي يظهر من تاريخنا أن ابن هلال بقي مؤمناً صالحاً، خلال سفارة السفير الأول ،ولكنه بمجرد أن ذهب السفير الأول إلى ربه بدأ بالتشكيك بسفارة السفير الثاني، بحجة إنكار النص عليه من قبل الإمام العسكري عليه السلام ، ويقول : لم أسمعه ينص عليه بالوكالة.
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكشي ص450
صفحة (502)
وليس أنكر أباه – يعني عثمان بن سعيد – فإما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان .فلا أجسر عليه . فقالوا قد سمعه غيرك، فقال:أنتم وما سمعتم .ووقف على أبي جعفر ،فلعنوه وترءوا منه(1).
وترتب على تشكيكه هذا في أبي جعفر رضي الله عنه ،وعدم دفعه أموال الإمام عليه السلام إليه وعصيانه للأوامر الصادة منه عن المهدي (ع) ، مما أدى به إلى منزلق الكفر والجحود.
قال الشيخ الطوسي: ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه ، في جملة من لعن .وهذا لا يكاد يناسب ما عرفناه من كون وفاته عام 267 ،فإن ابن روح إنما أصبح سفيراً عام 305 ، أي بعد ثمان وثلاثين عاماً .وهو زمان كفيل بمحو آثار ابن هلال من الأذهان إلى حد كبير .بحيث يكون التصدي لبيان كفره وجحوده أمراً مستأنفاً . وإن عرفنا كون البيان الصادر ضده قد خرج بعد وفاته ، إلا أنه لا يمكن ان يكون بعيداً عن وفاته هذا البعد . وانما المعقول ان يصدر ذلك في الاشهر او الاعوام القليلة اللاحقة لوفاته.
وكونه صادراً إلى القاسم بن العلا ، لا يعني كونه من ابن روح لأن ابن العلا كان وكيلاً لإبن العمري ولإبن روح معاً ، على ما سيأتي ومن هنا يرجح أن يكون البيان صادراً عن طريق العمري أبي جعفر لا عن طريق ابن روح .رضي الله عنهما ، والله العالم .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص245
صفحة (503)
ثم أنه لا يبدو من التاريخ بوضوح انه ادعى السفارة عن الإمام المهدي (ع) زوراً ، غايته ان الشيخ الطوسي ذكره في قائمة المذمومين الذين ادعوا البابية – أي السفارة – من الإمام المهدي عليه السلام ، ولم يظهر مما ذكره الشيخ ولا غيره ذلك ،وإنما الذي عرفناه هو كونه وكيلاً صادقاً – بالواسطة – عن الإمام المهدي (ع) ، ولم يتضح أنه بقي على دعواه للوكالة بعد انحرافه وخروج التحذير منه ، والله العالم.
رابعهم: محمد بن علي بن بلال .
أبو طاهر ، البلالي(1). كان من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام(2)، وعده ابن طاووس(3) من السفراء الموجودين في الغيبة الصغرى والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسين بن علي (ع) فيهم، وظاهره كونه بمنزلة القاسم بن العلا والأشعري والأسدي ونحوهم في الوثاقة والجلالة. إلا أن الشيخ الطوسي ذكره في المذمومين الذين ادعوا االبابية. فتابعناه هنا على ذلك ،وتوقف العلامة الحلي في ما يرويه من أجل ذلك أيضاً(4).
قال الشيخ : وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمد بن عثمان – نضر الله وجهه – وتمسكه بالأموال التي كانت عنده للإمام (ع) ،وامتناعه من تسليمها وادعاؤه أنه هو الوكيل ، حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه ، وخرج فيه من صاحب الزمان ما هو معروف.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص245
(2) جامع الرواة ج1 ص 153والخلاصة ص69
(3) جامع الرواة نفس الصفحة.
(4) الخلاصة ص69
صفحة (504)
وقد كان له جماعة من الأصحاب والمؤيدين ، منهم أخوه أبو الطيب وابن حرز ورجل من أصحابنا .وقد انفصل منه هذا الأخير ، لما نذكره فيما يلي:
وقد جاهد أبو جعفر العمري رضي الله عنه ، واستعمل الأساليب لردعه وتقويم انحرافه .وأخذ الأموال منه لإيصالها إلى الإمام عليه السلام فلم يفلح وبقي ابن بلال على انحرافه وتمسكه بالأموال والأصحاب.
فمن ذلك: أن أبا جعفر قصد ابن بلال في داره، وكان عنده جماعة ، فيهم أخوه الطيب وابن حرز ، فدخل الغلام فقال: أبو جعفر العمري على الباب ، ففزعت الجماعة لذلك وأنكرته للحال التي كانت جرت. ولم يستطع ابن بلال ان يحجبه. فقال: يدخل.
فدخل أبو جعفر رضي الله عنه، فقام له أبو طاهر والجماعة وجلس في صدر المجلس، وجلس أبو طاهر كالجالس بين يديه.
فأمهلهم إلى أن سكتوا. ثم قال العمري : يا أبا طاهر أنشدتك بالله ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال إلي فقال ابن بلال:
اللهم نعم .فنهض أبو جعفر رضي الله عنه منصرفاً ووقعت على القوم سكتة ، فلما تجلت عنهم قال له أخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان؟ فقال أبو طاهر كأدخلني أبو جعفر إلى بعض دوره فأشرف علي - يعني صاحب الزمان- من علو داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه – يعني إلى العمري – .
صفحة (505)
فقال له ابو الطيب : ومن أين علمت أنه صاحب الزمان ؟قال: قد وقع علي من الهيبة له ،ودخلني من الرعب منه ، ما علمت انه صاحب الزمان (ع) قال ذلك الرجل من اصحابنا :ف كان هذا سبب انقطاعي عنه(1).
فنجد ان ابا جعفر العمري رضي الله عنه ، قام تجاه ابن بلال بعملين مهمين:
أولهما: أنه وفر له طريق مقابلة الإمام المهدي (ع) ليأخذ منه الأمر بدفع المال إليه .وهذه حادثة كبرى في حدود ما عرفناه من السرية والتكتم والحذر، ومبني على الإطمئنان من ابن بلال ،ولو باعتبار ابتناء مصالحه على عدم الإفشاء والإيصال إلى السلطات ، كما سبق أن ذكرناه.
ثانيهما: تذكيره بهذه الحادثة، ونشدانه بالله تعالى بصدور الأمر من الإمام المهدي بدفع المال. وذلك أمام جماعة من أصحابه، ولإقامة الحجة عليهم في ذلك، مما أوجب انفصال أحدهم ورجوعه إلى خط السفراء الصادقين رضي الله عنهم ، وقد يوجب انفصال غيره مما لم يروه التاريخ .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص246
صفحة (506)
كما أن الجماعة الحاضرين في مجلسه ، لاحظوا منه خضوعه لأبي جعفر وارتباكه من حضوره ،واعترافه بعدم المعرفة السابقة بشخص الإمام المهدي عليه السلام وتهيبه ورعبه منه ، عند مقابلته .وكل ذلك يؤثر عليهم نفسياً ،في الإبتعاد عن ابن بلال والشعور بالنفرة منه بصفته مدعياً للسفارة وإذ لو كان صادقاً لما حدث كل ذلك.
خامسهم: محمد بن أحمد بن عثمان أبو بكر المعروف بالبغدادي ، ابن أخي أبي جعفر العمري السفير الثاني رضي الله عنه .
وأمره في قلة العلو والمروة أشهر من أن يذكر(1)، كان معروفاً لدى عمه أبي جعفر العمري بالإنحراف .ولم يكن معروفاً لدى البعض الآخرين من أصحابه .ومن هنا كان جماعةمن الأصحاب ، وهم خاصة الموالين ، في مجلس العمري رضي الله عنه ، وهم يتذاكرون شيئاً من روايات الأئمة عليهم السلام ، فأقبل عليهم أبو بكر بن أحمد بن عثمان، إبن أخيه ، فلما بصر به أبو جعفر رضي الله عنه ، قال للجماعة مشيراً إليه: إمسكوا فإن هذا الجاني ليس من أصحابكم (2) فقد أمرهم بقطع الحديث الإسلامي الواعي ، الذي لا يناسب معه وجود المنحرفين أمثاله .
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص255
(2) الغيبة للشيخ الطوسي ص256
صفحة (507)
ادعى السفارة ،وكان له أصحاب ،منهم أبو دلف محمد بن المظفر الكاتب. وقد كان في ابتداء أمره مخمساً(1) مشهوراً بذلك ، لأنه كان تربية الكرخيين وتلميذهم وصنيعتهم. وكان الكرخيون مخمسة ،لا يشك في ذلك أحد من الشيعة .وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به ، ويقول: نقلني سيدنا الشيخ صالح ، قدس الله روحه ونور ضريحه ، عن مذهب أبي جعفر الكرخي إلى المذهب الصحيح .يعني أبا بكر البغدادي(2) ،وسيأتي الكلام عن أبي دلف مستقلاً فيما يلي .
ثم أن أبا بكر البغدادي ، حين أرسل عليه وجوه الخاصة وعلمائهم وسألوه عن دعواه السفارة ،أنطر ذلك وحلف عليه ، وقال: ليس إلي من هذا الأمر شيء ، وإنما عرض عليه ذلك امتحاناً .فأبى وقال :محرم علي أخذ شيء منه ،ف إنه ليس إلي من هذا الأمر شيء ولا ادعيت شيئاً من هذا .
قال الراوي: فلما دخل بغداد ، مال إليه – أبو دلف الكاتب – وعد عن الطائفة وأوصى إليه ، لم نشك أنه على مذهبه ، فلعناه وبرئنا منه ،لأن عندنا أن كل من ادعى الامر بعد السمري ، فهو كافر منمس ضال مضل(3) .
ــــــــــــــــ
(1) المخمسة من الغلاة يقوبون :أن الخمسة سلمان وأبا ذر والمقداد وعمار وعمرو بم أمية الضمري ، هم الموكلون بمصالح العالم من قبل الرب ، كذا في هامش الغيبة ص256
(2) الغيبة ص256
(3) المصدر ولاصفحة ص255
صفحة (508)
وكان أبو دلف هذا ، يدافع عن ابي بكر البغدادي ويفضله على ابي القاسم الحسين بن روح وعلى غيره ، فلما قيل له في وجهه ذلك قال: لأن ابا جعفر محمد بن عثمان قدم اسمه على اسمه في وصيته فقلت له: فالمنصور أفضل من مولانا أبي الحسن موسى عليه السلام ،قال :وكيف؟ قلت : لأن الصادق عليه السلام قدم اسمه على اسمه في الوصية فقال لي: أنت تتعصب على سيدنا ومولانا وتعاديه، فقلت: والخلق كلهم تعادي أبا بكر البغدادي وتتعصب عليه غيرك وحدك وكدنا نتقاتل ونأخذ بالأزياق(1) .
وحكى انه توكل لليزيدي بالبصرة ، فبقي في خدمته مدة طويلة وجمع مالاً عظيماً. فسعى به إلى اليزيدي ، فقبض عليه وصادره ووضربه على أم رأسه حتى نزل الماء من عينيه ، فمات أبو بكر ضريراً (2).
ولم يذكر التاريخ عام وفاته، إلا أننا يمكن أن نستنتج من بعض ما سبق ،أنه كان موجوداً خلال سفارة الحسين بن روح ، فإنه أوصى الى أبي دلف الكاتب بعده ،فأصبح أبو دلف مدعياً للسفارة بعد السمري فيكون أبو بكر البغدادي قد مات في زمان مناسب مع هذه الوصية والله العالم.
سادسهم وسابعهم : اسحق الأحمر والباقطاني .
روى في البحار(3) بسنده عن ابي جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناده مرفوعاً إلى أحمد الدينوري.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص255
(2) المصدر ص256
(3) انظر ج13 ص79
صفحة (509)
أنه حمل من أموال الشعب الموالي في الدينور ستة عشر ألف دينار ، إلى بغداد ، وبحث عمن أشير إليه بالنيابة – أي السفارة - فقيل له: ان ههنا رجلاً يعرف بالباقطاني يدعى بالنيابة، وآخر: يعرف باسحاق الأحمر يدعي النيابة ، وآخر يعرف بأبي جعفر العمري يدعي النيابة.
قال: فبدأت بالباقطاني، وصرت إليه فوجدته شيخاً مهيباً له مروة ظاهرة وفرس عربي وغلمان كثير ، ويجتمع الناس يتناظرون قال : فدخلت إليه، وسلمت عليه، فرحب وقرب وسر وبر.قال: فأطلت القعود إلى ان خرج أكثر الناس، قال: فسألني عن ديني فعرفته أني رجل من اهل الدينور وافيت ومعي شيء من المال ،أحتاج أن اسلمه. فقلت: أريد حجة – يعني برهاناً على صحة سفارته التي يدعيها ، فلما أعوزه ذلك – قال: تعود إلي في غد. قال: فعدت إليه من الغد، فلن يأت بحجة .وعدت إليه في اليوم الثالث ، فلم يأت بحجة ،وعدت إليه في اليوم الثالث، فلم يأت بحجة قال: فصرت إلى اسحق الأحمر فوجدته شاباً نظيفاً ، منزلة أكثر من منزلة الباقطاني، وفرسه ولباسه ومروته أسرى وغلمانه أكثر من غلمانه، ويجتمع عنده من الناس أكثر مما يجتمع عند الباقطاني. قال: فدخلت وسلمت ، فرحب وقرب.قال: فصبرت إلى أن خف الناس قال: فسألني عن حاجتي ،فقلت له ، كما قلت للباقطاني وغدت إليه بعد ثلاثة أيام ، فلم يأت بحجة.
صفحة (510)
قال: فصرت إلى أبي جعفر العمري ، فوجدته شيخاً متواضعاً عليه مبطنة بيضاء ، قاعد على لبد في بيت صغير ليس له غلمان ولا من المروة والفرس ما وجدت لغيره ..إلى آخر الرواية .
ونستطيع أن نفهم من هذه الرواية عدة أمور :
الأول: إن هذين الرجلين ادعيا السفارة في أول زمان سفارة العمري رضي الله عنه .يعني في أوائل فترة الغيبة الصغرى، قبل ان يصل خبر السفارة المحقة إلى ألأطراف ، حتى أن هذا الرجل الدينوري كان جاهلاً بالسفارة والسفير، وهو الذي سمعناه يقول لأهل الدينور حين كلفوه بحمل الأموال: يا قوم هذه حيرة ولا نعرف الباب في هذا الوقت ، ونجده يبحث في بغداد عن السفير عدة أيام.
الثاني: إن هذين المدعيين، لم يكونا يفهمان مسلك التكتم والحذر الذي كان يتخذه السفراء الصادقون ،وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على كذبهم وانحرافهم..إلى حد لا يجدون حرجاً من انكشاف امرهم اتجاه الدولة واطلاع السلطات عليهم .حيث نجد الناس يجتمعون عندها يتناظرون، ولا نجد مثل ذلك عند العمري رضي الله عنه.
الثالث: ان هذين المدعيين ، كانا يبذلان على انفسهما المال ،من أجل زيادة الأبهة والفخفخة ، على حين لا نجد العمري يعمل ذلك ،والسر في ذلك واضح ،وهو أن العمري لا يتصرف بالأموال إلا بإذن الإمام المهدي عليه السلام ،وفي حدود تعليمه وتوجيهه. وهي تحدد بحدود المصالح العامة لا بالزخارف والبهارج، على أنه لو فعل ذلك لألفت إلى نفسه النظر وقد تحوم عليه الشكوك والأنظار، وهو ما لا يريده لنفسه واصحابه.
صفحة (511)
على حين لم يكن هذان المدعيان بمتورعين عن صرف المال في ذلك سواء مما فبضناه من المال بدعوى السفارة وما كان من أموالهما الخاصة .ولا مانع لديهما من اطلاع السلطات عليهما فإنهما – على أي حال ـ ليسا بأولى ولا أهم من جعفر بن علي الذي توسط إلى السلطة مباشرة لأجل تنصيبه للإمامة.
وما ذلك إلا لأن خط الإنحراف دائماً يناسب مع خط الإنحراف ولا يخشاه ..وإن كان على شاكلتين ، وخاصة حين يشعران أن لهما عدواً مشتركاً هو خط السفراء العادل .
ثامنهم: محمد بن علي الشلغماني .
المعروف بابن أبي العزاقر أو العزاقري ، أبو جعفر ، نسبته إلى شلغمان، وهي قرية بنواحي واسط(1).
كان شيخاً مستقيم العقيدة والسلوك صالحاً(2) متقدماً في أصحابنا(3) حتى أن الشيخ أبا القاسم الحسين بن روح نصبه وكيلاً عنه عند استتاره من المقتدر وكان الناس يقصدونه ويلقونه في حوائجهم ومهماتهم(4).
وكانت تخرج على يده التوقيعات من الامام المهدي عليه السلام عن طريق ابن روح(5).
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص241 (2) انظر الغيبة ص183 ورجال النجاشي ص293 زفهرست الشيخ الطوسي ص173
(3) رجال النجاشي ص293 (4) الغيبة ص183
(5) الغيبة ص184
صفحة (512)
له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة: كتاب التكليف. قال الشيخ الطوسي: اخبرنا به جماعة من ابي جعفر ابن بابويه عن ابيه عنه الا حديثاً واحداً في باب الشهادات انه يجوز للرجل ان يشهد لاخيه اذا كان له شاهد واحد من غير علم(1) كان الشلغماني يكتب باباً باباً من هذا الكتاب، ويعرضه على الشيخ ابي القاسم رضي الله عنه فيحككه .فاذا صح الباب خرج فنقله وامرنا بنسخه .يعني امرهم ابن روح(2) فكثرت نسخه عند الاصحاب.
وفي رواية اخرى: انه لما انتهى من الكتاب طلبه ابن روح لينظ فيه ، فجاؤا به فقرأه من أوله إلى لآخره ، فقال : ما فيه شيء إلا وقد روى الأئمة عليهم السلام إلا موضعين أو ثلاثة ،فإنه كذب عليهم في روايتهما لعنه الله(3).
وله كتاب "التأديب" أخذه الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه منه ،وأنفذ الكتاب إلى قم ، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها. وقال لهم: انظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم. فكتبوا إليه: أنه كله صحيح ،وما فيه شيء يخالف ،إلا قوله: الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام . والطعام عندنا مثل الشعير كل واحد صاع (4).
ــــــــــــــــ
(1) الفهرست ص173 (2) الغيبة ص239
(3) المصدر السابق ص252 (4) نفس المصدر ص240
صفحة (513)
فمن هنا نجد ان في كل من هذين الكتابين ، قد دس الشلغماني فرعاً فقهياً مخالفاً لما عليه مذهب الأصحاب ، وإن كان مستقيماً مؤمناً وهذا يدل على ما قلناه من وجود ضعف في ايمان كل شخص ينحرف في حياته بحيث يكون من الاول قابلاً للانحراف عند اجتماع ظروفه وشرائطه.
ويمكن أن نفهم وضوح ذلك لأبن روح رضي الله عنه ، حين كان يتوجس من كتب الشلغماني ، فيحاول أن يشرف عليها أو يعرضها على الموثوقين من اصحابه وعلماء مذهبه.
وللشلغماني ايضاً كتاب الغيبة وروى عنه الشيخ الطوسي في الغيبة(1). وله كتاب الاوصياء ،روى عنه الشيخ ايضاً في الغيبة(2).
وله عدة كتب اخرى رواها النجاشي في رجاله(3) ولم يعلم ان هذه الكتب ،مما كتبه في حال استقامته او بعد انحرافه.
ثم انه حمله الحسد لابي القاسم بن روح على ترك المذهب والدخول في
المذاهب الردية(4) وظهرت منه
مقالات منكرة(5) واصبح غالياً(6)
يعتقده بالتناسخ وحلول الالوهية فيه(7)
.
(1) انظر الغيبة ص240 (2) انظر ص208 وما بعدها .
(3) انظر ص 294 (4) رجال النجاشي ص293
(5) فهرست الشيخ ص173 (6) انظر رجا ل الشيخ ص512
(7) الكامل في التاريخ ج6 ص241
وكان من عقائده انه يعتقد القول بحمل الغد .ومعناه انه لا يتهيأ اظهار فضيلة للولي الا بطعن الضد فيه ، لإنه يحمل سامعي طعنه على طلب فضيلته فاذا هو افضل من الولي اذ لا يتهيأ إظهار الفضل إلا به، وساقوا المذهب من وقت آدم الأول إلى آدم السابع ،لأنهم قالوا: سبع عوالم وسبع أو ادم ، ونزلوا إلى موسى وفرعون ومحمد وعلي مع ابي بكر ومعاوية(1).
قال ابو علي بن همام: سمعت محمد بن علي العزاقري الشلغماني يقول : الحق واحد، وانما تختلف قمصه فيوم يكون ابيض ويوم يكون في احمر ويوم يكون في ازرق قال ابن همام : فهذا اول يوم انكرته من قوله لانه قول اصحاب الحلول(2).
وكان يقول لاصحابه وتابعيه: إن روح رسول الله انتقلت إلى أبي جعفر محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه. وروح امير المؤمنين علي انتقلت الى بدن الشيخ ابي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه ، وروح فاطمة الزهراء عليها السلام انتقلت الى ام كلثوم بنت ابي جعفر رضي الله عنهما .وكان يزعم لهم ان هذا سر عظيم وياخذ عليهم ان لا يكشفوه لاحد ، إل معتقدات غريبة أخرى(3) لا حاجة إلى الإسهاب فيه،
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص250
(2) المصدر ص251
(3) انظر الكامل ج6 ص241 وما بعدها.
صفحة (515)
وكان ابن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام ،وذلك أن الشيخ أبا القاسم بن روح رضي الله عنه ، كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاهاً .فكان عند ارتداده يحكي كل كذب ولاء وكفر لبني بسطام ،وبسنده عن الشيخ ابي القاسم رضي الله عنه ،فأنكره وأعظمه ، ونهى بني بسطام عن كلامه وامرهم بلعنه والبراءة منه .فلم ينتهوا، واقاموا على توليه، وذاك انه كان يقول لهم: أنني أذعت السر، وقد أخذ علي الكتمان ، فعوقبت بالإبعاد بعد الإختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤتمن ممتحن، فيؤكد من نفوسهم عظم الأمر وجلالته.
فبلغ ذلك أبا القاسم رضي الله عنه ، فكتب إلى بني سطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه ، فلما وصل إليهم وأظهروه عليه ، بكى بكاء عظيماً. ثم قال إن لهذا القول باطناً عظيماً وهو ان اللعنة الإبعاد، فمعنى قوله: لعنه الله ، أي باعده الله من العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي، ومرغ خديه في التراب. وقال :عليكم بالكتمان لهذا الأمر (1).
وقد ترتب على بعض هذه العقائد ان الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنهما ، دخلت على أم أبي جعفر بن بسطام ، فأعظمتها غاية الإعظام حتى لأنها انكبت على رجلها تقبلها ، فلما أنكرت ذلك منها ، أخبرتها بما قاله لهم العزاقري من العقائد ، وأن روح الزهراء عليها السلام قد تجسدت فيها ، فكيف لا تعظمها
وتتكبر شأنها ؟ ولم يفد تكذيب الكبيرة أم كلثوم لهذه العقائد ، وردعها لتلك المرأة عنها ، لما سبق من العزاقري بأنه سر عظيم وقد أخذ عليهم أنه لا يكشفونه لأحد.
ــــــــــــــــ
(1)انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص249
صفحة (516)
وحين رأت الكبيرة أم كلثوم ذلك ، بادرت إلى ابي القاسم بن روح رضي الله عنه ،فأخبرته بالقصة ، فقال يا بنية ! إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة وان كاتبتك ولا رسولاً ان انفذته اليك ، ولا تلقيها بعد قولها .فهذا كفر بالله تعالى والحاد .وقد احكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً الى ان يقول لهم: باذن الله تعالى وقد اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام . ويعدو الى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام ، وتركت المضي اليهم ، ولم اقبل لهم عذراً. ولا لقيت امهم بعدها.
وشاع هذا الحديث في بني نوبخت، فلم يتبق أحد إلا وتقد إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلغماني والبراءة منه، وممن تولاه ورضي بقوله أو كلمة.ثمظهر توقيع من صاحب الزمان عليه السلام يلعن أبي جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه بقوله وأقام على توليه، بعد المعرفة بهذا التوقيع(1).
ــــــــــــــــ
(1) انظر كل ذلك في الغيبة من ص248-ص250
صفحة (517)
وكان خروج التوقيع ضده عام اثني عشر وثلاثمائة، يقول الامام المهدي فيه: ان محمد بن علي المعروف بالشلغماني ،وهو ممن عجل الله له النقمة، ولا أمهله، وقد ارتد عن الإسلام وفارق، والحد في دين الله ،وأدعى ما كفر معه بالخالق جل وعلا وافترى كذباً وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً .كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً.
وإننا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه منه ، ولعناه عليه لعائن الله تترى من الظاهر والباطن في السر والعلن ،وفي كل وقت وعلى كل حال ،وعلى من شايعه وتابعه أو بلغه هذا القول من وأقام على توليه بعده.
وأعلمهم أننا من التوقي والمحذرة منه على ماكنا عليه ممن تقدمه من نظرائه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم ، وعادة الله عندنا جميلة .وبه نثق ، وإياه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل.
وقد صدر هذا التوقيع حين ألقي القبض على الشيخ الحسين بن روح رضي اللهعنه ،وأنفذه من السجن في دار المقتدر إلى أحد أصحابه :شيخنا أبو علي بن همام ، فوزعه أبو علي توزيعاً عاماً . ولم يدع أحداً من الشيوخ إلا أقرأه إياه وكتب بنسخته إلى سائر الأمصار. فاشتهر ذلك ، في الطائفة ، فاجتمعت على لعنه والبراءة منه.(1)
ــــــــــــــــ
(1) انظر كل ذلك في الغيبة من ص252- 254
صفحة (518)
قال الراوي: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النويختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه ، على ظهر كتاب فيه جوابات
ومسائل أنفذت إلى قم ، يسأل عنها: هل هي جوابات الفقيه عليه – السلام يعني الامام المهدي او جوابات محمد بن علي الشلغماني لانه حكى عنه انه قال: هذه المسائل انا اجبت عنها فكتب اليهم على ظهر كتابهم :
" بسم الله الرحمن الرحيم" قد وقفنا على ظهر هذه الرقعة وما تضمنته فجميعه جوابنا ،ولا مدخل للمخذول والضال المضل المعروف بالعزاقري – لعنه الله – في حرف منه ، وقد كانت أشياء خرجت إليكم على يدي أحمد بن بلال(1) وغيره من نظرائه ، وكان من ارتدادهم عن الإسلام مثل ما كان من هذا عليهم لعنة الله"
وأراد الراوي أن يتاكد ، عما إذا كان ما خرج من هؤلاء المنحرفين قبل انحرافهم عن الإمام المهدي "ع" هل هو صحيح أو مزور أيضاً.
قال الراوي: فاستثبت قديماً من ذلك ، فخرج الجواب :" على من استئبت ،فإنه لا ضرر من خروج ما خرج على أيديهم ،وإن ذلك صحيح"(2) فإنه لا تنافي بين الإنحراف المتأخر وصحة القول والنقل المتقدم حال إيمان الفرد واستقامته.
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص228.
صفحة (519)
ومثل هذا التثبيت، ما سئل الشيخ ابن روح رضي الله عنه ،عن كتب أبن أبي العزاقر بعدما ذم وخرجت فيه اللعنة ، فقيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء . فقال: أقول فيها ما قاله محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا ك كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ، فقال صلوات الله عليه ،خذوا بما رووا وذروا ما رأوا(1).
فنرى ابن روح يعقد مقارنة بين كتب العزاقري وكتب بني فضال ،حيث يفهم من كلامه الامام العسكري قاعدة عامة ، وهي : إن الإنحراف في العقيدة ، لا ينافي إمكان صحة الرواية.
فما على الفرد إلا أن يأخذ بما رووا من أخبار ويدع ما رأوا واعتقدوا من العقائد المنحرفة والطرق الضالة .لا يفرق في ذلك بين بني فضال وابن أبي العزاقر.
وحين احس الشلغماني بالتحدي والمجابهة من قبل الشيخ ابن روح والمجتمع الموالي له ،اراد ان يباهل ابن روح حتى يضع المجتمع امام تحد الواقع، وذلك: أنه بعد أن اشتهر أمره وتبرأ منه ابن روح واجتمع الشلغماني بجماعة من رؤساء الشيعة في مجلس الوزراء ابن مقلة – وزير الراضي عام 322(2) - فوجدان كل فرد منهم يحكي عن الشيخ أبي القاسم لعنه والبراءة منه .فقال: اجمعوا بيني وبينه حتى آخذ بيده ويأخذ بيدي فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه ، وإلا فجميع ما قاله في حق.
فبلغ ذلك إلى الراضي فأمر بالقبض عليه ، وقتله فقتل، واستراحت الشيعة منه(3).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص239
(2) الكامل ج6 ص238
(3) الغيبة ص250
صفحة (520)
يدلنا ذلك على ما أشرنا إليه فيما سبق من أن الخليفة الراضي كان عارفاً للحق وفياً له ، في حدود قدرته ومصلحته ، وقد سبق أن ربطنا ذلك بإتصالات شخصية كان يقوم بها الخليفة قبل خلافته مع الخاصة من موالي الإمام وعلمائهم .
كما أننا نفهم من ذلك بوضوح ،كيف أن هؤلاء الخاصة يجتمعون في دار الوزير ويتناقشون فيه ،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما سبق منا من وجود الإتصالات الواسعة بينهم وبين سائر بني الإسلام من وجود الإتصالات الواسعة بينهم وبين سائر بني الإسلام من علماء ووجهاء . فإن الفرد من علمائنا في تلك الفقرة لم يكن يفرق في وضعه الإجتماعي عن أي فرد آخر، ليس له طبقية خاصة أو نطاق معين ، غير ما يمليه عقيدته ودينه ، فهو – في الأغلب – تاجر يتصل بالبائعين والمشترين ، ويتصل بالشريف والوضيع وله علاقات مع سائر بني الاسلام من علماء ووجهاء .
ولكننا يجب ان لا ننسى في هذا الصدد مسلك الحذر والتقية التي كانوا يسيرون عليه، فنحن نلاحظ :اولاً : ان الحسين بن روح لم يكن معهم في مجلس الوزير زيادة في التكتم والحذر، ولو كان معهم لما زاد حاله عن ذلك، كما سمعناه منه في مجالس اخرى عند المقتدر وغيره.
ثانياً : إن المناقشة في الطعن على الشلغماني ولعنه ، لم يكن ينافي الحذر والتقية ، إذ أن مسلك الدولة منذ أعوام على معادات الشلغماني ومطاردته ، كما سنسمع بعد قليل .
صفحة (521)
كما ان هذا النقل التاريخي يدلنا بوضوح على ان مقتل الشلغماني من قبل الخليفة ، كان من أجل انحرافه عن ابن روح. وهذا هو ما احتملناه فيما سبق من أن الدولة المتمثلة في شخص الخليفة كانت تشعر بالفعل في قتلها للشلغماني- وربما للحلاج أيضاً- بأنها تقوم بعمل مشترك تتفق عليه مع خط السفراء رضوان الله عليهم .
ومن خبر آخر عن مباهلة الشلغماني ، قال الراوي: أنفذ محمد بن علي الشلغماني العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله ، وقال ، أنا صاحب الرجل – يعني المهدي - .
وقد أمرت بإظهار العلم ، وقد أظهرته باطناً وظاهراً ، فباهلني ! فأنفذ إليه الشيخ – رضي الله عنه – في جواب ذلك : أينا تقدّم صاحبه فهو المخصوم ، فتقدم العزاقري فقتل وصلب وأخذ معه ابن أبي عدن .وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة(1).
وقد اثبتت هذه المباهلة ، ضد مقصود الشلغماني فإنه أراد أن يضع المجتمع بإزاء الأمر الواقع نتيجة للمباهلة، فحصل ذلك وثبت ما هو الحق والواقع ، لكن إلى جانب الشيخ ابن روح رضي الله عنه ،وظهر كون الشلغماني مخصماً مبطلاً.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص186
صفحة (522)
خطوط من تاريخ الشلغماني :
هناك بعض التفاصيل التي ينبغي تحديدها قبل التعرض إلى حادثة قتل الشلغماني ، وهي تتلخص في عدة أمور :
الأمر الأول: أننا سمعنا من تاريخنا :أن الشلغماني كان وكيلاً صالحاً لأبن روح حال استتاره عن المقتدر(1).
وسمعنا أيضاً أن التوقيع الذي أرسله الإمام المهدي (ع) منذ وصل إلى ابن روح وهو في سجنه في دار المقتدر، فأوصله ابن روح إلى ابن همام ، فوزعه الأخير بين مشايخ أصحابه.
إذن فاستتار أبن روح متقدم زماناً على سجنه ، وانحراف الشلغماني واقع ما بين هاتين الحادثتين ،ونحن وإن كنا نعلم تاريخ سجن ابن روح ، وهو عام 312 كما سبق .إلا أننا لا نعلم تاريخ استتاره ولا مدته لكي نحدد عام انحراف الشلغماني ،وغاية ما يمكن تحديده هو أنه انحراف في زمان خلافة المقتدر وهو تاريخ غير كاف في نفسه.
وعلى أي حال فالمهم هو معرفة تاريخ البيان الذي صار ضده ، ولا بد أن يكون بعد انحرافه بقليل ، بحيث لا يبقى له مجال للعمل العام بالوكالة عن ابن روح خلال ذلك . وتاريخ صدوره مضبوط بعام 312 نفسه .
الأمر الثاني: أخرج الشيخ في الغيبة عن أبي علي محمد بن همام ، وهو الذي سمعناه أنه وزع بيان الإمام المهدي (ع) في لعن الشلغماني على المشايخ .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص183
صفحة (523)
انه قال : أن محمد بن علي الشلغماني لم يكن قط باباً – وكيلاً – إلى أبي القاسم ولا طريقاً له ، ولا نصبه أبو القاسم لشيء من ذلك على وجه ولا سبب . ومن قال بذلك فقد أبطل – يعني قال بالباطل – وإنما كان فقهياً من فقهائنا، وخلط وظهر عنه ما ظهر، وانتشر الكفر والإلحاد عنه فخرج فيه التوقيع على يد أبي القاسم بلعنه والبراءة ممن تابعه وشايعه ، وقال بقوله(1).
وهذا بخلاف ما سمعناه في الرواية الأخرى(2) من ان الشلغماني كان حين استقامته واستشار الشيخ ابن روح ، سفيراً بينه وبين الناس في قضاء حوائجهم ومهماتهم ،وكانت التوقيعات تخرج على يديه عن طريق ابن روح .
وقد أشرنا فيما سبق، أنه لا تنافي بين الإنحراف المتأخر والوكالة حال الإستقامة، فإن الإستقامة ما دامت موجودة تترتب عليها كل الآثار الإسلامية كقبول روايته وإمكان وكالته، وخاصة وإن ابن همام في الرواية الأولى يعترف باستقامته في مبدأ أمره ، وتنتفي هذه الآثار بانحرافه ، وعلى أي حال فقد عرفنا ان النقل بثبوت الوكالة أكثر ومعه يكون الإعتماد عليه أكثر.
الأمر الثالث: نسمع من التاريخ العام(3) أن ابا جعفر الشلغماني اتصل بالمحسن بن أبي الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص250
(2) المصدر ص183 وما بعدها
(3) الكامل ج6 ص241
صفحة (524)
وقد سبق أن عرفنا أن أبا الحسن بن الفرات هذا هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات ، الذي وزر للمقتدر ثلاث مرات ، كانت وزارته الثالثة عام 311(1)
وكان ولده محسن بن علي هو الغالب على الأمور في هذه الوزارة(2) حتى عزل عام 312 واختفى ولده محسن وصودر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار(3).
وقد عرفنا ابن الفرات هذا فرعاً من أب وأخ منحرفين، اتبعا محمد بن نصير النميري الذي ادعى السفارة زوراً، وخرج فيه من الإمام العسكري "ع" توقيعات شديدة اللهجة .
وكان ابنه المحسن وقحاً سيء الأدب ظالماً ذا قسوة شديدة ، وكان الناس يسمونه :الخبيث بن الطيب(4) . ويروى له في التاريخ أثناء وزارة أبيه الثالثة عدة شنائع في التعذيب والمصادرات (5).
فهذا هو الذي اتصل به ابن أبي العزاقر، فانظر بمن يستجير وعلى من يتكل، وكيف يهرب من الحق إلى الباطل، صريحاً وبلا مواربة.
ومن الراجح أنه اتصل بع عام 312 الذي رجحنا فيما سبق أنه عام من انحرافه .
وعلى أي حال ، فبعد عزل ابن الفرات استوزر المقتدر عبد الله بن محمد ابن عبيد الله الخاقاني(6) وذلك عام 312(7) .
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص173 (2) مروج الذهب ج4 ص214
(3) الكامل ج6 ص177 (4) المصدر ص174
(5) انظر المصدر والصفحة (6) مروج الذهب ج4 ص214
(7) الكامل ج6 ص178
صفحة (525)
فطلب الشلغنماني وطارده وحاول القبض عليه ، فاستتر الشلغماني وهرب الى الموصل .فبقي سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان في حياة ابيه عبد الله بن حمدان(1). ويروي النجاشي في رجاله انه اخبر بقائمة كتبه عند استتاره بمعلثايا ، وهي قرية من اعمال الموصل .
فانظر إلى ضعف الدولة وضيق سلطانها ، إذ نرى حكومة بغداد لا تستطيع القبض على شخص بالموصل ، ويكون في إمكان بعض امرائها إجارته منها ،وإبعاده عنها.
ونعرف من هذا السياق ايضاً ، ان التوقيع الذي صدر ضده من الإمام المهدي عليه السلام ، كان قبل اختفائه في الموصل ،فانه ايضاً كان عام 312 ،كما عرفنا .ومن المعلوم صدوره حال وجوده في بغداد واختلاطه بالناس .كما ان محاولته للمباهلة مع ابن روح ، كانت بعد عوده الى بغداد ، قبل مقتله بعدة شهور.
وذلك انه انحدر الى بغداد واستتر ،وظهر عنه ببغداد انه يدعي لنفسه الربوبية .وقيل أنه اتبعه على ذلك: على ذلك ، الحسين بن القائم بن عبد الله بن سليمان بن وهب ، الذي وزر للمقتدر عام 319(2) وأبو جعفر وأبو علي ابنا بسطام(3) وابراهيم بن محمد بن ابي عون وابن شبيب الزيات وأحمد بن عبدوس. كانوا يعتقدون الربوبية فيه.
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ص241
(2) رجال النجاشي ص294
(3) انظر ص264
صفحة (526)
وظهر ذلك عنهم ، وطلبوا أيام وزارة ابن مقلة حينوزر للمقتدر عام 316 (1) فلم يوجدوا (2).
إذن فالشلغماني هرب على الموصل عام 312 وعاد إلى بغداد عام 316 .وسلطات المقتدر بالرغم انها حاولت القبض على الحسين بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب عام 316 بتهمة اتباع الشلغماني واعتقاده الربوبية فيه ، فإن المقتدر استوزره عام 319 ،كما رأينا. وهو معنى ما قلناه من ان الدولة كانت تؤيد من طرف خفي خط الإنحراف في خط المزالين للأئمة عليهم السلام.
مقتله
اتفق تاريخنا الخاص والتاريخ العام على ان الراضي قتله عام 322(3) ، وذلك أنه لما كان في شوال لهذا العام ظهر الشلغماني من بعد استتاره ببغداد، فقبض عليه الوزير ابن مقلة(4) ، وكان هذا أول عام من تولي الراضي للخلافة ،وكان أبو علي محمد بن مقلو هو أول وزرائه(5).
فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه ،وكبس داره ، فوجد فيها رقاعاً ، وكتباً ممن يدعي عليه أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً .
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص192 (2) انظر المصدر ص241
(3) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص178وص250 والكامل ج6ص241
(4) الكامل نفس الصفحة (5) المروج ج4 ص231
صفحة (527)
وفيها خط الحسين بن القاسم ، فعرضت الخطوط فعرفها الناس .وعرضت على الشلغماني فأقر أنها خطوطهم وأنكر مذهبه ، وأظهر الإسلام ، وتبرأ مما يقال فيه.
وأخذ ابي عون وابن عبدوس معه وأحضرا معه عند الخليفة وامرا بصفعه فامتنعا ، فلما أكرها مد ابن عبدوس يده ، وصفعه وأما ابن ابي عون فإنه مد يده إلى لحية ورأسه ، فارتعدت يده، فقبل لحية الشلغماني ورأسه ، ثم قال : إلهي وسيدي ورازقي.
فقال الراضي: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية ، فما هذا؟
فقال: وما علي من قوله ابن أبي عون؟ والله يعلم أنني لا قلت أنني إله قط .فقال ابن عبدوس :إنه لم يدع الألوهية . وإنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن روح ،وكنت أظن أنه يقول ذلك تقية.
ثم أحضروا عدة مرات، ومعهم الفقهاء والقضاة والكتاب والقواد وفي آخر الأيام أفتى الفقهاء بإباحة دمه . فصلب الشلغماني، وابن أبي عون في ذي القعدة وأحرقا بالنار(1). وكان الحسين بن القاسم بالرقة فأرسل الراضي إليه فقتل آخر ذي القعدة ، وحمل رأسه إلى بغداد(2).
وبذلك، انتهى حساب الشلغماني ، تجاه الدولة وقواعدها الشعبية وتجاه
المؤمنين به ،وتجاه السفير الشيخ أبي الاقسم بن روح رضي الله عنه.
وبالتالي تجاه الإمام المهدي عليه السلام نفسه ،وقواعده الشعبية .
وانتصر الإمام المهدي (ع) وسفيره ،م ن حيث أرا د الله تعالى
لهما النصر.
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص241
(2) المصدر ص242
صفحة (528)
تاسعهم : الحسين بن منصور الحلاج.
الصوفي المشهور ، ولا نريد أن ندخل في هذا الصدد ، في ترجمته وتفاصيل حياته ،ولا فيما يصدر منه من العجائب التي كانت ستهوي العوام وتستغويهم .وإنها هل هي حق أو باطل. وما اختلف الناس فيه من ذلك، فإن ذلك كله خارج عن تاريخ الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الصغرى ،وإنما فصلنا القول في الشلغماني لإرتباطه بهذا التاريخ ارتباطاً عضوياً . فليرجع في تفاصيل ترجمة الحلاج الي مصادره.
وانتصر الإمام المهدي (ع) وسفيره ، من حيث أراد الله تعالى لهما النصر.
تاسعهم : الحسين بن منصور الحلاج .
الصوفي المشهور ،ولا نريد أن ندخل في هذا الصدد ، في ترجمته وتفاصيل حياته ،ولا فيما يصدر منه من العجائب التي كانت تستهوي العوام وتستغويهم ،وإنها هي حق أو باطل .وما اختلف الناس فيه من ذلك ، فإن ذلك كله خارج عن تاريخ الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الصغرى. وإنما فصلنا القول في الشلغماني لإرتباطه بهذا التاريخ ارتباطاً عضوياً . فليرجع في تفاصيل ترجمة الحلاج إلى مصادره.
وإنما نقتصر من ذلك على ما هو مربوط بنا في هذا التاريخ. من حيث أنه ادعى السفارة عن الإمام المهدي (ع) . و مما نذكره سيتضح ما هو الحق تجاه عقيدة الحلاج وسلوكه.
وذلك: أنه لما قدم بغداد وأراد أن يغري أبا سهل ابن اسماعيل بن علي النوبختي ،وهو من علمائنا الأجلاء في تلك الفترة . ويمت إلى الشيخ ابن روح النوبختي رضي الله عنه برابطة النسب.
وتخيل أنه ممن تنطلي عليه حيله وخدعه. فكاتبه وأدعى له أنه وكيل الإمام المهدي عليه السلام ، وقد أخرج الخطيب البغدادي شيئاً من ذلك ، كما اخرج الشيخ في غيبته بعض التفاصيل حوله.
صفحة (529)
قال الخطيب البغدادي(1): أخبرنا علي بن أبي علي عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق ، أن الحسين بن منصور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس والرؤساء ،وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم (2). فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه.
وكان أبو سهل من بينهم مثقفاً فهماً فطناً ، فقال أبو سهل لرسوله : هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل. ولكن أنا رجل غزل ولا لذة لي أكبر من النساء وخلوتي بهن ،وأنا مبتلى بالصلع ، حتى أني أطول قحفي وآخذ على جبيني وأشد بالعمامة ،وأحتال فيه بحيل ،ومبتلى بالخضاب لستر المشيب ،فإن يصل لي شعراً ورد لحيتي سوداء بلا خضاب ،آمنت بما يدعوني إليه كائناً ما كان ،إن شاء قلت :إنه باب الإمام. وإن شاء قلت: إنه الإمام . وإن شاء قلت: إنه النبي ، وإن شاء قلت : إنه الله .
قال: فلما سمع الحلاج جوابه ، أيس منه وكف عنه.
قال الشيخ(3). بعد نقله نحواً من ذلك ، مع زيادة أن الحلاج زعم لأبي سهل في مراسلته ،أنه وكيل صاحب الزمان عليه السلام ، وهذا واضح أيضاً من كلام الخطيب البغدادي باعتبار قول أبي سهل :إن شاء قلت :أنه باب الإمام ..أي وكيله. وأضاف الحلاج - برواية الشيخ وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصر لك لتقوى نفسك ولا ترتاب بهذا الأمر.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكنى والألقاب ج3
(2) يقصد بكونه بالأصل شيعياً ودعوته في واقعها انحراف عن هذا المذهب .
(3) الغيبة ص248
صفحة (530)
وبعد أن كشفه أبو سهل وأفحمه وأظهر عجزه وأمسك الحلاج عنه ولم يرد إليه جواباً ولم يرسل إليه رسولاً. وصيره أبو سهل أحدوثة وضحكة ، ويطنز – أي يسخر –به عند كل أحد ، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة منه.
وحين ذهب الحلاج إلى قم كاتب علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ،وهو من أجلاء علمائنا ، أبو الشيخ الصدوق قدس الله سرهما وادعى له الحلاج : أنه رسول الإمام ووكيله.
فلما وصل خطابه إلى ابن بابويه ، مزقه وقال لرسول الحلاج: ما أفرغك للجهالات! فقال له الرجل: فإن الرجل قد استدعانا فلم خرقت مكاتبته؟ وضحكوا منه وهزئوا به.
ثم نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه ، وعندما وصل نهض لإحترامه كل من كان هناك غير رجل رآه جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه ابن بابويه.
فلما جلس وأخرج حسابه ودواته ، كما يكون التجار. أقبل على بعض بعض من كان حاضراً فسأله عنه ، فأخبره. فسمعه الرجل يسأل عنه فأقبل عليه، وقال له: تسأل عني وأنا حاضر؟ فقال له أبن بابوية أكبرتك أيها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك . فقال له :تخرق رقعتي ،وأنا أشاهدك تخرقها. فقال له. فأنت الرجل إذن. ثم قال. خذ يا غلام برجله وبقفاه وسحبوه من الدار سحباً، ثم قال له، أتدعي المعجزات ، عليك لعنة الله، فأخرج بقفاه ، قال الراوي . فما رأيناه بعدها بقم.
صفحة (531)
يتضح من هذا التاريخ أمور:
الأمر الأول: أن أمر الحلاج كان أهون وأوضح لدى خاصة الموالين من أن يخرج فيه التوقيع عن الإمام المهدي عليه السلام . فقد كان لهم من الموازين والقواعد الإسلامية ، ما يكشفون به عن خدعه وأباطيله من دون حاجة إلى سؤال من المهدي "ع" وجواب ، ولم يتسفحل به الأمر ليصل الحال إلى حد الحاجة إلى ذلك.
ولا ننسى في المقام قول ابن روح في الشلغماني : فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد ، قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجد طريقاً إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحل فيه ، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام. ويعود إلى قول الحلاج لعنه الله(1). فقد حكم على عقائد الشلغماني بالبطلان باعتبار رجوعها في نهاية المطاف إلى قول الحلاج ، فكيف يقول في الحلاج نفسه.
على انه لم يكن الذي التفت إلى فساد قوله، هو الحسين بن روح وأصحابه ، فحسب بل التفتت إلى ذلك السلطات ، وخافت على شعبها من أن يؤثر الحلاج في إنحرافه عن أصل الإسلام ، وهو الدين الحنيف الذي تقوم فيه الخلافة على اساس منه .فقبضوا عليه ، وأفتى الفقهاء بإباحة دمه .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص249
صفحة (532)
ولما سمع الحلاج ذلك. قال: ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ، ولي فيها كتب موجودة ، فالله الله من دمي ، ولكن الخليفة المقتدر ، أذن في قتله حين رأى الفتاوي .فضرب ألف سوط وقطعت يده ثم رجله ثم يده ثم رجله . ثم قتل قم أحرق بالنار وألقى رماده في دجلة ،ونصب الرأس ببغداد ، وأرسل على خراسان لأنه كان له بها أصحاب .(1)
فأعجب من الخطيب البغدادي وإذ سمعنا منه انه يعتبر الحلاج محسوباً على الشيعة ، على حين نرى الحلاج بنفسه يعترف أمام السلطات أن مذهبه السنة وله فيها كتب موجودة.
الأمر الثاني: أن الحلاج، كان يخدع كل قوم من جهة قناعتهم واعتقادهم ، ليجلبهم بعد ذلك إلى ما يريده لهم من العقائد الباطلة والأقوال المنحرفة. وإذ يكون الناس في فراغ عقائدي وضعف في الدعوة والإرشاد الإسلامي بينهم ، لم يكن بإمكانهم أن يفرقوا بيم المعتقد الحق ولاباطل وبين ما هو معجزة وما هو خدعة ،وقد استغل الحلاج هذا الواقع المر استغلالاً كبيراً واصطاد في هذا الماء العكر اصطياداً مضاعفاً. حتى ضج منه أهل الإسلام بمختلف مذاهبهم .
وقد كان منطلقه إلى خداع القواعد الشعبية الموالية للأئمة عليهم السلام ،هو ادعاء الوكالة عن الإمام المهدي عليه السلام .ثم يعلو منه على غيره(2) ، لتخيله أن هذا الأمر مفهوم لهم معتاد بالنسبة إليهم .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص168-169
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص247
صفحة (533)
ولولا وقوف ابي سهل النوبختي في بغداد وابن بابوية القمي في قم ضده لكان له اثر مؤسف كبير.
الامر الثالث: انه يتضح ايضاً من هذا التاريخ ،ما سبق ان ذكرناه من كون علمائنا في تلك الفترة ،لم يكونوا يشكلون طبقة منفصلة لهم حدود معينة وعلاقات محدودة. بل كان حالهم حال غيرهم في اتخاذهم عملاً يرتزقون منه ،وينطلقون الى اللقاء مع مختلف الطبقات عن طريقه. كالذي سمعناه عن ابن بابويه الذي كان الى جانب تجارته من اكابر العلماء العاملين لتلك الفترة. ويكفينا من جهاده هذه الصورة الواضحة من قيامه ضد الحلاج وفضحه في المجتمع المسلم.
عاشرهم : محمد بن المظفر .
أبو دلف ، الكاتب ، وقد سمعنا عند الحديث عن أبي بكر البغدادي أن أبا دلف هذا كان مخمساً مشهوراً ، ثم انه آمن بأبي بكر البغدادي واعتبر مذهبه هو الصحيح(1) ،وكان يدافع عنه بحرارة ويقدمه على الحسين بن روح رضي الله عنه(2) حت اوصى له ابو بكر البغدادي بعد وفاته(3) واصبح بذلك مدعياً للسفارة بعد السمري ،وكان هذا علامة كذبه لدى الاصحاب .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص256
(2) انظر المصدر ص250
(3) المصدر ص255
صفحة (534)
على ما سبق وكان ابو دلف معروفاً بالالحاد ثم اظهر الغلو ثم جن وسلسل
وصار مفوضاً ، قال الراوي : وما عرفناه قط ،إذا حضر في مشهد يعني
مجتمعاً على الناس –
إلا استخف به ولا عرفته الشيعة إلا مدة يسيرة، والجماعة تتبرأ منه وممن
يومي إليه وينمس به "(2). وأمره في
الجنون أكثر من أن يحصى(1).
فهؤلاء عشرة ، ممن مثلوا خط الإنحراف الداخلي الكبير أثناء فترة الغيبة الصغرى ، ضد السفراء وقواعدهم الشعبية .وبالنتيجة ضد الإمام المهدي (ع) وضد المصالح الكبرى التي كان يتوخاها في المجتمع ،وقد عرفناهم وجملة من أساليبهم وطرق الوقوف ضد تيارهم ، والحمد لله رب العالمين .
تحليل مجابهة الإنحراف :
كان الإهتمام الكبير للإمام المهدي (ع) وسفرائه في الوقوف ضد هذا التيار ، أكبر من الوقوف ضد أي تيار آخر .وذلك لعاملين أساسين :
أحدهما ، لاحظناه مما سبق ،من كون هذا العميل مما ينسجم وسياسة السلطات .فلا يكون منافياً لمسلك الحذر والتكتم ،وحيث كان في ردع القواعد الشعبية الموالية عن هؤلاء المزورين مصلحة كبرى كما هو معلوم ،ولا مانع منه من قبل السلطات ...إذن فمن المنطق أن ننتظر ازدياد نشاط السفراء والوكلاء في ذلك ،وتعدد التوقعيعات بخصوصه.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص254
(2) المصدر ص255 وما بعدها.
صفحة (535)
ثانيهما :وهو الأهم، المبتني على قاعدةة
عامة في منطق الجماعاتالبشرية، تقول: ان الهدم التاشيء في داخل الجماعة
يكون أضر بها وأشد عليها من الهدم الوارد عليها من الخارج، في الأعم
الأغلب. بل ان المنحرفين في كل جماعة، ليمثلون خط المناوئ جنباً الى
جنب مع الجماعات الأخرى المعادية.
ومن ثم كان المنحرفون عن الاسلام ، والمتاجرون باسمه، أشد على الإسلام من الكفار والمشركين، وأكثر تأثيراً في الأبعاد عنه. وهم - في واقعهم - يد عاملة في مصلحة القوى العالمية المناوئة للأسلام.
ولذلك ، كان هؤلاء
المنحرفون، المدعون للسفارة زوراً ، أشد على القواعد الشعبية وأضربها -
لو أستفحل امرهم - من السلطات المنحرفة لانهم ويتاجرون باسم الامام
المهدي عليه السالم، ويدخلون الى عقول السذج عن طريق مهم معتاد بالنسبة
اليهم وهو السفارة عنه وقبض الاموال بالوكالة عنه. ثم انهم يزرقون من
عقائدهم المنحرفة وسلوكهم الباطل في نفوس الآخرين، تحت هذا الشعار، ما
يحلو لهم وما يشاؤن.
على حين ان السلطات لا تملك الا الحديد والنار والسجون، ولم تكن هذه
الامور يوماً بصالحة في القيام ضد الغقيدة أة التاثير عليها. لا تستطيع
السلطات ان تدخل الى اذهان الموالين للأئمة عليهم السلام، عن طريق ديني
باي حال من الاحوال. وليس ادل على ذلك، من رفض المعتمد لعمالة جعفر بن
علي ، حين كان يائساً من تأثيره في فرض عمالته على موالى اخيه عليه
السلام.
صفحة (536)
فكان من الواجب الوقوف ضد هذا التيار الداخلي المنحرف، الذي كاد ان
يبلغ مبلغاً عظيماً، لو لا ما بينه الامام المهدي عليه السلام من بينات
وما قام به السفراء من نشاط مضاعف كبير. الى جانب شعور الدولة بالعادات
مع هؤلاء المنحرفين ومطاردتهم لهم. ولم يخطر لها ان تستفيد منهم في
سبيل هدم الجماعة الموالية وتفريق شملها وتشتيت كلمتها مما اوجب تظافر
نشاط السفراء والدولة على حربهم ومطاردتهم.
ولم تكن الدولة بقادرة
على جرهم الى جانبها والاستفادة منهم في مصلحتها لعدة عوامل.
الاول: ان دعوتهم - على الاغلب - كانت خارجة عن أصل الاسلام بشكل مكشوف
واضح، لدى عموم الناس، بحيث لا يمكنهم التأير الكبير. ولا ينفعون
السلطات حتى لو ارادوا ذلك.
الثاني: ان توقيعات الامام عليه السلام وموقف سفرائه ، كان قوياً
فعالاً في التأثير على الجماعة الموالية. بحيث لم يبق لهؤلاء الزورين
باقية، يمكن أن تصلح سنداً للدولة ، حتى لة أرادت استخدامها.
الثالث: ان الدولة ، كانت تخاف على قواعدها الشعبية من التشتت
والانهدام . فأنها على اي حال قائمة على اساس الإلتزام بالإسلام،
ومنفعة في أصل وجودها من شعاراته. فإذا دخلتها الدعوات المنحرفة عنه
بشكل علني صريح ، كان ذلك مضراً بها لا محالة.
صفحة (537)
الرابع : ان الدولة كانت تخاف - في حدود ما تفهم - بأن يؤثر هؤلاء المنحرفون، بشكل أو آخر، في صرف بعض قواعدها الشعبية عن مذهبهم وتقريبهم إلى خط الأئمة عليهم السلام ..ولو باعتبار أن هؤلاء المنحرفين مدعين للسفارة عن ألإمام المهدي عليه السلام ،وهو القائد الفعلي لذلك الخط، وهو الخط الذي تفرق منه السلطات وتخشاه .
وقد سبقت بعض الشواهد على ذلك(1).
الخامس: أن هؤلاء المنحرفين ، كانوا في الأعم الأغلب مشتركين مع خط الأئمة والسفراء ، في الشعور بالظلم وعدم الإعتراف بشرعيتها، وهذا الشعور نفسه يجعلهم يرهبون أن يبيعوا ضمائرهم للسلطات ويكرسوا نشاطهم من أجلها. وهم يشعرون بكل عمق ،إنهم لن يحصلوا من القواعد الشعبية أحداً ، لو شعر الناس منهم مثل هذا الإتجاه.
وهذا هو الذي جعلهم طرفاً للعداء مع السلطات ومع السفراء على حد سواء .ولم يكن في مستطاعهم ،وهم يمثلون أضيق الإتجاهات وأضعفها ، أن يحاربوا في جبهتين، ويبذلوا نشاطهم في أكثر من ميدان واحد ، مما عجل في خاتمة أمرهم ، وإنهاء حسابهم ، وتوفيق الله للأمة الإسلامية عموماً والموالين خصوصاً للخلاص منهم.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص87
صفحة (538)