الفصل الخامس

 

الإمــام المــهدي(ع)

حيــاته ونشـاطه

خـلال هـذه الفترة

 

ويقع الكلام في ذلك ضمن عدة حقول ، نذكر عناوينها أولاً، لنكون على ذكر منها حين ندخل في التفاصيل. فهي :

أولاً : حياته الخاصة خلال غيبته الصغرى .

ثانياً : محاولات القبض عليه من قبل السلطات .

ثالثاً : مقابلات للناس من حيث اسلوب ذلك وأهدافه .

رابعاً : تصرفه في الأمور المالية .

خامساً : حله للمشكلات العامة والخاصة .

سادساً : نصبه لوكلاء غير السفراء الأربعة .

سابعاً : إعلانه انتهاء السفارة وبدأ الغيبة الكبرى .

 

وقد عرفنا الشيء الكثير عن الإتجاهات والأساليب التي كان يتبناها الإمام المهدي عليه السلام ، مما يندرج في عدد من هذه العناوين ،وعلينا في هذا الفصل ترتيب ما عرفناه مع الزيادة عليه .

صفحة (539)

وتجنباً للتكرار ، سيكون التعرض إلى ما عرفناه مما سبق ضئيلاً إلى حد كبير ، وسيكون الجهد مكرساً على ما يستجد في هذا الفصل من تاريخ وأفكار.

 

الحقل الأول

حياة المهدي(ع) الخاصة 

من حيث صفته ومكانه ومقدار عمره ، وعدد من خصائصه الشخصية خلال غيبته الصغرى .

شكله :

كان سلام الله عليه وعجل فرجه ، يوم وفاة أبيه ، حيت رآه الناس يصلي على ابيه ... صبياً بوجهه سمرة ، بشعره قطط بأسنانه تفل ، كما سبق ان سمعنا .

لم يصفه من رآه بعد ذلك خلال غيبته الصغرى ، بأنه شاب حسن الوجه طيب الرائحة ، هيوب ، ومع هيبته متقرب إلى الناس .قال الراوي :فتكلم ، فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب من منطقه في حسن جلوسه(1). وفي رواية أخرى كأنه شاب أسمر لم أر قط في حسن صورته واعتدال قامته(2) .

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ ص152

(2) المصدر ص153

صفحة (540)

وفي رواية ثالثة فتى حسن الوجه طيب الرائحة يتبختر في مشيته(1). وفي رواية رابعة: أنه ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللازق بل مربوع القامة مدور الهامة صلب الجبين أزج الحاجبين ، أقنى الأنف ، سهل الخدين ، على خده الأيمن خال(2) .إلى غير ذلك من الروايات (3).

ونسمع من سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه ، حين سئل عن رؤيته للمهدي (ع) ...يصف عنقه في حسنه وغلظه ، فيشير بيده ويقول :وعنقه هكذا (4) أو قال :ورقبته مثل هذه(5). وإنما أكد على صفة عنقه ليدل على صفة الرجولة فيه ، وأنه لم يبق كما عهده الناس في حياة أبيه صبياً صغيراً ،أو غلاماً عشارياً عليه رداء تقنع به(6) .

إذن فهو عليه السلام ، قد تقدم وتطور من حيث شكله، فأصبح شاباً بعد أن كان غلاماً وقوياً بعد أن كان ضعيفاً وكبيراً بعد أن كان صغيراً ، وكان سفراؤه يواجهونه في شبابه هذا.

ــــــــــــــــ  

(1)غيبة الشيخ ص159      (2) المصدر ص161

(3) انظر المصدر أيضاً ص156 وص163 وص182 وغيره من المصادر كثير.

(4) المصدر ص215        (5) المصدر 219

(6) المصدر ص155

صفحة (541)

ففي زمان العمري السفير الثاني ،حاول شخص أن يقابل المهدي (ع) فوفر له العمري فرصة المقابلة ،فرآه شاباً من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة ، بهيئة التجار ، وفي كمه شيء كهيئة التجار (1).

وكونه عليه السلام بهيئة التجار ، يدلنا على لباسه خلال هذه الفترة بل على عمله أيضاً ..وهو التجارة ، حيث يستطيع أن يواجه الناس كتاجر من التجار من دون ان يعرف الناس حقيقته ،ولعله تاجر مستقل عن تجارة سفره أو يعمل سفيره في تجارته .وقد عرفنا مما سبق أن هيئة الكثير من علماء الخاصة بما فيهم السفراء أنفسهم ووكلائهم ،وعملهم الإجتماعي الظاهر ، كان على ذلك .

ومن هنا اتخذ قائدهم وإمامهم نفس العمل والملبس ،وهو أمر أبعد ما يكون عن إلفات النظر وإثارة الشكوك .

ثم يوصف لباسه حال الإحرام للحج ،وهو عليه السلام يحضر الموسم كل سنة ، يرى الناس ويعرفهم ،ويرونه ولا يعرفونه(2) ويكون في أثناء حجه متزراً ببردة  ومتشحاً بأخرى  ،وقد عطف بردائه على عاتقه(3) شأنه في ذلك شأن كل حاج محرم يلبس ثياب الإحرام ،وفي رواية أخرى عليه إزاران(4).

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ ص164    (2) المصدر ص221

(3) اكمال الدين المخطوط    (4) غيبة الشيخ الطوسي ص156

صفحة (542)

مكانه وانتقالاته :

كان حال حياة أبيه عليهما السلام في سامراء . دلت على ذلك جميع الروايات الناقلة لمشاهدته في تلك الفترة ، وقد سبق أن سمعنا قسطاً كبيراً منها .ومن الطبيعي أن يبقى في سامراء يوم وفاة أبيه يصلي على أبيه ويقابل وفد القميين ، ليحولهم على بغداد ، حيث يعين لهم سفيراً جديداً .

ويبقى في سامراء ردحاً من السنين بعد ذلك ،كما تدل عليه حوادث تحويل السفيرين الأولين بأموال الوفود إلى سامراء ،كما سيأتي في الحقل الخاص بذلك ، ويدل عليه أيضاً ما قامت به السلطات من المطاردة له والكبس على داره في سامراء من قبل المعتمد والمعتضد .حيث يكون عليه السلام موجوداً هناك ولكنه يستطيع التخلص والهروب ،إذن فهو إلى زمان خلافة المعتضد التي تولاها عام 279. كان ساكناً في دار ابيه في سامراء فلو فرض  –كما هو المظنون ان الكبس الذي امر به المعتضد كان في اول عام من خلافته ، فمعنى ذلك أن المهدي عليه السلام بقي هناك تسعة عشر سنة بعد وفاة أبيه عليه السلام.

وقد أبعد المهدي (ع) عن نفسه كل الآثار ،وكل ما يلفت النظر ويثير الشك ، حتى وكلائه أصبحوا بعيدين عنه، لكي لا يوجهوا الأنظار إليه أولاً ، ولكي يعيشوا في قلب الحوادث الإجتماعية شأن كل من يريد أداء الخدمة الصالحة لمجتمعه وأمته ، ثانياً، ولكي يبعدوا هم بدورهم عن أرصاد الدولة وعاصمة الملك حال كونها في سامراء خلال هذه التسعة عشر سنة ثالثاً .

صفحة (543)

أما هو فلا ينبغي أن يعيش الحوادث ولا أن يختلط بالناس ،بل يبقى بعيداً يكتفي بسماع الأخبار والإطلاع على الآثار، يعيش هموم الأمة الإسلامية ذهنياً إن لم يستطع أن يعيشها خارجاً ،حتى تهدأ النائرة ، ويندمل الجرح وتخف المطاردة ، وبمضي الردح الأول من الغيبة الصغرى ليستطيع بعد ذلك أن يقوم بعمل جديد .

والمتتبع لخروج التوقيعات والبيانات عن الإمام المهدي عليه السلام  خلال الفترة الأولى من غيبته ، يرى بوضوح قلتها وندرتها .إلى حد لا يكاد ينقل عن السفير الأول ، بل السفير الثاني في أول سفارته توقيع ذو بال، إلا في حدود قليلة وعند الحاجة الكبيرة ، وما ذلك إلا لأن الحاجة إلى الحذر في هذه الفترة ألزم ، والبعد ما بين المهدي وسفرائه من حيث المكان أكثر.

وحين تنتهي هذه الفترة الحرجة ،ولا يزال  محمد بن عثمان سفيراً في ذلك الحين ، تنفتح له عليه السلام ، فرصة جديدة في الخروج والتجول بنحو لا يمكن أن يعرفه الناس ولا أن يشار إليه بحقيقته ، فإن أكثر الناس لم يروه في حياة أبيه، ومن رآه منهم كان قد رآه طفلاً أو صبياً والآن قد أصبح شاباً وسيماً ،فلا تكاد ملامحه أن تكون محفوظة معروفة بعد مرور هذه الفترة، على ان جيلاً من الناس قد مات وجيلاً قد واجه الحياة من جديد، وهو لا يعرف من شكل المهدي شيئاً . وكلما طالت المدة ابتعدت صورته عن أذهان الناس وذابت ذوباناً كلياً .

صفحة (544)

ومن هنا انفسحت للمهدي فرصة جديدة ،لأن يدخل بغداد لنراه  تارة بزي التجار(1). وأخرى أمراً محمد بن علي بن بلال ،أن يدفع ما لديه من الأموال إلى سفيره العمري(2) .وأصبح يحضر موسم الحج في كل عام ، كما سمعنا ماشياً (3)،بل أصبح يخالط الحجاج من خواصه ويحدثهم(4) ويعلمهم الأدعية ويعطيهم  التعليمات(5) .بل أنه ليكشف حقيقته امام البعض إذا اقتضت المصلحة ولم يكن في ذلك خطر(6). وكان يسكن خلال فترة الحج في تلك الديار المقدسة .

ومن هنا سنرى ان جملة من مقابلاته تمت هناك ، من قبل الباحثين عنه المريدين التشرف بلقائه.

وكما يذهب إلى الحج ،فإنه يذهب إلى كربلاء لزيارة جده سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين، يوم عرفة، فيوصل  إلى أحدهم مالاً (7) على ما سيأتي .

بل أنه يصل إلى مصر. على ما يظهر من بعض الروايات ، وينزل الإسكندرية في خان ينزله الغرباء ، يصلي في مسجده بأهل ذلك الخان .ثم يسافر مع أحدهم ، ويأخذ طريق البحر(8).

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص164     (2) المصدر ص246

(3) المصدر ص258                   (4) انظر المصدر نفسه ص152

(5) المصدر ص156                   (6) المصدر ص152

(7) المصدر ص 181                  (8)  المصدر ص183

صفحة (545)

ثم أنه يعود من هذه الأسفار إلى بغداد ليباشر الإتصال بسفرائه ،وإدارة مصالح المجتمع ،والوقوف في وجه المنحرفين ، عن طريق التوقيعات والبيانات .

هذا ونسمع قول المهدي "ع" في رواية علي بن ابراهيم بن مهزيار ! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ،ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ،ولهم عذاب أليم وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها.والله مولاكم أظهر التقية،فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي فأخرج(1).

وهذا الخبر لو صح لكان معارضاً لعدد من الأخبار أهمها طريقة استحصال التوقيعات منه عليه السلام ،إلا ببعض الفروض االبعيدة أو الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها ،والمهدي (ع) في غنى عن اتخاذها. ومعه تكون تلك الأخبار مقدمة على مدلول هذا الخبر. وقد سبق أن عرفنا أن الحذر والتقية يتم مع سكناه المدن ايضاً لعدم معرفة الناس بشكله وعدم الإلتفات إلى حقيقته .وليست التقية متوقفة على سكنى الجبال وعفر البلاد .ان لم يكن ذلك ملفتاً للنظر وجالباً للشك احياناً والله العالم بحقائق الامور.

ــــــــــــــــ  

(1) غيبته الشيخ ا لطوسي ص161

صفحة (546)

عمره الشريف:

ولد عليه السلام في النصف من شعبان عام 255 ،كما عرفنا ، فيكون عمره حين وفاة أبيه شهر ربيع الأول من عام 260 كما سبق ، أربع سنوات وحوالي ستة أشهر .وقال المسعودي وثمانية أشهر(1).

ولعله مبني على رواية أخرى لم تأخذ بها ،وفي هذا العمر تولى منصب الإمامة وقيادة الأمة وآتاه الله الحكم صبياً.

وقد عرفنا أنه لم يكن شكله يوم وفاة أبيه موافقاً مع هذا العمر ، بل كان صبياً يافعاً يقول من يراه أنه ابن ثمان أو عشر سنين ،وقد أعطينا لذلك التبريرات الكافية فيما سبق ويكون عمره الشريف حين شوهد في الحج عام 293 ، شاباً أسمر ، قال الراوي : لم أر قط في حسن صورته واعتدال قامته(2) ثمان وثلاثون عاماً .

ويكون عمره عند وفاة سفيره الثاني في جمادى الأولى عام 305 خمسين عاماً غير ثلاثة أشهر .وعند وفاة سفيره الثالث الحسين بن روح رضي الله عنه عام 326 واحداً وسبعين عاماً.

ويكون عمره عند وفاة سفيره الرابع الشيخ السمري، عام 329 ، وانتهاء فترة الغيبة الصغرى ..أربعاً وسبعين عاماً ، قضى منها أربع سنين ونصف في حياة أبيه عليه السلام ، وتسعة وستين عاماً ونصف في حياة أبيه عليه السلام ، وتسعة وستين عاماً ونصف وخمسة عشر يوماً في الغيبة الصغرى ، ثم بدأت الغيبة الكبرى حيث لا ظهور إلا أن يأذن الله تعالى بالفرج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

ــــــــــــــــ  

(1) اثبات لاوصية ص236

(2) الغيبة ص153

صفحة (547)

ويكون عمره يوم انتهى المسعودي من كتابه إثبات الوصية ،وهو عام اثنتين وثلاثين وثلاث مائة ، أي بعد انتهاء الغيبة الصغرى بثلاث سنوات ...يكون عمره الشريف ستاً وسبعين سنة واحد عشر شهراً ونصف شهر ، كما ذكر المسعودي(1).

هذا بحسب عدد السنين ، وأما بحسب شكله ، فكان عليه السلام لا يزال شاباً . يقدره الناظر بحوالي العشرين عاماً على ما يستفاد من مجموع اوصافه ،وهذا أمر ممكن بل ضروري الثبوت ، باعتبارين:

أحدهما ،وهو الأمر الأساسي ،الإيمان بقدرة الله تعالى الذي خلقكم أول مرة ،والذي يحي العظام وهي رميم، وبيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير.

فإذا عرفنا المصلحة الكبرى المتوقفة على وجود المهدي (ع) والمسؤولية الكبرى المناطة به ،وإنها من الأهمية والرسوخ في الإسلام إلى حد يعمل الله عز وجل إرادته الخاصة في تنفيذها ...نعرف كيف يمكن أن يحفظ الله تعالى المهدي لأجل ذلك الهدف الكبير.

ثانيهما: نموه البطيء في غيبته الكبرى بحيث يقدر له من العمر حين ظهوره أربعين عاماً كما ورد في الروايات(2)

إذن فهو بالرغم من نموه السريع في صغره في حياة أبيه ، حتى نما في الأربع سنوات ،ما ينمو به ألإنسان خلال ثمان أو عشر سنين ...أصبح نموه يتباطأ بعد ذلك .ففي خلال السبعين عاماً لغيبته الصغرى نما بمقدار حوالي العشر سنين من العمر الطبيعي ،حيث كان في أولها يقدر بحوالي عشر سنوات ،وكان في آخرها يقدر بحوالي العشرين .

ــــــــــــــــ  

(1) انظر إثبات الوصية ص263

(2) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص258 وكتاب المهدي .

صفحة (548)

ثم هو في السنوات المتطاولة المتمادية في غيبته الكبرى ينمو بمقدار العشرين الباقية من سن الأربعين الطبيعي للإنسان، ليظهر في آخرها وهو كإبن الأربعين ،وهو السن الذي يكون فيه الرجل في غاية الرشد والنضج والحنكة.

ثم أن المظنون أن نموه أمام الناس بعد ظهوره سوف يكون طبيعياً كشخص له أربعون سنة ، فما فوق.

ومن طريف ما ورد  في هذا الصدد ،ما في عقد الدرر عن أبي عبد الله الحسن عليه السلام ،أنه قال :أنه لو قام المهدي لأنكره الناس ،لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً وإن من أعظم البلية أن يخرج إليهم صاحبهم شاباً ،وهم يظنونه شيخاً كبيراً(1)،والمراد من قوله ، يرجع إليهم أنه يظهر لهم بعد غياب ،لا أنه يكون شيخاً ثم يتحول شاباً بطريق إعجازي .

هذا كله، بحسب المصالح الإلهية الكبرى ، المذخورة ليومه الموعود.

فهذه لمحات من حياته الخاصة ، وستعرف جملة أخرى من تفاصيلها في الحقول التالية .

الحقل الثاني

ــــــــــــــــ  

(1) كتاب المهدي ص208 وانظر عقد الدرر المخطوط.

 

صفحة (549)

محاولة السلطات القبض عليه

 

كان القبض عليه أحد الأهداف الكبرى للدولة ،من حيث أنها تعلم ما في كيانها من ضعف وانحراف وتسيب. وتعلم أن المهدي عليه السلام هو المذخور لرفع الظلم والجور عن بني البشر ،إذن فهو يناقض بأساس وجوده وعمق هدفه ، كيان هذه الدولة من الصميم ، ويشكل ضدها الخطر الأصيل .

ولم تكن الدولة لتعلم أنه سيتأخر ظهوره ، ما حصل له من التأخير بعد ذلك ،فإن من مميزات ظهور الإمام المهدي (ع) كونه محتمل الظهور في كل وقت ، لكي  يخافه كل ظالم ويخشاه كل منحرف.

وقد سبق أن دللنا على ان الخلفاء كانوا عالمين بوجوده وهدفه ولا أقل من احتمالهم لذلك .وهو يكفي لتصديهم إلى تحصين دولتهم ضد خطره وتجريد الحملات للقبض عليه.

وقد جردت السلطات ثلاث حملات للقبض عليه، إحداها قام بها المعتمد في الفترة القليلة المتأخرة عن وفاة الإمام العسكري عليه السلام والأخريان قام بهما المعتضد الذي تولى الحكم بعده ،واما الخلفاء المـتأخرون فلم ينقل عنهم ذلك، ولعلهم كانوا قد أيسوا من ذلك يأساً تاماً.

أما محاولة المعتمد ، فقد سبق أن سمعناها في القسم الأول من هذا التاريخ ، عند استعراض ما قام به جعفر بن علي من محاولات وأعمال فلا نعيد.

وقد عرفنا ما تلا ذلك من انشغال الدولة بحرب صاحب الزنج وغيره، مما اوجب انحراف السلطات ذهنياً عن أن تجرد حملات أخرى للكبس والتفتيش ، أثناء خلافة المعتمد ،وهي التسعة عشر عاماً التي قضاها في الحكم بعد وفاة الامام العسكري .

صفحة (550)

الا ان التجسس المستمر والتلفت الدائم من قبل السلطات ، كان قائماً على قدم وساق ، ومستمراً خلال الزمان، وكان يجابه كما عرفنا باساليب السرية والكتمان والمضاعفة التي كان يقوم بها السفيران الاولان في هذه الفترة الصعبة من الغيبة الصغرى ،بما في ذلك تحريم التصريح باسمه والدلالة على مكانه ، إلا لمن امتحن الله قلبه للإيمان .وفي خلال هذه الأعوام التسعة عشر ، يكون التجسس قد أنتج شيئاً مهماً بالنسبة إلى الدولة. وهو ثبوت فكرة السفارة لديها ،وأن هناك من يدعي السفارة عن الإمام المهدي (ع) ويقبض المال بالوكالة عنه(1) إذن فهو موجود ، ليس هذا فقط ، بل يحاول قيادة قواعده الشعبية وقبض الأموال منهم .ومن ثم كانت من أعظم مهام المعتضد عند توليه الخلافة أن يجدد الحملات لمحاولات القبض على المهدي .

ومن ثم يبادر، فيبعث على ثلاث نفر ، فيهم أمرهم ، رشيق صاحب الماداري، ويأمرهم أن يخرجوا إلى سامراء مخففين لا يكون معهم قليل ولا كثير، إلا أن يركب كل واحد منهم فرساً ويجنب معه آخر ووصف لهم محلة وداراً ، وقال :إذا أتيتموها تجدون على الباب خادماً اسود فاكبسوا الدار ومن رايتم فيها فاتوني براسه(2).

ــــــــــــــــ  

(1) أعلام الورى ص421

(2) انظر تفصيل الرواية في لغيبة ص149 وما بعدها الخرايج ص67والبحار ج13 ص118

صفحة (551)

انظر لمقدار ما أتت به أخبار التجسس ..إنه يعلم بدار المهدي (ع) وهي دار ابيه ..إنها دار معروفة في سامراء، لها تاريخ مجيد وليس في هذا ما يلفت الإنتباه  ..ولكنه يعلم بالعبد الجالس على باب الدار .فإنه من الأخبار المتأخرة ،إذ  لم تكن الحالة في حياة الإمام العسكري بهذا الشكل بالتعيين.

كما أنه يعلم بوجود شخص آخر غير هذا العبد ، في داخل الدار وهو الإمام المهدي (ع) لا محالة ،وعلى الأقل يعلم انها دار سكناه وان كان يحتمل عدم وجوده فيها ساعة الكبس ولكن لا اقل من احتمال وجوده والكبس دائماً مغامرة ومقامرة.

وهو لا يحاول أن يرى المهدي او ان يكلمه، وإنما يأمر بقتله رأساً وحمل رأسه إليه، وبذلك يتحقق الهدف الأعلى لكيان الدولة الزائف .

وهو لا يعين لهم شخصاً أو اسماً معيناً ، بل يغمض من هذه الناحية أنه يريد أن يبقي هذا الأمر خفياً حتى على هؤلاء القائمين بالجملة ،ولا يهمه بعد ذلك أن يقتلوا شخصاً غير المهدي ويأتوه برأسه ، فحسبه أنه قام بالمحاولة على أي حال .

ويتوخى المعتضد من هذا الإغماض أهدافاً :

الأول: عدم إثارة مسألة المهدي إمام هؤلاء الجلاوزة ،وعدم تنبيههم إلى ذلك ،مهما أمكن ،لكي لا يكون ذلك رأس الخيط بالنسبة إليهم أو إلى أحهم للبحث عن الحق في خط الإمام المهدي (ع) او الميل إليه .

صفحة (552)

الثاني: عدم كشف مهمتهم الحقيقية أمامهم ، محافظة على سمعته وسمعة الدولة. فإنهم إن عرفوا ان المعتضد يكلفهم القبض على المهدي (ع) ،أمكن تسريب الخبر إلى المجتمع ، فيترتب على ذلك، ما لا يحمد عقباه للمعتضد .

الثالث: عدم كشف مهمتهم الحقيقية أمامهم للمحافظة على سرية المطلب. حتى عن خاصة الدولة، وجهاز استخباراتها .فإن الأمر اهم وادق من ان يعرفه الناس .وقد كان أشخاص الخلفاء وحدهم يعرفون ذلك في الغالب، وقد عرفنا وجه مصلحتهم في الحرص على سرية المطلب وإبهامه. وبدأت الحملة كما امر المعتضد، وتوجه الثلاثة إلى سامراء، وبحثوا عن الدار، فوجدوها، كما وصفها لهم المعتضد .ورأوا في الدهليز خادماً أسود وفي يده تكة ينسجها .فسألوه عن الدار ومن فيها فقال :صاحبها .قال: رشيق: فوالله ما التفت إلينا وقل اكتراثه بنا.

ثم أنهم استمروا على مهمتهم ، فكبسوا الدار وجاسوا خلالها فوجدوا غرفة سرية .وعليها ستر جميل جديد . قال رشيق : ما نظرت قط إلى أنبل منه ، كأن الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت .

ولم يكن في الدار أحد. فرفعوا الستر ،فرأوا بيتاً كبيراً كأنه بحر فيه ماء ،وفي أقصى البيت حصير يبدو كأنه على الماء .وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة . قائم يصلي ،وبقي مشتغلاً بصلاته متوجهاً إلى ربه لم يلتفت إليهم ، كأنه لم يرهم ولم يسمعهم.

صفحة (553)

فسبق أحد الرجلين اللذين كانا مع رشيق ليتخطى البيت ، فغرق في الماء، وما زال يضطرب ، حتى أنقذوه وأخرجوه ، وغشي عليه وبقي ساعة ، ثم هم الرجل الآخر أن يتخطى البيت فغرق في الماء أيضاً .فأصابه ما أصاب صاحبه.

فبقي رشيق وهو قائد الحملة ، مبهوتاً واجماً ،وليس من نيل الغرض ،وأراد أن يلطف من خاطر هذا المصلي ويزيل ما قد يكون قد علق بذهنه من هذه الحملة ،فتوجه إليه قائلا :المعذرة إلى الله واليك فوالله ما علمت كيف الخبر ولا إلى من أجيء .وأنا تائب إلى الله .قال رشيق : فوالله ما التفت إلى شيء مما قلنا .وما انتقل عما كان فيه فهالنا ذلك ، وانصرفنا عنه.

انظر كيف انتصر المهدي (ع) على هؤلاء الجلاوزة المنحرفين وكيف استطاع أن يؤثر على أعصابهم هذا التأثير الرهيب ، فقد كان يمكنه أن يدبر أمره بحيث يختفي منهم كما لا يراهم ولا يرون ..بأن يكون خارج تلك الدار ساعة الكبس .ولكنه دبر الأمر بحيث يتحدى السلطات يقيم عليها الحجة ، في إثبات حقه .

فقد ملأ مكانه ،بأسلوب طبيعي أو إعجازي بالماء ،وبقي آمناً لا حاجة له أن يلتفت إلى هذه الحملة،أو أن يعيرها أية أهمية ، حتى خادمه الأسود ،كان مطمئناً من تدابير مولاه وإمامه ، وحفظ الله تعالى إياه ، فلا حاجة إلى الخوف والاهتمام .

والمهدي عليه السلام ، يعلم سلفاً أن لا يكون مع هؤلاء الجلاوزة سلاح يقذف به كالسهم ، ليصل إليه وهو على مصلاه في نهاية الغرفة .

صفحة (554)

وإنما يستصحبون معهم السيف ، لقطع رأسه ،وهو لا يمكن أن يعمل مع هذه التدابير ، والعلم بساعة  ورودهم ونوع سلاحهم ،ونحو ذلك ليس بدعاً على علم الإمامة وليس أعجب من هذا التدبير الذي أرهب السلطات وانتصر عليهم .

وكان الجلاوزة ظنوا أنهم متوهمون في حسبان المكان مملوءاً بالماء وأنه شيء من خداع النظر .حيث حاول اثنان منهم اقتحام المكان .

ونفس كلام رشيق يوحي بهذا الظن حيث يقول :كأن بحراً فيه ماء .

وفي أقصى البيت حصير قد علما أنه على الماء .أي أنهم ظنوا ولم يتأكدوا بحسب ما يدل عليه السياق ،إلا أن التجربة الفعلية المكررة ، في غرق اثنين منهم يقطعون الشك باليقين ،فإنه سواء كان حصول الماء طبيعياً أو إعجازياً ، فإنه يوجب الغرق .ولا يعني بحال كونه وهمياً غير واقعي.

واما وقوف الإمام عليه السلام على الماء . فإن كان حقيقياً  ، فهو إعجازي لا محالة ، لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل ،لإقامة الحجة على المنحرفين والظالمين ، والمعجزة عند إقامة الحجة ممكنة بل ضرورية كما برهنا عليه في بحوث أخرى ، وعليها قامت الدعوة الإلهية في خط الأنبياء الطويل .

 

صفحة (555)

على أننا يمكن أن نتصور أن المهدي(ع) قد أعد لنفسه في آخر هذا الماء قطعة صغيرة من الأرض .بمقدار الحصير لكي يصلي عليها ، وكان الماء يغمرها ، فلم يبد منها شيء ، فتوهموا ان الحصير على الماء.

وحين ايس رشيق من بلوغ الغرض ،وذاق صاحباه الغرق والعذاب ،اضطر إلى الانصياع للتحدي والاعتراف بالعجز .انه لم يكن يتوقع شيئاً مما رآه فضلاً عن كل ما رآه ولم يعلم  إلا أن المعتضد أرسله على شخص ما ليقبض عليه ويأخذ برأسه ،وأما مثل هذا التدبير الحاسم فهو لم يواجه مثله من قبل أي شخص آخر حاول القبض عليه ،أنه يواجه الهول والتحدي الصريح لأول مرة في حياته ، بشكل لا يجد له حيلة ،ولا يعرف إلى تذليله طريقاً.

إذن ، فلصاحب هذا البيت شأن غير اعتيادي شأن أعلى من القوى الإعتيادية التي يعرفها رشيق ،والمعتضد إنما أغمض له الشك لسبب في نفسه ، إذن لعله يعرف شأن صاحب هذا البيت على الإجمال ،إنه هو الذي أوقعه في هذا الهول والتحدي .بالرغم ان التحدي في واقعه متوجه إلى المعتضد نفسه أكثر مما هو متوجه إليه.

وعلى أي حال، فينبغي التملص من المسألة ، وإلقاء المسؤولية كلها على كاهل المعتضد، والإعتذار من صاحب الدار ، ذي الشأن المجهول الرهيب .

ولكن ماذا يجدي لديه الإعتذار، إنه اعتذار المتلبس بالجرم، إنه قبل لحظات ،بل وحتى بعد الإعتذار ، لو استطاع أن يقبض عليه ويقطع رأسه لفعل ،إذن فليس لاعتذاره أي قيمة ولا أهمية ... ولا ينبغي الاعتناء به بحال .

صفحة (556)

وصحب هؤلاء الجلاوزة هو لهم في داخل قلوبهم ، وتوجهوا تواً إلى بغداد ، ليحملوا هذا الخبر العجيب الرهيب إلى المعتضد ، وكان المعتضد ينتظرهم ، وقد أمر الحجاب والحرس على ان يدخل هذا الوفد عليه في أي وقت كان ، ليلاً او نهاراً فان مهمتهم اعمق واعقد من ان تحتمل التأجيل .

ودخل عليه الوفد يحمل هولة بين جنبيه ،وصب امامه الحكاية كما وقعت فقال: ويحكم لقيكم احد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب او قول .فقالوا :لا فقال انا نفى من جدي أي ليس من بني العباس وحلف بأشد الإيمان  له انه رجل ان بلغه انهم اخبروا بهذين الخبر ليضربن اعناقهم. قال رشيق: فما جسرنا ان نحدث به الا بعد موته.

ان المعتضد ، لم يجد فيما رووه له ،هولاً او أمرا غريباً فانه يعرف أن من حاول القبض عليه من العمق والسمو بحيث لا يكون مثل هذا الأمر غريباً منه. وقد سبقت من آبائه عليه السلام إلى أسلاف المعتضد أمور كثيرة من هذا القبيل .

إنه يعرف ذلك جيداً  ،ولكنه يخاف منه على قواعده الشعبية وأساس ملكه ،إن هؤلاء الثلاثة بالرغم من أنه حاول الإغماض لهم في كلامه .قد اطلعوا على الحقيقة وواجهوا الحق ،حتى اضطر رشيق إلى التنازل والتوبة ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون الناس الآخرون كرشيق عارفين بالحق أو منصاعين له، ومن ثم نراه يحلف لهم بأغلظ الأيمان ويهددهم بالقتل ،أن بلغه أنهم أخبروا أحدا بذلك، فلم يجسروا أن يخبروا به إلا بعد موته ،فإن إيمانه وتهديده إنما يكون رسمياً في حال حياته وبطشه لا بعد موته وفوته.

صفحة (557)

يبقى احتمال واحد ، وهو أن لا يكون هذا الذي وجدوه هو المهدي بل شخص آخر غيره ، فإن اسمه لم يرد في الرواية ، بل لعل رشيق قائد الحملة لم يعين في ذهنه ، من بعد رجوعه أنه المهدي (ع) بالتعيين.

ولكننا نستطيع الجزم  بكونه هو المهدي بعدة قرائن :

الأولى : إقامة الحجة بالمعجزة أمام أعضاء الحملة والسلطات المتمثلة بالخليفة نفسه.

فان الحادثة تحتوي على عنصر غيبي لا محالة، فلإن استطعنا أن نفهم الماء الذي شاهدوه وغرقوا فيه والحصير الذي عليه بنحو طبيعي اعتيادي .. فلا يمكن أن نفهم علمه بموعد مجيئهم ونوع سلاحهم على الطريق الاعتيادي .مع انصرافه عن المجتمع في تلك الأيام وسرية هذه الحملة سرية تامة ، يهتم المعتضد بإخفائها اهتماماً بالغاً .

وقد التفت المعتضد نفسه إلى هذه الحجة الواضحة ،ومن هنا زاد اهتمامه بالإخفاء حفاظاً على الخط العام للدولة بين قواعدها الشعبية.

وقد علمنا بالبرهان الدال على إمامة المهدي عليه السلام ،انه ليس هناك في ذلك العصر ،من يقيم المعجزة بإعداد من الله عز وجل سواه.

تعين القول بأن هذا الشخص الذي وجدوه هو المهدي (ع) لا سواه.

صفحة (558)

الثانية : أنه مع غض النظر عن الجانب الإعجازي ، تستطيع الجزم بأنه لم يكن في العالم في ذلك العصر، فضلاً عن سامراء التي كانت مهجورة وغامرة بعد انتقاله الخلافة عنها إلى بغداد ..ليس هناك من يستطيع القيام بهذا التدبير الدقيق لتحدي السلطات والتخطيط لإرعابهم غير الإمام المهدي (ع) . فإنه لم يكن التكتيك دقيقاً على أي المستويات الاعتيادية في ذلك العصر ، حتى لدى السلطات نفسه، ما عدا ما كان من المهدي نفسه من إنقاذ سفرائه وقيادة قواعده الشعبية كما عرفنا مفصلاً ، فليس عجيباً أن يضع مثل هذا التخطيط ، مثل هذا العقل القيادي.

الثالثة: قول المعتضد – برواية الرواندي(1) - حين أمرهم بالتوجه إلى سامراء :الحقوا واكبسوا على دار الحسن بن علي ، فانه توفي ، ومن رأيتم في داره فأتوني برأسه .

ومن يكون في تلك الدار يومئذ إلا ابنه الإمام المهدي عليه السلام ؟

ومن يمكن ان يخطر في ذهن المعتضد ممن يحتمل أن يسكن في تلك الدار أو يستجير بها ويكون خطراً على الدولة والكيان القائم غيره؟

وظن المعتضد ،أن هذه الحملة ،إنما فشلت باعتبار قلة العدد وسرية التوجيه والتنفيذ. ولا أقل من احتمال نجاح الحملة او كثر العدد وانكشف الغرض. ولم يستطع أو لم يرد أن يفهم أن هذا العقل الذي تحداه مرة واحدة ، يمكنه أن يتحداه عشرات المرات.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر الخرايج والجرايج ص67

صفحة (559)

ولن تستطيع أي قوة في البشر أن تستطيع أن تسيطر عليه أو أن تقضي عليه .

ومن هنا جرد حملة أكبر، وبعث عدداً أكثر، وأتبعه بجيش كبير، فانظر إلى هذا الجبن من الفرد الواحد ،والفزع الذي تتصف به الدولة تجاه هذا الأمر العظيم .

وأود في هذا الصدد أن أذكر بالرواية بنصها(1) قال الراوي : ثم بعثوا عسكراً أكثر ، فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا على بابه وحفظوه حتى لا يصعد ولا يخرج .وأميرهم – يعني قائد الحملة – قائم حتى يصل(2) العسكر كلهم ، فخرج من السكة التي على باب السرداب ،ومر عليهم ، فلما غاب ، قال الأمير: انزلوا عليه .

فقال: أليس هو مر عليك. فقال: ما رأيت. قال: ولم تركتموه .

قالوا: إنا حسبنا أنك تراه .

انظر لهذا التحدي الجديد من قبل المهدي عليه السلام للسلطات أنه تحد أبسط، ولكنه أعمق وأعقد في نفس الوقت. فإن ذلك التحدي على تعقيده، لم يكن إلا لدفع ثلاثة أنفار. وأما هذا التحدي على بساطته ، فهو لدفع جيش كبير من جلاوزة  السلطان، وتسجيل الفشل على مهمتهم.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر البحار ص118 ج13

(2) في المصدر : يصلي . وهو غلط مطبعي لا محالة.

صفحة (560)

إنه يقرأ القرآن ، وهل في قراءة القرآن أي ضير حتى في نظر السلطات ؟ إن القرآن الكريم هو حلقة الوصل بين جميع الفئات الإسلامية ،والعلامة الرئيسية لتمسك الفرد بالإسلام. فالمهدي يريد أن يفهم ضمناً – لو كانوا يفهمون – حرمة الاعتداء عليه وقتله ، باعتباره مؤمناً بالقرآن الذي تعترف السلطات بقدسيته .

وهو في حين الوقت يتحداهم بقراءته .إنه لا يخافهم ولا يخشاهم .

فإنه يعلم بوجودهم ويسمع ضوضاءهم ولكنه لا يسكت عن القراءة ولا يخفي نفسه ،بل  إنه ليغرق في التحدي فيخرج أمامهم ،بحيث يراهم ويرونه ، ولكنهم لا يقبضون عليه ، مع أنهم قادمون لأجل ذلك بالذات.

وهو يقرأ القرآن بالسرداب ،والسرداب دائماً هو المقر الطبيعي للفارين، الذين لا ينسجمون مع الحياة الاجتماعية ، إما لانحرافها أو لحصول حرب أو غير ذلك.

ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة ،أنهم لم يبادروا للقبض عليه .

بل وقفوا على باب السرداب يحافظون عليه، ويتجنبون عن اقتحامه.

إنهم يخافون مواجهة المهدي (ع) ويحتاجون إلى مدد أكبر وعدد أكثر .فهم منتظرون لوصول المدد من بغداد إلى سامراء .

وفي هذه الأثناء استغل المهدي أروع لحظة من لحظات ذلك الحصار ، لحظة اقترنت بالدقة بالتوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية ، إنها لحظة غفلة قائد الحملة عن الترصد والانتباه .

لحظة لم يأت فيها المدد ، ولم تصدر الأوامر بعد إلى اقتحام المكان.

ولو كان المهدي (ع) قد تأخر لحظة أخرى لقبضوا عليه لا محالة.

استغل المهدي تلك الفرصة السامحة ، وخرج أمامهم من السرداب .

واختفى حيث لا يمكن أن يصل إليه وهم هذا الجيش المهاجم.

صفحة (561)

ولم يلتفت قائدهم إلى خروجه ، كان ذهنه سارحاً إلى الخارج حيث يقبل المدد الكبير ،كان في حالة انتظار، وهي حالة تحطم الأعصاب وتأخذ بالأفكار ، وخاصة في مثل ذلك الموقف الصعب الدقيق.

ثم كأنه يستبطئ مجيء المدد فيفكر بالاقتحام بما لديه من الرجال لعله يستطيع تحقيق الهدف ، فتتدحرج الكلمات على شفتيه :انزلوا إليه .ودهش الحاضرون أن يأمرهم قائدهم باقتحام السرداب الفارغ !

بعد أن شاهدوا المهدي (ع ) يخرج أمامهم ويختفي .

ثم فكر قليلاً ! كان ينبغي أن يقبضوا عليه .. فلئن كان هو غافلاً فإنهم انتبهوا له، وكلهم يعلمون أن مهمتهم هي القبض عليه، فلماذا لم يقبضوا عليه حين رأوه ،ومن هنا توجه إليهم معاتباً :ولم تركتموه.

وكان جوابهم واضحاً صريحاً .أنا حسبنا ،أنك تراه .فإن الجيش ليس له أن يتصرف قبل قائده ومن دون أمره ، هكذا اعتادت الجيوش على مدى التاريخ ، وبالأولى حين يرون القائد ملتفتاً إلى الشخص المطلوب .ويأمر بشيء بصدده.

إنهم حسبوه ملتفتاً- ولم يكن لحسن القدر وجمال التوفيق – ملتفتاً .

وهكذا تظافرت هذه الأمور الصغيرة لكي تنتج النتيجة الكبيرة لكي ينفذ المخطط الإلهي العظيم لإنقاذ مستقبل البشرية بالمهدي من الظلم والجور إلى القسط والعدل .

صفحة (562)

أريد ، في هذا الصدد ، أن أهمس لك بكلمة قليلة المؤنة كبيرة الأهمية.

وهو أن هذا  السرداب  الذي عرفناه ، بنص هذه الرواية ، في دار الإمام العسكري (ع) التي يسكنها الإمام المهدي (ع) في الفترة الأولى من غيبته الصغرى.

هذا السرداب ، هو الذي أصبح سبباً للحملات الضخمة المركزة عل مذهب الاعتقاد بالغيبة ،من قبل عدد ليس بالقليل من علماء الإسلام ومفكريهم . باعتبار تصوير المسألة على أن المهدي غائب في السرداب ،وقد أضافوا على ذلك إضافات غريبة ،رواياتنا منها براء .فمن ذلك :أنه دخل السرداب وأمه تنظر إليه ،وإنه يسكن السرداب طيلة مدة غيبته .

إذن فكيف يأكل ويشرب حتى أصبح اسم المهدي عندهم : صاحب السرداب .وزعم ابن جبير أن هذا السرداب كان في الحلة ولم يكن في سامراء ،ونظم آخر من ذلك شعراً :

          ما آن للسرداب أن يلد الذي              غيبتموه بجهلكم ما آنا

          فعلى عقولكم العفاء فإنكـم              تلثم العنقاء والغيلانا(1)

ــــــــــــــــ  

(1) انظر بهذا الصدد المصادر التالية : الصواعق المحرقة ص100 ووفيات الأعيان ج1 ص372 والكامل ج5 ص373 وتاريخ ابن الوردي ج1ص 232 وشذرات  الذهب ج2 ص141 والعبر في خبر من غير ج3 ص30 وتاريخ أبي الفداء ج1 ص47

ومصادر أخرى عقائدية وتاريخية .

صفحة (563)

حتى إن أمثلهم طريقة، وهو الكنجي في البيان(1) حاول الاعتذار عن ذلك وتقريب إمكان بقائه في السرداب هذه  المدة الطويلة بدون طعام وشراب بقدرة الله تعالى .

وتصبح هذه الحملة المركزة هواء في شبك. بعد كل الذي قدمناه وبسطناه وحللناه من روايتنا وتاريخنا الخاص، ويتضح أن هذه الكلمات إنما قيلت نتيجة للجهل المطلق برواياتنا والبعد الكبير عن مصادرنا وكتبنا ،وإمساكهم للقلم والقرطاس دون مراجعة وتثبيت وتدقيق .

فالمركز الأول ،كان هو سامراء بلد الإمامين العسكريين عليهما السلام ،وليس هو الحلة ،كما زعم ابن جبير . وليس المهدي محبوساً في السرداب .وليس هناك على وجه الأرض من يعتقد ذلك بحق .بل هو يحضر الحج ويكلم الناس وينصب السفراء ويقبض الأموال ويكتب التوقيعات، ويواكب الأحداث عن كثب، ويقف بوجه الانحراف والتزوير ، ولديه فرص كبير ، لأن يعيش كما يعيش أي فرد من الناس .

وأما هذه الرواية التي ورد فيها ذكر السرداب فقد عرفنا تفاصيل مدلولها ، فالسرداب مكان طبيعي للاختفاء من الهجوم أو الحرب أو الوباء أو نحو ذلك على مدى التاريخ ، وليس أمراً خاصاً بالمهدي (ع) .وقد كان المهدي (طبقاً لذلك)، يتخذ سرداب داره مخبأ للطوارئ أثناء الفترة الأولى من غيبته الصغرى ، التي تمثل اصعب الفترات بالنسبة إليه.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر ص112 وما بعدها.

صفحة (564)

وليس لأمه ذكر في الرواية ، على أنها تنص كما سمعنا أنه لم يبق في السرداب بل خرج أمام أعين المهاجمين فمن أين عرفوا بقاءه في السرداب وأمه تنظر إليه فكأنه غاب منذ ذلك الحين ،وكما يظهر أيضاً من كتاب هامش البحار ، حيث أضاف الكاتب عبارة تدل على ذلك (1).

إلا أن هذا في غاية السخف والافتراء ،فقد أوضحنا فيما سبق أن الغيبة ليس لها مبدأ معين ،بل كان المهدي (ع) مختفياً من أول ولادته ،وقد زاد اختفاؤه شيئاً فشيئا ،وقد مثلت الغيبة الصغرى وتعيين السفراء مرحلة من مراحل غيبته ،وحيث بدأت إمامته ونصب السفراء بوفاة أبيه كانت الغيبة الصغرى بادئة منذ ذلك الحين ومنتهية بوفاة السفير الرابع .

ومعنى ذلك: إن الغيبة الصغرى بدأت قبل خلافة المعتضد بتسعة عشر عاماً ،إذ توفي الإمام العسكري عام 260 واستخلف الإمام المعتضد عام 279 .فلو كان قد جرد هذه الحملات في العام الأول من خلافته ،كانت هذه الحملات متأخرة عن مبدأ الغيبة بنفس هذا  المقدار من الأعوام .

ــــــــــــــــ  

(1)  قال في الهامش ما لفظه : في بيان أول الغيبة ص118 ج13

صفحة (565)

وصاحب البحار قدس الله روحه ، لا يرضى  بأي حال عن العنوان الذي كتبه كاتب النسخة الحجرية من كتابه، حيث نراه قدس سره أن يؤكد أن ابتداء الغيبة الصغرى مع وفاة الإمام العسكري ،ويستنتج أنها أقل من سبعين عاماً بقليل، ثم يذكر احتمال أن يكون مبدؤها ولادة الإمام المهدي (ع) نفسها(1) ،ومعه تزيد مدتها على السبعين عاماً بقليل ، ولم يذكر أي احتمال أو وهم في أنها تبدأ عند حدوث حملة المعتضد في القبض عليه. وليس في أي شيء من روايتنا ما يدل على ذلك ، ونسبته إلى المذهب زور وبهتان .

على انه على هذا التقدير ، تكون مدة الغيبة الصغرى ، ستون عاماً .

وهو مما لم يحتمله أحد ، وغير مناسب مع شيء من تواريخ السفراء التي ذكرناها .

يكفينا من ذلك أنه في ذلك العام الذي حدثت فيه حملة المعتضد، كان السفير الأول قد توفي وقد مضت من سفارة السفير الثاني حوالي الأربعة عشر سنة . كما يظهر من التواريخ التي ضبطناها فيما سبق.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر ج13 ص100

صفحة (566)

الحقل الثالث

مقابلته للآخرين

خلال غيبته الصغرى وأسلوبه وأهدافه من ذلك.

كانت المقابلات مع المهدي ، تجري مع العديدين اللذين يعلم من درجة من درجة إخلاصهم وإيمانهم أو من ظروفهم وأسلوب مقابلتهم أنهم لم يصلوا إلى ما يضر الإمام المهدي وأن يدلوا السلطات عليه.

وكانت المقابلات تجري في الغالب بطلب من الآخرين ،يكونون مدة من الزمن بصدد البحث عن المهدي (ع) وتمني مقابلته. فيوفر لهم هذه الفرصة بنحو سري بالغ في التكتم والحيطة، ويوصيهم في الغالب أن لا يصرحوا بما شاهدوا ويجعلوا ذلك مكتوماً إلا عن الخواص الذين يعلم الفرد بوثاقتهم وإخلاصهم .

وتجري غالب المقابلات، بعيداً عن السفراء الأربعة، في الديار المقدسة أثناء موسم الحج .إما في المسجد الحرام نفسه، أو في بعض الأطراف على ما سيأتي ، وقلما تتم المقابلات في مكان آخر إلا نادراً خاصة في بغداد ، حيث وجود السفراء ، وحيث لعاصمة بسلطانها وعيونها وأضوائها .على حين أن الفرد في الحج ، يحس بالتوجه إلى الله والإنقطاع عن علائق الدنيا ، خاصة في السفر على وسائط النقل القديمة ، التي كان الحاج عليها يحسب للموت حسابه ويوصي بوصيته قبل خروجه .هذا .. إلا في بعض الموارد الإستثنائية التي تقتضي المصلحة وجودها في بغداد أو سامراء أو في أي محل آخر.

ومن الطريف في بعض المقابلات، التي يوفرها المهدي (ع)، مع البعض، يقضي حوائجهم ويوجه إليهم تعليماته، إلا أنهم لا يبقون غافلين عن كونه هو المهدي (ع) غير ملتفتين إلى ذلك، حتى ما إذا فارقهم وعملوا بتعاليمه ، وأنتج عملهم شيئاً كبيراً مثيراً للعجب والإعجاب ،عرفوا ان ذاك هو اللإمام المهدي (ع) .

 

صفحة (567)

وهذا النحو من المقابلات تتم حين يعلم المهدي عليه السلام أن الغاية التي يتوختها والمصلحة التي يريد تحقيقها ، تتم بدون الكشف عن شخصيته وحقيقته. وأما لو كانت المصلحة المتوخاة لا تتحقق إلا بألإفصاح عن هذا الواقع وكإقامة الحجة وعرض الأطروحة التامة الحقة عن غيبته ومستقبله، على ما سنسمع تفصيله. فعندئذ لا بد أن تتم المقابلة مع التعارف بين الطرفين ، وقد تستمر المقابلة يوماً أو عدة أيام.

ونحن فيما يلي لا نتوخى سرد جميع المقابلات مع الإمام المهدي (ع) وإلا لطال بنا المقام .فإنها عديدة كثيرة في تاريخنا. وإنما نتوخى حصر الأهداف المتعددة من المقابلات بحسب الإمكان، ونمثل لكل هدف بمثال واحد على الاقل.

فإن المهدي "ع" كان يتوخى بحسب ما وردنا في التاريخ الخاص عدة غايات ومصالح من وراء توفير الفرص للآخرين لمقابلته. وهي تكاد تنحصر بالأمور التالية :

أولاً : إثبات وجوده بنحو حسي مباشر .

ثانياً : إقامة الحجة على الإمامية وقيادة الحاضر والمستقبل .

ثالثاً : إعطاء وعرض الأطروحة التامة والبيان الكامل الحق لفلسفة غيبته وأهدافه في مستقبله.

رابعاً : قضاء حوائج المحتاجين من الناحية المالية .

خامساً : ممازجة الناس ، وإعطاؤهم بعض التعليمات وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.

صفحة (568)

سادساً: قبض المال ممن حمله إليه ،وإن كان الأغلب فيه جريانه عن طريق غيره ،إذا لم يكن عن طريق أحد السفراء الأربعة، على ما سوف يأتي، كما أن ذلك لم يكن هو الهدف الأساسي أو الوحيد من أي مقابلة معروفة ، ولكنه قد يقترن بغيره من الأهداف .

والمهم من هذه الأهداف، من الناحية الإسلامية ، هي الثلاثة الأولى وتليها الثلاثة الأخيرة ، فلا بد من التعرض إلى كل واحد من هذه الأهداف، وعرض بعض الأمثلة لكل واحد ، معتمدين نفس هذا الترتيب الذي ذكرناه، مع العلم أن المقابلة قد تحقق اكثر من هدف واحد على ما سنرى ،وسنحمل فكرة خلال ذلك ،عن الأساليب العامة التي كان المهدي (ع) يتخذها للمقابلة ، وسلامة أمره خلالها وبعدها.

الهدف الأول : إثبات وجوده بنحو حسي مباشر .

لكي يرجع المشاهد فيروي مشاهدته لمن يثق بإيمانه وإخلاصه ،وهذا الهدف يتوفر في كل مقابلة ، لا يستثنى منها شيء. حتى تلك المقابلات التي يكون الإطلاع على حقيقة المهدي (ع) بعد فراقه ،فإنه بعد معرفة حقيقته عليه السلام ، ينفتح مجال كبير للأخبار الحسي برؤيته ومقابلته.

وهذا هو مراده عليه السلام ، حين قال لبعض من رآه – عام 168- : يا عيسى ما كان لك أن تراني لولا المكذبون القائلون بأين هو .

صفحة (569)

ومتى كان. وأين ولد، ومن رآه، وما الذي خرج  إليكم منه، وبأي شيء نبأكم . وأي معجزاتكم ...يا عيسى فخبر أولياءنا ما رأيت .

وإياك أن تخبر عدونا فتسلبه . قال : فقلت : يا مولاي ادع لي بالثبات .فقال : لو لم يثبتك الله ما رأيتني(1).

وواضح جداً من هذا الهدف الأساسي الذي أراده المهدي (ع) من هذه المقابلة ،هو إقامة الدليل الحسي على وجوده. ضد الشبهات التي كانت ولا زالت تثأر من قبل الآخرين من أهل الإسلام بما فيها السلطات والمنتفعين منها.

والمهم أن لا يسري التشكيك إلى قلوب المؤمنين به والموالين له .

فتكون هذه المقابلة، والخبر الذي يحمله كل من رآه عليه السلام دليلاً حسياً مباشراً على وجوده، خاصة بالنسبة إلى أؤلئك الذين يعيشون في أطراف البلاد الإسلامية، ولا يمكنهم أن يصلوا إلى السفراء أو يحصلوا على طريقهم على التوقيعات .

ويمكننا أن نلاحظ  في هذا النص أمرين :

أحدهما : كيف أن المهدي (ع) يعيش على مستوى معرفة الأحداث الإجتماعية والإطلاع  عليها، والتجاوب مع آمالها وآلامها .إنه يحمل هم المستوى العقائدي لمواليه ، بكل جد واهتمام ،من حيث التعرف عليه والإعتراف بوجوده وإمامته.

ــــــــــــــــ  

(1) أنظر إكمال  الدين المخطوط .

صفحة (570)

ثانيهما : إن كل من يفوز بلقائه ،لا بد أن يكون من أعلى مستويات الإخلاص والإيمان .وهو المستفاد من قوله (ع) : لو لم يثبتك الله ما رأيتني. وليس ذلك مما يتوفر للفرد العادي الخائض بالشبهات والراكض وراء المصالح، فإنه مضافاً إلى أنه ليس أهلاً لذلك ، فإنه يشكل نقطة خطر في الكشف عن الإمام المهدي (ع) والدلالة عليه.

الهدف الثاني: إقامة الحجة على وجوده.

وأنه هو المهدي القائم صاحب الأمر ، وصاحب الزمان، المنتظر الذي ذخره الله تعالى ليومه الموعود ، يوم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وهذا المعنى موجود في أكثر مقابلته عليه السلام إن لم يكن كلها .

والسر في ذلك واضح: فإن شكله غير معروف للقاصدين ،ومجرد دعوى أنه المهدي غير قابلة للتصديق ،وإنما يحتاج كل من يقابله بغير معرفة سابقة ،إلى دليل يشهد للمهدي عليه السلام، على ثبوت حقيقته وصدق مدعاه ،شأنه في ذلك – إلى حد كبير – شأن النبي (ص) حين كان يستدل على نبوته بالجج والمعجزات .بل إن حال المهدي عليه السلام لأشد تعقيداً ،فإن كل نبي حين يقيم بعض المعجزات ،فإنه يظهرها للناس، ويكشفها للمجتمع، فتأتي أمام الملأ صريحة واضحة يؤمن بها كل من يراها، إذا كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد .. وتكون علنية تنتقل إلى غير المشاهدين بالتواتر .أما الإمام المهدي (ع) فهم مضطر بالنسبة إلى كل فرد يقابله إلى ان يقيم الحجة على إثبات شخصيته وحقيقته ..على إنفراد .ولا مجال له بطبيعة الحال الإكتفاء بالمعجزات التي أقامها تجاه فرد ،إن يعتبهرها سارية المفعول تجاه فرد آخر كما هو واضح.

صفحة (571)

والحجج التي يقيمها المهدي عليه السلام لمن يقابله من الناس ، على قسمين، إما أن تكون من قبيل علم الغيب، بالمعنى الذي نؤمن بإمكانه بالنسبة إلى الإمام، كما سبق أن بيناه. وإما أن تكون شيئاً آخر من قبيل التصرف في بعض الأمور التكوينية ، كجعل الحصاة ذهباً ونحو ذلك، وهذا أيضاً نقول بإمكانه للنبي والإمام عند لزوم إقامة لحجة على اثبات الحق ،على بحث وتفصيل موكول الى محله من بحوث العقائد الاسلامية.

وبمثل هذه الحجج ، يعرف الفرد ان الذي قد قابله هو الامام المهدي عليه السلام لو لم يكن قد عرفه اثناء مقابلته. ومن هنا يقع الكلام في ثلاث نقاط:

النقطة الاولى: اقامة الحجة عن طريق اظهار علم الغيب لمن يقابله عليه السلام.

فمن ذلك: ما ورد في خبر عيسى بن مهدي الجوهري الذي قصد الفحص عن الامام المهدي(ع) وأراد مقابلته. وكان هذا الرجل مسبوقاً بمرض اشتهى فيه السمك والتمر .فلما ورد المدينة عام 268 في سفره للحج ، دعاه خادم إلى مقابلة الإمام المهدي (ع) وسماه باسمه الكامل .

قال الرازوي : فكبرت وهللت وأكثرت من حمد الله عز وجل والثناء عليه ، فلما صرت في صحن القصر رأيت مائدة منصوبة ، فمر بي الخادم إليه فأجلسني عليها.

وقال لي : مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علتك وأنت خارج من "فيد".

 

صفحة (572)

فقلت: حسبي بهذا برهاناً . فكيف آكل ولم أر سيدي ومولاي .

فصاح بي – يعني الإمام المهدي (ع) -: يا عيسى! كل من طعامك فإنك تراني. فجلست على المائدة فنظرت فإذا عليها سمك حار يفور. وتمر إلى جانبه أشبه التمور بتمورنا ، وبجانب التمر لبن. فقلت في نفسي:

عليل وسمك وتمر ولبن؟ فصاح بي: يا عيسى! أتشك في أمرنا؟ أفأنت أعلم بما ينفعك ويضرك؟ فبكيت واستغفرت الله تعالى واكلت من الجميع. وكلما رفعت يدي منه لم يتبين موضعها فيه .فوجته اطيب ما ذقته في الدنيا.

فاكلت منه كثيراً ، حتى استحييت، فصاح بي: لا تستح يا عيسى فإنه من طعام الجنة لم تصنعه يد مخلوق فاكلت فرايت نفسي لا ينتهي عنه من اكله فقلت: يا مولاي حسبي، فصاح بي: اقبل إليّ . فقلت في نفسي : آتي مولاي ولم أغسل يدي! فصاح بي يا عيسى وهل أكلت غمر. فشممت يدي فإذا هي أعطر من المسك والكافور ..إلى آخر االحديث (1).

ومن ذلك: ما روي عن الحسن بن الوجناء النصيبي. قال: كنت ساجداً تحت الميزاب في رابع أربع وخمسين حجة بعد العتمة. وأنا أتضرع في الدعاء ،إذ حركني محرك. فقال: قم يا حسن بن الوجناء قال: فقمت، فاذا جارية صفراء نحيفة البدن ، اقول انها من ابناء الاربعين ، فما فوقها، فمشت بين يدي وأنا لا أسألها عن شيء ، حتى أتت بي دار خديجة صلوات الله عليها ، وفيها بيت – يعني غرفة – بابه وسط الحائط .وله درجة ساج يرتقي إليه ، فصعدت الجارية .

ــــــــــــــــ  

(1) البحار ج13 ص123

صفحة (573)

وجاء في النداء ، اصعد يا حسن ، فصعدت ، فوقف بالباب .

وقال لي صاحب الزمان (ع): يا حسن أتراك خفيت عليّ ؟ والله ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه ،ثم جعل يعد علي أوقاتي.

فوقعت على وجهي ، فحسست بيده قد وقعت علي فقمت ..إلى آخر الحديث (1).

وهنا يمكن أن يقال: إن إخبار المهدي (ع) لإبن الوجناء ، بأوقات حجه، كان عن مشاهدة لا عن غيب، باعتبار أنه كان موجوداً معه فعلاً ، وإن لم يعرفه الرجل، إلا أن دلالة الجارية على مكانه وإعلامها باسمه يكفي في إقامة الحجة لا محالة، إلا أن ابن الوجناء نفسه اقتنع بأن كلام الإمام المهدي (ع) معه، لم يكن بالأمر الطبيعي، بل كان علماً ميتافيزيقياً غيبياً ،واعترف بكونه حجة كافية عليه ، كما يدل عليه وقوعه على وجهه.

ويبقى سؤال جانبي، وهو ان الخبر دال على ان ابن الوجناء رأى الجارية ، بحيث استطاع أن يصفها بنحو لا يخلو من دقة، فكيف جاز له بحسب الشرع الإسلامي، والمفروض أنه من الأشخاص الخيار القابلين لمقابلة المهدي (ع).

ــــــــــــــــ  

(1) البحار ج13 ص112

صفحة (574)

وجواب ذلك يكون من وجوه أهمها اثنان :

 أولاً: أن هذا الوصف يكفي فيه رؤية الوجه، وهيئة الجسد العامة، وكشف الوجه جائز في الإسلام بمقتضى فتاوى كثير من الفقهاء .وتكون هذه الرواية دليلاً عليه . لو صحت مستنداً للحكم الشرعي.

ثانياً: اننا لة تنزلنا جدلاً عن الوجه الأول، فيمكن افتراض كون هذه الجارية مملوكة للإمام المهدي ،من الواضحات في الشرع جواز النظر إلى الجارية مع إذن مالكها ،ومجرد الإحتمال بهذا المصدر يكفينا لتبرير العمل من الناحية الشرعية .

النقطة الثانية: إقامة الحجة ، عن طريق إظهار المعجزة ، بالتصرف ببعض الأمور التكوينية .

فمن ذلك: أن رجلاً يدعى بالآودي أو ألأزدي ،كان عند أدائه الطواف، وكان قد طاف ستاً وبقي عليه الطواف السابع،رأى عن يمين الكعبة شاباً حسن الوجه طيب الرائحة هيوباً ومع هيبته متقرب إلى الناس . قال الراوي: فتكلم فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب من منطقه، في جلوسه ، فذهبت أكلمه ،فزيرني الناس ،فسألت بعضهم: من هذا ؟ فقال : ابن رسول الله يظهر للناس في كل سنة يوماً لخواص شيعته ، فيحدثهم ويحدثونه ، فقلت : مسترشد أتاك فأرشدني هداك الله.

 

صفحة (575)

قال: فناولني حصاة ، فحولت وجهي ، فقال لي بعض جلسائه : ما الذي دفع إليك ابن رسول الله .فقلت: حصاة، فكشفت عن يدي فإذا أنا بسبيكة من ذهب .وإذا أنا به قد لحقني فقال: ثبتت عليك الحجة وظهر لك الحق وذهب عنك العمى، أتعرفني ! فقلت: اللهم لا ؟ فقال المهدي (ع) أنا قائم الزمان ..إلى آخر الحديث (1)، حيث يعطيه البيان الحق والأطروحة الصحيحة لغيبته باختصار ،كما يأتي في الهدف الثالث من مقابلته(ع).

يتضح من هذا الخبر بجلاء ،أنه كان من عادة الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى قبل عام الثلاثمائة ،أنه حين كان يحج يجتمع بالخاصة الحجاج ويمازحهم ويتكلم معهم ،ويعطيهم ما أراد من التعاليم والتوجيهات إلا انه لا دليل على معرفتهم له على حقيقته، وإنما كانوا يعرفونه باعتباره ابن رسول الله ومعه قد يعرف بعضهم حقيقته وقد لا يعرفون.

وقد خص عليه السلام ، هذا الرجل بكشف حقيقته له، لكي يظهر الحق له ويبلغه إلى إخوانه الآخرين.

النقطة الثالثة: إقامة الحجة لمن لا يعرفه عند المقابلة ،لا يلتفت إليه الفرد إلا بعد مفارقته .

فمن ذلك: الرسالة الشفوية التي أرسلها المهدي (ع)، مع أبي سورة بعد أن رافقه في السفر من دون أن يعرفه. ثم قال له: إمض إلى أبي الحسن علي بن يحيى فأقرأ عليه السلام ، وقل له: يقول لك الرجل ادفع إلى أبي سورة من السبع مائة دينار التي مدفونة في موقع كذا وكذا مئة دينار.

ــــــــــــــــ  

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص152

صفحة (576)

فمضى أبو سورة من توه وساعته ، إلى دارعلي بن يحيى ، فدق الباب ، فسمعه يقول :ما لي ولأبي سورة.

قال الرواي : ثم خرج إليّ فسلمت عليه وقصصت عليه الخبر .

فدخل وأخرج إليّ مئة دينار، فقبضتها: فقال لي: صافحته؟ فقلت: نعم : فأخذ بيدي ، فوضعها على عينه ومسح بها وجهه(1).

انظر لهذه الرسالة الشفوية التي أقام فيها المهدي (ع) الحجة بدون أن يعلم أبو سورة ،وإنما ينكشف صدقها عند إيصالها .وقد عرف ابن يحيى ذلك، حتى أنه تبرك باليد التي لامست يد الإمام المهدي (ع) وسيندرج هذا الخبر أيضاً في توزيع المهدي (ع) للمال وقضائه لحوائج الناس .

فهذه هي النقاط الثلاث التي ينقسم إليها الهدف الثاني .

الهدف الثالث: من مقابلة المهدي (ع)  للآخرين  :

إعطاؤهم الأطروحة الصحيحة الكاملة لفلسفة غيبته والبيان الحق لأهداف مستقبله لكي يحملها الفرد إلى أبناء عقيدته وإخوانه ويثقفهم بما سمعه من الإمام المهدي (ع) من تعاليم .

ـــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص163

صفحة (577)

وقد سبق أن سمعنا في القسم الأول من هذا التاريخ ،من الإمام العسكري عليه السلام ، حين كان يعرض ولده المهدي (ع) على الآخرين ، إنه بين مثل هذا البيان عدة مرات ،أهمها بيانه المفصل لأحمد بن اسحق الأشعري. إلا أن المرة والمرات القليلة ، لا تكفي في توجيه القواعد الشعبية الموسعة ، بل لا بد من تكرار ذلك وتأكيده.

وبخاصة حين يقترن الموضوع بأمور توجب غرابته في الأذهان وبعده عنها ، فلا بد أن يتصدى المهدي (ع) بنفسه في اثناء مقابلاته لبيان ذلك ، بنحو مختصر حيناً ومفصل أحياناً.

ولو تعمقنا قليلاً ، لرأينا أن نفس عرض هذا البيان، من قبل الإمام المهدي (ع) كاف في إقامة الحجة على صدقه بأنه هو المهدي .بل إنه ليربو في الأثر على المعجزات التي سبق أن أشرنا إليه، من حيث التأثير المنطقي الدقيق، فإن العرض الحقيقي الكامل لمسألة الإمام المهدي .بما تكتنفه من مشكلات وعوائق ،وتذليل جميع ذلك بالبينة والبرهان ، لهو أقوى دليل على صدقه وخلاصه، على حين لم يكن مسبوقاً ببيانه من أحد إلا من قبل الأئمة الماضين آبائه عليهم السلام.

فالمهدي (ع) حين كان يبين اطروحته الكاملة، لم يكن أبداً في مستوى أقل من مستوى المعجزات التي يقيمها في الموارد الأخرى.

فمن ذلك ما بينه الإمام (ع) ، للآودي حين أعطاه حصاة فتحولت في يده إلى ذهب، كما سبق، قال له: أنا قائم الزمان، أنا الذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ،إن هذه الأرض لا تخلو من حجة ،ولا يبقى الناس في فترة ، فهذه أمانة في رقبتك فحدث بها اشقائك من أهل الحق(1).

ــــــــــــــــ  

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص152 وإكمال الدين المخطوط.

صفحة (578)

ومنه ما بينه (ع) ،لإبراهيم بن مهزيار حين قابله في بعض أطراف مكة ، وقال له فيما قال : إعلم يا أبا اسحق ! إنه – يعني الإمام العسكري – (ع) – قال صلوات الله عليه :يا بني، إن الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي اطباق ارضه وأهل الجد من طاعته وعبادته ، بلا حجة يستعلي بها وإمام يؤتم به ويقتدى بسبيل سنته ومنهاج قصده.

وأرجو يا بني أن تكون أحد من أعده الله لنشر الحق وطي الباطل وإعلاء الدين وإطفاء الضلال ، فعليك يا بني ، بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها ،فإن لكل ولي من أولياء الله مقارعاً وضداً منازعاً ،افتراضاً لثواب مجاهدة أهل نفاقه ، وخلافة أولي الإلحاد والفساد ،فلا يوحشنك ذلك(1).

ومنه: مل بينه (ع) في الدعاء ،وما أكثر ما في الدعاء من حكم وفوائد .حيث قال: اللهم صل على وليك المحبي لسنتك والقائم بأمرك الداعي إليك الدليل عليك ، وحجتك على خلقك ،وخليفتك على أرضك وشاهدك على عبادك.

اللهم أعز نصره ومد في عمره ، وزين الأرض بطول بقائه .اللهم أكفه بغي الحاسدين وأعزه من شر الكائدين وادحر عنه إرادة الظالمين وتخلصه من الجبارين .

اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ،وما تقربه عينه وتسر به نفسه ،وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة ،إنك على كل شيء قدير .

ــــــــــــــــ  

(1) انظر إكمال الدين (المخطوط)

 

صفحة (579)

اللهم جدد بهما محي من دينك ، وأحي به ما بدل من كتابك .

وأظهر به ما غير من حكمك ، حتى يعود دينك به وعلى يديه ،غضاً جديداً خالصاً مخلصاً لا شك فيه ولا شبهة معه . ولا باطل عنده لا بدعة لديه.

اللهم نوره بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة ،وأقصم به كل جبار واخمد بسيفه كل نار، واهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه علة كل حكم ،وأذل لسلطانه كل سلطان .

أللهم أذل كل من ناواه وأهلك كل من عاداه ،وامكر بمن كاده واستأصل من جحد حقه واستهان بأمره وسعى في إطفاء نوره وأراد إخماد ذكره(1).

فنرى من هذه البيانات ،أن المهدي (ع) يؤكد على عدة أمور :

الأمر الأول :  

الإشارة إلى الحديث النبوي الشريف المتواتر ، بأن المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

الأمر الثاني: القاعدة الإلهية العامة التي تقتضي نصب الإمام الذي يكون حجة على عباده في كل زمان ومكان، وهي أن الأرض لا تخلو من حجة ، ولا يبقى الفاسد في فترة ، يعني من دون إمام ،إذن فلا يمكن أن يمر الزمان من دون أن يكون لله عز وجل حجة على خلقه .

ومعه فيتعين أم يكون الإمام موجوداً في كل زمان .إذن فيتعين وجود الإمام المهدي (ع) أثناء غيبته ،إذ لو لم يكن موجوداً انقطعت الحجة وحصلت الفترة .

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ الطوسي

صفحة (580)

 

الأمر الثالث: أنه (ع) ذخر الله عز وجل لمستقبل الإسلام وأعده لنشر الحق وطي الباطل وإعلاء الدين وإطفاء الضلال، وهذه هي الأطروحة الحقة لمستقبل المجتمع المسلم عند ظهور المهدي .وهو المراد من الحديث النبوي (ع): أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

الأمر الرابع : الإشارة إلى أنه يعيش أمداً طويلاً ، يقدره الله عز وجل لأجل تنفيذ الوعد الكبير.

الأمر الخامس: الدعاء له بأن ينجيه الله عز وجل من كيد الأعداء ، وشر المعتدين ، وذلك لغرضين:

أولهما استجابة الله تعالى لهذا الدعاء ، وتحقق هذا المطلوب الكبير ، لأجل ادخاره ليومه الموعود .

ثانيهما: إعطاء التوجيه للقارئ أو الداعي، بأن يتمنى سلامة الإمام المهدي (ع) من الأعداء وبغي الظالمين وشر الكائدين ، فيدعو الله تعالى بذلك ، وهو لا شك يجيب دعاه.

الأمر السادس: إن للمهدي (ع) القابلية الكاملة لقيادة المجتمع الإسلامي ودحر الأعداء وإقامة العدل الإلهي الكامل ، وهو المستفاد من قوله: اللهم نور بنوره كل ظلمة وهد بركنه كل بدعة ، واهدم بعزته كل ضلالة .

صفحة (581)

الأمر السابع: أنه عليه السلام بعد ظهوره يجدد ما محي من الدين بفعل طول الزمن أو تبديل المنحرفين والظالمين، وما غير من احكام القرآن حتى يعود العدل الإسلامي الصحيح والدين الإلهي على يديه غضاً جديداً خالصاً مخلصاً ، لا شك فيه ولا شبهة معه ، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه.

الأمر الثامن : إظهار أقصى الحرمة والعقوبة ، في معاداته أو إنكار حقه أو مناوأته. سواء في حال غيبته أو بعد ظهوره، ويشمل ذلك: الخروج على تعاليم دينه وعصيان أوامر شريعته، فإن مخالفة الدين مخالفة له، ومناوأته مناوأة له ، بطبيعة الحال.

فهذه هي الأمور الأساسية في دعوته الكبرى أثناء غيبته وبعد ظهوره ، عجل الله فرجه.

يبقى أمران آخران واردان فيما ورد ، من كلماته عليه السلام ، لا بد من ذكرهما ومعرفة الوجه فيهما :

الأمر الأول:  ما ورد في كلامه عليه السلام مع إبراهيم بن مهزيار وكلامه (ع) مع علي بن إبراهيم بن مهزيار، من أن أباه الإمام العسكري (ع) أمره بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها، وأن لا  يسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها.

صفحة (582)

 

وعلل ذلك في حديثه مع إبراهيم بن مهزيار: بأن لكل ولي من أولياء الله عدواً مقارعاً وضداً منازعاً. وفي حديثه مع علي بن إبراهيم بقوله: والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي . فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج (1) . وكلاهما يعني الحذر من الأعداء والاتقاء من شرهم والابتعاد من كيدهم أثناء غيبته، توصلاً لحفظه لأجل تنفيذ اليوم الموعود.

وقد سبق أن قلنا أن للإمام المهدي (ع) غنى عن ذلك ، بجهل الناس بشكله ونوعية حياته وعمله ومكانه ، وقد أصبح هذا الأمر في الأزمة الأخيرة واضحاً ، لوضوح استحالة تعرف أي شخص على حقيقته ما لم يشأ هو ذلك.

إن أفضل أسلوب للاختفاء هو جعل الحياة بسيطة واضحة عادية ليس فيها أي شيء ملفت للنظر ، تسير كما تسير حياة أي فرد آخر، وإما تعقيد الهارب الحياة على نفسه، وتضييق السبل والدخول في مواقف صعبة والأماكن الحرجة، فإنها لا تزيده إلا خطراً ولا تقربه إلا من الشر فإن عيون السلطات والأعداء تحوم دائماً حول الأماكن الشاذة التي قد يسكنها الهاربون، والحياة المعقدة التي قد يتخذها الفارون. فتخليص النفس من هيئة الهارب وحياته ، وإسباغ الحياة الطبيعية عليها ، أفضل طريق للنجاة في أغلب الأحيان.

ولكننا على أي حال – إذا التفتنا إلى العلة لمذكورة لذلك وهو الحذر من الأعداء والاتقاء من كيد المعاندين والمنحرفين .عرفنا أن هذا الحذر متى توقف عن ذلك ، كان ذلك ضرورياً لا محالة.

ــــــــــــــــ  

(1) الغيبة ص161

صفحة (583)

أعني أن الحياة الطبيعية ، وإن كانت في الغالب هي السبيل الأفضل لنجاة الهارب ،إلا أنها ليست دائماً كذلك ، لا محالة . فإذا واجه الهارب ظرفاً لا تكتب فيه النجاة إلا بالفرار إلي البراري والشعاب، كان ذلك ضرورياً جزماً.

ومن هنا يمكن أن يكون أمر الإمام العسكري لولده باختيار أقاصي الأرض ،وعرها مكاناً له ، مقيداً بقرينة التعليل، بما إذا كان هناك حاجة إلى ذلك. وأما إذا لم يحتج إلى ذلك ولم يكن حضوره المواسم والحواضر والاتصال بالسفراء والإختلاط بالناس خطر، كان ذلك ممكناً له لا محالة، إن لم يكن ضرورياً له لممارسة نشاطه الإعتيادي الذي عرفناه.

الأمر الثاني :

ما قاله (ع) برواية الشيخ بسنده عن الآودي ، الذي عرفناه فيما سبق: أن الأرض لا تخلو من حجة، ولا يقى الناس في فترة ، أكثر من تيه بني اسرائيل ، وقد ظهر أيام خروجي.(1)

ونحوه قال لبعض مواليه : وإن تحبس نفسك على طاعة ربك.

فإن الأمر قريب إن شاء الله تعالى (2).

وهذا المعنى بظاهره مقطوع العدم، بعد أن مضى على ذلك التاريخ ما يزيد على الألف عام، ولم يظهر الإمام المهدي (ع) .ومعه لا بد من المصير إلى رفض هذه الأخبار أو إلى تأويلها.

ــــــــــــــــ  

(1) الغيبة ص152

(2) الغيبة ص154

صفحة (584)

أما الرفض فله مجال واسع ، وذلك: بان ندعي : أن العبارات التي تدل على قرب الظهور ، مدسوسة في هذه الأحاديث سهواً أو عمداً .

وهذا كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ لا يعني طرح مجموع الخبر- .

ويقرّب ذلك :أن خبر الآودي رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين بدون هذه الزيادة (1). على أن هذين الخبرين في أنفسهما ليسا صحيحين . بحسب القواعد ، وفيهما رواة مجاهيل.

واما التاويل ، فله أيضاً بعض المجال .وذلك بأن يقال: بأن المهدي (ع) استعمل المجاز في كلامه ، لأجل رفع معنويات أصحابه ومواليه. وإشعارهم بضرورة الإنتظار في كل وقت، خاصة في مثل قوله (ع): وإن تحبس نفسك عل طاعة ربك فإن الأمر قريب. ووجه المجاز هو أن يكون الزمان من حين صدور هذا الكلام إلى حين الظهور قيامه (ع) بدولة الحق يعتبر قليلاً ، تجاه ما قاسته البشرية خلال عمرها المديد من آلام الظلم والحيف والإستبداد.

وعلى أي حال ، فهذه هي الخطوط العامة للأطروحة الكاملة التي يذكرها الإمام المهدي (ع) لبعض من يقابله من الناس.

وقد عرفنا مفصلاً، أن الإمام المهدي، كان يقضي حوائج الناس، ويحل مشاكلهم ويدبر أمرهم عن طريق سفرائه الموكلين بهذا الأمر. ومن هنا لم تكن هناك حاجة واضحة وكبيرة ، لأن يتصدى لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم بنفسه عند مقابلته ، ما عدانا قد يراه من المصلحة أحياناً.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر المصدر المخطوط

 

صفحة (585)

وما يتصور تعلق المصلحة فيه من ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : حلال مشاكل الفكرية والعقائدي .

ثانيهما: حل المشاكل المالية وبذل العطايا لبعض الموالين.

ثالثها : حل المشاكل الأخرى كالعائلية والإجتماعية وغيرها.

واما القسم الأول فالمهم فيه ما سمعناه قبل قليل من عرض الأطروحة الحقة على الآخرين .وحيث يكون الهدف الأساسي من المقابلة مكرساً حول ذلك ،لا يبقى بعده أمر ذي بال.

وأما القسم الثاني : فسيأتي الحديث عنه ، في حقل قادم عند عرض الشؤون المالية للإمام المهدي (ع).

وأما القسم الثالث: فلم نجد له نقلاً تاريخياً يطابقه،إذن فحل المهدي (ع) للمشاكل العائلية والإجتماعية وغيرها، كان مكرساً عن طريق السفراء ، بما فيه الكفاية ولا حاجة للقيام به أثناء المقابلة ، التي ينبغي أن تكرس لغرض آخر أعمق وأهم.

الهدف الخامس : ممازجة الناس ومحادثتهم وتزريق التعليمات والتوجيهات إليهم ، بحسب ما هو المصلحة في كل وقت. وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.

فمن ذلك: ما سمعناه من رواية الآودي أنه كان يظهر في كل سنة يوماً لخواصه ، فيحدثهم ويحدثونه. وذلك في حدود عام الثلثمائة كما سبق.

صفحة (586)

ومن ذلك: أنه عليه السلام في عام 293 بعد طوافه حول الكعبة ، خرج إلى جماعة ، لم يكن فيهم مخلص غير محمد بن القاسم على ما سنسمع ، فانهم بينما هم جلوس إذا قاموا له هيبة له ، وجلس متوسطاً فيهم.

ثم التفت يميناً وشمالاً ثم قال :أتدرون ما كان أبو عبد الله عليه السلام يقول في دعاء الإلحاح؟ قال: كان يقول: اللهم إني أسألك باسمك الذي به تقوم السماء وبه تقوم الأرض وبه تفرق بين الحق والباطل وبه تجمع المتفرق وتفرق بين المجتمع .وبه أحصيت عدد الرمال وزنة الجبال وكيل البحار. أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً.

ثم نهض ودخل الطواف. قال الراوي: فقمنا لقيامه، حتى إذا انصرف وأنسينا أن نذكر أمره وأن نقول من هو وأي شيء هو؟ إلى الغد في ذلك الوقت ، فخرج علينا من الطواف، فقمنا له كقيامنا بالأمس، وجلس في مجلسه متوسطاً، فنظر يميناً وشمالاً، وقال: أتدرون ما كان يقوله أمير المؤمنين عليه السلام بعد صلاة الفريضة، فقلنا:وما كان يقول: قال: كان يقول: إليك رفعت الأصوات وعنت الوجوه وضعت الرقاب واليك التحاكم في الأعمال ...إلى آخر الدعاء.

ثم نظر بعد هذا الدعاء يميناً وشمالاً فقال :أتدرون ما كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في سجدة الشكر ؟ فقلنا : وما كان يقول ؟ فذكر لهم نص دعاء آخر .ثم قام ودخل الطواف .فقاموا لقيامه.

صفحة (587)

وهكذا جاءهم في اليوم الثالث ،ونظر يميناً وشمالاً ،وعلمهم نص دعاء آخر لعلي بن الحسين .قال الراوي: ثم نظر يميناً وشمالاً ونظر إلى محمد بن القاسم أنت على خير إن شاء الله تعالى وكان محمد بن القاسم يقول هذا الأمر . ثم قام ودخل الطواف .فما بقي منا أحد إلا وقد ألهم ما ذكره من الدعاء ..إلى آخر الرواية (1).

فنرى المهدي عليه السلام، هنا لا يتعرض إلا لتعليم الدعاء والخشوع لله عز وجل . وهو أمل مطلوب في الدين ومتسالم عليه بين سائر المسلمين مخلصهم ومنحرفهم على السواء. وبذلك تجنب شر الجماعة غير المخلصين الموجودين في ضمن هؤلاء الناس ،ولم يحصل منهم إلا على الاحترام و التقدير والتصديق به والانفعال بأقواله وأدعيته .

ولكن المهدي عليه السلام في نفس الوقت يحاول أن يحلل ذلك بالدعوة إلى الحق الذي يراه ،من حيث  لا يشعر الآخرون ، فيروي الأدعية عن أئمة الهدى عليهم السلام ، ويشير إلى المخلص المؤمن به الموجود ضمن هذه لجماعة ويقول له أمام الجميع: أنت على خير إن شاء الله تعالى .ليفسح المجال للآخرين بالتفكير الجدي أنه بماذا أصبح هذا الرجل على خير دونهم.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.

صفحة (588)

وهو كل ذلك يتكلم كفرد اعتيادي ، ليس له أي ميزة على الآخرين ، سوى هذا العلم الذي يحمله والروايات التي يقولها . وبذلك استطاع أن يدعو إلى الإسلام الحق ، ومن دون أن يقع في خطر أو أن يتوجه إليه نقد .

يبقى أن تعرف أنه عليه السلام حين كان يكثر من النظر إلى اليمين والشمال انما كان يريد التأكد من نوقفه وعدم وجود ما يدل عليه أو من يعرفه أو من يشكل عليه خطراً بشكل من الأشكال ، في حديثه هذا .لا أنه كان خائفاً بالفعل ، وإلا لكان في غنى عن مواجهة هؤلاء الجماعة بمثل هذا القول.

ولم يكن ذلك الموقف مقتضياً التصريح بشخصيته ،أو عرض شيء من تعاليمه أو فلسفة غيبته أو أطروحة عمله ،وما ذلك إلا لوجود المنحرفين غير المخلصين من هذه لجماعة ... وإنما عرفوا أنه هو المهدي بعد أيام ببعض القرائن التي كانت لديهم(1).

فهذه هي الأهداف العامة الأساسية التي كان المهدي (ع) يتوخاها في مقابلاته للآخرين .وأما الهدف السادس والأخير ، وهو قبض المال ممن حمل إليه المال ، فقد عرفنا مثاله من تسليم وفد القميين المال إليه من أول يوم من وفاة أبيه . ومورد تفصيل الكلام فيه هو الحقل الخاص بالأمور المالية للإمام المهدي .

ــــــــــــــــ  

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.

صفحة (589)

تبقى هناك أهداف خاصة كان المهدي يتوخاها من وراء بعض المقابلات ، تندرج تحت عنوانين رئيسين ،عرفنا أمثلتهما فيما سبق فلا حاجة إلى إفاضة الكلام فيها.

أحدهما: إجابة شخص لأصر على السفير الثاني رضي الله عنه إن يوفر له فرصة المقابلة مع الإمام المهدي (ع) .وهذا هو الذي رأى المهدي (ع) .بزي التجار(1) كما سبق أن سمعنا .

ثانيهما: تأنيب شخص منحرف عن انحرافه وسوء عمله، ولذلك عدة أمثلة ، فمنها موقفاه مع عمه جعفر بن علي الذي عرفناهما في القسم الأول من هذا التاريخ ،وموقفه مع محمد بن علي بن بلال الذي عرفناه مدعياً للسفارة زوراً، إذ أشرف عليه المهدي عليه السلام من علو داره وأمره بدفع ما عنده من الأموال إلى العمري.

ووراء هذه الأهداف العريضة، أمور ضمنية قد يتعرض لها المهدي في كلامه أو يستهدفها في عمله ، عند مقابلته مع الآخرين .إلا أنها حيث كانت صغيرة الحجم كثيرة العدد ،فلا حاجة إلى إطالة المقام ببيانها.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر تفصيل الحادثة في كتاب غيبة الشيخ الطوسي ص164

صفحة (590)

الحقل الرابع

تصرفه في الشؤون المالية

 

من قبض وتوزيع ، في غيبته الصغرى عن طريق غير السفراء الأربعة ..إما عن طريق المقابلة معه ،أو بدون ذلك . أما السفراء الأربعة فقد عرفنا حالهم تفصيلاً فيما سبق.

كان أول مال قبضه الإمام المهدي عليه السلام، هو المال الذي حمله إليه وفد القميين الذي ورد إلى سامراء ، في اليوم الأول لوفاة الإمام العسكري عليه السلام .

ثم أنه عليه السلام لم يشأ أن يستمر على ذلك ، بل أعلن منذ ذلك الحين تنصيبه سفيراً في بغداد لقبض لسائر الأموال التي ترد من سائر الأطراف الإسلامية ، كما سبق.

وكان السفراء في السنوات الأولى للغيبة الصغرى، يحولون بعض الأموال إلى سامراء، حيث كان يسكن المهدي (ع) في تلك الفترة.

فكان يتم إخراج التعاليم بشأنها من المهدي (ع) عن طريق بعض الوكلاء الخاصين(1). وكان يسوؤه رد المال الذي كان يعطيه  لمواليه ويعتبره خطاً موجباً الإستغفار(2).

وأما فيما بعد ذلك من الزمان ، فيتم الكلام فيه في عدة نقاط :

النقطة الأولى: أن المهدي "ع" كان يطالب عن طريق سفرائه بتوقيعاته ، بدفع الأموال التي في أيدي الناس له، ولا يجوز لهم التخلف أو التقصير ولا في درهم واحد.

ــــــــــــــــ  

(1) البحار ج13 ص79

(2) انظر الإرشاد ص333 وأعلام الورى ص419

صفحة (591)

فمن ذلك: التوقيع الذي ورد على الشيخ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه ابتداء لم يتقدمه سؤال منه . نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعنه الله والملائكة والناس أجمعين على من استحل من أموالنا درهماً(1). وقوله في توقيع آخر -: وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران(2).

ومن توقيع آخر: و أما ما سألت عنه من أمر من يستحل ما في يده من اموالنا ويتصرف فيه تصرفه في ماله من غير امرنا .فمن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه يوم القيامة. وقد قال النبي (ص) المستحل "من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب". فمن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا ، وكانت لعنة الله عليه لقوله عز وجل : ألا لعنة الله على الظالمين .إلى غير ذلك من النصوص.

نستطيع أن نفهم من ذلك أمرين:

الأمر الأول : أنه كان للمهدي عليه السلام أموال لدى الناس وفي ذممهم ، متكونة من تلك الأموال التي هي للإمام الشرعي في نظر الإسلام. كالأنفال والخمس والخراج .وحيث يرى المهدي (ع) ثبوت الإمامة لنفسه ، فهو يرى ملكيته لهذه الأموال ، وكونه احق بها من أي شخص آخر من الحكام والمحكومين معاً.

ــــــــــــــــ  

(1) الإحتجاج ص ج2

(2) المصدر ص283

صفحة (592)

ومطالبة الإمام المهدي (ع) بهذه الأموال في واقعه ،مطالبة بتطبيق هذه الأحكام الإسلامية بوجوب دفع هذه إلى الإمام  (ع) . ويكون الخارج على هذا القانون ، عاصياً لله وجل و للإمام ومستحقاً للعقاب .

ولعلنا نستطيع أن نفهممن مجموع الأخبار الواردة في هذا الصدد بالنسبة إلى الوكلاء والسفراء أن تجاراتهم كانت على الأغلب بأموال الإمام نفسه ،لا بأموالهم الشخصية ، وإن كانوا على ذلك من ظاهر الحال .ومن هنا كان بإمكانهم أن يستعملوا ما يقبضوه من الموالين من أموال الإمام في التجارة، بإذن الإمام عليه السلام . وتكون الأرباح للإمام (ع) أو بينهما بنسبة معينة ، حسب الإتفاق.

الأمر الثاني :أن هذه الدية الكاملة من قبل المهدي عليه السلام في المطالبة بالأموال التي ترجع إليه ، يمكن فهمهما على مستويين رئيسيين :

المستوى الأول: المستوى العام بالنسبة إلى سائر الناس الذين تشتغل ذممهم بشيء من أموال الإمام .

ونحن إذا نظرنا بهذا المستوى ، نجد أن غمط أموال الإمام لولا الدافع الإيماني القوي من أسهل الأشياء. فليس على الشخص المنحرف الذي لا يريد أن يدفع  إلى المهدي عليه السلام، أمواله أي حسيب أو رقيب ، بعد ما عرفناه من غيبة المالك الحقيقي، وتخفي نوابه وستر هذه الصفة فيهم إلى أكبر حد مستطاع .وعدم توفر السلطة التنفيذية لديهم لإقتضاء الأموال المغدورة.

صفحة (593)

إذن ، فلا بد من إيجاد دافع إيماني شرعي لدى الفرد المسلم بدفع ما الإمام (ع) في ذمته ،وعدم جواز التخلف عنه ، وذلك للحد من التيار العام القاضي بدفع هذه الاموال إلى السلطات الحاكمة دون الإمام .

المستوى الثاني: المستوى الخاص، حين تتعلق المصلحة الاجتماعية الإسلامية العفو وعدم المطالبة بالأموال، فإنه عليه السلام كان يعطف في توقيعاته موارد العفو والتحليل على موارد التحريم ، لكي يفهم الآخرون بان الغرض من المطالبة هو الوصول الى المصلحة الإسلامية دون الحرص على الأموال. فمتى اقتضت المصلحة العفو وغض النظر كان ذلك نافذاً .

فمن ذلك قوله عليه السلام في أحد توقيعاته: وأما المتلبسون بأموالنا ، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه من حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث(1). ونعرف من التعليل بطيب الولادة ان المحلل هو خصوص خمس الجواري المملوكات المجلوبات عن طريق الفتح الإسلامي ،لا كل الخمس ، وهو ما يذهب إليه الفقهاء عادة.

ومن ذلك قوله في توقيع آخر: وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا ،هل يجوز القيام بعمارتها ، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر وتقرباً إليكم. فلا يحل لأحد أن يتصرف من مال غيره بغير إذنه. فكيف يحل ذلك من مالنا.

ــــــــــــــــ  

(1)الإحتجاج ص283 وما بعدها.

صفحة (594)

من فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه ومن اكل من اموالنا شيئاً، فانما ياكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً .

واما ما سالت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ، ضيعة ويسلمها من قيم يقوم بها ويعمرها ، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيماً عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره.

وأما ما سألت عنه من الثمار من اموالنا يمر به المار فيتناول منه وياكل  وهل يحل له ذلك، فإنه يحل له أكله ويحرم عليه حمله(1).

النقطة الثانية :أنه كان للمهدي عليه السلام بواسطة أمواله العامة علاقات مالية خاصة يمثلها نوابه الأربعة وغيرهم . تجاه كل من له علاقة مالية في تجاراتهم أو حق شرعي في ذمته. وكان عليه السلام يأمر باقتضاء هذه الأموال ، وقد يعطي وصلاً بقبضها ، ومن هنا ينفتح الكلام في أمرين:

الأمر الأول : أمره عليه السلام باقتضاء أمواله ودفعها إليه .

فمن ذلك ما يرويه بعض مواليه عن نفسه قائلاً: كان للناحية علي خمسمائة دينار ، فضقت بها ذرعاً .ثم قلت: لي حوانيت اشتريتها بخمس مئة وثلاثين ديناراً قد جعلتها للناحية بخمسمائة دينار ، ولم أنطق بذلك.

ــــــــــــــــ  

(1) الاحتجاج ص299 ج2 وما بعدها.

صفحة (595)

فكتب يعني الإمام المهدي (ع) الى محمد بن جعفر وهو احد الوكلاء -: اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمائة دينار التي لنا عليه(1) .

فتراه عليه السلام يأمر وكيله بقبض الحوانيت ، دلالة على كفاية دفعها إلى الناحية وفاء لما في ذمة محمد بن هارون تجاهها ..إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل .

الأمر الثاني :إعطاؤه الوصول التي تدين قبض الأموال .

فمن ذلك :أن محمد بن الحسن الكاتب المروزي ،وجه إلى حاجز الوشا ، وهو أحد الوكلاء، مائتي دينار، وكتب إلى الغريم ( يعني المهدي (ع)) بذلك فخرج الوصول(2).

ومن ذلك: ما تحدث به أحدهم ، فقال :اجتمع عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهماً ، فلا أحب أن ينقص هذا المقدار .فوزنت من عندي عشرين درهماً و دفعتها إلى الأسدي (وهو احد الوكلاء) .

ولم أكتب بخبر نقصانها .وإني أتممها من مالي .فورد الجواب : قد وصلت الخمسمائة التي لك فيها عشرون.

وتسمية المهدي (ع) بالغريم ، دليل واضح على إيمان قواعده الشعبية بأنه دائن لهم بحقوق أموال ،وأنهم مرتبطون به مالياً إلى جانب ارتباطهم العقائدي .

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص171

(2) المصدر نفسه ص257

صفحة (596)

النقطة الثالثة: ان المهدي عليه السلام قد يستقل أحياناً بالإيعاز بدفع المال إلى شخص دون توسيط سفرائه.

كالذي سبق أن سمعناه في أبي سورة المدعو بمحمد بن الحسن بن عبد الله التميمي، إذ رافقه المهدي عليه السلام من سفره من كربلاء إلى الكوفة ، وحوله على  علي بن يحيى الرازي ليقبض المال الذي عنده .

وأعطاه صفته والدلالة على حقيقته من طرف خفي(1).

فهذه بعض التصرفات المالية التي كان يقوم بها المهدي (ع) ، فإذا ضمناها إلى ما عرفناه من التصرفات المالية للسفراء الأربعة ، وعرفنا أنه ليس كل ما حدث في تلك الفترة التي نؤرخ لها قد نقل في التاريخ ووصل إلينا ،كما سبق أن بينا في مقدمة هذا التاريخ ..عرفنا مدى السعة والشمول الذي كان عليه النشاط الاقتصادي للإمام المهدي عليه السلام ، بالرغم من خفائه وعزلته .

ــــــــــــــــ  

(1) انظر تفصيل الحادثة في الغيبة ص163 وانظر ص181

صفحة (597)

الحقل الخامس

حله للمشكلات العامة والخاصة

كان عليه السلام ، وهو في غيبته قائداً فذاً ، يشعر بالآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية ويتجاوب معهم فكراً وعملاً بما تقتضيه مصلحتهم  ومصلحة الإسلام.

فكان عليه السلام يبت بالأمور الخاصة والعامة، ويذلل مشاكلها عن طريق ما يعرفه من حال المجتمع والأفراد. ويتمثل ذلك في عدة نقاط :

النقطة الأولى :

استعراضه للمشكلات العامة ومحاولته حل بعضها . وهنا لا بد ان نفهم امرين :

الأمر الأول : أنه ليس من الصعب على الإمام المهدي (ع) بالرغم من غيبته وتخفيه أن يكون على مستوى الأحداث العامة في المجتمع .

فإننا إما أن ننظر إليه كإمام عالم بالغيب بتعليم من الله عزوجل، كما دلت عليه سائر الدلالات السابقة ،وإما أن نجرد منه شخصاً عادياً من بشريته قائداً في مسؤوليته.

أما على الفرض الأول: وهو كونه إماما عالماً بالغيب. فمن الواضح اطلاعه على الأحداث العامة وان لم يكن يعيش غمارها ،ف ضلاً عما إذا كان يعيش فيها على ما سبق أن عرفناه.

وأما على الفرض الثاني، حيث تفرض عليه مسؤولياته أن يكون مواكباً للأحداث شاعراً بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية .. فإن له طريقين رئيسيين يمكن أن يقترنا ويمكن أن يفترقا في الاطلاع على الأحداث.

الطريق الأول: اختلاطه المباشر بالناس ، وممازجته معهم ، بشكل لا يشعرون بهويته وحقيقته ،فإننا سبق أن عرفنا انه مجهول العنوان والاسم من حيث انطباقه على الشخص .وليس مختفياً جسماً عن الناس كما قد تقول به الأفكار غير المبرهنة .

 

صفحة (598)

 

وقد رأينا صوراً عن ممازجته للناس ومحادثته معهم ،تارة بعنوانه الصريح وحقيقته ،وأخرى بغيره ، بحسب ما كان يرى من المصلحة باختلاف الزمان والمكان. ومعه يكون بطبيعة الحال مطلعاً بشكل تفصيلي وكبير على سائر الأحداث ومشاطراً للامة الإسلامية بالأحاسيس .بل يكون مشاركاً بالعمل على رفع تلك الأمة وتحقيق آمالها ، في حدود المصلحة والإمكان .

الطريق الثاني: استقصاؤه للأخبارعن طريق سفرائه الأربعة وغريهم ممن كانوا يحظون بمقابلته، على ما عرفنا ، فإنه من المؤكد ، أن قسماً مهماً من الأحاديث التي يقولها المهدي (ع) للآخرين مما سمعناه ومما لم  نسمعه- وخاصة سفراؤه المسؤولون عن قيادة قولعده الشعبية بالنيابة عنه، تتضمن التوجيهات الإجتماعية والنقد للأوضاع العامة وتشخيص الوضيفة الإسلامية تجاهها .. على المستوى العالي الذي يراه المهدي (ع) مناسباً مع مخاطبيه.

بل من المستطاع القول :أن المهدي (ع) يعطي توجيهاته وتثقيفه العام للمجتمع والأفراد ،وإن كان مجهول العنوان .فإنه إذ يجالس الناس أو يساكنهم أو يرافقهم في طريق أو سفر ،وإن لم يعرفوه يحاول باستمرار أن يعطيهم من هداه توجيهه بالنحو الذي ينفع الفرد والمجتمع معاً ،ويكون طريقاً إلى تذليل المشاكل ورفع الآلام ، بالنحو الذي تقتضيه المصلحة.

 

صفحة (599)

وهذا هو الباب الواسع الذي يفسر لنا الحديث الوارد عنه عليه السلام بان فائدته حال غيبته كالشمس اذا غيبها السحاب .وبه نستطيع ان نفهم احد الخطوط الرئيسية في غيبته الصغرى على ما سنعرض له بالتفصيل من هذا التاريخ والتاريخ القادم.

الامر الثاني: اننا سنرى ان المشكلات العامة التي تصدى المهدي لحلها ذات مسار معين يمت الى حل مشكلات قواعده الشعبية بشكل رئيسي .ولا نكاد نجده متعرضاً لحل مشكلة من نوع آخر في المجتمع المسلم او الدولة .

فإن المشكلات العامة التي يتصور وقوعها في المجتمع المسلم ، ذات ثلاثة مسارات.

المسار الأول: مشكلات الدعوة الإسلامية، وهو ما يقع في الحدود الإسلامية وفي الفتح الإسلامي من صعوبات وعقبات تجاه الكافرين.

المسار الثاني: مشكلات الجهاز الحاكم ومن يمت له بصلة ،وهو ما يقع بين القواد وأمراء الأطراف وبين الخليفة أو بينهم أنفسهم ، من مشكلات وحروب وعلى رأسها مشكلات الخوارج والقرامطة ، على ما عرفناه في الفصل الخاص بالتاريخ العام لهذه الفترة.

المسار الثالث : المشكلات التي تحدث في القواعد الشعبية التي تمت إلى الإمام المهدي (ع) بصلة الولاء .بسبب الضغط والإرهاب والمطاردة التي قوم بها الحكام ومن إليهم تجاههم.

صفحة (600)

أما المسار الأول للمشكلات ، فقد كان الإتجاه العام فيه هو غلبة المسلمين وانتصارهم في حروب الفتح ، ولم تكن توجد مشكلة إسلامية أساسية تقتضي رفع اليد من المصلحة الكبرى المتوخاة من غيبة المهدي عليه السلام.

على ان التكفل للفتح الإسلامي لم يكن إلا الجهاز الحاكم الذي كان يقوم كيانه على إنكار وجود المهدي وإمامته ، ومعه لم يكن للمهدي (ع) سبيل معقول لإيصال صوته إلى الحكام أو حملهم على إطاعته .

وهم من عرفناهم لا يتوخون إلا المصالح الشخصية والتجارات المالية حتى في الفتوح الإسلامية نفسها.

وأما المسار الثاني، فمن الواضح أن المهدي (ع) حين يعتبر كلا الطرفين المتنازعين منحرفين من الإسلام بعيدين عن طريق الحق لا يكون له أي داع أو مصلحة ان يتعرض وهو في غيبته واحتجابه إلى هذا النزاع أو ذلك سلباً ولا إيجاباً .

على أننا ينبغي أن نعرف أن ثمة من المشكلات  العامة ما يكون وجودها موافقاً للمصلحة الإسلامية على الخط الطويل .من حيث أنها تربي الأمة وتوعيها على واقعها وإدراك مشاكلها وتمسكها بدينها.

فإن الأمة لا يربيها في عصور الإنحراف إلا المرور في المحن ومواجهة المشكلات. ومثل هذه المشكلات لا يمكن إلا ان يقف المهدي (ع) تجاهها موقفاً سلبياً تاركاً لها مسارها الخاص حتى تتمخض عن نتائجها وتصل إلى نهاياتها .

صفحة (601)

ولا يبعد أن كثيراً من مشكلات المسلمين، بالرغم من سوئها وبشاعة منظرها، لها من النتائج والاثار المحسنة العميقة الغور في المدى البعيد .على شرح وتوضيح نتعرض له في بحث مقبل في سياسة المهدي في الغيبة الكبرى ان شاء الله تعالى.

واما غير هذا النحو من المشاكل ، أي التي لا تكون مؤثرة في تربية الأمة ،فإنه وان لم يرد في تاريخنا تدخل المهدي عليه السلام في تذليلها ولكننا لا نستطيع أن ننفيه بل في الإمكان أن نؤكد وقوعه عندما تمت المشكلة إلى أساس الإسلام وتكون العقيدة نفسها مهددة بالخطر.

لكن بالنحو الذي لا يلتفت إليه الناس، ولا يعلمون صدوره من الإمام المهدي (ع) بصفته الواقعية .وبرغم لا يكون قابلاً للنقل التاريخي .

على شرح و تفصيل يأتي في الحديث عن الغيبة الكبرى أيضاً .

على اننا لا نعدم ، بخصوص هذا المسار الثاني، نقلاً تاريخياً ضئيلاً فيما إذا كانت المشكلة تمت إلى قواعده الشعبية بصلة ، على ما سنسمع من موقفه عليه السلام تجاه ذلك الرجل الذي تحول قرمطياً وغير ذلك.

وأما المسار الثالث، فهو الذي ورد في تاريخنا تصدي الإمام المهدي (ع) لرفعه وتذليله ،باعتباره القائد لقواعده الشعبية والمؤول الأعلى عن حفظها ورعايتها .

وقد ورد في تاريخنا تذليله لعدة مشكلات عامة من هذا القبيل نذكر منهما اثنين على سبيل المثال :

 

صفحة (602)

الأولى: حيلولته عليه السلام ضد المؤامرات التي كانت تحاك لقواعده الشعبية في الظلام على حين غرة وغفلة منها.

فقد أصدر المهدي عليه السلام توقيعاً يتضمن النهي عن زيارة مقابر قريش والحائر ، يعني حرم الإمامين الكاظميين عليهما السلام وحرم الحسين عليه السلام. فامتنعت قواعده الشعبية عن الزيارة إطاعة لأمر إمامهم وإن لم يعلموا وجه المصلحة .وعلموا بعد شهر من ذلك الحين أن الخليفة كان قد أمر بإلقاء القبض على كل من يزور هؤلاء ، الأئمة عليهم السلام(1).

وبذلك نرى المهدي عليه السلام قد حال سلفاً دون تنفيذ أمر الخليفة ،وتوصل إلى نجاة قواعده الشعبية من سجون السلطات.

الثانية : حيلولته عليه السلام ضد مؤامرات السلطات على وكلائه على حين غرة منهم.

وهو ما عرفناه فيما سبق ونعرضه الآن بشيء من التفصيل .

وذلك: أنه تناهى إلى سمع عبد الله " عبيد الله " بن سليمان ،وهو أول وزراء المعتضد(2) بعض نشاط وكلاء المهدي عليه السلام في الأطراف وأنه تجبى إليهم الأموال من النواحي ،وذكروا له اسماءهم ، فهم بالقبض عليهم و فنصحوه أن يتأكد من صحة التهمة ،وذلك بأن يدس قوماً لا يعرفون ، لدفع الموال إلى الوكلاء ، فمن قبض شيئاً من تلك الأموال قبض عليه.

ــــــــــــــــ  

(1) انظر اعلام الورى ص421 والغيبة ص172

(2) انظر مروج الذهب ج4 ص145

صفحة (603)

ولو كانت هذه  المؤامرة قد تمت لاستؤصل وكلاء المهدي (ع) عن آخرهم ، بل لكان من المحتمل انكشاف مكان وجود المهدي (ع) نفسه الا ان المهدي حال دون ذلك ، فأخرج إليهم توقيعاً يتضمن الأمر بان لا يأخذوا من أحد شيئاً ، وان يتجاهلوا ألامر .

فامتثل الوكلاء امر امامهم وهم لا يعلمون ما السبب.

قال الراوي : فاندس لمحمد بن احمد وهو احد الوكلاء-  رجل لا يعرفه .وقال : معي مال اريد ان اوصله . فقال له محمد :غلطت .

انا لا اعرف من هذا شيئاً وفلم يزل يتلطف به ومحمد يتجاهل.

وكذلك كان سائر الوكلاء على مستوى المسؤولية فامتنعوا كلهم عن الادلاء بشيء ، فلم يظفر منهم الحكام بأحد، ولم تتم الحيلة لهم بذلك ، وبقيت مسألة الوكالة عن المهدي على نفس المستوى من الشمول ومن السرية التامة(1).

النقطة  الثانية : وقوفه ضد الإنحراف موقفاً جدياً لا هوادة فيه بصفته ممثلاً للحق الصريح الذي لا يهادن ولا يجامل.

فمن ذلك: أن رجلاً جليلاً من فقهاء أصحابنا بتعبير الراوي  كتب إلى المهدي (ع) رسالة عن طريق بعض سفرائه . فلم يرد فيها الجواب ، على كثرة ما كان يرد من أجوبة وتوقيعات عنه عليه السلام .

قال الراوي: فنظرنا فإذا العلة في ذلك ان الرجل تحول قرمطياً (2).

ــــــــــــــــ  

(1) انظر اعلام الورى ص421

(2) انظر الارشاد ص332 وغيره.

صفحة (604)

 

وهذا الموقف الحدي للإمام المهدي يرشدنا إلى أمرين رئيسيين :

الأمر الأول : كونه على مستوى الأحداث ، يعلم بحوادث المجتمع وآماله والآمه ، على النحو الذي قلناه ،وكيف يمكن أن نتصور أن حروب القرامطة مما يخفى على الإمام المهدي وهي التي استطاعت أن تزعزع الحكام وترهب المجتمع ردحاً طويلاً من الزمن .وقد عرفنا أن غيبته لا تحول دون معرفة تفاصيل الحوادث فضلاً عن مهماتها ، واضحاتها .

الأمر الثاني: إن القرامطة بالرغم من كونهم محسوبين في منطق الحكام ومن إليهم ، على الشيعة باعتبارهم من الفرقة الإسماعيلية على ما عرفنا وهي أحد فرق المذهب الشيعي – بمعناه العام- وبالرغم من أن القرامطة من الناحية السياسية يشتركون مع الإمام المهدي "ع" في كونهم معارضين للحكام القائمين على الدولة الإسلامية ، وعدم الارتياح إلى الوضع السائد.

بالرغم من ذلك: فالحق الذي يؤمن به المهدي "ع" يجب أن يبقى صافياً جدياً صلباً باتجاه أي انحراف أو ضلال. والقرامطة لهم نقاط ضعف كثيرة في نظر الإمام المهدي (ع) أهمها أنهم لا يؤمنون بإمامته وأنهم مختلفون في تفاصيل المذهب فقهاً وعقيدة ، وأنهم قد اتخذوا أسوأ الأساليب في التنكيل بالمسلمين وخاصة قوافل الحجاج. حتى بلغ اتساعهم في الظلم والإنحراف أنهم اعتدوا  على الكعبة المشرفة وقلعوا الحجرالأسود ونقلوه إلى هجر ، كما سبق أن سمعنا.

صفحة (605)

ومن هنا كان واضحاً لدى المجتمع الإسلامي عامة والقواعد الشعبية للإمام المهدي خاصة، أن هؤلاء القرامطة إنما يحاربون الإسلام والمسلمين .وإن موّهوا ذلك بمختلف الشعارات والعبارات .ولذا نرى ان اعتناق أي شخص لمذهبهم يعتبر سبباً كافياً لمقاطعته والإعراض عنه على أقل تقدير. مهما كان شأنه قبل ذلك كبيراً مشهوراً بالفقه والإصلاح.

النقطة الثالثة: حل الإمام المهدي "ع" للمشكلات الخاصة لأصحابه وقواعده الشعبية .بحسب ما كانوا يرفعونه إليه من شكاوى وما يشرحون له من مشكلات .فكان يرد الجواب تارة بالدعاء إلى الله تعالى بتذليل المشكلة، وأخرى بالإخبار بأنها ستحل وثالثة بإعطاء منهج معين للحل والأمر بما يراه الاصلح في الأمر .

وتكون الحلول عادة عن طريق المراسلة وخروج التوقيعات من المهدي"ع" عن طريق سفرائه الأربعة خاصة وسائر وكلائه عامة.

وقد سبق أن عرفنا عن ذلك قسماً كبيراً. وتحاشياً للتكرار نذكر ما سبق بنحو موجز ونضيف إليهما ما هو جديد.

فمن ذلك حلّه عليه السلام لعدة مشكلات زوجية(1) ودعاؤه للقاسم ابن العلا إن يبقى ولده الحسين بعد أن ولد له عدة بنين وماتوا(2).

ــــــــــــــــ  

(1) انظر في ذلك غيبة الشيخ الطوسي ص184-186-197.

(2) انظر الإرشاد ص331.

 

صفحة (606)

 

ومن ذلك دعاؤه لمريض بالناسور وقد عجز الأطباء عنه فشفي شفاء تاماً(1) .ومن ذلك : نهيه لبعض مواليه عن الخروج إلى الحج في بعض السنين .فخرجت القرامطة على القوافل فاجتاحتها(2). ونهيه لبعض اليمنيين عن الخروج من بغداد إلى اليمن ، في قافلة لليمنيين ، فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم(3) ومنها توزيعه الأكفان على الطالبين لها من مواليه(4) ومنها دعاؤه بولادة ابن بابويه الشيخ الصدوق قدس الله روحه(5).

ومن ذلك أن شخصاً ولد له ولد فكتب إلى الناحية يستأذن من تطهيره في اليوم السابع ، فورد: لا تفعل فمات في يومه السابع .

فكتب إلى الناحية بموته شاكياً إلى المهدي (ع) مصابه .فورد :ستخلف غيره وغيره ، فسم الأول أحمد ومن بعد أحمد جعفر ، فجاء كما قال(6).

ومن ذلك : إن شخصاً بالأهواز رزق ولداً أخرس سماه مسروراً .

فحمله أبوه وعمه ، وسنه إذ ذاك ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً إلى الشيخ حسين بن روح رضي الله عنه ، فسألاه أن يسأل الحضرة يعني الإمام المهدي (ع) أن يفتح الله لسانه .فذكر الشيخ ابن روح: انكم امرتم بالخروج الى الحائر .

ــــــــــــــــ  

(1) انظر الإرشاد ص334.                           (2) انظر الغيبة ص196

(3) انظر الإرشاد ص332 وأعلام الورى ص18    (4) انظر الغيبة ص172-185- 163 وأعلام الورى ص421

(5) انظر الغيبة ص188 وص195                  (6) المصدر ص171 وانظر الإرشاد ص334.

 

صفحة (607)

قال مسرور : فخرجنا أنا  وأبي وعمي إلى الحائر فاغتسلنا وزرنا .

فقال : فصاح بي أبي وعمي :يا سرورو .فقلت بلسان فصيح : لبيك .

فقال لي: ويحك تكلمت . فقلت : نعم .قال الراوي :وكان مسرور هذا رجلاً ليس بجهوري الصوت(1).

ومن ذلك أيضاً ما حدث لرجل من قم انكى ولداً له، فخرج إليه شفاهاً عن طريق احد الوكلاء :إن الولد ولده وواقعها في يوم كذا وكذا من موضع كذا وكذا .وأمره بأن يسميه محمداً .فأصبح ذلك سبباً لوضوح الحال ورجع الأب عن إنكاره .وولد الولد وسمي محمداً. (2)

 *****

فهذه هي النقاط الرئيسية فيما يحله المهدي من مشكلات ، وما يذلله من صعوبات.

وبذلك نراه سائراً على نفس الخط الذي سار عليه أبواه العسكريان عليهما السلام في علاقتهما الخاصة ، غير المالية بقواعدهما الشعبية مع حفظ الفرق في الظروف ومقتضيات المصالح .

ــــــــــــــــ  

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص188

(2) المصدر ص187.

صفحة (608)