الحقل السابع
إعلانه انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى
وهو آخر جزء من التخطيط العام الذي سار عليه الأئمة عليهم السلام وأصحابهم للوصول إلى الغيبة الكبرى ، ليكون الإمام المهدي (ع) مذخوراً لليوم الموعود .
وقد كانت الغيبة الصغرى كافية لإثبات وجود المهدي (ع) بما يصل إلى الناس عن طريق سفرائه وغيرهم من البينات والبيانات .كما أوجبت بكل وضوح أن يعتاد الناس على غيبة الإمام ويسيغون فكرة اختفائه ، بعد أن كانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمة ، وإمكان الوصول إلى مقابلة الإمام .
وقد رأينا كيف أن الإمام المهدي (ع) كان متدرجاً في الإحتجاب فهو أقل إحتجاباً في أول هذه الفترة. وكلما مشى بها الزمان زاد احتجابه ، حتى لايكاد ينقل عنه المشاهدة في زمن السفير الرابع لغير السفير نفسه.
صفحة (630)
وحينما كانت هذه الفترة مشارفة على الإنتهاء ،كان الجيل المعاصر لزمان ظهور الأئمة (ع) قد انتهى .وبدأ أجيال جديدة إلى الوجود قد اعتادت غيبة الإمام (ع) وفكرة القيادة وراء حجاب ،وأصبحت معدة ذهنياً بشكل كامل لتقبل فكرة انقطاع السفارة أساساً واحتجاب الإمام عن قواعده الشعبية تماماً.
وهذا هو الذي يفسر لنا السبب الرئيسي الأول من أسباب ثلاثة لإنتهاء السفارة والغيبة الصغرى، نلخصها فيما يلي:
السبب الأول : استيفاء الغيبة الصغرى لأغراضها .وهو واضح بعد الذي ذكرناه من كون الغرض الأساسي هو تهيئة الذهنية العامة لغيبة الإمام (ع) ،وهو مما قد حصل بالفعل خلال هذه الفترة ..فإنها فترة كافية لحصول ذلك ، وخاصة بع أن تزايد احتجاب الإمام بالتدريج حتى انحصرت رؤيته بشخص واحد هو السفير نفسه ، ولم يبق بعد ذلك إل اأن يحتجب الإمام (ع) عن كل أحد على الإطلاق .
السبب الثاني : ماذكرناه من ترجمة السفير الرابع، وكنا قد حملنا قبل ذلك فكرة تفصيلية عن مناشئه وأسبابه . وهو صعوبة الزمان وازدياد المطاردة والمراقبة من قبل الجهاز الحاكم ومن إليه ، للقواعد الشعبية الموالية للإمام المهدي (ع) بل لكبرائهم ولعلمائهم ، ولك ينج من هذا الضيق حتى السفير نفسه ، إلى حد لم يستطع السفير الرابع أن يقوم بعمل اجتماعي ذي بال ، ولم يرو لنا من أعماله إلا ما هو قليل وبسيط .
صفحة (631)
ولم يكن من المتوقع زوال ذلك الحال في زمن قريب ، وفي عدد من السنين قليل، لأن كيان الدولة وأساس الخلاف قائم على ذلك ،وخط الأئمة (ع) وأصحابهم يمثل على طول الخط المعارضة الصامدة الواعية ضد الحكام وإتحاد الظلم الساري في المجتمع.
إذن فلو وجد سفير جديد ،فإما يكون عارفاً بموقفه شاعراً بمسؤوليته عازماً على العمل المخلص في سبيل خطه ، وإما لا يكون .
فإن لم يكن كذلك ، فهو غير صالح للسفارة سلفاً ، وإن كان كذلك لم يستطع العمل ، ولم يكن حاله بأحسن من حال السفير الرابع إن لم يكن أسوأ وأردأ .
ولو أراد السفير أن يضحي تضحية كبيرة فينجز عملاً كبيراً ، لكان بذلك خارجاً عن السرية والتكتم المطلوبة من السفير.
إذن فكل سفير جديد يعين ، لا بد أن يفشل في مهمته جزماً بالنظر إلى ظروف المجتمع في ذلك الحين .ومعه لا داعي إلى استمرار السفارة ، بل لا بد من رفع اليد عنها ، والوصول إلى نهايتها .
السبب الثالث : عدم إمكان المحافظة على السرية الملتزمة في خط السفارة ، لو طال بها الزمن أكثر من ذلك ، وانكشاف امرها سيئاً فشيئاً .
وهذا واضح جداً في التسلسل الطبيعي لتطور الحوادث ، فإنه لو صار عزم الإمام المهدي (ع) أن يديم أحد السفارة ويسلسلها بين الأشخاص على مدى الزمان فإن ذلك سوف ينتج حتماً انكشاف أمر السفارة والسفير ،
صفحة (632)
واشتهار ذكرهما في المجتمع على لسان المؤمن والمنحرف والحكام والمحكومين . مهما حاول السفير أن يخفي أمره ويستر عمله .نعم إذا تسلسلت السفارة بين الأشخاص من دون القيام بأي عمل ،أمكن الإختفاء التام إلا أن هذا خلاف الهدف من السفارة والمطلوب من السفير .
ولئن استطاع السفراء أن يخفوا سفارتهم لمدة سبعين عاماً ، فإنه لن يكون ذلك مستطاعاً إلى الأبد ، وسوف ينكشف – بحسب طبيعة الأشياء- أمر السفير .ومعه يتعذر عليه العمل ، إن لم يؤد به إلى التنكيل به تحت سياط السلطات ، وقد يؤدي إلى جعل المهدي (ع) نفسه في مورد الخطر.
إذن فلا بد من قطع السفارة ، تلافياً لما قد يحدث من مضاعفات .
فلكل هذه الأسباب ،ولأسباب أخرى يضيق المجال عن ذكرها أعلن الإمام المهدي عليه السلام ، في توقيعه الذي أصدر إلى السفير الرابع قبل موته ،وانتهاء عهد السفارة وانقطاع الغيبة الصغرى وصلة الناس بإمامهم وقائدهم . وبدأ الغيبى الكبرى حتى يأذن الله تعالى في اليوم الموعود الذي يتحقق به الغد الإسلامي الكبير.
وقد سمعنا نص البيان عند التعرض إلى ترجمة السفير الرابع الشيخ السمري ،ولكن ينبغي أن نستذكره هنا ، لنستطيع أن نستلهم منه أموراً جديدة .
صفحة (633)
قال الإمام المهدي في توقيعه : بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي ابن محمد السمري ، أعظم الله أجرك إخوانك فيك . فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى احد . فيقوم مقامك بعد وفاتك .فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ، إلا فيمن أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فنرى الإمام المهدي (ع) قد أكد في هذا البيان على عدة أمور :
الأمر الأول: إخباره بموت الشيخ السمري في غضون ستة أيام .
وهو من الأخبار بالغيب الذي تقوله بإمكانه للإمام .كمت سبق أن قلنا .
ولم يشك أحد يومئذ في صدق هذا الخبر ، وقد غدا عليه أصحابه بعد ستة أيام فوجدوه محتضراً يجود بنفسه ، كما سمعنا فيما سبق.
الأمر الثاني: نهيه أن يوصي إلى أحد ، ليقوم مقامه ويضطلع بمهام السفارة بعد وفاته ،وبذلك يكون هو آخر السفراء ، ولا سفير بعده، ويكون خط السفارة قد انقطع ، وعهد الغيبة الصغرى قد انتهى .
الأمر الثالث: أنه لا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره ، وهذا معناه الإغماض في تاريخ الظهور ، وإيكال علمه إلى الله وحده وارتباطه بإذنه عز وجل.
صفحة (634)
ولهذا الإغماض عدة فوائد ، أهمها اثنان:
الأولى: بقاء قواعده الشعبية منتظرة في كل حين ، متوقعة ظهوره في أي يوم . وهذا الشعور إذا وجد لدى الفرد ، فإنه يحمله على السلوك الصالح وتقويم النفس ودراسة واقعه المعاش ومعرفة تفاصيل دينه جهد الإمكان .ليحظى في لحظة الظهور بالزلفى لدى المهدي والقرب منه ،ولا يكون من المغضوب عليهم لديه ،أو المبعدين عن شرق ساحته.
بل إن الفرد ليشعر ،وهو في حالة انتظار إمامه في أي يوم ،عن انحرافه وفسقه قد يؤدي به إلى الهلاك ، والإبعاد كلياً عن العدل الإسلامي العظيم الذي يسود العالم تحت قيادة الإمام المهدي عليه السلام .
فإن الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره سوف يكون حدياً في تطبيق العدل الإسلامي ،وسيذيق كل منحرف عقائدياً أو سلوكياً أشد الوبال ، فإنه لا مكان للإنحراف في مجتمع العدل المطلق.
الثانية : حماية المهدي من أعدائه. بعد ظهوره ، فإن الإغماض في التاريخ يوفر محض المفاجأة والمباغتة للعدو على حين غرة منه، وهو من أقوى عناصر النصر وأسبابه ،إن لم يكن من أهمها وأقواها على الإطلاق.
على حين لو كان الموعد معيناً لكان بالإمكان الأعداء أن يجمعوا أمرهم ويهيئوا أسلحتهم ، قبيل الموعد المحدد حتى إذا ما آن الأوان لظهوره قاتلوه واستأصلوه قبل ان يفهم به الناس ، ويجتمع حوله الأعوان.
لا يفرق في أعداء المهدي (ع) بين من يعتقد بظهوره وبين من لا يعتقد ، فإن الموعد لو كان محدداً طيلة هذا الزمان لكان أمراً مشهوراً ولا يوجد في أذهان الأعداء احتمالاً على ألأقل بظهوره ،وهو مساوق مع احتمال استئصال الأعداء واجتثاثهم ، وهذا بنفسه يكفي للتأليب عليه وإعلان التعبئة العامة وحالة الطوارىء ضد الإمام المهدي .
صفحة (635)
إذن فاللازم لهذه المصالح وغيرها بقاء الموعد غامضاً مجهولاً منوطاً بإذن الله عز وجل وعلمه وحده.
الأمر الرابع : الإشارة إلى أمد الغيبة التامة الكبرى سوف يكون طويلاً مديداً.
وإنما ينقص المهدي (ع) ذلك ليجعل الفرد المؤمن من قواعده الشعبية ، مسبوقاً ذهنياً بطول الغيبة ومتوقعاً لتماديها ، فلا يأخذه اليأس أو يتلبسه الشك مهما طالت أو تمادت ،وإن أصبحت الآف السنين .
فإنه ما دام عارفاً بأنها ستطول وأنها منوطة بإذن الله عز وجل عند تحقق المصلحة للظهور و تهيء البشرية لتلقي الدعوة ألإسلامية الكبرى .
فإن الفرد يعرف عند تأخر الظهور أن المصلحة بعد لم تتحقق ،وأن الإذن الإلهي لم يصدر.
وهذا السبق الذهني ،يعني احتمال طول المدة ،وهو لا ينافي حال الإنتظار وتوقع الظهور في كل يوم وكل شهر وكل عام ،فإن طول الأمد الموعود به في كلام المهدي عليه السلام ،لفظ عام ينطبق على السنين القليلة وعلى السنين الطويلة . بل لو كان الإمام المهدي (ع) قد ظهر بعد الغيبة الصغرى بقليل لكان قد ظهر بعد طول الأمد ، لأن السبعين عاماً مع الشعور بالظلم وحالة الإنتظار تكون أمداً بعيداً بحسب الجو النفسي للفرد والمجتمع لا محالة.
صفحة (636)
هذا ، فضلاً عما إذا تأخر الإمام المهدي (ع) في ظهوره .عشرات السنين أو
مئاتها – كما حدث بالفعل – أو الآفها .فإن طول الأمد يكون قد تحقق
باوضح صوره وأصعب أنحائه .ومعه يكون الفرد متوقعاً انتهاء هذا ألأمد
الطويل في كل ساعة وفي كل يوم ،وصدور الإذن الإلهي بالظهور.
الأمر الخامس : الإشارة إلى قسوة القلوب .والمراد به ضعف الدافع الإيماني ،والشعور بالمسؤولية ،والمشارفة على الإنحراف ، بل سقوط أغلب أفراد المجتمع المسلم به.
وذلك لأن الفرد يواجه امتحاناً إلهياً صعباً خلال الغيبة الكبرى من جهات ثلاث ، يكون عليه أن يخرج منه ناجحاً مظفراً .والخروج منه بنجاح يحتاج إلى عمق في الإيمان والإخلاص والإرادة لا يتوفر إلا في القليل من الأفراد .
الجهة الأولى : موقف الفرد تجاه شهوات نفسه ونوزعه الغريزية التي تتطلب الإشباع بأي شكل وحال. وكما قالوا ، إن الغرائز لا عقل لها فعلى الفرد ان يلاحظ ذلك فيكفكف من غلواء شهواته ويزعها بعقله وإيمانه عن الحرام إلى الحلال.
الجهة الثانية :موقف الفرد تجاه الضغط الخارجي الذي يعيشه وما يتطلبه من تضحيات في سبيل دينه وإيمانه ، ضد الفقر والمرض والسلاح والحرج الإجتماعي ،ونحو ذلك من المصاعب التي تصادف الفرد في طريقه الإيماني الطويل.
فإن كان الفرد شاعراً بالمسؤولية قوي الإرادة استطاع تذليل هذه الصعوبة والتضحية في سبيل الإيمان ،وأما إذا لم يكن قوي الإرادة وكان غير شاعر بالمسؤولية ،فإنه سوف يعطي الدنية من نفسه بقليل أو بكثير ، ويتعرض للإنحراف في كثير من مناطق طريقه الطويل .
الجهة الثالثة : موقف الفرد تجاه الإعتقاد بوجوب إمامه الغائب وقائده المحتجب .فإنه بعد أن عرفه بالدليل القطعي ، لا ينبغي أن تثبطه الشكوك ولا ان تزعزعه الأوهام ، ولا أن يؤثر في زحزحة اعتقاده طول الأمد.
الذي رواه عدد من علماء المسلمين والمحدثين والعظام من مختلف المذاهب.
والسر في امتلاء الأرض بالظلم والجور، واضح بعد الذي قدمناه في
الأمر السابق ،من فشل أكثر البشر في الإمتحان الإلهي خلال الغيبة
الكبرى .وسيطرة المادة وإشباع الشهوات عليهم وضعف الوازع الديني
والأخلاقي إلى حد كبير .جداً في المسلمين .
صفحة(638)
أما غير المسلمين فحدث عنهم ولا حرج من حيث إنكارهم لأصل الدين الإسلامي وأساس التوحيد .ومن حيث موقفهم المخرب تجاه الإسلام والمسلمين ، ذلك الموقف الذي ذاق منه المسلمين خلال التاريخ أشد العذاب والتنكيل .
فإّن لم يكن لدى الدين الحق ، قائد عظيم كالإمام المهدي عليه السلام ، لكونه غائباً غير مواجه للمجتمع بصفته الحقيقية ، ليجمع شمل الدين ويلم شعثه ويرأب صدعه ويدفع عدوه ، فإن الغلبة تكون لا محالة للسلاح الأقوى والعدد الأكبر ،وهو جيش الكفر من ناحية وجيش الشهوات والإنحراف من ناحية أخرى . فتملأ الأرض جوراً وظلماً بطبيعة الحال ،وسيأتي في بحوثنا عن الغيبة الكبرى(1) مزيد من التوضيح لذلك .
الأمر السابع :من الأمور التي يشير إليها المهدي عليه السلام في التوقيع : لإثبات حدوث السفياني والصيحة ، وإنه أمر حق لا محيص عنه قبيل خروج المهدي وظهوره.
وهذا ما نطقت به كثير من الأخبار ، رواها محدثو كلا الفريقين .
ولا يبعد أن تكون أخبار السفياني متواترة أو قريبة من التواتر .
وسنعرض إلى ذلك وإلى مغزاها الإجتماعي وأسبابها ونتائجها ، في التاريخ القادم عن الغيبة الكبرى إن شاء الله تعالى.
الأمر الثامن: إن من أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو مفتر كذاب .
ــــــــــــــــ
(1) في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة .
صفحة (639)
وهو واضح في مدلوله .فإن المراد بيان احتجاب الإمام المهدي (ع) عن الناس حتى زمان تحقق هاتين العلامتين .فمن الواجب تكذيب كل من ادعى رؤية المهدي (ع) قبل تحقق ذلك ،وإنما ينفتح المجال لإحتمال صدقه بعد تحقق العلامتين ،بمعنى أن ذلك الحين هو موعد الظهور ، فمن ادعى رؤية المهدي يومئذ فهو صادق أو محتمل الصدق على الأقل ،وإما قبل ذلك فلا.
وقد اصطدم ذلك – في نظر عدد من العلماء – بالأخبار القطعية المتواترة التي وردتنا عن مقابلة الكثيرين للإمام المهدي عليه السلام خلال غيبته الكبرى ،من بعد صدور هذا البيان الذي سمعناه إلى الآن .بنحو لا يمكن الطعن فيه أو احتمال الخلاف .ومقتضاها لزوم تصديق المخبرين في الجملة ،مع أن هذا التوقيع المهدوي يوجب علينا تكذيبه . فكيف يتم ذلك ،وما هو وجه الجمع بينه وبين تلك الأخبار .
وما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الجمع – لو حصلت المعارضة – عدة وجوه :
الوجه الأول: الطعن في سند التوقيع الشريف ورواته . حيث قالوا أنه خبر واحد مرسل ضعيف ، لم يعمل به ناقله وهو الشيخ في الكتاب المذكور ،وإعراض الأصحاب عنه .فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل من بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره عليه السلام (1).
ــــــــــــــــ
(1) منتخب الأثير ص40
صفحة (640)
إلا أن هذا الوجه لا يمكن قبوله: أما كونه خبر واحد فهو ليس نقصاً فيه ، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية الخبر الواحد الثقة . وأما القول بعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به إلا لنادر من العلماء .
وأما كونه خبراً مرسلاً، فهو غير صحيح، إذ رواه الشيخ في الغيبة(1) فقال أخبرنا جماعة عن ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال حدثني أبو محمد أحمد بن الحسن المكتب ، قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري قدس الله سره . إلى آخر الخبر .كما رواه الصدوق بن بابويه في إكمال الدين عن أبو محمد المكتب نفسه ،فأين الإرسال ؟ .والزمن بحسب العادة مناسب مع وجود الواسطة الواحدة.
وأما كونه ضعيفاً ،فهو على تقدير تسليمه ، يكفي للإثبات التاريخي ،كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ ،وإن لم يكن كافياً لإثبات الحكم الشرعي ، كما حقق في محله .
وأما إعراض الشيخ الطوسي والأصحاب عن العمل به ، فإنما تخيله صاحب الإشكال باعتبار اثبات الشيخ وغيره رؤية الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى .وهذا مما لا شك فيه ، إلا أنه إنما يصلح دليلاً على إعراضهم لو كانت معارضة ومنافات بين التوقيع وإثبات الرؤية وأما مع عدم المعارضة – على ما سيأتي – فيمكن أن يكون العلماء :الشيخ الطوسي وغيره قد التزموا بكلا الناحيتين ،من دون تكاذب بينهما .ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم .
ــــــــــــــــ
(1) منتخب الأثر ص399 وغيبة الشيخ ص242
صفحة (641)
على ان الإعراض لو كان حاصلاً لما أضر بحجية الحديث ،لما هو الثابت المحقق في علم الأصول ، بأن أعراض العلماء عن الرواية لا يوجب وهنا في الرواية سنداً ولا دلالة .
الوجه الثاني : الطعن في الأخبار الناقلة لمشاهدة الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الكبرى سنداً ، أي من ناحية رواتها ، والشطب عليها جملة وتفصيلاً ،كما قد يميل إليه المفكرين والمحدثين .
إلا أن هذا مما لا سبيل إلى تصديقه . فإنها طائفة ضخمة من الأخبار قد يصل عدده إلى عدة مئات . على أن بعضها مروي بطرق معتبرة وقريبة الإسناد فلا يمكن رفضها بحال ،وهذا كله واضح لمن استقرأ تلك الأخبار وعاش أجوائها ، وسيأتي الكلام عنها في التاريخ القادم عن الغيبة الكبرى إن شاء الله تعالى .
الوجه الثالث : الطعن في الأخبار الناقلة للمشاهدة ، بحسب الدلالة والمضمون ، بأحد نحوين :
النحو الأول : أن تحمل هذه الأخبار على الوهم ، وأن هؤلاء الذين زعموا أنهم رأوا وسمعوا ...لم يروا ولم يسمعوا .وإنما كان كلامهم كذباً متعمداً أو أضغاث أحلام ولو من قبيل أحلام اليقظة .وهذا هو الوجه الذي قد يميل إليه المفكرون والمتأثرون بالمبادىء المادية الحديثة .
إلا أن هذا أيضاً مما لا يمكن الإعتراف به ،فإن كثرتها مانعة عن كلا الأمرين : أما تعمد الكذب فهو مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عن ذلك بكثير. مضافاً إلى وثاقة وتقوى عدد من الناقلين ،وعدم احتمال تعمدهم للكذب أساساً .
صفحة (642)
وأما كونها من قبيل الأوهام والأحلام ،فهو مما ينافيه تكاثر النفل أيضا ، بل يجعل الإعتراف به في عداد المستحيل. وتستطيع أن تجد أثر ذلك في نفسك، فلو أخبرك واحد لكان احتمال الوهم موجوداً وإن كان موهوناً ، إلا أنه لو أخبرك ثلاثة أو أربعة بحادثة معينة لحصل لك الإطمئنان أو العلم بصدق الخبر وحصول الحادثة، فضلاً عما إذا أخبرك بها عشرة العشرات بل المئات وهل تستطيع تحملهم كلهم على الوهم أو أحلام اليقظة ،إلا إذا كنت تعيش الوهم أو أحلام اليقظة.
النحو الثاني: أن يقول قائل : إن الناقلين للمشاهدة وإن كانوا صادقين وغير واهمين ، فإنهم قد عاشوا حادثة حسية معينة . إلا أنهم في الحقيقة، لم يشاهدوا المهدي (ع) بل شاهدوا غيره ،وتوهموا أنه هو على غير الواقع .
إلا أن هذا غير صحيح أيضاً لأمرين :
اولاً : أنه مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول أن يحصل القطع بأن المجموع لم يكونوا مغفلين بهذا الشكل ، بل أن بعضهم – إن لم يكن كلهم – قد شاهدوا المهدي نفسه.
ثانياً: أنه مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول أن يحصل القطع بأن المجموع لم يكونوا مغفلين بهذا الشكل ، بل – أن بعضهم ،إن لم يكن كلهم – قد شاهدوا المهدي نفسه.
ثانياً : إنه مما تنفيه الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة التي يقيمها المهدي عليه السلام أثناء المقابلة ،وينقلها هؤلاء الناقلون مما لا يمكن صدورها من أحد سواه ، فيتعين أن يكون هو الإمام المهدي (ع) دون غيره . وسيأتي التعرض إلى هذه الدلائل في التاريخ القادم .
صفحة (643)
الوجه الرابع : أن نعترف بصدقها ومطابقتها للواقع ،لكن يلتزم بوجوب تكذيبها تعبداً ، إطاعة للأمر الوارد في التوقيع ، وقد احتمل هذا الوجه بعضهم.
إلا أنه مما لا يكاد يصح ... فإنه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه .
حيث يقول: فهو كذاب مفتر الدال على عدم مطابقة قوله للواقع ،ولم يقل فكذبوه ، ليكون من قبيل الأمر الصادر من الإمام ليطاع تعبداً .
على انه لا يمكن للإمام المهدي (ع) ان يأمر بالتكذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر .
الوجه الخامس: حمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادعاء الوكالة أو السفارة عنه عليه السلام ، وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء في الغيبة الصغرى .قالوا: وهذا الوجه قريب جداً .وقد نقل عن البحار وغيره(1).
إلا أنه في الواقع بعيد جداً ، بمعنى أنه خلاف الظاهر من عبارة الإمام المهدي (ع) في بيانه ،فإنه يحتاج إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها ..كما لو كان قد قال :إلا فمن ادعى المشاهدة مع الوكالة فهو كذاب مفتر .إلا أن المهدي (ع) لم يقل ذلك كما هو واضح .ومقتضاه عموم التكذيب لمن ادعى السفارة وغيره.
ــــــــــــــــ
(1) انظر منتخب الأثر ص400 والبحار جزء ج13 ص142
صفحة (644)
نعم من ادعى السفارة أو الوكالة يجب تكذيبه ،إلا أن هذا غير ادعاء المشاهدة ،إذ بالإمكان تصديق الفرد على المشاهدة وتكذيبه على الوكالة ،إلا ان الدليل على تكذيب الوكالة ليس هو قوله : فهو كذاب مفتر .وإنما هو قوله : ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك .
فإنه دال على انتفاء السفارة بعد السمري ، فكل من يدعيها على مدى التاريخ فهو كاذب لا محالة . إلى عصر الظهور . ولذا قال الواعون من معاصري الغيبة الصغرى ، إنه(عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل)(1) . وبذلك كانوا يستدلون على كذب دعاوي السفارات بعد السفير الرابع .
وأما إيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة ،فإن كانت محتفة بقرائن توجب العلم او الإطمئنان بمطابقتها للواقع، فلا ينبغي تكذيبها .وإنما يجب التكذيب – لو ثبت الأمر به – مع احتمال الخطأ وعدم وجوب الدلالة إلى الصواب.
إذن فلا يتم شيء من هذه الوجوه الخمسة للجمع بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة ،على تقدير صحة التعارض بينهما .
إلا أن الصحيح هو عدم وجود النعارض بينهما بالمقدار الذي يثبت الحق وتقتنص منه النتيجة الإسلامية المطلوبة على ما سنرى ،من مقابلات الإمام المهدي (ع) ومن حيث مطابقتها للواقع وعدمها ، ومن حيث الإعراب عن المقابلة أو السكوت عنها ...
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص255
صفحة (645)
تنقسم إلى عدة أقسام... فيقع الكلام فيها على سبعة مستويات:
المستوى الأول: أننا سبق أن عرفنا أن الإمام المهدي ليس مختفياً بشخصه عن الناس ، وإنما يراهم ويرونه ، ولكنه يعرفهم ولا يعرفونه، فما هو الواقع خارجاً هو الجهل بعنوانه كإمام مهدي ، لا اختفاء جسمه ،كما تقول به بعض الأفكار غير المبرهنة .
وقد عرفنا من جهالة عنوان كافية في نجاته من السلطات الظالمة خاصة بعد أن تنمو أجيال جديدة لا تعرف شكله وسحنته ،إذن فالمهدي يستطيع أن يعيش في المجتمع كاي فرد من أفراده لا يلفت النظر ولا يثير الإنتباه ، بصفته عاملاً أو تاجراً أو رجل دين ،أو يتخذ في كل فترة زمنية عملاً معيناً ،وهكذا ،كما ستعرض له مفصلاً في التاريخ القادم .
وعلى ذلك ، فرؤية الناس للمهدي (ع) ثابتة كل يوم وعلى الدوام كلما مشى في الطريق أو ذهب إلى السوق أو إلى الحج أو إلى زيارة أحد أجداده الأئمة عليهم السلام .غاية الأمر ان الناس يرون فيه شخصاً عادياً ويجهلون بالكلية كونه المهدي ، بل من المتعذر حتى مجرد الإلتفات إلى ذلك أو احتماله ،كما هو واضح.
ومثل هذه الرؤيا أو المقابلة للمهدي ، لا ينفيها التوقيع الشريف بحال ، فإنها لا تقترن أبداً بإدعاء المشاهدة . بسبب جهل المشاهد بحقيقة من رآه وكونه أنه هو المهدي ،فهو لا يدعي أنه رآه المهدي ليلزم تكذيبه .
صفحة (646)
وإذا أعرب عن ذلك ،فإنما يقول: رأيت فلاناً ..ويذكر العنوان الظاهر الذي اتخذه المهدي (ع) في ذلك المجتمع ، لا العنوان الواقعي للمهدي البتة .وظاهر بيان انتهاء السفارة ان ما هو كاذب أو ما يجب تكذيبه هو ادعاء مشاهدة المهدي بصفته إماماً مهدياً أو الإلتفات إلى ذلك ولو بالنتيجة أي بعد انتهاء المقابلة وهو ما لا يمكن أن يحدث في المقابلات الإعتيادية للمهدي (ع) .
إذن فخبر التكذيب بعيد عن تكذيب هذا النوع من المشاهدة ، كما أن الأخبار الدالة على مشاهدة المهدي (ع) بعيدة عنه أيضاً . لما عرفناه من عدم إمكان الإعراب عن مشاهدة المهدي (ع) على هذا المستوى من المشاهدة ،وإنما تضمنت تلك الأخبار الإعراب عن مشاهدة المهدي بصفته مهدياً ،ولو من حيث النتيجة ، بالدلائل التي يقيمها المهدي على نفسه أثناء المقابلة .
إذن فهذا المستوى من المقابلة ،خارج عن نطاق كلاالطرفين المدعي تعارضهما ...لا تنفيه التوقيع ولا تثبته الأخبار الأخرى .ومعه فلا معارضة بينهما على هذا المستوى ، فإن المعارضة إنما تتحقق فيما لو اجتمع النفي والإثبات على مورد واحد ،وليس في المقام كله.
المستوى الثاني : أن الفرد يرى المهدي بصفته مهدياً ،ولكنه لا يعرب عن ذلك إلى الأبد .
صفحة (647)
وهذا المستوى مما لا يمكن الإستدلال على بطلانه أو نفيه ، إن لم ندع أنه هو الأغلب مقابلات المهدي ،وأن المقابلات التي أعرب عنها الناس ووصلنا خبرها – على كثرتها – أقل بكثير من المقابلات التي لم يعرب عنها أصحابها ولم يصلنا خبره، خاصة بعد ان نعرف أن العلماء والصالحين من سلفنا الصالح ، كانوا يرون عدم جواز الإعراب عن المقابلة لأحد ،بدوافع مختلفة.إما لكونهم تخيلوا أن التوقيع الشريف الذي نتحدث عنه دال على عدم الجواز ،وإما لكونهم تخيلوا ان الإعراب عن المقابلة بما فيها من ملابسات قد تؤدي على خطر على المهدي نفسه .
وإما لكونهم تخيلوا أن مقتضى التواضع والأخلاق هو السكوت ،وإما لأنهم تلقوا أمراً من المهدي حين المقابلة بالكتمان .أو لغير ذلك من الدوافع .وبذلك ضاعت على التاريخ أكثر مقابلات الإمام المهدي (ع ) في غيبته الكبرى .
وهذا المستوى من المقابلات ،مما لا يمكن الإستدلال على بطلانه ،إلا برفض التصور الإمامي للمهدي (ع) وغيبته ،وهو خلاف المفروض من هذا التاريخ ، حيث بنيناه على التسليم بصحة هذا التصور ، وأوكلنا البرهنة عليه إلى بحث آخر. كما قلنا في المقدمة ،ومع الإعتراف بهذا التصور تكون مقابلة على هذا المستوى محتملة على أقل تقدير .ولا يدل التوقيع الشريف على نفيه وبطلانه لفرض عدم اقترانها بدعوى المشاهدة .كما لا معنى لتكذيبها ، بعد أن سكت عنها أصحابها ،كما لا يدل عدم نقلها على عدم تحققها ، لكون أصحابها قد تعمدوا إخفائها والسكوت عنها.
صفحة (648)
وهذا المستوى أيضاً خارج عن أخبار المشاهدة ، لكونها جميعاً من المشاهدات المنقولة كما هو واضح ،ومعه يكون هذا المستوى خارجاً عن طريق النفي والإثبات للطرفين من الأخبار المدعي تعارضهما :إذن فلا تعارض على هذا المستوى أيضاً.
المستوى الثالث: أن الفرد يرى الإمام المهدي (ع) بصفته مهدياً ولو بحسب النتيجة ،ولكنه لا يخبر الصراحة والوضوح، بكونه قد شاهد المهدي، وإنما ينقل ما وقع له من الحادثة ويكون المستنتج له ولغيره ،من مجموع ما حدثت من دلائل هو أن ذلك الشخص الذي أقامها هو المهدي عليه السلام .والمخبر من ناحيته يجعل المجال للتفلسف والإستنتاج للسامع مفتوحاً .وإن كان يعتقد بنفسه أن من رآه هو الإمام المهدي بعينه .
ففي مثل ذاك ،إذا استظهرنا من التوقيع الشريف ،كما هو غير بعيد من قوله :أدعى المشاهدة ،ما إذا ادعى المتكلم رأساً أنه رأى المهدي وتعهد بذلك للسامع ..فهو مما لا ينفيه التوقيع الشريف.
ومن المعلوم لمن استعرض اخبار المشاهدة التي ادعى معارضتها مع التوقيع ، أن اكثرها يتضمن نقلاً للحادث مع إيكال الجزم بكون المرئي هو الإمام المهدي إلى وجدان السامع ،وعدم تعهد المتكلم بذلك ،وإن كان معتقداً به ، إذن فمثل هذه الأخبار تكون مداليلها ثابتة بدون أن ينفيها التوقيع بحال.
صفحة (649)
نعم، لو فرض وجود خبر يقول لك :بأنه شاهد المهدي عليه السلام وتعهد لك بالصراحة بذلك فإنه يخرج عن هذا المستوى الثالث .
وأما كونه هل يقع طرفاً للمعارضة مع التوقيع أو لا يقع ، فهو مما سيتضح على المستويات الآتية .
المستوى الرابع : كون الفرد يرى الإمام المهدي عليه السلام ، ويخبر صراحة أنه يرى المهدي ،متعهداً بإثبات ذلك. إلا أنه يذكره مدعماً بالبراهين والأدلة التي تورث القطع للسامع بأن الشخص المرئي هو المهدي نفسه ،لإستحالة ان يقوم بذلك شخص سواه عادة.
ففي مثل ذلك ،وإن اقتضى الفهم الإبتدائي للتوقيع نفي المشاهدة على هذا المستوى ، إلا أنه بحسب الدقة ، يستحيل دلالة التوقيع على ذلك ، لفرض كوننا قاطعين بكون المرئي هو الإمام المهدي (ع) أو غيره ،ولا يشمل صورة العلم بكونه هو المهدي .فكأن المهدي من توقيعه الشريف يريد ان يقول :أنه إذا أخبرك شخص بأنه رأى المهدي وشككت بقوله فاحمله على انه كاذب ، بمعنى ان القاعدة العامة في دعوى المشاهدة هو الكذب وعدم المطابقة مع الواقع ،إلا مع القطع بالثبوت والمطابقة.
والمفروض على هذا المستوى القطع بذلك ، فلا يكون منفياً بالتوقيع كما هو واضح.
صفحة (650)
ونحن إذا استعرضنا أخبار المشاهدة . نجدها جميعاً مدعمة بالشواهد القطعية الدالة على كون الشخص المرئي هو الإمام المهدي، فإن هذه الشواهد هي السبيل الوحيد إلى معرفة ذلك .إلا أننا الآن حيث لم نعش هذه الشواهد ولم نعاصرها وكان كل خبر مستقلاً ، ظنياً بالنسبة إلينا ، فما عندنا من العلم فعلاً ،هو العلم الناشىء من التواتر ، حيث قلنا بأن هذه الأخبار تفوق التواتر ،إذن فنحن نعلم أن اشخاصاً أخبروا عن مشاهدة المهدي وعاشوا شواهد قطعية على ذلك ، ومعه لا يمكن أن تكون مثل هذه الإخبارات مشمولة للتوقيع الشريف بحال.
فعلى هذه المستويات الأربعة، التي تنتظم فيها سائر الأخبار، لا يكاد يشذ منها شيء ترتفع المعارضة المتخيلة بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة .ولا يكاد يكون التوقيع نافياً لها بحال.
المستوى الخامس: أن الفرد يخبر عن مشاهدة الإمام المهدي عليه الاسلام ، من دون أن يقترن خبره بدليل يوجب القطع او الإطمئنان بأن المرئي هو المهدي نفسه.
وهذا المستوى لا يكاد يوجد في الأخبار المشاهدة ،فإنه كلها أو الأعم الأغلب منها على الأقل ، تحتوي على الدلائل القطعية على ذلك كما قلنا ،وسنرى ذلك حين نعرض لها بالتفصيل في التاريخ القادم .
نعم ، لو فرضنا وجود مثل هذا الخبر أو سمعت شيئاً من ذلك من أحد بدون ان بقترن بدليل واضح ،فاعرف أنه كذاب مفتر .
فإنه يكون مشمولاً للتوقيع الشريف ، لو اقتصرنا على قسم من عبارته .
ولا ضير في ذلك .فإن المنفى هو أقل القليل ،وهو يحملنا على التنزه عن الدعاوي الفارغة والإستدلالات الخرافية المتعمدة.
صفحة (651)
نعم لو أخذنا بقوله (ع) : وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة وفهمنا منه التنبيه على الدعوات المنحرفة بالخصوص ،على ما سيأتي على المستوى الآتي ..كان ذلك قرينة على أن دعوى المشاهدة المقترنة بالدعوة المنحرفة ،هي الكاذبة دائماً ،ومعه يكون ادعاء المشاهدة المجرد عن الدعوة المنحرفة ، غير منصوص على كذبه في التوقيع ، وإن تجرد عن الدليل الواضح . بل يبقى محتمل الصدق على اقل تقدير .
المستوى السادس: أن يدعي شخص مشاهدة الإمام المهدي ، بدون برهان واضح كالمستوى السابق ،ولكنه يدعي ان المهدي قد قال أموراً أو أمره بتبليغ اشياء نعرفها بكونها باطلة ومنحرفة ، فيحاول هذا الفرد أن يتزعم باسم المهدي مسلكاً منحرفاً أو حركة ضالة في داخل نطاق القواعد الشعبية المؤمنة بالمهدي .. من أي نوع من أنواع الإنحراف كان.
والإدعاء على هذا المستوى كاذب ومزور جزماً للعلم بعدم صدور ما هو باطل من الإمام الحق المذخور لدولة الحق .
والمطمأن به هو أن هذا المستوى من الإدعاء هو المقصود من التكذيب في التوقيع الشريف، فإن المستظهر من قوله (ع): وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة .كون المراد منه الإشارة إلى حدوث دعوات منحرفة وحركات غير محمودة في داخل القواعد الشعبية الإمامية ، تقوم على دعوى المشاهدة ، خلال الغيبة الكبرى ، مع إلفات نظر المؤمنين وتحذيرهم من تلك الدعوات ،وتنبيههم على خطرها على الإسلام والمجتمع الإسلامي .
صفحة (652)
إذن فمدعي المشاهدة كاذب مزور في خصوص ما إذا كان منحرفاً ينقل أموراً باطلة على الإمام المهدي عليه السلام .وأما فيما سوى ذلك فلا يكون التوقيع الشريف دالاً على بطلانه ،سواء نقل الفرد عن المهدي أموراً صحيحة بحسب القواعد الإسلامية ،أو محتملة الصحة على أقل تقدير ، أو لم يتقل شيئاً على الإطلاق.
المستوى السابع : أن يؤمن شخص بإنسان أنه المهدي المنتظر كما حدث في التاريخ خلال الدعوات المهدوية المتعددة .فيخبر – إذا رآه – أنه رأى المهدي.
وهذا يكون كاذبا جزماً .لأنه وإن كان رأى مدعي المهدوية ، إلا أنه لم ير المهدي الحقيقي المعين من قبل الله تعالى لإنقاذ الأرض من الظلم في اليوم الموعود .فإخباره برؤية المهدي لا يكون مطابقاً للواقع ،وإن اعتقد المخبر صدفه ، فيكون من التوقيع الشريف هو التحذير من هذه الدعوات المهدوية الباطلة.
والمعارضة على هذا المستوى – غير موجودة - بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة ،فإن التوقيع وإن كان مكذباً لهذه المشاهدة المقصودة لا تثبتها ،فإنها جميعاً تدور حول مشاهدة المهدي الغائب محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام ،دون غيرهى .وهو المهدي الحقيقي بالفهم الإمامي ،وعند من يعترف بصحة هذا التوقيع الشريف ونفوذه .ومعه لا معنى لهذه المعارضة المدعاة .
صفحة (653)
إلا أنه يمكن المناقشة على أي حال في تعرض التوقيع لهذا المستوى السابع ،بأننا وإن جزمنا بكذب المخبر برؤية المهدي ،إذا كان قد رأى مدعي المهدوية ،إلا أن هذا الإعثقاد ناشيء عن الدليل الخاص الدال على انحصار المهدي وانطباقه على محمد بن الحسن دون غيره كما عليه الفهم الإمامي المفروض صحته في هذا التاريخ ،وأما استفادةذلك من التوقيع الشريف ، فغير ممكن .لأن المستفاد من قوله :وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ،أنه تحذير من الدعوات المنحرفة التي تقوم في داخل نطاق شيعة المهدي وقواعده الشعبية ،وبذلك تخرج الدعوات المهدوية الخارجة عن هذا النطاق ،لأنهم ليسوا من شيعة المهدي محمد بن الحسن ،كما دل عليهم قوله : وسيأتي لشيعتي.
ومعه يكون هذا التوقيع ساكتاً عن التعرض إلى تكذيب الدعوات المهدوية الأخرى،وإن علمنا كذبها بدليل آخر .
إذن فقد تحصل من كل ذلك ،أن الإشكال الذي ذكروه غير وارد على التوقيع ولا على اخبار المشاهدة ،وأنه بالإمكان الأخذ به وبأخبار المشاهدة ، ولايجب تكذيبها إلا إذا كان قائماً على الإنحراف و الخروج عن الحق .
وبهذا ينتهي الحقل السابع في إعلان الإمام المهدي عليه لاسلام انتهاء السفارة وبدأ الغيبة الكبرى .
وبانتهائه ينتهي المهم من أعمال المهدي اتجاه سياسته العامة والخاصة خلال غيبته الصغرى ،وبقيت هناك تفاصيل قليلة من الأنسب تحويلها عن تاريخ الغيبة الكبرى القادم .
وبهذا ينتهي ما أردنا بيانه من تاريخ الغيبة الصغرى بما فيها من ملابسات وحقائق.
والحمد لله على حسن التوفيق وصلى الله على سيد رسله وخاتم انبيائه رسول الإسلام ورائد الحق ،وعلى آله الطيبين الطاهرين .نبتهل إلى الله أن يمن على البشرية المظلومة بقرب الفرج ولقاء اليوم الموعود ، يوم العدل المطلق ، على يد قائده الكبير المهدي القائم عليه السلام.
وقع الفراغ من تسويد هذه الصفحات بيد المحتاج إلى رحمة الله الكريم محمد بن محمد صادق الصدر بتاريخ يوم الجمعة الثامن من ربيع الثاني عام 1390 للهجرة النبوية المباركة .الموافق 12 حزيران لعام 1970 الميلادي .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
محمد الصدر
النجف الاشرف- العراق