القسم الاول

تاريخ شخص الإمام المهدي

 

من حيث مكانه ومعيشته وتكليفه الشرعي بحفظ الشريعة الإسلامية ،

ولقائه مع الناس وقضائه لحوائجهم ، والكلام عن ذريتهم ، وغير ذلك .

والكلام حول ذلك يقع ضمن فصول متعددة .

صفحة (29)

الفصل الأول

في السر الأساسي لغيبة المهدي (ع)

ونريد به الأسلوب الأساسي الذي يتبعه عليه السلام في احتجابه عن الناس ونجاته من براثن الظلم . وبمعرفتنا لهذا الأسلوب ، سيسهل علينا الجواب على عدد كثير من الأسئلة التي تثار في الفصول الآتية ن إن شاء الله تعالى.

نواجه في باديء الأمر ، في أسلوب احتجابه أطروحتين أساسيتين :

الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص :

وهي الأطروحة التقليدية المتعارفة المركوزة في ذهن عدد من الناس ، وتدل عليه ظواهر بعض الأدلة على ما سنسمع . وهي أن المهدي (ع) يختلفي جسمه عن الأنظار ، فهو يرى الناس ولا يرونه ، وبالرغم من أنه قد يكون موجوداً في مكان إلا أنه يُرى المكان خالياً منه .

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بإسناده عن الريان بن الصلت ، قال : سمعته يقول : سئل أبو الحسن الرضا (ع) عن القائم (ع) ، فقال : لا يرى جسمه ولا يسمى باسمه .

_________________________

(1) انظر الأخبار الثلاثة في المصدر المخطوط .

صفحة (31)

وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد (ع) في حديث : قال : الخامس من ولد السابع يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته . وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول :

يفقد الناس أمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه .

وهذه الأطروحة هي أسهل افتراض عملي لاحتجاب الإمام المهدي (ع) عن الناس ونجاته من ظلم الظالمين. فإنه في اختفائه هذا يكون في مأمن قطعي حقيقي من أي مطاردة أو تنكيل ، حيثما كان على وجه البسيطة.

وهذا الاختفاء يتم عن طريق الإعجاز الإلهي ، كما تم طول عمره لمدى السنين المتطاولة بالإعجاز أيضاً . وكان كلا الأمرين لأجل حفظ الإمام المهدي (ع) عن الموت والأخطار ، لكي يقوم بالمسؤولية الإسلامية الكبرى في اليوم الموعود .

ونحن نعلم بالدليل القطعي في الإسلام أهمية هذا اليوم الموعود عند الله عز وجل وعند رسوله ، فإنه اليوم الذي يتحقق به الغرض الأساسي من خلق البشرية ، على ما سنعرف ، وتتنفذ به آمال الأنبياء والمرسلين، وتتكلل جهودهم بالنجاح ، بوجود المجتمع العادل وإنجاز دولة الحق . كما أننا نبرهن(1) على أن الأهداف الإلهية المهمة ، إذا توقف وجودها على المعجزة ، فإن الله تعالى يوجدها لا محالة لا محالة ، من أجل تحقيق ذلك الهدف المهم .

وإذا نعتقد – كما هو المفروض في هذا التاريخ – بولادة الإمام المهدي (ع) المذخور لليوم الموعود ، يتبرهن لدينا بوضوح كيف ولماذا تعلق الغرض الإلهي بحفظه وصيانته ، كما تعلق بطول عمره . فإذا كانت صيانته منحصرة باختفاء شخصه ، لزم على الله عز وجل تنفيذ هذه المعجزة وفاء بغرضه الكبير .

وتضيف هذه الأطروحة الأولى ، قائلة : بأن هذا الاحتجاب قد يزول أحياناً ، عندما توجد مصلحة في زواله: كما لو أراد المهدي (ع) أن يقابل شخصاً من البشر لأجل أن يقضي له حاجة أو يوجه له توجيهاً أو ينذره إنذاراً . فإن المقابلة تتوقف على رؤيته ، ولا تتم مع الاختفاء .

_________________________

(1) انظر لمعجزة في المفهوم الإسلامي ، مخطوط للمؤلف .

صفحة (32)

ويكون مقدار ظهوره للناس محدوداً بحدود المصلحة ، فإن اقتضت أن يظهر للناس ظهوراً تاماً لكل رائي تحقق ذلك، واستمرت الرؤية بمقدار أداء غرضه من المقابلة . ثم يحتجب فجأة فلا يراه أحد ، بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه. وإذا اقتضت ظهوره لشخص دون شخص تعين ذلك أيضاً ، إذ قد يكون انكشافه للآخرين خطراً عليه.

وعلى ذلك تحمل كل أخبار مشاهدة المهدي (ع) خلال غيبته ، حتى ما كان خلال الغيبة الصغرى ، وخاصة فيما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى(1) بأن المهدي (ع) ظهر لعمه جعفر الكذاب مرتين ، ثم اختفى من دون أن يعلم أين ذهب . فأنه يعطي أن الاختفاء كان على شكل هذه الأطروحة .

وأما أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، فبعضها ظاهر في الدلالة على ذلك ، بل منها ما هو صريح به . بل أن بعض هذه الأخبار تتوسع ، فتنسب الاختفاء إلى فرسه الذي يركبه وخادمه الذي يخدمه ، بل حتى الصراف الذي يحوّل عليه شخصاً لأخد المال(2) .

وأود أن أشير في هذا الصدد إلى أن هذه الأطروحة في غنى عما نبزه بعض مؤرخي العامة على المعتقدين بغيبة المهدي (ع) .من أنه نزل إلى السرداب واختفى فيه ولم يظهر.كما سبق أن ناقشنا ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى(3). وأن أخبار مشاهدة المهدي (ع) في كل من غيبته الصغرى والكبرى مجمعة على مشاهدته في أماكن أخرى . وعلى أي حال ، فهذه الأطروحة في غنى عن ذلك ، لوضوح إمكان اختفاء المهدي (ع) بشخصه في أي مكان ، ولا ينحصر ذلك في السردات بطبيعة الحال .

وسيأتي في الفصول الآتية ، ما يصلح أن يكون تكملة للتصور المترابط للمهدي (ع) بحسب هذه الأطروحة.

الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان :

ونريد به أن الناس يرون الإمام المهدي (ع) بشخصه بدون أن يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقته .

_________________________

(1) انظر ص 314 .   (2) انظر النجم الثاقب ، ص 351 .    (3) المصدر ، ص 563

صفحة (33)

فإننا سبق أن عرفنا من تاريخ الغيبة الصغرى ، أن المهدي (ع) رباه أبوه محتجباً عن الناس ، إلا القليل من الخاصة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده . ثم ازداد المهدي (ع) احتجاباً بعد وفاة أبيه وأصبح لا يكاد يتصل بالناس إلا عن طريق سفرائه الأربعة . غير عدد من الخاصة المأمونين الذين كانوا باحثين عن الخلف بعد الإمام العسكري عليه السلام ، كعلي بن مهزيار الأهوازي وغيره . وكان المهدي (ع) يؤكد عليهم في كل مرة الأمر بالكتمان والحذر .

وكلما تقدمت السنين في الغيبة الصغرى ، وتقدمت الأجيال ، قلّ الذين عاصروا الإمام العسكري عليه السلام وشاهدوا ابنه المهدي (ع) ، حتى انقرضوا . ووجدت أجيال جديدة لا تعلم من أسلوب اتصالها بالإمام (ع) إلا الاتصال بسفيره ،على أفضل التقادير. وكان هذا الجيل – بشكل عام – جاهلاً بالكلية بسحنة وشكل إمامه المهدي (ع) ، بحيث لو واجهوا لما عرفوه البتة إلا بإقامته دلالة قطعية على شخصيته .

ومن هنا تيسر له – كما علمنا في ذلك التاريخ – فرصة السفر إلى مختلف أنحاء البلاد كمكة ومصر ، من دون أن يكون ملفتاً لنظر أحد .

وهذا ما نعنيه من خفاء العنوان . فإن أي شخص يراه يكون غافلاً بالمرة عن كونه هو الإمام المهدي (ع). وإنما يرى فيه شخصاً عادياً كسائر الناس لا يلفت النظر على الإطلاق .

ويمكن للمهدي (ع) أن يعيش في أي مكان يختاره وفي أي بلد يفضله سنين متطاولة ، من دون أن يلفت إلى حقيقته نظر أحد . وتكون حياته في تلك الفترة كحياة أي شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها . ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدة مدن ، حتى يأذن الله تعالى له بالفرج . ويمكن الاستدلال على هذه الأطروحة ، انطلاقاً من زاويتين :

الزاوية الأولى :

الأخبار الواردة بهذا الصدد منها : ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة(1) عن السفير الثاني الشيخ محمد عن عثمان العمري أنه قال : والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه .

والمقصود بصاحب هذا الأمر : الإمام المهدي (ع) ، والمراد بالموسم موسم الحج . والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص ومقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيداً . وصادرة من سفير المهدي (ع) وهو أكثر الناس اطلاعاً على حاله .

ومنها : ما ورد عن السفير من قوله حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (ع) : وإذا وقع الاسم وقع الطلب(2) .

فإنه ليس في طلب الحكام للمهدي (ع) ومطاردتهم له ، أي خطر ولا أي تأثير ، لو كانت الأطروحة الأولى صادقة وكان جسم المهدي (ع) مختفياً ، إذ يستحيل عليهم الوصول إليه . وإنما يبدأ الخطر والنهي عن الاسم تجنباً للمطاردة طبقاً للأطروحة الثانية . فأنه ما دام عنوان المهدي (ع) واسمه مجهولين ، يكون في مأمن عن المطاردة، وأما إذا "وقع الاسم" وعرف العنوان ، لا يكون هذا الأمن متحققاً ويكون احتمال المطاردة قوياً .

ومنها : ما ورد من التوقيع الذي خرج من المهدي (ع) إلى سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه يقول فيه : فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه ، وإن وقفوا على المكان دلّوا عليه(3) .

فإنه لو صدقت الأطروحة الأولى لم يكن رؤية المهدي (ع) في أي مكان على الإطلاق ، ولم يكن في الدلالة على أي مكان خطر أصلاً . وإنما يكون الخطر موجوداً طبقاً للأطروحة الثانية .

_________________________

(1) انظر المصدر ص 221 .  (2) نفس المصدر ، ص 219 .  (3) المصدر ، ص 222 .

صفحة (35)

ومنها : ما قاله أبو سهل النوبختي حين سئل فقيل له : كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك ، فقال : هم أعلم وما اختاروه . ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم . ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجة على مكانه لعلّي كنت أدل على مكانه . وأبو القاسم فلو كانت الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه(1) .

ومن الواضح أنه لا معنى لكل هذه الاحتياطات والتحفظات مع صحة الأطروحة الأولى أي اختفاء شخص المهدي عليه السلام . وإنما لا بد من ذلك مع صحة الأطروحة الثانية ، فإن الدلالة على المكان مستلزم لانكشاف العنوان . والقائل لهذا الكلام هو أبو سهل النوبختي الذي كان من جلالة القدر والوثاقة بحيث كان من المحتمل أن يكون هو السفير عن الإمام (ع) ... ومن هنا سئل في هذه الرواية عن غض النظر عنه وإبداله بالشيخ ابن روح .

فهذه جملة من الأخبار الدالة على صحة الأطروحة الثانية ، وبطلان الأولى . إلى أخبار غيرها لا نطيل الحديث بسردها .

الزاوية الثانية :

قانون المعجزات الذي يقول : إن المعجزة إنما تحدث عند توقف إقامة الحق عليها ، واما مع عدم هذا التوقف ، وإمكان إنجاز الأمر بدون المعجزة فإنه لا تحدث بحال . كما برهنا عليه في محله(2) .

ولا شك أن حفظ الإمام المهدي (ع) وبقاءه مما يتوقف عليه إقامة الحق بعد ظهوره . فلو توقف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك . إلا أن هذا غير لازم لما عرفناه من كفاية خفاء العنوان في إنجاز الغرض المطلوب وهو حفظه من كيد الأعداء . وسنذكر فيما يلي بعض الإيضاحات لذلك . ومن هنا تكون معجزة اختفائه بلا موضوع ، ويتعين الأخذ بالأطروحة الثانية .

ومن أجل تنظيم هذه الأطروحة فكرياً وبرهانياً ، لا بد من الجواب عليها .

_________________________

(1) المصدر ، ص 240 .   (2) انظر المعجزة في المفهوم الإسلامي ، المخطوط .

صفحة (36)

السؤال الأول :

إذا كان المهدي (ع) ظاهراً بشخصه للناس ، وهم لا يعرفونه ، فكيف لا يلتفتون إليه طوال السنين ، وهم يرونه باقياً لا يموت ، على حيث يموت غيره من الناس .

وفي هذا السؤال غفلة عن الأسلوب الذي يمكن للمهدي (ع) أن يتخذه تلافياً لهذا المحذور . فإنه لو عاش في مدينة واحدة حقبة طويلة من الزمن لانكشف أمره لا محالة . ولكنه – بطبيعة الحال – لا يعمل ذلك ، بل يقضي في كل مدينة أو منطقة ، عدداً من السنين تكون كافية لبقاء غفلة الناس عن حقيقته .

فلو كان يقضي في كل مدينة من العالم الإسلامي خمسين عاماً ، لكان الآن قد أكمل سكنى اثنتين وعشرين مدينة . وتوجد في العالم الإسلامي أضعاف ذلك من المدن التي يمكن للمهدي (ع) أن يسكنها تباعاً . كما يمكن أن يعود إلى نفس المدينة التي سكن بها ، بعد مضي جيلين أو أكثر وانقراض من كان يعرف شخصه من الناس .

ومن البسيط جداً ألا ينتبه الناس إلى عمره خلال السنوات التي يقضيها في بلدتهم . فإن هناك نوعاً من الناس ، نصادف منهم العدد غير القليل ، تكون سحنتهم ثابتة التقاطيع على مر السنين . فلو فرضنا – في الأطروحة – كون المهدي (ع) على هذا الغرار ، لم يكن ليثير العجب بين الناس ، بعد أن يكونوا قد شاهدوا عدداً غير قليل من هذا القبيل .

ثم حين يمر الزمان الطويل ، الذي يكون وجود المهدي (ع) فيه ملفتاً للنظر ومثيراً للانتباه ، يكون المهدي (ع) قد غادر هذه المدينة بطريق اعتيادي جداً إلى مدينة أخرى ليسكن فيها حقبة من السنين . وهكذا .

السؤال الثاني :

أنه كيف تتم المقابلة مع الإمام (ع) ، على الشكل الوارد في أخبار المقابلة ؟ وكيف يختفي الإمام بعدها ؟

أما حدوث المقابلة ، ففي غاية البساطة ، فإنه عليه السلام إذ يى المصلحة في مقابلة شخص ، فإنه يكشف له عن حقيقته إما بالصراحة ، أو بالدلائل التي تدل عليه في النتيجة ، لكي يعرف الفرد أن الذي رآه هو المهدي (ع) ولو بعد حين .

صفحة (37)

والمهدي (ع) يحتاج في إثبات حقيقته لأي فرد إلى دليل ، لجهل الناس جهلاً مطلقاً بذلك . وهو يعبّر عن معجزة يقيمها الإمام (ع) في سبيل ذلك ، وهذه المعجزه تقوم في طريق إثبات الحجة على المكلفين ، فتكون ممكنة وصحيحة ، وهي طريق منحصر لإثبات ذلك ، كما هو واضح ، إذ بدونها يحتمل أن لا يكون هو المهدي (ع) على أي حال .

والغالب في أخبار المشاهدة أن الفرد لا ينتبه إلى حقيقة المهدي (ع) إلا بعد فراقه ، ومضي شيء من الزمان . لأن الفرد لا يستطيع أن يشخّص أن ما قام به المهدي (ع) أو ما قاله هو من المعجزات الخاصة به ، إلا بعد مفارقته بمدة . وبذلك يضمن المهدي (ع) خلاصه من الاطلاع الصريح المباشر على حقيقته في أثناء المقابلة ، فتندفع عنه عدة مضاعفات محتملة .

وأما أن كيف يختفي المهدي (ع) بعد انتهاء المقابلة ، فذلك أطروحتان ، من الممكن له تطبيق أي منهما .

الأولى : الاختفاء الشخصي الإعجازي . فيما إذا انحصر طريق التخلص به ، فيكون مطابقاً مع قانون المعجزات .

الثانية : وهي المتحققة على الأغلب في ظروف اللقاء المنقولة لنا في أخبار المشاهدة ، سواء ما وقع منها في عصر الغيبة الصغرى أو ما يقع في الغيبة الكبرى . وهو الاختفاء بطريق طبيعي ، لعدم انحصار التخلص بالمعجزة. بل كان المهدي (ع) يزجي هذا الأمر بنحو عادي جداً غير ملفت للنظر . كما لو أصبح رفيقاً في السفر مع بعض الأشخاص ثم يفارقه(1) أو يبقى المهدي (ع) في مكانه ويسافر عنه الشخص الآخر(2) . أو أن المهدي يوصل شخصاً إلى مأمنه من متاهة وقع فيها ثم يرجع . ولايلتفت ذلك الشخص إلى حقيقة منقذه إلا بعد ذهابه(3) . ويكون لغفلته هذه الأثر الكبير في سهولة وسرعة اختفاء المهدي عنه . ومع إمكان الاختفاء الطبيعي ، يكون الاختفاء الإعجازي بلا موضوع .

_________________________

(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 181 .   (2) انظر النجم الثاقب ، ص 306 .   (3) انظر المصدر ، ص 341 وغيرها .

صفحة (38)

ويستطيع المهدي (ع) أن يخطط بمقابلته نحواً من الأسلوب ، ينتج غفلة الرائي عن كونه هو المهدي (ع) في أثناء المقابلة . وإنما يتوصل إلى الالتفات إلى ذلك بعدها . ويقيم دلائله بحيث لا تكون ملفته للنظر أثناء وقوعها ، وإنما يحتاج الالتفاف إليها إلى شيء من الحساب والتفكير ، لا يتوفر – عادة – إلى بعد اختفاء المهدي . وهذا هو الديدن الذي يطبقه الإمام (ع) في أغلب المقابلات .

وهذا التخطيط المسبق الذي يقوم به المهدي (ع) يغنيه عن التفكير في طريقة الاختفاء عند المقابلة . وإن كان لا يعدم – بغض النظر عن الاختفاء الإعجازي – مثل هذه الطريقة . ولئن كنا نرى في كل زمانأشخاصاً عارفين بطرق الاختفاء السريع ، لمختلف الأغراض ، كالبحث عن المجرمين أو الهرب من العقاب . أو عن مقابلة الدائن ، أو غير ذلك ... فكيف بالإمام المهدي (ع) صاحب القابليات غير المحدودة الذي يستطيع بها أن يحكم العالم كله ، والعد لذلك من الله تعالى إعداداً خاصاً .

السؤال الثالث :

إن من يرى المهدي (ع) ، فسوف يعرفه بشخصه ، وسيعرفه كلما رآه . وهو ما يؤدي بالمهدي (ع) تدريجاً إلى انكشاف أمره وانتقاء غيبته المتمثلة بخفاء عنوانه والجهل بحقيقته . إذ من المحتمل للرائي أن يخبر الآخرين بذلك، فيعرفون حقيقته وينكشف أمره .

ويمكن الانطلاق إلى الجواب على مستويات ثلاثة :

المستوى الأول :

إن الفرد الذي يحظى بمقابلة المهدي (ع) لن يكون إلا من خاصة المؤمنين المتكاملين في الإخلاص – على الأغلب – ومثل هذا الفرد يكون مأموناً على إمامه (ع) من النقل إلى الآخرين . فإن الناس لا يعلمون من هذا الشخص أنه رأى المهدي وعرفه ، وله الحرية في أن يقول ذلك أو أن يستره ، أو أن يبدي بعض الحادث ويخفي البعض الآخر ، بالمقدار الذي يحقق به مصلحة الغيبة والستر على الإمام الغائب عليه السلام .

صفحة (39)

المستوى الثاني :

إذا لم يكن الرائي مأموناً ، فيما إذا اقتضت المصلحة مقابلته ، فقد يكون بعيد المزار جداً ، ويكون المهدي (ع) عالماً سلفاً بأنه لن يصادفه في مدينته أو في الأماكن التي يطرقها طيلة حياته . ومعه فيكون الخطر المشار إليه في السؤال غير ذي موضوع .

المستوى الثالث :

إذا كان الرائي قريباً في مكانه من المنطق التي يسكنها المهدي (ع) ولم يكن مأموناً ، فإنه يحتاج المهدي إلى تخطيط معين لتفادي الخطر المذكور .

ولعل أوضح تخطيط وأقربه إلى الأذهانهو أن يغير زيه الذي يعيش به عادة بين الناس ليقابل الفرد المطلوب بزي جديد . ومن هنا نرى الإمام المهدي (ع) – على ما دلت عليه الروايات – يقابل الناس بأزياء مختلفة . ففي عدد من المرات يكون مرتدياً عقالاً وراكباً جملاً أو فرساً . وفي مرة على شكل فلاح يحمل المنجل ، وأخرى على شكل رجل من رجال الدين العلويين(1) . وهذا أحسن ضمان لعدم التفات الناس إلى شخصيته المتمثلة بزيه العادي .

على أن المقابلات تقترن في جملة من الأحيان ، بأشكال من الضرورة والحرج عند الفرد ، وهي الضرورة التي يريد المهدي (ع) إزالتها ، على ما سنسمع ، ومثل هذا الفرد يصعب عليه ، وهو في حالته تلك تمييز سحنة الإمام (ع) بشكل يستطيع أن يشخصه بعد ذلك ، خاصة وهو في زيه التنكري .

وهناك أساليب أخرى ، يمكن اتخاذها في هذا الصدد ، لا ينبغي أن نطيل بها الحديث .

ولو فرض أنه احتاج الأمر وانحصر حفظ الإمام عليه السلام بالإعجاز بطريق الاختفاء الشخصي ، لو قابله الفرد الرائي مرة ثانية ، لكان ذلك ضرورياً ومتعيناً . أو تكون المعجزة على شكل نسيان الرائي لسحنة الإمام (ع) بعد المقابلة .

_________________________

(1) راجع ذلك في النجم الثاقب في عدد من مواضيع الكتاب .

صفحة (40)

فهذه ثلاثة أسئلة مع أجوبتها تضع الملامح الرئيسية على أطروحة خفاء العنوان . وسيأتي لها العديد من الإيضاحات والتطبيقات في الفصول الآتية .

وعرفنا أيضاً كيف تتبرهن هذه الأطروحة في مقابل الأطورحة الأولى ، من حيث أن باستطاعة الإمام المهدي (ع) أن يحتجب عن الناس بكشل طبيعي لا إعجاز فيه ، ما لم يتوقف احتجابه على الإعجاز ، طبقاً لقانون المعجزات . وإذا تمّ ذلك يكون الالتزام باختفائه الشخصي الدائم ، بالمعجزة ، منفياً بهذا القانون ، وينبغي تأويل أو نفي كل خبر دال عليه .

كما أن هذه الأطروحة الثانية ، هي التي تنسجم مع التصورات العامة التي اتخذناها في فهم الأسلوب العام لحياة الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى .  

ونود أن نشير في خاتمة هذه الأطروحة إلى نقاط ثلاث :

النقطة الأولى :

أننا إذ نعرف أن المهدي (ع) متى استطاع الاحتجاب بشكل طبيعي ، فإن المعجزة لا تساهم في احتجابه ... لا نستطيع – على البعد – مقتضيات الظروف والأحوال التي يمر بها المهدي (ع) في كل مقابلة . وهل كان بإمكانه أن يختفي بشكل طبيعي ، أو يتعين عليه الاختفاء الإعجازي .

فمثلاً : إن لاختفائه بعد مقابلته لجعفر الكذاب مرتين ، احتمالين ، هما اختفاؤه الشخصي أو اختفاؤه الطبيعي ، بحسب الظروف التي كان يعيشها المهدي (ع) يومئذ . وأما بدء هذه المقابلة فلا حاجة إلى افتراض كونه إعجازياً ، بأي حال ، كما ذهب إليه رونلدسن(1) ، بل يمكن أن يكون طبيعياً اعتيادياً .

وعلى أي حال ، فبعض الروايات ، يمكنها أن تعطينا الظرف الذي تنتهي به المقابلة . حيث يتضح من بعضها إمكان الاحتجاب الطبيعي ، كما سبق أن مثلنا .بينما يتضح من بعضها تعيّن الاحتجاب الإعجازي أحياناً ، كما ستسمع في مستقبل هذا التاريخ .

_________________________

(1) انظر عقيدة الشيعة ، ص 237 .

صفحة (41)

النقطة الثانية :

في الإلماع إلى الأنحاء المتصور لما يحصل بالمعجزة من أثر يوجب اختفاء الجسم على الناظر ، بالرغم من اقتضاء القوانين الكونية لحصول الرؤية .

فنقول : إن المعجزة أما أن تتصرف في الرائي أو في المرئي . فتصرفها في الرائي هو جعله بنحو يعجز عن إدراك الواقع الذي أمامه . فيرى المكان خالياً عن الإمام المهدي (ع) مع أنه موجود فيه بالفعل . فلو تعين بحسب المصلحة الملزمة والغرض الإلهي ، أن يراه شخص دون شخص ، كان نظر من يراه اعتيادياً، ونظر من لا يراه محجوباً بالمعجزة . وكذلك أيضاً التصرف في الحواس الأخرى كالسمع واللمس وغيرها ، وقد تحتجب بعض حواس الفرد دون بعض ، فيسمع صوت المهدي (ع) من دون أن يراه(1) .

وفرق الأطروحتين الرئيسيتين بالنسبة إلى الإعجاز الإلهي هو : أن الأطروحة الأولى ترى أن هذا الإعجاز هو الأمر الاعتيادي الدائم والثابت لكل الناس ، بالنسبة إلى حياة المهدي (ع) حال غيبته الكبرى . وإنما تحتاج مقابلته إلى استثناء عن هذا الدوام . على حين ترى الأطروحة الثانية أن الأمر الاعتيادي الدائم هو انكشاف جسم المهدي (ع) للناس وإمكان معاشرته معهم . ويحتاج اختفاء شخصه إلى استثناء لا يحدث إلا عند توقف حفظ الإمام المهدي (ع) عليه . وأما تصرف المعجزة في المرئي أي الواقع الموضوعي القابل للرؤية . فأوضح طريق لذلك هو أن تحول المعجزة دون وصول الصورة النورية الصادرة عن جسم المهدي (ع) أو ذبذباته الصوتية ، وغير ذلك مما تتقبله الحواس الخمس ... تحول دون وصولها إلى الرائي أو السامع . ومعه يكون الفرد عاجزاً أيضاً عن الإحساس بالواقع الموضوعي الذي أمامه . وهناك أكثر من نحو واحد ، متصور للمعجزة في محل الكلام ، وهي تحتاج إلى بحث فلسفي وفيزياوي مطول ، فيكون الأحجى أن تضرب عنه صفحاً تحاشياً للتطويل .

_________________________

(1) البحار ، جـ 3 ، ص 146 .

صفحة (42)

النقطة الثالثة :

أنه ساعد الإمام المهدي (ع) في غيبته عوامل نفسية أربعة متحققة لدى الناس على اختلاف نحلهم واتجاهاتهم ، مما جعل عليهم من الممتنع التصدي للبحث عنه لأجل الاستفادة منه أو التنكيل به .

العامل الأول :

الجهل بشكله وهيئة جسمه جهلاً تاماً . وهو عامل مشترك بين أعدائه ومحبيه .

العامل الثاني :

إنكاره من قبل غير قواعده الشعبية بما فيهم سائل الحكام الظالمين الذي يمثل المهدي رمز الثورة عليهم وإزالة نظمهم من الوجود . فهم في إنكارهم له مرتاحين عن مطاردته ، وهو مرتاح من مطاردتهم .

العامل الثالث :

ارتكاز صحة الأطروحة الأولى عند عدد من قواعده  الشعبية ، أخذاً بظواهر الأخبار التي سمعناها . إذ مع صحتها لا يكون هناك سبيل إلى معرفته بل يستحيل الإحساس بوجوده ، إلا عن طريق المعجزه ، وهي لا تتحقق إلا للأوحدي من الناس .

العامل الرابع :

الإيمان بعناية الله تعالى له وحفظه ليومه الموعود . فمتى تعلَّقت المصلحة بالمقابلة مع المهدي (ع) كان هو الذي يريدها . ومتى لم تتعلق بها المصلحة ، فالأصلح للإسلام والمسلمين ألا تتم المقابلة وإن تحرَّق الفرد المؤمن إليها شوقاً . ومن هنا يكون الفرد الاعتيادي في حالة يأس من مقابلته والتعرف إليه .

صفحة (43)

الفصل الثاني

 

التكليف الإسلامي للإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى  

وما يقوم بتنفيذه تجاه الإسلام والمسلمين من أعمال نافعة ومصالح كبرى

ينقسم تكليف الإمام عموماً في الإسلام عند ظهوره وعد وجود المانع عن عمله ، إلى عدة أقسام :

القسم الأول :

وجوب توليه رئاسة الدولة وقيادة الأمة ، بمعنى تطبيق الأطروحة الكاملة للعدل الإسلامي على وجه الأرض. والأخذ بالأزمة العليا للمجتمع لأجل ضمان هذا التطبيق .

القسم الثاني :

وجوب الدعوة الإسلامية ، بمعنى إدخال المجتمع الكافر في بلاد الإسلام ، إما الحرب أو بالصلح أو بغيرهما.

القسم الثالث :

وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الغزو الخارجي ، والدفاع عن بيضة الإسلام بالنفس والنفيس .

القسم الرابع :

وجوب الحفاظ على المجتمع المسلم ضد الانحراف وشيوع الفساد في العقيدة أو السلوك بالتوجيه الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ تعاليم الإسلام .

صفحة (45)

وهذه الأقسام الأربعة ، تجب وجوباً مطلقاً في أي مكان وزمان ، يجب أن يبذل الإمام والأمة في سبيلها أقصى ما يستطيع وتستطيع .

القسم الخامس :

وهو خاص بصورة عجز الإمام عن جملة من الأعمال السابقة ، لكونه يعيش في مجتمع منحرف يطارده ويراقبه ويعزله عن الأعمال الاجتماعية والسياسية ، كما كان عليه حال أئمتنا عليهم السلام – بشكل عام – وقد حملنا عن بعض جوانب ذلك صورة واضحة في تاريخ الغيبة الصغرى .

ففي مثل ذلك يكون عمل الإمام – كما رأينا في ذلك التاريخ – مكرساً – في الإغلب – على الحفاظ على قواعده الشعبية ومواليه ، وعلى حسن علاقتهم بالآخرين وحسن تلقيهم تعاليم الدين وتطبيقهم أحكام الإسلام . 

نعم ، إن وجد الإمام طريقاً أحياناً إلى القيام ببعض الأعمال الإسلامية على نطاق واسع . وكان المانع مرتفعاً عنه في ذلك العمل ، وجب عليه إنجازه ، وكان ذلك العمل أوسع من قواعده الشعبية وشاملاً خيره لكل بلاد الإسلام .

القسم السادس :

وجوب إغاثة الملهوف وإعانة المضطر . وهو تكليف عام لا يختص بالإمام عليه السلام ، بل يعم كل مسلم. نعم ، قد يحول العجز عن الإغاثة أو وجود عمل أو هدف إسلامي أهم ، فيسقط وجوبها ، كما قرر في محله بحسب القواعد الإسلامية .

إذا علمنا هذه الأقسام ، وعلمنا أن الإمام المهدي (ع) ، يجب عليه بالنظر الأولي كل هذه الأمور جملة وتفصيلاً ، يجب أن يؤدي منها ما يستطيع إليه سبيلاً . شأنه في ذلك شأن أي إمام آخر . وقد أدى الأئمة من آبائه عليهم السلام ، ما استطاعوا من هذه التكاليف ، وتركوا ما عجزوا عنه ، أو اقتضت المصالح الإسلامية العليا تركه .

أما الإمام المهدي (ع) نفسه ، فهو مذخور للقيام بدولة الحق في اليوم الموعود ، وهو من أعظم الأهداف الإلهية ، يرتبط بأصل خلقه البشرية ووجودها على ما سنبرهن عليه في مستقبل هذا التاريخ . وقد علمنا من القواعد العامة بما فيها قانون المعجزات بأن الأهداف الإلهية العليا تتقدم على أي شيء آخر ، فكل ما تتوقف على حدوثه فإنه يحدث لا محالة وكل ما تتوقف على انتقائه وانعدامه فإنه ينتفي لا محالة ، سواء كان ذلك من أمور الكون أو من أحكام الشريعة .

صفحة (46)

فإذا نظرنا إلى هذا الهدف المهم ، الذي ذخر المهدي (ع) له ، وجدنا أن أموراً عديدة يتوقف على حدوثها كوجود المهدي (ع) وغيبته ، والمعجزة التي تتكفل طول بقائه ، والمعجزة التي تتكفل اختفاءه الشخصي أحياناً لصيانته من الأخطار . كما نجد أن أموراً يتوقف اليوم الموعود على انتفائها . فمن ذلك في جانب الأحكام : إن كل حكم شرعي يكون تطبيقه منافياً مع حفظ الإمام المهدي أو غيبته وبالتالي يكون منافياً مع وجود اليوم الموعود نفسه ، فإن هذا التطبيق يكون ساقطاً شرعاً عن الإمام ، ولا يجب عليه امتثال الحكم وتنفيذه . وأما الأحكام الشرعية الإسلامية غير المنافية مع هذه الأمور ، سواء الأحكام الشخصية كوجوب الصلاة والصوم ، أو العامة كوجوب الأمر بالمعروف – مثلاً – على ما سنسمع ، فلا موجب للالتزام بسقوطها ، بل تكون شاملة له ويجب عليه تنفيذها لفرض استطاعته ذلك ، باعتبار عدم منافاتها مع غيبته وهدفه .

إذا علمنا ذلك ، استطعنا أن نحكم بوضوح بسقوط التكليف بأي واحد من الأقسام السابقة ، إذا كان مستلزماً لانكشاف أمره وزوال غيبته . وهذا واضح إلى حد كبير في الأقسام الثلاثة الأولى ، فإنه مستلزم لذلك عادة، إلا أن يفترض كونه قائداً أو موجهاً بشخصية ثانوية يعرف بها غير صفة الحقيقة على ما سيأتي .

وبغض النظر عن ذلك ، تكون الأطروحتان الرئيسيتان للغيبة ، مختلفتين في المدلول :

أما بناء على صحة أطروحة خفاء الشخص ، فكل الأقسام يمتنع عليه القيام بها ، إلا ما كان خلال الأحوال الاستثنائية التي تتم فيها المقابلة مع الآخرين . لوضوح أنه حال اختفائه لا يمكنه القيام بأي عمل .

وقد يخطر في الذهن ، أنه يمكن للمهدي (ع) الظهور التام ، والقيام بسائر الأعمال وتطبيق كل الأحكام .

والجواب : إن هذا قبل أوانه لا يكون ممكناً . أولاً : لأنه منوط بإذن الله تعالى لا بإذن المهدي عليه السلام. وثانياً : لأن لانتصاره في يوم ظهوره شرائط معينة على ما سنعرف وبدون تحقق هذه الشرائط لا يمكن الانتصار وبالتالي لا يتحقق الهدف الأسمى المطلوب . إذن فلا بد من تأجيل الظهورالكامل إلى حين تحقق تلك الشروط ، ولا تجوز المبادرة إليه في الظروف غير المدروسة وتحت المناسبات الطارئة .

صفحة (47)

نعم ، يبقى احتمال واحد ، على تقدير صحة الأطروحة الأولى ، وهو إمكان الإكثار من المقابلات والظهورات المتقطعة . وهي وإن كانت استثنائية من الحال الاعتيادي للمهدي (ع) إلا أنها تتضمن – على أي حال – تطبيقاً للحكم الإسلامي وإنقاذاً لبلاد الإسلام من عدد من المظالم التي تقع فيها . فلماذا لم يحدث ذلك واقتصرت المقابلات على قليل من الموارد نسبياً .

وهذا السؤال لا نجد له جواباً بناء على صحة الأطروحة الأولى ، لعدم تعرض الإمام المهدي (ع) لأي خطر، باعتبار إمكان اختفائه في اللحظة التي يشاء . ومعه يكون تطبيق الحكم الشرعي ممكناً بالنسبة إليه ، فيكون واجباً عليه . على حين لم يحدث ذلك بالكثرة المطلوبة جزماً ، وإلا لاشتهر أمره وشاع . وهذا بنفسه يدل على بطلان هذه الأطروحة ، إذ عدم قيام الإمام المهدي (ع) بذلك يدل على عدم إذن فالقول بصحتها مستلزم للقول بتقصير الإمام المهدي (ع) في تطبيق أحكامه . وهو واضح البطلان ، إذن فهذه الأطروحة باطلة .

وهناك مناقشات وجدل ، يعود إلى هذا الأمر يحسن عدم الإطالة في ذكره . 

وأما بناء على صحة الأطروحة الثانية ، كما هو الصحيح ... فهذا الاحتمال الذي كنا نناقشه ، وهو إمكان الإكثار من الظهورات والمقابلات يكون واضح الفساد ، بل هو منتف موضوعاً . لأن تعدد الظهور بكثرة يؤدي إلى تعرف الكثيرين على حقيقته وانكشاف أمره ، ومن ثم يكون منافياً مغ غيبته وقد عرفنا أن كل أمر مناف للغيبة لا يمكن حدوثه ، قبل تحقق شرائط اليوم الموعود .

وقد يخطر في الذهن : بأن تخطيطاً دقيقاً يمكن أن يقوم به المهدي (ع) في كل مقابلة ، كفيل بعدم انكشاف أمره ، وجوابه : بأن كثرة الظلم وتعدد حاجات الناس وضورواتهم ، يوجب كثرة الظهور وكثرته تكون موجبة لإلفات النظر إليه بنحو لا يفيد معه تخطيط دقيق .

صفحة (48)

كما قد يخطر في الذهن : بأن المهدي يمكنه إخفاء شخصه بالمعجزة في أوقات الخطر . إذن فليظهر للعمل موقتاً ، ثم فليختف متى استلزمت المصلحة ضرورة الاختفاء . 

وهذه الفكرة لها عدة أجوبة أهمها أمران :

الأمر الأول :

إن معنى ذلك توقف تنفيذ الأحكام الشرعية على المعجزة . لأن تنفيذه من قبل المهدي (ع) مسلتزم عادة لوقوعه في الخطر، نتيجة لانحراف المجتمع ، فيكون مستلزماً لاختفائه الإعجازي . ونحن نعلم ، بحسب القواعد الإسلامية، إن كل حكم شرعي إذا توقف على المعجزة لم يكن تنفيذه واجباً ، إلا ما يمت إلى أصل الإسلام بصلة ، كإثبات النبوة أو الإمامة أو إقامة دولة الحق . ومن الواضح أن الحكم الشرعي بوجوب إغاثة المضطر – مثلاً – لا يمت إلى أهل الإسلام بصلة ، فلا يكون واجباً .  

الأمر الثاني :

أنه لو تعددت ظهورات المهدي (ع) فسوف يعرفه الكثيرون بمجرد رؤيته ، فيلزمه الاختفاء قبل أن تسنح له فرصة العمل . وهذا معناه أن كثرة الظهور في أي زمان تمنع عن مواصلة أي شكل من أشكال العمل .  

وعلى أي حال ، فالعمل المتصور للإمام المهدي (ع) بناء على ما هو الصحيح من صحة الأطروحة الثانية، على قسمين : عمل يقوم به بصفته الحقيقية ، بحيث يمكن للفرد نسبته إليه ولو بعد انتهاء العمل . وعمل يقوم به حال كونه مجهول الحقيقة ، يعيش في المجتمع كفرد عادي ، بشخصية ثانوية ، في اسم آخر وحرفة ومكان غير ملفت لأي نظر .

أما العمل بصفته الحقيقية ، في تنفيذ ما يمكنه تنفيذ من الأقسام السابقة للتكاليف الإسلامية ، فحاله هو ما سبق أن قلناه قبل أسطر . وقد رأينا أنه من غير المحتمل أن يكون المهدي (ع) شرعاً مكلفاً بذلك ، لتعذر العمل عليه بهذه الصفة ، طبقاً لكلتا الأطروحتين .

صفحة (49)

لا يبقى – بعدها – إلا الأعمال التي أعربت عنها أخبار المشاهدة في الغيبة الكبرى ، مما يمت إلى القسمين الأخيرين من التكاليف بصلة ، على ما سنوضح عند دراسة المقابلات في مستقبل هذا التاريخ . فإن هذا العدد من المقابلات لا ينافي غرضه ولا يخل بغيبته .

وأما عمله بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع ، فهذا ما لا دليل على نفيه بحال ، بل استطعنا الاستدلال عليه، كما سبق ، حسبنا من ذلك إمكان العمل بالنسبة إليه ، وعدم منافاته مع غيبته وخفاء عنوانه بحال ، فيكون واجباً عليه، كأي فرد آخر من المسلمين يجب عليه أن يؤدي أي عمل ممكن في مصلحة الإسلام . وهو أعلى وأولى من يلتزم بإطاعة أحكام الإسلام .

ومن هنا لا يمكننا أن نتصوره عليه السلام إلا قائماً بواجبه في أي قسم من الأقسام السابقة اقتضت المصلحة في تنفيذه . كهداية شخص أو جماعة من الكفر إلى الإسلام أو من الانحراف إلى الوعي أو من الظلم إلى الاعتدال ، أو جعل الموانع ضد الظلم القائم في المجتمع ، في تأثيره على الإسلام والمسلمين عامة وضد قواعده العبية خاصة . إلى غير ذلك ، وما أدرانا كيف سيصبح حال المجتمع المسلم لو سحب الإمام (ع) لطفه وكف أعماله . وإلى أي درجة من الضلال والظلم يمكن أن يبلغ .

على أننا نحتمل في كل عمل خيري عام أو سنة اجتماعية حسنة أو فكرة إسلامية جديدة ، أو نحو ذلك من الأمور ... نحتمل أن يكون وراءها أصبع مخلص متحرك من قبل الإمام المهدي (ع) . وأنه هو الذي زرع بذرته الأولى في صدر أو عمل أحد الأشخاص أو الجماعات ... بحيث أنتجت أكلها في كل حين بإذن ربها . وهذا الاحتمال لا نافي له، بتقدير صدق أطروحة خفاء العنوان . ومجرد الاحتمال يكفينا بهذا الصدد ، بصفته أطروحة محتملة تنسجم مع الأدلة العامة والخاصة ، كما ذكرنا في المقدمة .

وهذا هو المراد الحقيقي الواعي من النصوص الواردة عن المهدي (ع) نفسه ، والتي تثبت قيامه بالعمل النافع بوضوح .

صفحة (50)

فمن ذلك قوله المشهور: وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب(1). وأضاف عليه السلام : وأني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء .

فالسحاب كناية عن خفاء العنوان . والشمس كناية عن التأثير النافع المنتج في المجتمع . بعد وضوح أن العمل الذي يمكن للمهدي (ع) تنفيذه مع جهل الناس بحقيقته وعنوانه – أي في  غيبته – ، أقل بكثير مما يستطيع القيام به حال ظهوره وإعلان أمره .

وهذا الفهم هو المعين لهذا الحديث الشريف ، بناء على أطروحة خفاء العنوان . لا ما ذكروه(2) من التفسيرات التي يرجع بعضها إلى وجود تشريفي فلسفي للإمام (ع) ، وبعضها إلى أنحاء تقديريه من النفس. وإنما ذكر علماؤنا الأسبقون إنما من باب "ضيق الخناق" وعدم الالتفات إلى هذا الفهم الواعي .

نعم ، يتعين المصير إلى تلك التفسيرات بناء على أطروحة خفاء الشخص . حيث يتعذر العمل على المهدي (ع) إلا بالمقدار القليل الذي تدل عليه أخبار المشاهدة – كما عرفنا – ، مما لا يكاد يكفي أن يكون نفعاً عاماً مشابهاً لنفع الشمس وإن غيبها السحاب . فلا بد – والحال هذه – من الأخذ في فهم النص بتلك التفسيرات . ولكننا حيث قلنا ببطلان هذه الأطروحة ، يتعين أن نأخذ بفهمنا الواعي لهذا الحديث .

ومن ذلك : ما روي عن المهدي (ع) مخاطباً لقواعدة الشعبية : أنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم . ولولا ذلك لنزل بكم الأواء واصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله . وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من هم أجله ، ويحمى عنها من أدرك أمله(3) .

_________________________

(1) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 284 وغيرها .   (2) انظرها في بيان مفصل لصاحب البحار في جـ 13 ، ص 129 .

(3) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .

صفحة (51)

ونحن نعلم أن وقوفه (ع) ضد الأعداء ونزول الأواء – وهي الشدائد – ، لا يكون إلا بالعمل المثمر والجهاد الحقيقي على الصعيدين العام والخاص . وخاصة ، وهو يأمرنا بمظاهرته أي معاونته وموافقته على إخراجنا من الفتنة والنجاة من الهلكة . فإن على كل فرد مسؤولية تامة في ذلك، ولا تنحصر المسؤولية بالقائد ، كما هو واضح ، بل أن شعوره بالمسؤولية لا يكاد يكون مثمراً من دون شعور شعبه ورعيته بمسؤوليتهم تجاه قائدهم ومبدئهم أيضاً .

إذن ، فهو عليه السلام يحمل هم شعبه ومواليه ، يتذكرهم دائماً ويعمل على حفظهم ودرء المخاطر عنهم باستمرار، بمقدار ما يمكنه أن يؤديه من عمل ، تماماً كما عرفنا عن آبائه عليهم السلام ، وكما عرفناه في خلال غيبته الصغرى . غاية الفرق أن تلك الأعمال كانت منه ومن آبائه (ع) بالصفة الحقيقية لهم . وأما عمله خلال هذه الفترة، فليست بهذه الصفة ، وإنما بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع .

ولكن الإمام المهدي (ع) يتوخى في موارد عمله وجود شرطين أساسيين ، إن اجتمعا كان في إمكانه أن يتصدى للعمل ، وإن تخلف أحدهما ترك العمل لا محالة وأبقى الواقع على واقعه .

الشرط الأول :

أن لا يؤدي به عمله إلى الكشاف أمره وانتفاء غيبته . إذ من الواضح أن المهدي (ع) حين يقوم بالأعمال العامة الإسلامية ، بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، يمكنه أن يستمر بها إلى حد معين ليس بالقليل . ولكنه لو لمع اسمه واشتهر صيته ، بـِ "شخصيته الثانوية" لكان هناك احتمال كبير في انكشاف حقيقته وافتضاح سره . لا أقل من أن ينتبه الناس إلى غموض نسبه وجهالة أصله ، فيوصلوا بالفحص والسؤال إلى حقيقته، أو يحتملوا ذلك على الأقل ، وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون .

إذن فعمل المهدي (ع) لا بد أن يقتصر على الحدود التي لا تؤدي إلى انكشاف أمره ، فيدقق في ذلك ويخطط له ، وهو الخبير الألمعي ويحسب لكل عمل حسابه . وأي عمل علم أن التدخل فيه يوجب الانكشاف انسحب عنه ، مهما ترتبت عليه من نتائج ، لأن انحفاظ سره وذخره لليوم الموعود ، أهم من جميع ما يتركه من أعمال .

صفحة (52)

ولكن هذا لا ينافي تأثيره في الأعمال الإسلامية الخيرة التي نراها سائدة في المجتمع . وذلك لإمكان أن يكون هو المؤثر في تأسيسها حال صغرها وضآلة شأنها ، وقد أودعها إلى المخلصين الذين يأخذون بها ويذكون أوراها ، بدون أن يلتفتوا أو يلتفت إلى حقيقة عمله ، بقليل ولا بكثير .

الشرط الثاني :

أن لا يؤدي عمله إلى التخلف والقصور في تربية الأمة ، أو اختلال شرائط يوم الظهور الموعود .

بيان ذلك : أننا أشرنا أن ليوم الظهور الموعود شرائط سوف نتعرض لها تفصيلاً في مستقبل هذا التاريخ . ولكل شرط من تلك الشروط أسبابه وعلله . تلك الأسباب التي تتولد وتنشأ في عصر ما قبل الظهور . حتى ما إذا آتت أكلها وأثرت تأثيرها بتحقيق تلك الشروط وإنجازها ، كان يوم الظهور قد آن أوانه وتحققت أركانه .

والمهدي عليه السلام ، حيث يعلم الشرائط والأسباب ، مكلف – على الأقل – بحماية تلك الأسباب عن التخلف أو الانحراف ، لئلا يتأخر تأثيرها أو ينخفض عما هو المطلوب إنتاجها . إن لم يكن مكلفاً بإذكاء أوراها والسير الحثيث في تقدم تأثيرها .

ومن أهم شرائط اليوم الموعود : أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية ، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عز وجل . أو على الأقل ، أن يكون فيها العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون هو الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (ع) ضد الكفر والانحراف ، ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق . ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي (ع) قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

وإذا كان ذلك من الشرائط ، فلا بد من توفر أسبابه في زمن ما قبل الظهور ، في عصر الغيبة الكبرى ، والمحافظة على هذه الأسباب .

صفحة (53)

وإن السبب الرئيسي الكبير لتولد الوعي والشعور بالمسؤولية الإسلامية والإقدام على التصحية لدى الأمة ، هو مرورها بعدد مهم من التجارب القاسية والظروف الصعبة وإحساسها بالظلم والتعسف ردحاً كبيراً من الزمن ... حتى تستطيع أن تفهم نفسها وأن تشخص واقعها وتشعر بمسؤوليتها . فإن هذه الصعوبات كالمبرد الذي يجلو الذهب ويجعل السكين نافذاً . فإن الأمة – في مثل ذلك – لا تخلد إلى الهدوء والسكون ، بل تضطر إلى التفكير بأمرها وبلورة فكرتها وتشخيص آلامها وآمالها وتشعر بنحو وجداني عميق بسهولة التضحية في سبيل الأهداف الكبيرة ووجوبها إذا لزم الأمر ونادى منادي الجهاد .

وتلك الأمة الواعية هي التي تستطيع أن تضرب قدماً بين يدي الإمام المهدي (ع) وأن تؤسس العدل المنتظر في اليوم الموعود . دون الأمة المنحرفة المتداعية ، أو الأمة المنعزلة المتحنثة . وسيأتي لذلك إيضاحات عديدة وسنسمع له شواهد كثيرة من الكتاب والسنة .

فإذا كان مرور الأمة بظروف الظلم والتعسف ضرورياً لتحقيق شرط اليوم الموعود ، ومثل هذا الشرط يجب رعايته والمحافظة عليه ...إذن فالمهدي (ع) بالرغم من أنه يحس بالأسى لمرور شعبه وقواعده بمثل هذه الظروف القاسية،إلا أنه لا يتصدى لإزالتها ولا يعمل على تغييرها، تقديماً لمصلحة اليوم الموعود على أهل العزم هذا اليوم الموجود.

وأما ما لا يكون من الظلم دخيلاً في تحقيق ذلك الشرط ، وكان الشرط الأول لعمل المهدي (ع) متوفراً فيه أيضاً ، فإن الإمام المهدي (ع) يتدخل لإزالته ويعمل على رفعه ، بموجب التكليف الشرعي الإسلامي المتوجه إليه .

ونحن – الذين لا نعيش نظر المهدي (ع) وأهدافه – نكاد نكون في جهل مطبق ، من حيث تشخيص أن هذا الظلم هل له دخل في تحقيق شرط الظهور أو لا . ما عدا بعض موارد التخمين . فإنه يحتاج إلى نظر بعيد يمتد خلال السنين إلى يوم الظهور . وهذا النظر منعدم لدى أي فرد في العالم ما عدا المهدي (ع) نفسه . فيعود تشخيص ذلك إليه ، بما وهبه الله تعالى من ملكات وقابليات على تشخيص الداء والقيادة نحو الدواء.  

صفحة (54)

عدة نقاط :

أود الإشارة في نهاية هذا الفصل إلى عدة نقاط :

النقطة الأولى :

إن ما ذكرناه قبل لحظة ، من وجود بعض أشكال الظلم منتج لشرط يوم الظهور ، وهو وعي الأمة وشعورها بالمسؤولية ... وأن المهدي (ع) لا يقف حائلاً ضد هذا الظلم ولا يعمل على رفعه ... لا يمكن أن ندعي وجوب الاقتداء بالمهدي (ع) في ذلك أو أن لنا به أسوة حسنة في ذلك ، فيجب إهما الظلم يفتك بالأمة بدون أن نحاول إصلاحه أو نحول دون تأثيره . لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً ، للفرق بين تكليفنا الشرعي وتكليفه وبين مسؤوليتنا ومسؤوليته .

بيان ذلك : أن كلا الشرطين اللذين عرفناهما لعمل المهدي (ع) غير موجودين فينا ، فيكون تكليفنا الإسلامي أوسع بكثير من هذه الجهة من تكليف الإمام المهدي (ع) خلال غيبته .

أما الشرط الأول : وهو عدم انتفاء الغيبة والمحافظة على ستر العنوان ... فمن الواضح عدم توفره فينا . بل هو من مختصاته عليه السلام .

وأما الشرط الثاني : وهو ألا يحول العمل ضد الظلم المؤثر في إيجاد شرط الظهور ... فمن الواضح أن المهدي (ع) إذا حال دون تحقق هذا الظلم ، فسوف يحول دون حدوث الوعي عند الأمة ، فيبقى شعورها متبلداً وتربيتها قاصرة، وبالتالي يكون الشرط المطلوب متعذر الوجود .

وأما نحن إذ نشعر بالظلم فنكافح ضده أو نخطط لأجل دحره ودفعه ، لا نكون قد حلنا دون وعي الأمة ، بل أن كفاح الأمة نفسه وجهادها ضد مشاكلها وآلامها من أهم العناصر التي تنظم إلى الشعور بالظلم فتحدث الوعي لدى الأمة يكمل عندها الشعور بالمسؤولية . ذلك العمل الذي يعطي دروساً في التضحية وحنكة في التدبير الاجتماعي ، يؤهل الأمة شيئاً فشيئاً إلى تحقيق الشرط المأمول .

صفحة (55)

ومعه يكون الكفاح ضد الظلم ، بهذا الاعتبار ، فضلاً عن الاعتبارات الأخرى ، لازماً ومطلوباً في الإسلام من كل المسلمين ما عدا المهدي (ع) . نعم ، ستكون الأمة وقائدها متضامنة ضد كل أنواع الظلم بعد أن يحصل الشرط المطلوب ، ويبقى الظلم المتأخر مستأنفاً لا حاجة إليه . فيقوم عليه الإمام المهدي (ع) بالسلاح لإزالته من الوجود. وذلك هو يوم الظهور .

النقطة الثانية :

إن عمل المهدي (ع) في المجتمع ، في حدود ما تقتضيه أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن يتصف بعدة صفات :

فعمله نافذ وناجح ومؤثر دائماً ، وإنما الإخفاق إذا حصل فإنما يحصل نتيجة لقصور أو تقصير غيره في العمل . فأننا لم نفهم أهمية عمله من كونه عضواً في جمعية خيرية مثلاً أو متولياً لوقف عام مثلاً ، وإن كان ذلك ممكناً ومهماً ... إلا أن الأهم من ذلك هو كونه الرائد المؤسس لأعمال الخير العامة ، ودفع الشر والظلم – مما لا يكون مؤثراً في شرط اليوم الموعود – . بمعنى أنه عليه السلام ، بعد أن يعرف أهمية العمل الخير أو أخطار العمل الظالم بالنسبة للمجتمع المسلم ، فأنه يتسبب إلى إيجاد ما هو خير ورفع ما هو ظلم .

وهو بذلك يستعمل حنكته وفراسته لتوخي أقرب الطرق وأصلحها وأكبرها تأثيراً . وقد يسبق عمله وجود العمل الظالم نفسه . كالذي رأيناه من المهدي (ع) نفسه في غيبته الصغرى أكثر من مرة ، حيث سمعناه ينهي وكلاءه عن قبض أي شيء من الأموال ، فامتثلوا أمره من دون أن يعلموا السبب . ثم اتضح أن السلطات قد أمرت بدس الأموال إلى الوكلاء ، فمن قبض منهم مالاً قبضوا عليه(1) . وبذلك فشل هذا المخطط الظالم . ومن يعمل مثل ذلك مرة أو مرات ، يمكنه أن يعمله متى يشاء .

أما لو استلزمت إزالته للظلم ظهوره لبعض الأفراد ، على حقيقته ، فهو مما قد يحصل تبعاً لظروف خاصة وتخطيط خاص ، سوف ندرسه في بعض الفصول المقبلة . وأما إذا لم تتوفر تلك الظروف ترك المهدي (ع) الظلم على حاله، لعدم توفر الشرط الأول من الشرطين السابقين .

_________________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 603 .

صفحة (56)

وعلى أي حال ، فبالنسبة إلى العمل الخيِّر الصالح ، يستطيع المهدي أن يقنع فرداً أو جماعة للقيام به ، أو يشجع أناساً مندفعين تلقائياً للقيام بمثله ، ويؤيدهم التأييد الكافي ، ويحاول أن يرفع الموانع عن تقدم عملهم وازدهاره . كل ذلك من دون أن يفترض عضواً فعلياً مشاركاً في شيء من الأعمال . ومعه تكون الأعمال بطبيعتها ، بالرغم مما أوجد لها المهدي (ع) من فرص النجاح ، قابلة للإخفاق أو الضيق تبعاً لقصور أصحابها القائمين بها أو تقصيرهم نفسياً أو عملياً .  

وأما بالنسبة إلى العمل الظالم ، فهو يتسبب إلى رفعه أو التقليل من تأثيره ، إما بمحاولة إقناع الفاعل على الارتداع عنه أو الضغط عليه أو إحراج مصالحه بنحو يصغر معه عمله ويضيق أو بنحو ينعدم تأثيره أساساً . أو بإذكاء أوار الثورة أو الاحتجاج من قبل الآخرين .

النقطة الثالثة :

هناك كلام لرونلدسن حول الإمام المهدي (ع) ، فيما يخص ما نحن فيه من الموضوع . يتبنى المهدي فيه بعدم الالتفات إلى أصحابه وقواعده الشعبية ، وعدم رفع الظلم عنهم . وهو بذلك يريد أن يستنتج عدم وجوده ، إذ لو كان موجوداً فهو شخص يشعر بالمسؤولية والعطف تجاه أصحابه ، فهو لا محالة رافع للظلم عنهم أو مشاركهم في العمل ضده . مع أنه لم يعمل ذلك ، بالرغم من أن المظالم في التاريخ كثيرة وشديدة ، إذن فهو غير موجود .

وهو إن لم يصرح بهذه النتيجة ، ولكنه يوحي بها إيحاء واضحاً ، حين يقول : "وفي القرن التالي لغيبة الإمام استلم البويهيون زمام السلطة الزمنية فبذلوا جهوداً كبيرة لتوحيد الطائفة الشيعية وتقويتها ، كبناء مشاهدها وجمع أحاديثها وتشجيع علمائها ومجتهديها . ومع ذلك فلم يظهر الإمام المنتظر في هذا القرن الذي كانت الطائفة الشيعية تتمتع فيه بحسن الحال" . ومرّ قرن آخر دالت فيه دولة حماة الشيعة من البويهيين ولكن الإمام بقي في (غيبته الكبرى) .

صفحة (57)

ومرّ قرن ثالث يمتاز بالظلم والثورات وتحكم المماليك . ولكن الإمام الذي كانوا يرتجون ظهوره لم يظهر .

وجاء دور الحروب الصليبية التي اشترك (آل البيت) فيها دون أن يكون لهم إمام . فمن الجانب الإسلامي ، كانت السلطة لإعلان الجهاد تنحصر بيد بني العباس والفاطميين المارقين في مقاومة الجيوش الغازية للشعوب المسيحية بالاسم في أوروبا ، ولكن الإمام أخرّ ظهوره .

وبعد مرور أربعة قرون على وفاة آخر الوكلاء في القرن الثالث عشر – يعني الميلادي – ادتاح الغزاة المغول بلاد إيران يقتلون ويهدمون بقساوة لا مثيل لها . وبالرغم من التخريب والآلام فإن (صاحب الزمان) المنتظر بفارغ الصبر لم يظهر .

وحتى في ابتداء القرن السادس على زمن شيوع أذربيجان والدولة الصفوية الجديدة ، لم يتصل الإمام الغائب بشيعته إلا بالطيف ! فكان يظهر لهؤلاء الملوك ، كما يدعون !!(1)

وبالرغم من أن في هذا الكلام عدة نقاط محتاجة لإعادة النظر ، إلا أن المهم الآن مناقشة الإشكال الرئيسي الذي يثيره ، وهو استبعاد وجود الإمام من عدم ظهوره عند الحاجة لأجل رفع الظلم عن قواعده الشعبية خاصة ، والمسلمين عامة .

وقد اتضح الجواب على ذلك مما سبق أن قلناه متمثلاً في عدة وجوه :

أولاً : أننا يجب أن لانتوقع من الإمام المهدي (ع) الظهور الكامل ، تحت أي ظرف من الظروف ، باعتباره مذخوراً لنشر العدل الكامل في العالم كله ، لا لرفع المظالم الوقتية أو الاتصال بأشخاص معينين . وقد عرفنا أن الإسراع بالظهور قبل أوانه يوجب جزماً فشل التخطيط الإلهي لليوم الموعود . لأن نجاحه منوط بشروط معينة وظروف خاصة لا تتوفر قبل اليوم الموعود جزماً . وقد عرفنا أن كل ما أعاق عن نجاحه لا يمكن وجوده بحسب إرادة الله تعالى وإرادة المهدي (ع) نفسه ، مهما كان الظرف مهماً وصعباً .

صفحة (58) 

ثانياً : أننا نحتمل – على الأقل – أن المهدي (ع) يرى أن بعض الظلم الذي كان ساري المفعول خلال التاريخ ، كالحروب الصليبية مثلاً ، غير قابلة للإزالة من قبله حال الغيبة بحال . ولا ينفع التخطيط السري أو العمل الاعتيادي، بصفته فرداً عادياً ، في إزالتها ... لقوة تأثيرها وضرواة اندفاعها . ومعه يصبح الإمام المهدي (ع) حال غيبته عاجزاً عن رفع هذا الظلم ، فيكون معذوراً عن عدم التصدي لرفعه طبقاً للقواعد الإسلامية ولوظيفته الواعية الصحيحة .

ثالثاً : إن جملة من موارد الظلم الساري في المجتمع ، لا يتوفر فيه الشرط الأول من الشرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين اللذين ذكرناهما لعمل المهدي (ع) ، فلا يعمل المهدي لإزالته بطبيعة الحال . وهو ما إذا كان العمل ملازماً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

رابعاً : إن جملة من موارد الظلم ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الرطين السابقين ، باعتبار أو وجوده سبب لانتشار الوعي في الأمة وشعورها بالمسؤولية الذي هو أحد الشروط الكبرى ليوم الظهور . وقد قلنا بأن مثل هذا الظلم وإن وجب على الأمة الكفاح لإزالته ، إلا أن الإمام المهدي (ع) لا يتسبب لرفعه ، لأن في رفعه إزالة للشرط الأساسي لليوم الموعود ، وهو ما لا يمكن تحققه في نظر الإسلام .

إذن فسائر أنحاء الظلم الساري المفعول في التاريخ لا محالة مندرج تحت أحد هذه الأقسام ، فإذا كان المهدي (ع) قد عمل لإزالتها فقد خالف وظيفته الإسلامية ومسؤوليته الحقيقية ، ولا أقل من احتمال ذلك ، لأجل المهدي (ع) على الصحة .

إذن فليس هناك أي تلازم بين وجود المهدي وبين وقوفه ضد هذه الأنحاء من الظلم والشرور ، حتى يمكن لرونلدسن أن يستنتج من عدم وقوفه ضد الظلم ، عدم وجوده .

وأما الأنحاء الأخرى من الظلم ، فقد قلنا بأن تكليفه الشرعي ووظيفته الإسلامية ، تقتضي وقوفه ضده وحيلولته دونه بصفته فرداً عادياً في المجتمع ، كما أوضحناه . إذن فهو يقف ضد الظلم في حدود الشروط الخاصة الإسلامية، كيف وهو على طول الخط يمثل المعارضة الصامدة ضد الظلم والطغيان .

صفحة (59)

الفصل الثالث

في الحياة الخاصة للمهدي (ع)

وكل ما يعود إلى شخصه عليه السلام من الأمور حال غيبته الكبرى

ويمكن الكلام عن ذلك في ضمن عدة أمور :

الأمر الأول :

هل الإمام المهدي (ع) متزوج وله ذرية أم لا .

ويمكن بيان ذلك على مستويين ، باعتبار ما تقتضيه القواعد العامة ، أولاً ، وما تقتضيه الأخبار الخاصة ثانياً .

المستوى الأول : فيما تقتضيه القواعد العامة المتوفرة لدينا .

وهذا مما يختلف حاله على اختلاف الأطروحتين الرئيسيتين اللتين عرضناهما فيما سبق .

أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص ، فهي – بغض النظر عن الأخبار الخاصة الآتية – تقتضي أن لا يكون المهدي متزوجاً ، وأن يبقى غير متزوج طيلة غيبته . ولا غرابة في ذلك ، فإن كل ما ينافي غيبته ويعرضه للخطر يكون وجوده غير جائز ، فيكون زواجه غير جائز ، لوضوح منافاته مع غيبته ولزومه لانكشاف أمره . إذ مع خفاء شخصه لا يمكنه الزواج بطبيعة الحال عادة . أما مع ظهوره وانكشاف أمره ، فهو المحذور الذي يجب تجنبه ويخل بالغرض الأسمى من وجوده .

صفحة (61)

وأما افتراض أنه ينكشف لزوجته فقط ، بحيث تراه وتخالطة من دون كل الناس ، فهو وإن كان ممكناً عقلاً، إلا إنه بعيداً كل البعد عن التطبيق العملي بحيث نقطع بعدم إمكانه . فإن هذه الزوجة يجب أن تكون قبل زاوجها من خاصة الخاصة المأمونين الموثوقين إلى أعلى الدرجات ، بحيث لا يكون في مقابلتها إياه واطلاعها على حقيقته أي خطر . ومثل هذه المرأة تكاد تكون منعدمة بين النساء ، إن لم تكون معدومة فعلاً ... فضلاً عن أن يجد في كل جيل امرأة من هذا القبيل .

إذن فبقاؤه طيلة غيبته أو في الأعم الأغلب منها بدون زواج ، ضروري لحفظه وسلامته إلى يوم ظهوره الموعود، فيكون ذلك متعيناً عليه .. لو أخذنا بالأطروحة الأولى .

وأما على الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فكل هذا الكلام الذي رأيناه يكون بدون موضوع . فإن المهدي (ع) وإن كان من المتعذر عليه إيجاد الزواج بصفته الحقيقية ، لما قلناه من عدم وجود المرأة الخاصة المأمونة بالنحو المطلوب . ولكن زواجه بصفته فردا ًعادياً في المجتمع ، أو بشخصيته الثانية ، ممكن ومن أيسر الأمور ، بحيث لا تطلع الزوجة على حقيقته طول عمرها . فإن بدا التشكيك يغزو ذهن المرأة في بعض تصرفاته أو عدم ظهور الكبر عليه بمرور الزمان ... أمكن للمهدي (ع) أن يخطط تخطيطاً بسيطاً لطلاقها وإبعاجها عن نفسه ، أو مغادرة المدينة التي كان فيها إلى مكانٍ آخر ، حيث يعيش ردحاً آخر من الزمن ، وقد يتزوج مرة أخرى .. وهكذا .

وإذا أمكن زواجه ، أمكن القول بتحققه ، وإن الإمام المهدي عليه السلام متزوج في غيبته الكبرى بالفعل . وذلك لأن فيه تطبيقاً للسنة المؤكدة في الإسلام والأوامر الكثيرة بالزواج والحث العظيم عليه والنهي عن تركه ، والمهدي أولى من يتبع السنة الإسلامية . وبخاصة إذا قلنا بأن المعصوم لا يترك المستحب ولا يفعل المكروه مهما أمكن ، والتزمنا بعصمة المهدي (ع) كما هو الصحيح . فيتعين أن يكون متزوجاً ، بعد أن توصلنا إلى إمكان زواجه وعدم منافاته مع احتجابه .

وإذا سرنا مع هذا التصور ، أمكن أن نتصور له في كل جيل ، أو في أكثر الأجيال ذرية متجددة تتكاثر بمرور الزمن، ولكنها تجهل بالمرة بأنها من نسل الإمام المهدي (ع) ، لأن لا يكشف حقيقته أمام زوجته وأولاده الصلبيين، فكيف بالأجيال المتأخرة من ذريته .

صفحة (62)

إلا أن أمامنا شيئاً واحداً يحول بيننا وين التوسع في هذا الافتراض ، إن لم يكن برهاناً على انتفاء الذرية أصلاً . وهو : إن وجود الذرية ملازم عادة لإنكشاف أمره والاطلاع على حقيقته . فإن السنين القليلة بل العشرين والثلاثين منها قد تمضي مع جهل زوجته وأولاده بحقيقته ، كما أنه يمكن التخلص من الزوجة حين يبدو عليها بوادر الالتفات . ولكن كيف يمكن التخلص من الذرية ؟! فإنهم أو بعضهم – على أقل تقدير – يكونون أحرص الناس على مشاهدة أبيهم وملاحقته أينما ذهب . ومعه يكون دائماً تحت رقابتهم ومشاهدتهم . ومن ثم لا يمكنه الحفاظ على سره العميق زماناً مترامياً طويلاً . فإنهم بعد مضي الخمسين أو السبعين عاماً ، سوف يلاحظون بكل وضوع عدم ظهور امارات المشيب والشيخوخة على والدهم ، وأنه بقي شاباً على شكله الأول . ومن ثم يحتملون على الأقل كونه هو المهدي (ع) ، أو أنه فرد شاذ لا بد من الفحص عنه والتأكذ من حقيقته .. وبالفحص ومداومة السؤال ، لا بد أن يتوصلوا إلى الاحتمال على أقل تقدير . وهذا مناف مع غيبته وكتمان أمره . وأما لو بقيت ذريته تراقبه ، ولو بشخصيته الثانية ، عدة أجيال ، فيكون انكشاف أمره بمقدار من الوضوح .

وأما افتراض أنه يعيش مع زوجته وأولاده ، ويظهر عليه المشيب فعلاً ، ثم أنه يختفي ويتحول شكله إلى الشباب تارة أخرى عن طريق المعجزة ، لكي يستأنف حياة زوجية جديدة .. وهكذا .. فهو افتراض عاطل ترد عليه عدة اعتراضات أهمها منافاته مع قانون المعجزات ، فإن زواج المهدي ووجود الذرية لديه لا يمت إلى الهداية الإلهية بصلة ، لكي يمكن أن تقوم المعجزة من أجله .

إذن فلا بد من الالتزام بعدم وجود الذرية للمهدي (ع) بالنحو المنافي لغيبته . أما بانعدام الذرية على الإطلاق ، أو بوجود القليل من الذرية التي تجهل حال نسبها على الإطلاق ، كما يجهله الآخرون ، ولعلنا نصادف بعضاً منهم ، ولكن إثبات نسبه في عداد المستحيل .

فالمتحصل من القواعد العامة ، هو أن المظنون أن يكون الإمام المهدي (ع) متزوجاً بدون ذرية . لا لنقص فيه بل ولا في زوجته ، بل لإشاءة الله تعالى ذلك ، أو تعمد المهدي (ع) له ، احتفاظاً بسره ومحافظة على أمره .

صفحة (63)

المستوى الثاني : فيما تدل عليه الأخبار من وجود الزوجة والأولاد للمهدي (ع) . ونحن نواجه بهذا الصدد شكلين أو طائفتين من الأخبار :

الشكل الأول :

الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له، بنحو مجمل من حيث كون ذلك حاصلاً في زمان الغيبة أو بعد الظهور، ومن حيث كونه بعنوانه الواقعي أو بشخصيته الثانية . وسنعرف فيما يأتي أنه لا بد من تخصيص هذه الأخبار ، فيما بعد الظهور ، أو في حال الغيبة بشكل لا يكون سبباً لانكشاف أمره وانتفاء غيبته .

الشكل الثاني :

الأخبار الدالة على زواجه ووجود الذرية له فيغيبته الكبرى . وهي ثلاث روايات :

الأولى : ما رواه الحاج النوري قدس سره في النجم الثاقب عن كتاب الغيبة للشيخ الطوس وكتاب الغيبة للنعماني . قال : رويا بطريق معتبر عن المفضل بن عمر ، قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، إحداهما تطول حتى يقول بعضهم : مات . وبعضهم يقول : قتل . وبعضهم يقول : ذهب . فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره ، إلا المولى الذي يلي أمره(1) .

الثانية : رواية كمال الدين الإنباري ، التي ينذكر مضمونها في الأمر الرابع الآتي(2) .

الثالثة : رواية زين الدين المازندراني ، وهي مشابهة للرواية الثانية ، من عدة نواحٍ ، على ما سنرى في الفصل الآتي(3) .

_________________________

(1) النجم الثاقب ، ص 224 وغيبة الشيخ ، ص 102 . (2) النجم الثاقب ، ص 217 .

(3) المصدر ، ص 284 ، وانظر البحار ص .......

صفحة (64)

إلا أن شيئاً من هذه الروايات ، لا يصح الاستدلال به ، بمعنى أنه ، لو تمت من ناحية السند ، لا تكاد تثبت أكثر وأوسع مما اقتضته القواعد العامة التي عرفناها على المستوى الأولي .

أما الرواية الأولى ، فلا تصح لعدة وجوه :

الوجه الأول :

أنه لا دليل على وجود ذكر الولد في هذه الرواية . فإن كلا من الشيخ الطوسي والشيخ النعماني يرويانها بنص واحد، إلا أن الشيخ الطوسي قال : لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره(1) . والشيخ النعماني روى : من ولي ولا غيره(2) . ومع تهافت نسخ الرواية فيما هو محل الشاهد ، لا يمكن المصير إلى الاستدلال بها .

الوجه الثاني :

أنه على تقدير الاعتراف بوجود كلمة الولد في الرواية ، فإنها لا تكاد تدل على أمر زائد على ما اقتضته القواعد بناء على الأطروحة الثانية ، فإنه يمكن أن يكون للإمام المهدي (ع) ذرية لا تعرف حقيقة أبيها ، بمقدار لا يصل الأمر إلى انكشاف أمره وذيوع سره ، كما سبق أن عرفنا . أو يكون المهدي (ع) قد حصل في بعض الأجيال ، على زوجة موثوقة عرفت حقيقته وصانت سره وسترته عن ذريته .

أما وجود ولد أو ذرية يعاشرونه ويعرفونه ، فهو منفي بنص الرواية ، كما هو منفي بمقتضى القواعد . 

ثالثا : أننا نتحمل على الأقل ، أن المراد بقوله : لا يطلع على موضوعه أحد من ولده ولا غيره .. المبالغة في بيان زيادة الخفاء . بمعنى أنه حتى لو كان له ولد أطلع على حقيقته فضلاً عن غير الولد . وهذا بمجرده لا يكون دليلاً على وجود الولد فعلاً ، كما هو واضح . واحتمال هذا المعنى يكفي لإسقاط الاستدلال بالرواية ، فإنه إذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال .

_________________________

(1) غيبة الشيخ ، ص 102 .  (2) غيبة النعماني ، ص 89 .

صفحة (65)

وأما الروايتان الأخيرتان ، التي سنسمعهما ، فالمقدار المشترك من مدلوليهما ، هو أن المهدي (ع) ساكن خلال غيبته الكبرى في بعض الجزر المجهولة من البحر الأبيض المتوسط .. متزوج وله ذرية . وقد أسس هناك مجتمعاً إسلامياً نموذجياً مكوناً من أولاده والأخيار من أتباعهم وأصحابهم . وهو يعيش في ذلك المجتمع محتجباً ، في الوقت الذي يتولى الرئاسة العامة أولاده وذريته .

وسيأتي التعرض إلى تفاصيل المضمون بمقدار الحاجة ، مع إيضاح نقاط الضعف فيه . ويكفينا في حدود محل الاستدلال المناقشة من ناحيتين :

أولاً : إن كلا الروايتين لا تكادان تصحان أساساً ، لابتنائهما على الأساس الذي تقوم عليه الأطروحة الأولى، كما سنوضحه عند التعرض إلى تفاصيلها . وهو أساس سبق أن أقمنا البرهان على بطلانه .

ثانياً : أنه على تقدير صحتهما ، فهما لا يدلان على شيء زائد مما اقتضته القواعد العامة . فإن غاية ما تدلان عليه هو افتراض أن الإمام المهدي (ع) قد وجد في بعض الأجيال إمرأة صالحة موثوقة عرفته وسترت أمره وحجبته عن ذريته . وقد علم ذريته بانتسابهم إليه من دون أن يروه أو يعرفوا مكانه . وبالجملة يكفي في صدق هاتين الروايتين وقوع الزواج للمهدي (ع) مرة واحدة خلال الأجيال ، وهو مما لم تنفه القواعد العامة ، كما هو معلوم .

إذن فلم نجد من الروايات ، ما يصلح للاستدلال به على مضمون زائد على ما عرفناه في القواعد العامة .

الأمر الثاني :

في مكان المهدي (ع) في غيبته الكبرى .

سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) ، أن المهدي (ع) قال لمحمد بن إبراهيم بن مهزيار حين قابله: يا ابن المازيار ! أبي أبو محمد عهد إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم . وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ، ومن البلاد إلا عفرها ... الخ كلامه.

_________________________

(1) انظر ص 582 وغيرها .

صفحة (66)

وهو دال على تعيين مكان المهدي (ع) في البراري والقفار النائية .. سواء في ذلك عصر غيبته الصغرى ، وعصر غيبته الكبرى . وسواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو أطروحة خفاء العنوان . فإنه منسجم مع كلتا الأطروحتين.

إلا أننا ذكرنا أن هذا وإن كان محتملاً في نفسه ، إلا أنه مناف مع أعداد من الروايات الدالة على وجوده بكثرة في أماكن أخرى . أهمها روايات المشاهدة في الغيبة الصغرى وأخبار المشاهدة الكبرى .. إلا على بعض الفروض النادرة أو الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها ، والمهدي (ع) في غنى عن اتخاذها، فإن المعجزة لا تقع إلا عند توقف إقامة الحجة عليها ، كما سبق .

فإذا تجاوزنا هذه الرواية يبقى الكلام في تشخيص مكان المهدي (ع) تارة بحسب القواعد العامة التي تقتضيها الأطروحتان الرئيسيتان ، وأخرى بحسب الأخبار الخاصة التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد .

أما الأطروحة الأولى : أطروحة خفاء الشخص .. فهي تقتضي الجهل المطبق بمكانه عليه السلام ، إلا ما يكون عند مشاهدته حين تقتضي المصلحة لذلك .

وأما الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، فقد سبق أن أوضحنا إمكان أن يعيش الإمام المهدي (ع) في أي مكان شاء ويذهب إلى أي مكان يريد ، من الحواضر أو البوادي من البر أو البحر أو الجو ، من دون أن يلفت إلى نفسه نظراً أو يكشف سراً . كما اوضحنا أنه لا ينبغي أن نتصور له مكاناً واحداً مستمراً أو غالباً طيلة غيبته ، لأن ذلك ملازم عادة لالتفات الناس إلى حقيقته وانتقاء غيبته .. بل هو – لا محالة – يوزع سكناه بين البلدان ، لكي يبعد عن نفسه الشكوك .

وأما بحسب الروايات الخاصة ، فنواجه منها عدة أخبار :

الأول : خبر المفضل بن عمر ، السابق الذي يقول فيه : لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره .

الثاني : رواية كمال الدين الإنباري ، التي أشرنا إليها .

الثالث : رواية زين الدين المازندراني ، السابقة .

صفحة (67)

وتشترك هاتان الروايتان في بيان أن المهدي (ع) يسكن في بعض الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط . وكأن في هذا تطبيقاً لما ورد في رواية ابن مهزيار من أنه لا يسكن في الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها ، وأن لا يجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم !

وقد سبق أن ذكرنا ، وسيأتي أيضاً ، بأن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى، ومعه تكون باطلة وغير معتبرة جملة وتفصيلاً .

الرابع : ما ورد عن أبي بصير عن الإمام الباقر (ع) إنه قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ، ولا بد في عزلته من قوة . وما بثلاثين من وحشة . ونعم المنزل طيبة(1) .

ويشترك هذا الخبر مع الخبر الأول في الدلالة على انعزال الإمام المهدي (ع) وبعده عن الناس ، ويتعارضان من حيث أن الأخير يثبت أن جماعة من الناس في كل جيل يعرفون المهدي ويتصلون به ويرفعون عنه الوحشة ، وهذا ما ينفيه الخبر الأول بوضوح حيث يقرر عدم إطلاع أحد على موضعه حتى ولده ، إلا المولى الذي يلي أمره . ويستقل الخبر الأخير على تعيين مكان المهدي (ع) في طيبة ، وهي مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله .

فهذه نقاط ثلاث ، ينبغي أن يقع الكلام عنها ، ويحسن من أجل ضبط السياق ، أن نبدأ بالأخيرة .

النقطة الأولى :

حول ما دل عليه خبر أبي بصير من سكنى المهدي في مدينة الرسول (ص) .

وهذا أمر ينافيه ما ورد في خبر إبن مهزيار من اختصاص مكان المهدي (ع) في البراري والقفار . كما ينافي ما ورد في أخبار المقابلات في الغيبتين الصغرى والكبرى ، كما ذكرنا ، من وجود المهدي (ع) في أماكن أخرى من العالم . ومع هذه المنافاة لا تكاد تكون رواية أبي بصير قابلة للإثبات أو الاستدلال .

_________________________

(1) غيبة الشيخ الطوسي ، ص 102 .

صفحة (68)

ولو غضضنا النظر عن ذلك ، لم نجد أن سكناه المدينة مناف للقواعد العامة التي عرفناها .. سواء أخذنا بأطروحة خفاء الشخص أو بأطروحة خفاء العنوان . أما على أطروحة خفاء الشخص ، فمن الممكن أن نفترض سكناه حال خفائه في المدينة نفسها ، بدون لزوم أي إشكال أو صعوبة .

وأما على أطروحة خفاء العنوان ، فينبغي أن نخص هذه السكنى بما إذا لم تستلزم إنكشاف أمره أو إلتفات الناس إلى سره . لما سبق أن عرفناه من أن يعود إلى سكناها بين جيل وجيل أو نحو ذلك ، بحيث لو راجعنا المعدل العام لزمان الغيبة الكبرى ، رأينا مكانه الأغلب هو المدينة المنورة . وقد سبق أن عرفنا أن مثل هذا الأسلوب في سكنى المدن لا يكون مظنة للإنكشاف .

ولعل هذا الأنسب بحال المهدي (ع) واتجاهه ، من حيث أنه يود مجاورة قبر جده الأعظم رسول الإنسانية (ص) ، والقرب إلى مكان الج ليستنى له القيام به كل عام . وبخاصة وإن أغلب سكان المدينة المنورة في أغلب أجيال التاريخ الإسلامي ، إن لم يكن كلها ، من المنكرين لوجوده أصلاً .. وهو مما يسهل له الحفاظ على خفاء عنوانه ودوام غيبته .

النقطة الثانية :

فيما تختلف فيه الروايتان من المضمون ، حول أن المهدي (ع) هل يعاشر بعض الناس أولاً .

وعند الموازنة بين الأمرين ، لا بد من عرضهما على القواعد العامة اليت عرفناها . وسوف تختلف نتيجة الموازنة طبقاً للأطروحتين الرئيسيتين السابقتين : أما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص ، فسوف يرجح الأخذ برواية المفضل بن عمر . وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انكشاف المهدي (ع) للمولى الذي يلي أمره ، وهو يُنافي الالتزام الكامل بهذه الأطروحة . وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان، فسوف يرجح الأخذ برواية أبي بصير ، وإن لم تكن مطابقة لها تماماً لدلالة الرواية على انحصار العارفين بالمهدي (ع) والمعاشرين له بثلاثين ، في كل جيل ، بحيث لولاهم لكان في وحدة موحشة .

صفحة (69)

وهذا ما يستغنى عن إفتراضه بناء على هذه الأطروحة . إذ يمكن للمهدي (ع) أن يعاشر أي شخص كما عرفنا . نعم، يمكن أن يكون للثلاثين خصيصة الاطلاع على حقيقته ، وهو أمر لطيف ، إلا أنه لا يستلزم عدمهم وجود الوحدة الموحشة على أي حال .

النقطة الثالثة :

فيما تشترك فيه الروايتان من النص على اعتزال المهدي (ع) عن الناس .

وهذا يمكن حمله على أحد وجهين :

الوجه الأول : أن يفسر بالاعتزال النسبي ، يعني إعتزاله بصفته الحقيقية ، وإن كان مرتبطاً بالناس بصفته فرداً عادياً في المجتمع . وهذا الوجه قريب من أطروحة خفاء العنوان . إلا أنه مخالف لكلتا الروايتين في ظاهرهما ، كما يتضح لمن قرأهما .

الوجه الثاني : أن يعترف بعزلته عليه السلام ، بشكل مطلق . وهذا أقرب إلى أطروحة خفاء الشخص ، فإنها تستلزم العزلة المطلقة . ولكنه لا ينافي الأطروحة الأخرى لإمكان أن يرى المهدي (ع) حال انعزاله من دون أن تعرف حقيقته .

إلا إننا عرفنا أنه لا حاجة إلى افتراض مثل هذه العزلة مع خفاء العنوان . إن لم تكن بنفسها ملفته للنظر والتساؤل عن حقيقة هذا الفرد المنعزل وعن سبب انعزاله ، مما يثير حوله الانتباه .

فإذا لم يصح الوجه الأول ، كما لم يصح الوجه الثاني انطلاقاً من أطروحة خفاء العنوان ، الصحيحة ، لم يمكن القول بصحة المضمون المشترك بين الروايتين ، وإن كان مدعماً برواية ابن مهزيار أيضاً .

صفحة (70)

الأمر الثالث :

ما ورد من تسمية أولاده وسكنهم وأعمالهم .

تنص رواية الإنباري المشار إليها ، إن للحجة المهدي (ع) عدة أولاد في

الجزر المجهولة في البحر الأبيض المتوسط .

أحدهم : طاهر بن محمد بن الحسن . وهو يحكم إحدى تلك الجزر المسماة بالزاهرة(1) .

ثانيهم : قاسم بن محمد بن الحسن . هو يحكم الجزيرة المسماة بالرائقة(2) .

ثالثهم : إبراهيم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة هناك تسمى بالصافية(3) .

رابعهم : عبد الرحمن بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم طلوم(4) .

خامسهم : هاشم بن صاحب الأمر . وهو يحكم بلدة باسم عناطيس(5) .

وكلهم يحكمون تحت الإشراف العام لأبيهم صاحب الأمر المهدي (ع) .

وإن لم تدل الرواية على أنهم يرونه ويجتمعون به أولاً .

وحيث أن الحادثة المروية بهذه الرواية مؤرخة بتاريخ القرن السادس الهجري(6) ، فيكون قد مضى على ولادة الإمام المهدي (ع) حوالي الأربعمائة سنة . ولا نحتمل طول عمر أولاده ولا زوجته بالشكل الخارج عن الطبيعي من أعمار الآخرين من الناس . إذن ، فلو صحت الرواية ، يتعين أن يكون قد تم زواجه ووجود أولاده في مثل ذلك العصر . وقد سبق أن ذكرنا أن ذلك إنما يتم فيما لو كان المهدي (ع) قد وجد امرأة موثوقة في أعلى درجات الإخلاص ، بحيث تعرفه وتساعده على إخفاء نفسه حتى على أولاده ، وإن كانت قد لا تخفي عنهم انتسابهم إليه .

أما زواجه في العصور المتقدمة على ذلك ، أو العصور المتأخرة عنه ، أو وجود ذرية له فيها ، فلا تتعرض له الرواية . فيبقى محولاً على متقضى القواعد السابقة .

_________________________

(1) النجم الثاقب ، ص 220 – 221 .  (2) نفس المصدر ، ص 222 .  (3) و (4) و (5) المصدر والصفحة .

(6) المصدر ، ص 217 .

صفحة (71)

وأما صحة هذه الرواية ، فقد سبقت الإشارة إلى عدم صحتها ، وسيأتي تفصيل ذلك الأمر الآتي :

وأما رواية المازندراني المشابهة لها في المضمون ، فهي مؤرخة في القرن السابع الهجري .. تدل على وجود عدة جزائر في البحر الأبيض أيضاً أكبرها المسماة بـِ (الخضراء) يحكمها نائب خاص عن الإمام المهدي (ع) ، يسمى بمحمد ويلقب بشمس الدين ، وهو من ذرية المهدي ، وبينهما خمسة آباء(1) . لكن لا يتضح انتسابه إلى أي من الأولاد السابقين .

ولعل هناك شي من البعد في تسلسل خمسة أجيال خلال قرن من الزمن ، إلا بتقدير تعدد زواجه أو سرعة تناسل أولاده .

والظاهر من هذه الرواية عدم وجود أولاد المهدي (ع) المباشرين بل من بعدهم أيضاً ، وإلا لما أصبح حفيده الخامس حاكماً هناك ، دونهم . وخاصة وإن الرواية تنص على أن آباءه أفضل منه ، بقرينة عدم مشاهدته للإمام (ع) ، وأما أبوه فقد سمع صوته ولم ير شخصه ، وأما جده فقد رأى شخصه وسمع صوته(2) . وكلما كان الفرد أقرب ارتباطاً بالمهدي (ع) دل ذلك على زيادة في فضله وإخلاصه .

وحساب هذه الرواية ، من حيث أصل صحتها واعتبارها ، موكول إلى الأمر الرابع الآتي .

_________________________

(1) البحار ، جـ 13 ، ص 146 .  (2) المصدر والصفحة السابقة .

صفحة (72)

الأمر الرابع :

تأسيس المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً إسلامياً نموذجياً .. أو عدم صحة ذلك .

يدل على تأسيسه لمثل هذا المجتمع ، الروايتان المشار إليهما فيما سبق للإنبار والمازندراني .. وتنفيه سائر القرائن الأخرى من عقلية ونقلية على ما يأتي . 

ونود أن ندرس فيما يلي الخصائص العامة الفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية لهذا المجتمع النموذجي ، وما أنتجته هذه الخصائص فيه من مستوى من الرفاه والازدهار في الزراعة والتجارة .

ولا يخفى أننا بعد أن نناقش في أصل هاتين الروايتين وصحتهما ، فسوف لن تبقى لهذه الخصائص قيمة من وجهة نظر إسلامية موضوعية ، إلا باعتبارها صحيحة في نظر الراوي وبحسب فهمه الخاص . وإنما ندرسها الآن بصفتها ممثلة لوجهة نظر بعض المسلمين تجاه شكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية عامة والنظام المهدوي خاصة . وسننطلق بعد ذلك إلى تطبيقه على القواعد والأدلة الإسلامية الحقة .

تتفق الروايتان : على أن هناك مدن كبيرة وكثيرة على ساحل البحر ، ربما كانت في بر إحدى القارات ، وربما كانت في جزائر ضخمة في أحد البحار . وتنص رواية المازندراني على أنه هو البحر الأبيض المتوسط . وإن هذه الجزائر هي السبب في تسميته البحر الأبيض لأنها محاطة ماء أبيض صاف كماء الفرات يختلف لونه عن لون سائر ماء البحر ، إذا وردت فيه سفن الكفار والمحاربين غرقت بقدرة الله تعالى وبركة الإمام المهدي عليه السلام.

وتشكل هذه المجموعة رقعة مهمة من الأرض ، لأن إحدى المدن تبعد عن الأخرى بمقدار مسير إثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً ، بحراً أو براً ، بوسائط النقل التي كانت سائدة يومئذ في القرنين السادس والسابع الهجريين .

وهي مسافة تكون بالتقريب مثل ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة في الحجاز أو بين البصرة وبغداد في العراق. وبالرغم من سعة هذه المساحة ، فإنه مليئة بالبساتين والقرى ، التي قد تصل إلى ألف ومائتي قرية لكل مدينة . ومعه يمكن تقدير سكانها بما لا يقل عن عشرة ملايين من البشر . فتكون بذلك دولة متوسطة الحجم ، يمكن أن تشكل المجتمع النموذجي الإسلامي على أحسن طراز .

صفحة (73)

وتتصف هذه المجموعة بالجمال الطبيعي والرفاه الاقتصادي إلى حد بعيد ، بحيث تخون اللغة لسان الراوي في وصفه. ويكفينا من ذلك أن أكثر دورها مبنية بالرخام الشفاف ، ويحيط كل مدينة مئات المزارع والبساتين ذات الهواء الطلق والفواكه العديدة .

وتنص رواية الإنباري بأن الذئاب والغنم يعيشون في هذه المزارع بصداقة وألفة . وأن السباع والهوام مطلقو السراح ما بين الناس ، من دون أن يضروا أحداً أو يوجبوا حادثاً أو مرضاً .

وتشتمل المدن على أسواق كثيرة فيها من الأمتعة المعروضة ما لا يوصف ولا يتناهى . وفيها حمامات كثيرة . وفيها مسجد أعظم يجتمع الناس لإقامة الصلاة . وتوجد حول المدينة أسوار وقلاع وأبراج عالية من جهة البحر ، لأجل أن تزداد منعة وقوة .

وأما دين الشعب الساكن في هذه البلاد ، فهو الإسلام على المذهب الإمامي الإثنا عشري .

وأما أخلاقهم الكريمة ، فحدث عنها ولا حرج ، يصفها الإنباري بأنها أحسن أخلاق على وجه الأرض . فهم في الأمانة والتدين والصدق بلا مثيل ، وكلامهم خال من اللغو والغيبة والسفاهة والكذب والنميمة . ويؤدون الحقوق المالية الشرعية . وتسود معاملاتهم روح الثقة وحسن الظن إلى حد يقول البائع للمشتري: زن لنفسك وخذ ، فإن أخذك لحقك غير متوقف على وجودي . وبمجرد أن يعلن المؤذن دخول وقت الصلاة ، يترك الناس أعمالهم ويتوجهون رجالاً ونساءً إلى أدائها .

وتتصف مجتمعات هذه المدن بالتضامن والألفة ، فإذا احتاجت بعض الجزر أو المدن إلى مساعدة ، أو كانت خالية من الزراعة ، أرسلت إليها الميرة والبضائع الكثيرة ، من المدن الأخرى الحافلة بالخير والبركات، تبرعاً دون مقابل.

صفحة (74)

ويحكم هذه المجتمعات حاكم واحد ، كما في رواية المازندراني ، أو عدة حكام ، كما في رواية الإنباري ... منصوبين من قبل الإمام المهدي عليه السلام ، بحيث يعتبر أهم حاكم نائباً خاصاً له عليه السلام . ومن ثم فهو يقيم صلاة الجمعة ، لتحقق شرط وجوبها ، وهو وجوبها ، وهو وجود الإمام المعصوم أو نائبه الخاص .

وهو الذي يقيم صلاة الجماعة في كل وقت ، وهو الذي يفتي الناس بالمسائل الشرعية ، ويقضي بينهم . بل تنص رواية المازندراني أنه يدرس العلوم العربية وأصول الدين والفقه الذي تلقاه عن صاحب الأمر المهدي عليه السلام. وهو الذي يجادل عن المذهب إن لزم الأمر ، ويكون جداله حاداً وصريحاً ، ويكون هو الظاهر في الجدال على خصمه على طول الخط . وله من الكرم وحسن الضيافة الشيء الكثير .

وقد سبق أن عرفنا أسماء عدد من حكام تلك البلاد . وقد كان منهم خمسة من أولاد المهدي (ع) نفسه ، في رواية الإنباري ، وواحد من أحفاده في رواية الشيء المازندراني .

يطاع الحاكم هناك من قبل شعبه إطاعة تامة ، وله فيهم الكلمة النهائية ، وله في قلوبهم المهابة والوقار . وقد يخبر بما ينبغي أن يكون جاهلاً به عادة ، كاسم الشخص المسافر الطارئ على البلاد ، فيكون هذا آية صدقه وأساس حكمه . وليس هو اخباراً بالغيب وإنما يرويه عن الإمام المهدي (ع) ولو بالواسطة ، والإمام المهدي (ع) عالم بتعاليم الله عز وجل إياه ، بالإلهام أو نحوه . ومن هنا يقول الرواي : فقلت : ومن أين تعرفني باسمي واسم أبي ؟ قال : أعلم أنه قد تقدم إليّ وصفك وأصلك ومعرفة اسمك وشخصك وهيئتك واسم أبيك رحمه الله(1) . وإنما تقدم ذلك إليه من المهدي عليه السلام .

والمهدي (ع) يسكن في تلك المجتمعات نفسها بنحو منعزل لا يراه حتى الحكام أنفسهم بالرغم مما يتصفون به من إخلاص ووثاقة . وإذا خرج إلى الحج أو إلى أي مكان آخر ، فإن يعود إليها تارةً أخرى .

_________________________

(1) البحار ، جـ 13 ، ص 140 .

صفحة (75)

وهو يعطي تعليماته للحاكم عن طريق المراسلة ، فيما يحتاجه من البت في أمور الناس من المحاكمات وغيرها ، كما تنص على ذلك رواية المازندراني . وبذلك يكون له الإشراف المباشر على سائر هذه الدولة النموذجية ، ويبقى ذكره فيها حياً وقانونه نافذاً . وتتربى الأجيال على الإخلاص له وانتظار فرجه ، وهو أمر عام بين سائر أفراد الشعب هناك إلى حد لا يكادون يقسمون إلا به في كلامهم الاعتيادي .

فهذا هو الوصف العام لهذا المجتمع النموذجي الذي دلت عليه هاتان الروايتان . إلا أنهما لا يمكن أن يكون لهما جانب من الصحة على الإطلاق . وذلك لوجود عدة اعتراضات نذكر منها ثلاثة رئيسية :

الاعتراض الأول :

إن الكرة الأرضية الآن ، بل فيما قبل الآن مرت بعدة قرون ، قد عرفت شبراً شبراً ومسحت متراً متراً ، واطلع الناس على خفاياها وزواياها . وبالرغم من ذلك لم يجد أحد تلك المناطق ولا اطلع على وجود تلك الجزائر والمدن. ولو كانت موجودة لعرفت يقيناً ، ولكانت من أهم العالم الإسلامي . إذن فهي غير موجود قطعاص .

وأما الزعم بأنها برمتها مختفية عن الأنظار ، كما هو حال المهدي نفسه ، لو صحت أطروحة خفاء الشخص ... فهو ما حاول بعض الباحثين أن يقوله(1) مستشهداً بسعة قدرة الله تعالى ، وبما روي من أن رسول الله (ص) كان أحياناً يختفي عن كفار قريش في أثناء صلاته .

إلا أن هذا الاستدلال يثبت الإمكان العقلي لاختفاء هذه المدن ، ولكنه لا يثبت وقوعه فعلاً . ونحن نعترف بسعة قدرة الله تعالى على ذلك وما هو أهم منه وأوسع . إلا أننا ننفي وقوع ذلك خارجاً ، ونثبت الفرق بين اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص) من ناحية ، واختفاء هذه البلدان من ناحية أخرى .

فإن اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص) إنما يتحقق لتوقف حياتهما عليه تلك الحياة المذخورة لهداية الناس وإكمال الحجة عليهم ، فيتكون الاختفاء مطابقاً مع قانون المعجزات ، وهو أنه مهما توقف إكمال الحجة على المعجزة أوجدها الله جزماً ، وخرق بها النواميس الطبيعية ، ولا توجد المعجزة في خارج هذا الحد . وبذلك سبق أن نفينا الأطروحة الأولى ، لعدم احتياج المهدي (ع) في سلامته إلى الاختفاء الدائم .

_________________________

(1) انظر النجم الثاقب ، ص 227 .

صفحة (76)

وأما بالنسبة إلى بلد أو مجتمع مسلم ، يختفي اختفاء شخصياً برمته ، كما يدعي هذا الباحث ... فليس الأمر فيه أن إقامة الحجة أو إكمالها متوقف على وجود المعجزة . فإن المفروض أن أفراد المجتمع قد اعتنقوا الإسلام وأخلصوا له وتمت حجته عليهم . فأي حجة تبقى بعد ذلك لنحتاج إلى المعجزة . وإنما المفروض أن سلامته من الأعداء متوقف على اختفائه ... إلا أن ذلك مما لا يعرف في الإسلام ، وهو خارج عن القانون العام لإقامة المعجزات . إذن فالمعجزة غير متحققة ، فلو كان موجوداً لكان ظاهراً لا محالة . ولو كان ظاهراً لكان معروفاً . وحيث أنه غير معروف ولا ظاهر ، إذن فهو غير موجود .

ولو صح اختفاء مجتمع ملسم لسلامته من الاعتداء ، لصح اختفاء مجتمعات مسلمة كثيرة تعرضت للغارات العديدة على مر التاريخ . على أن ذلك لم يحدث . ولو كان قانون المعجزات يوجب حدوث ذلك ، لحدث على أي حال .

وقد يقال : بأن لهذا المجتمع المفترض خصوصية كبرى تميزه عن سائر المجتمعات ، وهو وجود الإمام المهدي فيه، فمن الجائز أن يخصه الله تعالى بالاختفاء .

إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة بالمرة . إذ لو توقفت سلامة الإمام عليه السلام وبقائه وغيبته ، على غياب هذه المدن ، لكان أمراً صحيحاً . إلا أن هذا التوقف غير موجود بالمرة ، إذ قد عرفنا بأن الإمام المهدي (ع) يمكنه أن يحرز سلامته وغيبته في أي مكان من العالم على كلا الأطروحتين الرئيسيتين . ومعه لا تبقى لذلك المجتمع أي خصوصية من هذه الناحية .

بل من المستطاع القول ، بالنسبة إلى ما ذكرناه من إتمام الحجة : أنه ليس فقط أن إقامة الحجة على هذا المجتمع لا يتوقف على اختفائه كما قلنا ، بل أن إكمال الحجة عليه يتوقف على ظهوره وكونه جزءاً من العالم البشري المنظور . وذلك انطلاقاً من قانون التمحيص الإلهي الثابت عقلاً ونقلاً ، على ما سنفصله في باب قادم من هذا التاريخ .

صفحة (77)

فإن الفرد المسلم والمجتمع المسلم ، كلما واجه التيارات الكافرة على مختلف مستوياتها ، وصمد تجاه الانحرافات الجائرة ، وضحى في سبيل دينه ، كلما يكون إيمانه أقوى وأرسخ ، وإرادته أمضى وأعظم . فاصطدامه مع الكفر والانحراف في حرب جسدية أو عقائدية ، جزء من المخطط الإلهي للتمحيص والامتحان ... وليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيى عن بينة . وبذلك يكون إكمال الحجة متوقفاً على هذا الاصطدام ، وسنى في مستقبل هذا التاريخ أن يوم الظهور الموعود للمهدي (ع) مما يتوقف على هذا التمحيص . وهذا الاصطدام إنما يحدث والتمحيص إنما يتحقق ، فيما إذا كان المجتمع ظاهراً للعيان متفاعلاً مع العالم الخارجي ، دون ما إذا كان مرتاحاً في اختفائه منساقاً مع أحلامه .

إذن فالقانون العام للتمحيص وقانون المعجزات منافيان لاختفاء أي مجتمع مسلم وانعزاله عن العالم ، ومعه فلو كان هذا المجتمع موجوداً لكان ظاهراً . وحيث أنه غير ظاهر إذن فهو غير موجود .

وهذا هو مرادنا مما قلناه فيما سبق ، من أن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى ، وقد عرفنا الآن أنه أسوأ حالاً وأشد بعداً من الأطروحة الأولى بكثير حيث برهنا على بطلان تلك الأطروحة بالاستغناء عنها بالأطروحة الثانية . وأما هذه المدن ، كفلا من قانوني المعجزات والتمحيص ، ينفيان اختفاءهما بالضرورة .

وليت شعري ، لم يلتفت هذا الباحث الذي يدعي اختفاء هذه المدن الكثيرة ، إلى أن سياق الروايتين الدالتين على وجودهما منافٍ مع هذه الفكرة : وذلك انطلاقاً من نقطتين أساسيتين :

النقطة الأولى :

ما نصت عليه رواية المازندراني ، من أن البحر الأبيض إنما سمي بذلك لوجود ماء صاف كماء الفرات حول الجزر، إذا دخلته سفن الأعداء غرقت بقدرة الله تعالى وبركة المهدي عليه السلام .

فإن هذه الجزر إذا كانت مختفية عن الأنظار . كيف يهتدي إليها الأعداء . بل يكفي اختفاؤها حماية لها كما هو واضح . فوجود مثل هذا الماء الصافي – لو صح – أدل دليل على عدم الاختفاء .

صفحة (78)

النقطة الثانية :

إن الاختفاء لو كان صحيحاً ، لكان اللازم أن لا تنكشف هذه الجزر لأحد من الخارج إلا لمن لديه القسم العالي من الإخلاص والوثاقة من المسلمين ، حيث يكون انكشافها لغير هؤلاء الأفراد مظنة للخطر ، وطريقاً محتملاً لهجوم الأعداء ، بشكل أو آخر .

في حين أن قافلة هذا الراوي في البحر ، وصلت إلى هذه الجزر ، بما فيها من مسلمين على اختلاف مستوياتهم ومذاهبهم ، وبما فيها من مسيحيين ! إذن فوجود هؤلاء يؤكد عدم الاختفاء .

الاعتراض الثاني :

إن هاتين الروايتين للانباري والمازندراني ، منافيتان ومعارضتان ، مع عدد من الأخبار الواردة بمضامين مختلفة ... تتفق كلها على نفي مضمون هاتين الروايتين ، كل من ناحيته الخاصة . ومن الثابت أنه كلما تعارض الخبر والخبران مع مجموعة ضخمة من الأخبار ، توجب القطع بمضمونها المشترك ، قدمت المجموعة الضخمة لا محالة، ولم يبق للخبر والخبرين أي اعتبار .

وتتمثل هذه المجموعة المعارضة في هذا الصدد ، في عدة أشكال من الأخبار :

الشكل الأول :

أخبار التمحيص والامتحان الإلهي ، كقول الإمام الباقر عليه السلام :

هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا – يقول ثلاثاً – حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو . وقول الإمام الصادق عليه السلام : والله لتميزن . والله لتمحصن . والله لتغربلن ، كما تعربل الزوان من القمح .

وهي أخبار كثيرة تدل على قانون الهي وقعت من أجله الغيبة الكبرى ، على ما سنوضح في مستقبل هذا التاريخ . وهو قانون عام على كل البشر ، وغير قابل للتخصيص باستثناء مجتمع أو عدة مجتمعات منه . وقد عرفنا أن الاختفاء عن الأنظار ينافي معنى الاختبار والتمحيص ، ويستلزم عدم شمول هذا القانون للمجتمع المختفي . ومعه تكون الأخبار الدالة على التمحيص دالة على نفي وجود مجتمع غير مشمول لهذا القانون .

صفحة (79)

الشكل الثاني :

ما دل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى غير ما دلت عليه هاتان الروايتان ، كالمدينة المنورة ، في أحد الأخبار التي سمعناها ، وكالبراري والقفار في خبر آخر سمعناه .

ونحن وإن كنا قد ناقشنا في هذين الخبرين ، إلا أن ذلك لا ينافي وقوعها طرفاً للمعارضة مع الروايتين ، ليشاركا مع المجموعة في إسقاطهما عن الاعتبار . على أن هناك أخبار أخرى تدل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى، غير ما سبق ، لا حاجة إلى الإفاضة فيها فعلاً .

الشكل الثالث :

الأخبار الكثيرة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غير هذه المدن المفروضة ... بكثرة لا يستهان بها ، على ما سيأتي في الفصل الآتي .

فتدل هذه الأخبار ، على وجود المهدي (ع) ردحاً من الزمن ، خارج تلك المناطق المفروضة ، بل أن سكناه الغالبة ليست هناك . وهو معنى على خلاف ما ادعته هاتان الروايتان من سكناه ووجوده الغالب في تلك المناطق .

إذ لو كانت سكناه هناك حقاً ، لم يكن مقابلته في خارج تلك المناطق ، إلا على سبيل الصدفة أو نتيجة للمعجزة . وكلاهما لا يمكن افتراض وقوعه في المقام : أما الصدفة ، فلكثرة المشاهدات إلى حد يقطع بتعمد الإمام المهدي (ع) لها وليست على سبيل الصدفة . وأما المعجزة فلعدم انطباق المورد على قانون المعجزات ، لعدم انحصار سبب إقامة الحجة على هذه المعجزة التي تقوم من أجل المقابلة .

بل يمكن القول : بأن الانطباع العام الذي تعطيه أخبار المقابلات مع المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، هو كونه ساكناً في العراق ، وإذا حصلت المقابلة في غير هذه البلاد ، فإنما هي لمصلحة مهمة اقتضتها . وهذا ما سيأتي التعرض له في الفصل الآتي مقروناً بالتبرير النظري الذي يبني عليه . ومن الواضح أن سكناه في العراق ينافي سكناه في تلك المدن المفروضة .

صفحة (80)

الشكل الرابع :

الخبر المتواتر عن النبي (ص) بألفاظ متقاربة ، من أن المهدي (ع) بعد ظهوره (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) .

وامتلاء الأرض جوراً وظلماً يستلزم أن أكر أهل الأرض بما فيهم أكثر أفراد المجتمع المسلم أيضاً ، أصبحوا ظالمين منحرفين ... بحيث لا يمكن افتراض وجود مجتمع كامل باق على إخلاصه الكامل للإسلام . ومثل هذا العموم المعطى في هذا الحديث غير قابل للتخصيص والاستثناء . ومعه فوجود مجتمع أو عدة مجتمعات برمتها باقية على إخلاصها للإسلام ، يكون معارضاً لذلك الخبر المتواتر لا محالة . ومهما تعارض الخبر الواحد مع المتواتر ، أخذنا بالمتواتر وطرحنا الخبر الواحد .

وقد يخطر في الذهن : أن المراد من الأرض التي تمتلئ ظلماً وجوراً ، في الحديث النبوي ، هو الأرض المنظورة ، كما هو الظاهر من لفظ الأرض ، دون الأرض المختفية ، كما دلت عليه هاتان الروايتان . ومعه فلا منافاة بين الحديث النبوي المتواتر وبينها .

وجواب ذلك : أننا عرفنا في الاعتراض الأول أن هاتين الروايتين دالتان على عدم اختفاء المدن التي تخبر عن وجودها . وإنما كان اختفاؤها رأياً لبعض الباحثين وقد ناقشناه . ومعه تكون هذه المدن – على تقدير وجودها – من الأرض المنظورة ، فيشملها الحديث النبوي ، فيدل على عدم وجودها .

وقد يخطر في الذهن أيضاً : أن هذه المجتمعات وجدت مخلصة للإسلام خلال الغيبة الكبرى ، وهذا لا ينافي كونها تصبح منحرفة بعد ذلك قبل ظهور المهدي (ع) ليصدق الحديث النبوي الشريف .

وجواب ذلك : إن هذه المجتمعات المفروضة ، قائمة على أساس الدوام والاستمرار في نظامها الإسلامي ، وغير قابلة للانحراف ، بعد الالتفاف إلى كونها تحت الإشراف الدائم للإمام المهدي (ع) نفسه ، كما نطقت به تانك الروايتان .

هذا ... وهناك غير هذه الأشكال من الروايات الصالحة لمعارضة الروايتين ، مما لا نريد الإطالة بذكره ، وهو لا يخفى على المتتبع المتأمل .

صفحة (81)

الاعتراض الثالث :

إن المجتمع المزعوم غير منسجم مع عدد من تعاليم الإسلام المهمة ، في تكوينه الفكري ونظامه الاجتماعي . فهو مجتمع إسلامي ناقص من حيث التطبيق . إذن فالمهدي (ع) لم يؤسسه إذ أن المجتمع الذي يكون المهدي (ع) مؤسساً له ومشرفاً عليه ، لا يكون إلا مجتمعاً كاملاً عادلاً من جميع الجهات . وخاصة بعد أن تتربى عدة أجيال تحت هذا الإشراف ، في جو من الصيانة والحفظ عن الأعداء ، كما هو المفروض في هذه المجتمعات .

ويمكن أن ننطلق إلى بيان هذا النقص عن طريق العوامل التي تدخلت في ذهن الراوي ، خلال روايته ، وقد مزج بينها مزجاً عجيباً ليعرف عن فكرته في تكوين المجتمع العادل و"المدينة الفاضلة" . ونقصد بالراوي كلاً من النباري والمازندراني اللذان رويا تينك الروايتين .

العامل الأول :

العامل الحضاري أو المدني – بالأصح – ، ذلك الذي كان يعيشه الراوي في القرنين السادس والسابع الهجريين . وقد اتضح تأثره بهذا العامل من عدة أمور ذكرها خلال الرواية :

الأمر الأول :

وجود أسوار وأبراج وقلاع للمدينة تجاه البحر ، فإن هذه هي وسيلة الدفاع الأساسية في تلك القرون .

الأمر الثاني :

وجود ماء صاف يوجب غرق السفن المعتدية . وقد كانت السفن البحرية أهم أساليب الهجوم في ذلك العصر .

الأمر الثالث :

إن الراوي أكد على وجود مساجد وحمامات وأسواق كثيرة ، وهي المؤسسات الأساسية المشار إليها في كل مدينة في ذلك الزمان . ولو كان الراوي يعرف المدارس والمستشفيات والجمعيات ونحو ذلك ، لقال أنها موجودة هناك أيضاً .

صفحة (82)

الأمر الرابع :

انعدام الإشارة إلى التجارة في كلتا الروايتين ، وظهورهما بانحصار سبل العيش بالزراعة تقريباً ، إلا ما كان من قبيل التجارات السوقية الصغيرة والحرف اليدوية .

الأمر الخامس :

التأكيد على وجود ريف واسع يحيط بكل مدينة ، يتكون من قرى كثيرة . وهذا هو الشكل الذي كانت عيه المدن بشكل أو آخر ، في عصر الراوي ، وكان الريف ناشئاً من الشكل الإقطاعي والطبقي للمجتمع ، ومن هنا حصل التمييز بين القرية والمدينة . وهو مما لا يعترف به نظام الإسلام .

وهناك أمور أخرى غير هذه ، لا حاجة إلى سردها .ونستطيع أن نؤكد أن المجتمع الذي يكون بإشراف المهدي(ع)، حيث تتربى الأجيال برأيه وقانونه ، لا يمكن أن يبقى ذو صبغة مدنية واطئة ، كما وصفة الراوي ... لا أقل من وجود فكرة مبسطة عن المدارس والمستشفيات والتجارة ، ومحاولة لتطوير وسائل الدفاع ، وتطوير القرى وتثقيف أهلها لكي يصل المجتمع إلى العدل الكامل .

العامل الثاني :

العامل الفكري أو الاتجاه السياسي المركوز في ذهن الرواي نتيجة لشكل الحكم السائد في الدول في تلك العصور .

فكما أن الدول كان في الأعم الأغلب محكومة لملوك مستبدين ، يكون الملك فيها هو الحاكم بأمره ، المطلق العنان في التصرف ، وليس له مجلس وزراء ولا برلمان ولا لجنة استشارية ولا هيئة قضائية ، ولا أي شيء من هذا القبيل . بل هو أما أن يمارس ذلك بنفسه إن استطاع ، وأما أن يهمل ذلك إهمالاً ... فكذلك ينبغي أن يكون المجتمع العادل ، في رأي الراوي .

مع أن هذا بعيد عن روح الإسلام كل البعد ، فإن الإسلام وإن كان يرى للرئيس صلاحية مطلقة في التصرف، إلا أنه لا توقع منه القيام فعلاً بكل شيء . بل أنه يزع صلاحياته على المؤمنين الموثوقين من شعبه ، كل حسب قابليته وموهبته . فهناك قضاة وهناك مستشارين وهناك سلطة تنفيذية كاملة ، بحسب ما يحتاجه كل ظرف من سلطات .

صفحة (83)

وهذا ما أسقطه الرواي بالمرة من مدينته الفاضلة . فيكون هذا المجتمع ناقصاً من حيث التطبيق الإسلامي نقصاناً كبيراً .

وقد يخطر في الذهن : بأن التدبير المباشر حيث كان موكولاً إلى المهدي (ع) عن طريق المراسلة ، فلا حاجة إلى كل هذه التشكيلات .

وجواب ذلك :

إن هذا الإشراف يقتضي الإمساك بالزمام الأعلى للدولة وتحديد سياستها العامة وقواعدها الكلية من الناحية القانونية والاجتماعية والعقائدية . وأما البت في جزيئات الأمور لملايين الناس ، فهو مما يتعذر إيجاده بالمراسلة كما هو معلوم ، إلا عن طريق المعجزة . المعجزة لا تكون هي الأساس أصلاً في العمل الإسلامي وقيادة الدول ، بعد تمامية الحجة على الناس .

وقد يخطر في الذهن ، أن النبي (ص) كان يقود الأمة الإسلامية بمفرده ، فكذلك ينبغي أن يكون عليه الرئيس الإسلامي في كل عصر .

وجوابه :

إن هناك فروقاً بين النبي (ص) وبين غيره عامة وهؤلاء الذين يحكمون هذا المدن المزعومة خاصة ، نذكر منها فرقين :

الفرق الأول :

إن المسلمين كانوا قلة نسبياً وكانت حاجاتهم بسيطة ودخلهم الاقتصادي واطئ ، فكانت القيادة الاجتماعية لشخص واحد عبقري كالنبي (ص) بمكان من الإمكان . وأما عند تكثر الناس وتعقد الحاجات وسعة الدولة، فلا يكون ذلك ممكناً بأي حال ، مهما كان القائد عبقرياً ، لوضوح ، استحالة النظر في مئات القضايا في وقت قصير .

الفرق الثاني :

إن النبي (ص) كان يقود مجتمعه بالصراحة والمواجهة ، على حين تقول الرواية أن المهدي (ع) يقود ذلك المجتمع بالمراسلة . ومن الواضح أن ما تنتجه المراسلة لا يمكن أن يصل إلى نتائج المواجهة بأي حال .

صفحة (84)

العامل الثالث :

العامل الفكري والاتجاه الاجتماعي للقواعد الشعبية المتدينة وعلمائها ، بشكل عام ، في حقبة من الغيبة الكبرى . ولا زال هذا الاتجاه موجوداً عن التقليديين من الناس .

ويتجلى تأثر الرواي بهذا العامل ، في عدة أمور :

الأمر الأول :

التركيز في العمل الإسلامي على جانب العبادات ، والإهمال الكامل أو الغالب للعلاقات الاجتماعية العامة ، ولوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحوها من المسؤوليات العامة في الإسلام ، مما هو قليل في مجتمعاتنا المسلمة منذ عهد غير قريب . ومن هذه الزاوية انطلق الراوي ، إلى مدينته الفاضلة ، فكانت لهذه المسؤوليات ، زاوية مهملة فيها .

الأمر الثاني :

الاقتصار في العمل الإسلامي عند العلماء التقليديين على التدريس وإقامة الجماعة والإفتاء إذا سألهم أحد ، ولا شيء غير ذلك ، ما عدا مصالح شخصية لا تمت إلى المجتمع بصلة .

إذن فينبغي أن يكون الرئيس الأعلى للمدينة الفاضلة ، مقتصراً في عمله على أمثال هذه الأمور ... باعتقاد هذا الرواي .

مع أن علماءنا ، وإن كان – في الأغلب – كذلك ، باعتبار ضعفهم وقصورهم عن تولي الحكم في المجتمع. وأما الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية ، ففتواه هي القانون العام ، وتدريبه هو التوجيه السياسي العام لاطلاع الشعب على آلامهم وآمالهم وحلول مشاكلهم . ويقوم بنفسه أو نائبه الخاص بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها . وأما تدريس العلوم العربية ، بل والفقة أيضاً ... وأما إقامة صلاة الجماعة في سائر الأيام ، فقد تكون مسؤوليات الرئيس وتعقد أعماله مانعاً عن الالتزام بها والاستمرار عليها . وإنما يوكل ذلك إلى غيره من ذوي الكفاءة الاسلامية ، كما يوكل القضاء أيضاً وجانب كبير من السلطة التنفيذية إليهم أيضاً . وكل ذلك مما لم يعرب عنه الراوي في مدينته ، فتكون مدينة ناقصة إسلامياً غير فاضلة .

صفحة (85)

الأمر الثالث :

ما هو موجود بين أغلب أهل المذاهب الإسلامية ، على اختلافها ، من التأكيد على الاتجاه المذهبي ، وغض النظر عن المفهوم الإسلامي العام . وهذا بعيد عن تعاليم الإسلام كل البعد . مع أن هذا موجود بوضوح في المجتمع المزعوم على مستويين :

المستوى الأول : الجدل المطول العميق الذي اهتم به الحاكم في المجتمع المفروض ... ذلك الجدل القائم على أساس مذهبي خالص . فقد كان مهتماً بإثبات صدق أحد المذاهب الإسلامية ضد المذاهب الأخرى ولم يكن مهتماً بإثبات صدق الإسلام ضد الأديان والمبادئ الأخرى ، في حين كان بين الحاضرين مسيحي أو عدة مسيحيين ، لم يفكر هذا الحاكم أن يناقشهم لإدخالهم في الإسلام . وهو من الأمور المؤسفة الشديدة الغرابة .

المستوى الثاني :

عدم تصدي المجتمع المفروض ، مع أنه يتخذ شكل الدولة الإسلامية ، إلى هداية العالم الخارجي ، لا بدعاية عامة ولا بحرب جهادية . مع أن من أوضح تعاليم الإسلام وواجباته هو ولاية الدولة الإسلامية على العالم ووجوب هدايته إلى الحق . ولم تكد تتخلى أي دولة إسلامية في التاريخ عن هذا الواجب ، بل طبقته بحسب الإمكان تطبيقاً واقعياً أو شكلياً . فما بال هذه الدولة المزعومة قد تخلت عن هذا الواجب المقدس .

العامل الرابع :

تأثر الراوي بما سمعه عن اتجاهات الأئمة المعصومين عليهم السلام وأعمالهم ، حال وجودهم قبل الغيبة .

ويظهر ذلك واضحاً في روايته في جهتين :

صفحة (86)

الناحية الأولى :

ما سمعه الرواي من إقامة الأئمة (ع) للمعجزات ونطقهم بالأخبار بالغيب . إذن فينبغي – في رأيه – أن يكون حاكم تلك البلاد المزعومة ، مظهراً للمعجزات وناطقاً بالمغيبات .

إلا أن ذلك لا يجب أن يكون موجوداً في الدولة الإسلامية ، فإن قيادتها وتدبير الأمور فيها لا يعود إلى المعجزة بحال، بعد تمامية الحجة على شعبها في أول دخول الإسلام إليهم أو دخولهم في الإسلام . وعلى ذلك قامت دولة النبي (ص) ، وحسبنا من ذلك قوله (ص) : إنما اقتضى بينكم بالبينات والإيمان . وهو حديث صحيح مستفيض ، يراد بالحصر فيه أنه (ص) لا يستعمل المعجزة وعلم الغيب المسبق في القضاء . وكذلك الحال في سائر تدابير الدولة ، فيما لا يعود إلى إقامة الحجة بصلة .

وقد يخطر في الذهن : أن الأخبار بالغيب الذي صدر من حاكم تلك البلاد ، حين نادات باسمه واسم أبيه ، كان من أجل إقامة الحجة عليه ، فيكون مطابقاً لقانون المعجزات .

وجواب ذلك : إن هذا أمر محتمل ، ولكن ينافيه وجود مناسبات أخرى لإقامة الحجة في ذلك المجتمع ، لم تقم فيها المعجزة . حيث كان هناك مسيحيون تجب هدايتهم إلى الإسلام ، وكان هناك مسلمون من مذاهب أخرى ، اضطر الحاكم إلى الدخول معهم في جدل طويل ، مع أنه كان يمكن أن يستغني بالمعجزة . ومن المعلوم أن هذه المناسبات أولى من مجرد أخبار المسافر باسمه مع كونه متديناً على نفس المذهب والدين.

الناحية الثانية :

ما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى من تكريس الأئمة عليهم السلام ، الأعم الأغلب من جهودهم في قيادة قواعدهم ومواليهم ، وتدبير شؤونهم ومحاولة دفع الأخطار عنهم . إذن فينبغي أن تكون الدولة في عصر الغيبة على ذلك ، في رأي الراوي .

صفحة (87)

مع أن هذا الرأي مخدوش من جبهتين :

الأولى : أن الأئمة (ع) وإن كرسوا غالب جهودهم في سبيل ذلك الهدف ، إلا أن لهم أعمالاً كثيرة على المستوى الإسلامي العام في الارتباط بعملاء المذاهب الأخرى والتقرب إلى قواعدهم الشعبية ، كما سمعنا طرفاً منه في تاريخ الغيبة الصغرى ، وهذا مما لم يلتفت إليه الراوي ليطبق مجتمعه عليه .

الثانية : إن الأئمة عليهم السلام إنما كرسوا جهودهم في قواعدهم الشعبية ، باعتبار انعزالهم عن الحكم وبعدهم عن المستوى السياسي العالي ، بسبب ما كانوا يواجهونه من الضغط والمطاردة من الجهاز الحاكم يومئذ .

وأما "المدينة الفاضلة" التي تكلم عنها الراوي ، فهي – لو صحت – تمثل دولة إسلامية . والدولة الإسلامية يجب عليها أن تفرض سلطتها على كل المجتمع المسلم بما فيه من مذاهب واتجاهات بل وبما فيه من أديان... بشكل متساو ، وتستهدف المصلحة الإسلامية العليا بالنسبة إلى الجميع . وهذا حكم اتفقت عليه سائر المذاهب الإسلامية، وطبقته كل الدول المسلمة على مر التاريخ .

ولا يجوز للدولة الإسلامية أن تقصر سلطانها على الشعب الموافق لها في المذهب بأي حال من الأحوال . كما أراد هذا الراوي أن يقول .

ومعه فقد تحصل من هذا الاعتراض الثالث أن هناك ما لا يقل عن اثنتي عشرة جهة من جهات النقص المهمة في التطبيقات الإسلامية ، في هذه المدينة الفاضلة . وبعضها تكاد تكون من ضروريات الدين على مستوى الحكم الإسلامي العام .

إذن فهذا المجتمع المزعوم غير موجود ، إذ لو كان موجوداً وكان تحت الحكم المباشر للمهدي (ع) وقيادته، لما أمكن أن يكون ناقصاً بأي حال .

إذن ، فانطلاقاً من هذه الاعتراضات الثلاثة ، واعتراضات أخرى لا مجال لتفصيلها ، تسقط الروايتان للانباري والمازندراني عن الاعتبار ، ومعه فلا يبقى دليل تأسيس المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً نموذجياً . وإنما هو مذخور للقيام بدولة الحق والعدل في العالم كله في اليوم الموعود . عجل الله فرجه .

صفحة (88)

الفصل الرابع

في مقابلاته عليه السلام خلال غيبته الكبرى والمصالح والأهداف التي يتوخاها من ورائها

وينبغي أن ننطلق إلى الحديث عن ذلك في ضمن جهتين رئيسيتين ، باعتبار انقسام الحديث ، تارة إلى ما تقتضيه القواعد العامة من ذلك ، وأخرى إلى ما تدل عليه الروايات الناقلة لتفاصيل المقابلات .

الجهة الأولى :

فيما تقتضيه القواعد العامة من خصائص المقابلات :

ويقع الكلام في ذلك ، ضمن أمور :

الأمر الأول :

في أنه هل يرى المهدي (ع) على الدوام ، بحيث تستطيع أن تقابله وتحادثه متى سنح لك ذلك ، أو لا .

يختلف الجواب على مثل هذا السؤال ، نتيجة للأخذ بإحدى لأطروحتين الرئيسيتين السابقتين . فإن رأينا صحة أطروحة خفاء الشخص ، كان الجواب بالنفي لا محالة ، ما لم تتعلق مصلحة خاصة وإرادة من قبل المهدي (ع) في الظهور والمقابلة .

صفحة (89)

وقد سبق أن أشرنا أنه باء على الأخذ بهذه الأطروحة يكون الشيء الدائم هو الاختفاء الإعجازي ، وما هو الاستثناء هو الظهور الطبيعي المتقطع القليل وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان ، وهي التي اخترناها واستدللنا على صحتها ، فهنا مستويات ثلاثة للمقابلة :

المستوى الأول :

مقابلة المهدي (ع) بشخصيته الثانية ، حال كونه مجهول الحقيقة مغفولاً عنه بالمرة .

وهذا المستوى متوفر دائماً للناس الذي يعايشونه في مجتمع أو الذين يصادفونه في أي مكان كان . طبقاً لمفهوم هذه الأطروحة .

المستوى الثاني :

مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع عدم الالتفات إلى ذلك إلا بعد انتهاء المقابلة .

وهذا المستوى هو الذي سارت عليه المقابلات الاعتيادية المروية ، على ما سنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل مشفوعاً بالتبرير النظري له .

المستوى الثالث :

مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع الالتفات إلى ذلك في أثناء المقابلة . وهذا المستوى قليل في روايات المشاهدة جداً ، باعتبار كونه مخالفاً في الأغلب للمصلحة ، ومنافياً للغيبة التامة ، على ما سنسمع.

الأمر الثاني :

في كيفية المقابلة معه عليه السلام .

ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الأطروحتين الرئيسيتين :

أما بناء على الأخذ بالأطروحة الأولى ، فتحتاج المقابلة إلى عدة معجزات ، بعد أن عرفنا أن مفهوم هذه الأطروحة يتضمن الاختفاء الإعجازي الدائم . ولا يمكن أن تحدث المقابلة مع استمرار الاختفاء بطبيعة الحال ، إذن فلا بد من حدوث عدة معجزات لإتمام الغرض من المقابلة .

المعجزة الأولى :

ظهوره بعد استمرار الاختفاء بكل استثنائي ، اقتضته مصلحة خاصة . وهذا الظهور يقطع الحالة الإعجازية الدائمة للاختفاء ، فيكون هو معجزة أيضاً .

صفحة (90)

المعجزة الثانية :

إقامة الحجة القاطعة على إثبات حقيقته وأنه هو المهدي (ع) . بحيث يثبت ذلك ولو بعد انتهاء المقابلة .

وهذه المعجزة ضرورية لإثبات حقيقته ، بعد العلم أن الرائي جاهل بالمرة بشكل الإمام المهدي (ع) وسحنته. ومن الواضح أنه لا يكفي للرائي مجرد إدعاء كونه هو المهدي المقصود ، بل يحتاج لا محالة إلى إقامة الحجة بالمعجزة لإثباته .

المعجزة الثالثة :

اختفاؤه بعد الظهور ، وعوده إلى حالة الاختفاء الأولى بعد أن يكون قد أنجز المطلوب من المقابلة .

فهذا ما تحتاجه المقابلة لو صحت الأطروحة الأولى .

وأما لو أخذنا بالأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : بأن الشيء الدام بالنسبة إلى المهدي (ع) هو الظهور الشخصي مع خفاء العنوان ، كما سبق أن أوضحناه ... فالمعجزة الأولى لا حاجة لها على الإطلاق . بل حسب المهدي (ع) أن يقابل الفرد كأي إنسان آخر ، وينجز ما هو المطلوب من مقابلته ، ويعرفه بحقيقته ، ولو بحسب النتيجة ، أي ولو بعد المقابلة .

كما لا حاجة ، في الأعم الأغلب إلى المعجزة الثالثة ، أعني الاختفاء بعد المقابلة . بل يكون ذهاب المهدي (ع) بعد انتهائها طبيعياً ، ولو بتخطيط مسبق يقوم به المهدي (ع) لأجل تنفيذ  الذهاب بشكل لا يكون ملفتاً للنظر .

نعم ، لو وقع الإمام في ضيق وحرج عند مقابلته ، بحيث تعرضت غيبته العامة إلى الخطر ، كان لا بد له من الإخفاء الإعجازي ، وهو مطابق – في مثل ذلك – لقانون المعجزات ، لأن في حفظ غيبته تنفيذاً لليوم الموعود .

وأما المعجزة الثانية ، وهي التي تثبت بها حقيقته ... فهي مما لا بد منه في الأعم الأغلب جداً من المقابلات . لما أشرنا إليه من أن الفرد حيث لا يعرف المهدي بشخصه ولا يكفيه مجرد دعوى كونه هو المهدي (ع) ، كان لا بد من إقامة الحجة لإثبات صدقه ، والحجة لا تكون إلا بالمعجزة ، ومن هنا كانت هذه المعجزة مطابقة لقانون المعجزات.

صفحة (91)

نعم ، قد يستغنى أحياناً عن هذه المعجزة ، فيما إذا كان الشخص الرائي ممن يعرف المهدي (ع) بشخصه وعنوانه. كما لو كان رآه في مرة سابقة وقامت الحجة لديه على حقيقته ، ثم رآه ثانياً وعرفه ، فلا حاجة به إلى إقامة الحجة تارة أخرى . ومعه يكون لقاؤه مع المهدي عليه السلام طبيعياً جداً ، من دون أن تقع أي معجزة .

والمثال الواضح لذلك هو السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى . فإنهم يعرفون المهدي (ع) بشخصه وعنوانه ، ويأخذون منه التوقيعات . ومثاله في الغيبة الكبرى ما يظهر من بعض الروايات أن الخاصة من المخلصين يجتمعون بالمهدي (ع) ويعرفونه ، على ما سيأتي . كما يظهر من بعض الروايات أن السيد مهدي بحر العلوم كان كذلك أيضاً، على ما سنسمع في أخبار المقابلات .

الأمر الثالث :

ماهي المصالح المتوخاة والأهداف المطلوبة للمهدي عليه السلام من مقابلته للآخرين ، بمقدار ما تهدينا إليه القواعد العامة . وسنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل تفاصيل ذلك وتطبيقاته .

وما ينبغي أن يكون هدفاً له عليه السلام من المقابلات ، هو قيامه بالمسؤولية الإسلامية ، بأحد الأنحاء التي سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني من هذا القسم من التاريخ ... فيما إذا انحصر تنفيذها على المقابلة مع الآخرين بالشخصية الحقيقية ، ولم يمكن القيام بها حال الاستتار والجهل بالعنوان . وكانت الواقعة مشمولة للشروط التي ذكرناها في ذلك الفصل لعمله الإسلامي المثمر في المجتمع ، سواء على الصعيد الخاص أو الصعيد العام .

فقد يكون هدفه إنقاذ شخص من ضرر وقع عليه أو إنقاذ مجتمع من تعسف ظالم عليه . أو هداية شخص وتقويمه من الانحراف العقائدي أو الكفر أو الانحراف السلوكي ، أو الدفاع عن شخص أو مجتمع ضد الانحراف ، أو نحو ذلك من الأهداف التي كنا قد حملنا عنها فكرة فيما سبق ... مع توفر شروط العمل فيها لا محالة .

صفحة (92)

الأمر الرابع :

في كيفية حضور الإمام المهدي (ع) للمقابلة الصريحة ، مع الآخرين .

وإنما يثار التساؤل عن ذلك ، باعتبار ما قد يخطر في الذهن من أنه إذا كان الشخص الذي يريد المهدي (ع) مقابلته بعيداً عنه ، بحيث يحتاج إلى سفر طويل . فما الذي يمكن له أن يفعله . وذلك بعد الالتفات إلى نقطتين :

النقطة الأولى :

إن بعد المسافة هو الغالب في موارد عمل الإمام عليه السلام ، لأنها متفرقة على وجه البسيطة . ومن هنا يضطر الإمام إلى السفر المتطاول دائماً لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم .

النقطة الثانية :

أنه قد يكون في كثرة الأسفار خطر على غيبته ومظنة لانكشاف أمره ، وخاصة بعد أن فرض العمل عن طريق المقابلة بالشخصية الحقيقية .

والجواب على ذلك يكون بإعطاء عدة أساليب ممكنة للمقابلة ، وتذليل الصعوبة المشار إليها في السؤال . مع الاعتراف أنه إذا لم يكن شيء منها ممكناً ، وكان فيها خطر على غيبته ، فإن عليه السلام لا يمارس العمل ، لأن العمل نفسه وإن فرض جامعاً للشرائط ، إلا أن الطريق إليه متعذراً ومقدماته خطرة ، وإيجاد العمل بدون مقدماته ممتنع . إذن فينسد باب العمل جزماً .

وتتلخص الأساليب المحتملة في عدة وجوه تختلف باختلاف الموارد :

الوجه الأول :

أننا لا حاجة لأن نفترض كون الشخص الذي يريد المهدي مقابلته بعيداً . بل يمكن أن يكون قريباً ، يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش المهدي (ع) فيه ... فلا يحتاج إلى سفر أو مضي مدة . سواء كان المهدي (ع) يعيش في ذلك المجتمع مختفياً ، طبقاً للأطروحة الأولى ، أو ظاهراً مجهول العنوان ، طبقاً للأطروحة الثانية . 

ومعه لا مجال للسؤال عن صعوبة المقابلة بأي حال .

صفحة (93)

الوجه الثاني :

مجرد الصدفة ... وهو أمر محتمل في بعض المقابلات ، فيما إذا صادف المهدي (ع) في بعض أسفاره شخصاً أو أناساً محتاجين إلى العمل في سبيل إنقاذهم أو هدايتهم ... بشكل تتوفر فيه الشرائط .

وحمل جميع المقابلات على مجرد الصدفة ، غير ممكن لكثرة المقابلات على مر التاريخ ، بحيث نعلم أن عدداً مهماً منها كان نتيجة لتخطيط وتعمد من قبل المهدي (ع) ... إلا أن بعضها يمكن أن يكون قد حدث صدفة .

ومعه ، ففي مورد الصدفة لا حاجة إلى السؤال عن كيفية تجشم السفر أو استلزامه لانكشاف الغيبة . فإن المفروض إن السفر لم يكن لأجل المقابلة ، وإنما كان لأهداف أخرى خطط فيها بقاء الاختفاء واستمرار الغيبة .

الوجه الثالث :

إن المهدي (ع) إذ يعلم وجود مورد للعمل المثمر الحاصل على الشرائط في مكان بعيد عنه من العالم ، ويكون الطريق إليه مأموناً بالنسبة إليه ، فإنه يقصده قصداً ويسافر إليه عمداً بطريق طبيعي جداً ، ليقوم بالوظيفة الإسلامية المقدسة في أنحاء المعمورة .

وهذا ممكن للغاية ، مع التخطيط لدفع الأخطار المحتملة . حيث يكون للمهدي (ع) أن يسافر وأن يرجع بشخصيته الثانية ، ولا يكشف حقيقته إلا للفرد المنوي مقابلته .

ونحن بعد أن نلتفت إلى الوجوه الأخرى ،لا نجد هذا الوجه هو الغالب في المقبلات ،لكي يستلزم أن يكون المهدي(ع) مضطراً إلى السفر المتطاول المستمر في سبيل قضاء حوائج الناس ، كما فهمنا من السؤال .

وعلى أي حال ، فهذين الوجهين الثاني والثالث ، منسجمين أيضاً مع الأطروحتين الرئيسيتين ، فإن مصادفة مورد العمل أو قصده سفراً يمكن أن يكون مع اختفاء الشخص كما يمكن أن يكون مع خفاء العنوان .

صفحة (94)

الوجه الرابع :

اتخاذ المعجزة في قضاء الحاجة أو العمل في سبيل هداية أو دفع ظلامة . سواء من ناحية سرعة الوصول بشكل إعجازي إلى المناطق البعيدة من الأرض أو من أي ناحية أخرى تحتاج إلى الإعجاز .

وهذا الوجه منسجم مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين . ولكنه ، طبقاً لقانون المعجزات ، منحصر بما إذا تضمن العمل في بعض الموارد إقامة الحجة على الآخرين ، بإيجاد الهداية أو برفع بعض أشكال الظلم . ومن البعيد أن نتصوره متحققاً في قضاء حاجة شخصية مهما كانت الضرورة فيها قصوى ، ما لم يكن راجعاً إلى إقامة الحجة ، بنحو من الأنحاء .

وهذه المعجزة التي نتحدث عنها الآن ، هي غير تلك المعجزة التي يستعملها المهدي (ع) لإثبات حقيقته للآخرين . ومن هنا قد يحتاج إلى كلتا المعجزتين ، وقد يحتاج إلى إحداهما ، وقد يتكفل إنجاز كلا الغرضين: سرعة الوصول والكشف عن حقيقته ، بمعجزة واحدة . كما قد لا يحتاج إلى شيء منها أحياناً... ذلك باختلاف خصائص كل واقعة وكل شخص تطلب مقابلته .

وبهذا ينتهي المقصود من بيان ما تقتضيه القواعد في مقابلات المهدي (ع) ، فلا بد أن ننظر إلى الأخبار الخاصة لنرى مقدار ما تثبته من المشاهدة ، وهل أنه منسجم مع ما تمّ طبقاً للقواعد العامة أو لا .

الجهة الثانية :

في الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى . وهي عدد ضخم يفوق حد التواتر بكثير ، بحيث نعلم ، لدى مراجعتها واستقرائها ، بعدم الكذب والوهم والخطأ فيها في الجملة . وإن كانت كل رواية لو روعيت وحدها لكانت قابلة لبعض المناقشات على ما سوف يأتي .

والحاصل منها في اليد ، ما يفوق المئة ، يذكر منها الشيخ المجلس في البحار(1) عدداً منها ، ويذكر منها الحدث النوري في النجم الثاقب مئة كاملة .

_________________________

(1) الجزء الثالث عشر ، ص 143 وما بعدها .

صفحة (95)

وقد كتب أيضاً رسالة خاصة في ذلك سماها "جنة المأوى" ألحقت بالجزء الثالث عشر من البحار ، يذكر فيها تسعاً وخمسين حادثة وهناك على الألسن والمصادر ال أخرى ما يزيد على ذلك بكثير .

على أننا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) أنه يحتمل – إن لم يكن يطمئن أو يجزم – بأن هناك مقابلات غير مروية أساساً ، وأن المهدي عليه السلام يتصل بعدد من المؤمنين في العالم في كل جيل ، مع حرصهم على عدم التفوه بذلك وكتمه إلا الأبد ، تحت عوامل نفسيه مختلفة شرحناها هناك . بل من الممكن القول بأن المقابلات غير المروية أكثر بكثير من المقابلات المروية .

وعلى أي حال ، فينبغي أن نتكلم في ما وردنا من الأخبار ، من حيث تحميص أقسامها ، ومن حيث معطيات مدلولها، في ضمن عدة أمور :

الأمر الأول :

في تمحيص هذه الروايات ، ومعرفة أقسامها ، فأنها ليست على نسق واحد وأسلوب مطرد في مقابلة المهدي عليه السلام ، بل يختلف الحال فيها اختلافاً كبيراً . ومرد هذا الاختلاف إلى الاختلاف في ظروف الشخص الرائي ومقدار وثاقته وضعفه وسنح الهدف الذي يستهدفه الإمام من وراء المقابلة ، وطريقة التخطيط الذي يضمن به سلامته وإخفاء نفسه . وبذلك تكاد تختلف كل رواية عن الأخرى ... وما يمكن أن يعنون من الاختلافات هو ما نذكره في الأقسام التالية ، نذكره بنحو قابل للتداخل وإمكان اندراج رواية واحدة في أكثر من قسم واحد :

القسم الأول :

ما كان منها متضمناً لإسناد أكثر من معجزة واحدة للإمام المهدي عليه السلام : اثنتين أو ثلاث ... وقد تصل إلى أربع .

_________________________

(1) انظر ص 647 وما بعدها .

صفحة (96)

وقد سبق أن ذكرنا أنه لا حاجة إلى المعجزة إلا بمقدار إقامة الحجة ، ويكون الزائد أمراً مستأنفاً لا يصدر عن الخالق الحكيم . ومعه لا بد من إسقاط المعجزات الزائدة عن ذلك عن نظر الاعتبار ، ما لم نجد لها وجوهاً للتصحيح ... وإن كان ذلك لا يسقط مجموع الرواية ولا الدلالة على مقابلة الإمام المهدي ، لما ذكرناه من أن سقوط بعض مدلول الرواية لا يقتضي سقوط الجميع .

إلا أننا لا نعدم وجوهاً للتصحيح :

الوجه الأول :

أننا وإن قلنا أن المعجزة منحصرة بمورد إقامة الحجة ، إلا أن ذلك كما يقتضي عدم زيادتها على ذلك يقتضي عدم نقصها عن هذا الحد أيضاً . فلا بد من إقامة المعجزة بنحو يقنع الفرد العادي ، وينتفي بها احتمال الصدفة والتزوير، ولا تكون قاصرة عن ذلك . وأما لو كانت المعجزة مختصرة وغير ملفتة للنظر ، فقد لا تحمل الفرد الاعتيادي على الاقتناع .

ومعه فقد تمس الحاجة – أحياناً – إلى ضم أكثر من معجزة واحدة إلى بعضها البعض ، لكي تحصل القناعة . وهذا هو الذي وقع في عدد من أخبار المشاهدة التي نحن بصدد الحديث عنها . وقد سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى كيف كان يقيم المهدي (ع) دلالتين منضمتين ، حيث يقول بعض المؤمنين لأخيه المؤمن : لا تغتم فإن لك في التوقيع إليك دلالتين : إحداهما : إعلانه إياك أن المال ألف دينار . والثانية : أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعلمه بموت حاجز .

الوجه الثاني :

أن نفهم – ولو احتمالاً - : أن الإمام المهدي (ع) له اهتمام خاص بالشخص الذي يقابله ، بحيث يريد أن يقيم له حجة واضحة جداً . فيضم معجزة إلى معجزة ، حتى يتحقق ذلك . ويكون ذلك واقعاً في طريق إقامة الحجة عليه ، فينسجم مع قانون المعجزات .

الوجه الثالث :

أننا ذكرنا أنه قد يحتاج المهدي (ع) أحياناً إلى أكثر من معجزة واحدة ، لكي تكون إحداها للدلالة على حقيقته وتكون الأخرى للاختفاء الإعجازي لدى الحاجة .

صفحة (97)

وهذا صحيح ، لولا ما قلناه من أن الاختفاء يكون طبيعياً وغير ملفت للنظر على الأغلب ، وما سوف نقوله من أن معجزة واحدة كافية لإيجاد كلا الأثرين :

أعني الدلالة على حقيقته والاختفاء .

وعلى أي حال ، فلا بأس من تعدد المعجزة في الحادثة الواحدة ، ولكن إن ثبت أنها مما لا مبرر لها بحسب القواعد العامة ... فلا بد من طرحها عن مدلول الرواية ، وإن لم يكن طرحها ملازماً لطرح كل المدلول .

القسم الثاني :

ما كان منها مكرساً على قضاء الحاجات الشخصية ، وهو الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة . وأما ما كان منها لقضاء حاجة عامة أو هداية مجتمع كامل أو إنقاذه من الظلم ونحو ذلك ... فهو قليل الوجود في هذه الروايات ، على ما سوف نشير إليه .

ونحن في فسحة واسعة – بعد كل الذي عرفناه – من حيث إمكان ذلك ، وتعقل صحته ومطابقته مع القواعد العامة. وذلك من أجل عدة وجوه :

الوجه الأول :

إن المهدي (ع) يكرس عمله الاجتماعي المثمر العام ، بصفته مختفياً ، او بشخصيته الثانية . وقد سبق أن حملنا فكرة كافية عن أسلوبه في ذلك . لأنه عليه السلام يرى أن ذلك أضمن لسلامته ، ومن ثم يكون أفسح فرصة لتعدده وكثرته وعمق تأثيره ، بدون أن يعرف أحد أن التأثير وارد من قبل المهدي (ع) ليكون منقولاً عنه في أي رواية من الروايات . 

الوجه الثاني :

أن نحتمل – والاحتمال كاف في أمثال هذه الموارد ، كما برهنا عليه في المقدمة – : إن الإمام المهدي (ع) عمل أعمالاً عامة عديدة في خلال العصور بصفته الحقيقية . ولكنه لم ينقل خبره إلينا إلا بهذا المقدار القليل . وذلك : لأحد مانعين :

الأول : إن الإمام بنفسه يأمر الآخرين بالكتمان ، أما لتوقف غيبته على ذلك ، إن لتوقف نفس المخطط الإصلاحي عليه أحياناً . كما لو كان يتوقف على إقناع أشخاص من غير قواعده الشعبية .

صفحة (98)

الثاني : إن العمل الشخصي بطبيعته أكثر إلفاتاً للنظر وأجدر بالنقل والرواية من العمل الاجتماعي العام ، في نظر أولئك الرواة غير الواعين الذي ينظرون إلى الكون والحياة من زواياهم الخاصة ومصالحهم الضيقة . وقد كان البشر ولا يزالون محافظين على هذا المستوى الواطئ ، وسبقون كذلك إلى يوم ظهور المهدي (ع) وقيامه بالعدل التام .

ومن ثم كان العمل الاجتماعي مهملاص في نظر الرواة ، وكان العمل الشخصي مؤكداً عليه عندهم ومنقولاً بإسهاب في رواياتهم . ومن هنا لا نجد من الروايات الدالة على عمل المهدي (ع) في الحقل العام إلا القليل.

الوجه الثالث :

أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق – إن عدداً من المظالم العامة والخاصة الموجودة في العالم على مر العصور ، لا يتوفر فيها الشرط الأول من الشرطين اللذين ذكرناهما وقلنا أن كل شيء يكون على هذا المستوى يجب إهماله تنفيذاً للمخطط الإلهي في حفظ المهدي (ع) ليوم الظهور الموعود .

الوجه الرابع :

أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق أيضاً – : إن عدداً من أنحاء الظلم العام الساري في المجتمع على مر التاريخ ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السالفين ... بمعنى كونه دخيلاً في تحقيق وعي الأمة وإدراكها لمسؤولياتها الإسلامية تجاهواقعها وتجاه نفسها وربها ومستقبلها . وهذا هو أحد الشروط الأساسية في تحقق ظهور المهدي عليه السلام على ما سنعرف. إذن فالمهدي ، حرصاً على تحقق شرط الظهور ،لا يعمل على إزالة هذا الظلم العام.

وهذا بخلاف الحال في المظالم الخاصة ، فأنها لو لوحظت منفردة لا تكاد تؤثر في وعي الأمة .

صفحة (99)

وعلى أي حال ، فما لا يكون دخيلاً في وعي الأمة أو الفرد ، يمكن أن يسعى المهدي (ع) إلى إزالته مع توفر سائر الشرائط فيه . وحيث كان عدم التأثير متوفراً في الظلم الشخصي ، وغير متوفر في الظلم العام ، كان عمل المهدي (ع) في إزالة الظلم الشخصي أكثر منه في إزالة الظلم العام. 

إذن ، فمن المنطقي جداص ، على أساس هذه الوجوه الأربعة ، المتوفر واحداً منها أو أكثر في كل مقابلة ، أن يصبح العمل العام للإمام المهدي (ع) أقل من العمل الخاص ، أو أن تكون روايته أقل على أقل تقدير .

القسم الثالث :

من روايات المشاهدة ، ما لا يظهر فيه الإمام المهدي (ع) على مسرح الحوادث بوضوح ، وذلك بالنسبة إلى الراوي – على أقل تقدير – . بل يقوم الدليل القطعي عند الراوي المتحدث أن شخصاً آخر رآه وعره أو رآه ولم يعرفه إلا بعد ذهابه .

وهذا القسم يمثل بعض ما ذكره الحاج النوري من الأخبار المئة في "النجم الثاقب" . وهو غير مضر بكونه من أخبار المشاهدة . فإننا لا نعني من المشاهدة : مشاهدة المتحدث عن نفسه والراوي عن رؤيته فقط ... بل مشاهدة أي إنسان للمهدي (ع) . وهذا ما تضمن هذه الروايات الأعراب عنه .

القسم الرابع :

الروايات التي تدل على وجود المهدي (ع) من دون أن يراه أحد ، لا بمعنى اختفائه اختفاء شخصياً ، بل بمعنى أن الناس قد يتوسلون إلى المهدي (ع) بالنداء والدعاء بأن يقضي حاجتهم ويتوسط إلى الله عز وجل في تذليل مشكلاتهم ، فتقضى حاجتهم وتحل مشاكلهم ، أما بشكل طبيعي اعتيادي ، وأما بشكل لم يكن متوقعاً لصاحب المشكلة أساساً ، بحيث يضطر إلى الإذعان والجزم بكونه حاصلاً نتيجة لدعاء المهدي (ع). وبذلك يثبت وجوده عليه السلام ، وعنايته بمن يتوسل إلى الله عز وجل في حل مشكلاته .

وهذا القسم يمثل بعض أخبار المشاهدة ، وهو موجود على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من المضطرين والمحتاجين . فإن الإمام بقربه إلى الله تعالى وكماله لديه يكون مستجاب الدعوة ، فيمكنه أن يستعمل دعاءه في قضاء حوائج الآخرين ، حين يرى المصلحة في ذلك . 

صفحة (100)

وهذا هو أبعد طريق عن الشبهة والخطر بالنسبة إليه ، كما هو واضح . كما أنه يكون عملاً من الأعمال المنتجة  بصفته ذو تأثير حقيقي في الخارج . وإنما يسقط الدعاء من كونه عملاً منتجاً فيما إذا كان بعيداً عن الإخلاص وعن إدراك حقيقة المسؤولية ، ومن ثم يكون بعيداً عن الإجابة فلا يكون منتجاً .

القسم الخامس :

الأخبار التي تدل على أنه شارك في إقامة الحجة على افرد ، بعض ما رآه في المنام أيضاً ، مضافاً إلى الحوادث التي عاشها في اليقظة .

وهذا الأمر ليس بالبعيد مع اقتران خصيصتين :

الأولى : إذا كانت إقامة الحجة على مستوى المعجزة .

الثانية : أن يكون لبعض ما رآه أثر في عالم اليقظة ، ولم تكن الحادثة مقتصرة على المنام وحده .

وكلا الخصيصتين مجتمعتان في الأخبار المندرجة في هذا القسم مما سطر في المصادر أو شوهد بالوجدان أو سمع بالنقل . ومعه تندرج هذه الأخبار فيما يدل بالدلالة القطعية على وجود المهدي (ع) ، وإن لم تندرج في أخبار المشاهدة .

وأود أن أشير في المقام إلى أنه ليس هناك أي دليل عقلاً ولا شرعاً على بطلان كل الأحلام جملة وتفصيلا .  نعم ، لا شك في أكثرها زائل ولا حقيقة له ، وإنما هو ناشئ عن نوازع نفسية لا شعورية لدى الفرد .  ولكن مما لا شك فيه وجود الأحلام المطابقة للواقع ، والتي يجد الفرد تطبيقها في عالم اليقظة بنحو أو بآخر ، وإنكار ذلك مكابرة واضحة على الوجدان ، وأنت حر بإعطاء أي تفسير لذلك عدا الصدفة المحضة التي يقطع بعدمها نتيجة للكثرة الكاثرة من الأحلام الصادقة على مر التاريخ .

فإذا اقترن الحلم بأمر زائد على مجرد المطابقة للواقع ، كان – ولا شك- من قبيل المجزات ، كما لو دعا لك شخص في المنام فشفيت في اليقظة أو وعدك بتحقق أمر فتحقق ، أو أخبرك بشيء لم تكن تعلمه ، وكان حاصلاً حقيقة .

ومع ذلك لا نريد أن نثمن تلك الروايات التي تقتصر على مجرد المنام ، فان مثل ذلك غير موجود في أخبار المشاهدة على الاطلاق . وإنما يوجد قسم منها تشارك اليقظة والنوم في إيجاد المعجزة للدلالة على حقيقة المهدي. وهو من أوضح الدلائل على صقد المنام . 

صفحة (101)

وعلى أي حال ، فهذا القسم قليل العدد في روايات المشاهدة .  ولو قدر لنا إسقاط المنام عن نظر الاعتبار، لكان لنا في ما حدث في اليقظة حجة وكفاية .

القسم السادس :

الأخبار الدالة على الحاج النوري في ذلك روايتين ، كان المهدي (ع) في احداهما بصورة "سيد" يعرفه الراوي ويعرف كونه جاهلاً واطئ الفهم والثقافة. وقد فهم كونه هو المهدي (ع) لما ذلكر من أمور علمية مع إنكار ذلك الشخص أنه كان هو القائل لذلك (1) . وكان المهدي (ع) في الثانية في صورة "شيخ" يعرفه الراوي (2) .

وهاتان الروايتان ، ونحوهما ما يثبت تشكل الامام المهدي (ع) في سحنته وجسمه أشكالاً مختلفة ، بحيث من الممكن انطباقها على أشخاص بعينهم ... يختلف حسابهما بالنسبة إلى الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين :

أما أطروحة خفاء الشخص ، فهي وإن لم تقتض ذلك علىوجه التعيين ، لامكان أن يراه الرائي عند ارتفاع خفائه بشكل موحد في كل المرات . ولكن قد يتخيل من يقول بهذه الأطروحة : بأن حال المهدي (ع) وغيبته ، لما كانت مبتنية على المعجزات ، كما هو مفروض هذه الأطروحة ، فمن الممكن أن تتوسع في المعجزات إلى كثير من خصوصيات الامام (ع) وأموره ، حتى فيما يرتبط بشكله وسحنته ... ما دام الله تعالى قادراً على كل شيء .

ولكن الواقع ، أننا إذا سرنا في هذا التصور عدة خطوات ، لواجهنا انحرافاً خطيراً وفهماً خاصاً باطلاً للتصورات والقواعد الاسلامية ، لسنا بصدد تفصيله .

_________________________

(1) النجم الثاقب ، ص 368 وما بعدها . (2) المصدر ص 373 .

صفحة (102)

هذا ويراد بالسيد والشيخ من كان بزي رجال العلم الديني الاسلامي .غير أن السيد من كان من العلويين منهم والشيخ منهم من لم يكن كذلك .

والصحيح هو ما قلناه في تأسيس الأطروحة الثانية ،من قانون المعجزات ،وإن كون الله تعالى قادراً على كل شيء، لا يقتضي إيقاعه للمعجزات بعدد كبير وبدون مبرر واضح .  بل لابد من اقتصاره على مورد إقامة الحجة ، وتربية البشر .

فإذا تمّ ذلك ، عرفنا أننا نعترف بإمكان ما قيل من تغير شكل الإمام-موقتاً – عند انحصار إقامة الحجة على ذلك أو توقف مستقبله الموعود عليه .غلا أن ذل كمما لا يكاد يوجد له مصداق أو تطبيق في أي مورد ن لما سبق أن عرفناه من إمكان إيجاد المقابلة وإنهائها بشكل طبيعي ، أو بإيجاد معجزة واحدة هي الاختفاء عند الضرورة ، مع الحفاظ على شكله الذي هو قوام شخصيته بين الناس . وإذا أمكن ذلك ، انتفت الحاجة إلى تغير الشكل بالمعجزة ، وإذا انتفت إليها الحاجة لم يكن لوجودها سبيل ، بحسب قانون المعجزات .

وينفي هذا المضمون أيضاً ، ما سبق أن سمعناه من أن عدداً من الأفراد يعرفون الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى وفي غيبته الكبرى ، بشكل وسحنة موحدة بالرغم مما قد يتغير من زيه وملبوسه.

القسم السابع :

من أخبار المشاهدة ما دل على مشاهدة المهدي (ع) في العراق أو وسطه وجنوبه على وجه خاص . وهذا يشمل الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة .

ومع ، فقد يخطر في الذهن : أن هذا الاختصاص بمنطقة معينة من العالم مما لا يناسب الوظيفة الإسلامية التي عرفناها للمهدي طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية ... من تنفيذ عدد من مصالح المسلمين وحل مشاكلهم ، مما هو مستجمع للشرائط السابقة ، وخاصة مما يمت إلى قواعده الشعبية ومواليه بصلة . ومن المعلوم أن عمله في خصوص العراق ،يجعل هناك ضيقاً في نشاطه لا عن المسلمين فقط ،بل عن قواعده الشعبية في غير العراق أيضاً، فكيف نستطيع أن نفسر هذه الأخبار .

والجواب عن ذلك يكو من عدة وجوه :

الوجه الأول :

إن الأخبار المثبتة لمشاهدته عليه السلام في غير العراق، لا قصور فيها من حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد . على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً .

صفحة (103)

الوجه الثاني :

أننا ينبغي أن نلتفت إلى ما قلناه من أن هناك عدداً ضخماً من المشاهدات غير المروية، قد يفوق العدد المروي منها .

إذن ، فمن المحتمل أن يكون عدد مهم من المشاهدات واقع خارج العراق ، ولم تسنح الظروف – التي أشرنا إلى بعضها – بنقل أخبارها إلينا .

كما ينبغي أن لا ننسى ما قلناه من أن المهدي عليه السلام يعمل الأغلب من أعماله بشخصيته الثانية وبصفته فرداً عادياً في المجتمع ، ومثل هذه الأعمال تحصل ولا يردنا خبرها بطبيعة الحال .  أو قد يصلنا الخبر ولا نعرف انتسابها إلى المهدي (ع) بحقيقته .

ومعه فالمهدي يمكنه أن يعمل في سائر البلاد التي يصل اليها ، سكناً أو سفراص ، من دون أن يثير حوله أي استفهام أو أن يصل إلى الآخرين عنه أي خبر . 

الوجه الثالث :

إن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار ، هو أن غالب سكنى المهدي (ع) هو في العراق .  ومن المعلوم أن عمل الفرد يكثر في محل سكناه عنه في المناطق الأخرى .وخاصة فيما إذا كان يجد من بعض الأسفار صعوبة وخطراً علىنفسه أو إثارة للاستفهام عن حقيقته .

واختياره عليه السلام العراق للسكنى ، ممكن وقريب ، ولا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين .  وخاصة بعد أن كان هو بلد سكناه غالباً في غيبته الصغرى – كما عرفنا- .  وفيه مساكن ومدافن جملة من آبائه الطاهرين عليهم  السلام .  وكان مركزاً لعدد مهم من الأعمال الاسلامية الكبرى في صدر الإسلام كواقعة كربلاء وغيرها .  وسنعرف أيضاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة أن العراق والكوفة على الخصوص، ستكون هي المنطلق الأساسي ، بعد ظهور المهدي (ع) لفتح العالم كله والعاصمة الرئيسية للدولة الإسلامية العالمية المهدوية .

صفحة (104)

وهنا يمكن أن يخطر في الذهن سؤالاتن ، لا بد من عرضهما مع محاولة الجواب عليهما :

السؤال الأول :

أنه لماذا كان العراق هو مركز الثقل في كل هذه الأعمال الكبرى ، ولم يكن غيره بهذه الصفة . مع العلم أننا نؤمن بتساوي البشر عامة والمسلمين خاصة وبتساوي المناطق واللغات تجاه التشريع الإسلامي والعدالة الإلهية . فما هو الوجه في ذلك ؟

والجواب عن ذلك : أن العراق لم يحتل هذا المركز المهم ، من أجل عنصرية معينة ، وإنما له من الصفات الواقعية التي تجعله المنطلق الوحدي في العالم لكل تلك الأعمال الكبرى .

ويمكن تلخيص خصائصه الرئيسية بما يلي :

الخصيصة الأولى :

إن العراق من الناحية الجغرافية ، يعتبر في وسط البلاد الإسلامية في عصر الغيبة ، ابتداءً بالهند وأندونيسيا وانتهاءً بمراكش وغرب أفريقيا عموماً .

الخصيصة الثاية :

إن العراق مسكن للقواعد الشعبية التي تؤمن بوجود المهدي (ع) وغيبته .

الخصيصة الثالثة :

إن العراق سيصبح الأرض التي تتمخض عن عدد غير قليل من القواد الرئيسيين للمهدي (ع) بعد ظهوره ، كما سيتضح من الكتاب الثالث من هذه الموسوعة ، بخلاف البلاد الإسلامية الأخرى ، فأنها تتمخض عن عدد قليل .

والسر في ذلك : ليس هو أفضلية العراق ككل على غيره ، وإنما ذلك باعتبار ما يمر به الشعب هناك من مآسٍ ومظالم أكثر من غيره من الشعوب المسلمة ، وسنعرف في ما يلي من هذا التاريخ أن زيادة الظلم يتمخض عن كثرة الإخلاص والمخلصين .

صفحة (105)

وبهذه الخصائص الثلاث ، يكون العراق ذا موقع أهم من الناحية الإسلامية من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى : نعم ، ينبغي أن لا ننسى الجزء الأكبر من بلاد فارس فإنها أيضاً تتصف بنفس الخصائص . وحيث كانت مجاورة للعراق أمكن تعميم المنطقة بخصائصها إليها .

السؤال الثاني :

إن روايات المشاهدة وإن دلت على سكنى المهدي (ع) في العراق ، إلا أن هناك أموراً أخرى تدل على خلاف ذلك ، تكون معارضة مع هذه الروايات . فكيف نجمع بينهما .

الأمر الأول :

ما سبق أن ذكرناه طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية ، من أن خير وجه متصور يخطط المهدي (ع) لكي يبعد الأنظار عن نفسه والالتفاف إلى حقيقته ، هو أن يسكن في كل جيل مدينة إسلامية غير التي كان يسكنها وقلنا أنه لعله يسكن في كل خمسين سنة في مدينة من العالم الإسلامي .

ولكن الواقع أن هذا لا يعارض سكناه الغالبة في العراق خلال التاريخ ، وسكناه في عدد من مدن العراق أيضاً . فلا يكون معارضاً مع ما دلت عليه روايات المشاهدة .

الأمر الثاني :

الرواية السابقة التي دلت على اختياره المدينة المنورة للسكنى .

الأمر الثالث :

ما سمعناه من اختياره البراري والقفار وشعاب الجبال محلاً للسكن ، كما دلت عليه رواية علي بن مهزيار.

والجواب على كلا هذين الأمرين ، من وجهين :

الوجه الأول :

أننا سبق أن وجدنا المبررات الكافية لرفض الأخذ بكلا هاتين الروايتين ، ومعه ، فلا تكون معارضة ما دلت عليه روايات المشاهدة .

صفحة (106)

الوجه الثاني :

إن ما يدل عليه غالب روايات المشاهدة هو سكنى المهدي في غالب العصور المتأخرة في العراق ، ومعه ففي الإمكان افتراض سكناه في البراري والقفار . وخاصة بعد أن علمنا أن الحاجة إلى الانعزال والحماية قد ارتفعت بالمرة عن شخص المهدي عليه السلام ، في العصور المتأخرة .

فهذه هي جملة الأقسام في أخبار المشاهدة ، مع تمحيصها . ونكرر تارة أخرى أن كل رواية بمفردها ، قد تكون قابلة للمناقشة إلا أن العلم الحاصل من المجموع غير قابل للمناقشة ، ويكون نافياً للكذب والخطأ والوهم … ولو في بعضها على أقل تقدير .

الأمر الثاني :

من الكلام عن أخبار المشاهدة .

إن هناك إيراداً عاماً يمكن أن يرد على هذه الأخبار لو لوحظت النظرة الإسلامية العامة إلى المجتمع .

وحاصل هذا الإيراد : أننا لا نكاد نجد في أخبار المشاهدة ، في الغيبة الكبرى ، توجيهاً عاماً واعياً يقوله الإمام عليه السلام لأحد ممن يقابله ، سواء كان الغرض قضاء حاجة عامة أو قضاء حاجة خاصة .

مع أن يتبادر إلى التصور أن ما يفعله الإمام (ع) في أثناء المقابلة ، هو أن يربي من يقابله ويثقفه بالثقافة العامة الإسلامية الصحيحة ، ويلخص له في عدة كلمات القضايا الإسلامية المهمة التي تنير له الطريق وتحثه على السير القويم . والمشاركة في بناء المجتمع المسلم بناء صالحاً واسع الأثر بعيد النتيجة .

مع ان هذا لم يحدث ، إذ لو كان قد حدث لنقل في الأخبار ، مع أنه تكاد أن تكون خالية عنه ، ولو كان قد حدث لأصبح الفرد من أفضل الصالحين ، وأوسع العاملين ، ولرأينا آثاراً اجتماعية مهمة مترتبة على أعمال الذين شاهدوا المهدي (ع) ، وتابعيهم بإحسان ، مع أن ذلك لم يحدث !

صفحة (107)

فلماذا لم يقل المهدي (ع) مثل هذه التوجيهات ، وإذا كان قاله ، فلماذا لم ينقل إلينا ، أو لم يظهر أثره في المجتمع المسلم .

ونحن إذا استطعنا الجواب على ذلك ، فقد سرنا قدماً جديدة في تحديد سياسة الإمام المهدي (ع) تجاه الآخرين ممن قابلوه ، وممن لم يقابلوه أيضاً .

ويتم الجواب على ذلك ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى :

أننا عرفنا أن المهدي (ع) يعمل – مع اجتماع الشرائط – العمل النافع بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع . وفي مثل ذلك يكون له أن يقول ما يشاء ويفعل ما يريد ويمهد لتكميل الأفراد والمجتمعات ، من دون أن تعرف هويته الحقيقية . وربما كان الكثير ممن برزوا في العالم الإسلامي علماً وعملاً ، كانوا قد سمعوا التوجيه من المهدي (ع) بدون أن يعرفوه على الإطلاق .

النقطة الثانية :

إن المهدي (ع) قد يجتمع بالخاصة من المؤمنين به ، وهو ما سبق أن تصورناه بصفته أطروحة محتملة ، وتدل عليه بعض الأخبار أيضاً ، على ما سنسمع ، وباجتماعه معهم ، بالشكل الذي يعرفوه بحقيقته ، ينفتح لهم المجال الواسع لتلقي التعليمات منه عليه السلام ، والخوض في مناقشة المسائل الاجتماعية والاسلامية على صعيد واسع وواعٍ . ثم هم يطبقونه في حياتهم العملية ، من دون أن ينقلوا من هذا القبيل .

فإن كفى ذلك في قناعتنا في كفاية هذه التوجيهات ، عما نتوقعه من أخبار المشاهدة ، فهو المطلوب . وإن تنزّلنا عن هذه النقطة ، أمكننا الانتقال إلى ما يلي :

النقطة الثالثة :

إن المعهود من ديدن النبي (ص) ، والأئمة عليهم السلام ، هو إعطاء كل مقام مقاله ، وعدم المبادرة إلى البيان من دون سؤال . وإذا سألهم سائل عن بعض الحقائق العبادية أو الاجتماعية أو الكونية ، نظروا إلى مقدار مستوى السائل من حيث الثقافة ، وأعطوه من الجواب بمقدار ما يفهمه ويستطيع هضمه وتمثيله نفسياص وعقلياً . ولم يكونوا يحملونه جواباً يحوي من الحقائق ما لا يطيقه كاهله أو لا يسيغه عقله .

صفحة (108)

بل أن هذا الدين غير خاص بقادة الإسلام ، بل عام لكل عالم عندما يسأله جاهل ، وكل اختصاصي عندما يسأله عامي. فليس من المحتمل أن يجيب انشتاين بكل تفاصيل نظريته النسبية ، أو ببعض دقائقها ، لو سأله عنها شخص ، وإنما يكتفي في الإعراب عنها ، بإعطاء بعض العموميات .

وهذا هو المراد الجوهري ، مما ورد شرعاً وعرفاً ، من قولهم : خاطب الناس على قدر عقولهم . وهو أمر واضح في الأذهان في غاية الوضوح .

ومعه ، فلا ينبغي أن نتوقع من المهدي (ع) أن يسير بغير هذا الديدن الذي سار عليه آبؤه عليهم السلام . فهو لا محالة يقدر المستوى العقلي والثقافي للفرد قبل أن يوجه توجيهه أو يذكر كلامه .

فإذا علمنا أنه عليه السلام كان يواجه الناس لأغراض حل مشاكلهم العامة والخاصة ، بغض عن مستوياتهم الثقافية ، وعلمنا أن كثيراً من كان يواجههم ذو مستوى في الوعي والثقافة الإسلامية العامة واطئ إلى حد كبير ... لم نكن نتوقع – مع هذا – أن يذكر المهدي توجيهاً أو إرشاداً خارجاً عن حدود قضاء الحاجة وتذليل المشكلة ، مما يكون له آثار أخرى في المجتمع والحياة .

وهذه هي القاعدة الأساسية التي تفسر هذا الجانب من سياسة الإمام عليه السلام ، تجاه الآخرين .

النقطة الرابعة :

أننا لو غضضنا النظر عما قلناه في النقطة الثالثة ،وفرضنا أن المهدي (ع) يوجه البيانات إلى من يراه بشكل واسع، بقطع النظر عن مستواه الثقافي والفكري ... فنحن – مع ذلك – لا ينبغي أن نتوقع من هذه التوجيهات أن تصنع لنا الأبطال والمشاهير في العلم والعمل ... كما تخيل السائل الذي نناقشه الآن .

صفحة (109)

فإننا نعرف سلفاً أن المقابلة تكون قصيرة دائماً ، وغير مكرر على الأغلب ، ومكرسة – بطبيعة الحال – لأجل حل مشكلة معينة . إذن ، فماذا يبقى للتوجيهات العامة المتصوورة للإمام المهدي (ع) من الزمان ، إلا أقل القليل . فلو فرض أن الإمام عليه السلام اغتنم هذه الفرصة ، وتكلم مع الفرد مقدار ربع ساعة أو نصف ساعة على أكبر التقادير ، فإن هذا الكلام مهما كان مركزاً وكاملاً وعميقاً ، لا يمكن أن يصنع من الفرد العادي بطلاً من الأبطال ، أو شهيراً من المشاهير ، من الزاوية الإسلامية الحقة . فإن الأمر لا يخلو من أحد فرضين لا ثالث لهما . وهما : أن المهدي (ع) إما أن يريد تربية من يقابله وتثقيفه بشكل المعجزة ، وإما أن يريد ذلك بنحو طبيعي .

أما طريق المعجزة فهو منسد أساساً ، لعدم كون هذه المعجزة واقعة في طريق إقامة الحجة ، بعد فرض إيمان الفرد بالإسلام ، فلا يقتضي قانون المعجزات وجودها . على أنها لو وجدت للزم منها الجبر الباطل على ما هو يبرهن عليه في محله من بحوث العقائد في الإسلام .

وأما تربيته وتثقيفه بالطريق الطبيعي ، فمثل هذه التربية مما لا يمكن وجوده في زمان يسير ، وإنما يحتاج الإنسان في تكامله إلى زمان طويل وتجربة واسعة وتربية بطيئة حتى يتكامل وينضج نضجاً واقعياً . ولا يمكن أن يكون كلام الإمام (ع) – حتى لو فهمه واستوعب حقائقه – إلا خطوة واحدة في طريق تكامل الإنسان . ويبقى بينه وبين رفعته الحقيقية خطوات وخطوات .

على أن الكلام المركز القصير الذي فرضناه في السؤال ، مما يتعذر على الفرد العادي فهمه ويحول تركيزه وعمقه دون استيعابه . وأما إذا لم يكن مركزاً وعميقاً لم يكن منتجاً للنتائج المتوقعة في السؤال .

إذن ، فيتعين على المهدي (ع) – في حدود هذه النقطة الرابعة – أن يعرض عن التوجيهات صفحاً ، لعدم جدواها إلا بطريق إعجازي ، لا يمكن تحققه طبقاً لقانون المعجزات .

النقطة الخامسة :

أننا نحتمل – على الأقل – أن هذه التوجيهات العامة لو تكررت وأثرت لكان لها أبلغ الأثر في تغيير التاريخ الإسلامي بل التاريخ البشري ، وفاقاً لما قاله السائل ، بعد التنزل عن النقاط السابقة .

صفحة (110)

وهذا التغيير المتوقع ، مما لا يحتوي على مصلحة ، لأنه يؤخر يوم الظهور ويفوت شرطه الأساسي ، وهو مرور الأمة بأزمنة الظلم والجور ، حتى تتكامل عن تجربة وحنكة وقوة إرادة ، لا عن استخذال وتكاسل . ومعه فلا يمكن أن يقوم المهدي (ع) بذلك ، وإنما يقتصر على التوجيهات الصغيرة التي لا تبلغ هذا المستوى .

إذن ، فبلحاظ أي واحدة من هذه النقاط ، فضلاً عن مجموعها ، يكون من المنطقي أن نتصور خلو أخبار المشاهدة من التوجيهات العامة الواعية ، واقتصارها على ما هو المقصود من المقابلة ، ليس إلا .

مضافاً إلى أننا نعرف أن الرواة إذا كانوا من الخاصة المخلصين المتقبلين لتوجيهات المهدي (ع) ، فإنهم يحذفونها عند نقل الواقعة احتراماً لها وصوناً لمدلولها عن الانتشار ... كما يظهر من بعض روايات المشاهدة . واذا لم يكونوا من أولئك الخاصة ، فإنهم إما أن يحذفوا التوجيهات لعدم الاهتمام بها ، وإما أنهم ينقلونها بالمعنى الذي فهموه ، فتبدو لنا بشكل ممسوخ ذو طابع شخصي ضيق ، ولا تكاد تكون من التوجيهات العامة ، إذا عرضت بهذا الشكل .

هذا ، فيما إذا سلمنا ، ما افترضناه في السؤال من أن التوجيهات العامة لم ترد في روايات المشاهدة ... هذا وإن كان صحيحاً بشكل عام . ولكننا لا نعدم سماع ذلك أحياناً ، حين يجد المهدي (ع) مصلحة في التوجيه ، في الحدود الممكنة . وقد نستطيع أن نحمل فكرة عن ذلك فيما يلي من هذا الفصل .

الأمر الثالث :

هل أن مشاهدات المهدي عليه السلام على حقيقته ، في غيبته الكبرى ،يحتاج إلى درجة عالية من الإيمان والوثاقة، كما يميل إليه بعض الباحثين ، أو لا يحتاج .

صفحة (111)

لاشك أن تلك الدرجة العليا ، كانت شرطاً في مشاهدة صاحب الأمر المهدي (ع) في غيبته الصغرى ... كما عرفنا في تاريخها ، حيث لم يكن أبوه الإمام العسكري (ع) يطلع أحداً عليه إلا من الموثوقين الخاصين ، وكذلك كان ديدن المهدي (ع) بعد وفاة أبيه . ما عدا حوادث قليلة جداً ظهر عليه السلام للمنحرفين من أصحابه لمصالح معينة ، وبشكل مأمون النتيجة(1) .

وأما في عصر الغيبة الكبرى ... فلا شك أن الأغلب هو اختصاص المقابلة بالخاصة الموثوقين . كما لا شك في أن الإمام المهدي (ع) قد يخص بعض الموثوقين ، بأكثر من مقابلة واحدة ، ولعلها تصل إلى عدد مهم من المقابلات لدى عدد منهم . 

كما لا شك في أن المصالح الإسلامية ، قد تقتضي ظهوراً للمنحرفين ، إذا كان بنحو مأمون النتيجة .

ومعه ، فينبغي أن يقال : أن نفس النسبة التي رأيناها في الغيبة الصغرى ، تتكرر بشكل أو آخر ، في الغبية الكبرى أيضاً ، بين الموثوقين والمنحرفين . وهذا كله واضح لا غبار عليه ... لا بحسب القواعد العامة ، ولا بحسب أخبار المشاهدة ، إذ أن المنقول من المقابلات مع غير الموثوقين ، مشابه لهذه النسبة تقريباً .

ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه ، هو وجود فرق أساسي ما بين حال المهدي (ع) في غبيته الصغرى وحاله في غيبته الكبرى ، فهو في الكبرى أكثر أمناً وأبعد عن التفات الأذهان إليه فتفتح له فرصة أكبر في مقابلات الناس ، بما فيهم غير الموثوقين والمنحرفون أيضاً . مع الالتزام بتخطيط معين يضمن عدم الاطلاع على حقيقته إلا بعد الفراق .

وهذا واضح ، بعد أن عرفنا من مضادرة السلطات له في الغيبة الصغرى ، وهناك قسم من الناس يعرفونه ويعرفون والده ، وخاصة في القسم الأول من تلك الفترة . وأما في الغيبة الكبرى ، فقد ابتعدت الأنظار عنه، وخفي شكله بالمرة عن سائر البشر ، وأيست السلطات عن مطاردته ، بل أنكرت وجوده تماماً . وكل ذلك يكون في مصلحة حرية تنقلاته ومقابلاته ، كما هو واضح .

ومن هنا نكاد نشخص بوضوح ، أن نسبة مقابلاته مع غير الموثوقين ، أكثر إلى حد واضح من نسبتها في الغيبة الصغرى . وأما المنحرفون ، فالمقابلة معهم أقل من ذلك العدد بكثير ،ولا تكون إلا فيما إذا توقف عليه غرض كبير، ولم يمكن تنفيذه عن طريق المقابلة مع أحد الموثوقين أو غير المنحرفين .

_________________________

(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 469 وص 5.6 وما بعدها .

صفحة (112)

الأمر الرابع :

في التخطيطات التي يضعها المهدي (ع) لأجل ضمان عدم التفات الرائي إلى حقيقته في أثناء المقابلة .

فإن المقابلة ، قد تقتضي ، بحسب المصلحة ، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة ، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين . وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة ، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً .

ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (ع) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق ، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه ... هو المهدي (ع) .

وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (ع) في سبيل ذلك ، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة ، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :

الأسلوب الأول : إبداله لزيه وواسطة نقله :

فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي ، على اختلاف الأشكال ، فتارة نراه بزي البدو(1)وثانية بزي مهيب لطيف(2) وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته(3) ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين(4) .

_________________________

(1) النجم الثاقب ، ص 241 .   (2) المصدر نفسه ، ص  359 .  (3) المصدر نفسه ، 343 .

(4) المصدر نفسه ، ص 273 .  .

صفحة (113) 

كما أن واسطة نقله قد تكون هي الجمل في عدد من المرات(9) كما قد تكون هي الفرس(1) وقد يكون هو الحمار(2)، كما قد يواكب الرائي ماشياً(3) وقد لا تحتاج المقابلة إلى سير وانتقال(4) .

كما قد يأتي إلى المقابلة ، فارساً حاملاً رمحاً عند الحاجة(5) ، كما قد يبدو متكلماً بلهجة البدو مستعملاً نفس كلماتهم(6) . وثالثة يبدو متكلماً بلهجة اللبنانيين(7) ورابعة باللغة الفارسية(8) .

وقد نعرف ، سيراً مع الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان : أن الأزياء والهيئات التي يقابل بها المهدي (ع) من يريد إخفاء حقيقته عليه أثناء المقابلة ... ليس شيء منها هو الذي يكون عليه في حياته الاعتيادية بشخصيته الثانية ، لوضوح وجود احتمال كبير في انكشاف حقيقته ، لو ظهر لأحدهم في نفس المجتمع الذي يعيش فيه . إذن فلا بد للمهدي (ع) أن يخطط للمقابلة بابدال زيه لا محالة ، قبلها ، ضماناً على الحفاظ على سره وخفاء عنوانه .

الأسلوب الثاني :

إقامته للمعجزة التي تكون دالة على حقيقته ، بنحو لا تكاد تكون ملفتة للنظر في أثناء المقابلة ، بل لا يكاد يعرف الرائي أنها معجزة أصلاً إلا بعد الفراق ... حين يستذكرها ويحسب حسابها فيعرف أن ذلك العمل لا يمكن أن يقام به إلا بنحو إعجازي .

_________________________

(1) المصدر نفسه ، ص 357 .  (2) المصدر نفسه ، ص 343 .  (3) المصدر نفسه ، ص 280 .  (4) المصدر نفسه ، ص 228 .

(5) المصدر ، ص 370 .  (6) المصدر ، ص 358 .  (7) المصدر ، ص 235 .  (8) المصدر ، ص 344 .(9) انظر – مثلاً – المصدر السابق ، ص 342 

صفحة (114)

ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من الروايات ، بقطع المسافة الطويلة بزمان قصير ، المسمى بطيّ الأرض براً أحياناً وبحراً أخرى . ومن المعلوم أن حساب طول المسافة إنما يكون بعد قطعها . ولعل أوضح الروايات في ذلك ، ما فهمه الرواي بعد فراق المهدي (ع) من أن الطريق الذي مشى فيه في زمان قصير نسبياً ، لا يمكن لأحد أن يسير فيه إلا بأضعاف تلك المدة ، ومن المتعذر أن ينجو أحد من السباع والوحوش في ذلك الطريق ، ولكنه نجا منها ووصل في زمان قليل(1) .

الأسلوب الثالث :

ابتعاده عن الرائي في أثناء الحادثة ، وقبل انتهاء حاجته ، وإيكال إنهائها إلى غيره ... هو أما نفس صاحب الحاجة كما في بعض المقابلات(2) وقد يكون هو خادم الإمام عليه السلام(3) ، وقد يكون هو شخص آخر عابر للطريق(4).

الأسلوب الرابع :

تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته ، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية ، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر ، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات . بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه ، ولا يجيب بما يدل على حقيقته .

الأسلوب الخامس :

وقوع الرائي والرائين أو إيقاعهم ، في ظروف وقتية خاصة ، بحيث يرتج عليه باب السؤال عن حقيقة المهدي واسمه وبلدته . وهذا واضح من عدد من الروايات ، فإن الرائي قد يكون مهتماً بحاجته جداً(5) أو مذهولاً نتيجة لالتفاته إلى معجزة واضحة أوجدها المهدي (ع)(6)، أو مشغولاً بنفسه كالصلاة أو المرض أو ضيق البال ونحو ذلك. ولا يخفي أن نفس تلك الغفلة التامة التي يكون بها الناس تجاه رؤية المهدي (ع) ، تلك الغفلة التي لا يمكن ارتفاعها إلا تحت تأثير قوي ... هي من أكبر الظروف ، بل أكبرها على الاطلاق ، مما يقتضي عدم معرفة الرائي بالمهدي (ع) في أثناء المقابلة ... إلا بعد أن يحسب حسابه بعد الفراق .

_________________________

(1) المصدر ، ص 239 .  (2) المصدر ، ص 238 .  (3) المصدر ، ص 306 .

(4) المصدر ، ص 241 . (5) المصدر ، ص 242 . (6) المصدر ، ص 282 .

صفحة (115)

فهذه هي الأساليب العامة للتخطيط الذي يتخذ المهدي (ع) بعضها . حينما لا يجد من المصلحة معرفته في أثناء مقابلته . وهناك بعض الأساليب الخاصة المبعثرة في الروايات ، مما لا يمكن أدراجه تحت ضابط عام، ويطول بنا المقام في تعدادها .

الأمر الخامس :

في الأغراض والمقاصد العامة التي يقصدها المهدي (ع) من عمله خلال المقابلة . وتؤجل التعرض للمقاصد الخاصة إلى الأمر السادس الآتي .

والمقصود من الأغراض العامة ، ما يكون مستهدفاً لأثر إسلامي اجتماعي أكبر من الأفراد وأوسع . وهو الذي قلنا أنه قليل التحقق بالنسبة إلى العمل الفردي الخاص ، وذكرنا السبب في ذلك .

وستكون الفرصة خلال هذ الأمر الخامس وما بعده مفتوحة للاطلاع المختصر على تفاصيل بعض المقابلات، بالشكل الذي يناسب المقام . ولا نكون مسؤولين عن سرد القصص بتفاصيلها فليرجع فيها القارئ إلى مصادرها .

وتنقسم الأغراض والأهداف العامة في أعمال الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، إلى عدة أقسام :

الهدف الأول :

إنقاذ الشعب المسلم من براثن تعسف وظلم بعض حكامه المنحرفين ، وخاصة فيما يعود إلى قواعده الشعبية من الخير والسلامة .

فمن ذلك ما قام به الإمام المهدي من إنقاذ شعبه في البحرين ، من تعسف حاكميه الذين تنص الرواية على كونهم من عملاء الاستعمار ومن المنصوبين من قبل المستعمرين(1) .

_________________________

(1) انظر تفاصيل هذه الحادثة في النجم الثاقب ، ص 314 وما بعدها . وفي البحار ، جـ 13 ، وص 149 .

وفي منتهي الأمال ، جـ 2 ، ص 316 وما بعدها .

صفحة (116)

حيث كان للوزير في تلك البلاد ، وهو بمنزلة رئيس الوزراء في عالم اليوم ... مكيدة كبيرة كادت أن تؤدي إلى إرهاب القواعد الشعبية للإمام المهدي (ع) إرهاباً غريباً بمعاملتهم معاملة الكفار الحربيين من أهل الكتاب ... أما بأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، أو أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم . وقد كان للإمام المهدي (ع) اليد الطولى في كشف هذه المكيدة ودفع هذا الشر المستطير .

الهدف الثاني :

إنقاذ الشعب المسلم من براثن الأشقياء والمعتدين ، وعصابات اللصوص المانعين عن الأعمال الإسلامية الخيِّرة .

فمن ذلك(1) : عمل الكبير الذي قام به المهدي عليه السلام من فتح الطريق إلى كربلاء المقدسة ، أمام زوار جده الإمام الحسين عليه السلام ، في النصف من شعبان .

وكانت عشيرة "عنيزة" تترصد لكل داخل إلى كربلاء وخارج منها ، وتتعهده بالسلب والنهب ، فكان الطريق إليها موصداً يخافه الناس . فلولا قيادة المهدي (ع) للزائرين في الطريق إلى كربلاء وتهديده لعشيرة عنيزة بالموت والدمار إذا حاولت الاعتداء ، لامتنع الناس عن الذهاب إلى زيارة الإمام سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، ولتعطل هذا الشعار الإسلامي الكبيرة . فمرحى للألطاف الكبرى التي يسبغها المهدي (ع) على أمته . 

وكان ذلك خلال حكم الدولة العثمانية للعراق . وكان من قوادهم يومئذ : كنج محمد آغا وصفر آغا ... كما تنص الرواية على ذلك ، ولكنها – مع الأسف – تهمل التعرض إلى التاريخ المحدد للحوادث .

إلفات نظر الآخرين إلى عدم تحقق شروط الظهور الموعود . والتأكيد على أن الأمة لم تبلغ إلى المستوى المطلوب من الوعي والشعور بالمسؤولية الذي تستطيع معه أن تحمل عاتقها الآثار الكبرى في اليوم الموعود . ومعه فلا بد من أن يتأجل الظهور حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد .  على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً .

_________________________

(1) راجع تفصيل ذلك في النجم الثاقب ، ص 370 ومنتهى الأمال ، جـ 2 ، ص 326 .

صفحة (117) 

إلى اليوم الذي يتحقق فيه هذا الشرط مهما تمادى الزمن وطالت المدة . وليس لأحد أن يقترح تقديمه أو يعين تاريخه ، سوى الله عز وجل .

وقد حصل التأكيد على هذا المفهوم الصحيح الواعي من قبل المهدي (ع) ، على ملأ من الناس في رواية أرويها عن ابي دام ظله ، لم أجدها في المصادر المتوفرة . ومن هنا أجد من الضروري أن أروي تفاصيلها باختصار ، لكي يتضح تماماً المعنى المقصود من هذه الرواية .

وذلك : إن الناس في البحرين ، في بعض الأزمنة ، لمقدار إحساسهم بالظلم وتعسف الظالمين ... تمنوا ظهور إمامهم المهدي (ع) بالسيف ظهوراً عالمياً عاماً ، لكي يجتث أساس الظلم لا من بلادهم فحسب بل من العالم كله .

فاتفقوا على اختيار جماعة من أعاظمهم زهداً وورعاً وعلماً ووثاقة ، فاجتمع هؤلاء واختاروا ثلاثة منهم ، واجتمع هؤلاء واختاروا واحداً هو أفضلهم على الإطلاق ، ليكون هو واسطتهم في الطلب إلى المهدي بالظهور .

فخرج هذا الشخص المختار ، إلى الضواحي والصحراء ، وأخذ بالتعبد والتوسل إلى الله تعالى وإلى المهدي (ع) بأن يقوم بالسيف ويظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . وقضى في ذلك ثلاثة أيام بلياليها .

فلما كانت الليلة الأخيرة ، أقبل شخص وعرفه بنفسه أنه هو المهدي المنتظر ، وقد جاء إجابة لطلبه . وسأله عن حاجته ، فأخبره الرجل بأن قواعده العبية ومواليه في أشد التلهف والانتظار إلى ظهوره وقيام نوره . فأوعز إليه المهدي (ع) أن يبكر في غد إلى مكان عام عينه له ، ويأخذ معه عدداً من الغنم في الطابق الثاني على السطح ، ويعلن في الناس أن المهدي (ع) سيأتي في ساعة معينة ، عليهم أن يجتمعوا في أرض ذلك المكان . وقال له المهدي (ع) أيضاً : أنني سأكون على السطح في ذلك الحين .

وامتثل الرجل هذا الأمر ، وحلت الساعة الموعودة ، وكان الناس متجمهرين في المكان المعين على الأرض، وكان المهدي (ع) مع هذا الرجل وغنمه على السطح .

صفحة (118)

وهنا ذكر المهدي (ع) اسم شخص وطلب من الرجل أن يطل على الجماهير ويأمره بالحضور . فامتثل الأمل وأطل على الجمع ونادى باسم ذلك الرجل ... فسمع الناس وصعد الرجل على السطح . وبمجرد وصوله أمر المهدي (ع) صاحبنا أن يذبح واحداً من غنمه قرب الميزاب ، فما رأى الناس إلا الدم ينزل من الميزاب بغزارة . فاعتقدوا جازمين بأن المهدي (ع) أمر بذبح هذا الرجل الذي ناداه.

ثم نادى المهدي (ع) بنفس الطريقة رجلاً آخر ، وكان أيضاً من الأخيار الورعين . فصعد مضحياً بنفسه واضعاً في ذهنه الذبح أمام الميزاب ، وبعد أن وصل إلى السطح نزل الدم من الميزاب . ثم نادى شخصاً ثالثاً ورابعاً . وهنا أصبح الناس يرفضون الصعود ، بعد أن تأكدوا أن كل من يصعد سيراق دمه من الميزاب . وأصبحوا يفضلون حياتهم على أمر إمامهم .

وهنا التفت المهدي (ع) إلى صاحبنا وأفهمه بأنه معذور في عدم الظهور ما دام الناس على هذا الحال .

فمن هنا نفهم بوضوح ، كيف أن المهدي (ع) استهدف إفهام الأمة بشكل عملي غير قابل للشلك ، بأنها ليست على المستوى المطلوب من التضحية والشعور بالمسؤولية الإسلامية . وكشف أمامها واقعها بنحو أحسه كل فرد في نفسه وأنه على غير استعداد لإطاعة أمر إمامه (ع) إذا كان مستلزماً لإراقة دمه . وإذا كانت الأمة على هذا المستوى الوضيع لم يمكنها بحال أن تتكفل القيام بمهمام اليوم الموعود بقيادة المهدي (ع) .

وستأتي البرهنة التامة على صحة هذا الشرط ، من شرائط الظهور ، في القسم الثالث من هذا الكتاب .

الهدف الرابع :

إرجاعه عليه السلام للحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة .

فأن القرامطة بعد أن قلعوه أثناء هجومهم على مكة المكرمة عام 317 للهجرة(1) ، ونقلوه إلى هجر ، وكان ذلك إبان الغيبة الصغرى . 

_________________________

(1) الكامل ، جـ 6 ، ص 204 .

صفحة (119)

كما عرفنا من تاريخها(1) بقي  الحجر لديهم ثلاثين عاماً(2) أو يزيد . وأرجعوه إلى مكة عام 339(3) أو عام 337(4) كان  المهدي (ع) هو الذي وضعه في مكانه وأقره على وضعه السابق ، كما ورد في أخبارنا (5) .

قال الراوي : لما وصلت إلى بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عزمت على الحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجز في مكانه إلى البيت . كان أكثر همي الظفر بمن ينصب الحجز ، لأنه يمضي في أنباء الكتب قصة أخذه ، فأنه لا يضعه في مكانه إلا الحجة في الزمان.كما في زمان الحجاج وضعه زين العابين عليه السلام في مكانه (6).

وأوضح الرواي بأن الناس فشلوا في وضعه في محله ، زكلما وضعه انسان اضطرب الحجز ولم يستقم . فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله فوضعه في مكانه ، قاستقام كأنه لم يزل عنه . وعلت لذلك الأصوات .

ثم أن المهدي عليه السلام ، خرج من المسجد ولاحقه الرواي طالباً منه حاجة, فقضاها له ، وأقام الدلالة ساعتئذ على حقيقته.

وهذه خقيقة تمثل فجوة تاريخية، سكت عنها التاريخ العام، وقد ملأتها أخبارنا الخاصة بكل وضوح . وهو أمر لا يمكن نفيه إلا بنفي فكرة غيبة المهدي عليه السلام من أصلها . وهو خلاف ما هو المفروض في هذا التاريخ .

_________________________

(1) تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 356 .  (2) تاريخ الشعوب الإسلامية ، جـ 2 ، ص 75 .   (3) الكامل ، جـ 6 ، ص 235 .

(4) الخرايج والجرايح ، ص 72 .  (5) المصدر والصفحة وانظر منتخب الأثر ، ص 406 .

(6) انظر قصة وضعه (ع) للحجر الأسود في الخرايج والجرايح ، ص 29 .

صفحة (120)

نعم ، يبقى في الذهن سؤالان حول ذلك لا بد من عرضهما ومحاولة الجواب عليهما :

السؤال الأول :

أنه من أين ثبت أن الحجر لأسود لا يضعه في محله إلا الحجة في الزمان، كما ادعاه الراوي ؟

والواقع أننا لم نجد رواية تتكفل هذا المدلول الواسع . ولكننا إذا استعرضنا التاريخ المعروف ، لم نجد واضعاً للحجر إلا من الأنبياء والأولياء . فإبراهيم عليه السلام هو الذي وضع الحجر حين بنىالكعبة ووضع أسس البيت العتيق.ورسول الله صلى اله عليه وآله هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة ، ومروية في التاريخ (1) .وحين أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صرغه مع عبد الله بن الزبير 000 أعادوا بناءها من جديد ، وكان واضع الحجر هو الإمام زين العابدين (2) .

وهذا الراوي في الرواية التي نناقشها ، ينسب وجو مثل هذه القاعدة العامة ، أعني أن الحجر الأسود لا يضعه إلا الحجة في الزمان 000 ينسبها إلى الكتب ، وظاهره كونها مسلمة الصحة ، فلعله كانت هناك ادلة أكثر واوثق قد بادت خلال التاريخ والله العالم بحقائق الأمور .

السؤال الثاني :

لو ثبتت هذه الفكرة كقاعدة عامة ، وصادق أن زال الحجز الأسود من مكانه في بعض عصور الغيبة الكبرى، فكيف يتسنى للمهدي (ع) إرجاعه ، وهو حجة الزمان، إلا بانكشاف أمره وارتفاع غيبته واطلاع الناس على شخصه .

والجواب على ذلك : أن أهم ما يمكن أن يكون ساتراً لشأنه وصائناً لسره حين وضعه الحجز، هو عدم معروفية هذه الفكرة لدى الناس وعدم اشتهارها بينهم، بل وعدم قيام دليل واضح عليها، كما سمعنا. ولغله من أجل ذلك لم يصدر في الشريعة الإسلامية مثل هذا الدليل الواضح على ذلك. ولعلك لاحظت من خلال هذه الرواية التي نناقشها أن الذي عرف هذه الفكرة هو واحد من الآلاف المحتشدة بما فيهم العلماء والكبراء. ومن هنا استطاع أن يشخص في واضع الحجر كونه هو المهدي (ع) .

_________________________

(1) انظر- مثلا – الكامل ، جـ 2، ص 29.  (2) انظر الخرايج والجرايح – ص 29 .  

صفحة (121)

ومعه، فانطلاقاً مع خط الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن نفترض أن الإمام عليه السلام في عصر غيبته ، يضع الحجر الأسود مع عمال البناء، ويكون آخر من يثبته ،ويبقى مجهول الحقيقة على طول الخط ، بل قد يكون معروفاً بشخصيته الثانية باسم آخر كفرد عادي في المجتمع . فيرى الرائي أن هذه الفكرة العامة قد انخرمت ، في حين أنه ليس واضع الحجر إلا ( المهدي) لو انكشف الستر وظهرت الحقيقة .

الأمر السادس :

في الأهداف والمقاصد الخاصة ، التي يقصدها الإمام (ع) خلال مقابلاته. مما يمت بالنفع – بشكل رئيسي ومباشر- إلى شخص معين أو أشخاص قلائل . سواء كان له – بشكل غير مباشر-نفع اجتماعي ملحوظ أو لم يكن .

والأهداف المندرجة تحت هذا العنوان متعددة وأمثلتها كثيرة ، نكتفي لكل منها بمثال واحد.

الهدف الأول :

هداية الشخص وتقويمه ، وضمه في النتيجة إلى الشعب المسلم الذي يؤمن بالمهدي(ع) ... بعد إجراز نيته والعزم على إتباع الهدى إن ظهر لديه .

مثاله: ذلك الشخص الذي ذهب لشراء السمن من الاعراب في أطراف الخلة ، فتخلف عن القافله وتاه في الصحراء. فكان مما قال في نفسه: أنني كنت أسمع من أمي أنها تقول: إن لنا إماماً حياً يكنى بأبي صالح يرشد التائهين ويغيث الملهوفين ويعين الضعفاء.

ثم أنه عاهد الله تعالى أنه إن استغاث به وأنجاه ، أن يتبع دين أمه . قال الراوي: ثم أنني ناديته واستغثت به . وفجأة رأيت شخصاَ يسير معي وعلى رأسه عمامة خضراء لونها كلون هذا   - وأشار إلى الحشيش  المزروع على النهر ... وأشار لي إلى الطريق . وقال لي : أنك ستصل بسرعة إلى قرية كل أهلها من الشيعة . فقلت له : يا سيدي ألا تأتي معي إلى هذه القرية .

صفحة (122)

فقال  : لا ، لأن ألف شخص في أطراف البلاد يستغيثون بي ، ولا بد أن أنجيهم(1) .

الهدف الثاني :

انتصاره لأحد طرفي الجدل عند وقوع الجدل بين اثنين ، واقتضاء المصحلة الانتصار لأحد الطرفين .

مثاله : أن صديقين مسلمين مختلفين في المذهب ، وقع بينهما جدل مذهبي طويل ، في أحد المساجد بهمدان . ولم يستطع أحدهما أن يقنع الآخر مدعاه . فاقترح أحدهما أن يجعلا بينهما أول رجل يدخل المسجد حكماً . وخاف الآخر من هذا الاقتراح ، لأن أهل همدان كانوا على مذهب صاحبه ، لكنه قبل بالشرط تحت ضغط المجادلة والمباحثة .

وبمجرد أن قررا هذا الشرط ، دخل المسجد شاب تظهر على سيماه آثار الدلالة والنجابة ،وتظهر عليه معالم السفر. فتقدم إليه صاحب الاقتراح وأظهر له مذهبه ، واستدل عيه بعدة أدلة . وأقسم عليه بقسم مؤكد أن يظهر عقيدته بالنحو الذي عليه الواقع . فقرأ هذا الشاب بيتين من الشعر أظهر فيهما عقيدته بنحو لا يقبل الشك ، ثم غاب عن الأنظار . وكانت هذه هي المعجزة التي تثبت حقيقته وصحة مذهبه أيضاً. فاندهش الآخر من فصاحته وبلاغته ، واعتنق المذهب الذي انتصر له المهدي (ع)(2) .

الهدف الثالث :

حله لبعض المسائل المعضلة التي قد يشكل حلها على فطاحل العلماء .

مثاله : أن المحقق الأردبيلي ، وهو من أعظم العلماء تحقيقاً وورعاً حتى لقب بالمقدس الأردبيلي أيضاً .. أشكلت عليه مسائل ، فخرج في جوف الليل سائراً من النجف إلى مسجد الكوفة حيث لاقى المهدي (ع) في محراب أمير المؤمنين عليه السلام هناك ، وسأله عن مسائلة وعرف جوابها ، وعاد(3) .

_________________________

(1) انظر النجم الثاقب ، ص 346 .  (2) المصدر ، ص 331 .  

(3) المصدر ، ص 334 ومنتهي الآمال ، جـ 2 ، ص 319 .

صفحة (123)

الهدف الرابع :

أخباره ببعض الأخبار السياسية المهمة في زمانها ، قبل أن يعرفها الناس ، نتيجة لضعف وسائل الإعلام في ذلك العصر .

مثاله : أن المهدي (ع) دخل في مجلس درس السيد مهي القزويني في الحلة ، فلم يعرفوه ، بالطبع ، واستمع إلى درسه . وحين انتهى الدرس ، سأله السيد المشار إليه : من أين جئت إلى الحلة . فقال : من بلد السليمانية . فقال السيد : منذ كم خرجت منها . فقال : في اليوم السابق . ولم أخرج منها حتى دخل فيها نجيب باشا فاتحاً ، وقد أخذها بقوة السيف . وأزال عنها أحمد باشا الباباني الذي كان متمرداً . وأجلس محله أخاه عبدالله باشا . وكان أحمد باشا المذكور قد خرج على طاعة الدولة العثمانية ، وادعى السلطنة لنفسه .

قال السيد : وكان والدي في السليمانية ، فبقيت متفكراً . ولم يكن قد وصل خبر هذا الفتح إلى حكام الحلة . ولم يحل في خاطري أن أسأله أنك كيف قلت : أني وصلت إلى الحلة وخرجت بالأمس من السليمانية . على حين أن بين السليمانية والحلة ، أكثر من عشرة أيام للراكب المجد .

قال : ثم ضبطنا تاريخ ذلك اليوم الذي أخبر فيه بفتح السليمانية ، ثم وصلت أنباء هذه البشارة إلى الحلة بعد عشرة أيام من ذلك اليوم وأعلنها حكام الحلة ،وحيوا الخبر بضربات المدفع ،كما كانوا يعملون عادة في أخبار الفتوحات(1).

أقول : من هنا نفهم أهمية هذا الخبر لدى سلطات العثمانيين في الحلة . ونعرف المصلحة المهمة التي تترتب على إيصال المهدي (ع) لهذا الخبر خلال مدة كانت في ذلك العصر إعجازية .

الهدف الخامس :

نصحه للآخرين ورفعه لمعنوياتهم ، وتوجيههم التوجيه الصالح ، بعد أن كانوا قد مروا في بعض الحالات الصعبة والمشكلات المحزنة بالنسبة إليهم .

_________________________

(1) النجم الثاقب ، ص 367 وما بعدها .

صفحة (124) 

مثاله : ما قاله بعض الرواة من مقابلته للمهدي (ع) في بعض طرقات الحلة – وقد عرف حقيقته بعد ذلك – ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، وقال له فيما قال : لا تغتم بما ورد عليك من الخسران وذهاب المال في هذا العام . لأنك شخص يريد أن يمتحنك الله تعالى بالمال ، فرآك تؤدي الحق ، وما هو الواجب عليك من الحج . وأما المال هو عرض زائل يأتي ويذهب .

قال الراوي : وكنت قد خسرت في هذا العام خسراناً لم يطلع عليه أحد ، وسترته خوفاً من شهرة الانكسار الموجبة لتلف التجارة . فاغتممت في نفسي ، وقلت : سبحان الله ، شاع خبر انكساري بين الناس حتى وصل إلى الغرباء . ولكنني قلت في جوابه : الحمد لله على كل حال .

فقال : إن ما فاتك من المال سوف يعود عليك بسرعة بعد مدة ، وتعود إلى حالك الأول ، وستؤدي ديونك . قال الراوي : فسكت مفكراً في كلامه(1) .. إلى آخر الحديث .

الهدف السادس :

مساعدته المالية للآخرين :

مثاله : أن جماعة من أهل البحرين عزموا على ضيافة جماعة من المؤمنين ، بشكل متسلسل في كل مرة عند واحد منهم . وساروا في الضيافة ، حتى وصلت النوبة على أحدهم ، ولم يكن لديه شيء . فركبه من ذلك حزن وغم شديد ، فخرج من أحزانه إلى الصحراء في بعض الليالي ، فرأى شخصاً ... حتى ما إذا وصل إليه قال له : اذهب إلى التاجر الفلاني – وسماه - ، وقل له : يقول لك محمد بن الحسن : ادفع لي الاثنا عشر اشرفياً التي كنت نذرتها لنا . ثم اقبض المال منه واصرفه في ضيافتك .

_________________________

(1) المصدر نفسه ، ص 366 وما بعدها .

صفحة (125)

فذهب ذلك الرجل إلى ذلك التاجر ، وبلغ الرسالة عن ذلك الشخص . فقال له التاجر : أقال لك محمد بن الحسن ، بنفسه . فقال البحراني : نعم . فقال التاجر : وهل عرفته ؟ قال : لا . فقال : ذاك صاحب الزمان عليه السلام ، وكنت نذرت هذا المال له . ثم أنه أكرم هذا البحراني وأعطاه المبلغ وطلب منه الدعاء(1) الخ الحديث . 

الهدف السابع :

شفاؤه لأمراض مزمنة بعد أعجز عنها الأطباء ، وأخذت من صاحبها مأخذها العظيم .

مثاله : ما روي(2) عن السيد باقي عطوة العلوي الحسني: أن أباه عطوة كان لا يعترف بوجود الإمام المهدي (ع)، ويقول : إذا جاء الإمام وأبرأني من هذا المرض أصدق قولكم . ويكرر هذا القول . فبينما نحن مجمتعون في وقت العشاء الأخيرة صاح أبونا فأتيناه سراعاً . فقال : الحقوا الإمام ، في هذه الساعة خرج من عندي . فخرجنا فلم نر أحداً .

فجئنا إليه ، وقال : أنه دخل إليّ شخص ، وقال : يا عطوة ! فقلت : لبيك ، من أنت ؟ قال : أنا المهدي قد جئت إليك أن أشفي مرضك . ثم مد يده المباركة وعصر وركي وراح . فصار مثل الغزال . قال علي بن عيسى : سألت عن هذه القصة غير ابنه فأقر بها .

فانظر إلى المهدي (ع) كيف يقرن شفاءه للمرضى بإقامة الحجة على وجوده وإمامته ، بحيث لم يبقى لمنكرها أي شكل أو جدال .

الهدف الثامن :

هدايته للتائهين في الصحراء والمتخلفين عن الركب إلى مكان استقرارهم وأمنهم . وقد يقرن ذلك بإقامة الحجة على الرائي للتوصل إلى هدايته ، كما سمعنا في الهدف الأول . وأمثلته كثيرة ، نذكر الآن واحداً منها :

هو أن شخصاً ذهب إلى الحج مع جماعة قليلة عن طريق الإحساء . وعند الرجوع كان يقضي بعض الطريق راكباً وبعضه ماشياً . فاتفق في بعض المنازل أن طال سيره ولم يجد مركوباً . فلما نزلوا للراحة والنوم ، نام ذلك الرجل وطال به المنام من شدة التعب ، حى ارتحلت القافلة بدون أن تفحص عنه .

_________________________

(1) المصدر ، ص 306 وما بعدها .

(2) انظر ينابيع المودة ، ط النجف ، ص 548 وكشف الغمة ، جـ 3 ، ص 287 ، وكتاب المهدي ، ص 145 ، ومنتهى الآمال جـ 2 ، ص 310 .

صفحة (126)

فلما لذعته حرارة الشمس استيقظ ، فلم ير أحداً ، فسار راجلاً ، وكان على يقين من الهلاك ، فاستغاث بالإمام المهدي عليه لاسلام ، فرأى في ذلك الحال رجلاً على هيئة أهل البادية راكباً جملاً .وقال له : يا فلان ، افترقت عن القافلة ؟ فقال : نعم . فقال : هل تحب أو أوصلك برفاقك ؟ قال فقلت : نعم ، والله . هذا مطلوبي وليس هناك شيء سواه . فاقترب مني وأناخ راحلته ، وجعلني رديفاً له ، وسار . فلم نسر إلا قليلاً حتى وصلنا إلى القافلة .

فما اقتربنا منها ، قال : هؤلاء رفقاؤك . ووضعني ، وذهب(1) .

الهدف التاسع :

تعليمه الأدعية والأذكار ذات المضامين العالية الصحيحة ، لعدد من الناس .

وأمثلة ذلك كثيرة ، مما يفهم منه اهتمام الإمام عليه السلام بالأدعية ، لا بصفتها تمتمات لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل بصفتها نصوصاً ذات معان توجيهية تربوية ، ومسائل صالحة واعية ، سائرة في طريق الله تعالى .

ومن المعلوم أن أسلوب الدعاء أقرب إلى جوالتكتم والحذر ، من أي شيء آخر ، باعتبارها الوسيلة المعترف بمشروعيتها عموماً ، في الاتصال بالله عز وجل ، ولا يمكن لأي سلطة من السلطات المحاسبة على ذلك . ومن هنا رأينا الإمام زين العابدين عليه السلام قد اتخذ في تربية الأمة أسلوب الدعاء ، وضمن أدعيته أعلى المفاهيم وأجل الأساليب .

وكذلك سار الإمام المهدي (ع) في هذا الطريق ، وانتهج نفس المنهج فيما انتهجه من أعمال . فكان أن علم عدداً من الأفراد عدداً من الأدعية . من أهمها "دعاء الفرج" الذي يطلع الفرد على واقعه السيىء في عصور الفتن والانحراف ، ويفهمه أمله المنشود ويربطه بالله تعالى ارتباطاً عاطفياً إيمانياً وثيقاً ، إذ يقول:  اللهم عظم البلاء وبرح الخفاء وانقطع الرجاء وانكشف الغطاء وضاقت الأرض ومنعت

_________________________

(1) انظر النجم الثاقب ، ص 241 .

صفحة (127)

السماء . وإليك يا رب المشتكى وعليك المعول في الشدة والرخاء . اللهم فصل على محمد وآل محمد ، وأولى الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم فعرفتنا بذلك منزلتهم . ففرج عنا بحقهم فرجاً عاجلاً قريباً كلمح البصر ، أو هو أقرب ... الخ الدعاء(1) .

الهدف العاشر :

حثه على تلاوة الأدعية الواردة عن آبائه المعصومين عليهم السلام ، بما فيها من مضامين عالية وحقائق واعية تربوية وفكرية .

وأوضح أمثلته : ذلك الرجل الذي انقطع عن ركبه في ليل عاصف وماطر بالثلج ، إذ رأى أمامه بستاناً وفيه فلاح بيده "مسحاة" يضرب بها الاشجار ليسقط عنها الثلج .

قال الراوي : فجاء نحوي ووقف قريباً مني ، وقال : من أنت ؟ فقلت : ذهب رفاقي وبقيت لا أعلم الطريق ، وقد تهت فيه . فقال لي بالفارسية : صل النافلة حتى تجد الطريق . قال : فاشتغلت بالنافلة . وبعد أن فرغب من التهجد، جاء وقال : ألم تذهب ؟ فقلت : والله لا أعرف الطريق . فقال : اقرأ الجامعة(2) . وأنا لم أكن حافظاً للجامعة ، وإلى الآن لست حافظاً لها بالرغم من زياراتي المكررة للعتبات المشرفة . ولكنني قمت من مكاني وقرات الجامعة بتمامها عن ظهر قلب .

ثم ظهر تارة أخرى ، وقال : ألم تذهب ، ألا زلت موجوداً . فلم أتمالك عن البكاء ،وقلت : نعم .. لا أعرف الطريق. فقال : اقرأ عاشوراً(3) . قال الراوي : وأنا غير حافظ لعاشورا ، وإلى الآن لست حافظاً لها . ولكنني وقفت واشتغلت بالزيارة ، فقرأتها بتمامها عن حفظ .

_________________________

(1) المصدر السابق ، ص 263 .

(2) وهو الدعاء الذي يبدأ بقوله : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة .. يزار به الإمام الحسين بن علي عليه السلام . انظر مفاتيح الجنان ، ص 544 وما بعدها .

(3) وهو الدعاء الذي يبدأ بقوله : السلام عليك يا ابا عبدالله .. يزار به الإمام الحسين بن علي عليه السلام . انظر مفاتيح الجنان ، ص 456 .

صفحة (128)  

قال : فجاء مرة أخرى ، وقال : ألم تذهب ؟ فقلت : كلا ... لا زلت موجوداً هنا إلى الصباح . فقال : أنا الآن أوصلك بالقافلة . ثم ذهب وركب حماراً وحمل مسحاته على كتفه وجاء فأردفني به . قال الراوي : فوضع يده على ركبتي وقال : أنتم لماذا لا تقرأون عاشورا ؟ ... عاشورا ، عاشورا ، عاشورا ... كررها ثلاث مرات . ثم قال : أنتم لماذا لا تقرأون الجامعة ؟ الجامعة ، الجامعة ، الجامعة ثلاث مرات . وكان يدون في مسلكه .. وإذا به يلتفت إلى الوراء ويقول : أولئك أصحابك . إلى آخر الخبر(1) .

أقول : المراد من النافلة ، صلاة الليل ، كما فهم الحاج النوري(2) فإن الراوي أتى بها في الليل . وهذه الصلاة من أفضل المستحبات في الشريعة . وكل ما أمر به في هذه الرواية فهو من أفضل المستحبات ... على أن يفهم فهماً حقيقياً واعياً ، بصفته كجزء من كل ، مرتبط بالكيان العام للعمل الإسلامي في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته . ولهذا أمر المهدي (ع) بالالتزام بها أمراً مؤكداً ، بعد أن رأى الناس قد تسامحوا بها وتهاونوا في امتثالها .

وقوله له بعد كل عمل يقوم به الراوي : ألم تذهب ؟ إنما هو لاحتمال أن يكون الراوي التائه في خلال العمل يكون قد خطرت له فكرة للخلاص ، وخاصة بعد أن يكون قد توجه إلى الله تعالى وتوسل إليه . ولما رأى المهدي (ع) أن طرق النجاة مسدودة أمام هذا الرجل ، وأنه لا يفكر في إصابة الطريق ... أوصله بنفسه إلى قافلته . واستطاع المهدي (ع) أن يثبت حقيقته بعدة معجزات "مخففة" غير ملفته للنظر ، ذكرنا بعضها وأحلنا الباقي على المصدر الذي اعتمدناه .

فهذه عشرة أهداف ، مما يتوخاه الإمام المهدي (ع) في عمله من مقابلة الأفراد ... مما قد يكون له – في المدى البعيد – أعمق الأثر على صعيد اجتماعي عام وعدد من الأفراد كبير . وللمهدي (ع) أهداف أخرى ، تظهر لمن يراجع أخبار المشاهدة ، نعرض عنها آسفين ، توخياً للاختصار .

_________________________

(1) انظر النجم الثاقب ، ص 343 ، ومفاتيح الجنان ، ص 551 .    (2) انظر النجم الثاقب ، ص 344 .

صفحة (129)

وباستعراض هذه الأهداف ، نفهم بوضوح ، مطابقتها لما ينبغي أن يكون هدفه طبقاً للقواعد المامة . حيث ذكرنا أن مقتضاها هو عمله في تطبيق جملة من التعاليم الإسلامية مما يمكنه تطبيقه في أثناء الغيبة ، وكل هذه الأهداف التي استعرضناها لا شك كونها تطبيقات أمينة للتكاليف التي يمكنه تطبيقها في هذه الفترة ... وقد عرفنا أقسامها في بحث سابق .

الأمر السابع :

في أنه هل هناك أشخاص يرون الإمام المهدي (ع) ويعرفونه على حقيقته ، على مر الزمان ، أو ما داموا الحياة ، أو ليس هناك أحد من هذا القبيل .

ويمكن أن نتحدث عن ذلك على ثلاثة مستويات :

المستوى الأول :

فيما هو مقتضى القواعد العامة من ذلك .

وفي هذا الصدد ، يكون بالإمكان أن يقال : أنه بعد أن علمنا أن أحد الأسباب الرئيسية لاحتجاب المهدي (ع) هو الخوف على نفسه من القتل ، بمعنى ضوررة بقائه إلى اليوم الموعود ، فلو كان مكشوفاً معروفاً ، لقتله الأعداء ، كما قتلوا آباءه عليه السلام ، ولتعذر تنفيذ اليوم الموعود بنص القرآن الكريم ، وقد دلت على ذلك بعض الروايات.

فمن ذلك ما رواه الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده إلى زرارة بن أيعن قال سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول : إن للقائم غيبة قبل أن يقوم . قلت : ولم ذلك جعلت فداك ؟ قال : يخاف ... وأشار بيده إلى بطنه وعنقه .

_________________________

(1) انظر اكمال الدين المخطوط .

صفحة (130)

وما رواه أيضاً بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي "الطحان" قال دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وآله . فقال لي مبتدئاً : يا محمد بن مسلم أن في القائم من آل محمد شبهاً من خمسة من الرسل ... إلى أن قال : وأما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته الخ الحديث(1) .

وقال الشيخ الطوسي قدس سره : مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه من القتل بإخافة الظالمين إياه ، ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه(2) .

إذا عرفنا ذلك ، أمكن القول أن الغيبة والاحتجاب تدور مدار الخوف ، على الدوام . فمتى كان الخوف موجوداً كانت الغيبة سارية المفعول ، ومتى ارتفع الخوف ، لم يكن ثمة موجب للغيبة .

وارتفاع الخوف أما أن يكون ارتفاعاً كاملاً مطلقاً ، عند توفر العدة والعدد للمهدي عليه السلام ، فيوجب ارتفاع الغيبة والظهور الكامل حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . وأما أن يكون ارتفاعه بالنسبة إلى شخص أو إلى جماعة فيوجب ارتفاع الغيبة عنهم خاصة ، ومن هنا يمكن للواحد منهم أن يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته على طول الخط .

وهذا ما يحدث للخاصة من الموثوقين الكاملين الناجحين في التمحيص الإلهي بالمعنى الذي سنسمعه في مستقبل هذا التاريخ . حيث لا يكون هناك احتمال القتل أو الوشاية أو التصريح أو التلميح على كل حال .

وقد يكون ارتفاع الخوف ، منحصراً في ساعة من الزمن ، فترتفع الغيبة خلال هذه الساعة ، وهذا ما يحدث في المقابلات التي سمعناها . ولكن قد يكون ارتفاع الغيبة مشروطاً بعدم اطلاع الرائي على الحقيقة إلا بعد الفراق ، كما رأينا في أغلب المقابلات .

ومعه فمن الممكن القول أن أي فرد يبلغ مرتبة الكمال المطلوب في التمحيص الإلهي ، فإنه يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته ، كما يرى أي شخص آخر . وإن كان هذا مما لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين، لمدى التزام هؤلاء الناس بالكتم المطلق والسرية التامة .

_________________________

(1) المصدر نفسه .   (2) الغيبة : للشيخ الطوسي ، ص 61 .

صفحة (131)  

ويمكن الاستدلال في هذا الصدد ، بما دل من الروايات بأن المهدي (ع) في تقية حتى يأذن الله تعالى له بالظهور التام . كالذي أخرجه الشيخ(1) بسنده عن علي بن إبراهيم بن مهزيار في مقابلته للمهدي (ع) أنه قال له فيما قال : والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي ، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي ، فأخرج ، الخبر .

فإن التقية معناها اتقاء الضرر ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان هناك خوف الضرر أو احتاله ، وأما في الأشخاص الموثوقين الكاملين ، فلا يوجد هذا الاحتمال ، فيرتفع سبب التقية ويكون الاحتجاب بلا موجب .

كما يمكن الاستدلال في هذا الصدد بما دل على أن المهدي (ع) بعيد خلال غيبته عن دار الظالمين ومجاورة المنحرفين ، كالذي ورد في نفس خبر علي بن إبراهيم ابن مهزيار السابق من قول الإمام المهدي (ع) : يا ابن المازيار ، أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب أليم . الخبر .

حيث عرفنا فيما سبق أن مجاورة المنحرفين بالشخصية الثانية لا محذور فيها ولا خطر منها ، وإنما تكون المجاورة معهم خطراً ، فيما إذا كانوا عارفين بحقيقة المهدي (ع) مطلعين على صفته الواقعية ، لأنهم حينئذ لا محالة يقتلونه على أي حال . إذن ، فمن لا يوجد في حقه هذا الاحتمال ، لا موجب للبعد عنه وترك مجاورته مع المعرفة بالحقيقة ، فإنه إذا ارتفع السبب ارتفع موجبه لا محالة . وذلك لا يكون إلا في الاصة الكاملين في الوثاقة والإيمان .

وهناك أشكال أخرى من الروايات ، يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد ، نعرض عنها توخياً للاختصار .

وإذا تمّ لدينا أن مقتضى القاعدة هو عدم احتجاب المهدي (ع) عن خاصته ، أمكن لنا أن نفهم المستويين الآتيين على هذا الضوء .

_________________________

(1) الغيبة ، ص 161 .

صفحة (132)

المستوى الثاني :

ما دل من أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، على وجود مرافق أو عدد من المرافقين مع المهدي عليه السلام ، كالقصة الثامنة والثالثين(1) والقصة الثالثة والثمانين(2) ، مما ذكره الحاج النوري في نجمه الثاقب ، ورواية اسماعيل بن الحسن الهرقلي(3) التي دلت على أنه رأى ثلاثة فرسان كان أحدهم المهدي عليه السلام بدلالة أقامها له ، وفيها دلالة على أن الفارسين الآخرين كانا يعرفان حقيقته بكل وضوح .

ومن ذلك ما دل على أن بعض الخاصة الموثوقين ، كانوا يرون المهدي (ع) ويعرفونه أينما صادفوه ، كالسيد مهدي بحر العلوم ، كما يظهر من الحكاية الثالثة والسبعين(4) من النجم الثاقب ، والقصتين اللتين يليانها .

ومن ذلك ما دل على أن المهدي (ع) يستصحب معه خاصته في أسفاره ويشركهم في أعماله . كالخبر الذي أرويه عن سيدنا الأستاذ آية الله السيد محمد باقر الصدر عن أستاذه وأستاذنا آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ، وهما من أعاظم علماء العصر ومحققيهم أدام الله ظلهما عن أحد المؤمنين يسميه السيد الخوئي ويوثقه ويصفه بأنه من الإيمان والورع على حد عظيم وهو صاحب القصة ، وحيث أنها غير موجودة في المصادر فيحسن في هذا الصدد إعطاء نبذة كافية عنها .

كان هذا الرجل في أحد ال أيام عصراً في مسجد الكوفة ، وبينما هو يمشي محاذياً لغرفه المنتشرة في حائط سوره، رأى في إيوان كائن إمام أحد الغرف فراشاً مفروشاً وقد استلقى عليه شخص مهيب جليل ، وجلس بإزائه رجل آخر. قال : فتعجبت من وجودهما وسألت الرجل الجالس عن هذا المستلقي فأجاب : سيد العالم. قال : فاستهونت بجوابه وحسب أنه يريد كونه سيداً عالماً ، لأن العامة هناك ينطقون العالم بفتح الالم .

_________________________

(1) ص 305 .  (2) ص 354 .   (4) ص 348 .

(3) انظر كشف الغمة ، ص 283 وما بعدها . وينابيع المودة ، ط النجف ، ص 546 . وكتاب المهدي ، ص 143.

صفحة (133)

ثم أن هذا الرجل مضى للوضوء والاشتغال بصلاة المغرب والعشاء والتهجد في محراب أمير المؤمنين عليه السلام، حتى اجهده التعب والنعس ، فاستلقى ونام . وحينما استيقظ وجد المسجد مضيئاً يقول : حتى أني أستطيع أن أقرأ الكتابة القرآنية المنقوشة في الطرف الآخر من المسجد . فظننت أن الفجر قد بزغ ، بل مضى بعد الفجر زمان غير قليل ، وأني تأخرت في النوم زائداً عن المعتاد .

فخرجت إلى الوضوء فوجدت في الدكة التي في وسط المسجد جماعة مقامة للصلاة ، يؤمها "سيد العالم" ويأتم به أناس كثيرون بأزياء مختلفة وجنسيات فعجبت من وجود هؤلاء في المسجد على خلاف العادة .

ثم أني أسبغت الوضوء والتحقت بالجماعة ، وصليت الصبح معهم ركعتين ، وحين انتهت الصلاة ، قام ذلك الرجل المشار إليه وتقدم إلى أمام الجماعة : سيد العالم ، وسأله عني قائلاً : هل نأخذ هذا الرجل معنا ؟ فأجاب سيد العالم: كلا ، فإن عليه تمحيصين لا بد أن يمر بهما .

وفجأة ، اختفى هذا الجمع ، وساد المسجد ظلام الليل ، وإذا بالفجر لم يبزغ بعد ، بل بقي إليه زمان ليس بالقليل .

وهذه القصة تدلنا على أمور عديدة ، يهمنا فعلاً منها أن هؤلاء الخاصة الذين جمعهم المهدي (ع) من محتلف أنحاء المعمورة ، استطاع أن يشركهم في أعماله وأسفاره ، بعد أن نجح كل فرد منهم في التمحيص الإلهي نجاحاً كاملاً . وأما صاحبنا راوي القصة ، فهو بالرغم من سمو كعبه في التقوى ، فإنه لم يبلغ تلك المنزلة الرفيعة ، التي بلغها هؤلاء ، ومن ثم رفض المهدي (ع) اشراكه في أعماله ، بل لعل الرجل لم يعرف حقيقة الأمر إلا بعد انتهائه .

وهذا مطابق لما قلناه على المستوى الاول ، من أن الموثوق الكامل ، لا يكون المهدي (ع) محتجباً عنه ، ولا غائباً بالنسبة إليه ، وإن كان لا يمكن أن نلم بذلك إلماماً .

صفحة (134) 

المستوى الثالث :

ما دل من الروايات على أن مع المهدي (ص) حال غيبته فرداً أو أكثر ، ممن يقوم بخدمته ويؤدي بعض مهماته ، ويندرج في ذلك عدة روايات سبق أن سمعنا بعضها : منها : رواية المفضل بن عمر السابقة عن أبي عبدالله (ع) حيث يقول عن المهدي (ع) فيما يقول : لا يطلع على موضعه أحد من ولد ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره(1) .

وهذا واضح جداً في وجود خادم له يرعى شؤونه الخاصة ، ويعرفه على حقيقته . ويمكننا أن نفهم ، انطلاقاً من طروحة خفاء العنوان ، أن المهدي (ع) يعيش بشخصيته الثانية في المجتمع ، وبشخصيته الحقيقية مع خادمه . فقوله : لا يطلع على موضعه يراد به موضعه بصفته الحقيقية . ولا بد أن نفترض حتماً إن هذا الخادم من الموثوقين الكاملين ، الذين لا يمكن أن يصرحوا بذات نفوسهم مهما كلفهم الأمر .

ومنها : رواية أبي بصير السابقة عن أبي جعفر (ع) قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ولا بد من عزلته في قوة ، وما بثلاثين من وحشة ، ونعم المنزل طيبة(2) .

فإن ظاهرها كون هؤلاء الثلاثين من الخاصة المطلعين على حقيقته . وإن كانت مخالفة لأطروحة خفاء العنوان ، من حيث دلالتها على عزلة المهدي (ع) عن المجتمع ، بحيث لولا هؤلاء الثلاثين نفراً لكان ينبغي أن يستوحش من الانفراد . على حين تقول هذه الأطروحة أن المهدي (ع) يعيش في المجتمع كفرد عادي غير منعزل ، ولا موجب للوحشة سواء عرفه البعض أو جهلوه . وليس هذا مهماً ، بعد أن استدللنا على هذه الأطروحة بما فيه الكفاية بحيث لا يقوم ضدها مثل هذا الخبر .

هذا هو الكلام في الجهة الثانية من الفصل الرابع . وهي في الحديث عن الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غيبته الكبرى .

وبهذا ينتهي هذا الفصل الرابع ، من هذا القسم من التاريخ .

_________________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 102 . (2) نفس المصدر والصفحة .

صفحة(135)  

الفصل الخامس

في مراسلة المهدي (ع) للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي قدس سره  

فقد تفرد الطبرسي في الاحتجاج بذكر كتابين أرسلهما الإمام المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد ، يتضمنان بعض المطالب الصحيحة الواعية ، وبعض التنبؤات الرمزية على ما سنذكر .

وينبغي أن نتحدث عن هاتين الرسالتين ضمن عدة نواحٍ :

الناحية الأولى :

فيما ينبغي أن نعامل به هاتين الرسالتين ، بحسب القواعد العامة ،من حيث سندهما تارة ومن حيث مداليلهما أخرى. ومن هنا يقع الكلام في أمرين :

الأمر الأول :

في سند هاتين الرسالتين .

والملاحظ في هذا الصدد أن الطبرسي ذكرهما بدون سند ، ولم نجدهما في المصادر المتأخرة عنه فضلاً عن المتقدمة عليه . فهما روايتان مرسلتان وغير قابلتين للإثبات التاريخي من هذه الناحية .

إلا أن الذي يرجح الأخذ بهما عدة أسباب :

السبب الأول :

إرسال الطبرسي لهما إرسال المسلمات ، مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما ، وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه ، كما فعل في كثير من روايات كتابه ، وإن كانت مصادر هذه الإسناد قد تلفت في العصور المتأخرة عنه . وهذا السبب يعطي ظناً كافياً بصحة السنة ، وإن كان لا يبلغ حد الإثبات التاريخي .

صفحة (137)

السبب الثاني :

تضمن الروايتين ، على ما سنسمع لتوجيهات عالية وتنبؤات صادقة . بحيث لو كنا علمنا بها قبل وقوع الحوادث المذكورة فيها ، لجزمنا بعدم إمكان صدورها إلا عن المهدي (ع) .

السبب الثالث :

إن المصلحة العامة تقتضي صدور هذه الرسائل ، في أول زمان الغيبة الكبرى ، وذلك لإحراز مصلحتين :

المصلحة الأولى :

إعطاء المهدي (ع) لقواعده الشعبية القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى . بحيث لولاها لكان من المحتمل أن يُساء التصرف في الدين ، وينغلق باب الوصول إلى الأهداف المطلوبة في الإسلام .

ومن الطبيعي أن يكون إبلاغ هذه القواعد والمفاهيم ، موقوتاً في أول الغيبة الكبرى ، لئلا يمر زمان كبير والناس غافلون عن مثل هذه التوجيهات .

المصلحة الثانية :

إعطاء المهدي (ع) القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين ، بعد أن انسحب هو منها من الناحية العملية ، وانتهى السفراء الخاصون أيضاً . فكان أهم العلماء الصالحين في ذلك العصر ، هو الشيخ المفيد، ومن هنا وجّه الرسالة إليه ، ليكون هو – بصفته عالماً صالحاً – المنطلق الأول لانتشار التعاليم العليا والتوجيهات الرئيسية .

صفحة (138)

وهذا خط كان قد بدأه الإمام العسكري (ع) حين أرسل لابن بابويه رسالة يعبر عنه بقوله : يا شيخي يا أبا الحسن. كما سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) .

وحيث نعلم أن الأسلوب الطبيعي لإيجاد هاتين المصلحتين ، منحصر بطريق المراسلة ، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى ، يكون الظن عندئذ بصدور الظن أن هاتين الروايتين يصلحان للإثبات التاريخي ، بالرغم من الإرسال الذي يتصفان به .

الأمر الثاني :  في مداليل هاتين الرسالتين :

ينقسم مدلولهما – بشكل رئيسي – إلى قسمين :

القسم الأول :

التوجيهات العامة التي يذكرها الإمام لقواعده الشعبية ، وكلها صحيحة ومتينة ، ما عدا أمور قليلة لا تخلو من المناقشة ، على ما سوف نشير . ولا يضرنا ذلك حتى لو أنكرنا صحة هذه الأمور ، فإن إنكار البعض لا يقتضي إنكار الكل ، كما سبق أن أكدنا عليه .

القسم الثاني :

التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى زمن صدور الرسالة . ويغلب على عبارات هذه التنبؤات، شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول ، بحيث يصعب تشخيصها علينا ، ونحن بهذا البعد الكبير ، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو أن من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه ، وخاصة وهو يعيش الحوادث ، التي أشار إليها المهدي في كتابه .

والرسالتان ، كما عرفنا ، غير خاصة بالشيخ المفيد ، وإن كان هو المرسل إليه ، وإنما هي عامة لكل الخواص من المؤمنين بالمهدي (ع) . ومعه لا تكون الحوادث المذكورة في الخطاب خاصة بالسنين التي عاشها الشيخ المفيد ، بل لعل عدداً من الحوادث كانت سوف تحصل بعد وفاته ، وبذلك ينفتح لنا مجال واسع للتعيين التاريخي للحوادث .

(1) انظر : ص 196 منه .

صفحة (139)

الناحية الثانية :

في بيان تاريخ صدور هذين الخطابين من حيث الزمان والمكان ، ونحو ذلك .

أما الرسالة الأولى فقد وصلت في أخواخر شهر صفر عام 410 ، أي قبل ثلاثة أعوام تقريباً من وفاة المرسل إليه الشيخ المفيد الذي توفي عام 413(1) .

والرسالة الأخرى مؤرخة في عام 412 أي قبل وفاته بعام واحد . ويكون قد مر ما يزيد على الثمانين عاماً بقليل على وفاة الشيخ علي بن محمد السمري ،السفير الرابع .. أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام 326(2) .

وذكر موصل الكتاب الأول : أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز(3) . فنعرف من ذلك أن المهدي (ع) كان في ذلك الحين في نواحي الحجاز ، وقد أرسل هذه الرسالة من هناك بيد بعض خاصته .

والرسالة الثانية مؤرخة في غرة شوال(4) من العام المشار إليه . وقد وصلت يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة في نفس العام(5) أي أنها بقيت في الطريق ، إلى المرسل إليه ثلاثة أشهر إلا سبعة أيام .

وكلا الخطابين مكتوبان بإملاء المهدي (ع) وخط غيره من بعض ثقاته ، كما يظهر من الرسالة الأولى ، وتنص عليه الرسالة الثانية . ولكنهما معاً مذيلان بأسطر قليلة بخط الإمام نفسه ، يشهد فيها بصحة هذا الكتاب ، ويأمر الشيخ المفيد بإخفاء الرسالة تاماً عن كل أحد . ولكن عليه أن يكتب عنها نسخة ليطلع عليها الموثوقين من أصحابه أو يبلغه لهم شفاها ليعملوا بما فيه .

_________________________

(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 313 .  (2) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 413 .  (3) الاحتجاج ، جـ2 ، ص 318 .

(4) المصدر ، ص 325 .  (5) المصدر ، 324 .

صفحة (140)

الناحية الثانية :

في بيان نبذة عن الظروف التاريخية التي صدر في غضونها هذان الخطابان . بحسب ما دلنا عليه التاريخ الإسلامي العام . فإن ذلك مما سنحتاجه لدى الخوض في تفسير ما ذكره الخطاب من التنبؤات .

ويمكن تلخيص الكلام في هذه الظروف التاريخية في عدة نقاط :

النقطة الأولى :

كانت البلاد الإسلامية في ذلك الحين تعاني التفكك والتفسخ المؤسف ، في أواخر عهد البويهيين في بلاد فارس ، ورجوع أمرهم إلى القتال بين أمرائهم وقوادهم ، وبينهم وبين الأتراك الحاكمين لخراسان وما وراء النهر ، بعد الدولة السامانية .

وكان أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام 407(1) . وأما مصر فقد استقل بها العلويون "الفاطميون" أولاد المهدوي الإفريقي . وكان أن توفي الحاكم بأمر الله عام 411 وولي بعده ابنه الظاهر(2). وتكاد مصر أن تكون أكثر البلاد استقراراً بأيديهم .

وأما الشمال الإفريقي ، فقد آل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز لدين الله إلى مصر عام 341(3) حيث أسس الدولة الفاطمية فيها . وكان في الشمال الإفريقي حرب عام 406 ، تكشفت عن فوز أميرها باديس ، وخلفه بعده موته في نفس العام ابنه المعز(4) حتى مات عام 413(5) .

_________________________

(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 290 .  (2) المصدر ، ص 304 .  (3) الكامل ، جـ 6 ، ص 341 .

(4) المصدر ، جـ 7 ، ص 279 .  (5) المصدر ، ص 313 .

صفحة (141)

وأما بغداد ، فلا زالت منذ عام 381 بيد القادر بالله العباسي . وكان قد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام قبل خلافته ، وهو يقول له : هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه ، فأحسن إلى ولدي وشيعتي(1).

وكانت نقابة العلويين هناك قد صارت إلى الشريف المرتضى علم الهدى ، بعد وفاة نقيبها محمد بن الحسين الشري الرضي عام 406(2) .

حتى مكة لم تنج من الاغتشاش ، ففي عام 414 في النفر الأول يوم الجمعة ، قام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول وفي الأخرى دبوس وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بالدبوس . وقال : إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي ، فليمنعني مانع من هذا ، فإني أريد أن أهدم البيت . فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه ، وكاد يفلت.فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس واحرقوه . وقتل ممـن اتهم بمصاحبته جماعة واحـرقوا(3) .

ولم تنج بغداد من اختلاط الأمور ، عام 416 بيد السراق والعيارين(4) وعام 417 بيد الأتراك حتى أحرقوا المنازل والدروب(5) .

النقطة الثانية :

كان أثر هذه الفتن سارياً إلى الحج نفسه ، فقد كان يعاني الحجاج صعوبات جمة ، إلى حد قد ينقطع الحج بالكلية ، كما حدث عام 401(6) وعامي 410 و 411(7) وعام 416(8) وعام 417(9) وعام 418(10) على التوالي .

_________________________

(1) المصدر ، ص 149 .   (2) المصدر ، ص 281 .   (3) الكامل ، جـ 7 ، ص 314 .  (4) المصدر ، ص 423 .

(5) المصدر ، ص 325 .  (6) المصدر ، ص 256 .  (7) المصدر ، ص 310 . (8) المصدر ، ص 324 .

(9) المصدر ، ص 327 .  (10) المصدر ، ص 330 .

صفحة (142)

وكانت هناك سعايات حسنة عام 412 لأجل سلامة الحجاج(1) من قبل صاحب خراسان محمد بن سبستكين الملقب بيمين الدولة .

النقطة الثالثة :

أنه كانت تقع حوادث مؤسفة بين أهل الإسلام من المذاهب المختلفة .

والسبب الرئيسي في ذلك : هو أن الحكم كان محسوباً على الشيعة منذ تأسيس الدولة البويهية في فارس والعراق والدولة الحمدانية في حلب . وكان البويهيون هم المسيطرون على استخلاف الخليفة واستيزار الوزير . وكانوا يعطون لأهل مذهبهم الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم والقيام بأعيادهم ومآتمهم . وكان هذا يحدث أثراً سيئاً لدى ذوي المذاهب الإسلامية الأخرى ، ولم يكن لديهم حكم مباشر ليتوقعوا من الحاكمين أن يحولوا دون هذه المظاهر .

فكان الشعب نفسه هو الذي يحاول أن يحول دون ذلك ، وخاصة حين يجد من الشيعة اندفاعاً طائفياً مؤسفاً، اغتناماً لفرصة الحرية المعطاة لهم . فكانت أيام المناسبات العامة تشهد حرباً عامة بين أهل الإسلام . ولعمري لو كان كال فريق منهم يشعر بمسؤوليته الإسلامية وإخوته الدينية ، لما عمل ما عمل ، ولما صدر منه ما صدر ، ولله في خلقه شؤون .

ولم يكن أهل المذاهب الأخرى ، ليجدوا الفرصة المواتية ، حال قوة الدولة البويهية وجبروتها . وإنما انفسح لهم المجال بشكل واضح في الفترة التي نؤرخ لها ، باعتبار ما آل إليه أمر البويهيين من التفرق والانحلال .

ولسنا نريد أن نطيل في وصف الحوادث . وحسبنا أن نعرف ، أنه قد حدث في بغداد في يوم عاشوراء عام 406 حوادث مؤسفة(2) ،وفي العام الذي يليه في واسط(3) وفي شمال إفريقيا حيث قتلت جميع الشيعة،كما ذكر التاريخ(4).

_________________________

(1) المصدر ، ص 310 .  (2) الكامل ، جـ 7 ، ص 281 .  (3) المصدر ، ص 295 . (4) المصدر ، ص 294 .

صفحة (143)

وكذلك في بغداد في عام 408 أيضاً(1) واشتد عام 409 وحتى أدى إلى نفي أبي عبدالله النعمان الشيخ المفيد من بغداد(2) . وتكرر مثل ذلك في الكوفة عام 415(3) وفي بغداد أيضاً عام 422(4) .

النقطة الرابعة :

كانت الطبيعة أيضاً تشارك في الحوادث ، وكأنها تظهر الأسف على الظلم الساري على الأرض .

ففي عام 401 انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه . وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً ، وغرق كثير من بغداد والعراق(5) .

وفي عام 406 وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد ، حتى عجز الحفارون عن حفر القبور(6) وفيها نزل في حزيران مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد(7) .

وفي رمضان من عام 417 انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض ، فسمع له دوي عظيم (8) .

وفي العام الذي يليه سقط في العراق جميعه بَرَد يكون في الواحدة رطل أو رطلان ، وأصغره كالبيضة ، فأهلك الغلات ، ولم يسلم منها إلا القليل(9) .

وفي نفس العام في آخر تشرين الثاني ، هبت ريخ باردة في العراق جمد منها الماء والخل وبطل دوران الدواليب في جدة(10) .

_________________________

(1) المصدر ، ص 299 .  (2) المصدر ، ص 300 .  (3) المصدر ، 316 .  (4) المصدر ، ص 355 . (5) المصدر ، ص 256 .

(6) المصدر ، ص 281 .  (7) المصدر والصفحة .  (8) المصدر ن ص 327 .  (9) المصدر ، ص 330 .  (10) المصدر والصفحة .

صفحة (144)

وفي عام 421 سقط في البلاد بَرَد عظيم ، وكان أكثر في العراق فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهروان وألقته على بعد من غربيها . وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور ، وقلعت سقف المسجد الجامع ببعض القرى(1) .

الناحية الرابعة :

في استعراض نص الرسالة الأولى :

"للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ، أدام الله أعزازه ، من مستودع العهد المأخوذ على العباد .

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد ، سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين ،المخصوص فينا باليقين .فأنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأل الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين .

ونُعلمك – أدام الله توفيقك لنصرة الحق ، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق - : أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قِبَلَك ، أعزهم الله بطاعته ، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته . فقف – أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه – على ما أذكره وأعمل على تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله .

نحن وإن كنا ناوين(2) بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين . فأنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .

_________________________

(1) المصدر ، ص 343 .   (2) في المصدر : ناوين بالنون الموحدة والظاهر كون ثاوين بالثاء المثلثة .

صفحة (145)

أنا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم الأواء , وأصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله . وهي إمارة لأزوف حركتنا ومبّاثتكم بأمرنا ونهينا . والله متم نوره ولو كره المشكرون .

اعتصموا بالتقية ، من شب نار الجاهلية ، يحششها عصب أموية ، يهول بها فرقة مهدية . أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية .

إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه ، فاعتبروا بما يحدث فيه ، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه .

ستظهر لكم في السماء آية جلية ، ومن الأرض مثلها بالسوية . ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق. ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق ، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق . ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار ، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار .

ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق . ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق ، شأن يظهر على نظام واتساق .

فليعمل كل أمرءٍ منكم بما يقربه من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا ، فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة .

والله يلهمكم الرشد ، وبلطف لكم في التوفيق برحمته .

وبعده يلي توقيع الإمام المهدي (ع) في ذيل الكتاب ، كما أشرنا إليه في الجهة الثانية من هذا الفصل(1) .

_________________________

(1) انظر الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .

صفحة (146)

الناحية الخامسة :

في شرح المفاهيم والتنبؤات الرئيسية التي وردت في هذا الخطاب . ويمكن إعطاء تفاصيل ذلك ، ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى :

قوله (ع) : قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة .

فإن المهدي (ع) لا يقوم بالعمل إلا بإدن الله تعالى ، وحيث صدر الإذن بإرسال هذا الكتاب ، فقد تصدى المهدي لإرساله .

ولفهم هذا الإذن أطروحتان :

الأولى : صدور الإذن المباشر من قبل الله عز وجل في كل واقعة واقعة . ذلك الإذن المستفاد بالإلهام ونحوه من مراتب العلوم التي يختص بها الإمام المعصوم (ع) كما دلت عليه بعض الأخبار .

الثانية : الإذن الإلهي المستفاد من بعض القواعد العامة التي يعرفها المهدي عليه السلام ، ويستطيع تطبيقها في كل مورد . تلك القواعد التي نعبر عنها باقتضاء المصلحة الإسلامية لشيء من الأشياء . فإذا أحرز المهدي (ع) ، وجود المصلحة في المراسلة مثلاً ، فقد أحرز وجود الإذن الإلهي بالعمل على طبق تلك المصلحة . ومعه يكون سبب الإذن، هو وجود المصلحة ليس إلا ، من دون إذن مباشر ، كما قالت الأطروحة الأولى .

وترجيح إحدى الأطروحتين على الأخرى موكول إلى القارئ .

النقطة الثانية :

قوله عليه السلام : أعزهم الله بطاعته .

وهو تنبيه إلى استلزام الخروج عن طاعة الله تعالى للذل والصغار ، واستلزام الالتزام بها للعز والشرف . فيجب الخروج من ذل معصية الله والدخول في عز طاعة الله تعالى .

وذلك واضح جداً بحسب مفاهيم الإسلام ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . والخضوع لله تعالى هو الخضوع للحق من ناحية ، وخضوع مجانس لما خضع له الكون كله وهو القدرة الأزلية والحكمة اللانهائية ، وكلا الأمرين عدل وحق ن بمنطق العقل الصحيح .

صفحة (147)

على أن الخضوع لله عز وجل ، بمعنى الالتزام بأوامره ونواهيه وقصر السلوك عليها ، يغني الفرد عن اتباع سائر مصادر التشريع البشرية المنحرفة التي على الانزلاق إلى مهاوي الباطل ، وعلى رأسها المصالح الشخصية والقوانين الوضعية ... فيكون الفرد متعالياً عنها عزيزاً منيعاً من جهتها .

على حين  أن البعد عن الالتزام بتعاليم الله العادلة ، يستلزم – لا محالة – وجود فراغ في السلوك ، يملؤه الفرد بأساليب الانحراف ، فيكون خاضعاً لمقتضياته ، وذليلاً أمامها . وهو معنى ذلة معصية الله عز وجل .

وهناك أكثر من معنى آخر ، لمعنى العزة في طاعة الله عز وجل ، لا حاجة إلى الإطالة ، بسبب بيانه .

وعلى أي حال ، فهذا هو المراد بقوله : أعزهم الله بطاعته . وبقوله : ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم منذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .

فإن السلف الصالح كان عزيزاً بطاعة الله تعالى والالتزام بتعاليمه ، وكان شاسعاً – أي بعيداً – عن معصية الله عز وجل . وكان ملتزماً بالعهد الذي قطعوة أمام ربهم بالطاعة ، بصفتهم مسلمين إليه عارفين بأهمية تعاليمه .

فلما اتجه الخلف إلى ما كان السلف مبتعداً عنه ، وهو المعصية ومخالفة التعاليم الإسلامية ، أصبحوا أذلاء أمام مقتضيات الانحراف والمصالح الخاصة ، وبالتالي أمام أعداء الحق والإسلام . فأصبحوا مقصرين تجاه دينهم وعهد ربهم وأمتهم وأنفسهم .

ومن هنا نشعر – من وراء التعبير – بالمرارة والأسف الذي يعتلج في نفس الإمام المهدي (ع) من هذا الانحراف .

النقطة الثالثة :

قوله : نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين .

صفحة (148)

وهذا البعد عن مساكن الظالمين ، لا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين ، وكأن في هذا امتثالاً للأمر الذي ذكره المهدي لعلي بن مهزيار عن والده عليه السلام في أنه يسكن أقاصي الأرض وقفارها . وهو في ذلك المكان النائي يمكن أن يكون مختفي الشخص طبقاً لأطروحة خفاء الشخص ، أو ظاهر الشخص ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان .

وإذا كان مناسباً مع كلا الأطروحتين لم يكن نافياً لأي منهما ، ولا معيناً لإحداهما . وإن كان لا يخلو – على كلا الأطروحتين – من بعض المناقشات ، التي لا مجال للدخول في تفاصيلها .

وهذا الصلاح الذي يشير إليه في هذه العبارة ، يمت في الحقيقة إلى أصل الغيبة بصلة ، لا إلى مجرد النأي في المكان ،وإنما أخذ ذلك في السياق استطراقاً إلى الإشارة إلى مفهوم الغيبة نفسه . ومعه فالصلاح الذي رآه الله تعالى للمهدي وللمؤمنين به ، إنما هو في الغيبة نفسها . وهذا ما سيأتي تفصيله في القسم الثاني من هذا التاريخ.

النقطة الرابعة :

بيانه عليه السلام أنه يعيش على مستوى الأحداث ، يحيط علماً بكل الأنباء وتصله جميع الأخبار . حين قال: فأنا نحيط علماً بأنبائكم ، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم .

صفحة (149)

وهناك لإمكان اطلاعه على الأخبار ، عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى :

أنه عليه السلام يعلم بالأخبار ويطلع على أفعال الناس ، عن طريق الإلهام الإلهي ، أو الطريق الإعجازي الميتافيزيقي . ويؤيد ذلك ما دل على أن أعمال البشر أجمعين برها وفاجرها تعرض على الإمام في كل يوم وليلة ، ليرى فيها رأيه . وهو قوله تعالى : }فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون| ، وهم الأئمة عليهم السلام ، على ما نطقت به هذه الروايات(1) .

ويمكن أن يؤيد ذلك بمفهوم اجتماعي إسلامي ، وحاصله : ضرورة كون الإمام مؤيداً بالإلهام ، وذلك انطلاقاً من ثلاث مقدمات :

المقدمة الأولى :

إن الله تعالى حين ينيط مهمة معينة بشخص ، لا بد أن يجعل فيه القابلية الشخصية لتنفيذها والقيام بمتطلباتها . ومن الواضح عدم إمكان إيكال المهمة إلى شخص قاصر عنها أو عاجز عن تنفيذها .

المقدمة الثانية :

إن الله تعالى أوكل إلى النبي (ص) أولاً وإلى خلفائه المعصومين ثانياً ، قيادة العالم ، بحيث لو سمنحت الظروف لأي واحد منهم أن يقوم بالفتح العالمي الكامل لوجب عليه ذلك ، ولباشر القيادة العالمية بنفسه .

إذن ، فكل واحد من المعصومين قائد عالمي معد – من الناحية النظرية على الأقل – للقيام بمهمته الكبرى. ومعه لا بد – طبقاً للمقدمة الأولى – أن يكون لكل واحد منهم القابليات الكافية للقيادة العالمية ، والقيام بمثل هذه المهمة العظيمة .

المقدمة الثالثة :

إن القيادة العالمية تتوقف عن الإلهام ، لا محالة . فإن قيادة العالم شيء في غاية الدقة والعمق والتعقيد . ونحن نرى أن الدول لا زالت تحكم جزءاً من العالم بهيئات كبيرة وأفراد كثيرة ، وتنظيمات دقيقة وقوانين صارمة ، ومع ذلك فهي كثيرة الفشل في أعمالها وأقوالها . فكيف من يحاول قيادة العالم بمجموعه ، بحيث ترجع المقاليد العامة للحكم إلى شخصه فقط ، من الناحية الفكرية والعملية معاً .

ومعه ، فهذه المهمة لا يمكن تنفيذها ، إلا بوجود الإلهام للقائد العالمي . وحيث أن المهدي (ع) هو أحد الأئمة المعصومين ، طبقاً للمذهب الإمامي ، وقد ثبت بالضرورة كونه هو القائد العالمي في يوم العدل الموعود طبقاً لضرورة الدين الإسلامي ، بل كل الأديان السماوية ... إذن فيتعين كونه مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل . وإذا كان مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل . وإذا كان مؤيداً بالإلهام ، فلا غرابة من اطلاعه على أعمال العباد وكونه على مستوى الأحداث .

وهذه الأطروحة ، منسجمة مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين .

_________________________

(1) انظر هذه الأخبار في الكافي لثقة الإسلام الكليني، باب: عرض الأعمال على النبي(ص) والأئمة عليهم السلام.

صفحة (150)

الأطروحة الثانية :

أننا إذا غضضنا النظر عن الأطروحة الأولى ، وقلنا أن الإمام مؤهل طبيعياً لقيادة العالم من دون أي عنصر ميتافيزيقي . وكنا ملتزمين – كما هو الحق – بالأطروحة الرئيسية الثانية : أطروحة خفاء العنوان ...

إذن يثبت أن المهدي (ع) يعيش في المجتمع بشخصيته الثانية ، يتصل بالناس ويتكلم معهم ويفحص عن أخبارهم . من دون أن يخطر في بال أحد أنه هو المهدي المنتظر (ع) . بل قد يستطيع أن يخطط لاستقصاء تفاصيل الأخبار من سائر بلدان العالم وزواياه !

الأطروحة الثالثة :

إذا غضضنا النظر عما في الأطروحة الأولى من ثبوت الإلهام للإمام ، وعما في الأطروحة الثانية من معيشته وسكناه في صميم المجتمع . وأخذنا بما دل عليه هذا الخطاب ,ودلت عليه رواية ابن مهزيار ،من بُعد المهدي (ع)، عن المجتمعات ، وانفراده في السكنى بعيداً عن الناس .

إذن ، فمن الممكن للمهدي (ع) أن يعرف أخبار الناس عن طريق خاصته الذين يرونه ويعرفونه ،وهم في كل جيل، ثلاثون أو أكثر ، فيخطط عن طريقهم للاطلاع على أخبار أي مجتمع في العالم شاء .

وهذه الأطروحة تناسب مع كلا الأطروحتين الرئيسيتين . أما مناسبتها مع أطروحة خفاء العنوان فواضحة ، إذ يفترض – بعد كل ما سلف – أن المهدي (ع) ظاهر بالشخص ولكنه غير معروف الحقيقة ، وهو منعزل عن المجتمعات والجماعات ، لا يعرفه ولا يتصل به إلا خاصته . ومعه فيمكن للمهدي (ع) الحصول على الأخبار عن طريق هؤلاء الخاصة ، أو عن طريق وروده المجتمعات .

صفحة (151)

أحياناً بدون أن يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للانتباه ، ليستطلع من الأخبار ما يشاء أو يحادث من يريد كما يريد ، ثم يرجع إلى مسكنه متى أراد .

وأما مناسبة هذه الأطروحة ، مع أطروحة خفاء الشخص ، فلعدم اختفائه الشخصي عن خاصته ، وإن كان مختفياً عن سائر الناس . ومن الواضح أن خاصته غير مختفين عن الناس ، فيكونون هم همزة الوصل بين الناس وبينه ، في نقل أخبارهم إليه ، ونقل أخباره إليهم إذا لزم الأمر .

وعلى أي حال ، فكل واحدة من هذه الأطروحات الثلاث ، تبرهن إمكان أن يكون المهدي (ع) حال غيبته على مستوى الأحداث الاجتماعية ومواكبتها خبراً خبراً . وللقارئ أن يختار أياً من هذه الأطروحات شاء ، وإن كنت أعتقد بصعوبة التصديق بالأطروحة الثالثة باستقلالها ، لابتنائها على تنازلات غير صحيحة ، وغض النظر عن أمور واقعية .

النقطة الخامسة :

إن المهدي عليه السلام ، لمدى لطفه بنا ، وشعوره بالمسؤولية تجاهنا ،هو غير مهمل لمراعاتنا ولا ناس لذكرنا، ولولا ذلك لنزل بناء الأواء – وهو الشر – واطلمنا الأعداء ، أي استأصلونا وأبادونا . فجزاه الله عنا خير جزاء المحسنين .

فمن هنا يظهر بوضوح ، ما للمهدي عليه السلام من تأثير كبير في صلاح حال قواعده الشعبية وراحتهم وأمانهم ، بالمقدار الممكن له في غيبته . بل أنهم لمدينون له بالحياة ، إذ لولا أياديه الفاضلة ومساعيه الكاملة ، لما بقي لقواعده الشعبية وجود ، ولأبيدوا عن آخرهم تحت ضربات الأعداء المهاجمين ، وما أكثرهم في كل جيل .

وهذا التأثير من قبل المهدي (ع) يعتبر من أهم مسؤولياته الإسلامية حال غيبته ، كما عرفنا .

وهذا التأثير يكون واضحاً جداً بناء على الأخذ بأطروحة خفاء العنوان ، سواء قلنا بأن المهدي (ع) يعيش في المجتمعات أو قلنا أنه يعيش خارجاً عنها ... إذ على أي حال يستطيع القيام بالعمل المناسب عند الحاجة ، أما بنفسه أو بواسطة خاصته ، بالشكل الذي يستطيع به أن يحول بين الشر وبين وقوعه .

أحياناً بدون أن يكون ملفتاً للنظر أو مثيراً للانتباه ، ليستطلع من الأخبار ما يشاء أو يحادث من يريد كما يريد ، ثم يرجع إلى مسكنه متى أراد .

وأما مناسبة هذه الأطروحة ، مع أطروحة خفاء الشخص ، فلعدم اختفائه الشخصي عن خاصته ، وإن كان مختفياً عن سائر الناس . ومن الواضح أن خاصته غير مختفين عن الناس ، فيكونون هم همزة الوصل بين الناس وبينه ، في نقل أخبارهم إليه ، ونقل أخباره إليهم إذا لزم الأمر .

وعلى أي حال ، فكل واحدة من هذه الأطروحات الثلاث ، تبرهن إمكان أن يكون المهدي (ع) حال غيبته على مستوى الأحداث الاجتماعية ومواكبتها خبراً خبراً . وللقارئ أن يختار أياً من هذه الأطروحات شاء ، وإن كنت أعتقد بصعوبة التصديق بالأطروحة الثالثة باستقلالها ، لابتنائها على تنازلات غير صحيحة ، وغض النظر عن أمور واقعية .

النقطة الخامسة :

إن المهدي عليه السلام ، لمدى لطفه بنا ، وشعوره بالمسؤولية تجاهنا ، هو غير مهمل لمراعاتنا ولا ناس لذكرنا، ولولا ذلك لنزل بناء الأواء – وهو الشر – واطلمنا الأعداء ، أي استأصلونا وأبادونا . فجزاه الله عنا خير جزاء المحسنين .

فمن هنا يظهر بوضوح ، ما للمهدي عليه السلام من تأثير كبير في صلاح حال قواعده الشعبية وراحتهم وأمانهم ، بالمقدار الممكن له في غيبته . بل أنهم لمدينون له بالحياة ، إذ لولا أياديه الفاضلة ومساعيه الكاملة ، لما بقي لقواعده الشعبية وجود ، ولأبيدوا عن آخرهم تحت ضربات الأعداء المهاجمين ، وما أكثرهم في كل جيل .

وهذا التأثير من قبل المهدي (ع) يعتبر من أهم مسؤولياته الإسلامية حال غيبته ، كما عرفنا .

وهذا التأثير يكون واضحاً جداً بناء على الأخذ بأطروحة خفاء العنوان ، سواء قلنا بأن المهدي (ع) يعيش في المجتمعات أو قلنا أنه يعيش خارجاً عنها ... إذ على أي حال يستطيع القيام بالعمل المناسب عند الحاجة ، أما بنفسه أو بواسطة خاصته ، بالشكل الذي يستطيع به أن يحول بين الشر وبين وقوعه .

صفحة (152)

وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء الشخص ، فيكون تأثيره في خير المجتمع المسلم – مع غض النظر عن الافتراضات الفلسفية أو العرفانية – محتاجاً إلى تفسير لمنافاة خفاء الشخص مع الاختلاط بين الناس ، كما هو واضح . ويمكن الانطلاق إلى ذلك من أحد طرق :

الطريق الأول :

الدعاء . فإن الدعاء المستجاب عمل اجتماعي صحيح ، كما سبق أن عرفنا .

الطريق الثاني :

العمل بواسطة خاصته الذين يرونه ويعرفونه ،ويراهم الناس ويعرفونهم ،وإن جهلوا حقيقة وساطتهم للمهدي (ع).

الطريق الثالث :

عمله شخصياً بين الناس ، مع افتراض ارتفاع خفاء الشخص عند الحاجة إلى العمل . فيعود خفي العنوان، إلى حين انتفاء العمل .

النقطة السادسة :

قوله : فاتقوا الله جل جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله

أمرهم بتقوى الله سبحانه ، ومظاهرته – أي المهدي نفسه – بمعنى معاونته على انتياشهم أي إخراجهم وإنقاذهم من فتنة قد أنافت أي أشرفت عليهم . يهلك فيها من حم أجله ، يعني حل قوت موته ، ويحمي فيها من أدرك أمله ، وهو البقاء في الحياة .

وليست هذه الفتنة التي توجب الهلاك ، إلا ما كان يقع من حوادث دامية مؤسفة بين أهل المذاهب الإسلامية.

وإن من أهم المهام التي يستهدفها المهدي (ع) الحيلولة دون وقوع هذا الشر ودفع هذا العداء ، ولذا نسمعه يأمر قواعده الشعبية بأن يعينوه في إنجاز عمله وإيصاله إلى نتيجته وأخذهم بزمام المبادرة إلى القيام بما توجبه عليهم مسؤوليتهم من سلوك وما تقتضيه التعاليم من أعمال ، حتى ينجوا من الهلكة ومن الدخول في هذه الفتنة .

صفحة (153) 

النقطة السابعة :

قوله : اعتصموا بالتقية . من شب نار الجاهلية ، يحششها عصب أموية ، يهول بها فرقة مهدية(1) .

وهذا هو المنهج الذي يخطط المهدي (ع) للتخلص من هذه الفتنة ، وهو مكون من فقرتين :

الفقرة الأولى :

الالتزام بالتقية ، بمعنى الاحتياط للأمر واتقاء وقوع الفتن والشر . ومن أهم أساليبه عدم مجابهة أهل المذاهب الإسلامية الأخرى بما يغيضهم ويثير حفيظتهم ، حرصاً على جمع كلمة المسلمين ، وسيادة الأمن في ربوع مجتمعهم .

وليس الأمر بالتقية جديداً أو مستحدثاً منه عليه السلام ، بعد أن كان قد ورد عن آبائه المعصومين عليهم السلام التأكيد عليه . كقولهم (ع) : التقية ديني ودين آبائي ... ومن لا تقية له لا دين له ... وغير ذلك(2). فمخالفة هذا الأمر بشكل يوجب الضرر ، مع عدم وجود مصلحة إسلامية مهمة في إحداثه ،يعتبر من أشد المحرمات في الإسلام.

ومن ثم نرى المهدي (ع) يعبر عن هذه الفتن بنار الجاهلية ، بمعنى أنها تمثل انحرافاً أساسياً عن الإسلام. ويكون من يثيرها من قواعده الشعبية ، مساعداً على هلاك إخوانه المؤمنين .

ــــــــــــــــــ

(1) الظاهر أن قوله : من شب نار الجاهلية ، مبتدأ محذوف الخبر ، أو شرط محذوف الجزاء لوضوحه ، تقديره . فهو عاص أو معاند نحوهما .

(2) انظر أخبار التقية في وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي ن جـ 2 ، ص 545 وما بعدها .

صفحة (154)

الفقرة الثانية :

الالتزام بالهدوء ، والخلود إلى السكينة وضبط الأعصاب ، وعدم التعرض المباشر إلى القلاقل الحادثة . طبقاً لقوله تعالى : }وإذا مروا باللغوة مروا كراماً{(1) .

ولذا نراه يقول : أنا زعيم – أي كفيل وضامن – بنجاة من لم يرم فيها المواطن ، يعنى مواطن الهلاك ، وتجنب الاشتراك الفعلي في القلاقل . وسلك في الطعن منها ، يعنى الفتن ، والاحتجاج على وقوعها ، السبل المرضية في الإسلام بالاعتراض الهادئ وإبداء الرأي الموضوعي الصحيح .

ومن هاتين الفقرتين ، نفهم رأي الإمام عليه السلام ، في هذه الفتن ، ومرارته وأسفه منها ، واعتراضه على مسببيها من أهل الإسلام ، بما فيهم بعض قواعده الشعبية .

النقطة الثامنة :

قوله عن هذه الفتن : وهي إمارة لأزوف حركتنا ، ومبائتكم بأمرنا ونهينا . والله متم نوره ولو كره المشركون .

ولا نستطيع أن نفهم من ذلك ، بطبيعة الحال ، أنه عليه السلام سوف يظهر بعد هذه الفتن فيملاً الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . لأن ذلك لم يحدث ، فلا يمكن أن يكون الإعراب عن حدوثه مقصوداً للمهدي (ع). على أن مقتضى القواعد العامة التي عرفناها ، عدم إمكان الظهور في ذلك العصر لعدم توفر شرائطه ومن أهمها كون الأمة على مستوى التضحية الحقيقية في سبيل الإسلام وقيادة العالم كله بالعدل الكامل ... وهو ما لم يكن متوفراً يومئذ بكل وضوح . وسيأتي في القسم الثاني من هذا التاريخ مزيد توضيح لذلك .

ومن هنا احتاجت هذه العبارة من الرسالة إلى تفسير .

وما يمكن أن يكون فهماً كافياً لها ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، أحد تفسيرين :

التفسير الأول :

أن يكون المراد من الحركة ، انتقاله من العزلة إلى المجتمعات ، ومن البراري والجبال إلى المدن . باعتبار ما دلت عليه الرسالة نفسها من الاعتزال ، وما قلناه من أن ذلك – لو صح – فهو خاص ببعض الفترات الأولى من الغيبة دون الفترات المتأخرة . ومعه يكون من المحتمل أن يكون المهدي (ع) عازماً على رفع اليد عن الاعتزال في ذلك العصر .

_________________________

(1) سورة الفرقان 25 / 72 .

صفحة (155)

وإذا ورد المجتمعات ، عاش فيها بشخصيته الثانية لا محالة . وعلى أي حال ، تكون فرص العمل بالنسبة إليه أوسع وأثر أعماله أعمق . ولعل هذا هو المراد من قوله : ومباثتكم بأمرنا ونهينا ... يعني أعطاؤه التوجيهات ، لكن لا بصفته الحقيقية ، بل بشخصيته الثانية .

وهذا التفسير محتمل على أي حال ، لولا ما قد يوجد في التفسير الآتي من مرجحات .

التفسير الثاني :

أن يكون المراد من الحركة ظهوره وقيامه في اليوم الموعود . لكن بشكل لا يراد ظهوره في عصر إرسال هذا الكتاب ، ليكون أخباراً غير مطابق للواقع .

بل يكون المراد ظهوره عليه السلام بعد تلك الفتن ولو بزمان طويل . وهو معنى جعل تلك الفتن من علامات الظهور ، وسنعرف في القسم الثالث من هذا التاريخ ، أنه لا ضرورة لافتراض أن تكون العلامة قبل الظهور مباشرة ، بل من العلامات ما يكون سابقاً على الظهور بكثير . ويكون هذا من ذاك .

وقد يرد إلى الذهن في مناقشة ذلك : أن هذا مخالف لظاهر عبارة الرسالة ، فأنه يقول :وهي إمارة لأزوف حركتنا، ولا يقال : أزف الشيء إلا قرب زمان حدوثه . فكيف يمكن افتراض زمان طويل .

والجواب على ذلك : أننا يمكن أن نفهم من التن المشار إليها كإمارة على أزوف الحركة ، مفهوماً عاماً تشمل كل الانحرافات والمظالم في عصر الغيبة الكبرى ، ومن المعلوم أن هذه المظالم لا تنتهي إلا عند الظهور ، إذن فيكون انتهاؤها إمارة مباشرة للظهور . والله العالم بحقائق الأمور .

صفحة (156)  

النقطة التاسعة :

قوله : إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه ، فاعتبروا بما يحدث فيه ، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه . وهو شيء لم نستطع أن نتبينه من التاريخ ، وهو لم يحص من الحوادث إلا القليل . نعم : سوى بعض الحوادث "الطبيعية" التي سنشير إليها في النقطة القادمة .

النقطة العاشرة :

قوله : ستظهر لكم في السماء آية جلية ، ومن الأرض مثلها بالسوية .

وظاهر سياق التعبير ، كون هذه الآيات تظهر في جمادي الأولى أيضاً من نفس العام ، وهو سنة 401 للهجرة .

أما ما حدث في الأرض ، فقد حدثنا التاريخ أنه في النصف من جمادي الأولى من هذا العام فاض البحر المالح وتدانى إلى الأيلة ودخل البصرة بعد يومين(1) .

وأما ما حدث في السماء ، فهو ما سمعناه من تتابع سقوط النيازك الضخمة ، المعبر عنها في لغة المؤرخين بالكواكب ... ويحدث عند سقوطها صوت شديد وضوء كثير ، كالذي حدث عام 417 ، كما سمعنا فيما سبق .

وهو وإن لم يكن في نفس عام إرسال الخطاب ، إلا أننا قلنا بأن هذا الخطاب ، حيث أنه موجه لمجموع القواعد الشعبية المهدوية ، إذن فمن الممكن أن يتأخر الحادث الموعود عدة سنوات لكونها قليلة بالنسبة إلى عمر الأمة الطويل .

فإن قال قائل : أن هذا مخالف لظهور العبارة الذي فهمناه من السياق وهو حدوث الآيات السماوية والأرضية في جمادي الأولى من نفس العام ، وهو عام 410 .

يكون الجواب عليه : أننا بين أحد أمرين : الأول : رفع اليد عن هذا الظهور ، في حدود الآية السماوية ، فأنه يكفي في صدق السياق كون الآية الأرضية واقعة في نفس الموعد . والثاني : أن نفترض أن جمادي الأول في نفس العام وقعت فيه آية سماوية غير منقولة في التاريخ .

_________________________

(1) هامش الكامل ، جـ 7 ، ص 303 .

صفحة (157)

النقطة الحادية عشر :

قوله : ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق .

ولسنا نعاني كثيراً في فهم ذلك ، إذا عرفنا أن هذا الكتاب ورد العراق ، إلى الشيخ المفيد قدس الله روحه ، فالمراد بالمشرق – إذن – ما كان في شرق العراق ، وهو إيران نفسها ... دولة البويهيين ومركز ثقلهم يومئذ . وكانت تعاني منذ زمن الحروب والحوادث الكثيرة المتكررة التي أوجبت شيئاً فشيئاً تفكك الدولة البويهية ، وضعفها وسيطرة السلاجقة عليها في نهاية المطاف .

على أننا لو راقبنا التاريخ القريب من صدور هذا الكتاب ، لرأينا أن همدان تعاني من الحروب عام 411(1)      وعام 414(2) . ومن المعلوم أن الحروب على الدوام مصدر للقلق والحزن ، لأنها تكون على طول الخط على حساب الشعب البائس . فإذا لم تكن الحرب عادلة ولم يكن للشعب فيها نصيب حقيقي ، كان ذلك ظلماً كبيراً وجوراً عظيماً .

النقطة الثانية عشرة :

قوله : ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق ، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق . ثم تنفرج الغمة بدار طاغوت من الأشرار ، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار .

يعني يسيطر بعد الحوادث السابقة من قلاقل طائفية وآيات سماوية وأرضية ، يسيطر على العراق أقوام خارجين عن تعاليم الإسلام . وفي ذلك تعريض واضح بالسلطان طغرل بك أو ملوك السلاجقة ، وتابعيه ، فإن بعد أن انتهى من تقويض دولة البويهيين في إيران بعد حروب مدمرة ، قصد العراق فدخل بغداد عام 447(3) .

ــــــــــــــــــ

(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 307 .   (2) المصدر ، ص 313 .   (3) المكامل ، جـ 8 ، ص 70 .

صفحة (158)

وترتب على دخوله فيها قلاقل وحروب مؤسفة وعم الخلق ضرر عسكره وضاقت عليهم مساكنهم ، فإن العساكر نزلوا فيها ، وغلبوهم على أقواتهم وارتكبوا فيها كل محذور(1) .

وأما قلة الأرزاق وغلاء الأسعار ، فحدث عنها ولا حرج ... إذ نسمع التاريخ يخبرنا أنه قد كثر الغلاء وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء ، وأكل الناس الميتة ، ولحقهم وباء عظيم ، فكثر الموتى بغير غسل ولا تكفين ، فبيع رطل اللحم بقيراط وأربع دجاجات بدينار . وسفرجلة بدينار ورمانة بدينار ، وكل شيء كذلك(2) .

وبقي هذا الغلاء عدة سنوات ، بل استمر في التصاعد ... ففي عام 449 زاد الغلاء ببغداد والعراق ... وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها ، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى ، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة(3) .

أما الخليفة في بغداد ، فكان يعيش جواً آخر بعيداً عن الغلاء والوباء . فقد أكرم طغرل بك إكراماً عظيماً ومكنه من بلاده تمكيناً أسبع عليه صفة الشرعية ، حين قال له : إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك. وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده ورد عليك مراعاة عباده ، فاتق الله فيما ولاك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العدل وكف الظلم وإصلاح الرعية .

فقبل الأرض ، بين يدي الخليفة . وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه . فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب ، وأعطي العهد وخرج .

وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً أتراك من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم إلى غير ذلك من الثياب وغيرها(4) فانظر إلى ترف الحكام وبؤس المحكومين ، وتسامح الخليفة بدماء المسلمين وأموالهم حين ولى عليهم هذا الظالم العنيد .

_________________________

(1) المصدر ، ص 77 .  (2) المصدر ، ص 79 .  (3) المصدر ، ص 81 .  (4) المصدر ، ص 80 .

صفحة (159)

فقد كان طغرل بك – بحسب ما وصفه التاريخ - : ظلوماً غشوماً قاسياً ، وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً(1) حتى توفي عام 544(2) .

فمن هنا نرى بوضوح ، انطباق الأوصاف على طغرل بك وعسكره وذويه . فإنهم "طوائف عن الإسلام مراق" باعتبار ما ارتكبوه من المحرمات الصريحة الموجبة للخزي والفضيحة . وقد ضاقت "بسوء فعالهم على أهله الأرزاق" كما سمعنا . إذ من المعلوم كيف تنحدر البلاد إلى وضع اقتصادي رديء ، تحت ظل الحروب والقلاقل .

وقد انكشفت الغمة من بعد ، ببوار – يعنى بموت – "طاغوت من الأشرار" وهو طغرل بك نفسه . وقد أدخل هلاكه السرور على قلوب المتقين الأخيار .

ونفهم معنى انكشاف الغمة بموته ، إذا التفتنا إلى التاريخ وعلمنا أنه لم يحدث مثل هذا الغلاء والوباء بغد طغرل بك طيلة حكم الدولة السلجوقية .

النقطة الثالثة عشرة :

قوله : يتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق . ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق ، شأن يظهر على نظام واتساق .

وهذه نبوءة صادقة بتسهيل الحج بعد صعوباته التي سمعناها ، وانحلال مشاكله . فيتحقق للحجاج من كل البلاد ما يأملونه من الأمن والسهولة .

وتصديق هذه النبوءة واضح جداً في التاريخ . فإنه بالرغم من أنه استمر منع الحج حقبة من السنين ، إلا أنه لم ينقل بعد عام 419 أي منع للحج ، مما يدل على أن الطرق قد توفرت للحجاج . فقد تحققت النبوءة بعد عشرة أعوام من صدورها .

_________________________

(1) المصدر ، ص 95 .  (2) المصدر ، ص 94 .

صفحة (160)

وأما حدوث ذلك بمساعي المهدي (ع) وجهوده ، فهو بمكان من الإمكان ، طبقاً لما عرفناه من مسؤولية العمل الإسلامي للإمام المهدي خلال غيبته ، بناء على أطروحة خفاء العنوان. فإذا دل الكتاب على تأثر عمل الإمام في سهولة الحج ، فلا بد من تسجيل ذلك تاريخياً ، لو صلح هذا الكتاب للإثبات التاريخي . ودلالة الكتاب على هذا واضحة حين يقول : ولنا في تيسير حجهم ... شأن يظهر على نظام واتساق .

النقطة الرابعة عشرة :

قوله : فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا ، فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة .

أمر عليه السلام كل فرد من قواعده الشعبية ، بأن يفعل ما يقربه من محبة إمامه ورضاه ، ويترك ما يقربه من كراهته وسخطه . وهذا معنى واضح ولطيف ، فإن رضى المهدي (ع) رضا الله تعالى ، وكلما يقرب للمهدي (ع) فهو يقرب إلى الله ... وذلك بالشعور بالمسؤولية تجاه أحكام الإسلام ، والاستجابات الصالحة تجاه الأحداث ... كما أن سخط المهدي سخط الله تعالى ، وكلما يبعد عنه يبعد عن الله تعالى . 

ويعطي المهدي (ع) لذلك تعليلاً مهماً حين يقول : فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة الخ .

والمضمون العام لذلك ، هو : أن الفرد المؤمن بظهور المهدي (ع) المتوقع له في كل حين ، بغتة وفجأة ، يجب أن ينزه نفسه عن المعاصي ويقصر سلوكه على طاعة الله عز وجل ، ليكون على المستوى المطلوب عند الظهور. وحيث كان الظهور محتملاً دائماً ، فيجب أن يكون الفرد على هذه الصفة دائماً .

وأما إذا بقي الفرد عاصياً منحرفاً سلوكياً أو عقائدياً ، ولم ينزه نفسه في أثناء الغيبة ، ولم يتب إلى الله تعالى ... فسوف لن تنفعه توبته أو ندمه بعد ذلك . وسيعاقبه الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره على ما اقترفه من ذنوب ، على كل حال ، وسكيون عقابه في ذلك المجتمع الإسلامي العظيم خزياً أبدياً له . وبما أن الظهور محتمل على الدوام ، إذن فالبدء بعقاب المذنبين محتمل على الدوام ، فإذا أراد الفرد أن يحول دون هذا الاحتمال ، فما عليه إلا أن يرتدع عن الذنوب ، ويكمل نفسه من العيوب .

صفحة (161)

الناحية السادسة :

في استعراض نص الرسالة الثانية التي رواها الطبرسي(1) مرسلاً عن الإمام المهدي (ع) . ولها من قيمة الإثبات التاريخي ما ذكرناه للرسالة الأولى .

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام الله عليك أيها الناصر للحق الداعي إليه بكلمة الصدق . فأنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو ، آلهنا وآله آبائنا الأولين . ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين ، وعلى أهل بيته الطاهرين .

وبعد : فقد كنا نظرنا مناجاتك ، عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه . وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا بنصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان . ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان. ويأتيك نبوءنا بما يتجدد لنا من حال ، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال . والله موفقك لذلك برحمته .

فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تسبل النفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون ، ويحزن لذلك المجرمون .

وآية حركتنا من هذه اللوثة ، حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم ، مستحل للدم المحرم ، يعمد بكيده أهل الإيمان ، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان . لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء . فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب وليثقوا بالكفاية منه ، وإن راعتهم بهم الخطوب ، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهى عنه من الذنوب .

_________________________

(1) انظرها في الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 324 ، ط النجف .

صفحة (162)

ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين , أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين . أنه من اتقى ربه من أخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقه كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة . ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته ، فأنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته .

ولو أن أشياعنا – وفقهم الله لطاعته – على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم ، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا . فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا تؤثره منهم . والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم .

وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة .

نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها : هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي ، بإملائنا وخط ثقتنا . فاخفه عن كل أحد ، واطوه ، واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله . الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين .

الناحية السابعة :

في استعراض المهم مما تتكفل هذه الرسالة بيانه . ويمكن أن يتم ذلك في ضمن عدة نقاط .

النقطة الأولى :

إن الرسالة ذات سياق عام واضح متعمد ، في الصدور من جهة عليا إلى جهة أدنى منها . وهي في ذلك أوضح من الرسالة الأولى إلى حد كبير .

صفحة (163) 

وهي بهذا تنحو منحى القرآن الكريم الذي أكد على هذه الجهة بوضوح ، في عدد من آياته كقوله تعالى : }ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين}(1) . وقوله:}إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}(2) . وقوله: }وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}(3) . إلى غير ذلك .

فالاثنينية بين المتكلم والسامع محفوظة بكل وضوح ، وارتفاع المتكلم على السامع ملحوظ بكل جلاء . وهذا ثابت في هذه الرسالة أيضاً ، مع بعض الفروق بين سياقها والسياق القرآني ، لا تخفى على الأديب .

وهذا الإيحاء يعطي زخماً نفسياً معيناً ، لا مناص منه حين يراد السيطرة على السامع من الناحية العاطفية والفكرية . كيف وإن السامع في كلا هذين الحالين ، يعترف بارتفاع المتكلم عليه بكل خشوع .

النقطة الثانية :

في تعيين محل سكنه عليه السلام ، عند إرسال هذه الرسالة .

حيث نرى المهدي (ع) – لو صحت الرواية – يعين مستقره أي مسكنه بنصب في شمراخ من بهماء . والنصب هو الشيء المنصوب . والشمراخ رأس مستدير طويل دقيق في أعلى الجبل . والبهماء مأخوذ من المبهم وهو المكان الغامض الذي لا يعرف الطريق إليه .ومعه يكون المراد – والله العالم – أنه عليه السلام يسكن في بيت منصوب على قمة جبل مجهولة الطريق .

ثم يقول : صرنا إليه آنفاً من غماليل , يغتي أنه انتقل إلى هذا المسكن الجديد ، منذ مدة ، من غماليل يعني من منطقة كان يسكنها قبل ذلك ، توصف بهذا الوصف . فإن الغماليل جمع غملول وهو بالضم الوادي ذو الشجر أو غمام أو ظلمة أو زاوية(4) .وقد تلاحظ معي أن كلا الدارين ذات خفاء وغموض ، وقابلة لاختفاء الفرد في أنحائها بشكل وآخر .

_________________________

(1) الحافة 69 / 44 – 45 . (2) الإسراء 17 / 75 .  (3) آل عمران 3 / 144 .  (4) القاموس المحيط ، جـ 4 ، ص 26 .

صفحة (164)

ثم يذكر سبب انتقاله إلى المسكن الجديد ، بأنه "ألجأنا إليه" إلى المسكن الجديد "السباريت من الإيمان" . والسباريت جمع سبرات وسبروت وسبريت : الأرض التي لا نبات فيها وقيل لا شيء فيها . ومنها سمي المعدم سبروتاً(1) . ومعه يكون لهذه العبارة تفسيران محتملان .

التفسير الأول :

أن نقرأ "الإيمان" بكسر الهمزة ، فيكون المراد أن الفقراء أو الفارغين من الإيمان هم الذين ألجاوه إلى اختيار مسكنه الجديد . حيث اقتضت المصلحة نتيجة لتصرفاتهم المنحرفة ، أن يزداد المهدي (ع) بعداً عن الناس وخفاء في المسكن ، فاختار جبلاً ذو قمة خفية ليجعله مسكناً .

التفسير الثاني :

أن نقرأ همزة "الإيمان" بالفتحة ، فيكون جمع يمين – ضد اليسار – ويكون المراد بالسباريت : الأرض الخالية من الزرع الموجودة في يمين الطريق . ولعله طريق الحج أو طريق إحدى المدن . وقد ألجأه إلى تركها إلى المسكن الجديد قلة الزرع فيها وصعوبة العيش عليها .

ثم يخبر المهدي (ع) بأنه على وشك الانتقال إلى مسكن آخر ثالث . فأنه سيهبط من قمة الجبل إلى صحصح ، وهي الأرض المستوية "من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان" بل في فترة قريبة وأمد قصير . وهنا لا يجب أن نفترض أن هذه الأرض خالية من النبات والزرع ، كتلك الأرض .

ومن هذا السياق نعرف أن المهدي (ع) يختار مكانه بعيداً عن المجتمعات ، على الدوام . ولعل في هذا امتثالاً للأمر الذي نقله المهدي (ع) عن أبيه (ع) في رواية ابن مهزيار ، وقد سبقت الإشارة إليها أكثر من مرة . وهذا لا ينافي أطروحة خفاء العنوان إذ قد يكون المهدي (ع) ظاهراً بالشخص مختفياً بالعنوان ساكناً الأماكن المنعزلة في العالم . وقد سبق أن عرفنا أن هذا أكثر وضوحاً وإمكاناً في أول

_________________________

(1) انظر المصدر ، جـ 1 ، ص 149 وغيره .

صفحة (165)

الغيبة ، وأما ما بعد ذلك فالحاجة إليه منتفية ، بل قد يكون مخالفاً لبعض تطبيقات تكاليفه عليه السلام .

وبالرغم من تصريحاته عن مكانه، إلا أننا لا نجد أنه قد ذكره على وجه التعيين، وإنما ذكر – في الحقيقة – عنواناً كلياً يمكن انطباقه على كل قمة وكل واد . ولم يصل في الوضوح إلى حد لو بحث الإنسان عن مكانه لوجده .

ونلاحظ بوضوح أن المهدي (ع) يعين مكانه بعبارات لغوية قديمة تكاد تكون مندرسة الاستعمال ... لا يريد أن يسوقها مساقاً واضحاً ، حتى لا يفهمها من يطلع عليها ، إلا إذا كان من خاصة الناس في العلم والاطلاع . وهذه خطوة إلى تلافي بعض احتمالات الخطر المحتملة الوقوع على تقدير الاطلاع على هذا الخطاب .

وعلى أي حال نرى المهدي (ع) يعد الشيخ المرسل إليه ، بأن يوصل إليه أنباءه فيما يتجدد له من حال . ولعل المراد المباشر لذلك ، هو إخباره بانتقاله إلى المكان الجديد في الصحصح ، ولكن العبارة أعم من ذلك، تشمل كل ما يريد الإمام المهدي (ع) تبلغيه إلى الشيخ المفيد ، مما يتخذه من رأي أو يذهب إلأيه من مكان ، بمقدار المصلحة والإمكان .

ومن هنا قال له : فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال . يعنى أن مواصلتك بالمراسلة ستطلعك على الأعمال نحمدها ونعتبرها صالحة ومقربة إلينا . فهذه العبارة واضحة الدلالة على عزم الإمام المهدي (ع) على تكرار المراسلة مع الشيخ المفيد ، ولعل ذلك قد حدث ولم يصلنا خبره ، ولعله لم يحدث لأن الشيخ توفى بعد هذه الرسالة بعام واحد .

النقطة الثالثة :

فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة ، تسبل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون ، ويحزن لذلك المجرمون .

وهو توجيه عام من المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد وغيره من إخوانه في كل جيلٍ ... بأن يقابل أي يقف ضد الفتنة التي تسبل أي تستبيح نفوس قوم حرثت باطلاً ، أي خاضت غمار الباطل في أرض صالحة لذلك . وهي إنما تستبيح نفوسهم في انصهارهم فيها ، وسيرهم مع تيارها .

صفحة (166)

وإنما يكون على المفيد أن يقف ضد الفتنة ، من أجل استرهاب المبطلين وتخويفهم لأجل ردعهم عن الباطل وصرفهم إلى طريق الحق . وقوله : لذلك . أي باعتبار ما نعتمده من الزلفة إلينا من الأعمال .

فيكون المراد لزوم العمل لكفكفة الظلم وردع الفتن التي تؤسس الأراضي الصالحة لنمو المفسدين والمجتمعات المنحرفة التي تربي المنحرفين . ليكون ذلك من الأعمال الصالحة التي يعتبرها ويحمدها بصفتها من أعظم المقربات إلى الله ، وأحسن التطبيقات للعدل الإسلامي .

وإنما سمي الظلم فتنة ، باعتبار أنه محك الامتحان الإلهي لنفوس البشر وإيمانهم ، لكي يمحصوا به ويميزوا ، فيحيى من حيى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة . وقد ذكرنا أن هذه الفتن والظلم ، كما توجب قوة انحراف المنحرفين توجب الظلم مما يوجب تزايد قوة الإرادة والوعي لدى المؤمنين المخلصين ويصعد معنوياتهم ، مما يعجل بتحقيق شرط الظهور . ومن هنا نرى المهدي (ع) يأمر الشيخ المفيد وسائر إخوانه من الأجيال ، بهذا الجهاد الإيماني الكبير .

ومن هنا نفهم ان الفتنة المذكورة في هذا التعبير ، ليست إشارة إلى حادثة تاريخية معينة حتى نبحث عنها في التاريخ العام ... كما عملنا في الرسالة السابقة . وإنما هي عبارة عن الانحراف العام الذي يصيب المجتمع على مر الأجيال خلال عصر الغيبة الكبرى ، ذلك الانحراف الذي يزيله المهدي (ع) بعد ظهوره .

ثم أن المهدي (ع) في رسالته يذكر : أن الجهاد ما يؤثره من استرهاب المبطلين وردعهم عن باطلهم ... يبتهج لذمارها – أي لدفعها ومحاربتها –(1) المؤمنون ويحزن لذلك المجرمون .

_________________________

(1) كما هو أحد معاني الذمار في اللغة ، وهو الحث على الحرب والدعوة إليها قد استعمل هنا مجازاً .

صفحة (167) 

النقطة الرابعة :

إعطاء المهدي (ع) علامة من علامات ظهوره وإمارة من إمارات حركته .

وهي : أنه ينتج من هذه اللوثة – وهو تعبير عن الفتنة – حادثة عظيمة مؤسفة وجرم كبير ، من رجس منافق مذمم ، مستحل للدم المحرم . يعمد – أي يتعمد – بكيد أهل الإيمان ، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان .

والمراد : أنه ينتج من هذه الفتنة التي يعيشها المجتمع ، أن أحد المنحرفين المنافقين ، يريد أن يتعمد إلى أهل الإيمان بالكيد والضرر ، فيغتال أحد المؤمنين ، بهذا القصد . وبالرغم من أن هذا المؤمن سوف يذهب إلى ربه ، إلا أن القصد الأساسي لذلك المجرم سوف لن يتحقق ، وسيبقى المؤمنون على أمنهم واستقرارهم نتيجة للطف المهدي (ع) ودعائه لهم بدفع الشر ، ذلك الدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء .

ونتيجة لذلك يقول المهدي (ع) في رسالته : فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب ، وليثقوا بالكفاية منه ، وان راعتهم بهم الخطوب ...

ولهذه الفقرة ، معنى آخر محتمل ، يختلف قليلاً عما ذكرناه ، وهو أن لا تكون الحادثة الموعودة من قبل الظالمين، هي حادثة قتل ، وإنما هو تخطيط اجتماعي ، لا يقاع المؤمنين في الضرر الضيق ، يقوم به شخص منافق مذمم، مستحل للدم المحرم . ولا يكون استحلاله للدم في هذه الحادثة بالتعيين ، بل المراد أن من شأنه ذلك أو له فيه سوابق . إلا أن هذا التخطيط ، سوف لن يصل إلى هدفه ، نتيجة لدعاء المهدي (ع) .

وعلى أية من المعنيين ، لم نستطع أن نتبين الحادثة المشار إليها في هذه الفقرة ... من التاريخ العام أو الخاص . فإن ما أكثر الشهداء المغتالين في سبيل الله تعالى كالشهيد محمد بن مكي الملقّب بالشهيد الأول والشهيد زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني والقاضي نور الله التستري الملقب بالشهيد الثالث في ألسنة البعض ... وغيرهم ... وما أكثر المؤامرات الفاجرة التي تحاك ضد المجتمع المؤمن ، ولا يكون فشلها إلا بدعاء الإمام عليه السلام وعمله.  

صفحة (168)

وقد سبق أن قلنا أن الدعاء النافذ المستجاب ، يعتبر من أحسن الأعمال النافعة الخيرة على الصعيدين الفردي والاجتماعي ، ومن أبعدها أثراً وأفضلها نتيجة .

وبذلك ينجو المؤمنون من المكائد ، فليطمئنوا وليثقوا بدعاء إمامهم – كما أمر إمامهم – ، فإن عاقبتهم ستكون إلى خير ... إذا التزموا بالسلوك الصالح والعمل الصحيح .

النقطة الخامسة :

إيصاؤه عليه السلام بالإصلاح الشخصي للنفس ، الذي هو الحجر الأساس لإصلاح المجتمع ، ولنجاة الفرد والمجتمع من الفتن المظلمة المضلة ، ونجاحه المؤزر في الامتحان الإلهي الكبير . وبدون ذلك يكون الفرد قد خسر أساسه الإيماني الصحيح ، وانحرف انحرافاً حاداً يخسر به دنياه وآخرته .

ومن هنا نرى المهدي (ع) يؤكد على وجوب دفع الحقوق المالية الإسلامية إلى مستحقيها ، ومن أمر الله تعالى بصلته وهم الفقراء والمحتاجون . وإنما خصها بالذكر لعلمه عليه السلام بأن قواعده الشعبية تؤدي – عادة – الفرائض الإسلامية العملية كالصلاة والصوم والحج ... فلم يبق لهم من الفرائض ، إلا الحقوق المالية التي قد تشح بها بعض النفوس ، وتحتاج في أدائها إلى تضحية أكبر .

قال عليه السلام : أنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عيه إلى مستحقيه ، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلة . ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته ، فأنه يكون خاسراً بذلك أولاه وآخرته .

ومن هنا نفهم أن الأداء الكامل للفرائص الإسلامية ، هو المحك في النجاة عن الانحراف الجارف الذي يودي بالكثيرين خلال عصر الغيبة الكبرى . والسر الأساسي في ذلك : هو أن أداء الفرائص كاملة ، مع الارتداع عن جميع المحرمات ، مضافاً إلى أنه يمثل السلوك الشخصي الصالح ، فإنه – بما يوجبه للفرد من صبر وتضحية على مستوى معين من المصاعب في سبيل الله عز وعلا – يحدث في الفرد قوة في الإرادة والتحمل في مجابهة التيار الظالم وما يستلزمه من إغراء ومخاوف . مما يوجب نجاته منها وبعده عنها ، ومن ثم نجاحه في الامتحان الإلهي الكبير , وبذلك يحرز سعادته في الدنيا والآخرة . وبخلاف ذلك ، سوف يكون فاشلاً في الامتحان الإلهي "خاسراً بذلك أولاه وآخرته" .

صفحة (169)

مضافاً إلى نقطة أخرى في دفع الحقوق المالية ، هي : أن خير ما ينقذ القواعد الشعبية المهدوية في المجتمع المنحرف ، وأحسن تخطيط يمكن به كفكفة جماح ما يفرض عليهم من قبل الظالمين من حصار اقتصادي واجتماعي ... هو أن يكفل بعضهم بعضاً ويحمل بعضهم همّ بعض ، وذلك بالالتزام بدفع الحقوق الإسلامية المالية التي فرضها الله تعالى ، فأنها كافية لتنفيذ هذه الكفالة ووافية بهذا الضمان . وبهذه الحقوق – أيضاً – يمكن وضع البرامج الاجتماعية الوقتية لدفع ظلم أو لتربية جيل أو لقضاء بعض الحاجات .

النقطة السادسة :

إيصاؤه بالإصلاح العام الذي هو أكبر وأهم من الإصلاح الشخصي ، والذي به يتحقق شرط الظهور ، ويجعل الأمة على مستوى المسؤولية التي يؤهلها للتيمن بلقاء الإمام المهدي عليه السلام ، وتحمل مسؤوليات ظهوره .

وهذا الإصلاح العام ، يعبر في حقيقته عن ضرورة اجتماع أشياعه – وهم أتباعه – ... عقلاً وقلباً ... عقيدة وعاطفة وسلوكاً ، في الوفاء بالعهد المأخوذ عليهم ، في إطاعة أوامر الإسلام ونواهيه ، وامتثال قادة الإسلام ومتابعتهم . ومن الواضح أن هذا الاجتماع على الطاعة هو أوسع وأهم من الطاعة الفردية ، وأكثر انتاجاً بشكل غير قابل للمقايسة . وهو الذي يمثل العمل المشترك لتبليغ الإسلام وتطبيقه ، والجهاد المشترك ضد أنحاء الظلم والطغيان والعدوان .

وهذا الاشتراك والتضامن ، لهو أقوى الأسباب لتحقق الإرادة لدى الأفراد ، ولتربية الوعي والشعور بالمسؤولية فيهم ... وهو الشرط الأساسي للظهور ...

ومن ثم نرى المهدي (ع) يرتب على هذا الاجتماع أثره الحقيقي ، ويستنتج منه نتيجته الطبيعية ... فإنه لو كان متحققاً : "لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا" . تلك السعادة الناتجة من العدل الكامل الذي يتكفل المهدي (ع) تطبيقه على العالم كله . 

صفحة (170)

"على حق المعرفة وصدقها منهم بنا" . وهذه العبارة تدل على أطروحة خفاء العنوان ، التي اخترناها ، باعتبار أن المهدي (ع) خلال غيبته معروف بالشخص مجهول الهوية والحقيقة ، وإنما هو معروف بشخصيته الثانية . وأما بعد الظهور فتصبح المعرفة حقاً وصدقاً ، يعني سوف يعرف الناس شخصه وحقيقته وانطباع العنوان على الشخص بوضوح .

ولو كانت أطروحة خفاء الشخص صادقة ، لكانت هذه العبارة في غير محلها ، ولكفت البشارة بحدوث المشاهدة بعد انعدامها عند الظهور .

"فما يحبسنا عنهم" أي يؤخر الظهور "إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره عنهم" من المعاصي والتقصيرات وعدم الشعور بالمسؤولية الإسلامية .

وهذا يدل على أمرين مهمين ، سبقت الإشارة إليهما ، ولكن يكون في هذا الكلام من المهدي (ع) زيادة في الاستدلال عليهما :

الأمر الأول : كون المهدي (ع) مطلعاً على الأخبار مواكباً للأحداث يشعر بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية.

الأمر الثاني : إناطة الغيبة بذنوب الناس وعصيانهم . فمتى لم يكن هناك ذنب ، لم يكن للغيبة سبب ، فتتحول إلى الظهور . وهو معنى ما قلناه من أن الفرد إذا كان عالياً في الوثاقة كاملاً في تطبيق الإسلام ، فإن المهدي (ع) لا يحتجب عنه مرة أو مراراً ، بل قد يكون ذلك على الدوام ، كما سبق أن فصلناه .

صفحة (171)