القسم الثاني
في تاريخ الإنسانية في عصر الغيبة الكبرى
فيما يرجع إلى الحوادث والصفات التي تكون للإنسانية عامة أو للمجتمع المسلم أو للقواعد الشعبية الإمامية خاصة. من حيث مقدار تمسكهم بالدين وما يترتب على ذلك من نتائج ... وما هو تكليفهم الواعي الصحيح أثناء الغيبة الكبرى .
وينقسم الكلام في هذا القسم إلى ثلاثة فصول رئيسية :
أولها : في تمحيص الأخبار الواردة في هذا الصدد ، وفرزها عما سواها من حيث المورد والمفهوم ... وإعطاء القواعد العامة في فهمها .
وثانيها : فيما دلت عليه الأخبار من حوادث وصفات للناس ، تخص مقدار تمسكهم بالدين وبتعاليم الإسلام.
وثالثهما : فيما هو التكليف الواعي للناس خلال عصر الغيبة الكبرى .
صفحة (173)
الفصل الأول
في تمحيص الأخبار التي نريد الاستشهاد بها في هذا القسم ، وتمييزها عما سواها من حيث المورد والمفهوم ، وإعطاء القواعد العامة في فهمها . وذلك قبل الدخول في سر تفاصيلها في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى
وينبغي أن يقع الكلام حول ذلك في عدة جهات :
الجهة الأولى :
في تمحيص هذه الأخبار ، وتشخيص حاجتنا في الاستدلال بها .
فإننا إذ نريد أن نعرف المستوى الديني ، لأي مجتمع ، في أي عصر ، نرجع – عادة – إلى تاريخ ذلك العصر لاستعراض ما فيه من حوادث وآثار تدل على ما كان عليه المجتمع من مستوى ديني وشعور بالمسؤولية الدينية . وهذا طريق صحيح ، لو استطاع التاريخ أن يسعفنا بما نحتاجه من حقائق ومستمسكات .
ولكن ما نعرفه – عادة – من تأريخ ، يتصف بالنقص – حتماً – بما لا يقل عن ثلاث جهات :
الجهة الأولى :
إسقاطه لبعض الحوادث التاريخية ، وعدم التعرض لها ، بأي دافع من الدوافع ... وتاريخنا الإسلامي مليء بمثل هذه الفجوات .
الجهة الثانية :
عدم الموضوعية في شرح الحادثة . ووجود الاحتمال على أقل تقدير – في أن يكون المؤرخ قد غير منها شيئاً لكونه يميل عقائدياً أو عاطفياً مع أحد الأشخاص التاريخيين دون الآخر .
صفحة (175)
الجهة الثالثة :
عدم التعرض لحوادث المستقبل . وهذا ضروري الوقوع في كل تاريخ ، لأن المستقبل مجهول ، إلا بنحو الحدس أو علم الغيب .
أما الجهتين الأولى والثانية ، فيمكن دفع تأثيرهما والحد من ضررهما ، إلى حد كبير ، لدى المقارنة بين مصادر التواريخ وأقوال المؤرخين ، حتى يحصل للفرد البحث وثوق وقناعة بحصول الحادثة أو عدم حصولها . وخاصة بعد استيعاب سائر وجهات نظر المؤرخين ومذاهبهم .
وأما الجهة الثالثة : فيستحيل – عادة – مَلْؤُهَا في التاريخ الاعتيادي للبشر أياً كانوا ... فيبقى المستقبل المجهول ، فجوة تاريخية شاغرة أمام الناظر يحار في تشخيصها وترتيبها .
وهنا ينفتح وجه الحاجة إلى الروايات التي نحن بصددها ، فإنها تتنبأ عن حوادث المستقبل مروية عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وعن خلفائه المعصومين عليهم السلام ... بطرق متواترة لا يقبل مجموعها التشكيك ... وإن كانت كل رواية منها ظنية على أي حال ، وقابلة للمناقشة أحياناً . كما سمعنا مثل ذلك في أخبار المشاهدة ، مع فرق مهم هو أن الروايات الواردة في المقام أضعاف روايات المشاهدة ، على ما سنعرف صورة منه في الفصل الآتي .
على أن جملة منها يحتوي على التنبؤ بحوادث قد حدثت فعلاً خلال الزمان ، على ما سنعرف ، وقد صدر التنبؤ بها قبل حدوثها بزمن طويل ... وهو شاهد على صدقها وصدق قائلها وعلى ارتباط القائل بالله عز وجل بشكل وآخر ، فإن كل علم غيب لا بد أن يكون مستقى من علام الغيوب .
صفحة (176)
ومعه فتكون هذه الروايات ، صالحة لملء الفجوات التاريخية التي أهملها التاريخ ، أو لم يكون موضوعياً تجاهها. ولكنها – على أي حال – تحتوي على بعض المصاعب ، لا بد من استعراضها ، واستعراض ما يمكن أن يكون منهجاً لتذليل تلكم المصاعب .
مصاعبها :
تتلخص المصاعب في نقطتين رئيسيتين ، من حيث أن الطعن تارة يتوجه إلى السند أي إلى وثاقة الرواة وصدقهم . ويتوجه إلى الدلالة ، أي إلى ما نفهمه من النص المروي تارة أخرى .
النقطة الأولى :
فميا يرجع إلى السند . ولئن كانت القاعدة العامة في الروايات هي التأكد من وثاقة الراوي والتزامه الصدق في المقال قبل قبول روايته ... فإن الروايات التي نحن بصددها أشد خطراً في هذا المجال ، من أشكال الروايات الأخرى. من حيث أن احتمال الوضع والتحريف أكثر بكثير مما هو في سائر الروايات . وذلك باعتبار عدة أمور :
الأمر الأول :
احتمال الوضع . فإن الكاذب قد يخشى الوضع عندما يخاف الافتضاح ، عند وضوح عدم مطابقة روايته للواقع . وخشية الافتضاح متوفرة – عادة – في سائر موارد الروايات ، إلا أنها في روايات التنبؤ أقل منها في غيرها من عدة نواحٍ :
الناحية الأولى :
إن هذه الروايات تتنبأ عن حوادث مغرقة في المستقبل السحيق الذي لا يمكن أن تتأكد من صدقه الأجيال . ومعه تبقى الرواية محتملة الصدق دهراً طويلاً جداً ، أكثر مما يطمع به الكاذب . وفي كل جيل إن لم تحدث الحادثة الموعودة يقال : لعلها في الأجيال القادمة ، ومعه يبقى كذب الرواي سراً غير قابل للكشف .
الناحية الثانية :
إن جملة من هذه الروايات – على ما سنسمع – ذو بيان رمزي وعبارات ذات درجة كبيرة من السعة والإبهام ، بحيث يمكن أن تنطبق العبارة على عدة حوادث محتملة . ومعه فيقول كل جيل : لعل المقصود هذه الحادثة ولعل المقصود حادثة أخرى آتية ... ويبقى الكذب سراً غير قابل للكشف .
صفحة (177)
الناحية الثالثة :
إن جملة من هذه الروايات ، يحتمل – على أقل تقدير – أن تكون قد وضعت بعد حدوث الحوادث ، ونسبت إلى قائل سابق على الحدوث . ومعه قد يجدها الفرد الباحث مطابقة للواقع ، مع أنها مكذوبة . ومن الطبيعي أن يكون شعور الكاذب بمطابقة روايته للواقع ما يهوّن لديه خوف الافتضاح إلى حد كبير .
الأمر الثاني :
النقل بالمعنى . وهذا ليس محتملاً فحسب ، بل هو معلوم التحقق في كثير من الأخبار .
والنقل بالمعنى ، لا يكاد يكون مضراً في الروايات الاعتيادية ، كالروايات المتعرضة إلى الفقة والفلسفة ... فإن اللفظ أو مرادفه ، والجملة ومثيلتها ، يعطيان معنى متشابهاً إلى حد كبير ... واحتمال اختلاف المعنى يكون ملغى ومدفوعاً إذا كان الراوي معلوم الضبط والوثاقة .
وأما في روايات التنبؤ بالمستقبل ، فليس الأمر فيها على هذا الغرار . فأنها تصدر في الأعم الأغلب عن قائلها : النبي (ص) أو غيره رمزية غير واضحة المعنى ، بحيث يحتاج فهمها إلى تدقيق . ومن المعلوم أن التعبير عن اللفظ الرامز بلفظ آخر يمسخه مسخاً ويغير معناه تغييراً كلياً أو يكاد .
وهذا الاحتمال لا يدفعه العلم بالوثاقة والضبط في الراوي ، بعد جواز النقل بالمعنى شرعاً ، واحتمال عدم فهم الراوي للمعنى المرموز إليه ، كي يختار المرادف الصحيح لألفاظ الراوية .
الأمر الثالث :
احتمال الإسقاط من ألفاظ الرواية في أثناء تناقلها من قبل الرواة .
فإن القواعد العامة في سائر الروايات ، تقتضي إلغاء هذا الاحتمال ، باستظهار كون الراوي ناقلاً لجميع الألفاظ ، أو لجميع ما يتعلق بالمضمون الواحد من قرائن وخصوصيات . إذا كان الراوي ثقة ، إذ لو كان قد أسقط بعض ذلك لكان قد أخل بنقله وبوثاقته في نهاية المطاف . ومعه تكون وثاقته دليلاً على أنه نقل إلينا كل ما يتعلق بالمضمون المعطى في الرواية .
صفحة (178)
إلا أن ذلك ليس بذي فائدة في روايات التنبؤ بالمستقبل ، وذلك من ناحيتين :
الناحية الأولى :
إذا احتملنا وجود قرينة لفظية أو غيرها ، لم يفهم الراوي كونها قرينة مغيرة للمعنى أو مؤثرة فيه ، فحذفها . والراوي الثقة إنما يتعهد نقل ما يفهم تأثيره من القرائن بطبيعة الحال ، دون غيرها . ومعه لا تكون وثاقة الراوي نافية لهذا الاحتمال .
ومثل هذا الاحتمال ، لا يكاد يكون موجوداً في الروايات الاعتيادية ولكنه موجود بكل وضوح في الروايات الرمزية ، التي قد تخفى معاني ألفاظها ، فضلاً عن قرائنها الدقيقة .
الناحية الثانية :
إذا احتملنا أن الرواية كانت متضمنة لنقل أكثر نم حادثة واحدة ، واحتملنا أن نقل الحادثتين معاً ، له تأثير في الفهم الدقيق والصحيح لإحداهما أو لكليهما . في حين لم تكن الرواية التي وصلتنا حاوية إلا لحادثة واحدة .
وهذا الاحتمال لا يمكن إلغاؤه بالعلم بوثاقة الراوي ، فإن غاية ما يتعهد به الراوي الثقة هو أن ينقل كل ما له ارتباط بالمضمون الواحد ، وأما إذا كان الإمام (ع) أو النبي (ص) قد أعرب عن مضمونين ، فقد يختار الراوي نقل أحدهما دون الآخر ، ولا يكون في ذلك اختلال في وثاقته .
واحتمال أن يكون لنقل المضمونين أو الحادثتين معاً دخلاً في المعنى ... غير موجود عادة في سائر الرويات . ولكنه موجود في الروايات التي نحن بصددها ... بل هو ليس احتمالاً فقط ، وغنما نحن نعلم بذلك لعدة أسباب ، أهمها : أننا نحتاج في بحثنا إلى الربط بين الحوادث وتشخيص تسلسلها الزمني ، ومعرفة اتجاهات أصحابها ، ومعرفة التخطيط الإلهي الذي يقتضي كلا منها . فإذا اطلعنا على الحادثة وحدها لم يكن إلى فهم شيء من ذلك سبيل . وأما إذا اطلعنا عليها منضمة إلى غيرها ، أمكننا أن نتوصل إلى ذلك .
صفحة (179)
إذن فلا بد لنا أن نضع منهجاً لتمحيص هذه الجهات السندية وتذليل مصاعبها ، وذلك ما سنعرضه فيما يلي :
منهج التمحيص السندي :
وهو يتضمن جانبين : جانب إيجابي وجانب سلبي ، فالجانب الإيجابي يقتضي بالأخذ ببعض الروايات والجانب السلبي يقتضي رفض الأخذ بالبعض الآخر منها .
أما الجانب الإيجابي ، فهو الأخذ من الروايات بوقوع الحادثة وصحة النقل . وبكل مضمون مستفيض لفظاً أو معناً ، بحيث يوجب الاطمئنان من تجمع الروايات بصحة النقل ووقوع الحادثة . وبكل مضمون اقترنت به القرائن العامة أو الخاصة ، التي توجب العلم أو الاطمئنان بالصدق . وهذا يستدعي – في كثير من الأحيان – تجميع العديد من الروايات والقرائن على صحة مطلب أو وقوع واقعة .
وهذا ما سنعمله في ما يلي من هذا التاريخ .
وأما الجانب السلبي : فيتلخص بضرورة رفض كل رواية لم تكن من ذاك القبيل ، وإن كانت مما يؤخذ بها عادة بحسب الموازين العامة في سائر الروايات ، كما لو كانت الرواية ذات سند موثوق ... فإننا لا نقبلها ما لم تقم القرائن على صحتها أو تؤيدها غيرها من الروايات .
وبهذا التشدد السندي نستطيع أن نتلافى كل الصعوبات السابقة . إذ مع العلم أو الاطمئنان بصدق المضمون، لا يبقى لاحتمال الوضع أثر ، كما لا يبقى لاحتمال النقيصة في المعنى أو اللفظ أو لاحتمال تغير المعنى عند تغير اللفظ ، أي أثر . فإن كل ذلك إنما هو حديث عن رواية واحدة لو لوحظت باستقلالها ، وأما لو انضمت إلى غيرها فلا معنى لهذا الاحتمال .
كما أن هذا الانضمام يرفع الناحية الأخيرة التي أشرنا إليها ، وهو الجهل بترابط الحوادث . فإن الانضمام يجعلنا عالمين بهذا الترابط كما هو واضح .
صفحة (180)
النقطة الثانية :
من مصاعب هذه الروايات : مصاعب الدلالة .
تتصف روايات التنبؤ بحوادث المستقبل ، بشكل عام ، بصعوبات في الدلالة والمضمون ، بعد الغض عن السند ... تلك الصعوبات الناشئة من عدة مناشئ رئيسية ، يحتمل وجود واحد منها أو أكثر في كل رواية مروية في هذا الصدد ،على ما سنرى .
وينبغي أن نتحدث أولاً ، عن السبب الذي أوجب صدور هذه الروايات عن قائليها بشكل رمزي صعب الفهم إلى حد كبير . ثم نتحدث ثانياً عن أسباب الصعوبة بالنسبة إلى فهمنا الخاص بعد أن تكون الروايات قد وصلت إلينا . ومن هنا يقع الحديث في ناحيتين :
الناحية الأولى :
في التحدث عن الأسباب التي دعت النبي (ص) والأئمة (ع) للتكلم عن حوادث المستقبل بشكل أقرب إلى الغموض والإبهام . وترك السير – بتعمد واضح – في طريق التوضيح والتفصيل .
وما يمكن أن نتصوره من أسباب ذلك ، بحسب ما نستطيع تشخيصه الآن ، يمكن إيراده ضمن عدة أمور :
الأمر الأول :
قانون : خاطب الناس على قدر عقولهم .. هذا القانون الذي سبق أن ذكرنا إنه عرفي وصحيح ، وقد مشى عليه النبي (ص) والأئمة (ع) في سائر كلماتهم .
فلئن كان النبي (ص) أو الإمام (ع) على مستوى إدراك الواقع التاريخي المتحقق بعد ألف عام أو عدة آلاف من السنين ، بحيث يرى المستقبل ببعد نظره وتوفيق ربه ، كما يرى الحاضر .. فإن البشر لم يكونوا في أي عصر من العصور على هذا المستوى من الفهم على الإطلاق . وغاية ما نرى الحكومات الحاضرة على كثرة مفكريها ودقة سياساتها ،إنها تستطيع أن تخطط لخمس سنوات أو عشر سنوات ، على نحو محتمل غير مضمون التطبيق الكامل، في الأغلب .
صفحة (181)
وأما التخطيط وبعد النظر إلى مئات وآلاف السنين ، فهو خاص بالله عز وجل ومن ارتضى من رسول ومن علمه الرسول (ص) من هذا العلم . وهو علم ضروري للأئمة المعصومين (ع) ، كي يستطيعوا أن يأخذوا بالتخطيط الإلهي إلى حيز التنفيذ ، كما سمعنا طرفاً منه ، وسنسمع طرفه الآخر فيما يأتي وعلى أي حال ، فالناس قاصرون دائماً عن إدراك مثل هذا العلم وتقبل مثل هذه الأخبار ، إذن فلا بد للإمام أخذاً بقانون التفاهم العرفي أن يببرز للناس من الحقيقة ما لا ينافر أفهامهم وما يتناسب مع واقع حياتهم . وحيث أن الواقع المعبر عنه ، أوسع وأعمق مما يستطيعون فهمه ، إذن فلا بد من اللجوء إلى الرمز والغموض في التعبير ، حفظاً لمستوى التفاهم العام .
الأمر الثاني :
إن هناك مصلحة مهمة في جعل الفرد المسلم منتظراً لظهور المهدي (ع) في كل حين ، ومستعداً نفسياً لتلقي هذا النبأ الكبير ... ومن المعلوم أن النبي (ص) أو الإمام (ع) ، لو أخبر عن الحوادث بشكل واضح ومفصل ، فإن هذا الجو النفسي يتغير إلى حد كبير . فإن الناس سوف يصبحون عالمين بعدم قيام المهدي (ع) وظهوره ما دامت تلك الحوادث لم تحدث .
وينحصر المحافظة على مستوى الانتظار المطلوب ، إذا كان الأخبار بالحوادث مشوباً بالغموض والتعميم وإهمال تحديد التاريخ . بحيث يحتمل حدوث الحادثة الموعودة في أي عصر ، فيحتمل حينئذٍ ظهور المهدي (ع) بعدها في ذلك العصر .
الأمر الثالث :
إننا نحتمل – على الاقل – أن الحوادث لو كانت قد عرضت مفصلة ، لأوجبت فشل التخطيط الإلهي للإعداد لظهور المهدي (ع) ، لإمكان استغلال المستغلين لها قبل حدوثها ، وإمكان تلافي ما يتوقع أن تنتجه من الظلم ، واستدرار ما يمكن أن تدره من ربح . وهذا ليس فيه مصلحة . بل إنما يكون التخطيط ناجحاً إذا جاءت الحادثة عفوية وعلى طبق التطور الطبيعي للتاريخ .
إذن فالإغماض عند عرض الحوادث ، يعتبر مشاركة فعلية من قبل النبي (ص) والإمام (ع) في إنجاح المخطط الإلهي ، لإيجاد شرائط الظهور .
صفحة (182)
الأمر الرابع :
إن النبي (ص) أو الإمام (ع) إنما يذكر بعض حوادث المستقبل لمحل الاستشهاد أوعبرة أو موعظة أو نحو ذلك . إذن فلا بد له أن يقتصر على المقدار الذي يوفي المطلوب ، ويكون من المستهجن – عادة – الاستمرار في سرد تفاصيل الحوادث أكثر من ذلك . شأنه شأن القرآن الكريم نفسه ، الذي اقتصر من تفاصيل القصص على موضع العبرة ومورد التربية للسامعين ، وترك سائر التفاصيل . فكذلك الحال بالنسبة إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) حين يعرب عن حادثة من حوادث المستقبل .
يستثنى من هذا الوجه ، الروايات التي تكون بصدد بيان حوادث المستقبل مباشرة كذكر أشراط الساعة أو علامات الظهور . فإن لا يكون من المستهجن في مثلها الاستمرار في بيان الحوادث . ومعه يكون الغموض مستنداً إلى الوجوه الأخرى .
الأمر الخامس :
أمر فلسفي عقائدي ، يعود إلى النبي (ص) أو الإمام (ع) بأن يخبر بما لا يدخله المحو والإثبات ، ويهمل ما يحتمل أن يدخله ذلك ، لاحتمال ظهور عدم مطابقته للواقع .. على تفصيل وتحقيق ليس له مجال في المقام.
فإذا عرفنا هذه الأسباب الرئيسية للغموض والإجمال في مداليل الروايات التي نتكلم عنها .. نستطيع أن ندخل ، ونحن على بينة من أمرنا ، في البحث عن تشخيص المناشئ الرئيسية اللفظية او المعنوية للغموض ، لكي نعود بعدها إلى تشخيص ما يمكن أن يكون ميزاناً لتلافي هذه المناشئ ، والخروج عن مصاعبها ، وفهم الروايات فهماً مستقيماً صحيحاً .
مناشئ الغموض :
ويمكن عرض أهم هذه المناشئ ، فيما يلي :
المنشأ الأول :
الرمزية . والمراد بها استعمال المعنى التركيبي أو الجملي ، وإرادة معنى آخر ، غير ما يفصح عنه اللفظ بوضوح.
وهذا هو الذي يميز الرمز عن الكناية والمجاز ، فإنها لا تكون إلا في مفردات الألفاظ أو النسب الكلامية ، بخلاف الرمز فإنه يكون – عادة – في الجمل التركيبية .
صفحة (183)
ومن هنا يمكن أن يكتب الفرد صفحة أو عدة صفحات من الكلام ذات معان معينة ، ولكن لا يريد الكاتب أي واحد من المعاني على التحديد ، وإنما يرمز بها إلى معان أخرى ، لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق قرائن خاصة أو قرائن عامة متفق عليها .
وهذا النحو من الرمز وجد في الكلام العربي القديم . وهو شائع في هذه العصر في الأدب ، وخاصة في مدرسة (الشعر الحر) . وهو الذي يفسر لنا عدداً من موارد الغموض في تلك الروايات .
مثاله : التعبير في الروايات بمثل قوله : تفقأ عين الدنيا أو قوله : تخرج من اليمن نار تضيء لها أعناق الأبل في بصري . فإن كل ذلك ليس على وجه الحقيقة ، وإنما هو رمز عن حوادث أو حركات تاريخية معينة لإيراد التصريح بها أو عرضها بشكل تفصيلي .
ومن المؤسف أن الناس حين غفلوا عن هذا المنشأ ، حملوا مثل هذه التعبيرات على معانيها المباشرة الحقيقية . وبعدها انقسموا إلى قسمين : فهناك من الناس من يصدق بما يسمعه ويفهمه من هذه الروايات ، ويحملها على المعجزات وخوارق العادات وإن كان يجهل مناشئها ومصالحها . وهناك من الناس من هو مكذب لهذه المعاني ساخط عليها ، بل على كل روايات التنبؤ بالمستقبل .
مع إن كلا المسلكين ، مما لا حاجة إلى الالتزام به . إما المسلك الأول : فلأن المعجزات لا تكون إلا بقانون – كما سبق أن عرفنا – فلا بد من تطبيق الروايات عليه ، قبل الالتزام بمضمونها جملة وتفصيلاً . على إننا لا يمكن أن نحمل مضمون الرواية على المعجزة ما لم نتأكد من فهمها أولاً . وقد عرفنا إنه من المحتمل – على أقل تقدير – أن يراد بها معان أخرى غير ما هو ظاهرها ، وقد يكون ذلك معنى لا يمت إلى المعجزة بصلة . ولعل استبعاد الفهم الإعجازي في عدد من الحالات ، يكون قرينة على الرمزية ، وإمكان حملها على ذلك .
صفحة (184)
وأما المسلك الثاني : فهو باطل أيضاً ، باعتباره منطلقاً من الاعتقاد بتشويش هذه الروايات وغرابة مضامينها ، ونحن بعد أن نثبت تنظيمها وصحة مداليلها ، لا يكون لها المسلك أي موجب . مضافاً إلى أن كثرة هذه الروايات إلى حد تفوق حد التواتر ، يمنع من إنكارها جملة وتفصيلاً كما هو واضح .
نعم ، يبقى البحث عن الأمر المرموز إليه بهذا الرمز أو ذاك . ما هو ؟ ويكف نعرفه ؟ فهذا ما سنبحثه بعد قليل .
المنشأ الثاني :
استعمال مفاهيم معينة ذات مداليل ومصاديق خاصة ، بحسب ما يعيشه الناس في عصر صدور الرواية . ومن المؤكد أنهم لم يفهموا منه إلا ذلك . إلا أن النبي (ص) أو الإمام (ع) أراد منها مصاديق أخرى ، هي المصاديق والتطبيقات التي تكون لهذا المفهوم في عصر حدوث الحادثة التي يخبر عنها .
مثال ذلك : قولهم عليهم السلام : إن المهدي (ع) يقوم بالسيف . والمراد به قوة السلاح المناسب لعصر الظهور . على حين لم يفهم المعاصرون للنبي أو الإمام إلا السيف نفسه .. ولعلهم أضافوا إليه في مخيلتهم الدرع والرمح أيضاً ..!
ومثاله الآخر : إخبارهم عن جيش يخسف به في البيداء ، فإنه من المؤكد أنه لم يفهم الناس ، حين سماعهم هذا الخبر لأول وهلة ، إلا كونه جيشاً محارباً بالسيف على الغرار القديم . مع أن مثل هذا التخيل مما لا موجب له ، بل إن الجيش محارب بسلاح عصره لا محالة .
المنشأ الثالث :
الحذف وعدم التعرض إلى التاريخ المحدد تارة وإلى المكان أخرى وإلى أسماء الأشخاص ثالثة .. وإلى أهداف ومناهج وإيديولوجيات الحركات الموعودة في التاريخ ، رابعة .. وغير ذلك من الأمور . مما يجعل العلم المفصل بالحوادث متعذراً إلى حد كبير .
مثاله : التعبير بالنفس الزكية وبالسفياني ، وعدم التعرض إلى أسمائهم صراحة . والأخبار بخروج رايات سود من خراسان ، أو بوجود طائفتين متحاربتين ودعوتهما واحدة .. مع عدم التصريح بأن دعوة هؤلاء الناس قائمة على حق أو على باطل .. إلى غير ذلك من الأمثلة .
صفحة (185)
المنشأ الرابع :
سبب نفسي من المطلعين على هذه الروايات من الباحثين ، يحمل الفرد على عدم الإذعان والتصديق أو صعوبته بتحقق الحادثة أو صدق الرواية ، وإن توفرت فيها شرائط السند ، وزالت المناشئ الثلاثة الأولى لغموض الدلالة .
وهذا الاتجاه النفسي له عدة مناشئ .. أهمها ما يلي :
أولاً : احتمال الحذف أو التغيير خلال النقل . فإن اختلال الحرف الواحد بل النقطة الواحدة ،فضلاً عن الكلمة والأكثر، مما يخل بالمقصود ويغير المعنى .. وبخاصة في مثل هذا الحقل من المعرفة الإنسانية .
ثانياً : استبعاد وقوع كل الحوادث المخبر بها في مجموع الروايات . فإن كثرة هذه الروايات ، كما تجعلها متواترة نعلم بصدق عدد مهم منها .. كذلك تجعلنا نعلم أو نظن – على الأقل – بكذب عدد آخر منها . ومن المعلوم أننا لا نستطيع أن نشخص المعلوم الصدق من معلوم الكذب . فإن كل رواية لو أخذناها لرأيناها محتملة الصدق والكذب .
ثالثاً : عدم التأكد من مطابقة عدد من المعجزات المروية في هذه الروايات ، مع قانون المعجزات الذي ذكرناه .. أي عدم التأكد من أن هذه المعجزات واقعة في طريق إقامة الحجة . ومن المعلوم أنها لو لم تكن واقعة في هذا الطريق، فمقتضى القاعدة نفيها وتكذيب راويها .
وعلى أي حال فهذه هي المناشئ المهمة للغموض والتشكيك في دلالة هذه الروايات . وهناك مناشئ أخرى تكون في مورد دون مورد ... لا حاجة إلى التعرض لها .
منهج التمحيص الدلالي :
بعد أن عرنا هذه المناشئ الرئيسية للغموض والإبهام في روايات التنبؤ عن المستقبل ، لا بد لنا أن نعرض منهجاً يذللها وإسلوباً من الفهم يبسط محتواها ويربط بين أجزائها ، لكي نتلافى تلك الصعوبات إلى أكبر حد ممكن .
ونبدأ أولاً بمناقشة المنشأ الرابع ، لكونه خاصاً بالسامع ، أي بأسلوب وصول
صفحة (186)
الفصل الثاني
فيما دلت عليه أخبار التنبؤ من حوادث وصفات للأفراد والمجتمع ، فيما يخص مقدار تمسكهم بالدين وشعورهم بالمسؤولية الإسلامية عقائدياً وسلوكياً
ونتكلم في هذا الفصل عن ناحيتين رئيسيتين ، من حيث استفادة التفاصيل المطلوبة من القواعد العامة تارة ومن الأخبار الخاصة تارة أخرى .
الناحية الأولى
فيما تقتضيه القواعد العامة من شكل أوضاع المجتمع ومصيره إلى الإنحراف ،ومقدار حاجته إلى ظهور المهدي(ع) لنشر الحق والعدل فيه .
ويتم بيان ذلك بكشف القناع عن التخطيط الالهي لليوم الموعود ، مدعماً بفلسفة ذلك ومناشئه وآثاره . ويتوقف بيان ذلك على عدة جهات :
الجهة الأولى :في مناشيء التخطيط الالهي :
ويمكننا أن نعرض ذلك ضمن عدة نقاط:
النقطة الأولى :
إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق متفضلاً ، ولم يخلقهم عبثاً ولم يتركهم هملاً . بل خلقهم وهو غني عنهم ، لأجل حصولهم على مصالحهم الكبرى ووصولهم إلى كمالهم المنشود ، المتمثل بإخلاص العبادة لله تعالى . قال عز من قائل : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ﴾ (1).
صفحة (201)
إذن فالغرض من الخليقة هو الحصول على هذا الكمال العظيم المتمثل بتوجيه العقيدة والمفهوم إلى الله عز وجل ، وقصر السلوك على طاعته وعدله في كل حركة وسكون . وإذا نظرنا إلى حقيقة هذا الكمال من جوانبه المتعددة ، واستطعنا تحصيل الفكرة المتكاملة عنه ، عرفنا الهدف الالهي المقصود الذي أصبح هدفاً لإيجاد الخليقة .
الجانب الأول :
إيجاد الفرد الكامل . من حيث أن قصر الإنسان نفسه على التربية بيد الحكمة الالهية الكبرى وتحت إشرافها وتدبيرها ، يوجد فيه الإنسان العادل الكامل ، الذي يعيش محض الحرية عن إنحرافات العاطفة والمصالح الضيقة ، والمساوق في إنطلاقه مع إنطلاقة الكون الكبرى إلى الله عز وجل .
الجانب الثاني :
إيجاد المجتمع الكامل ،والبشرية الكاملة المتمثلة من مجموعة الأفراد الذين يعيشون على مستوى العدل والإخلاص، والتجرد من كل شيء سوى عبادة اله تعالى ، تلك العبادة التي تتضمن تربية الفرد والمجتمع ، والارتباط بكل شيء على مستوى العدل الالهي .
الجانب الثالث :
إيجاد الدولة العادلة التي تحكم المجتمع بالحق والعدل ، بشريعة الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . وتكون هي المسؤولة الأساسية عن السير قدماً بالمجتمع والبشرية نحو زيادة في التكامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات .
فهذا هو معنى
العبادة المقصود في الآية ، وكل ما كان على خلاق ذلك فهو تقصير في العبادة
الحقيقية تجاه الله عز وجل ، ولا يمكن أن نفهم من الآية هذا المعنى القاصر
بطبيعة الحال .
ـــــــــــــــــ
(1) الذاريات 51 / 56
صفحة (202)
النقطة الثانية :
إن الآية واضحة الظهور في أن الغاية الأساسية والغرض الأصلي من إيجاد البشرية هو إيجاد هذه العبادة الكاملة في ربوع البشرية ، أو إيصالها إلى هذا المستوى الرفيع . وذلك بقرينة وجود التعليل في قوله تعالى : ليعبدون ، مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع أداة الاستثناء (إلا) بعد النفي حين قال عز من قائل : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ﴾ .
إذن فهذا هو الهدف الوحيد المنحصر الذي لا شيء وراءه من خلقة البشرية ، المعبر عنهم بالإنس . وهذا الهدف ملحوظ ومخطط بشكل خاص منذ بدء الخليقة ، ويبقى ـ بطبيعة الحال ـ مواكباً لها ما دامت البشرية في الوجود .
وهذا بالضبط هو ما نعنيه حين نقول : أن الله تعالى لم يخلق البشرية لأجل مصلحته ، فأنه غني عن العالمين ، وإنما خلقهم لأجل مصلحتهم . وأي مصلحة يريدها الله لعباده غير كمالهم ورشدهم وصلاحهم المتمثل بالعبادة المخصلة والتوجه إليه بالخيرات نحوه عز وعلا .
النقطة الثالثة :
إن الغرض الالهي من خلق البشرية ، ما دام هو ذلك ، إذن فلا بد أن يشاء الله تعالى إيجاد كل ما يحققه والحيلولة دون كل ما يحول عنه ... شأن كل غرض إلهي مهم .... فإن الحكمة الأزلية حيت تتعلق بوجود أي شيء ، فإن تخلفه يكون مستحيلاً ، وتكون إرادة الله تعالى متعلقة بإيجاده لو كان شيئاً آنياً فورياً ، أو التخطيط لوجوده لو كان شيئاً مؤجلاً ومحتاجاً إلى مقدمات من الضروري أن توجد قبله .
وقد برهنا في رسالتنا الخاصة بالمفهوم الإسلامي للمعجزة أن الغرض الالهي المهم إذا تعلق بهدف من الأهداف ، فإنه لا بد من وجود ذلك الهدف ، ولو استلزم بوجوده أو ببعض مقدماته خرق قوانين الطبيعة ، وإيجاد المعجزات . فإن القوانين الطبيعية إنما أوجدها الله تعالى في كونه لأجل تنفيذ أغراضه من إيجاد الخلق . فإذا توقفت تلك الأغراض على انخرام تلك القوانين وحدوث المعجزات أحياناً أو في كثير من الأحيان .... كانت تلك القوانين الطبيعية قاصرة عن الممانعة والتأثير .
صفحة (203)
وهذا هو الذي يلقي الضوء على الفكرة الأساسية التي يقوم عليها ( قانون المعجزات ) الذي أشرنا إليه .... ونؤجل الغوص في تفاصيل ذلك إلى رسالتنا الخاصة بها .
النقطة الرابعة :
أننا نجد بالوجدان القطعي أن هذا الغرض الالهي المهم الذي نطقت به الآية بالمعنى الذي فهمناه ، لم يحدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ وجودها إلى العصر الحاضر . إذن فهو باليقين سوف يحدث في مستقبل عمر البشرية بمشيئة خالقها العظيم . وهذه هي الفكرة الأساسية التي ننطلق فيها إلى التسليم بالتخطيط الالهي لليوم الموعود .
ولئن كان المنطق الأساسي في هذا البرهان هوقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ﴾...فإنه يمكن الإنطلاق إلى نفس النتيجة من آيات قرآنية أخرى نذكر منها آيتين ، مع بيان الوجه في الاستدلال مختصراً ،ونحيل التفصيل إلى الكتاب الخامس من هذه الموسوعة الخاص بإثبات وجود المهدي (ع) عن طريق القرآن الكريم .
الآية الأولى :
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً . ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾(1) .
فهذا وعد صريح
من الله عز وجل ، و ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد
﴾(2)
للبشرية المؤمنة الصالحة التي قاست الظلم والعذاب في عصور الإنحراف وبذلت من
التضحيات الشيء الكثير ... بأن يستخلفهم في الأرض ، بمعنى أنه يوفقهم إلى
السلطة الفعلية على البشرية وممارسة الولاية الحقيقية فيهم .
_________________________
صفحة (204)
فإذا استطعنا أن نفهم من (الأرض ) كل القسم المسكون من البسيطة ، كما هو الظاهر من الكلمة والمعنى الواضح منها حملاً للأم على الجنس بعد عدم وجود أي قرينة على انصرافها إلى أرض معينة . ومعنى حملها على الجنس : إن كل أرض على الإطلاق سوف تكون مشمولة لسلطة المؤمنين واستخلافهم وسيحكمون وجه البسيطة .
وهذا هو المناسب مع الجمل المتأخرة في الآية الكريمة ، كقوله تعالى : ﴿ وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ﴾. فإن التمكين التام والاستقرار الحقيقي للدين ، لا يكون إلا عند سيادته في العالم أجمع . وكقوله تعالى : ﴿ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ﴾ .... بعد أن نعرف أن المؤمنين كانوا قبل الاستخلاف يعانون الخوف في كل مناطق العالم لسيادة الظلم والجور في العالم كله . فلا يكون الخوف قد تبدل إلى الأمن حقيقة إلا بعد أن تتم لهم السلطة على وجه البسيطة كلها .
فإذا تم لنا من الآية ذلك ، ولاحظنا وجداننا الذي ذكرناه وهو أن هذا الوضع الإجتماعي العالمي الموعد ، لم يتحقق على مدى التاريخ منذ فجر البشرية إلى عصرنا الحاضر . إذن فهو مما سيتحقق في مستقبل الدهر يقيناً طبقاً للوعد الالهي القطعي غير القابل للتخلف أو التمييع .
الآية الثانية :
قوله تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾(1) .
وهي تعطينا بوضوح ، الغاية والغرض الرئيسي من إرسال رسول الإلسام صلى الله عليه وآله بالهدى ودين الحق. يدلنا على ذلك قوله تعالى ليظهره ، حيث دلت لام التعليل على الغاية ، والسبب في إنزال شريعة الإسلام وهو أن يظهره أي يجعله منتصراً ومسيطراً على غيره من الأديان والقائد كلها . وذلك لا يكون إلا بسيطرة دين الحق على العالم كله .
وإذا كان هذا
غاية من إرسال الإٍسلام ،إذن فهو يقيني الحدوث في مستقبل الدهر . لأن الغايات
الالهية غير قابلة للتخلف .
_________________________
صفحة (205)
ولئن دلت هاتان الآيتان على نفس المطلوب ... إلا أن قوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾، أهم في مقام الاستدلال على ذلك ، لأنها تدلنا على الغرض الأسمى لخلق البشرية أساساً ذلك الغرض الذي كان موجوداً منذ بدء الخلق . بخلاف الآيتين الأخيرتين ، فإنهما مختصتان بمضامين محدودة نسبياً ، كما يتضح لمن فكر في مدلوليهما .
وإن هاتين الآيتين في الواقع ، من تطبيقات ذلك الغرض الأسمى الذي نطقت به ، الآية الكريمة الأولى ، كما سيتضح بعد قليل عند معرفتنا بتفاصيل التخطيط الالهي لليوم الموعود .
النقطة الخامسة :
إن تكامل الفرد ، وبالتالي تكامل المجتمع البشري ، يتوقف ـ بعد أن وهبه الله عز وعلا العقل والاختيار ـ على عاملين : عامل خارجي وعامل داخلي أو قل : عامل موضوعي وعامل ذاتي .
أما العامل الخارجي الموضوعي ، فهو إفهام الفرد ـ وبالتالي المجتمع ـ معنى العدل والكمال الذي ينبغي أن يستهدفه والمنهج الذي يجب عليه أن يتبعه في حياته ويقصر عليه سلوكه .
وهذا الإفهام لا يمكن صدوره إلا عن الله عز وجل ، بعد البرهنة على عدم إمكان توصل البشرية إلى كمالها ومعرفتها بالعدل الحقيقي إذا عزلت فكرياً عن الحكمة الأزلية الالهية ، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية . ومن ثم لا يمكن أن يتحقق الغرض الالهي المهم في هداية البشرية وإيجاد العبادة الكاملة في ربوعها ، إذا أوكلت البشرية إلى نفسها وفكرها القاصر ، وألقي حبلها على غاربها . إذن ، فلا بد من أجل التوصل إلى ذلك الغرض الكبير من أن يفهمها الله تعالى معنى العدل والكمال وتفاصيل السلوك الصالح الذي يجب اتخاذه .
وحيث أن إفهام البشرية من قبل الله تعالى بالمباشرة والمواجهة مستحيل ، كما صح البرهان عليه في بحوث العقائد الإسلامية ، احتاجت البشرية إلى أن يرسل الله تعالى إليها أنبياء مبشرين ومنذرين . وأن يكون إرسالهم وإثبات صدقهم طبقاً لقانون المعجزات . لأن هذه المعجزات تقع في طريق هداية البشر والوصول إلى إيجاد الغرض المهم من إيجادهم .
صفحة (206)
ومنه نستطيع أن نلاحظ ، كيف أن خط الأنبياء الطويل ، والأعداد الكبيرة منهم ، إنما كان باعتبار التقديم والتمهيد للغرض الكبير . باعتبار أن البشرية حين أول وجودها كانت قاصرة عن فهم تفاصيل العدل الكامل ، فلم يكن في الإمكان إيجاد المجتمع العادل الكامل الموعود في ربوعها لأول وهلة . بل كان لا بد أن تتربى البشرية تدريجياً إلى أن تصل إلى المستوى اللائق الذي يؤهلها لمجرد فهم العدل الكامل الذي يريد الله تعالى تطبيقه في اليوم الموعود .
ومن هنا نعرف أن الأنبياء إنما تعددوا وتكثروا من أجل إعداد البشرية وتربيتها للوصول إلى هذا المستوى اللائق ... لكي يتم لها هذا العامل الخارجي الأساسي وهو إفهامها العدل الكامل والأطروحة النظرية التامة للعدل التشريعي الذي يريد الله تعالى تطبيقها على وجه الأرض ، والتي بها تتحقق العبادة الكاملة التي يرضاها الله تعالى لخلقه ، وبها يتحقق الهدف الأساسي لإيجاد الخليقة .
وأما العامل الداخلي الذاتي ، فهو الشعور بالمسؤولية تجاه الأطروحة العادلة الكاملة ، باعتبار أنها إنما تضمن العدل فيما إذا أطاعها الأفراد وطبقت في حياتهم ،وهي إنما تضمن الطاعة التامة،مع وجود الشعور بالمسؤولية،إذن فلا بد من أجل وجود العدل أن يوجد هذا العامل الداخلي الذاتي في الإنسان .
وإنما يوجد الشعور بالمسؤولية وينمو ، نتيجة لأسباب ثلاثة ، مقترنة :
السبب الأول :
إدراك العقل لأهمية طاعة الله والخضوع له والإنصياع إلى أوامره ونواهيه ، باعتباره مستحقاً للعبادة مع غض النظر عن أي اعتبار آخر .
السبب الثاني :
الشعور بأهمية طاعة الله تعالى ، باعتبارها الضامن الحقيقي للعدل المطلق ، على المستويين الفردي والإجتماعي، أو بتعبير آخر : تربية الإخلاص الذاتي لطاعة الله باعتبار المعرفة الواضحة بضمانها للعدل المطلق .
صفحة (207)
السبب الثالث :
العامل الأخروي المتمثل بالطمع بالثواب الذي رصده الله تبارك وتعالى للمطيعين ، والخوف من العقاب الذي توعد به العاصين والمذنبين .
وهناك فرق أساسي في طرق إيجاد هذه الأسباب . فالسببان الأول والأخير يوجدان بالتربية النظرية فقط ، ويتحققان بمجرد الفات الفرد إليهما وتصديقه بصحتهما . وأما السبب الثاني ، فالبرهنة النظرية عليه غير كافية بطبيعة الحال، بشكل ينتج الإخلاص والوعي الحقيقيين والاستعداد للتفاني في سبيل العدل المطلق .... في سبيل الله تعالى . بل يحتاج ذلك إلى تمرين طويل الأمد وتجربة وممارسة .
ومن هنا تنبثق أهمية هذه التجربة والممارسة في تربية الإخلاص بشكل خاص ، والتكامل بشكل عام ... بصفة إحدى المقدمات الأساسية والأسباب الرئيسية لإيجاد المجتمع العادل ، الذي يتحقق فيه الغرض الأساسي لإيجاد البشرية .
النقطة السادسة :
إن التجربة والممارسة التي عرفنا أهميتها في تربية الإخلاص والإندفاع إلى الطاعة ، إذا لاحظناها على أساس فردي لم تكتسب أهمية أكثر من انتاج الإخلاص والتكامل للفرد الواحد . وأما إذا لاحظناها على أساس عام ، وقلنا أن المجتمع بصفته مكوناً من أفراد ، والأمة بصفتها مكونة من مجتمعات ، يجب أن تمر بدور التربية والتجربة التي تنمي فيها روح الإخلاص والطاعة تجاه تعاليم الله عز وجل .
إذن تكتسب تربية الأمة والتجربة التي يجب أن يمر بها الأمة نفس الأهمية الكبرى ، باعتبارها مقدمة حقيقية للغرض الالهي الكبير من إيجاد الخليقة . فإذا علمنا ـ كما سبق ـ أن الله تعالى يفعل أي شيء يكون مقدمة لوجود غرضه الأساسي .... إذن فهو ـ بكل تأكيد ـ سوف يخطط لتربية الأمة على هذا الطريق .
وقد يخطر في الذه هذا السؤال : إن هذه التربية حين تكون مقدمة للغرض الالهي ، ويكون الغرض مهماً بحيث عرفنا أنه يمكن إقامة المعجزات في سبيل التمهيد إليه . فلماذا لا توجد هذه التربية في ربوع الأمة دفعة واحدة عن طريق المعجزة ؟
صفحة (208)
والجواب على هذا السؤال يكون من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول :
إن إيجاد الإيمان والإخلاص في أنفس الأفراد بطريق المعجزة ، يؤدي بنا إلى القول بأن الله تعالى يجبر الأفراد على الطاعات وترك المعاصي وهذا مبرهن على بطلانه وفساده في بحوث العقائد الإسلامية .
الوجه الثاني :
إن هذا الأسلوب المقترح من المعجزة ينافي قانون المعجزات ، إذن فلا يمكن وجود مثل هذه المعجزة .
والسبب في ذلك هو أن قانون المعجزات ، كما عرفناه ، يقضي بعدم قيام المعجزة ما لم يكن قيامها طريقاً منحصراً لإقامة الحجة وهداية البشرية . وأما إذا كانت للنتيجة المطلوبة أساليب طبيعية غير إعجازية ، كان عدم قيام المعجزة حتمياً ، وأوكل الله تعالى إيجاد النتيجة إلى أسبابها الطبيعية نفسها ، مهما طال الزمن بهذه الأسباب والنتائج. فإن الله تعالى طويل الانات ولا يفرق في ذاته مرور الزمان .
فإذا طبقنا ذلك على مورد حديثنا ، وجدنا أن لتربية الأمة أسباب طبيعية سوف نعرض لها في النقطة الآتية ، يمكن أن تنتج نتائجها خلال زمان طويل . ومعه يكون عدم قيام المعجزة لإيجاد تلكم النتائج الحتمية .
الوجه الثالث :
أننا لو تنزلنا ـ جدلاً ـ عن الوجهين السابقين. وقلنا بإمكان تربية الأمة عن طريق المعجزات . فيكون الأمر دائراً ومردداً بين تربية الامة عن هذا الطريق أو تربيتها عن الطريق الطبيعي . عندئذ يمكن القول : أن الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالطرق الطبيعية أفضل بكثير من الأهداف التربوية التي يمكن إيجادها بالمعجزات . ولا تتحقق العبادة الكاملة المطلوبة لله عز وجل إلا باختيار أفضل الفردين . ومن هنا لا بد من الالتزام بعدم قيام المعجزات لأنها الطريق الأردأ في تربية الأمة .
صفحة (209)
والسبب في ذلك : هي أن التربية إن وجدت بطرقها الطبيعية ، كانت متضمنة لمرتبة عالية من الرشد والنضج من الناحية السلوكية والعقائدية ، لأن من الطرق الطبيعية للتربية ـ على ما سنعرف ـ التمحيص والاختبار ، والمرور بالتجارب القاسية . فإذا خرج الفرد من التمحيص والتجربة ناجحاً منتصراً ، كان إخلاصه قد اكتسب نضجاً ورشداً لم يكن في السابق ، باعتبارأن الفرد أصبح يعرف ما هي ردود الفعل المطلوبة تجاه المصاعب ، وما هي قيمة العدل في حل مشاكل البشرية بإزاء الحلول الأخرى الفاشلة التي عرضها الآخرون . وكل ذلك لا يكون إلا خلال ردح طويل من الزمن .
بخلاف المعجزة ، فإنها إن أحدثت المجتمع الصالح ، فإنها لا يمكن أن توجد نضجه ورشده بأي حال ، بل سوف يكون مجتمعاً فجاً وعدلاً صورياً بطبيعة الحال . ما لم تفترض أمور أخرى إضافية كنزول الوحي على كل أفراد الأمة ... أو نحو ذلك مم الم تقم عليه الدعوة الالهية على طول خط التاريخ الطويل .
النقطة السابعة :
في محاولة التعرف على الأسباب الطبيعية للتربية وإيجاد الإخلاص .
تتوقف التجربة والممارسة التي يجب أن تمر بها الأمة في تربيتها الطويلة ... على أحد عاملين :
العامل الاول :
التطبيق الفعلي الحي للمجتمع العادل المطلق ، حتى يراه الناس ويحبوه ويقدموا مصالحه العامة على مصالحهم الخاصة . فإن شعور الناس بوجود العدل المطلق مبطقاً على وجه الأرض ، يكفي بمجرده في توجيه عواطف الناس وصهر إخلاصهم إلى حد بعيد .
صفحة (210)
العامل الثاني :
مرور الأمة خلال تربيتها بعوامل صعبة وظروف ظالمة عسرة ، تجعلها تتوفر شيئاً فشيئاً على التعمق الفكري والعاطفي ، وتصوغ منها في نهاية المطاف أمة شاعرة بالمسؤولية قوية الإرادة والعزم على تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة .
وذلك بعد أن تعيش الأمة الشعور بأمرين مقترنين :
أحدهما : الشعور بأفضلية الأطروحة العادلة ، لا بشكل نظري فحسب ، بل بشكل حسي معاش . بعد أن تمت المقارنة لدى الأمة بكل وضوح بين هذه الأطروحة وبين سائر النظم والقوانين والنظريات المخالفة لها . وثبت بالتجربة فشل سائر النظم والنظريات ، وأدائها إلى أنواع مختلفة من الظلم والتعسف . باعتبار النقص الذاتي الموجود في سائر النظم ، ذلك النقص الذي تبرأ منه وتعلو عليه الأطروحة الكاملة .
ثانيهما : الشعور بأهمية التضحية الحقيقية على مختلف المستويات في سبيل الأطروحة الكاملة التي يؤمنون بها . والإحساس المباشر بلزوم الصبر والمثابرة والصمود أمام القوى الظالمة تمسكاً بالحق .
وبالرغم من صحة العاملين كليهما وأثرهما الأكيد في تربية الأمة . إلاّ أننا إذا فرضنا كلاً منهما معزولاً عن الآخر، نجد أن العامل الثاني أهم من الأول من جهتين أساسيتين :
أولاً : إن محبة الأطروحة العادلة والإخلاص لها عند تطبيقها ، أمر موافق للهوى والمصالح الشخصية ، لأنها تضمن للإنسان سعادته ورفاهه الفردي والإجتماعي .
وأما محبة الأطروحة العادلة في ظروف الظلم والتضحية ، فهي محبة واعية عميقة تدفع الإنسان إلى المكافحة والجهاد في سبيل إيجاد الواقع الإجتماعي العادل .
ومن المعلوم أن المحب المخلص على الشكل الأول ، إذا لم يمر بتجارب التضحية ، يكون مهدداً بالإنحراف والإرتداد عند مواجهة أول صعوبة يجابهها ، يشعر خلالها بالتنافي بين مصالحه الخاصة والمصالح العامة . فإذا كانت هذه الظاهرة عامة بين الأفراد ... لم يكن ذلك التطبيق قابلاً للاستمرار والبقاء . ولا يمكن أن تكون هذه الظاهرة عامة بأي حال لو كان الإخلاص ناتجاً عن تضحية وصمود .
صفحة (211)
ثانياً : نعرف مما تقدم أن العامل الثاني يجب أن يكون متقدماً زماناً على العامل الأول ، باعتبار توقف التطبيق الحقيقي عليه . فإن العدل لا يكون عميقاً وأساسياً في المجتمع ، ما لم يكن كل الأفراد أو جلهم ـ على أقل تقدير ـ ممن شحذت اخلاصه التجارب ورفعت إيمانه وإرادته التضحيات ، فإنهم يكونون أقدر على العمل وأسرع انتاجاً وأكثر تحملاً للصعوبات ، مما يجعل العدل أعمق أثراً وأضمن للبقاء والاستمرار .
إذن فالغرض الالهي في إيجاد البشرية ، يتوقف وجوده على الإخلاص المنصقل بالتجارب والتضحيات . ومن المعلوم أن هذا الصقل لا يمكن حصوله إلا بالمرور في تيار التجارب والتضحيات نفسه . وهذا التيار ليس إلا الظروف الصعبة والأزمنة المظلمة الظالمة التي تمر بها البشرية خلال الأجيال .
إذن يتبرهن بكل وضوح توقف الغرض الالهي في هداية البشر وإيجاد مجتمع العبادة الكاملة ... على مرور البشرية في ظروف صعبة ظالمة ، ليكونوا عند ابتداء التطبيق على مستوى المسؤولية المطلوبة للعدل ، ويستطيعون بجدارة القيام به وبسهولة الانسجام معه .
النقطة الثامنة :
أنه من هذا المنطلق بالذات نعرف أهمية التمحيص والاختبار الذي دلت عليه الأخبار ، كما سوف نسمع ، وارتباطه الأساسي بالتقديم للهدف الالهي الكبير :
باعتبار أن ما تعيشه البشرية من ظروف ظالمة من ناحية وأمور مغرية من ناحية أخرى .... وكم للخوف والإغراء من قوة في الإندفاع ومن تأثير على النفس ... فيكون ذلك حاملاً للفرد على الإنحراف عن الله تعالى والخروج على تعاليمه العادلة. ويصبح تطبيق هذه التعاليم على نفسه وغيره من أصعب الامور ، كما قد وصف في بعض الأخبار ، بأنه كالقبص على الجمر .
ومن هنا تكون هذه الظروف ومحاولة هذا التطبيق محكاً أساسياً لمدى الإخلاص وقوة الإرادة لدى الأفراد . فينهار العدد الإغلب من البشر في أحضان الظلم والإغرا ، تبعاً لضعف إرادتهم ، وتقديم مصالحهم الشخصية وراحتهم القريبة على الأهداف الكبرى والغايات القصوى .
صفحة (212)
ويبقى العدد الأقل صادمين مكافحين ، تشتد إرادتهم وتقوي عزيمتهم ، ويشعرون باللذة والفخر في مكافحة تيارات الإنحراف والفساد . ولا يزالون في تكامل وصمود حتى يبلغوا مستوى المسؤولية الكبرى في مواجهة العالم بالعدل المطلق في اليوم الموعود .
ويكون العالم عند تمخض قانون التمحيص هذا عن نتائجه كما نطقت به الأخبار ... متكوناً من فسطاطين أو معسكرين : فسطاط كفر لا إيمان فيه وفسطاط إيمان لا كفر فيه . على ما سنسمع في الناحية الثانية من هذا الفصل .
فإن قال قائل : كيف يمكن التوفيق بين ما قلناه قبل قليل من لزوم كون الأمة بشكل عام ، المتمثلة في أكثر أفراده، مخلصة إخلاصاً حقيقياً نتيجة للتجربة والتمحيص . وبين ما قلناه الآن من أن أغلب الناس سوف ينهارون تجاه الظلم والإغراء ولا يبقى من ذوي الإخلاص الحقيقي إلا القليل .
نقول في جواب ذلك : أنه يمكن القول أن النتائج الصالحة للتمحيص لا تختص بالقليل من البشر ، وإن اختص هؤلاء بدرجات رفعية من الإخلاص لا يضارعهم بها غيرهم من الناس .
فإننا يمكن أن نرتفع بنتائج التمحيص ، من الزاوية التي نتوخاها الآن ، إلى أربع درجات :
الدرجة الأولى :
الإخلاص التام والوعي الكامل . الذي يتمثل باستعداد الفرد بالتضحية بكل عال ورخيص على الإطلاق في سبيل العدل الالهي وتطبيق تعاليم الرب العظيم وأهدافه الكبرى .
ويكون مثل هذا الفرد مؤهلاً لنيل بعض درجات القيادة والسلطة العسكرية أو المدنية في اليوم الموعود .
الدرجة الثانية :
الإخلاص الثابت المهم الذي يتمثل في قدرة الفرد على السيطرة بإرادته على كل صعوبة وإغراء مر به في حياته ، من درجات الخوف والطمع المعروفة . بغض النظر عن أنه لو مر في حياته بدرجة أعلى من التمحيص والمصاعب فهل يستطيع النجاح أيضاً أو لا . وهذا هو الذي يفرق هذه الدرجة عن سابقتها .
صفحة (213)
وهذه الدرجة هي التي تؤهل الفرد لأن يكون واحداً من القواعد الشعبية الصالحة لدولة الحق في اليوم الموعود . أو أن يكون جندياً خلال الفتح العالمي في ذلك اليوم .
الدرجة الثالثة :
الإخلاص الإقتضائي : وهو أن يكون الفرد محباً للحق والعدل الالهي في دخيلة نفسه ومسايراً لظروف الظلم أو الإغراء إلى حد ما أيضاً .
فإننا نجد في كثير من الأفراد انفكاكاً بين العقيدة والسلوك . فبينما نجد عقيدته صالحة نجد سلوكه منحرفاً نتيجة لاضطراره وظروفه الشاذة واحتياجه إلى لقمة العيش . وهو في ذات الوقت من الممكن أن يكون مدركاً لمعنى الظلم وفظاعته ، وللمسؤولية تجاه تعاليم الله العادلة . ولكنه يشعر بالقصور عن تطبيقها نتيجة لظروف الضغط والظلم التي يعيشها . ومن ثم فهو يدفن عقيدته ووعيه في قلبه ويساير الظلم والإغراء إلى بعض الخطوات .
ويمن في حق مثل هذا الفرد ، أنه بمجرد أن ترتفع ظروف الظلم ويبدأ التطبيق العادل ... فإنه سوف ينطلق إخلاصه الاقتضائي الكامن ، بعد أن ارتفع عنه المانع ، ويكون له حركة فعالة في المشاركة والتعاون في ظروف التطبيق الجديد .
الدرجة الرابعة :
أن لا يوجد الإخلاص بأي درجة من درجاته السابقة . ولكن يكون الفرد قد شعر بوضوح نتيجة لظروف التمحيص العالمي ، بفشل التجارب التي عشاتها المبادئ والفلسفات التي ادعت حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه ونشر العدالة والرفاه في ربوعه . فإن هذه المبادئ بعد أن تعيش التجربة والتطبيق ، وتتمخض عن نتائجها الرئيسية ، سوف يبدو بوضوح للأعم الأغلب من البشر أنها لم تتمخض إلا عن الفساد والضياع نتيجة لقصورها الذاتي ، كما سبق أن أشرنا ، وقد أضافت إلى مشكلات العالم لا أنها قد ذللت منها شيئاً .
عندئذ ينبثق
شعور خفي ، في اللاشعور ، بالحاجة العالمية الماسة إلى الحل الناجز الذي ينقذ
العالم من ورطته ويخرجه من وهدته ويوقظه من رقدته .
صفحة (214)
وهذا الحل ، وإن لم يكن ملتفتاً إليه بوضوح أو معروف بتفاصيله . ولكنه على أي حال ، توقع نفسي غامض يمكن انطباقه على أول دعوة رئيسية جديدة تدعي حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه . ومن هنا تفوز مثل هذه الدعوة بتأييد كل من يمثل هذه الدرجة من نتائج ريثما كانت هذه الدعوة محتملة الصدق على أي حال .
فإذا كانت هذه الدعوة هي دعوة الحق ، في يومها الموعود ، فسيكون لهذا الجو النفسي العالمي أثره الكبير في دعم التطبيق العادل ، في ذلك اليوم .
فهذه هي الدرجات الأربع التي يتمخض عنها التمحيص الالهي الكبير في عصر ما قبل الظهور . والتي تشارك ، بشكل وآخر في بناء العدل في اليوم الموعود .
ونحن نستطيع
أن نلاحظ بوضوح أن هذه الدرجات كلما ارتفعت قلَّ الأفراد المتصفون بها من البشر
، وكلما نزلت كثر الأفراد المتصفون بها بطبيعة الحال . ومن هنا كان المتصفون
بالدرجة الأولى من الإخلاص قليلين في البشر . وهم الذي سبق أن برهنا على أن
الإمام المهدي (ع) يمكن أن لا يحتجب عنهم خلال غيبته الكبرى . كما كان المتصفون
بالدرجة الرابعة ، هم أكثر البشرية في العصر المباشر لما قبل الظهور . وتختلف
الدرجتان الثانية والثالثة فيما بين هذين الحدين من العدد .
ومن هنا نستطيع أن نقول لمن يوجه السؤال السابق: أن الدرجات الصالحة الناتجة عن
التمحيص الالهي تمثل بمجموعها عدداً كبيراً من البشر ، بل الأعم الإغلب منهم .
وليس العدد قليلاً كما تخيله السائل . وإنما العدد القليل منحصر بالدرجة العليا
من الإخلاص ، وهو مما لا يؤثر على التطبيق العادل الموعود شيئاً ، باعتبار أن
الأفراد الذي يمثلون هذه الدرجة ، سيكونون بالمقدار الكافي الذي يقومون خلاله
بمسؤولية القيادة الناجحة في اليوم الموعود . وليس من المتوقع من كل البشر أن
يكونوا قواداً ، بطبيعة الحال ! ....وعلى أي حال ، فقد اتضحت من هذه النقاط
الثمان ، المناشئ الحقيقية للتخطيط الالهي لهداية البشر وتحقيق العبادة التامة
في ربوعهم . كما اتضح البرهان على وجود هذا التخطيط ، حيث يحتاج الأمر إلى
مقدمات طويلة وطبيعية غير اعجازية . كما اتضحت جملة من ملامح هذا التخطيط ، وما
يلعبه الظلم والإنحراف الذي تعانيه البشرية على مدى التاريخ ، من دور في هذا
التخطيط الالهي الكبير .
صفحة (215)
وبقي علينا أن نعرف تفاصيل أعمق وأكثر عن هذا التخطيط ، خلال الجهات الآتية ، شروعاً بما قبل الإسلام وانتهاء بالعصر الحاضر .
الجهة الثانية :
التخطيط الالهي قبل الإسلام .
والمراد به الجزء الذي يعود إلى الفترة السابقة على الإٍسلام من عمر الخليقة ، منذ دخلت عهد الفهم والإدراك إلى حين بعثة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله .
وذلك : إن التخطيط الالهي الشامل لليوم الموعود ، بدأ بوجود الخليقة نفسها ، لأنه يعبر عن أسلوب تحقيق الغرض الأساسي من إيجادها . إذن فقد كان هذا التخطيط مستمراً قبل الإٍسلام وبقي مستمراً بعد الإسلام ، وسيبقى نافذاً إلى يوم يتحقق به اليوم الموعود بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة .
وينبغي أن ننطلق في الحديث عن ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
في مشاركة
الأنبياء إجمالاً في هذا التخطيط .
وهو ما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة مختصرة ، وينبغي لنا أن نحمل الآن فكرة
تفصيلية عن السر الأساسي لذلك:
إن البشرية في مبدأ أمرها لم يكن يتوفر لديها ، بطبيعة الحال ، الشرط الأول
والثاني ، السابقين ، من شرائط تطبيق العدل الكامل (1) . فهي لا
تعرف ما هو ما هو العدل الكامل ، ولا هي مخلصة له أو مستعدة للتضحية في سبيل
تطبيقه لو عرفته .
ـــــــــــــ
(1) أما الشرط الثالث وهو معرفة الثواب والعقاب الآخرويين فقد كان متوفراً بشكل وآخر في دعوات الأنبياء . فالمهم إذن هو الحديث عن الشرطين الأولين .
صفحة (216)
فكان لا بد لها ـ كجزء من التخطيط ـ أن تمر بتربية طويلة الأمد من كلتا هاتين الناحيتين . فكان أن تكفل الأنبياء هذه المهمة ، وهي تربية البشرية لتكون صالحة لفهم العدل الكامل . فكان كل نبي يشارك مشاركة جزئية قليلة أو كثيرة في ذلك ، سواء علم الناس ، بذلك في عصره أو جهلوه . لأن المهم هو تربيتهم الفكرية ، وليس المهم الفاتهم بوضوح إلى هذا التخطيط .
وهذه التربية قد انتهت ، واستطاعت البشرية ـ في نهاية المطاف ـ أن توفر الشرط الأول ، فأصبحت قابلة لفهم الأطروحة العادلة الكاملة ، فأرسل الله تعالى إليها تلك الأطروحة متمثلة بالإسلام . وبذلك تحقق الشرط الأول .
ولم تستطع البشرية إلى حد الآن أن توفر الشرط الثاني وهو استعدادها للتضحية في سبيل تطبيق العدل ، وهي على أي حال في طريق التربية على ذلك .
وكان كل نبي بطبيعة الحال ، بما فيهم نبي الإسلام (ص) يقرن تربيته الفكرية للناس بالتربية على الشرط الثاني أيضاً بمعنى إيجاد الإخلاص والاستعداد للتضحية في نفوس البشر . فكانت مشاركة الأنبياء في التربية الأولى متمثلة بما بلغوا من أحكام ، وكانت مشاركتهم في التربية الثانية متمثلة بما قدموا من تضحيات ودماء .
إلا أن التربية الأولى أنتجت نتيجتها الكاملة ، على حين لم تنتج التربية الثانية نتيجتها إلا في القليل من الناس . وذلك لمدى الضغط والإغراء الذي يوجهه الناس نحو الإنحراف من داخل نفوسهم وخارجها ، على طول خط التاريخ، مما يجعل الحق في أفواههم مراً وتحمل العدل عليهم صعباً .. وينتج في نهاية المطاف بطء التربية على الإخلاص وصعوبتها .
النقطة الثانية :
لم يكن الأنبياء ليسكتوا عن تبليغ الناس ، بشكل وآخر ، بالغرض الأساسي من إيجاد البشرية . متمثلاً بإعلامهم أن هناك يوماً يأتي في مستقبل الزمان يسود فيه العدل الالهي المطلق ويرتفع فيه كل ظلم وجور . ولا زلنا نسمع صدى هذا التبليغ متمثلاً باعتقاد عدد من الديانات السماوية بذلك وإيمانها به ، وإن اختلفت في تسمية القائد الذي يتولى ذلك التطبيق الكبير .
صفحة (217)
ولكن حيث لم يكن هذا اليوم الموعود بقريب ، ولم يكن قد تحقق الشيء المهم من شروطه .. لم يكن من اللازم إعطاء التفاصيل أكثر من هذا المقدار المجمل القليل . ومن هنا نرى أن التبليغات السابقة على الإسلام لم تكن واضحة وكافية لاجتثاث جذر الخلاف في ما تعتقده الديانات من تفاصيل اليوم الموعود .
ومعه فمن الممكن القول أن المقدار المشترك بين هذه الأديان من الاعتراف باليوم الموعود ، أمر حق ناتج عن تبليغات الأنبياء عليهم السلام . وأما التفاصيل المختلف بشأنها على مستوى هذه الديانات كتسمية القائد وغير ذلك، فهي أمور مضافة غلى تلك التعاليم من قبل الفكر البشري المنفصل عن إلهام السماء .
ومن هنا نستطيع أن نفسر اتفاق الأديان على ذلك ، منسجماً مع الغرض الأصلي لإيجاد الخليقة . ونجيب بذلك على ما يذكره بعض المستشرقين المغرضين ، من أن بعض هذه الاديان عيال على البعض الآخر في ذلك و وأن الاعتقاد باليوم الموعود راجع إلى بعض الأديان القديمة الموروثة ... وهو اعتقاد كاذب في رأي هؤلاء المغرضين .
بل هو اعتقاد صادق ، اتفقت عليه الأديان باعتبار سبب واحد هو الوحي الالهي . وكلها تشير إلى أمر واحد هو الغرض الأساسي من إيجاد الخليقة ، الذي عرفنا أن يكون من الطبيعي وجوده منذ ولادة البشرية ، وتبليغه إلى الناس من أول عهود النبوات .
كما نستطيع بذلك أن نجيب على كلام آخر يقوله بعض المرجفين ، من أن الاعتقاد باليوم الموعود ، ناشئ من شعور البشرية بالظلم وتوقانها إلى ارتفاعه وسيادة العدل على الارض .
فإننا عرفنا السبب الحقيقي لوجود هذا الاعتقاد . ومن الواضح أن مجرد التوقان إلى العدل لا يصلح سبباً له ، لأن الفرد أو المجتمع إذا أمل ارتفاع الظلم عنه ، فإنما يود أن يحدث ذلك في الزمن المعاصر القريب ، لكي يستفيد منه بشكل وآخر . وأما الاعتقاد بوجود اليوم الموعود في أجيال غير معاصرة فهذا مما لا يعود بالمصلحة إلى أي فرد معين ، لكي نحتمل أنه ناشئ من ظروف الظلم والمصاعب . فضلاً عما إذا اقترن بهذا الاعتقاد كون التقديم إليه لا يكون إلا بمرور البشرية بالمشاكل والمظالم . كما نريد البرهنة عليه . فأنه في واقعه اعتقاد بزيادة الظلم والمشاكل على البشرية في أي جيل معاصر ،وليس توقاناً إلى العدل العاجل بأي شكل من الأشكال .
صفحة (218)
ومن هنا انحصر السبب في وجود الاعتقاد القديم باليوم الموعود ، بتبليغ الأنبياء الناشئ من إلهام السماء .
وإذا طبقنا ذلك على عقيدتنا في المهدي ، كما تم عليها البرهان الصحيح ، استطعنا أن ندرك بسهولة ووضوح ، كيف أن المهدي (ع) هو القائد المذخور من قبل الله عز وجل لتحقيق الغرض الأساسي من الخليقة ... وإن عدداً من الأنبياء السابقين قد أخبروا عن ظهوره ، فضلاً عن نبي الإسلام (ص) الذي تواتر عنه النقل في ذلك . وإنما كان الاختلاف في تسميته نتيجة لاختلاف اللغات ، أو للانحراف الناشئ عند أهل الأديان بعد ذهاب أنبيائهم .
النقطة الثالثة :
لم يكن بالإمكان أن يتخذ أي نبي من الأنبياء موقف القائد للتطبيق الأساسي العام لهداية البشر ، أويتكفل إيجاد اليوم الموعود . ولم يكن ذلك داخلاً في التخطيط الالهي أصلاً . لعدم توفر أي من الشرطين الأساسيين السابقين :
أما بالنسبة إلى اشتراط أن تكون الأمة على مستوى الإخلاص والاستعداد للتضحية في سبيل التطبيق العادل ... فعدم توفره في الأمم السابقة على الإسلام واضح جداً . وحسبنا أن نستعرض النصوص الواردة في الأنبياء المشهورين ، لنعرف حال البشرية في عصورهم وفي ما بين ذلك من الدهر . فإنه إذا لم يستطع النبي منهم أن يرفع مستوى الإخلاص إلى الدرجة العليا في زمانه ، فكيف سوف يحدث بعد وفاته ؟
﴿ أما آدم عليه السلام فقد عصى ربه فغوى ﴾ ، كما نص على ذلك التنزيل (1) وقال عنه : ﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ﴾(2) . وبدون هذا العزم المطلوب لا يمكن وجود اليوم الموعود .
ــــــــــــــ
(1) ط . 20 / 121 . (2) نفس السورة : 115 .
صفحة (219)
وأما نوح عليه السلام ، فقد قضى المئات من السنين مرشداً واعظاً ، فلم يؤثر في الناس أثراً محسوساً حتى شكا إلى الله تعالى قائلاً : ﴿ ربِّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ، فلم يزدهم دعائي إلى فراراً . وإني كلما دعوتهم لتغقر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكباراً ﴾(1) . حتى اضطر إلى أن يدعو عليهم بالهلاك ، فاستجاب الله تعالى دعاءه وأغرقهم بالطوفان . وليس هناك وضوح في النصوص التاريخية في تحديد مقدار ما استطاع نوح عليه السلام اكتسابه من المؤمنين بعد الطوفان .
وأما إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ، فقد كان أكثر من سابقيه تأثيراً في توجيه الناس واكتساب إيمانهم وثقتهم به . ولكنه مع ذلك لم يستطع الوصول بالأمة إلى المستوى المطلوب في العدل المطلق . حبسنا من ذلك أنه في أول عهده ألقي في النار ولم يوجد في المجتمع شخص معترض أو مستنكر ولو من الناحية الإنسانية المحضة !... ثم أنه بعد فترة غير قليلة من نبوته ، وضع زوجته وولده في واد غير ذي زرع ، ولمن يكن لديه شخص مخلص يضمه إليهما يدفع عنهما ألم الجوع والعطش وخوف السباع والهوام . فاكتفى إبراهيم (ع) بالدعاء لهما وتركهما وذهب .
فكان الله تعالى حافظاً لهذه الأمانة التي أودعت عنده ، فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم . ولولا ذلك لكانا من الهالكين .
وأما الامة التي بعث فيها موسى بن عمران عليه السلام ، فحدث عنها ولا حرج ، من حيث التمرد على نبيها وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه دينها . وكان المنطق القائل : ﴿ إذهب أنت وربك فقاتلا أنّا ههنا قاعدون ﴾(2) . هو المسيطر على أذهانهم ومعنوياتهم .. فهم على غير استعداد أن يبذلوا أن شيء في سبيل نبيهم وعقيدتهم .
وأما عبادتهم للعجل ردحاً من الزمن ، ومطالبتهم برؤية الله تعالى جهرة ، ومراجعتهم في شأن البقرة التي أمروا بذبحها ، وغير ذلك من الحوادث ... فهي أوضح من أن تذكر .
ــــــــــــــ
(1) نوح 71 / 5 ـ 7 (2) المائدة : 5 / 34 .
صفحة (220)
وأما المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، فحسبنا شاهداً على حال أمته ، أن الحواريين ، وهم طلابه وخاصته واجهوه بهذا الكلام : " يا عيسى بن مريم ، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " تشكيك صريح في قدرة الله تعالى .
ومن ثم أجابهم : ﴿ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين . قالوا : نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم إن قد صدقتنا ونكون علينا من الشاهدين ﴾(1) . إذن فهم لم يطمئنوا به بعد ، ولم يعلموا بصدقه . فإذا كان هذا هو مستوى خاصته وطلابه ، فكيف حال سائر أفراد الأمة والمجتمع .
إذن ، فلم يكن يوجد في الناس على طول التاريخ ، ذلك المستوى العظيم من الإخلاص الذي يمكن به بناء العدل المطلق في اليوم الموعود ، وإذا كان هذا الشرط غير متوفر ، فماذا ترى الأنبياء صانعين ، حين يجدون أممهم على هذا المستوى المنخفض من الإخلاص ؟
كيف وقد عرفنا فيما سبق ، أن هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن ،وأن البشرية لا زالت في طريق التربية ، لكي يتوفر في ربوعها في يوم من الأيام .
وأما بالنسبة إلى الشرط الآخر وهو علم الأمة أو البشرية بالأطروحة العادلة الكاملة المأمول تطبيقها في اليوم الموعود ... فمن الواضح أن تلك الأطروحة لم تكن ناجزة ،ولمن يكن البشر على مستوى فهمها على الإطلاق . ويمكن أن يتم بيان ذلك ،باستعراض فترات التاريخ إجمالاً أيضاً .
أما الأنبياء السابقين على موسى بن عمران عليه السلام ، فلم يكن هدفهم إلا ترسيخ العقيدة الالهية ، وتوضيحها بالتدريج ، من دون أن يكون لهم تعاليم تشريعية كثيرة . حتى تكللت تلك الجهود بجهود إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أوضح عقيدة التوحيد بشكل مبرهن وصحيح . إذن فلم يكن هناك تشريع مهم فضلاً عن افتراض وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي تتكفل التشريع لكل جوانب المجتمع .
ـــــــــــــــ
(1) نفس السورة : 122 ـ 113.
صفحة (221)
وأما الفترة التي تبدأ بموسى بن عمران عليه السلام وتنتهي ببعثة الرسول الأعظم (ص) ... فلا شك أنها كانت فترة شرائع تفصيلية ، نزلت بها التوارة والإنجيل عن الله عز وجل . ولكنها كانت شرائع تربوية لأجل الوصول والإعداد إلى فهم البشرية للأطروحة الكاملة ، ولم تكن ممثلة لتلك الأطروحة نفسها .
ويمكن الاستدلال على ذلك بثلاثة أدلة :
الدليل الأول :
أننا كمسلمين ، نعلم بأن التشريعات السابقة على الإسلام ليست هي الاطروحة الكاملة ، جزماً . لأن معنى الإيمان بالإسلام ، هو كونه ناسخاً للشرائع السابقة عليه وملغياً لأحكامها عن مسؤولية البشر . فلو كانت إحدى تلك الشرائع هي الأطروحة الكاملة المأمولة ، لوجب إبقاءها سارية المفعول إلى حين اليوم الموعود ، لكي يتربى الناس على تقبلها والتضحية في سبيلها ، على ما سوف نعرف بالنسبة إلى الأطروحة الكاملة . فلو نسخت تلك الشريعة المفروضة لكان ذلك مخالفاً للغرض الالهي المطلوب ، فيكون مستحيلاً . ولكنها نسخت فعلاً ، كما نعتقد نحن المسلمين بالبرهان ، إذن فتلك الشرائع المنسوخة ليست هي تلك الأطروحة العادلة الكاملة المأمولة .
الدليل الثاني :
أنه لا دليل على أن تلك الشرائع كاملة شاملة لكل جوانب المجتمع ، بحيث تصلح لاستيعاب البشرية بالعدل الكامل . ولعل أوضح دليل على ذلك القول المشهور عن المسيح عليه السلام : دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر . فإن إيكال ما لقيصر وهو الحاكم الدنيوي لكي يمارس فيه سلطته وحكمه ، يعني أن الشريعة المسيحية لم تكن لتستوعب الجانب القضائي والجنائي والاقتصادي للحياة ونحو ذلك . مما يضظر الميسح إلى التصريح بلزوم إيكال ذلك إلى القانون الدنيوي الوضعي السائد ، لئلا تتشتت أمور الناس وتتميع مصالحهم .
وهذا الدليل خاص بالمسيحيين وملزم لهم باعتبار اعتقادهم صحة نقل هذه العبارة عن المسيح ، بعد أو وردت في الإنجيل الموجود في اليد (1) الذي هو الصحيح عندهم .
ــــــــــــ
(1) إنجيل متى ، الإصحاح الثاني والعشرون / 22 .
صفحة (222)
وأما نحن كمسلمين ،فلا نؤمن بكل ما ورد في الإنجيل السائد ، كما يبرهن عليه في بحوث العقائد عادة . كما أننا لا نستطيع أن نؤكد نقص الشريعة الواقعية النازلة على المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، وإن كان ذلك محتملاً على أي حال ، بحسب المصالح الزمنية التي توخاها الله تعالى لخلقه في تلك الفترة من الزمن .
الدليل الثالث :
أنه لا دليل على أن تلك الشرائع عالمية وعامة لكل البشر ، إذ من الممكن القول ، من وجهة نظر أصحاب هذه الديانات : أنها شرائع اقليمية خاصة ببني إسرائيل . ومن هنا نرى كتب العهدين تؤكد على أهمية هذا العشب بالخصوص ، وأنه شعب الله المختار . ومن هنا نرى اليهود إلى الآن لا يقبلون يهودية شخص لا يكون من بني إسرائيل ، لاعتقادهم الراسخ أن اليهودية دين إسرائيلي على التعيين .
فإذا كانت تلك الشرائع على هذا الغرار ... فهي إذن ليست تلك الأطروحة الكاملة الشاملة للبشرية جمعاء . بل تكون قاصرة بطبيعتها عن أن تحقق الغرض الالهي الكبير .
وهذا الدليل باطل عندنا ، كمسلمين ، باعتبار الاحتمال ـ على أقل تقدير ـ بتجدد الإقليمية في عصر منحرف متأخر عن عصور دعوتهم الأولى ، حتى أصبحت بعد ذلك من العقائد الأساسية في دينهم . إلا أن هذا الدليل على أي حال ، ملزم لمن يعتقد بالديانتين : اليهودية والنصرانية ، وبخاصة اليهود ، باعتبارهم أشد تطرفاً في الإقليمية من المسيحيين .
وعلى أي حال ، فقد تبرهن عدم وجود الأطروحة الكاملة العادلة قبل الإسلام ، وستأتي بعد قليل بعض الإيضاحات لذلك . إذن فلم يكن كلا الشرطين الاساسيين لتحقق اليوم الموعود والعدل العالمي المطلق ، موجوداً . فكان من المتعذر أن يتصدى أي واحد من الأنبياء لتولي القيادة الرائدة لتحقيق ذلك الغرض الكبير.
صفحة (223)
الجهة الثالثة :
التخطيط الالهي بعد الإسلام .
ونعني به ذلك الجزء من التخطيط الالهي الذي يبدأ بظهور الإسلام ، وينتهي باليوم الموعود . وينبغي أن نرى موقف الإسلام من هذا التخطيط ، وموقف قادته منه ،وأثرهم فيه .
النقطة الأولى :
الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة ،المذخورة للتطبيق في اليوم الموعود .
يدلنا على ذلك : الادلة القطعية الدالة على أن الإسلام آخر الشرائع السماوية ، وأنه لا نبي بعد نبي الإسلام وإن " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " . فلو كان ناقصاً لما حقق الغرض الالهي الكبير، ولوجب على الله تعالى تحقيق غرضه المهم بإيجاد أطروحة أخرى كاملة ينزل بها نبي آخر . وهو خلاف الدليل القطعي بأنه لا نبي بعد نبي الإسلام .
مضافاً إلى الأدلة القطعية الدالة على عالمية الدعوة الإسلامية واستيعابها لكل المشاكل والأحكام ،وأنه " ما من واقعة إلا ولها حكم " ، مما يجعل لها الصلاحية الكاملة ، لتكون هي الأطروحة العادلة في اليوم الموعود .
ومن الملحوظ بوضوح أن هذه الأدلة القطعية ، منطلقة من زاوية إسلامية ، وأما إذا أردنا الإنطلاق من زوايا أخرى، فيجب البدء بإثبات صحة الإسلام وصدقه أساساً ، وهذا موكل إلى محله من بحوث العقائد .
وقد يقول قائل : فلماذا لم تنزل تعاليم الإسلام قبل عصر نزولها ، لتكون هي الأطروحة المتوفرة منذ العصر الأول .
وجواب ذلك متوفر فيما قلناه من قصور البشرية في الأزمنة السابقة على الإسلام عن فهم الأطروحة الكاملة . وأن الأنبياء السابقين جاهدوا في تربية البشرية لجعلها قابلة لهذا الفهم . ولا يمكن أن يرسل الله تعالى تلك الأطروحة لمن لا يفهمها ولا يستطيع استيعابها ، لانها لا تنتج حينئذ أي أثر .
صفحة (224)
إذن فلا بد لنا الآن من إيضاح معنى قصور البشرية عن تلقي تعاليم الإسلام في العصور السابقة عليه .
وفي الحق أن عدداً مما جاء به الإسلام من تعاليم ، كان متعذراً جداً أن يستوعب البشر معناها يومئذ استيعاباً كافياً... إلى حد ستكون الدعوة إلى تلك الأحكام منشأ للغرابة في ذلك العصر ، مما يجعل مجرد الإيمان بها صعباً فضلاً عن استيعابها الدقيق ، فضلاً عن تطبيقها الشامل . وحسبنا في هذا الصدد استعراض جوانب أربعة :
الجانب الأول :
إن مستوى العقيدة الالهية التي جاء بها الإسلام من التجريد والتوحيد الخالصين ، لم يكن موجوداً بوضوح في الشرائع السابقة . وإنما كانت هذه العقيدة في تطور مستمر ، في ألسنة الأنبياء على مرور الزمن ، إذ يعطي كل نبي من تلك العقيدة ما يناسب المستوى الثقافي والفكري الذي وصلت إليه البشرية في خطها التربوي الطويل .
وهذا واضح جداً لمن استعرض دعوات الأنبياء المتسلسلين . فنرى الأنبياء السابقين على موسى بن عمران لا يكادون يذكرون من صفات الله تعالى إلا ما كان ظاهراً من آثاره وأفعاله عز وجل . من أنه ﴿ يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكن جنات ويجعل لكن أنهاراً . ما لكن لا ترجون الله وقاراً ، وقد خلقكم أطواراً. ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً ﴾(1) .
إلا ما كان من محاولة إبراهيم الخليل عليه السلام من محاولة البرهنة على التوحيد ، على شكل بسيط النتائج بالنسبة إلى ما جاء به الإسلام من صفات .
ثم أننا نجد اليهود الآن يؤمنون ببعض أشكال التجسيم ، ونجد المسيحيين يؤمنون ببعض أنحاء التعدد . وهذه بالرغم من أنها عقائد باطلة نعلم باليقين أنها لم ترد في شرائعهم وتعاليم أنبيائهم . إلا أنهم ، على أي حال ، لم يجدوا في ما بلغهم عن أنبيائهم ما ينافي ذلك ، أو يكون دليلاً صريحاص على بطلانه . وإلا لم يكونو
ــــــــــــــــ
(1) نوح : 71 / 11 ـ 16 .
صفحة (225)
ليلتزموا بهذه العقائد بطبيعة الحال . ومعنى ذلك أن موسى وعيسى عليهما السلام لم يوضحا بصراحة التجرد الكامل والتوحيد المحض لله عز وجل ، مواكبة مع المستوى العقلي والثقافي للبشرية في تلك العصور .
الجانب الثاني :
إن فكرة الدعوة العالمية التي قام عليها الإسلام ، لم يكن ليسيغها المجتمع الذي كان يرزخ في عواطف قبلية وعنصرية وقومية ، لمدة عدة مئات من السنين .
ومن هنا جاءت فكرة " شعب الله المختار " واختصاص الدعوتين اليهودية والمسيحية في أنظار المؤمنين بها ببني إسرائيل دون سائل الناس .
الجانب الثالث :
إن فكرة الدولة النظامية التي جاء بها الإسلام ومارسها الرسول الأعظم (ص) ،وحاول تطبيقها من جاء بعده إلى الحكم من الخلفاء . أن هذه الفكرة لم يكن ليفهمها الناس قبل الإسلام ، بأي حال ، كيف وهم يعيشون الجو القبلي والعنصري ، حتى أن الملوكية في تلك العصور كالسلطة الفرعونية أو القيصرية ، لم تكن إلا توسيعاً لفكرة السلطة القبلية والإقطاع الذي يدعي لنفسه ملكية الأراضي والفلاحين جميعاً ، وهم يمثلون الأعم الأغلب من الشعب يومئذ.
ومن هنا لم يكن في الإمكان أن تتكفل الديانات السابقة بإيجاد النظام الإداري أو الحكومي ، بأي حال . وإنما كان الأنبياء وأوصياؤهم يضطلعون بقيادة شعوبهم بشكل فردي مع الحفاظ على السلطة الدنيوية في عصورهم .
الجانب الرابع :
أننا نجد في الإسلام دقة في فهم الأحكام وفي تنظيمها ، في العبادات والمعاملات والعقوبات والأخلاق ، ما لا يكاد يفقهها الناس السابقون ... كما يتجلى ذلك بوضوح لمن راجع الأحكام الإسلامية المعروضة في الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، واطلع أيضاً على تفاصيل الأحكام المعروضة في التوراة والإنجيل ، وتوفر للمقارنة بينهما .
إذن ، فكيف تصلح الشرائع السابقة ، لأن تكون هي الأطروحة العادلة الكاملة ... وكيف يصلح أهل العصور الأولى لتعقل هذه الأطروحة المتمثلة بأحكام الإسلام . ومعه يتضح بجلاء أنه لم يكن في الإمكان نزول أحكام الإسلام قبل العصر الذي نزل فيه .
صفحة (226)
النقطة الثانية :
بُعث نبي الإسلام (ص) بالأطروحة التشريعية العادلة الكاملة ، بعد أن أصبحت البشرية في مستواها العقلي والثقافي العام قابلة لفهمها واستيعاب أحكامها ، لتكون هي الأطروحة المأمولة في اليوم الموعود .
ولكنه ـ مع شديد الأسف ـ لم يكن في الإمكان أن يتكفل التطبيق العالمي الموعود ، لعدم توفر الشرط الثاني من الشرطين الأساسين لوجود هذا التطبيق .... ولا زال هذا الشرط غير متوفر إلى حد الآن .
فبينما كان المانع بالنسبة إلى الأنبياء السابقين عن هذا التطبيق ، هو عدم توفر كلا الشرطين ... نجد أن المانع بالنسبة إلى نبي الإسلام هو عدم توفر شرط واحد منهما ، بعد أن تمت تربية البشرية على الشرط الآخر على أيدي الأنبياء السابقين .
ولسائل أن يقول : فلماذا تمت تربية البشرية على أحد الشرطين ولم تتم تربيتها على الشرط الآخر ؟ بالرغم من جهود الأنبياء في الخط التاريخي الطويل .
ويمكن الإنطلاق إلى الجواب من زاويتين :
الزاوية الأولى :
أن توفير الشرط الأول ، وهو إيجاد المستوى اللائق في البشرية من الناحية العقلية والثقافية لفهم العدل الكامل ... أسهل بكثير من توفير الشرط الثاني وهو الوصول بالبشرية إلى المستوى العالي من الإخلاص والتضحية .
فإن تربية الفكر والثقافة لا تواجه عادة من الموانع والعقبات ما تواجهه التربية الوجدانية من ذلك ، متمثلة في الشهوات والمصالح الخاصة ، وظروف الظلم والإغراء ، فمن الطبيعي أن تحتاج التربية الأولى إلى زمن أقصر بكثير من الزمن الذي تحتاجه التربية الثانية . ومن الطبيعي أن يكون البشر لدى أول نضجهم الفكري في التربية الأولى غير ناضجين وجدانياً في التربية الثانية ، لأن هذه التربية لم تكن قد آتت أكلها بعد ، وإنما تحتاج إلى توفير زمان آخر طويل حتى تتوفر نتائجها بوضوح .
صفحة ( 227)
ومن هنا أمكن وصول البشر إلى الحد الثقافي المطلوب ، فاستحقت عرض الأطروحة الكاملة عليها وإفهامها إياها ... على حين لم تكن قد وصلت إلى الحد المطلوب من الناحية الوجدانية ، لتستطيع تحمل القيادة العالمية بين يدي النبي (ص) .
الزاوية الثانية :
إن البشرية مهما كانت قد تطورت من الناحية الوجدانية ، على أيدي الأنبياء السابقين ... فإنه على أي حال غير كاف لإيجاد الأخلاص المطلوب الذي به يكون تحمل مسؤولية العدل العالمي الكامل في اليوم الموعود . باعتبار ضرورة أن تتربى البشرية على الأطروحة بعد نزولها ومعرفتها ، بما فيها من دقة وعمق . فأنه إذ يكون المطلوب هو تطبيق هذه الأطروحة ، يكون الشعور بالإخلاص نحو الهدف ككل ، ذلك الإخلاص الناتج من جهود الأنبياء السابقين .
فكان لا بد لأجل ضمان نجاح التطبيق في اليوم الموعود ، أن تمر البشرية بظروف معينة ، تكفل لها التربية على الإخلاص على الشكل الدقيق للأطروحة الكاملة المتمثلة بالإسلام . وقد قلنا أن الهدف الالهي الأسمى ، هو فوق كل الاعتبارات ، فيتعين على الأمة الإسلامية أن تعيش الظروف التي تربيها وتمحصها من جديد .
وبدأت الظروف الطارئة بالحدوث والتواتر و متمثلة في عدة أمور :
الأمر الأول :
انقطاع الوحي بموت رسول الإسلام (ص) .
الأمر الثاني :
انقطاع التطبيق الناجح للشريعة الكاملة ، بموت النبي (ص) أو بانتهاء الخلافة الأولى .
الأمر الثالث :
ابتناء الحكم في البلاد الإسلامية على أساس من المصالح السياسية الظالمة المنحرفة .
صفحة (228)
الأمر الرابع :
ضعف المستوى الأخلاقي لدى الناس بشكل عام ، وتقديمهم مصالحهم الشخصية على اتباع تعاليم دينهم سواء على الصعيد الفردي أو الإجتماعي .
ويكاد كل واحد من هذه الأمور ، فضلاً عن مجموعها ، أن يكون موجباً لياس الفرد العادي والشعور بالتحلل والابتعاد عن الإسلام .
ومن هنا كان الشخص محتاجاً في استمراره على إخلاصه وإيمانه ، إلى قوة الإرادة وشعور بالمسؤولية الإسلامية، أعلى من المستوى المطلوب . وكان الأشخاص الممثلين لهذا الاخلاص ، قد نجحوا في عملية التمحيص والاختبار الالهية ، بهذا المقدار .
إلا أن هذا المقدار غير كاف في إبجاد الإخلاص الذي يتطلبه القيام بمسؤولية اليوم الموعود ، فكان لا بد أن تمر الأمة بتمحيص ضخم وعملية غربلة حقيقية ، حتى ينكشف كل فرد على حقيقته ، فيفشل في هذا التمحيص كل شخص قابل للانحراف ، لأجل أي نقص في إيمانه أو عقيدته أو إخلاصه .
وكان هذا التمحيص الضخم متمثلاً بطرفين مهمين تمر بهما الأمة الإسلامية بل البشرية كلها إلى العصر الحاضر .
الظرف الأول :
غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، تلك الغيبة التي توجب للغافل عن البرهان الصحيح ، الشك بل الإنكار .
الظرف الثاني :
تيار الردة عن الإسلام ، وأقصد به التيارات المعادية للإسلام ، والتي تحمل بين طياتها معاني الخروج عنه والتبري من عقيدته . بما فيها تيار التبشير المسيحي الاستعماري ، وتيار الحضارة الغربية المبني على التحلل الخلقي وانكار المثل العليا .
والتيارات المادية الصريحة كالشيوعية والوجودية وغيرها .... تلك التيارات التي استطاعت أن تصطاد من أمتنا الإسلامية ومن العالم كله ، ملايين الأفراد .
صفحة (229)
وتحت هذين الظرفين ، كان التمسك بالإخلاص العالي ، عمل جهادي في غاية الصعوبة والتعقيد ، ويحتاج إلى مضاعفة الجهود في سبيل المحافظة على مستواه فضلاً عن الصعوبة وتكميله فكان " القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار " وكان المخلصون على المستوى العالمي ، في غاية القلة والندرة بالنسبة إلى مجموع سكان العالم .... وإن كنا لو لاحظنا مراتب الإخلاص الثلاثة أو الأربعة السابقة ، فإن النسبة تتسع عن هذا المقدار الضيق بكثير .
ولا زالت البلايا والمحن تتضاعف ، وظروف التمحيص والاختبار الالهي تتعقد وتزداد ... حتى أصبح الفرد يقهر على ترك دينه والتمرد على تعاليم ربه ، بمختلف أساليب الخوف والترغيب . ولعل المستقبل ـ إن لم يأذن الله تعالى بالفرج والظهور ـ كفيل بأن نواجه أشكالاً من الخطر والبلاء على ديننا ودنيانا هي أهم وأصعب مما حصل إلى حد الآن . فليفهم كل مسلم موقفه ، وليلتمس درجة إيمانه ويشخص مقدار قابليته على الصمود ، قبل أن يسقط في هاوية الإنحراف . لكي يوطن نفسه على الصبر والجهاد على كل حال ليكون له فخر المشاركة في بناء العدل العالمي في اليوم الموعود .
وقد يخطر في الذهن : إن ما قلناه من أن ظروف الظلم دخيلة في التمحيص والاختبار الالهي ، يلزم منه أن يكون الله تعالى راضياً بوجود الظلم والانحراف ، وهذا خلاف الأدلة القطعية في الإسلام .
ويمكن الجواب على ذلك من زاويتين نذكر احداهما ونؤجل الأخرى إلى حين اتضاح مقدماتها في مستقبل البحث .
والزاوية التي نود الإنطلاق إليها الآن هي أن الأدلة القطعية في الإسلام قامت على أن الله تعالى لا يريد الظلم ، بمعنى أنه لا يجيزه تشريعاً ، فليس في شريعة الإسلام حكم ظالم ، وليس أي ظلم مما يقع يكون مجازاً من قبل الشريعة ، بل يتصف بالحرمة والشجب حتماً . إذ من الواضح أن الإسلام إنما شرع ليخرج للبشرية من ظلمات الظلم إلى نور العدل ، بل هو ـ كما عرفنا ـ يمثل العدل الكامل من جميع الجهاد ، بشكل لم يتحقق في أي تشريع آخر على مدى التاريخ .
وأما بحسب التدبير التكويني لله تعالى في مخلوقاته ، فمن الواضح الضروري أن الله تعالى سمح بوجود الظلم ، ولم يسبب الأسباب إلى قمعه قهراً وعلى كل حال ، إذ لو كان الله تعالى لا يريد الظلم ـ بهذا المعنى ـ لما وجد الظلم على سطح الأرض .
صفحة (230)
إلا أن سماحته بوجود الظلم ، لا يعني قهر الظالمين على إيجاد الظلم ، بل الظلم يوجد باختيار الظالمين وبمحض إرادتهم ، بعد أن وفر الله تعالى لهم فرص الطاعة وهداهم النجدين وعرفهم حرمة الظلم من الناحية التشريعية . فانحرفوا باختيارهم وأوجدوا الظلم باختيارهم ، من دون أن يكون لله عز وجل أي تسبيب إلى إيجاده .
إذن فالظلم غير مراد لله تعالى ، لا تشريعاً لأنه حرّمه في شريعته ونهى الناس عنه ، ولا تكويناً ، لأنه عز وجل لم يقهر الناس عليه . وإنما غاية ما هناك أنه سمح من الناحية التكوينية بوجود الظلم في خليقته ناشئاً من اختيار الظالمين ، وذلك للتوصل إلى هدفين مهمين .
الهدف الأول :
المحافظة على الاختيار ونفي الجبر الذي قام البرهان على استحالته على الله عز وجل . فإنه لو قهر عباده على ترك الظلم لم يكن الاختيار متوفراً كما هو واضح .
الهدف الثاني:
إجراء قانون التمحيص والاختبار . الذي يفيد من الناحية الفردية، بالنسبة إلى كل فرد من البشرية على الإطلاق ﴿ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيّ عن بينة ﴾ (1) . ويفيد من الناحية العامة باعتبار أن له أكبر الأثر في تحقق الهدف الأساسي من إيجاد الخليقة نفسها . فإن المجتمع الموعود ، لا يمكن أن يحدف ما لم تسبقه فترة من التمحيص لتوفير شرطه الثاني الذي عرفناه .
وفي ما يلي من البحوث ما يزيد ذلك جلاء ووضوحاً .
ـــــــــــــ
(1) الأنفال : 8 / 42 .
صفحة (231)
النقطة الثالثة :
كما شارك الأنبياء السابقون عليهم السلام في التبشير باليوم الموعود ، استمر نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وخلفاؤه المعصومون عليهم السلام وكثير من صحابته في هذا التبشير . وكان تبشيرهم أهم وأوسع . باعتبار أنهم يحملون إلى العالم نفس الأطروحة العادلة التي سوف تأخذ طريقها إلى التطبيق في اليوم الموعود . فهم أقرب إلى ذلك اليوم وألصق به من الأنبياء السابقين ... وأشد مسؤولية بالتمهيد له وإيجاد المقدمات المؤدية إليه .
فكان أن اضطلع النبي (ص) ومن بعده بتهيئة الذهنية العامة للأجيال ، عن ذلك بالتركيز على ثلاث قضايا مهمة :
القضية الأولى :
الأخبار بوجود الغرض الالهي الكبير ، والتبشير بتحقق اليوم الموعود الذي يأخذ فيه العدل الكامل طريقه فيه إلى التطبيق . ويكفينا من ذلك أن القرآن الكريم نفسه شارك في هذا التبشير حين قال : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ﴾ (1) أو حين قال : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ﴾ .... الخ الآية (2) . أو حين قال : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ﴾ (3) إلى غير ذلك من الآيات .
القضية الثانية :
التأكيد على أن القائد الرائد لانجاز ذلك الغرض الكبير ، هو الإمام المهدي (ع) كما ورد في النصوص المتواترة عن النبي (ص) وهي أيضاً متواترة عمن بعده . ولإثبات هذا التواتر مجال آخر . وحسبنا أنها أخبار مروية ومعترف بصدقها وتواترها من قبل الفريقين .
وإنما كان هذا التأكيد لكي تكون الأمة على علم بمستقبل أمرها من ناحية ، ومطلعة على اسم قائدها العظيم من ناحية أخرى . فإنه لا ينبغي أن تفاجأ الأمة بالظهور من دون إخبار سابق . ولكي لا تكون هذه القيادة ممكنة الانتحال والتزوير ،ولو في حدود ضيقة ، من قبل أشخاص آخرين . على ما سنوضحه في الجهة الآتية إن شاء الله تعالى .
ـــــــــــــــــ
(1) الذاريات : 51 / 56 . (2) سورة النور : 24 / 55. (3) التوبة : 9 / 33 والفتح : 48 / 28 والصف :61 / 09.
صفحة (232)
القضية الثالثة :
الإخبار بما سيقع في هذا العالم من ظلم وفساد ، كما وردت بذلك الأعداد الضخمة من الأخبار ، على ما سنسمع في الفصل الآتي . وكان هذا الإخبار مشفوعاً بذكر التكليف الإسلامي وأسلوب العمل الواعي في هذه الظروف ... حتى يكون الفرد على بصيرة من أمره عارفاً بضرورة الصمود تجاه تيار الانحراف والفساد ، لكي يكتب له النجاح في التمحيص الإلهي ، فيكون من المخلصين الممحصين الذين يكون لهم شرف المشاركة في ترسيخ قواعد العدل العالمي في اليوم الموعود .
وأما الذي يسير مع تيار الإنحراف ، فلا يهمه ـ بطبيعة الحال ـ أن يفهم التكليف الإسلامي الواعي و ومعه يكون من الفاشلين في التمحيص والاختبار .
ومن هنا نستطيع أن نفهم بوضوح ، ارتباط كل هذه القضايا التي بُلغت إلى الأمة ، بالتخطيط الإلهي لليوم الموعود .... لتشارك في إعداد أكبر عدد ممكن من المخلصين الممحصين على طول الخط ، بتهيئة الذهنية العامة لهذه الحقائق وإقامة الحجة عليها ، حتى يكون الفرد المسلم على بينة من أمره وبصيرة من دينه ، فيختار سبيل الرشاد بين تيارات الإنحراف ، كما هو مطلوب .
النقطة الرابعة :
وقد رأينا المهدي (ع) نفسه في البحوث السابقة يشارك بتهيئة الذهنية العامة للأمة لليوم الموعود ، تلك التهيئة التي توفر له شروطه الأساسية . وذلك باتخاذ خطوات ثلاث :
الخطوة الأولى :
إقامة الحجة على وجوده بتكرار المقابلات مع عدد من الناس كبير نسبياً ، خلال الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى معاً. وبذلك يؤسس للمسلمين أساس الصمود ضد واجهة كبرى للشك في وجوده .
صفحة (233)
الخطوة الثانية :
إعطاء الأطروحة التامة لفكرة غيبته وظهوره . كما سمعنا ذلك في عدد من مقابلاته وتوقيعاته ، في غيبته الصغرى، كمقابلته مع علي بن مهزيار وتوقيعه للأسدي (1) .
وبذلك يعطي الثقافة الكافية التي تعطي الدفع الأساسي للفرد المسلم للصمود والثبات عن بصيرة وتفهم حقيقي للهدف المنشود .
الخطوة الثالثة :
العمل على إزالة الظلم والطغيان ، في الحدود التي سبق أن ذكرناها في القسم الأول من هذا التاريخ .
وبذلك يعطي الفرد المسلم فرصة أكبر للنجاح في التخطيط والتمحيص الالهيين ، باعتبار قلة الموانع والتعسفات نسبياً ، ضد الإيمان والإخلاص ، حينئذ .
مما يفسح مجالاً أوسع للعمل على طبق الإخلاص وتبليغ مؤداه إلى الآخرين . فالمهدي (ع) في كل هذه الخطوات ، يسير في خط التخطيط الالهي العام لليوم الموعود ، كما سبق أن سار سلفه الصالح المتمثل بالأنبياء والأئمة عليهم السلام . وكيف لا يكون كذلك ، وهو القائد العظيم المذخور لذلك اليوم العظيم .
الجهة الرابعة :
أهمية القيادة في التخطيط الالهي .
ويمكن أن ننطلق إلى الحديث في هذه الجهة من عدة نقاط :
النقطة الأولى :
لا بد لكل حركة من قيادة ولكل دولة من رئيس . ولا شك أنه كان على رأس كل حركة ناجحة في التاريخ قائد محنك مقدام استطاع أن يسير بها قدماً إلى الأمام :
ـــــــــــــــ
(1) انظر مثلاً تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 577 وغيرها .
صفحة (234)
وهذا أساساً ، مما لا بد منه ، بحيث يستحيل عادة وجود حركة ما من دون قيادة وتوجيه مهما كانت الحركة ضئيلة والقيادة مبسطة . فإن الجماعة ـ أياً كانت ـ بصفتها مكونة من عدد من الأفراد مختلفين في التدبير ووجهات النظر، لا تكاد تستطيع أن تحفظ مصالحها في حاضرها ومستقبلها ، إلا بشخص أو عدة أشخاص يأخذون فيها مركز القيادة والتوجيه . فكيف إذا تضمنت الحركة إصلاح العالم برمته وضمان تطبيق العدل الكامل على البشرية جمعاء . ومباشرة التطبيق من حكم مركزي واحد ودولة عالمية واحدة .
ونحن نرى أن الدول كبيرها وصغيرها ، بالرغم من تضامن أفرادها وتدقيقهم في الأمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، لاجل قيادة جزء من العالم ... فإنه يظهر على مر الزمن فشلها وسوء تصرفها ، وأخذها بالمصالح الخاصة للقادة لا بالمصالح العامة للناس . فكيف بقيادة العالم كله .
إذن ، فلا بد ، من أجل ضمان تحقق الغرض الالهي الكبير ، من إيجاد شخص مؤهل من جميع الوجوه ، لأجل الأخذ بزمام القيادة العالمية في اليوم الموعود . ولأجل هذا وجد المهدي عليه السلام .
النقطة الثانية :
لا شك أن النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) بعده كان لهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية . لضم مقدمتين نذكرهما هنا مختصراً ونحيل تفاصيلهما إلى موطنه من أبحاث العقائد الإسلامية .
المقدمة الأولى :
إن كل شخص يعينه الله تعالى للقيادة ، لا بد أن تكون له القدرة على تلك القيادة . إذ يقبح على الله تعالى أن يعين شخصاً لمهمة وهو قاصر عن آدائها . فمثلاً إذا كان نبي مرسل إلى هداية مدينة واحدة كان لا بد أن يبه القدرة على أداء مسؤوليته ، وإذا كان مرسلاً إلى هداية منطقة كبيرة من العالم فلا بد من أن يكون له القدرة على ذلك وهكذا . ولا يمكن أن يوكل الله تعالى شيئاً من المهام إلى شخص غير قابل لأدائها . بل أما أن يكون الشخص قابلاً لذلك قبل إيكال المهمة إليه ، أو أن يهبه الله تعال تلك القابلية بعد إيكال المهمة إليه . وعلى أي حال يكون حال تصدية لأداء مهمته على أتم القابلية والاستعداد .
صفحة (235)
المقدمة الثانية :
إن دعوة النبي (ص) عالمية ، كما أن المسؤوليات التشريعية المنوطة بقيادته معقدة وكبيرة .
إذن يتعين القول بأن الله تعالى أعطى النبي (ص) القابلية الكاملة للدعوة والدولة العالميتين . وحيث أن الأئمة (ع) منصوبون بتعيين من الله تعالى ، ليقوموا مقام النبي (ص) في الأخذ بزمام مسؤولياته بعد وفاته ، من وجهة النظر الأمامية ، إذن فلا بد أن يكون الله تعالى قد أعطاهم القابلية الكاملة للقيادة العالمية .
وبهذا الدليل يتعين أن يكون للمهدي (ع) مثل هذه القابلية ، والأهلية بصفته أحد الأئمة المعصومين الاثني عشر عليهم السلام من زاوية النظر الأمامية ، أو بصفته خليفة النبي (ص) في آخر الزمان المنصوص عليه من قبل النبي (ص) .
كما يعترف به كل المسلمين . وعلى أي حال ، فالمهدي (ع) يوجد قابلاً للقيادة العالمية ، قابلية متناسبة مع سعة دعوته ومسؤولياته في إنجاز العدل الكامل وتنفيذ الغرض الالهي الكبير .
النقط الثالثة :
وكان لا بد للغيبة أن تشارك في التخطيط الالهي . لان الإرادة الالهية بعد أن تعلقت بأن يكون الإمام محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام مهدياً للأمة ، كما يذهب إليه الإمامية وعدد من العامة ... كان لا بد من الحفاظ عليه إلى أن يتحقق الشرط الأساسي لتنفيذ ذلك الغرض الكبير .
فإننا إن قلنا بأن المهدي يولد في زمانه ، كان هذا خلاف هذا الاعتقاد .وإن قلنا بوجوده متقدماً كان لا بد من اختفائه حفاظاً على حياته ، حتى يظهر الله أمره وينفذ وعده ، وهو معنى الغيبة .
فإن قال قائل : يمكن أن نلتزم أن المهدي (ع) ولد في الزمان المتقدم ، ثم يموت ، ثم يحييه الله تعالى للقيام باليوم الموعود .
صفحة (236)
نقول في جوابه : إن هذا غير صحيح لعدة وجوه .
أولاً : أنه افتراض لم يقل به أحد . فهوعلى خلاف اعتقاد كل المسلمين . إذن فهو باطل جزماً .
ثانياً : أننا إن فهمنا الغيبة طبقاً لأطروحة خفاء الشخص ، فليس الحياة بعد الموت أولى منها ، من الناحية الإعجازية . وإن قلنا بالغيبة طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، كانت هذه الأطروحة أولى بالأخذ من ذلك الافتراض ، لأنها أقرب إلى الأسلوب الطبيعي ، كم عرفنا فيما سبق . وقد عرفنا أيضاً أن قانون المعجزات ينفي كل معجزة يمكن أن يوجد الغرض منها بشكل طبيعي .
ثالثاً : أننا مع هذا الافتراض سوف نخسر شيئاً أساسياً سوف نشير إليه ، وهو تكامل القائد خلال عصر الغيبة من تكامل ما بعد العصمة . إذ مع ذاك الافتراض لا يكون هذا التكامل موجوداً ، فإنه لا محالة يحيى على نفس المرتبة التي مات عليها من الكمال .
إذن فالحفاظ على القائد العظيم ، هو المطلوب الأساسي من الغيبة ، الذي تشارك فيه الغيبة في التخطيط الالهي .
ويمكن أن نضيف عدة أمور أخرى يشارك فيها عصر الغيبة في هذا التخطيط :
الأمر الأول :
تكامل القائد ، من تكامل ما بعد العصمة ، ذلك الكمال الذي يؤهله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من أساليب القيادة العالمية العادلة . وسنبحث ذلك مفصلاً في القسم الثاث من هذا التاريخ .
الأمر الثاني :
ما سمعناه في القسم الأول من قيام المهدي(ع) بالعمل الإسلامي المنقذ للأمة من الهلكات ، والفاتح أمامه سبل الخير ، والموفر ـ في نتيجته ـ أكبر مقدار من المخلصين الممحصين ، المشاركين في بناء الغد الموعود .
الأمر الثاني :
مساهمة الحوادث التي تمر خلال عصر الغيبة الطويل ، بإيجاد شرط الظهور ، وهو كون الامة على مستوى المسؤولية . كما سبق أن أوضحنا .
صفحة (237)
الأمر الرابع :
شعور الأمة ، على طول الخط ، بوجود القائد الفعلي لها الماسك بزمام أمرها والمطلع على خصائص أعمالها . ذلك الشعور الذي يرفع من معنويات الأفراد ويقوي فيهم روح العزيمة والإخلاص ، مما يساعد على زيادة أعداد المخصلين الممحصين .
الأمر الخامس :
تعمق الفكر الإسلامي من حيث الفهم من الكتاب والسنة ، سواء في العقائد أو الأحكام ، مما يجعل الأذهان مستعدة أكثر فأكثر لتقبل وفهم الأحكام التفصيلية التي يعلنها المهدي (ع) في دولته العالمية الموعودة .
ونحن لا زلنا نرى المفكرين الإسلاميين ، يتحفون مجتمعهم ببحوث وتدقيقات جديدة قائمة على التعمق والسعة في فهم الكتاب والسنة ، من جوانبها المتعددة ، فهذه البحوث كلها واقعة ضمن التخطيط الالهي الكبير .
ونحن نشعر بما لتعقد الحياة وتضاعف الظلم البشري ووجود التيارات المعادية للإسلام ... من إيجاد الدافع القوي للمفكرين الإسلاميين ، في السير قدماً نحو التعمق والتدقيق . فيكون ذلك من هذه الجهة أيضاً ، مندرجاً في التخطيط الالهي .
وقد يخطر في الذهن : أننا سبق أن قلنا أن الأمة عند نزول الإسلام كانت على مستوى فهمه وقابلة لاستيعابه ، بصفته الأطروحة العادلة الكامة ، إذن فهم قد فهموه . فما هو الحاجة إلى هذه الزيادة في التدقيقات .
وجواب ذلك : أننا نحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن الأطروحة العادلة المعلنة بين البشر ذات مستويين من الناحية الفكرية . فالمستوى الأدنى منها ، كان البشر على مستوى فهمه واستيعابه عند بدء الإسلام . وهو الذي أصبح معلناً منذ ذلك الحين إلى عصر الظهور . وهو الذي يعيش التدقيقات والتعميق على طول الزمن .
والمستوى الأعلى منها سوف يعلن بعد الظهور عند الإبتداء بالتطبيق العادل . وهو يحتاج في فهمه إلى مستوى فكري وثقافي في البشرية لا يحصل إلا بتلك التدقيقات . ولو كان قد أعلن في بدء الإسلام لما كان مفهوماً على الإطلاق .
صفحة (238)
وهذا الامر وإن كنا نعرضه الآن معرض الإحتمال ، إلا أننا سنسمع في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مثبتات ذلك.
إذن فهذه الدقة المكتسبة في الفكر الإسلامي فقط هي التي تشارك في تعميق المستوى الثقافي اللازم تحققه في اليوم الموعود .... بل تشارك في ذلك سائر القطاعات والشعوب في العالم ، بما تبذل من دقة وعمق في سائر العلوم .
لوضوح أن البشرية على العموم ، وليس المجتمع المسلم وحده ، هو الذي يجب أن يتقبل الأحكام المهدوية ... فإن حكم المهدي (ع) يعم العالم كله ، ولا يختص بالمجتمع الإسلامي .
مضافاً إلى أن التقدم العلمي في سائر حقول المعرفة البشرية ، سوف تشارك مشاركة فعالة في بناء الغد المنشود ، ذلك الغد الذي يصعب تقدم البشرة بالسرعة المطلوبة بعد تحققه ، لولا أنها كانت قد تقدمت وتكاملت قبل ذلك .
إذن فعصر الغيبة يشارك في التخطيط الالهي من هذه الناحية أيضاً .
وبهذا نكون قد حملنا فكرة كافية عن التخطيط الالهي والتمحيص الذي ينال البشر خلال عصر الغيبة الكبرى. وهو ما عنيناه في هذه الناحية الأولى من هذا الفصل من اقتضاء القواعد العامة في الإسلام لوجود الظلم والإنحراف في المجتمع . وسيكون ما نسرده من النصوص في الناحية الآتية مؤديات لفحوى القواعد العامة التي عرفناها .
الناحية الثانية
في ذكر النصوص والأخبار الخاصة الدالة على التنبؤ بالمستقبل ، من وصف الزمان وأهله ، من حيث مقدار تمسكهم بالدين وشعورهم بالمسؤولية الإسلامية ، وما يصير إليه الأمر من فسادهم وانحرافهم . وما يستلزم ذلك من قبل الله تعالى ومن قبل الناس .
صفحة (239)
ونحن في هذا التاريخ ، وإن كنا قصرنا همنا في التعريض إلى الأخبار المروية من قبل المعتقدين بغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، لنرى مقدار صدقها واتجاه تفكيرها . إلا أن وصف حوادث الزمان ، حيث نجده منقولاً من قبل الرواة من سائر مذاهب المسلمين ، فمن هنا كان الأفضل الإحاطة بهذه الروايات أيضاً .
ونحن توخياً للاختصار والضبط في نفس الوقت ، سوف نقتصر على ما أخرجه الصحيحان البخاري ومسلم من هذه الأخبار ، فيما إذا كان لهما في الحادثة المعينة رواية ، وإلا نقلنا عن الحفاظ الآخرين أيضاً . ونضم ذلك إلى الأخبار الأمامية المستقاة من المصادر القديمة .
ولولا هذا الاختصار لكان اللازم التعرض إلى عشرات الروايات في المعنى الواحد أو الحادثة الواحدة ، لتكثر مثل هذه الأخبار ، في المصادر بشكل واسع جداً . إلا أن الالتزام بذلك مما لا يلزم ، كما هو واضح ، بعد أن كان الصحيحان من ناحية والكتب الأمامية القديمة هي أوثق مصادر المسلمين المعروفة في العصر الحاضر .
ومن هذا المنطلق ،يمكن أن نتحدث في عدة جهات :
الجهة الأولى :
في الأخبار الدالة على صعوبة الزمان وفساده ، على شكل مطلق ، ليس فيه إشارة إلى حوادث معينة . وهي على عدة أقسام :
القسم الأول :
ما دل من الأخبار على امتلاء الأرض ظلماً وجوراً . وهو مضمون مستفيض بل متواتر بين الفريقين ، وإن امتنع الشيخان عن إخراجه .
صفحة (240)
أخرجه أبو داود مكرراً ، مرة بلفظ : يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً . وأخرى بلفظ : لو لم يبق من الدهر إلا يوم ، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يلمؤها عدلاً كما ملئت جوراً . ومرة ثالثة بلفظ : المهدي مني ... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً (1).
وأخرج في الصواعق المحرقة (2) عن أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه ما ذكرناه في اللفظ الثاني للحديث . وعن أبي داود والترمذي : لو لم يبق من الدينا إلا يوم واحد .. إلى أن قال : يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . وعن الطبراني : فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ... الحديث . وعن الروياني والطبراني (3) : المهدي من ولدي ... إلى أن يقول : يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
وغير ذلك كثير ، موزع في المصادر ، كالذي ذكره الشبلنجي في نور الإبصار والصبان في إسعاف الراعبين والشبراوي في الإتحاف وأبو نعيم الأصفهاني في أربعينه وسبط ابن الجوزي في تذكرته . وكما الدين بن طلحة في مطالب السؤول . مضافاً إلى ما أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه والسيوطي في العرف الوردي ... إلى غير ذلك من المصادر .
وأما من روى هذا المضمون من علماء الإمامية ومصنفيهم ، فأكثر من أن يحصر . تعرض له كل من روى في العقائد أو التاريخ ، وتكلم عن الإمام المهدي (ع) .
والمراد بالظلم ، الإنحراف عن جادة العدل الإسلامي ، ونحوه الجور وهو الميل ، يقال : جار عن الطريق أي مال . وهذا الميل ، من وجهة نظر نبي الإسلام (ص) الذي روى عنه هذا الحديث الشريف ، هو الميل عن تعاليم الإسلام والعدل الصحيح ، على الصعيدين الفردي والإجتماعي .
والحديث نص واضح بامتلاء الأرض جوراً وظلماً قبل ظهرو المهدي (ع) في اليوم الموعود . وهو معنى ما قلناه طبقاً للقواعد العامة ، من أن إغلب الناس نتيجة للتمحيص الالهي ، سوف يسودهم الانحراف عقيدة أو سلوكاً ، بحيث يكون الاتجاه الظاهر للبشرية هو قيام النظام الفردي والإجتماعي على أساس مناقض مع تعاليم الإسلام ، من دون أن يكون للصالحين المخلصين ـ وإن كثروا ـ أثر مهم ونتائج ظاهرة .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر سنن أبي داود ، جـ2 ، ص 422 . (2) أنظر : ص 97 . (3) نفس المصدر ، ص 98 .
صفحة (241)
وهذا لعمري ما كنا ولا زلنا نشاهده في عصور الفسق والضلالة التي نعيشها ونطلع عليها بالحس والعيان . فصلى الله تعالى عليك يا نبي الإسلام إذ تنبأت بذلك ... وسلام الله تعالى عليك يا مهدي الإسلام إذ تزيل كل ذلك وتبدله إلى القسط والعدل الكاملين الشاملين ، طبقاً لإرادة الله وتخطيطه .
القسم الثاني :
ما دل من الأخبار على وجود الفتن وازدياد تيارها وتكاثرها إلى حد مروع . أخرج ذلك العديد من رواة الفريقين . منها : ما رواه البخاري (1) من قوله صلى الله عليه وآله : يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح وتظهر الفتن .... الخ الحديث . وما رواه أيضاً (2) من قوله (ص) : ستكون فتن ، القاعد فيها خير من القائم ... الخ الحديث . وأخرجه مسلم بألفاظ وأسانيد مختلفة (3) . وأخرج عنه (ص) أيضاً (4): أني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع المطر . وذكر له أكثر من إسناد واحد .
ومنها : ما رواه النعماني (5) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، في حديث طويل يتحدث فيه عن (الفتن المضلة المهولة ) . وما رواه أيضاً (6) عن الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام أنه قال : لا يقوم القائم عليه السلام إلا على خوف شديد من الناس وزلازل وفتنة وبلاء يصيب الناس ... الخ الحديث.
ــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري ، جـ 9 ، ص61 . (2) المصدر ، ص64 . (3) صحيح مسلم ، جـ 8 ،ص 168 و 169 .
(4) نفس المصدر والصفحة . (5) انظر غيبة النعماني ، ص 77 . (6) المصدر ، ص 135 .
صفحة (242)
وللفتنة عدة معانٍ في اللغة ، يختلف معنى هذه الأحاديث الشريفة باختلافها ، وإن كان بالإمكان إرجاعها إلى معنى واحد شامل على ما سنذكر .
المعنى الأول :
الامتحان والإبتلاء والاختبار . وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذ أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد ... والفَتْن الإحراق . ومنه قوله تعالى : ﴿ يوم هم على النار يفتنون ﴾ (1) .
ويؤيد كون المراد من الفتنة هو ذلك ، ما رواه النعماني في الغيبة (2) عن أبي الحسن عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ﴾ ... قال : يفتنون كما يفتن الذهب : ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب .
فإذا تمّ هذا المعنى ، تلتحق هذه الأخبار بأخبار التمحيص والامتحان ، التي سوف نذكرها ، فإنها تتحد معها في المدلول ، باعتبار أن الفتنة بمعنى التمحيص والخلاص هو المشار في الحديث هو النجاح في التمحيص .
المعنى الثاني :
الكفر والضلال والإثم . والفاتن المضل عن الحق . والفاتن الشيطان .. وفتن الرجل أي أزله عما كان عليه . ومنه قوله عز وجل : ﴿ وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك ﴾. أي يميلوك ويزيلوك (3) .
وإذا تم هذا المعنى ، التقت هذه الأخبار مع الأخبار الناقلة لحدوث الظلم والجور ، في المضمون ... ونحوها مما نص على حدوث الكفر والضلال .
المعنى الثالث :
اختلاف
الناس بالآراء (4) . ويؤيد كون المراد هذا المعنى ما رواه
النعماني (5) في الحديث السابق عن محمد بن علي الجواد عليه
السلام الذي قال فيه : وفتنة وبلاء يصيب الناس وطاعون وسيف قاطع بين العرب
واختلاف شديد في الناس وتشتت في دينهم وتغير في حالهم .
صفحة (243)
وإذا كان هذا هو المعنى المراد ، فسيلتقي مضمونه بالأخبار الدال على حدوث التشتت والاختلاف ، التي سوف نذكرها .
المعنى الرابع :
القتل ، وما يقع بين الناس من القتال . ومنه قوله تعالى : ﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ (1) . ومعه تندرج في أخبار حدوث الهرج والمرج والقتل الآتية .
والصحيح أنه بالإمكان إرجاع هذه المعاني إلى معنى واحد ، أو فهم الفتنة الواردة في الأخبار على أساس مجموع هذه المعاني . فإن التمحيص الالهي ، وهو المعنى الأول ، ينتج عند الفاشلين فيه الكفر والضلال ، وهو المعنى الثاني . وليس الكفر والضلال متمثلاً في مذهب معين ، بل في كثير من الآراء والمذاهب المتباينة في مدلوها المتناحرة في سلوكها . ومن هنا ينتج المعنى الرابع وهو القتل ، نتيجة لهذه الفوضى المذهبية أو الفكرية . ومن هنا وردت كل هذه الحوادث في الاخبار كما اشرنا وستطلع عليها تدريجياً .
القسم الثالث :
ما دل على
الجزع من صعوبة الزمن وضيق النفس الشديد منه .
فمن ذلك ما أخرجه البخاري (2) بإسناده عن النبي (ص) قال: لا
تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه . وأخرجه
مسلم بنصه (3).
ـــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب ، مادة فتن . (2) جـ9 ، ص 73 . (3) جـ 8 ، ص 182.
صفحة (244)
وأخرج مسلم (1) أيضاً عنه (ص) أنه قال : والذي نفسي بيده ، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول : يا ليتني كنت مكان صاحب القبر ، وليس به الدين إلا البلاء .
وروى الصدوق في الإكمال (2) عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه يعاني المؤمنون في زمان الغيبة من " ضنك شديد وبلاء طويل وجزع وخوف " .
ومن الواضح أن الجزع وتمني الموت ، يكون نتيجة للشعور بالمشاكل والمصاعب التي يمر بها الفرد في المجتمع المنحرف . ذلك الإنحراف الناتج ـ في واقعه ـ من التخطيط الالهي كما عرفنا . إذن فهذه الحالة من نتائج هذا التخطيط ، وهي المنتجة في نهاية المطاف لنتيجتين مهمتين :
إحداهما : اليأس من القوانين والنظريات السائدة في العالم ، بعد أن أثبتت التجربة أنها لا تؤدي إلا إلى هذه المشاكل والمصاعب
ثانيتهما : تمني المستقبل العادل الذي يحل هذه المشاكل ويرفع هذه المصاعب ، كما سبق أن ذكر في المرتبة الرابعة من مراتب الإخلاص فيما سبق . وسيكون هذا الشعور من أفضل الضمانات ، للتأييد العام لليوم الموعود ونحن إذا نظرنا إلى الواقع ، نجد أن الأمة الإسلامية عامة والقواعد الشعبية المهدوية خاصة ، قد مرت في كثير من عصور تاريخها الضنك والبلاء . حتى قيل في وصف عصور الحكم العباسي :
نحن والله في زمان بئــيس لو رأيناه في المقام فزعنا
أصبح الناس فيه من سوء حال حق من مات منهم أن يُهَنَّا
ـــــــــــــــــــ
(1) جـ 8 ، ص 183 . (2) انظر المخطوط .
صفحة (245)
وإن أعظم ضنك وبلاء يقع في البشر ، هو ما يكون من بعضهم تجاه البعض ، من الظلم والطغيان ، وخوف الأكثرية الكاثرة من القوى الجبارة الظالمة الحاكمة في العالم . وإن أعظم البلية بالنسبة إلى البشرية جمعاء في العصر الحاضر هو الخوف من اصطدام الأسلحة الفتاكة في العالم في حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر . يكون الكل فيها هالكين مندحرين ليس فيها غالب أو منتصر . ولله في خلقه شؤون .
وعلى أي حال ، فمن المحتمل أن يتزايد الضيق والفتك بأضعاف ما هو عليه الآن ، خاصة بالنسبة إلى المؤمنين المخلصين في المجتمع الإسلامي ... بما يقابلون من تيارات التعسف والإنحراف الظالمة المعادية للإسلام . ولهم في المهدي وبركاته العامة ومستقبله العظيم ، أعظم السلوان والعزاء .
القسم الرابع :
ما دل على وجود الحيرة والبلبلة في الأفكار والاعتقاد .
كالخبر الذي روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال عن المهدي (ع) فيما قال : يكون له حيرة وغيبة تضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون (1) .
وإنما نسبت الحيرة إلى المهدي (ع) باعتبار كونها ناتجة من غيبته المستندة إليه .
إذ لو كان ظاهراً بين الناس لما وقعت هذه الحيرة ، كما هو معلوم .
ويمكن أن يراد بالحيرة عدة وجوه أو كل هذه الوجوه :
الوجه الأول :
الحيرة في العقائد الدينية ، نتيجة للتيارات الباطلة التي تواجه جهلاً وفراغاً فكرياً في الأمة ، مما يحمل الفرد الإعتيادي على الإنحراف .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة النعماني ، ص 104 وانظر إكمال الدين المحفوظ .
صفحة (246)
الوجه الثاني :
الحيرة بالعقائد الدينية ، بمعنى أن المؤمنين حين يحسون بالمطاردة والتعسف ضدهم وضد عقائدهم ، يحيرون أين يذهبون لكي ينجوا بالحق الذي يعتقدونه وبالاتجاه الإسلامي الذي يتخذونه .
الوجه الثالث :
الحيرة في الإمام المهدي (ع) بمعنى أن طول غيبته توجب وقوع الناس في الشك والإختلاف في شأنه . كما حدث في صفوف المسلمين فعلاً ، وقد أشارت إليه الأخبار التي سنسمعها فيما بعد .
الوجه الحيرة :
الحيرة بالجهاد الواجب في زمن الغيبة من دون قائد وموجه ورائد . فإن المؤمنين بتكليفهم الإسلامي من ذلك ، يشعرون في نفس الوقت بالأسف لعدم اتصالهم بالقائد العظيم الذي يوجههم إلى النصر .
وعلى أي حالة ، فكل ذلك مندرج في التخطيط الالهي ، مما لا بد أن يحدث في الناس نتيجة للغيبة ليشارك في التمحيص والاختبار ، فيرفع من إخلاص المخلصين ويعمق في كفر المنحرفين . وهو المراد بقوله : تضل فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون .
القسم الخامس :
ما دل على وقوع الهرج والمرج .
وهي أخبار كثيرة استقل بإخراجها الرواة العامة فيما أعلم . روى البخاري (1) عدداً منها و مرة بلفظ : أن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ... إلى أن قال : ويكثر فيها الهرج . ذكر له أكثر من طريق . ومرة أخرى بلفظ : بين يدي الساعة أيام الهرج .
وأخرج مسلم (2) : فضل العبادة في الهرج كهجرة إليَ . يعني إلى النبي (ص) . وروى الآخرون ، كالترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم ، ما يدل على ذلك ، ونحن نقتصر على ما في الصحيحين .
ـــــــــــــــ
(1) انظر جـ 9 ، ص 61 . (2) جـ 8 ، ص 208 .
صفحة (247 )
والمراد بالهرج بفتح الهاء وسكون الراء ، أحد أمرين :
الأول : الاختلاط والاضطراب المؤدي إلى القتل أو كثرته بين الناس . وتطبيقه في العالم في عصرنا الحاضر ما يسمى بحرب العصابات أو حرب الشوارع ، مع ما تصاحبه من الاضطرابات والبلبلة . وهذا المعنى هو الذي تؤيده المصادر اللغوية .
الثاني : القتل نفسه ، وإن لم يصاحبه الاضطراب . كما هو ظاهر بعض الأخبار ، فيما أخرجه البخاري (1) حيث فسر الهرج بالقتل في عدة أحاديث ، مع احتمال أن يكون التفسير من الراوي .
إلا أن الصحيح رجوع الأخبار إلى المعنى الأول ، وإن اندرج المعنى الثاني فيها بطبيعة الحال . فإنه قال : ويكثر فيها الهرج والهرج القتل ز إذن فالقتل فيها كثير ، وكثر القتل لا تكون إلا مع البلبلة والاضطراب . وأما انطباقه على القتل الفردي فلا دليل عليه .
وأما إناطتها بالساعة وجعلها من علاماتها ، فهو مما لا يخل بالمقصود لأن المراد وقوع ذلك قبل قيام الساعة ، ولو بزمان طويل . ومن المعلوم أن كل مايقع في الغيبة الكبرى فهو واقع قبل قيام الساعة ، فيكون من علاماتها وأشراطها بطبيعة الحال . وقد سبق أن ذكر أن كل فساد وانحراف يذكر في الأخبار ـ عموماً ـ فهو من أوصاف فترة الغيبة الكبرى ،المربوطة بالمهدي عليه السلام . وقد مررنا على ذلك إجمالاً ، وحولنا برهانه على ما سيأتي : وفي خبر مسلم قوله (ص) : العبادة في الهرج كهجرة إليّ .... زيادة على المعنى العام الذي كنا نتوخاه ، زيادة زيادة واعية إسلامياً ومطابقة للقواعد العامة ، يأتي التعرض لها في الناحية الثالثة من هذا الفصل .
ـــــــــــــــ
(1) جـ 9 ، ص 61 .
صفحة (248)
فهذا هو المهم من الأخبار الدالة على فساد الزمان بنحو مطلق ، من دون الإشارة إلى حوادث بعينها . وقد ثبت من ذلك في حدود التشدد السندي الذي ذكرناه ... المعنى العام الذي يدل عليه المجموع وهو شيوع الفساد والإنحراف وعصيان الأوامر الإسلامية . بل وتثبت التفاصيل أيضاً باعتبار كثرة الأخبار فيها وجعل بعضها قرينة على بعض وجعل القواعد العامة قرينة أيضاً لما عرفناه من أن كل هذه التفاصيل مما يترتب على التخطيط الالهي .
الجهة الثانية :
في الأخبار الدالة على حدوث وقائع أو ظواهر معينة ، ناتجة عن الضلال والإنحراف .
القسم الأول :
في الأخبار الدالة على تحقيق الجهل وتفشيه في المجتمع الإسلامي .
فمن ذلك ما أخرجه البخاري (1) من الحديث النبوي القائل : أن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل .... الحديث . وأخرج في حديث آخر (2) : أن يقل العلم ويظهر الجهل . وأخرج في موضع آخر (3) : إن بين يدي الساعة أياماً يرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل .
وفي موضع رابع أخرج البخاري (4) من قوله (ص) : يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج ... الحديث .
وأخرج مسلم عدة متون بهذا المضمون ، في باب خاص بذلك (5) لا حاجة إلى الإطالة بذكرها . وأخرجها غيرهما ، كابن ماجه والترمذي وأحمد .
ـــــــــــــ
(1) جـ 1 ، ص 30 . (2) نفس الجزء ، ص 31 .(3) جـ 9 ، ص 61 . (4) جـ 1 ، ص 31 . (5) انظر جـ 8 ، ص 85 .
صفحة (249 )
والمراد برفع العلم ارتفاعه من المجتمع وقلة العلماء والمتعلمين . والمراد به العلم بالأحكام الشرعية والعلوم الإسلامية . كما أن المراد بنزول الجهل وظهوره
تفشيه في المجتمع المسلم من الناحية الفكرية الإسلامية ، أيضاً بطبيعة الحال . وفي التعبير برفع العلم وقبضه ، إيضاح أنه مستند إلى الله تبارك وتعالى ، مع تنزيه الله تعالى عن إسناده وتحقيق الجهل إليه عز وعلا . تماماً كما قال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفيني (1) ولم يقل : وهو الذي يمرضني ويشفيني ، كما قال : وهو الذي يطعمنى ويسقيني (2) .
وعلى أي حال ، فاستناده إلى الله تعالى ، يكون ـ مرة ـ بتوسيط عباده ، في ضغط المنحرفين على المؤمنين بالسكوت وعدم تبليغ الأحكام والمفاهيم الإسلامية إلى الأمة . ويكون ـ تارة أخرى ـ بفعل الله تعالى مباشرة بأن يموت العلماء تدريجياً ويقل المتعلمون ، فتصبح الأجيال القادمة خالية من العلماء فارغة فكرياً من الثقافة الإسلامية . ومن هنا أخرج البخاري (3) عن النبي (ص) أنه قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء . حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤؤساً جهالاً ، فسئلوا فافتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
ومن هنا يكون هذا الأمر مما يحكم الوجدان بحدوثه ، وموافقاً للقاعدة ومندرجاً في التخطيط الالهي ، وموحداً في المضمون مع ما سنذكره من بيان وجود علماء السوء في الأخبار . ويكون ترك تعلم المتعلمين ناتجاً عن التيار العام للفساد والبعد عن التعاليم الإسلامية . وهو بدوره يسبب بعداً أكثر ... وهكذا .
القسم الثاني :
ما دل من
الأخبار على تشتت الأراء واختلاف النوازع والأهواء ، وكثرة الدعوات المبطلة
.
أخرج ابن ماجه في سننه : أنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف (4) .
ــــــــــــ
(1) الشعراء 26 / 80 .(2) الشعراء 26 / 79 .(3) جـ ص 36 .(4) السنن ، ص 1310 .
صفحة (250)
وأخرج أيضاً : يكون دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها (1) ونحوه أخرجه مسلم في صحيحه (2).
وأخرج ابن ماجة أيضاً ، قوله (ص) : ومما اتخوف على أمتي أئمة مضلين (3) وقوله (ص) : تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك . الحديث (4) .
وروى النعماني (5) عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث : وليرفعن إثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي. وروى نحوه الصدوق في إكمال الدين (6) .
وروى النعماني (7) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث يصف به فساد المجتمع ويقول : واختلاف شديد بين الناس وتشتت في دينهم وتغير من حالهم .
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة (8) عن أبي سيعد الخدري قال : قال رسول الله (ص) : أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً .... الحديث . ونقله ابن حجر في الصواعق (9) بلفظ مقارب عن أحمد والماوردي .
وهذا المضمون ، مطابق للقاعدة العامة ، كالقسم السابق ، فإنه يعطي صورة أخرى للظلم والفساد . فإن اختلاف الأراء وتشتتها من أوضح صور الظلم ومستلزماته . وقد كان هذا وما زال موجوداً بين الناس سواء على المستوى المذهبي الإسلامي أو على المستوى السياسي أو الإقتصادي أو غيره من حقول الحياة . فإن المجتمع المنحرف منقسم على نفسه دائماً ومتناحراً في داخله على طول خط انحرافه .
ــــــــــــ
(1) انظر السنن ، ص 1317 . (2) جـ 6 ، ص 20 .(3) السنن ، ص 1304 . (4) السنن ، ص 1324 .
(5) انظر الغيبة ، ص 77 (6) انظر المصدر المخطوط . (7) الغيبة ، ص 135 .(8) ص 111 .(9) ص 99 .
صفحة (251)
وأما دعاة السوء والأئمة المضلين ، فما أكثرهم في التاريخ ! فقد كانوا يتمثلون في عصر الخلافة بالعلماء المدعين للإسلام الضالعين مع الجهاز الحاكم ، ولا زال أمثالهم موجودين إلى العصر الحاضر . كما كانوا يتمثلون بالقرامطة ونحوهم ممن يدعو إلى الإسلام وهم منه براء . ويتمثلون في عصرنا الحاضر ، بعدد غير قليل من الأفكار والعقائد المنحرفة في العلنة في المجتمع المسلم ، كالبهائية والقاديانية وأكثر مسالك التصوف ... وغيرها .
ومن هنا يكون ما قيل في الرواية صحيحاً جداً ، من أن كل من تابعهم وأجاب دعواتهم ، قذفوه في جهنم ، بمعنى أنهم سببوا الخروج عن الإسلام الحق ، بحيث يستحق العقاب الالهي .
القسم الثالث :
الأخبار التي دلت على اختلاف الناس بشأن المهدي عليه السلام ، خلال غيبته الكبرى . نتيجة لطول الغيبة واستبعاد الناس وجوده خلال الزمان الطويل ، وما يقترن بذلك من الدعاوى والتزويرات .
والروايات في ذلك عن أئمة الهدى عليهم السلام كثيرة . وأما العامة فلم يرووا فيه شيئاً ،لأنه مخالف لرأيهم القائل بإنكار وجود الغيبة الكبرى للمهدي (ع) .
من ذلك ما أخرجه الصدوق في الاكمال (1) عن الإمام الباقر (ع) في حديث يشبه به المهدي (ع) بعدد من الأنبياء ... إلى أن قال : وأما شبهه من عيسى عليه السلام فاختلاف من اختلف فيه . حتى قالت طائفة منهم : ما ولد . وقالت طائفة : مات . وقالت طائفة : قتل وصلب .... الحديث .
ـــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين ، المحفوظ . (2) نفس المصدر .
صفحة (252 )
وروي
ايضاً (2) عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) في حديث
قالفيه : وأما من عيسى فاختلاف الناس فيه .
وروى النعماني (1) عن أبي جعفر الباقر (ع) إن للقائم غيبتين
يقال له في إحداهما : هلك ، ولا يدري في أي واد سلك وروي عن الإمام الصادق
(ع) بلفظ : مات أو هلك في أي واد سلك (2) .
وفي الإكمال أيضاً (3) عن الإمام الصادق(ع) : أما والله ليغيبن إمامكم شيئاً من دهركم ، ولتمحصن (4) حتى يقال : مات أو هلك أو بأي واد سلك . ولقد معن عليه عيون المؤمنين .
وأخرج ثقة
الإسلام الكليني في الكافي عدداً من الأخبار الدالة على نفس هذا المضمون في
باب عقدة لذلك بعنوان : باب في الغيبة (5) .
وهذا كله واضح الإندراج في التخطيط الالهي المقتضي للتمحيص والامتحان . فإن
طول الزمن وزيادته على عمر الإنسان الطبيعي ، قد يورث الشك في بقاء الفرد
واستمراره على أقل تقدير ... لولا الدليل القطعي على بقاء المهدي(ع) وعلى
التخطيط الالهي لحفظه لليوم الموعود . ومن هنا كان المشكك في ثبوت ذلك أو
المنساق وراء حسه المادي، مفكراً لبقاء المهدي (ع) وغيبته .
نستطيع أن نعثر على القائلين بجميع ما ذكرت الروايات من الآراء ووجهات النظر . فإنها تعرضت إلى أربعة أقوال
القول الأول :
أنه لم
يولد ، والمراد أن الإمام الحسن العسكري (ع) مات ولم يعقب ولداً .
صفحة (253)
وقد عرفنا في تاريخ الغيبة الصغرى مناشئ هذا القول ، وكيف كان هو الاعتقاد الرسمي للدولة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) مما سبب استيلاء جعفر الكذاب على التركة .
وأما القول بأن المهدي (ع) لم يولد ، وإنما يولد في مستقبل الدهر ليملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ... فهو القول الذي يذهب إليه إخواننا أهل السنة والجماعة عموماً ، بعد أن تسالموا مع الإمامية على ظهور المهدي (ع) وقيامه بدولة الحق .
القول الثاني :
أنه ولد ولكنه مات . والقائل بذلك على قسمين :
القسم الأول :
من يزعم أن محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام ، مات .
وقد ذهب إلى ذلك بعض المتأخرين كالشيخ محمد بن أحم السفاريني الأثري الحنبلي في كتابه لوائح الأنوار البهية ، حيث قال : وأما زعم الشيعة أن اسمه " يعني المهدي " محمد بن الحسن وأنه محمد بن الحسن العسكري ، فهذيان . فإن محمد بن الحسن هذا قد مات ، وأخذ عمه جعفر ميراث ابيه الحسن (1) .
وهذا زعم تتسالم كل المصادر التأريخية الأولى على نفيه ، من سائر مذاهب المسلمين .
أما مؤرخو
الإمامية كالشيخ النعماني والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد ،
وكذلك من يدور في فلكهم، كالمسعودي واليعقوبي ، فأمرهم واضح ، فإنهم يثبتون
ولادته وغيبته بالصراحة ، شأنهم في ذلك شان كل العلماء الإماميين ... كيف
لا وهو من ضروريات المذهب .
وأما مؤرخو العامة المتقدمون كالطبري وابن الأثير وابن خلكان وابن الوردى
وأبي الفداء ، والمتأخرون كابن العماد والزركلي ... وغيرهم . فإنهم ينصون
على ولادته ويذكرون اختفاءه وأنه المهدي المنتظر صاحب السرداب بزعم الشيعة
.
ـــــــــــ
(1) انظر جـ 2 و ص 68 .
صفحة (254)
وليس فيهم أي شخص يشير إلى موته . وكيف يستطيعون الأخذ بهذا الرأي ، بعد الذي عرفناه مفصلاً في تاريخ الغيبة الصغرى ، من اختفاء المهدي (ع) عن أكثر قواعده الشعبية فضلاً عن غيرها . ومن هنا تكون الأخبار عنه في مثل هذه التواريخ أخباراً منقطعة ، بل مع اليأس من حصول أي اطلاع على شيء ....
فكيف يستطيعون أن يدعوا موته تاريخياً ، إلا بنحو التزوير . ومن هنا كفوا عن التصريح بذلك ، كما هو واضح لمن يراجع تلك المصادر .
وأما المتأخرون ، كالسفاريني المولود عام 1114 هـ(1) ، فهم عيال على المتقدمين ، وليس لهم أن يأتوا بخبر جديد . ولا يؤخذ من قولهم ما عارض أقوال المتقدمين ، كما هو واضح ، بل تكون أقوال المتقدمين أولى بالترجيح. إذن فالسفاريني أوأي شخص آخر مثله ، يتحمل مسؤولية كلامه وحده .
وأما استيلاء جعفر الكذاب على ارث الإمام العسكري (ع) فلم يكن عن استحقاق ، بعد وجود الوارث الشرعي . وقد عرفنا تفاصيل ذلك في تاريخ الغيبة الصغرى أيضاً ، فراجع .
القسم الثاني :
من القائلين بموت المهدي : من يدعي ظهور المهدي وانتهاء حركته . وهم أتباع مدعي المهدوية في التاريخ ، الذين قاموا بالسيف وماتوا أو قتلوا ، ولم يبق لأصحابهم مهدي منتظر ، بعد ذلك .
إلا أن مثل هؤلاء الناس ينقرضون بعد موت صاحبهم بمدة غيرة طويلة ، إذ يعجزون عن تزريق إعتقادهم إلى الأجيال ، اللاحقة لهم ، بعد إتضاح أكذوبة ادعاء المهدوية بدليل وجداني صريح ، وهو أن هذا المدعي مات ولم يستطع أن يفتح العالم ولا يقيم حكم الله العادل على البشر أجمعين . ونحن ـ وكل مسلم ـ لا نعنى من المهدي إلا الشخص الذي يفعل ذلك . وحيث أن هذا المدعي لم يصل إلى هذه النتيجة طيلة حياته ، إذن فهو ليس مهدياً بالقطع واليقين .
ـــــــــــ
(1) انظر ملحق الجزء الأول من كتابة ، ص1
صفحة (255)
القول الثالث :
مما دلت عليه الروايات : هو القول بأنه قتل أو صلب . ولم نجد من يقول بذلك ، غير ما يمكن أن يدعيه أصحاب مدعي المهدوية ، فيما إذا قتل صاحبهم أو صلب ، فيقولون : صلب المهدي أو أنه قتل . يعنون بذلك صاحبهم .
القول الرابع :
التشكيك أنه بأي واد سلك .
فإن كان المراد به الاختفاء وجهالة مكان المهدي (ع) حال غيبته ، فهو أمر واضح في ذهن كل قائل بالغيبة . إلا أن هذا المعنى خلاف ظاهر الروايات السابقة التي تقول : مات أ هلك وبأي واد سلك . بحيث يكون المراد موته في بعض الوديان والبراري .
ولم نطلع على من يقول بهذا القول أو يحتمله . على أنه قول في غاية الغرابة ، فإن من يعتقد بغيبة المهدي (ع) إنما يعتقد بها ناشئة بإرادة الله تعالى وحاصلة بقدرته وتخطيطه . فكما أن الله حفظه خلال المدة السابقة ، أياً كان مقدارها ، فهو كفيل بأن يحفظه خلال المدة الآتية ، أياً كان مقدارها . وبصونه من كل العاهات والآفات والبليات ، تمهيداً لقيامه في اليوم الموعود لتنفيذ ، الغرض الالهي الكبير .
ولعلي هذين القولين الأخيرين ، مما سوف يظهر في مسقتبل السنوات ، وخاصة لو تطاولت الغيبة مئات أخرى أو آلاف أخرى من السنين .
القسم الرابع :
ما دل على انحراف الحكام وفسقهم وخروج تصرفاتهم وحكمهم عن تعاليم الإسلام ، في البلاد الإسلامية .
وأوضح ما ورد في ذلك وأكثرها صراحة ، ما أخرجه مسلم في صحيحه (1) بإسناده إلى النبي (ص) أنه قال : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيها رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس .
ــــــــــــــــ
(1) جـ 6 ، ص 20 .
صفحة (256)
وأخرج أيضاً (1) أنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ... الحديث .
وروى الصدوق في الاكمال (2) حديثاً عن رسول الله (ص) عن الله عز وجل في جواب عن السؤال وقت ظهور المهدي (ع) قال : فأوحى الله عز وجل إلى يكون ذلك إذا رفع العلم وظهر الجهل ... إلى أن قال : وصار الأمراء كفرة وأولياؤهم فجرة وأعوانهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة .
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (ع)(3) في حديث كالذي سبقه يقول فيه :
وابتعوا الأهواء واستخفوا الدماء وكان الحلم ضعفاً والظلم فخراً ، وكان الأمراء فجرة والوزراء ظلمة .... الحديث .
وفي حديث آخر (4) عن أبي عبد الله (ع) : ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير ، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم ، ورأيت الولاية قيالة لما زاد .
وهذا هو الموافق للوجدان ، وللقواعد العامة ، ولمقتضى التمحيص الإلهي . أما موافقته للقواعد العامة والتمحيص الالهي ، فباعتبار أمرين مقترنين :
الأمر الأول :
أن الحكام يكونون ـ في العادة ـ من أبناء المجتمع المنحرف ، ومن نتائج تربيته . إذ يكونون منذ نعومة أظفارهم معتادين على الإبتعاد عن الدين وعصيان أحكامه ، كأي فرد ناشئ على هذه التربية . ومن ثم نجدهم يصدرون تلقائياً وبإقتناع عما اعتادوا وألفوه ، وإن غيروا في أسلوب الإنحراف وطوروه .
ومن ثم يكون من الصعب أن نتصور الفرد المنحرف ابن المجتمع المنحرف ، حاكماً بالحق والعدل ، ومطبقاً لأحكام الإسلام . بل يكون فسق الحكام والوزراء نتيجة طبيعية لإنحراف المجتمع وفساده .
ــــــــــــ
(1) نفس الجزء ، ص 17 . (2) انظر المصدر المخطوط . (3) منتخب الأثر ، ص 427 عن الخرايج والجرايح .
(4) نفس المصدر ، ص 429 .
صفحة (257)
الأمر الثاني :
إن انحراف الحكام ، يشارك ـ لا محالة ـ في زيادة الظلم والتعسف في الناس ومطاردة الحق وأهله ، فيكون ذلك محكاً آخر لتمحيص أشد وامتحان أصعب .... كما هو مقتضى التخطيط الالهي .
وأما موافقته للوجدان ، فللوضوح التاريخي القطعي ، بأن الحكم في البلاد الإسلامية ، ساد بعد الخلافة الأولى ضمن مراحل ثلاث :
المرحلة الأولى :
الحكم الإسلامي المنحرف ، المتمثل بـ ( الملك العضوض) الذي أخبر به الرسول (ص) وسار عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون والعثمانيون (1) .
فإنهم بالرغم من توليهم زمام الحكم بسبب ديني ، ويكون المفروض فيهم تطبيق حكم الإسلام ، إلا أن ما مارسوه من الحكم كان مبنياً على المصلحة الذاتية والطمع بكراسي الحكم وتناسي المبدأ الإسلامي المقدس ، وقد استعرضنا صورة من ذلك ، في تاريخ الغيبة الصغرى . ورأينا أنه لم يختلف في ذلك شخص الخليفة والوزاء والقضاة والقواد ، وسائر الضالعين بركابهم .
المرحلة الثانية :
الحكم الكافر مبدئياً ، وإن كان الحاكم مسلماً بحسب الظاهر (2) . وهو الحكم الذي تعقب فترة الخلافة ، ولا زلنا نعيشه إلى حد الآن في أكثر بلاد الشام . وقد أسس على الأسس المجلوبة من مبادئ الحضارة الأوروبية المادية ، سواء منها الجانب الرأسمالي أو الجانب الإشتراكي ، أو غيرهما . وبذلك نبذت أحكام الإسلام تماماً ، وقام الحكم على أسس القوانين الوضعية البشرية .
ـــــــــــــــــــ
(1) وصيغته النظرية : أن يكون الحاكم مسلماً فاسقاً يدعي بظاهر حالة تطبيق
الإسلام .
صفحة (258)
المرحلة الثالثة :
أن يكون الحكم كافراً في المبدأ والقانون والحاكم (1) .
وهو ما تحقق في فترات متقطعة في تاريخ المجتمع الإسلامي ، نتيجة لحملات
الكفر عليه من التتار والمغول والصليبيين والإستعمار الأوروبي المباشر
الحديث .
وقد تحققت في المرحلة الأولى فضلاً عن المراحل المتأخرة ، جميع تلك التنبؤات التي يجمعها ويمثلها الإنحراف عن الإسلام بقليل أو كثير . فكانت قلوبهم قلوب الشياطين تميل عواطفهم نحو الشر ، قد اتبعوا الأهواء أي المصالح الضيقة واستخفوا بالدماء اي استهانوا بالقتل ، فكان قتل الفرد بل المئات شيئاً هيناً بل مفخرة كبرى لفاعله . واصبح الحلم و (الفعو عند المقدرة ) ضعفاً ، والظلم والتنكيل فخراً ... وأصبح الأمراء وهم الحكام خلفاء كانوا أو ملوكاً أو رؤساء أم سلاطين ... أصبحوا فجرة ووزاررؤهم ظلمة وذوي الرأي منهم فسقة .
وقد كان الحكام في كل هذه المراحل الثلاث ، وخاصة الأخيرين منها ، يقربون أهل الكفر ، وهم المنحرفون المتزلفون للحكام ، ويباعدون أهل الخير والصلاح ، ممن يأنف عن أن يعطى الدنية من نفسه . وأما الرشوة فحدث عنها ولا حرج كما هو واضح للعيان . ولله في خلقه شؤون .
هذا كله في المجتمع الإسلامي الذي أسسه الرسول (ص) وتعاهده بالرعاية ، فأصبح ـ بعد ذلك ـ مبنياً على الخروج على كتابه وسنته وهداه . وهو المجتمع الذي تتحدث عنه هذه الروايات عادة . وأما الحكم في غير المجتمع الإسلامي ، فهو قائم على طول الخط على الكفر المحض وإن كان ولا زال يتسافل تدريجياً إلى المادية عقائدياً والتسيب أخلاقياً ، والضعف إقتصادياً ، في كبار الدول فضلاً عن صغارها . كما تشهد بذلك الأثار وتدل عليه الأخبار.
ــــــــــــــ
(1) وصيغته النظرية : أن يكون الحاكم كافراً اساساص والقانون وضعياً .
صفحة (259)
القسم الخامس :
أخبار التمحيص والإمتحان .
فإننا بعد أن عرفنا فلسفته وإندراجه كعنصر أساسي في التخطيط الالهي .. نريد أن يكون منا إطلاعة على عدد من الأخبار الدالة عليه .
أخرج ابو داود (1) وابن ماجه (2) بلفظ مقارب جداً ، عن رسول الله (ص) : كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي ، يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، فاختلفوا ، وكانوا هكذا ( وشبك بين أصابعه ) ... الحديث .
وروى الصدوق في إكمال الدين (3) والكليني في الكافي(4) عن أبي عبد الله الصادق (ع) : إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد يأس . ولا والله حتى تميزوا ، ولا والله لا يأتيكم حتى تمحصوا . لا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد .
وروى الصدوق أيضاً(5) عنه عليه السلام : كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم . يبرأ بعضكم من بعض . فعند ذلك تمحصون وتميزون وتغربلون ... الحديث .
وروى النعماني في الغيبة (6) والكليني في الكافي (7) عنه عليه السلام أيضاً أنه قال ك لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا . وسيخرج من الغربال خلق كثير .
وروى النعماني (8) أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : والله لتميزن والله لتمحصن ، والله لتغربلن كما يغربل الزوان من القمح .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر السنن ، جـ2 ، ص 237 . (2) انظر السنن ، جـ 2 ، ص 1307 . (3) انظر الإكمال المخطوط .
(4) انظر المصدر المخطوط .(5) انظر الإكمال المخطوط .(6) ص 108 .(7) انظر المخطوط .(8) ص 109 .
صفحه(260)
وفي الكافي (1) ، عن أبي عبد الله عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام لما بويع بعد مقتل عثمان صعد المنبر وخطب بخطبة ذكرها ، يقول فيها : إلا إن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (ص) . والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ، حتى يصير أسفلكم ، وليسبقن سابقون كانوا قد قصروا ، وليقصرن سباقون كانوا قد سبقوا وروى النعماني أيضاً (2) بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال فيه : فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض ، وحتى يسمي بعضكم بعضاً كذابين ، وحتى لا يبقى منكم " أو قال : من شيعتي " كالكحل في العين أو كالملح في الطعام . وسأضرب لكم مثلاً ، هو مثل رجل كان له طعام فنقّاه وطيّبه ثم أدخله بيتاً وتركه فيه ما شاء الله . ثم عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس ، فأخرجه ونقاه وطيبه ، ثم أعاده إلى البيت فتركه ما شاء الله . ثم عاد إليه ، فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس فأخرجه ونقّاه وطيّبه وأعاده . ولم يزل كذلك حتى بقيت منه رزمة كرزمة الأندر لا يضره السوس شيئاً .
وكذلك أنتم تميزون حتى لا يبقى منك إلا عصابة لا يضرها الفتنة شيئاً .
والتمحيص
هو التنقية وإبعاد الردئ ، والغربلة هي النخل بالغربال حتى تخرج الزوان ،
وهو الحب الغريب عن الحنطة يكون على شكلها وليس منها .
وغربلة البشر تكون بقانون التمحيص الذي عرفناه . وغربالهم فيها هي الظروف
الصعبة والظلم الذي يعيشه الفرد والمجتمع من ناحية والشهوات والمغريات
والمصالح الضيقة ، من ناحية أخرى ."وسيخرج من الغربال خلق كثير" بمعنى أن
أكثر البشر يتبعون الباطل وينحرفون مع الشهوات والمصالح أو مع الظالمين
المنحرفين . فيصبحون" حثالة قد مرجت (3) عهودهم وأماناتهم " والمراد بها
الدين والالتزام بالإسلام وما تستتبعه من خلق كريم وسلوك مستقيم .
ـــــــــــــ
(1) انظر المخطوط . (2) ص 112. (3) أي اضطربت والتبست وفسدت ، المنجد مادة مرج .
صفحة (261)
وتبقى في نتيجة التمحيص الطويل " عصابة لا تضرها الفتنة شيئاً " لأنهم يمثلون الحق صرفاً ، وينتمون إلى قسطاط الحق الذي لا كفر فيه ، كما سبق أن سمعنا من الأخبار .
وقد عرفنا أن قانون التمحيص عام للبشرية مرافق لها في عمرها الطويل . وقد نطق به التنزيل . قال الله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب (1) وقال عز وجل : ليميز الله الخبيث من الطيب ، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في نار جهنم وأولئك هم الخاسرون (2) .
وقال : وليمحصن الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين (3).
ولكن هذا القانون يكون أشد وآكد إذا اقترن بالإعداد لليوم الموعود ، إعداداً يمكن به حمل التبعة والشعور بالمسؤولية تجاه العالم كله .
ولعلنا نستطيع أن نفهم من قوله تعالى : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ... كيفية التمحيص وأسلوبه ، وذلك : إن التمحيص ليس للكشف والإظهار فقط أمام الآخرين أو أمام التاريخ ، وأن كان هذا هو جانبه الظاهر المنظور . وإنما يتضمن ـ في الحقيقة ـ تغييراً حقيقياً وتأثيراً جوهرياً في ذات الفرد يعلمه الله تعالى منه بعد وجوده وتحققه .
ويتضح ذلك من بيان مقدمتين :
المقدمة الأولى :
أن للفرد
العاقل المختار اتجاهات ووجهات نظر ، وله مواقف وآراء تجاه كل حادثة مما
يمر به في حياته . وهوعلى الدوام يحدد مواقفه فعلاً وتركا وآراءه إيجاباً
وسلباً ، صادراً صدرواً تلقائياً عن اتجاهاته ووجهات نظره العقائدية
والعقلية والثقافية .فتتحدد مواقفه بتحديد إتجاهاته ،وتتغير بتغييره،لا
محالة،تجاه كل حادث من حوادث الحياة .
صفحة (262)
ويكون للحوادث المتغيرة المتطورة الأثر الكبير في تغيير وتطوير اتجاهات الفرد فضلاً عن مواقفه ... وبذلك يكسب الصغير خبرة والكبير حنكة والجاهل علماً ، كما هو واضح جداً لكل فرد عاقل يعيش في هذه الحياة .
وقد يزداد الأثر في هذا المقدار الاعتيادي ، فيما إذا كان الحادث أو مجموعة الحوادث ، ذات صيغة أساسية في حياة الفرد . ولكل فرد من الحوادث ما تكون أساسية في حياته . فقد تعمق الحوادث اتجاهه وترسخه وقد تضعفه وتضعضعه ، وقد تغير شكله وطريقه . وبتغير الاتجاه تتغير المواقف بالطبع . فيكاد يصبح الفرد فرداً آخر ، أو تسبغ على سلوكه تغيرات كبرى أو صغرى تختلف بإختلاف أهمية الحوادث . فقد يصبح الفرد المنحرف معتدلاً والمعتدل واعياً ، بل قد يصبح الواعي منحرفاً والمنحرف واعياً . وقد يصبح الجبان شجاعاً والشجاع جباناً والبخيل كريماً والكريم بخيلاً والكذاب صادقاً والصادق كذاباً ... وهكذا وهكذا .
هذا كله في الحوادث الفردية التي يصادفها الناس في الحياة . ومتى كانت الحوادث أوسع من الوجود الفردي وأكبر ، كان أثرها أعمق وأشمل على المجتمع كله ، فضلاً عن الفرد ، كالاتجاه العام للحاكمين سياسياً أو المتنفذين اقتصادياً أو إجتماعياً أو غير ذلك . وكالغزو أو الاستعمار الذي تتعرض له البلاد ، أو التدهور الإقتصادي التي يمر بها أو تمر به . فإن كل ذلك يؤثر في الأفراد بل في الشعب كله أثاراً بليغة ،قد يبلغ مدى تأثيره عمقاً واسعاً في الزمان والمكان .
ومن هنا بالذات و تنبثق فكرة التمحيص والإمتحان ، فإننا بعد أن نعرف : إن لكل واقعة في الإسلام حكماً معيناً ، ونعرف : إن لكل فر موقفاً معيناً تجاه كل حادثة .إذن فلا بد أن ينظر إلى مدى تطابق موقف الفرد مع حكم الإسلام. فإن كان منسجماً معه ، فهو ناجح في التمحيص ، وإن كان مختلفاً معه ، فهو فاشل وراسب لا محالة .
والحوادث المتعاقبة ، قد تصقل من عقيدة الفرد الدينية ، وقد تضعضعها ، بشكل متوقع أو غير متوقع ، فإن لكل فرد إعتيادي نوازعه الخيرة ونوازعه الشريرة ، واتجاهاته الخاصة . وقد تكون هذه الإتجاهات متميزة بسلوك إعتيادي معين ، فإذا طرأت حادثة معينة اضطر إلى الإستجابة لها بإتخاذ موقف من المواقف لا محالة .
صفحة (263)
واضطر إلى التفكير في حال نفسه وفيما هو مقتنع به ، ومن هنا قد يصل الفرد إلى لزوم اتخاذ موقف جديد ، وإعادة النظر فيما كان مقتنعاً به من التفكير ، وما كان يتخذه من مواقف .
وليس لاستجابات الأفراد وقراراتهم تجاه الحوادث ، ضابط معروف او قاعدة عامة معينة ... لكثرة العناصر والأسباب الداخلية والإجتماعية التي تؤثر فيه ، والتي تختلف بين فرد وآخر في هذا العالم الواسع .
ومن هنا يكتسب التمحيص أهميته ، فإنه قبل حدوث الحادثة ـ أية حادثة ـ تكون حالة الفرد من حيث اتجاهه ورد فعله وما سيتخذه من سلوك ، مجملة ذاتاً وليس لها أي تعين واقعي . والحوادث وحدها هي التي تعين واقع اتجاهه الجديد ، ودرجة عقيدته وإيمانه ، كما تكشف لنا ولنفسه ايضاً ، هذا الاتجاه الجديد ومقتضياته المتمثلة في سلوكه الجديد الذي يتخذه .
فإذا كان للأفراد اتجاهات على الدوام وكانت الحوادث تحدث باستمرار ،وكان لهم تجاهها ردود فعل وآراء ومواقف، إذن يكون التمحيص والامتحان مستمراً باستمرار الحياة البشرية .
ومن هنا نرى أن التمحيص كلما اكتسب أهمية أكبر في التخطيط الالهي ، كما هو كذلك خلال عصر الغيبة الكبرى .. شاء الله تعالى أن يعرض الأفراد لحوادث أعقد وأصعب ، حتى يكون اتخاذهم للمواقف الجديدة حاسماً وأكيداً ، ليتضح ما إذا كانت مواقفهم منسجمة مع تعاليم الإسلام أو لا .
المقدمة الثانية :
وهي تتعلق بفهم الآية الكريمة .. وذلك أن هناك فرقاً في علم الله تعالى منم حيث متعلقه لا من حيث ذاته بين حال ما قبل وجود الشيء في الخارج وبين ما بعد وجوده . فعلمه عز وجل بالشيء قبل وجوده : أنه سيوجد وعلمه به بعده : أنه قد وجد . وتحقيق ذلك والبرهنة عليه مفصلاً موكول إلى مباحث الفلسفة الإسلامية .
إذا تمت هاتان المقدمتان استطعنا أن نعلم المراد من الآية الكريمة : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .
صفحة (264)
فإن الفرد ـ أي فرد ـ قبل حصول ظروف الجهاد ، وقبل تشريعه ، يكون ناقص التكوين حقيقة ، لا مجاهداً ولا صابراً ، وتكون حالته النفسية واتجاهاته مجملة من حيث كونه سيتخذ موقف الجهاد عند طرد ظروفه وسيصبر على مسؤولياته أولاً . بمعنى أن له درجة ما قبل الجهاد ، ولا لعقاب الخارجين على مسؤولياته . ومن ثم قال الله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله المجاهدين منكم ويعلم الصابرين .
وبعد طرد ظروف الجهاد ، يتحدد الموقف الواقعي للفرد ، بأنه مجاهد أو غير مجاهد ، ذلك الموقف الذي يكسب به درجته الجديدة من الكمال أو التسافل .
فإنه قد يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منافياً مع تعاليم الإسلام العادلة فيكون فاشلاً في التمحيص الالهي متسافلاً عن درجته الإيمانية التي كان عليها . وقد يكون رد فعله تجاه هذه الظروف منسجماً مع تلك التعاليم ، فيكون ناجحاً في هذا التمحيص ، صاعداً فوق ما كان عليه من درجة الإيمان ، في سلم الكمال .
فإذا تحدد اتجاهه الجديد ، بالجهاد والصبر ، علم الله تعالى ذلك منه ، كعلمه بالأشياء بعد وجودها ، ويكون الفرد ساعتئذ مستحقاً لثواب المجاهدين .
إذن فليس المراد من نسبة العلم إلى الله في الآية مجرد الانكشاف لاستلزامه نسبة الجهل إليه قبل ذلك ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وإنما المراد تغير الواقع المتمثل في تغير اتجاهات المكلفين ومواقفهم ، فيعلم الله تعالى بتجدد الوجود عليها وحصول مرتبة الكمال أو التسافل للفرد . وهذا العلم هو المتحقق بالنسبة إلى الله بأنه سيوجد ، وبعده عالم بأنه وجد ، كما سبق أن عرفنا .
صفحة (265)
فإذا عرفنا
هذه القاعدة العامة في كيفية التمحيص ، وأثره الواقعي .. فهمنا ما ذكر في
الروايات السالفة .. كيف يوجب التمحيص أن يسبق سابقون كانوا قد قصروا ويقصر
سباقون كانوا قد سبقوا ، وعرفنا لماذا يبقى بعد التمحيص حثالة من الناس قد مرجت
عهودهم وآماناتهم ، بعد أن تسالفوا في مواقفهم وردود فعلهم . ويبقى من جهة أخرى
عاصبة لا تضرهم الفتنة شيئاً ، لأنهم نجحوا في التمحيص وسيطروا على كل المصاعب
، فلا يستطيع الظلم بكل كبريائه ولا الدنيا بكل مغرياتها حملهم على الإنحراف .
ورزمة كرزمة الأندر أو كالكحل في العين أو الملح في الطعام من القلة ، بالنسبة
إلى مجموع البشرية بل المسلمين . وهذا معنى أنه : يشقى من يشقى ويسعد من يسعد .
وعرفنا أن سبب التمحيص والغربلة بالغربال الذي يغربل به الأفراد ( كما يغربل
الزوان من القمح ) .. هي الحوادث المستجدة على الدوام في ظروف الظلم والإغراء .
القسم السادس :
الأخبار الدالة على حدوث وقائع وظواهر معينة محددة من أشكال العصيان والإنحراف في المجتمع المسلم .
أخرج البخاري
(1) عن أنس قال قال رسول الله (ص) : إن من اشراط الساعة أن يرفع
العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا . واخرج في حديث آخر (2)
بلفظ : ويظهر الجهل ويظهر الزنا .
وأخرج ابن ماجه (3) : ليشربن ناس من أمتي الخمر و يسمونها بغير
اسمها ، يعزف عن رؤوسهم بالمعازف والمغنيات .
وفي نور الإبصار (4) : وهذه علامات قيام القائم مروية عن أبي جعفر
رضي الله عنه : قال : إذا تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وركبت ذات
الفروج السروج . وأمات الناس الصلوات واتبعوا الشهوات ، واستخفوا بالدماء
وتعاملوا بالربا وتظاهروا بالزنا ، وشيدوا البناء واستحلوا الكذب ، وأخذوا
الرشا و واتبعوا الهوى ، وباعوا الدين بالدنيا ، وقطعوا الأرحام وضنوا بالطعام
فكان الحلم ضعفاً ، والظلم فخراً ، والأمراء فجرة والوزراء كذبة والأمناء خونة
والأعوان ظلمة والقراء فسقة . وظهر الجور وكثر الطلاق وبدا الفجور و وقبلت
شهادة الزور ، وشربت الخمور ، وركبت الذكور ، واستغنت النساء بالنساء . واتخذ
الفيء مغنماً والصدقة مغرماً ، واتقي الأشرار مخافة السنتهم ... الحديث .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الصحيح ، جـ1 ، ص 30 . (2) المصدر و ص 31. (3) انظر السنن ، ص 1333 . (4) ص 171 .
صفحة (266)
وفي إكمال الدين (1) عن رسول الله (ص) في مخاطبته لله عز وجل ليلة المعراج ،وفيه يقول : فقلت : الهي وسيدي متى يكون ذلك ـ يعني ظهور المهدي (ع) ـ؟ فأوحى الله عز وجل إلى : يكون ذلك ـ إذا رفع العلم وظهر الجهل ، وكثر القراء وقل العمل ، وكثر القتل ، وقل الفقهاء الهادون ، وكثر فقهاء المصاحف وزخرفت المساجد ، وكثر الجور والفساد ، وظهر المنكر وأمر امتك به ونهي عن المعروف . واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، صار الأمراء كفرة وأولياءهم فجرة وأعوانهم ظلمة ، وذوي الرأي منهم فسقة ... الحديث .
وروي في الخرايج والجرايح (2) بسنده عن البرك بن سبرة قال : خطبنا علي بن أبي طالب ، فقال : سلوني قبل أن تفقدوني . فقام صعصعة بن صوحان فقال : يا أمير المؤمنين : متى يخرج الدجال ؟ فقال : ما المسؤول عنه بأعلم من السائل .
ولكن لذلك علامات وهيئات يتبع بعضهم بعضا . إن علامة ذلك ك إذا فات الناس الصلوات وأضاعوا الأمانة واستحلوا الكذب وأكلوا الربا ، وشيدوا البنيان ، وباعوا الدين بالدنيا واستعملوا السفهاء وشاوروا النساء وقطعوا الأرحام ، وأتبعوا الأهواء ، واستخفوا الدماء . وكان الحلم ضعفاً والظلم فخراً ، وكانت الأمراء فجرة والوزراء ظلمة والعلماء خونة والفقراء فسقة .
ــــــــــــــــ
(1) انظر المصدر المخطوط . (2) ص 191 .
صفحة (267)
وظهرت شهادة الزور واستعلن الفجور ، وقيل البهتان والإثم والطغيان ، وحليت
المصاحف وزخرفت المساجد وطولت المنارة واكرم الأشرار ، وازدحمت الصفوف ،
واختلفت القلوب ، ونقضت العهود ، واقترب الموعود .
وشاركت النساء ازواجهن في التجارة حرصاً على الدنيا ، وعلت أصوات الفساق واستمع منهم ، وكان زعيم القوم ارذلهم . واتقى الفاجر مخافة شره ، وصدق الكاذب وأئتمن الخائن ، واتخذت المغنيات ، ونسبت (1) الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، ويشهد الشاهد من غير أن يستشهد . وشهد الآخر (2) قضاء لذمام لغير حق تعرفه . وتفقه لغير الدين ، وآثروا عمل الدنيا على عمل الآخرة . لبسوا جلود الضأن على قلوب الذباب (3) ، وقلوبهم أنتن من الجيف وأمر الصبر ... الحديث .
والأخبار في ذلك مطولة وكثيرة . وأود أن أسرد الحديث الآتي على طوله ، باعتباره وثيقة مهمة في التاريخ الذين نحن بصدده .
روي في منتخب الأثر (4) عن تفسير الصافي عن تفسير القمي عن ابن عباس . قال : حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة ! .
فكان أدنى الناس منه يؤمئذ سلمان رحمه الله فقال : بلى يا رسول الله .
فقال : إن من أشراط القيامة ، إضاعة الصلوات واتباع الشهوات ، والميل مع الأهواء ، وتعظيم أصحاب المال وبيع الدين بالدنيا . فعندما يذاب قلب المؤمن في جوفه ، كما يذاب الملح في الماء ، مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيره .
ــــــــــــــــ
(1) كذا في المصدر ، ولعلها : تشبهت . (2) هذه العبارة من رواية " منتخب الأثر " ، ص 428 لهذا الحديث . وأما الخرايج والجرايح ففيها خطأ مطبعي .(3) في منتخب الأثر ـ نفس الصفحة : على قلوب الذئاب . (4) ص 432
صفحة (268)
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، إن عندهم يليهم أمراء جورة ،ووزراء فسقة وعرفاء ظلمة وأمناء خونة .
فقال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده ، يا سلمان ، إن عندها يكون المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين ،ويصدق الكاذب ويكذب الصادق .
قال سلمان إن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده و فعندها إمارة النساء ، ومشاورة الأماء ، وقعود الصبيان على المنابر . ويكون الكذب طرفاً والزكاة مغرماً والفيء مغنماً ، ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه . ويطلع الكوكب المذنب .
قال سلمان : أن هذا لكائين يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده . وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر فيضاً (1) ويغيض الكرام غيضاً . ويحتقر الرجل المعسر . فعندها تقارب الاسواق ، إذا قال هذا : لم أبع شيئاً ، وقال هذا : لم أربح شيئاً . فلا ترى إلا ذاماً لله .
قال سلمان : إن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ،يا سلمان ، فعندها تليهم أقوام أن تكملوا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم . ليستأثرون بفيئهم ، وليطأون حريتهم وليسفكن دماءهم ، وليلمؤن قلوبهم دغلاً ورعباً ، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي
والذي نفسي بيده ، يا سلمان . إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب
يلون أمتي ، فالويل لضعفاء أمتي منهم . والويل لهم من الله ،لا يرحمون صغيراً
ولا يوقرون كبيراً ولا يتجافون عن مسيء .
صفحة (269)
جثتهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال (ص) : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان ، وعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها .
وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وتركبن ذوات الفروج السروج ، فعليهن من أمتي لعنة الله .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . وعندها تحلى ذكور أمتي بالذهب ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفافاً (1) .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يظر الرب ، ويتعاملون بالعينة (2) والرشا ، ويوضع الدين وترفع الدنيا .
قال سلمان : وإن ذلك لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها يكثر الطلاق ، فلا يقام لله حد . ولن يضروا الله شيئاً .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تظهر القينات والمعازف ، وتليهم شرار أمتي .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
ــــــــــ
(1) أي مستوية مطمئنة والمهاد كونها ملساء . وفي نسخة أخرى : صفاقاً ، أي كثيفة ثخينة .
(2) بيع العينة هو بيع الشيء إلى أجل بزيدة على ثمنه مقابلة انتظار الثمن ( المنجد ) أقول : وهو غير جائز في شرع الإسلام .
صفحة (270)
قال(ص) : أي والذي نفسي بيده و يا سلمان . وعندها يحج أغنياء أمتي للنزهة ويحج أوساطها للتجارة ، ويحج فقراؤهم للرياء والسمعة . فعندها يكون أقوام يتفقهون لغير الله ويكثر أولاد الزنا ، ويتغنون بالقرآن ، ويتهافتون بالدنيا .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال(ص) : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . ذلك إذا انتهكت المحارم ، واكتسبت المآثم وسلط الأشرار على الأخيار ويفشو الكذب و وتظهر اللجاجة ، وتفشو الفاقة ، ويتباهون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، ويستحسنون الكوبة والمعازف ، وينكرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة . ويظهر قراؤهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم ، فأولئك يدعون في ملكون السماوات : الأرجاس الأنجاس .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
قال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . فعندها لا يخشى الغني على الفقير ، حتى أن السائل يسأل في الناس فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفه شيئاً .
قال سلمان : وإن هذا لكائن يا رسول الله ؟
فقال : أي والذي نفسي بيده ، يا سلمان . فعندها يتكلم الروبيضة .
فقال سلمان : ما الروبيضة ؟ يا رسول الله ، فداك أبي وأمي .
قال (ص) : يتكلم في أمر العامة من لم يكت يتكلم (1) .. الحديث .
وروى
الشيخ الصدوق فيمن لا يحضره الفقيه (2) عن الإصبغ بن نباته
عن أمير المؤمنين (ع) قال : سمعته يقول: يظهر في آخر الزمان واقتراب
الساعة ، وهو شر الأزمنة ، نسوة كاشفات عاريات ، متبرجات من الدين ،
داخلات في الفتن ، مائلات إلى الشهوات ، مسرعات إلى اللذات ، مستحلات
للمحرمات ، في جهنم داخلات .
(2) ص 247 ، جـ 3 ، وانظر منتخب الأثر ، ص 426 .
صفحة (271)
إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ، وفيها المطول والمختصر . ويكفينا منها ما ذكرناه ... وهي لعمري بمجموعها الوثيقة التاريخية المهمة ، والوجه الصادق المخلص ، المطابق للقواعد والوجدان ، في الكشف عن تاريخ البشر خلال عصر الغيبة الكبرى .
ويتم الكلام في فهم هذه الأخبار وتحديد مداليلها في ضمن أمور :
الأمر الأول :
أننا لنشعر من سلمان الفارسي رضي الله عنه ـ في خبر ابن عباس ـ وهو يعيش المجتمع الفاضل العادل الذي يقوده النبي (ص) ويرعاه ... أننا لنشعر منه استغرابه وشدة عجبه من صفات الفسق والإنحراف التي يعلن النبي (ص) عن تحققها في آخر الزمان . ومن هنا نراه يكرر على النبي (ص) القول : وإن ذلك لكائن يا رسول الله . فيجيبه النبي (ص) مؤكداً أي والذي نفسي بيده .
كما أننا لنحس بكل وضوح الأسى الشديد الذي يتضمنه كلام النبي (ص) وهو يصف خروج الناس عن شريعته وعصيانهم لتعاليمه ، وتركهم للعدل الصحيح ، مما يسبب لديهم أسوأ الآثار . كيف لا ، والله تعالى يقول : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (1) .
والنبي (ص إذ يخطاب الناس بذلك ، ويطلعهم عليه ، لا يخص به صحابته وأهل عصره ـ باجتنابهم الخصال السيئة والإنحرافات المقيتة التي ذكرها رسول الله (ص) في بيانه .
إلا
أن غرضه الأساسي والأهم هو مخاطبته الأجيال القادمة ، وعلى الأخص تلك
الأجيال التي تتصف بهذه الصفات ، وتنحرف مثل هذه الإنحرافات ، حتى
ينبهها عن غلفتها ويشعرها بواقعها ، ويتم الحجة عليها . ذلك التنبيه
الذي يؤثر في وجدان عدد من الناس المخلصين ، التأثير الصالح المطلوب ،
فيتأكد إخلاصهم وتقوى إرادتهم ويزداد شعورهم بالمسؤولية للتمهيد لليوم
الموعود ، طبقاً للتخطيط الالهي الكبير .
_________________________
صفحة (272 )
الأمر الثاني :
أننا نفهم مما قلناه الآن : إن رواية ابن عباس بل جميع هذه الروايات تشارك في التخطيط الالهي من ناحية أسبابها ومن ناحية نتائجها .
أما من ناحية أسباب صدور هذه الرويات ، فباعتبار علم النبي (ص) والأئمة (ع) بالتخطيط الالهي ، وما سوف يقتضيه على طول الخط التاريخي الطويل . ومن ثم نراهم يخبرون بهذا الجانب من التخطيط ، كما أخبروا بجوانب أخرى ، في الأخبار السابقة كروايات التمحيص ... وغيرها .
وأما من ناحية نتائجها ، فلما تتوخاه هذه الأخبار من إتمام الحجة ، والتنبيه من الغفلة ، وإيجاد شرط الظهور بإعلاء درجة الإخلاص في الأجيال المعاصرة للانحراف .
الأمر الثالث :
إن بعض هذه الأخبار ، تكون قرينة مبينة بالنسبة إلى البعض الآخر . إذ بالرغم من أن جملة منها لا يتضح منها كون الانحراف المخبر به حاصلاً في عصر الغيبة الكبرى على التعيين . إلا أن خبر نور الإبصار وخبر إكمال الدين ، قرن تلك الحوادث بما قبل ظهور المهدي (ع) ومع اتحاد الحوادث نعرف أن المراد من جميع الأخبار هو ذلك .
كما أنه قرنت هذه الحوادث في خبر " الخرايج والجرايح " بما قبل ظهور الدجال ، فإذا علمنا بالقطع واليقين بأن ظهوره سابق على ظهور المهدي (ع) ،كما تدل عليه الروايات الآتية المروية من قبل الفريقين . إذن نفهم بوضوح أن هذه الحوادث سابقة أساساً على ظهور المهدي (ع) . وهو معنى حصولها في فترة الغيبة الكبرى ، كما هو واضح .
واقترانها بما قبل قيام الساعة ، في بعض هذه الأخبار ، لا يكون مضراً بما فهمناه ، باعتبار ما قلناه فيما سبق ، من أن السابق على الظهور سابق على قيام الساعة . وليس من الضروري أن تكون أشراط الساعة واقعة قبلها مباشرة .
وسيأتي التعرض إلى تفصيل ذلك في القسم الثالث من هذا التاريخ .
صفحة (273)
الأمر الرابع :
مقصود النبي (ص) والأئمة (ع) هو اطلاع الأمة على الانحراف الأساسي الذي يستفحل في المجتمع ، فيبتعد به عن العدل الإسلامي ، بكل تفاصيله ، بما فيه التعاليم الإلزامية والتوجيهات الإستحبابية والأخلاقية . فإن العدل الكامل لا يتحقق إلا باتباع كل التعاليم واجبها ومستحبها وعباديها وأخلاقيها . ويتحقق الانحراف بالخروج على أي منها .
ومن ثم نسمع من هذه الأخبار و وقوع الإنحراف عن المستحبات ، كترك الصدفة المستحبة وتحلية المصاحف وزخرفة المساجد ، وإطالة المنارة فيها ، ونحو ذلك .
الأمر الخامس :
إن عدداً من الحوادث الواردة في هذه الروايات ، تتضمن أموراً يمكن أن تقع على وجه إسلامي صحيح ، كما يمكن أن تقع على وجه باطل منحرف . ونعرف بالطبع ـ من وقوعها في كلام النبي (ص) أو الإمام (ع) وهو بصدد تعداد الحوادث المنحرفة ، أنها منحرفة ، وواقعة على شكلها الباطل .
مثال ذلك : تشييد البناء ،فإنه إن وقع من الفرد بعد تطبيق كل الأنظمة المالية في الإسلام ،وعلى الوجه الشرعي الصحيح ، لم يكن فيه حزازة . بل قد يتضمن مصلحة عامة في كثير من الأحيان . ولكنه إن وقع على خلاف ذلك كان عصياناً وانحرافاً في نظر الإسلام .
الأمر السادس :
إن ما تتضمنه هذه الأخبار ، أمور راجحة وصحيحة شرعاً ، إلا أنها إذا اقترنت بسلوك منحرف أو اتجاه فاسد ، اكتسبت معنى منحرفاً سيئاً ،بمعنى أن مجموع فعل الفرد لا يكون محموداً ،بل يكون ممثلاً لحظ الانحراف لا محالة.
صفحة (274)
مثال ذلك : قوله : إذا ازدحمت الصفوف واختلفت القلوب . فإن ازدحام الصفوف للصلاة الجامعة أو لغرض آخر كالوعظ أو تشييع جنازة أو نحو ذلك، أمر مطلوب وراجح في الإسلام..ولكنه إذا افترن بتفرق القلوب وتشتت الأهواء والنوازع، لم يكن دالاً على قوة ولا على وعي وإرادة، ومن ثم يكون مذموماً مقيتاً.
ومثاله الآخر: إن الرجل يجفو والديه ويبر صديقه. فإن بر الصديق وإن كان أمراً عادلاً راجحاً على الأغلب، إلا أنه إذا اقترن بجفاء الوالدين دل على خبث النية وانحراف والاتجاه. ويدل على أن الصداقة لم تنعقد على أساس الإسلام بل على أساس المصالح الضيقة والأعمال المنحرفة، إذ لو لم يكن كذلك، لما جفا الفرد والديه.
وهكذا... قس على هذه الأمثلة ما سواها.
الأمر السابع:
يراد ببعض التعابير في هذه الأخبار معناها الكنائي أو الرمزي، لا المعنى الحقيقي المفهوم من اللفظ لأول وهلة. ومعه لا حاجة إلى تخيل حدوث هذه الأمور بطريق إعجازي، بل يمكن أن يكون حدوثها طبيعياً اعتيادياً.
فمن ذلك قوله: لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب. فإن المراد هو التعبير عن دماثة الظاهر وخبث الباطن وشراسة الطبع. وهذا واضح.
ومن ذلك: قوله: يذاب قلب الؤمن في جوفه، كما يذاب الملح في الماء، لما يرى من المنكر، فلا يستطيع أن يغيره.
فإن المراد التعبير من شدة أسفه ووجده لما يرى من العصيان ومخالفة العدل الإلهيي، وهو غير قادر على رفعه أو تغييره، بسبب عمق ظروف الإنحراف.
ومن ذلك قوله: إن عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون ( أي يحكمون ) أمتي.
فإن أفضل تفسير لذلك: هو المبادئ المادية التي جلبت إلى بلاد الإسلام من الغرب تارة ومن الشرق أخرى. ويمارس الحكام المنحرفون الحكم طبقاً لأحدهما أو لكليهما في بعض الأحيان.
صفحة (275)
والظاهر من التعبير الوارد في الرواية: اشتراك كلا الشيئين في ولاية الأمة. ولم يحدث ذلك في التاريخ إلا في السنوات المتأخرة التي عشناها ونعيشها، حين أصبح الحكام في شرقنا الإسلامي يمثلون الشرق الملحد والغرب المشرك معاص، ويعبرونهما معاً مثلاً أعلى قدوة تحتذي، لو قيست بمبادئ الإسلام وتعاليمه، في رأيهم الخاطئ.
ومن ذلك: قوله: يتكلم الرويبضة. فإن المراد به – كما فسره صلى الله عليه وآله في نفس الحديث – : كل رجل يتكلم في أمر العامة، لم يكن يتكلم قبل ذلك.
وإن أفضل فهم لهذه العبارة، هو هو أن يقال: أنه عاش المجتمع المسلم عدة قرون، لا يتكلم باسم العامة ولا يدير شؤونهم إلا أشخاص صادرون عن الدين بشكل وآخر، كالخلفاء والقضاة والفقهاء. حتى ما إذا ورد تيار الحضارة الحديثة إلى العالم الإسلامي، أباح جماعة من المنحرفين لأنفسهم أن ينطقوا باسم العامة أو باسم الشعب وينظروا في أمره ويديروا شؤونه، من دون أن يكون لهم أي حق حقيقي سوى السيطرة التي اكتسبوها بالقوة والحديد والنار على الناس. وأصبحالتكلم باسم الشعب شعاراً راسخاً يقتنع به الكثيرون، بالرغم من أنه يمثل انحرافاً حقيقياً عن الإسلام الذي يوجب تكلم الحاكم باسم الله لا باسم الشعب.
ولعل التعبير بالروبيضة يشعرنا بوجود تيار رابض أو كامن بين أبناء الإسلام دهراص من الزمن، أنتج في نهايته هذه النتيجة.
وهذه أمر صحيح، بعد الذي نعرفه من التاريخ الحديث، من أن الاستعمار استطاع أولاً السيطرة الثقافية والعقائدية على عقول عدد كبير من أبناء هذه البلاد، مما أنتج في نهاية الخط، سطرتهم على الحكم وممارستهم الأساليب لكافرة في إدارة بلاد الإسلام. فكانت تلك السيطرة اعداداً كامناً لإيجاد هذا الحكم في نهاية المطاف.
وهذا يبرهن أيضاً على صحة ما في هذه الأخبار، مما قد تكلمنا عنه فيما سبق، من أن الأمراء يصبحون كفرة والوزراء فجرة وذوي الرأي فيهم فسقة.
صفحة (276)
الأمر الثامن:
أشرنا في منهج الفهم الدلالي للروايات، إلى أنه قد يرد فيها تعابير يختلف مصداقها ويتطور على مر العصور، وإن فهم الناس المعاصرون لصدور النص، مصدقاً معيناً، بل وإن صرح لهم بمصداق معين جرياً على قانون مخاطبتهم على قدر عقولهم، كما سبق. وقلنا أنه لا بد من التوسع في الفهم، وتطبيق التعبير على كل مصداق متطور، خاصة بعد اليقين بأن النبي (ص) أو الإمام (ع) يقصد المصداق الذي يحدث في الزمان الذي يتكلم عنه، لا الذي يحدث في الزمان الذي يتكلم فيه. ومن المعلوم اختلاف المصداقين إلى حد بعيد، طبقاً لتطور الزمان وتغير الأحوال.
فإذا استوعبنا ذلك استطعنا أن نطبقه في كثير من تعابير هذه الأخبار.
فمن ذلك: قوله: وتركب ذات الفروج السروج. فإن السرج وإن كان هو ما يوضع على الفرس، وقد ركبته النساء في التاريخ أحياناً، وتحققت النبوءة. وهو ما فيه الكفاية للمكتفي.
إلا أننا يمكن أن نجد مصاديق أخرى لذلك على مر العصور... فيما إذا فهمنا من السروج كل مركوب يختص بالرجل في نظر الإسلام. بمعنى أن ستعماله بالنسبة إلى المرأة ملازم عادة مع التبرج والخروج على الآداب الإسلامية، تماماص كما هو الحال في ركوب الفرس...فكذلك ركوب الدراجة الهوائية أو البخارية أو سياقة السيارة أو الطائرة أو الباخرة... ونحو ذلك.
ومن ذلك: قوله: وتظهر القينات والمعازف. وقوله: واتخذت المغنيات. فإنه بالرغم من أن ذلك قد حدث فعلاً منذ عصر الأمويين إلى ما بعده بعدة قرون. إلا أننا يمكن أن نفهم منه ما هو الأعم والأشمل لينطبق على ما تذيعه وسائل الإغلام الحديثة من حفلات غنائية وما تبثه من أساليب خلاعية لا أخلاقية على شاشة السينما والتلفزيون وعلى أمواج الراديو، فإنها لا تختلف في مضمونها وحقيقتها عن تلك الحفلات القديمة إلا في اجتماع السامعين والمشاهدين مع المغنين في مجلس واحد. كما لا تختلف في مقدار انحرافها عن الإسلام وعصيانها لتعاليمه.
الأمر التاسع:
إن هناك أموراً وردت في كلام النبي (ص) – في الخبر الطويل لابن عباس – لم يكن يقهم منها معاصروه إلا معنى غامضاً غائماَ، بمقدار ما ترشد إليه قواميس اللغة. ولكن قد أثبتت العصور الأخيرة، بما عاشت من تجارب، مدى أهميتها الكبرى وأثرها البالغ في المجتمع.
صفحة (277)
فمن ذلك: ما يصفه (ص) من موقف الحكام المنحرفين تجاه الشعب المسلم بقوله: إن تكلموا قتلوهم وإن سكتوا استباحوهم. فإن مثل هؤلاء الحكام يستغلون نقاط الضعف في الأمة على طول الخط، ويختطون معهم خطة العسف والقهر، لايختلف في ذلك الحكم الفردي الدكتاروي عن الحكم المبدئ المنحرف القائم على غير الإسلام.
فأول ما يواجهون به الأمة: منعها عن الحرية الفكرية والسياسية وصراحة الرأي، فإن ( تكلموا قتلوهم ) أو هددودهم بالعقاب الأليم. فإن استسلم الناس وسكتوا ( استباحوهم ) واستغلوا واستحلوا خيراتهم وسيطروا على مواردهم ومصادرهم.
ومن ذلك: ما ذكره (ص) من حصول كثرة الطلاق. على حين لم يكن يحدث في دولته من الطلاق إلا النذر القليل بنسبة ضئيلة جداً. لما كان الزوجان يلتزمانه فيما بينهما من تطبيق العدل الإسلامي، ونبذ الأنانية.
وأما حين يبتعد المجتمع عن أحكام الله عز وجل، وتتعقد حياته تعقيداً منحرفاً، تبدأ الأسر بالتفسخ والبيوت بالانفصام، وتكثر حوادث الطلاق حتى بعد وجود الذرية.
وقد أثبت العلم الإجتماعي الحديث، أن كثرة الطلاق تدل على حدوث عنصر أو عناصر، غير مرغوبة في الحياة الإجتماعية، وأنه يؤدي بدوره إلىعدة آثار سيئة مما يضطر الحكومات على طول الخط إلى رصد المبالغ الضخمة للملاجئ ونحوها لكي تحوي الأطفال المتسيبين الفاقدين للمربى والكفيل.
ومن ذلك قوله: وتفشو الفاقة. فإن انتشار الفقر يكون بأحد سببين، كلاهما ناتج عن سوء التنظيم الاقتصادي.
السبب الأول:
الرأسمالية أو الاستقطاب المالي عند عدد قليل من الناس، وبقاء الآخرين على حالة الضعف والفاقة، محكومين من قبل أرباب المال من حيث أوضاعهم
صفحة (278)
السياسية والاقتصادية والإجتماعية... بل حتى من حيث النواحي الإخلاقية والعقائدية في كثير من الأحيان. فإن المتمولين هم المسيطرون على تربية الناشئة وتثقيف الشعب، مضافاً إلى نفوذهم في البلاد.
السبب الثاني:
انخفاض المستوى الاقتصادي لدى جميع أفراد المجتمع، بقلة الدخل العام والواردات الشخصية. وقد تواجه مثل هذا الضعف الاقتصادي نتيجة لبعض الأزمات، أو سوء التصرف من قبل الحاكمين.
والسبب الأول هو الأغلب في المجتمعات، والأشد ضراراً عليها في المدى البعيد. وخاصة إذا عممنا مفهوم الطبقية المالية إلى المجتمع الزراعي والصناعي معاً. وقد نشأ هذا الوضع في المجتمعات الإسلامية، نتيجة لتناسي العدل الإسلامي وانحساره عن عالم التطبيق الإجتماعي. وكان من أوضح نتائجه أن تفشو الفاقة وينتشر الفقر.
الأمر العاشر:
ليس شيء مما ذكر في هذه الروايات، لم يتحقق في خلال التاريخ الإسلامي. ومن المستطاع القول بأن كل الصفات المعطاة فيها، موجودة بشكل وآخر، على طول تاريخ الإنحراف إلى العصر الحاضر، وستبقى نافذة المفعولن ما دام مجتمع الظلم والفتن موجوداً، إلى حين قيام الإمام المهدي (ع) بدولة الحق.
ولا نستطيع الدخول في تفاصيلهت وتكرار مداليلها بأكثر مما قلناه وإنما ذلك موكول إلى القارئ، إن شاء أن يراجع النصوص فاهماً لها انطلاقاً من الأساس الإسلامي الصحيح.
وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الثانية من الناحية الثانية من هذا الفصل.
* * *
عرض على المنهج السندي:
وإذا عرضنا هذه الأخبار على المنهج السندي الذي التزمناه، من رفض الأخذ بخبر الواحد في هذا المجال، ما لم تقم على صحته قرائن خاصة أو تحصل فيه استفاضة أو تواتر... فإنه ينتج صحة الأعم الأغلب من هذه الأخبار. وإن كان كل واحد منها بمفرده خبر واحد، قد يوسم بالضعف.
صفحة (279)
فإن عدداً من هذه الأخبار قامت القرائن القطعية على صحته... يمكن أن نحمل فكرة عنها فيما يلي:
القرينة الأولى:
تحقق الحوادث التي أعربت عنها في التاريخ كما سمعنا، فإننا ذكرنا أن ذلك من القؤائن على صدق الخبر.
القرينة الثانية:
إن بعضها وارد في مورد معارضة الجهاز الحاكم، الذي كان مسيطراً في عصر صدور هذه الأخبار أو عصر تسجيلها. كقوله (ص): يكون أقوام أمتي يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها. فإنه كان على هذا ديدن عدد من الخلفاء الأمويين والعباسيين... يسمونها: الطلي أو الختج أو الفقاع... ويفتون بجواز الشرب ما لم يصل إلى حد الإسكار.
القرينة الثالثة:
إن عدداً منها مسجل في المصادر، قبل أن يشعر مؤلفوها أو رواتها بحدوث تلك الأحداث أساساً. وإنما حدثت بعد ذلك نتيجة لتزايد ابتعاد المجتمع عن الإسلام. كما هو واضح لمن استقرأ عدداً من الحوادث المنقولة، وقد استعرضنا بعضها عند محاولة فهمنا لهذه الأخبار
يضاف إلى هذه القرائن: أن جملة من مضامين هذه الأخبار دل عليه عدد منها، ولم تختص بخبر واحد أو خبرين. وقد اعتبرنا في المنهج السندي ذلك من المرجحات.
ولعلك لاحظت معي تكرر الحوادث في الأخبار التي سمعناها. إن هذه الحوادث المكررة هي مقصودنا في المقام.
كما أن بعضها مستفيض أو متواتر لفظاً، وهو الخبر القائل بأن المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فإنه مروي من قبل الفريقين بأعداد كبيرة، منها ما ذكرناه ومنها ما لم نذكره. وقد ذكر الشيخ الصافي في منخب الأثر أنه مروي بما يزيد على المئة والعشرين طريقاً.
صفحة (280)
وأما ما لم يكن محتوياً على هذه القرائن والصفات من الأخبار، فمقتضى التشدد السندي الذي سرنا عليه... رفضه، وإيكال علمه إلى أهله.
كالخبر الذي رواه النعماني في الغيبة(1)، المعرب عن حصول اثنتي عشرة رواية مشتبهة. وقد سبق. أو ما رواه ابن ماجة(2) من ( أن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبي ). لو حملنا النبوة على معناها الإصطلاحي وهو الرسالة عن السماء. وفي البخاري(3) يقول: كلهم يزعم أنه رسول الله. فإن هذه الأرقام لا تثيت. وإن وجد في التالريخ حقاً عدد ممن يدعي الإمامة أو النبوة.
* * *
الجهة الثالثة:
في الأخبار الدالة على صلاح الزمان وتحسن الوضع العام فيه... بشكل يشمل بإطلاقه تحسن المجتمع خلال عصر الغيبة الكبرى.
وقد ذكرنا
بعد ( منهج التمحيص الدلالي ) أقسام الأخبار الدالة على صلاح الزمان وحسنه،
وقلنا أنه لا بد من حمل مطلقاتها على مقيداتها، على النحو الذي سبق.
وأود في هذا الصدد، أن أورد عدة من هذه النصوص وأذكر الوجه الحق في
تمحيصها.
ولم نجد
من الرواة الإماميين من روى مثل ذلك، بل أن أخبارهم مطبقة على تدهور الزمان
وفساده خلال عصر الغيبة الكبرى. وإنما هي أخبار قليلة وردت في مصادر
العامة.
صفحة (281)
فمنها: ما أخرجه البخاري(1) عن رسول الله (ص) أنه قال: تصدقوا! فسيأتي على الناس زمان يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها.
وفي حديث آخر(2) يعد به عدداً من أشراط الساعة، ويقول فيه:
وحتى يكثر
فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي
عرضه عليه: لا أرب لي به.
وأخرج مسلم(3) عن رسول الله (ص): تصدقوا، فيوشك الرجل يمشي
بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بالأمس قبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي
بها. من يقبلها.
وأخرج أيضاً(4): لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهم رب المال من يقبل صدقته. ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرب لي فيه.
إلا أن
مثل هذه الأخبار، لها محامل ممكنة، وعليها اعتراضات. فإن صحت المحامل فهو
المطلوب، وإلا وردت عليها الاعتراضات.
أما المحامل، فهي عدة تقييدات يمكن أن نوردها عليها:
التقييد الأول:
أن نخص هذه الأخبار، بما بعد ظهور المهدي (ع)، فيكون مدلولها طبيعياً وصحيحاً، وموافقاً مع الأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على تزايد الخير والرفاه في زمن ظهور المهدي (ع)، على ما سنسمع في التاريخ القادم(5).
وربما
يصلح قرينه على هذا التقييد، قوله: لو جئتنا بالأمس قبلتها، يعني قبل
الظهور،وأما الآن – يعني بعد الظهور – فلا حاجة لي بها.
(4) المصدر والصفحة. (5) وهو الكتاب الثلث من هذه الموسوعة.
صفحة (282)
ومعه،
لابد من رفع اليد عن ظهور قوله: يوشك الرجل... في قرب حدوث ذلك، بجعل
الأخبار الثلاثة الأخرى قرينة عليه.
وهذا التقييد وإن كان حملاً،يمكن أن يصح في سائر هذه الخبار، إلا أن واحداً
منها يأباه – بظاهره -، وهو الحديث الثاني الذي نقلناه عن البخاري، فإنه
اقترن فيه الأخبار بكثرة المال بالأخبار عن حدوث حوادث عديدة سيئة كالفتن
والهرج، وغيرهما على ما سنسمع. مما عرفنا اختصاص حدوثه في عصر الغيبة
الكبرى دون عصر الظهور. إلا أن هذا الإيراد، يمكن أن يتوجه كأشكال على هذا
الخبر نفسه، لا على هذا التقييد الأول.
التقييد الثاني:
أن نقول:
إن أقصى ما تدل عليه هذه الأخبار، هو أن الناس لا يقبلون الصدقة. وما أن
منشأ ذلك هو كثرة المال فلا دليل عليه. فقد تكون له مناشئ أخرى كالتعفف أو
التنفر من الصدقة الإسلامية بسبب الإنحراف، أو غير ذلك من الأسباب.
إلا أن هذا التقييد، ولإن أمكن انطباقه على الرواية الأولى، ولكن من
المتعذر انظباقه على الباقي. للتصريح فيها بأنه: لا حاجة لي فيه أو لا أرب
لي فيه... وهو ظاهر بوضوح بأن رفض الصدقة ناشئ من الغنى زكثرة المال. وخاصة
مثل قوله: لو جئتنا بالأمس قبلتها، أما الآن فلا حاجة لي بها... باعتبار
أنه كان بالأمس فقيراً وأما اليوم، فهو غني.
وحيث نفترض بطلان كل هذه المحامل، يتعين كون المراد كثرة المال عند جميع
أفراد المجتمع المسلم خلال عصور الغيبة الكبرى.
صفحة (283)
ومعه ترد الاعتراضات التاليه
الاعتراض الأول:
إن هذه الأخبار معارضة بما دل على تفاقم الخطب وزيادة الشر كلما تقدم الزمان.
فمن ذلك: ما أخرجه البخاري(1) عن رسول الله (ص) أنه قال: أصبروا! فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه. حتى تلقوا ربكم. والمراد بلقاء الله تعالى موت الأفراد، لا حصول القيامة، لكي لا بشمل عصر ما بعد الظهور. ولو شمله الإطلاق، ان مقيدأً بالأدلة القطعية الدالة على حصول الرفاه الحقيقي العادل يومئذ.
وعلى أي حال، فتفاقم الخطب، المستمر خلال عصر الغيبة الكبرى، ينافي حصول الرفاه فيه.
الاعتراض الثاني:
إن هذه الأخبار – بشكل عام – منافية مع طبيعة الشياء، وفلسفة تسلسل الأمور من أسبابها.
فإنه بعد الوضوح وكثرة الأخبار الدالة على وجود الانحراف والفتن والأمراء الكفرة والوزراء الفسقة، وغير ذلك من الظواهر والحوادث التي سمعناها... كيف يمكن أن يكثر المال ويعم الرفاه ويتعدد الإغنياء، إلى حد يصبح كل أفراد المجتمع المسلم من الموسرين. فإن هذا مما لا يمكن أن يتمخض عند الإنحراف، وما لم تصل إليه أي من النظم والقوانين الوضعية، لا يمكن وصولها إليه في المستقبل... ما لم ينزل القانون الإسلامي العادل الكامل إلى حيز التنفيذ.
ومن
الطريف الذي لم نفهم له وجهاً: أن رواية واحدة للبخاري تقرن بين عدد من
الحوادث السيئة المنحرفة وبين كثرة المال، حيث نراه يقول فيما يقول: وحتى
يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو
القتل. وحتى يكثر المال... إلى أن يقول: وحتى يتطاول الناس في البنيان.
صفحة (284)
وحتى يمرالرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه... الحديث(1).
واحتمال: أن ذلك باعتبار اختلاف الأزمنة، لا باعتبار زمان واحد، مناف لظاهر الخبر باقتران الحوادث، ومناف مع ظاهر الأخبار الأخرى الدالة على بقاء الانحراف طيلة زمان الغيبة الكبرى.
الاعتراض الثالث:
إن هذه الأخبار منافية ومعارضة مع ما دل على شيوع الفاقة وازدياد الفقر، كما سمعنا في حديث ابن عباس... وهو الأنسب مع طبيعة تطور الحوادث، والأوفق مع سائر الروايات.
وعلى أي حال، فمع أخذ هذه الاعتراضات بنظر الاعتبار، تسقط هذه الروايات عن إمكان الأخذ بها، وخاصة بعدما التزمناه من التشدد من التشدد السندي، حيث دلت القرائن على نفيها وعدم حدوث ما دلت عليه. ومعه لا يبقى دليل على تحسين الوضع خلال عصر الغيبة الكبرى. بل نبقى آخذين بالأقسام السابقة من الأخبار الدالة على حدوث الإنحراف وتزايده خلال هذا العصر. وهو الموافق للوجدان وطبائع الأشياء.
نعم، حمل هذا القسم من الخبار، على أنها تتحدث عن عصر ما بعد الظهور... أمر ممكن. وبه تخرج عن محل الاستدلال.
وبهذا ينتهي
الكلام في الناحية الثانية من هذا القسم الثاني من هذا التاريخ. وبه ينتهي هذا
الفصل كله.
صفحة (285)
الفصل الثالث
في التكليف الاسلامي خلال عصر الغيبة الكبرى
وما يقتضيه هذا التكليف من سلوك المستوى الفردي والاجتماعي ، وما يقتضيه من استعداد نفسي وثقافي على كلا المستويين . وفض من يتبع هذا التكليف الاسلامي ، وحال من يعصيه ويخرج عليه . وعرض ذلك انطلاقاً من القوعد العامة في الاسلام من ناحية ومن الأخبرا الخاصة الواردة في هذا الصدد من ناحية أخرى .
ويقع الكلام في هذا الفصل ، ضمن عدة جهات ، بمقدار ما هو المطلوب من التكاليف في الاسلام ، وما قد يترتب على ذلك من نتائج .
الجهة الأولى :
من التكاليف المطلوبة إسلامياً حال الغيبة : الاعتراف بالمهدي عليه السلام كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للأمة، وإن لم يكن عمله ظاهراً للعيان ، ولا شخصه معروفاً .
وهذا من الضروريات الواضحات ، على المستوى الامامي ، للعقيدة الاسلامية ، الذي أخذناه في هذا التاريخ أصلاً مسلماً وأجنا البرهان عليه إلى حلقات قادمة من هذه الموسوعة .
فانه الامام الثاني عشر لقواعده الشعبية ، وهو المعصوم الطاعة الحي منذ ولادته إلى زمان ظهوره . وقد عرفنا في تاريخ الغيبتين الصغرى والكبرى ، الأعداد الكبيرة من الأخبار الدالة على ذلك ، وفلسفة دخله في التخطيط الالهي ومقدار تأثير الإمام عليه السلام في العمل في صالح الأمة الاسلامية عموعاً ، وقواعد الشعبية خصوصاً . كما عرفنا مقدار تأثير وجوده في رفع معنويات قواعده وتمحيص إخلاصهم وتحسين أعمالهم .
صفحة (287)
وحسب الفرد المسلم أن يعلم أن إمامه وقائده مطلع على أعماله وملم بأقواله ، يفرح للتصرف الصالح ويأسف للسلوك المنحرف ، ويعضد الفرد عند الملمات ... حسب الفرد ذلك لكي يعي موقفه ويحدد سلوكه تجاه إمامه ، وهو يعلم أنه يمثل العدل المخص وإن رضاه رضاء الله ورسوله ، وإن غضبه غضب الله ورسوله.
كما أن حسب الفرد أن يعرف أن عمله الصالح ، وتصعيد درجة إخلاصه ، وتعميق شعوره بالمسؤولية تجاه الاسلام والمسلمين ، يشارك في تأسيس شرط الظهور ويقرب اليوم الموعود . إذن فـ(الجهاد الأكبر) لكل فرد تجاه تفسه يحمل المسؤولية الكبرى تجاه العالم كله ، وملئه قسطاً وعدلاً كما ملئ ظلماً وجوراً . فكيف لا ينطلق الفرد مجاهداً عاملاً في سبيل إصلاح نفسه وإرضاء ربه .
ومن ثم نرى النبي (ص) يؤسس أساس هذا الشعور في الرد المسلم ويقرن طاعة المهدي (ع) بطاعته ومعرفته-على المستوى العملي التطبيقي – بمعرفته . فان معرفة النبي (ص) بصفته حامل مشعل العدل إلى العالم ، لا يكون بالاعتراف التاريخي المجرد بوجوده ووجود شريعته ، بل بالمواظبة التامة على الالتزام بتطبيق تعاليمه والأخذ بإرشاداته وتوجيهاته ، وإلا كان الفرد منكراً للنبي (ص) على الحقيقة ، وإن كان معترفاً بوجوده التاريخي .
وحيث أن أفضل
السوك الاسلامي وأعدله إنما يتحقق تحت إشراف القائد الكبير المهدي (ع) إذن تكون
أحسن الطاعة لنبي الاسلام وأفضل تطبيقات شريعته ، هو ما كان بقيادة المهدي (ع) وما
بين سمعه وبصره . إذن صح أن معرفة المهدي (ع) – على المستوى السلوكي التطبيقي –
معرفة للنبي (ص) . وإنكاره على نفس المتسوى انكار له .
ومن ثم نسمع النبي (ص) يقول : من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني(1)
.
_______________________________
(1) انظر الاكمال المخطوط . ومنتخب الاثر ص 492.
صفحة (288)
ونراه يقول : القائم من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، وشمائله شمائلي ، وسنته سنتي . يقيم الناس على ملتي وشريعتي ، ويدعوهم إلى كتاب ربي عز وجل . من أطاعه فقد أطاعني ، ومن عصاه فقد عصاني ، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني ، ومن كذبه فقد كذبني ، ومن صدقه فقد صدقني ... الحديث(1) . إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون عنه (ص) وعن أثمة الهدى (ع) .
وهذا الكلام من النبي (ص) وإن كان منطبقاً على المعتقد الامامي في المهدي (ع) ، إلا أنه بنفسه قابل للتطبيق على المعتقد العام لأهل السنة والجماعة في المهدي إذا استطعنا الفاء فكرة الغيبة عن كلامه (ص) ، فانهم عندذ يتفقون مع الامامية في مضمون الحديث جملة وتفصيلا . إذ من المقطوع به والمتسالم عليه بين سائر المسلمين أن المهدي (ع) هو الرائد الأكبر في عصره لتطبيق الاسلام ، فهو يقيم الناس على ملة رسول الله (ص) ويدعوهم إلى كتاب الله عز وجل . ومن الطبيعي مع اتحاد الاتجاه والأطروحة ، أن تكون طاعة المهدي (ع) طاعة للنبي (ص) وعصيانه عصياناً له ، وتكذيبه تكذيباً له وتصديقه تصديقاً له .
كما أنه من الحتم أن يكون انكار ظهور المهدي (ع) وقيامه بالسيف لاصلاح العالم ، إنكاراً لرسالة النبي (ص) ورفضاً لجهوده الجبارة في بناء الاسلام ، كيف لا ... وظهور المهدي (ع) هو الأمل الكبير لرسول الله (ص) في أن تسود شريعته في العالم ، وتتكلل مساعيه وتضحياته بالنصر المبين . بعد أن لم تكن الشروط وافية والظروف مواتية لحصول هذا النصر في عصره ، كما أوضحناه فيما سبق .
بل يكون إنكار المهدي (ع) في الحقيقة إنكاراص للغرض الأساسي من خلق البشرية والحكمة الالهية من وراء ذلك، مما قد يؤدي إلى التعطيل الباطل في الاسلام .
________________________
(1) انظر الاكمال المخطوط : باب من انكر القائم.
صفحة (289)
فانه بعد أن برهنا أن الغرض من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوع المجتمع البشري بقيادة الإمام المهدي (ع) في اليوم الموعود ... إذن يكون إنكار المهدي مؤدياً إلى نتيجة من عدة نتائج كلها باطلة كما يلي: النتيجة الأولى :
إن خلق البشرية ليس وراءه هدف ولا غاية . وهذا منفي بنص القرآن القائل : ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾ . وبالبرهان العقلي الفلسفي القائل بضرورة وجود العلة الغائية والهدف ، من وراء كل فعل اختياري ، وبخاصة إذا كان الفاعل حكيماً لا نهائياً ... رب العالمين .
النتيجة الثانية :
إن الغرض من الخليفة وإن كان موجوداً ، إلا أنه ليس هو إيجاد المجتمع الصالح العابد ، بل هو أمر آخر لا نعلمه !! . وهذا مخالف لنص القرآن وصريحه في الآية السابقة . وخلاف ما تسالمت عليه الأديان السماوية من الايمان بمصير البشرية إلى الخير والعدل في نهاية المطاف .
النتيجة الثالثة :
إن هذا الغرض الالهي وإن كان ثابتاً ، إلا أنه ليس من الضروري نزوله إلى حيز التطبيق ، بل يمكن أن يبقى نظرياً على طول الخط .
وهذا من غرائب الكلام ، فان معنى ذلك تخلف الحكيم عن مقتضى حكمته ، ونقضه لغرضه ، وهو مستحيل عقلاً ، كما ثبت في الفلسفة . وليس معنى تنفيذ هذا الغرض إلا إيجاده في الخارج .
النتيجة الرابعة :
إن هذا الغرض ، يحدث في الخارج ، إلا أنه لا يحتاج إلى قائد ، بل يمكن أن يتسبب الله تعالى إلى إيجاده تلقائياً ، ومعه لا حاجة إلى افتراض وجود المهدي (ع) .
وهذا لا معنى له ، لأنه يتضمن انكاراً لما اعترفت به الأديان كلها وتسالمت عليه من وجود القائد في اليوم الموعود .مضافاً إلى أنه يتضمن أيضاً إنكاراً لطبيعة الأشياء ، فان الأمة بدون القائد ليست إلا أفراداً مشتتين مبعثرين ، لا يمكنهم أن يحفظوا أي مصلحة تتعلق بالمجموع ، ما لم يرجع الأمر إلى الاستقطاب القيادي والتوجيه العام المركزي ... وهذا واضحة في كل أمة على مدى التاريخ .
واحتمال : قيام المعجزة لايجاد هذا الغرض الأقصى ، بدون قائد ، فقد سبق أن عرضنا فكرته وناقشناها .
صفحة (290)
النتيجة الخامسة :
إن تنفيذ هذا الغرض يحتاج إلى قائد ، ولكنه غير منحصر المهدي (ع) ، بل يستطيع أن يقوم به الكثيرون .
وهذا زعم عجيب ، إذ لا نقصد بالمهدي (ع) إلا القائد المطبق للغرض الإلهي . بعد أن غضضنا النظر عن الاعتقاد الإمامي بشخصه ، إذن فيكون إنكاره إنكاراً لتنفيذ ذلك الغرض الأساسي كلياً . وأما من حيث قابلية القيادة ، وأنها هل تختص بشخص واحد أو هي ممكنة للعديدين . فهذا ما سنعرض له في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة .
إذن ، فيتعين الاعتراف بوجود المهدي (ع) منفذاً للغرض الالهي الكبير . ولا تختص نتيجة هذا البرهان بالمسلمين، فضلاً عن الامامية منهم . وإنما هي واضحة على مستوى كل الأديان السماية .
* * *
الجهة الثانية :
إن من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة : الانتظار .
وننطلق إلى الحديث عن ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
في مفهوم الانتظار .
إن المفهوم الاسلامي الواعي الصحيح للانتظار ، هو التوقع الدائم لتنفيذ الغرض الالهي الكبير ، وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الكامل بقيادة وإشراف الإمام المهدي عليه السلام .
وهذا المعنى مفهوم إسلامي عام تشترك فيه المذاهب الكبرى في الاسلام ، إذ بعد إحراز هذا الغرض الكبير وتواتر أخبار المهدي عن رسول الإسلام (ص) بنحو يحصل اليقين بمدلولها وينقطع العذر عن انكاره أمام الله عز وجل . وبعد العلم باناطة تنفيذ ذلك الغرض بإرادة الله تعالى وحده ، من دون أن يكون لغيره رأي في ذلك ، كما سبق . إذن فمن المحتمل في كل يوم أن يقوم المهدي (ع) بحركته الكبرى لتطبيق ذلك الغرض ، لوضوح احتمال تعلق إرادة الله تعالى به في أي وقت .
صفحة (291)
لا ينبغي أن تختلف في ذلك الأطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) عن غيرها ... إذ على تلك الأطروحة ، يأذن الله تعالى له بالظهور بعد الاختفاء ، وأما بناء على الأطروحة الأخرى القائلة ، بان المهدي (ع) يولد في مستقبل الدهر ويقوم بالسيف ، فلاحتمال أن يكون الآن مولوداً ، ويوشك أن يأمره الله تعالى بالظهور .
وهذا الاحتمال قائم في كل وقت . بل أن لمعنى الانتظار مفهوماً أعم من الإسلام وأقدم . أما قدمه فلما ذكرناه من تبشر الأنبياء باليوم الموعود ، فالبشرية كانت ولا زالت تنتظره ، وإن تحرفت شخصية القائد وعنوانه على ما ذكرناه . وستبقى تنتظره ما دام في الدنيا ظلم وجور . وأما عمومه فباعتبار التزام سائر أهل الأديان السماوية به، مع غض النظر عن الاسم .
وهذا بنفسه ، ما يجعل المسؤولية في عهدة كل مؤمن كل مؤمن بهذه الأديان ، وخاصة المسلم منهم . في أن يهذب نفسه ويكملها ويصعد درجة اخلاصه وقوة إرادته ، لكي يوفر لنفسه ولاخوانه في البشرية شرط الظهور في اليوم الموعود .
النقطة الثانية :
لا يكون الفرد على مستوى الانتظار المطلوب ، إلا بتوفر عناصر ثلاثة متقرنة :
عقائدية ونفسيةوسلوكية . ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح ، سوى التعسف النفسي المبني على المنطق القائل : إذهب أنت وربك فقاتلا ، أنَّا ههنا قاعدون ... المنتج لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك .
العنصر الأول :
الجانب العقائدي ... ويتكون برهانياً من ثلاثة أمور :
الأمر الأول :
الاعتقاد بتعلق الغرض الالهي بإصلاح البشرية جميعاً ، وتنفيذ العدل المطلق فيها في مستقبل الدهر . وان ما تعلق به الغرض الالهي والوعد الرباني في القرآن لا يمكن أن يختلف . وقد سبق أن عرفنا برهانه .
صفحة (292)
الأمر الثاني :
الاعتقاد بأن القائد المظفر الرائد في ذلك اليوم الموعود ، هو الإمام المهدي (ع) ، كما تواترت بذلك الأخبار عند الفريقين ، بل بلغت ما فوق حد التواتر . وقد علمنا أن ذلك ضروري الثبوت .
الأمر الثالث :
الاعتقاد بأن المهدي القائد هو محمد بن الحسن العسكري (ع) ... الأمر الذي قامت ضرورة المذهب الامامي . وقامت عليه الأعداد الضخمة من أخبارهم ... ووافقهم عليه جملة من مفكري العامة وعلمائهم كابن عربي في الفتوحات المكية . والقندوزي في ينابيع المودة والحمويني في فرائد السمطين ، والكنجي في البيان ...وغيرهم .
والمعتقدون بهذه الأمور ، وان كانوا على بعض الاختلافات ، إلا أننا ذكرنا في فصل (التخطيط الالهي) ان الأمرني الأولين يرجعان إلى الثالث في نتائجهما وتطبيقاتهما ، فيمكن الاعتقاد بها جميعاً بدون أي تناف أو اختلاف .
العنصر الثاني :
الجانب النفسي للانتظار . ويتكون من أمرين رئيسيين :
الأمر الأول :
الاستعداد الكامل لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة عليه ، كواحد من البشر ، على أقل تقدير ، إن لم يكن من الدعاة اليها والمضحين في سبيلها .
الأمر الثاني :
توقع البدء بتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة أو بزوغ فجر الظهور في أي وقت ... لما قلناه من أنه منوط بإرادة الله تعالى ، بشكل لا يمكن لغيره التعيين أو التوقيت . ومن المحتمل أن يشاء الله تعالى ذلك في أي وقت . مضافاً إلى الأخبار الدالة على حصوله فجأة بغتة ، وسنروي طرفاً منها فيما يأتي .
وهذا الشعور يمكن أن يوجد في نفس الفرد المؤمن باليوم الموعود ، طبقاً لأي من الأمور الثلاثة في العنصر الأول، وطبقاً لمجموعها أيضاً . ويكون شعوراً طيباً على نفسه مرضياً لضميره ، باعتبار ما يتضمنه من شعور بالاخلاص تجاه نفسه ومجتمعه وأمته ... وهي الجهات التي سوف ينتشلها اليوم الموعود من المشاكل والظلم .
صفحة (293)
وإذا تم لدى الفرد الشعور بهذين الأمرين في نفسه ، فقد تم لديه العنصر الثاني ، واستطاع أن يتقبل بسهولة ورحابة صدر العنصر الآتي .
العنصر الثالث :
الجانب السلوكي للانتظار .
ويتمثل بالالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الالهية السارية في كل عنصر ، على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله ، حتى يكون متبعاً للحق الكامل والهدى الصحيح ، فيكتسب الارادة القوية والاخلاص الحقيقي الذي يؤهله للتشرف بتحمل طرف من مسؤوليات اليوم الموعود .
وهذا السلوك ضروري وملزم لكل من يؤمن باليوم الموعود ، على أي من المستويات السابقة ، فضلاً عن مجموعها . وبخاصة المسلمين الذين قام البرهان لديهم بأن المهدي (ع) يطبق أطروحته العادلة الكاملة متمثلة في أحكام دينهم الحنيف .
وأما المسلم الامامي الذي يعمل بأن قائده معاصر معه ، يراقب أعماله ويعرف أقواله ، ويأسف لسوء تصرفه ... فهو مضافاً إلى وجوب اعداد نفسه لليوم الموعوم ، يجب أن يكون على مستوى المسؤولية في حاضره أيضاً ، وفي كل أيام حياته ، لكي لا يكون عاصياً لقائده متمرداً على تعاليمه . وهذا الاحساس نفسه ، يسرع بالفرد إلى النتيجة المطلوبة ، وهو النجاح في التمحيص ، والاعداد لليوم الموعود .
وإذا كان الفرد على هذا المستوى الرفيع ، استطاع أن يحرز الخير ، على مستويات أربعة .
المستوى الأول :
إحراز الخير لنفسه في دنياه وآخرته . أما في آخرته ، فباعتبار رضاء الله عز وجل . وأما في دنياه ، فباعتبار أمرين : أحدهما : السلوك العادل الذي يتخذه الفرد والمعاملة الصالحة والعلاقات الجيدة التي يعامل بها الآخرين . وثانيهما : أنه يصبح على مستوى المسؤولية لتحمل مواجهة القيادة في اليوم الموعود ، إذا بزغ فجره .
صفحة (294)
المستوى الثاني :
إحراز الخير لأمته ، باعتبار أنه إذ يعد نفسه الاعداد الصالح ، فانه يشارك في تهيئة شرط اليوم الموعود ، بمقدار تكليفه وقدرته ، فيكون قد تسبب إلى الخير كل الخير لأمته .
المستوى الثالث :
إحراء الخير لا لأمته فحسب ، بل للبشرية جمعاء . فان الخير الناتج من إيجاد شرط الظهور ، عام لكل البشر ، والمشاركة في إيجاده مشاركة في إيجاد العدل الكامل السائد في اليوم الموعود .
وهذه المستويات الثلاثة ، مما تقتضيه العقائد الاسلامية العامة المشتركة بين سائر المذاهب ... بل مما يقضيه الاعتراف باليوم الموعود ، في أي دين من الأديان .
المستوى الرابع :
إن الفرد بمساهمته في إيجاد شرط الظهور ، يساهم في إرضاء إمامه المهدي (ع) وجلب الراحة إليه ... بالنسبة إلى الشعور بزيادة المؤمنين وقلة العاصين ، والمشاركة الحقيقية في الإعداد للهدف الكبير .
وهذا المستوى خاص بالأطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) .
فهذه هي الجهات الأساسية التي يجب أن يتخذها الفرد ، لكي يكون على المستوى الاسلامي المطلوب للانتظار .
* * *
النقطة الثالثة :
في حث فكرة المهدي (ع) على العمل .
صفحة (295)
اتضح مما ذكرناه في النقطتين الاسبقتين ، وغيرهما ، ما هو الحق في الجواب على الشبهة القائلة : بأن انتظار الإمام المهدي (ع) سبب للتكاسل عن الاصلاح وترك العمل الاجتماعي ، وعدم معارضة الظلم والظالمين ، اعتماداً على اليوم الموعود والاصلاح المنشود .
أو انطلاقاً من الاعتقاد بأن المهدي (ع) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، إذن فيجب الظلم والجور وترك العمل استعجالاً لظهور المهدي (ع) .
ويتم النظر في جواب هذه الشبهة على مستويات ثلاثة ، باعتبار أن الأوساط التي تمر هذه الفكرة بين ظهرانيهم على ثلاثة أقسام رئيسية ، تتخذ عند كل واحد منهم طابعاً معيناً ، ونتيجة خاصة تختلف عن الآخرين .
المستوى الأول :
أوساط المنكرين للمهدي (ع) على الأساس المادي ، أو ما يمت إليه بصلة .
أولئك الذي لا يجدون دليلاً على مدعاهم إلا بمجرد الاستبعاد والتشكيك ، فهم يحاولون ان يقنعوا أنفسهم بما يدعون ولعلهم يستطيعون إبعاد المهدويين عن مهدويتهم وتشكيكهم في معتقدهم !!.
ليت شعري : أن المادية سبق أن قالت : بأن الدين أفيون الشعوب ومخدرها .
فكيف بالاعتقاد بالمهدي الذي هو بعض فروعه .
وقد أجاب الالهيون : - ومعهم الحق – بأن الدين كان ولا يزال أساس الثورات والمعارضات والمطالبة بإقامة الحق والعدل على مدى التاريخ ، وأكبر مثير للعواطف الانسانية على طول الخط . ونظرة واحدة إلى تاريخ البشرية مع شيء من الموضوعية والتجرد تثبت ذلك . وقد قلنا وسنقول في العقيدة المهدوية مثل ذلك على سيأتي عن قريب .
المستوى الثاني :
أوساط المؤمنين بالمهدي (ع) الذين يتصفون بصفتين مهمتين :
الأولى : التقاعس عن العمل أساساً ، وتقديم المصلحة الخاصة على المصالح العامة عموماً .
صفحة (296)
الثانية : إن المفاهيم الاسلامية تنطبع في أذهانهم بشكل ناقص وخاطئ ، بشكل تصلح تبريراً للواقع الفاسد ، أكثر من أي شيء آخر . وتنطلق الشهبة في هذه الأوساط من الاعتقاد الذي ذكرناه بأن المهدي (ع) لا يظهر حتى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً ، كما ورد في الحديث المتواتر عن النبي (ص) ، إذن يفهمون من ذلك : أنه يجب توفير الظلم والجور ، وترك العمل ضده ، استعجالاً لظهور المهدي (ع) .
المستوى الثالث :
مستوى الأوساط التي تعتقد بأن العمل الاسلامي ضد الظلم والظالمين ، غير موثر بأي حال .
وهؤلاء هم اليائسون الذين سيطرت هيبة الانحراف وهيمنة الظلم السائد في البشرية على نفوسهم ، فاعتقدوا بعدم جدوى أي شيء من الاصلاح أو الأمر بالمعروف في هذا المجتمع الفاسد . ومن ثم اضطروا إلى السكون وترك العمل ، انتظاراً لظهور المهدي (ع) ليكون هو الرائد الأول في اصلاح العالم .
فهذه هي أهم الشبه التي تعيش في أذهان بعض المتسويات ، ويمكن أن نعتمد على معارفنا السابقة في مناقشة هذه الأفكار . وذلك انطلاقاً من وجوه ثلاثة :
الوجه الأول :
إن مشاركة الفرد والمجتمع في إيجاد شرط الظهور ، لا يكون إلا بالعمل الجاد المنتج لرفع درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية ، ليكون في إمكان المخلصين المشاركة في مهام هداية العالم عند الظهور .
وقد عرفنا كيف وقع ذلك كقضية رئيسية في التخطيط الالهي لليوم الموعود ، وان عنصر التمحيص والاختبار في ظروف العالم والانحراف ، هو العنصر الأكبر في إيجاده .
الوجه الثاني :
ما عرفناه من أن هيجب على الفرد أن يجعل نفسه على مستوى رضاء الامام المهدي (ع) قبل ظهوره وبعده . ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمثلاً للأحكام الاسلامية بدقة ، سواء ما كان منها على المستوى الشخصي أو على المستوى الاجتماعي . ولن يحرز رضاء الامام بطبيعة الحال، بالاقتصار على الجانب الشخصي من أحكام الاسلام، لأن في ذلك عصياناً للأحكام الاجتماعية والاصلاحية . وهو ما لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله ولا المهدي .
صفحة (297)
إذن فالاعتقدا
بوجود القائد الرائد ، باعث أي باعث على العمل الاجتماعي والاصلاحي . ولا يكاد
يوجد هذا الباعث بدون هذا الاعتقاد إلا بشكل ضئيل .
وأنما انصرف عموم الناس عن العمل نتيجة لتناسيهم قائدهم وتغافلهم عن مسؤولياتهم
تجاهه .
الوجه الثالث :
أننا لو غضضنا النظر – جدلاً – عن الوجهين السابقين ، وفرضنا أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) ليس له أي أثر في الحث على العمل الاجتماعي المثمر . فهو – على أي حال- ليس موجباً للمنع عنه والحث على تركه . فلو وجد هناك دافع آخر للعمل ، أمكن أن يؤثر أثره بكل وضوح ، ويعمل عمله في العقول والقلوب المخلصة .
والسر في ذلك واضح على الصعيد الاسلامي ، كل الوضوع. باعتبار أن الأحكام الاسلامية الموجودة في الكتاب والسنة ، كانت ولا زالت معروفة وسارية المفعول، ولا زال الناس مسؤولين عن تطبيقها وامتثالها لك تفاصيلها . ومن الواضح أن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) لا يرفعها ولا يخصصها لضرورة الدين واجماع المسلمين . وليس على الفرد المسلم الذي يريد الاطاعة والامتثال ، إلا أن يراجع الأحكام الاسلامية ليعرف ما فيها من جوانب شخصية وجوانب عامة ... لكي يطبقها على حياته الخاصة والعامة ، ويباشر العمل الاجتماعي العام طبقاً للتكليف الاسلامي بالجهاد أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو مكافحة الظلم . وهذا لا ينافي بحال ، عمل الفرد على صعيد عام ، تارة أرى فيما بعد الظهور ، لو حدث اليوم الموعود خلال حياته .
وأما الفرد الذي يسير في طريق الانحراف ، ويبيع دينه بدنياه ، ويقدم مصلحته الخاصة وشهواته على كل اعتبار ، فهو من الطبيعي أن لا يكون الاعتقاد بالمهدي (ع) دافعاً له على العمل ، بعد أن لم يكن الاعتقاد بالاسلام نفسه دافعاً له . وهذا تقصير في الفرد وليس قصوراً في الفكرة كما هو واضح .
* * *
صفحة (298)
وأود أن أشير في هذا الصدد إلى ملاحظات ثلاث ، لعلها تلقي بعض الضوء على أهمية العم لالاسلامي ، في عصر ما قبل الظهور :
الملاحظة الأولى :
أننا برهنا خلال عرضنا للتخطيط الإلهي : أن ما يرفع درجة الاخلاص في الأمة ويوجد شرط الظهور ، هو العمل ضد الظلم فعلاً . ومعه ينبغي أن يمر الفرد فعلاً في ظروف الظلم والانحراف ، لكي يعمل ضده ، حتى يتصاعد إخلاصه وتقوى إرادته .
ومن هنا نعرف أن الفرد الذي يهرب بنفسه من ظروف الظلم ، أو أن المجتمع الذي يعيش في الرفاه النسبي بعيداً عن هذه الظروف. فانه لن يعمل ولن يستطيع الوصول إلى حد الوعي والاخلاص المطلوب . ولو وصل إلى شيء، فإنما يصل إليه ببطء شديد ، ويكون ضحلاً وقليلاً .
كما أن الأمة إذا شاع بين ظهرانيها الظلم والتعسف ،وكانت راضية به مستخذية تجاهه ،لا يوجد العمل فيها ضده، ولا التفكير لرفعه أو التخفيف منه .
إذن فسفو تكون أمة خائنة يتسافل إخلاصها وينمحي شعورها بالمسؤولية ، وتحتاج في ولادة ذلك عندها من جديد إلى زمان مضاعف ودهر طويل و ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾(1) . وليت شعري كيف يكون هؤلاء على مستوى إصلاح البشرية كلها في اليوم الموعود،وهم قاصرون عن إصلاح مجتمعهم الصغير؟!!.
إذن فالتفكير الجدي والعمل هو الأساس لتصعيد درجة الاخلاص والشعور بالمسؤولية والمران على الصمود والتضحية هو الشرط الأساسي لتكفل مهمة اليوم الموعود . فمن السخف ما قيل : بأن الاعتقاد بوجود المهدي (ع) داعف على الاستخذاء وترك العمل .
الملاحظة الثانية :
إن تصعيد درجة
الاخلاص ، قد يكون قائماً على أساس الاضطرار وقد يكون بالاختيار .
_________________
(1) الرعد 13/11 .
صفحة (299)
أما قيامه على أساس الاضطرار(1) ، فهو الأمر العام الذي يقتضيه التمحيص الالهي ، بشك لرئيسي . فان الأفراد في حبهم لذاتهم وتفضيلهم للراحة ، لا يميلون-عادة- إلى العمل الاجتماعي العام ، لما فيه من شعور بالجهد والمسؤولية .
ومن ثم فهم لا ينطلقون نحو إلا تحت وطأة من الاضطرار والشعور بالضغط والاحراج . ومن ثم كان لابد في حملهم على العمل العام من إيكالهم إلى الظروف الصعبة الظالمة . ومن ثم انعقد التخطيط الإلهي على حمل الأمة على العمل الاضطراري بهذا المعنى ، لأجل تحقيق مصالحها الكبرى في يوم الظهور .
وأما قيام الاخلاص والوعي على أسشاس الاختيار ،فباندفاع المكلف إلى العمل أزيد من مقدرا الاضطرار والاحراج، بمجرد شعوره بالمطلوبية الاسلامية له ،الزاماً أو استحباباً ... بأ، يكون على الدوام معارضاً للظلم داعياً إلى الحق، هادياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .
صحيح ، ان الاندفاع إلى ذلك ، يحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والاخلاص وقة الارادة ، لا يتوفر إلا للقليل ... إلا أنه –على أي حال-ليس هو المستوى المطلوب توفره في المشاركة في قيادة العالم كله في يوم الظهور . وإنما يكون العمل الاختياري أو ما نسميه بالتمحيص الاختياري مضافاً إلى التمحيص الاضطراري ، سبباً لإيجاد مثل هذا المستوى الرفيع .
ومن الواضح ما لهذا التمحيص الاختياري ، من أثر بليغ في التصعيد السريع ، بشكل أعظم بكثير مماينتجه التمحيص الاضطراري ... وفي التعجيل بإيجاد شرط الظهور ، بمقدار ما تقتضيه الظروف الثقافية والفكرية التي يعيشها الفكر الاسلامي ، في أي عصر .
إذن ، فما قيمة هذه الشبهة التي تقول بأن الاعتقاد بالمهدي (ع) يمنع عن العمل الاجتماعي الاصلاحي ، ولله في خلقه شؤون .
________________________
(1) لا ينبغي الخلط بني الاضطرار وبين الاكراه . فان الاضطرار يمثل حاجة مع انحفاظ الارادة معها ، كمن يبيع دراه من أجل دين كبير عليه . والاكراه لا تنحفظ معه إرادة كمن باع تحت وطأة التهديد بالقتل ، او تحت الضرب الشديد مثلاً . ولكل منهما "اختيار" يقابله .
صفحة (300)
الملاحظة الثالثة:
في فهم الحديث النبوي.
أننا بعد أن
عرفنا التخطيط الإلهي لليوم الموعود، نستطيع أن نفهم قوله (ص): يملأ الأرض
قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فالظلم والجور، في عصر ما قبل الضهورن جزء من هذا التخطيط، لإيجاد الشرط
االثاني للظهور، وهو توفير قوة الإدارة والإخلاص في الأمة بشكل عام. وقد عرفنا
أن هذا يحدث في نسبة ضئيلة من اليشر، ويكون الباقي على مستوى الانحراف والفساد.
إذن، فالأرض تمتلىء ظلماً وجوراً، لكن لا بالجبر والإكراه، من قبل الله تعالى أو من غيره، وإنما باعتبار انصراف الأعم الأغلب من الناس إلى مصالحهم واندحارهم تجاه تيار الخوف والإغراء. وهو لا ينافي توفر شروط الظهور وترسخه في الناس، متمثلاً في تلك النسبة الضئيلة عدداً الضخمة أهمية وإيماناً وإرادة.
وامتلاء الأرض ظلماً، أمر خارج عن اختيار الفرد بوجوده الشخصي، وإنما هو ناتج عن الطبيعة البشرية بشكل عام، المتوفرة في المجتمع الناقص. ويكون تكليف الفرد إسلامياً منحصراً شرعاً في تصعيد درجة إخلاصه وقوة إرداته، عن طريق مكافحة الظلم والعمل على كفكفته ورفعه. ولكي يتوفر تدريجياً شرط الظهور.
وليت شعري، إن شرط الظهور، هو هذا المستوى اٌيماني، وليس هو كثرة الظلم وامتلاء الأرض جوراً، كما يريد البعض أن يفكروا. لوضوح أن الأرض لو امتلأت تماماً بالظلم وانعدم منها عنصر الإيمان، لما أمكن إصلاحها عن طريق القيادة العامة. بل يكون منحصراً بالمعحزة التي برهنا على عدم وقوعها، أو إرسال نبوة جديدة، وهو خلاف ضرورة الدين من أنه لا نبي بعد رسول الإسلام.
وإنما تتضمن فكرة اليوم الموعود، سيطرة الإيمان على الكفر، بعد سيطرة الكفر على الإيمان... مع وجود كلا الجانبين. وهو قول الله تعال بالنسبة إلى المؤنين: ﴿ ليستخلفهم في الأرض وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ﴾ وقوله (ص): يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
صفحة (301)
النقطة الرابعة:
للبحث عن الانتظار-: في اختلاف مفهومه باختلاف عصور الدعوة الإلهية.
سبق أن برهنا أن إيجاد اليوم الموعود، هو الغرض الأساسي من إيجاد البشرية... وقد خطط الله تعالى لإيجاده منذ فجر الخليقة، ولازال هذا التخطيط سارياً إلى حين تحقق نتيجته النهائية وغرضه الأصيل.
وقد كان انتظار البشرية لليوم الموعود، موجوداً، منذ بلغ الأنبياء السابقون عليهم السلام البشرية عن وجوده... إلا أن الانتظار اكتسب صيغاً متعددة بتعدد أزمنة تطور البشرية نحو ذلك الغد المنشود. فإن البشرية قد مرت – بهذا الاعتبار – بأربعة أو مراحل:
المرحلة الأولى:
فترة ما قبل الإسلام. وقد كان الناس خلالهما يفهمون من كل نبي يبلغهم عن اليوم الموعود، أمرين مقترنين: أولهما: الإهمال من التاريخ وإيكاله إلى إرادة الله تعالى محضاً. وثانيهما: أن هذا النبي يبلغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه المهمة، وإنما سيوجد في المستقبل البعيد شخص آخر يكون مطلعاً بها، وقائداً للبشرية من خلالهما.
إذن، فالانتظار لم يكن حاملاً لنفس المفهوم الذي يحمله في عصر الغيبة الكبرى... فبينما نرى أن صيغته الأخيرة هي: توقع حدوث اليوم الموعود في كل حين، على ما سبق... نرى أن صيغته يومئذ كانت تتضمن العلم بعدم حدوثه السريع، والاكتفاء بالاعتقاد بأن هذا مما سيحدث جزماً في المستقبل البعيد.
والناس في تلك العهود، وإن لم يكونوا ملتفتين إلى سر ذلك، إلا أننا عرفنا باطلاعنا على تفاصيل التخطيط الإلهي. حيث عرفنا أم كلا شرطي اليوم الموعود، لم يكونا متوفرين في تلك الفترة. فلم تكن البشرية على مستوى فم الأطروحة العادلة الكاملة من ناحية، ولم تكن علة مستوى الإخلاص وقوة الإرادة المطلوب توفرها في قيادة اليوم الموعود.
صفحة (302)
المرحلة الثانية:
فترة ما بعد الإسلام إلى بدء الغيبة الصغرى... حيث كانت البشرية قد تلقت عن الله عز وجل أطروحتها العادلة الكاملة. وبذلك توفر أحد الشرطين السابقين.
إلا أن معنى الانتظار لم يكن يختلف – مع ذلك – اختلافاً جوهرياً عما سبق. بمعنى أن الأمل في ذلك الحين لم يكن منعقداً على حدوث اليوم الموعود بغتة وفي أي وقت. بل كان المفهوم هو تحققه في المستقبل البعيد أيضاً. غاية الفرق عن المرحلة السابقة، هو إحراز المسلمين: أن اليوم الموعود سوف يكون طبقاً لأطروحتهم ودينهم، دون غيره.
وهذا واضح
جداً، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلك اليوم من قبل النبي (ص) والأئمة المعصومين
(ع) بعده. أما بالنسبة إلى النبي (ص) فيكفينا اخباراته عن المهدي (ع) وأنه من
ولده وعترته وأنه من ذرية فاطمة عليه السلام، وأنه يوجد فيملأ الأرض قسطاً
وعدلاً، وأنه من ولد الحسين (ع) وإن صفته كذا وكذا... إذن فقائد اليوم الموعود
ليس هو شخص النبي (ص)، ولن يقوم النبي (ص) بهذه المهمة الكبرى، خلال حياته. كما
عرفنا فلسفة ذلك فيما سبق.
إذن فالانتظار في عهد النبي (ص) كان مقترناً باليقين بعدم حدوثه الفوري في ذلك
الحين.
ويبقى الانتظار في عصر الأئمة عليهم السلام، حاملاً لنفس هذا المفهوم. ويمكن أن
نستفيد ذلك من عدة أشكال من الأحاديث التي كانوا عليهم السلام يعلنون بها فكرة
المهدي (ع) أمام الناس.
كقولهم (ع) أن المهدي هو السابع من ولد الخامس منهم(1) أو قول الإمام الباقر عليه السلام، والله ما أنا بصاحبكم. قال الراوي: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من تخفي على الناس ولادته فهو صاحبكم(2). فهو إذ ينفي عن نفسه أنه المهدي (ع) نعرف أن اليوم الموعود لن يتحقق ما دام في الحياة على أقل تقدير.
________________________
(1) أنظر مثلاً منتخب الأثر ص 212 . (2) أنظر إكمال الديم المخطوط.
صفحة(303)
وكقولهم: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام ولا علم، يبرأ بعضكم من
بعض... الحديث(1). إذن فما دام أئمة الهدى عليهم السلام معروفين ومتصلين بالناس، فالمهدي غير موجود، ومن ثم فهو لن يقوم بالسيف لإنجاز اليوم الموعود.
وكذلك إذا لاحظنا أخبار التمحيص، التي تنفي الظهور قبل مرور الناس بهذا القانون. كقوله (ع): إن هذا الأمر ريأتيكم إلا بعد يأس. ولا والله حتى تميزوا. ولا والله حتى تمحصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد. وقد سبق. إذن فاليوم الموعود لن يتحقق ما دام الناس غير ممحصين.
وكذلك إذا لاحظنا الأخبار الدالة على حدوث علامات الظهور، مما لم يتحقق في عصر الأئمة (ع) السابقين، كالصيحة والخسف، وغيرها مما سيأتي. فإنه ما لم توجد هذه العلامات، لايظهر المهدي (ع)، على ما سوف نوضحه في القسم الثالث من هذا التاريخ.
إذن، فالمسلمون في زمن النبي (ص) والأئمة (ع) لم يكونوا ينتظرون ظهور المهدي (ع) على الفور، وإن كانوا قد بلغوا بشكل أكيد وشديد عن ظهوره في مستقبل الزمان.
أقول: هذا من الناحية النظرية صحيح. إلا أننا نجد من الناحية العملية، أن هذه الفكرة صادقة في زمن النبي (ص). وأما في زمن الأئمة (ع)، فلا تخلو هذه الفكرة من إشكال.
فإننا نجد أن
توقع ظهور المهدي (ع) في ذلك الزمن كان كبيراً. سواء في ذلك القواعد الشعبية
الامامية، أو غيرهم. أم غير الامامين فواضح طبقاً لفهمهم لفكرة المهدي (ع). إذ
أن ولادته وقيامه بدولة الحق، ممكن بعد النبي (ص) مباشرة فصاعداً.
وأما الاماميون، فقد دلت الأخبار على وجود هذا التوقع فيهم... بما فيها أخبار
التمحيص نفسها حيث يقول الإمام (ع) فيها: إن هذا الأمر لا يأتيكم إلا بعد
يأس... أو يقول: هيهات هيهات... لا يكون الذين تمدون إليه أعناقكم حتى تمحصوا(2)
.
_________________
(1) نفس المصدر. (2) أنظر غيبة النعماني ص
صفحة (304)
وروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما تستعجلون بخروج القائم، فوالله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الجشب... الحديث(1).
وروي عن إبراهيم بن هليل قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، مات أبي على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى. أموت ولا تحبرني بشيء؟! فقال: يا أبا إسحاق، أنت تعجل! فقلت: أي والله أعجل وما لي أعجل، وقد بلغت من السن ما قد ترى؟ فقال: يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتى تميزوا وتمحصوا وحتى لا يبقى فيكم إلا الأقل... الحديث(2).
وهذه الأخبار واضحة جداً في اتوقع والانتظار الفوري، حتى أن أبا إسحاق لم يتصور أن يكبر سنه ولما يظهر المهدي بعد.
وكذلك إذا
نظرنا إلى الأخبار الدالة على وجود توقعات من الأئة (ع) بأشخاصهم بأن يقوموا
بدور المهدي (ع). كالخبر السابق عن الإمام الباقر (ع):والله ما أنا بصاحبكم...
الحديث. وما روي عن حمران بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) فقلت له: أنت
القائم؟... الحديث(3). وفي حديث آخر عنه قال قلت لأبي جعفر الباقر
عليه السلام: جعلت فداك أني قد دخلت المدينة وفي حقوقي هميان فيه ألف دينار،
وقد أعطيت الله عهداً أن أنفقها ببابك ديناراً ديناراً أو تجيبني فيما أسألك
عنه. فقال: يا حمران سل تجب ولاتبعض دنانيرك. فقلت: سألتك بقرابتك من رسول الله
صلى الله عليه وآلة، أنت صاحب هذا الأمر والقائم به. قال: لا. قلت: فمن هو بأبي
أنت وأمي. فقال: ذاك المشرب حمرة... الحديث(4). وفي حديث آخر(5)
عن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا
صاحب هذا الأمر ولكني لست بالذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وكيف أكون ذلك
على ما ترى من ضعف بدني. وإن القائم هو الذي إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر
الشبان... الحديث.
الى أحاديث أخرى من هذا القبيل.
_____________________
(1) غيبة النعماني ص 122.(2) نفس المصدر ص 111. (3) غيبة النعماني ص 115.
(4) المصدر ص 144 – 155.(5) إعلام الورى ص 407.
صفحة ( 305)
وكذلك إذا نظرنا إلى الخبر القائل: سئل أبو عبد الله عليه السلام: هل ولد القائم؟ فقال: لا. ولو أدركته لخدمته أيام حياتي(1).
إذا نظرنا إلى هذه الأخبار،نجد مفهوم الانتظار، ومزيد الاهتمام بظهور المهدي(ع)... ناشئاً من سبب رئيسي واحد، هو إبهام فكرة المهدي في أذهانهم والجهل بتفاصيلها، حتى أن حمران بن أعين والريان بن صلت، وهما من أحلة أصحاب الأئمة (ع) كانا لا يزالان لا يعرفان من هو القائم على التعيين، وقد مضى من صدر الإسلام أكثر من مئة سنة.
وقد كانت لهذه الأحاديث وغيرها مما صدر من الإيضاحات والتفاصيل عن هذه الفكرة، من الأئمة المعصومين عليهم السلام، أكبر الأثر في جلاء الفكرة لدى قواعدهم الشعبية وارتفاع ابهامها تدريجاً، حتة اننا نرى الآن بوضوح طبقاً للتخطيط الإلهي أنه لم يكن بالإمكان القيام بدور المهدي (ع) في ذلك العصر، لعدم توفر أحد شرائط الظهور. ومن ثم لم يكن المهدي (ع) مولوداً، ولم يكن أحد من الأئمة السابقين هو المهدي القائم بالأمر بأي حال.
وقد كان لهذا الإبهام، في غير الأوساط الامامية، أثراً سلبياً أحياناً، إذ فسح المجال للعديدن في أن يستغلوا تبشير النبي (ص) بالمهدي (ع) فيدّعون المهدوية لأنفسهم. ولا ننسى بهذا الصدد أن الرشيد العباسي لقب ولده بالمهدي، عسى أن يتوهم الناس أنه المهدي المنتظر.
وقد سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(2)، كيف أن جماعة القراطمة في الشرق الأدنى وجمعاً غفيراً في الشمال الإفريقي قد آمنوا بمهدوية محمد بن عبيد الله العلوي جد الفاطميين، الذين حكموا مصر بعد ذلك.
_____________________
(1) المصدر ص 129. (2) أنظر ص 353 وما بعدها.
صفحة (306)
المرحلة الثالثة:
- لعصور الانتظار-: عصر الغيبة الصغرى، لمن يؤمن بها، وهم القواعد الشعبية الامامية.
وفيها – كما عرفنا في تاريخها – كان الإمام المهدي (ع) موجوداً يقود قواعده الشعبية في الخفاء. ولاشك أن الناس كانوا ينتظرون ظهوره في أي وقت. باعتبار ما يحسونه من ظلم ومطاردة وتعسف من قبل الحاكمين. وهم يعلمون علم اليقين بوجوده وإطلاعه على الأوضاع الشاذة التي يعيشها المجتمع، ويعلمون أنه المذخور لإزالة الظلم من العالم كله غافلين – بطبيعة الحال – عن اقتصاء التخطيط الإلهي تأجيل ذلك، لعدم توفر أحد شرائط اليوم الموعود.
ولو دققنا النظر، لم نجد في رفع هذا الجو الفكري من الناس، مصلحة. بل كانت المصلحة تقتضي إيكالهم إلى انتظارهم التلقائي الارتكازي، وعدم التعرض إلى تصحيحه أو تكذيبه. لأنه على أي حال، يزيد من الربط العاطفي للقواعد الشعبية المهدوية، بإمامها وقائدها. لوضوح أن الأمل فيه كلما كان أقوى كان هذا الارتباط أبلغ وأكبر.
بل أن هناك من الأخبار ما يدل على أن الإمام المهدي (ع) نفسه كان يذكي هذه العاطفة ويؤكد قرب الظهور. وقد ذكرناها في تاريخ الغيبة الصغرى وناقشناها(1).
وقد يخطر في الذهن: أنه كان يمكن للناس في تلك الفترة، أن يطلعوا على الخبار الدالة على توقف ظهور المهدي (ع) على التمحيص، أو الأخبار الدالة على حدوث علامات الظهور... لكي يعرفوا أن الظهور لم يكن ليقع في تلك الفترة، بعد وضوح أن التمحيص لم يكن حاصلاً، والعلامات لم تكن حادثة.
ويمكن أن يناقش ذلك بعدة أحوبة، أوضحها: أن الفرد الاعتيادي يحتمل تحقق التمحيص المطلوب، في عصره، كما يحتمل حدوث علامات الظهور في المستقبل القريب. ومن ثم يحتمل أنه لم يبق بينه وبين الظهور إلا زمن قصير. وهذا الاحتمال كاف في إذكاء أوراء الجو النفسي والفكري للانتظار.
ـــــــــــــ
(1) أنظر ص 548 وما بعدها.
صفحة (307)
المرحلة الرابعة:
فترة الغيبة الكبرى، التي لا زلنا نعيشها.
وقد قلنا أن الانتظار فيها يحمل معنى توقع الظهور، وقيام اليوم الموعود في أي وقت وفي كل يوم. لكونه منوطاً بإرادة الله تعالى لاغير. كما ورد في بان المهدي (ع) الذي أعلن به انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى، حيث قال: فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره(1). ولما ورد أنه يوم الظهور يحدث فجأة أو بغتة، كلما سمعنا من مكاتبة المهدي (ع) للشيخ المفيد. وغيرها من الروايات التي سوف نذكرها.
نعم يمكن أن تلاحظ أنه في فترة بدء الغيبة الكبرى، كان هناك من الدلائل على عدم فورية الظهور، حيث نسمع من بيان انتهاء السفارة نفسه قوله عليه السلام: فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره. وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب... الحديث(2). وطول الأمد يستدعي مضي عدة سنوات، بل عدة عشرات، لا بد من انتظار انتهائها، قبل توقع الظهور الفوري.
إلا أن مفهوم طول امد، يختلف باختلاف تصور الأفراد، ومقدار وعيهم العقلي والثقافي والإيماني. فقد لا يحتاج حين يسمعه الفرد العادي لأول مرة أكثر من عدة سنوات، وبخاصة من إناطة الظهرو بإذن الله تعالى مع ما يراه الفرد من قسوة القلوب فعلاً وامتلاء الأرض جوراً. فكان في الإمكان – بحسب الجو النفسي السائد يومئذ – أن يبدأ مفهوم الانتظار الفوري بعد عدة سنوات من تاريخ هذا البيان. ولم يكن أهل ذلك العصر بحاجة إلى أن يدركوا أن المراد من طول الأمد ما يزيد على الألف عام بقليل أو بكثير، كما ندركه الآن.
فإن قال قائل: إن الانتظار للظهور الفوري، ينافي ما جعل من علامات وشرائط للييوم الموعود، فإنه لا يكون إلا عند حصول تلك الأمور. فالانتظار للظهور الفوري إنما يصح بعد حصولها، وأنا قبل ذلك فينبغي أن يعود مفهوم الانتظار إلى الشكل الذي قلناه في صدر الإسلام من العلم بحصول اليوم الموعود مع اليقين بعدم الظهور الفوري.
ـــــــــــــــ
(1) أنظر تاريخ الغيبة الصغرى ص 634، وغيبة الشيخ الطوسي ص 243. (2) نفس المصدرين والصفحتين.
صفحة (308)
وهذا الإشكال مشابه لما أوردناه في المرحلة الثالثة: عصر الغيبة الصغرى. وجوابه نفس الجواب، وملخصه: أن العلامات يحتمل وقوعها في أي وقت ويحتمل أن يتبعها ظهور المهدي (ع) بزمان قصير. وأما شرائط الظهور، فيحتمل اكتمالها ونجازها في أي وقت أيضاً. وقلنا بأن وجود هذا الاحتمال في نفس الفرد كاف في إيجاد الجو النفسي للانتظار الفوري.
فإن قال قائل: بأن ما عرفناه شرطاً رئيسياً للظهور، مما هو غير متحقق لحد الان، هو حصول التمحيص والامتحان للناس، ونحن نجد بالوجدان أن عدداً كبيراً من الناس إن لم يكن جميعهم أو أكثرهم، غير ممحصين، ولاتصل نتائج اختباراتهم إلى نهايتها.
قلنا: أنه يمكن الجواب على ذلك بوجهين:
الوجه الأول:
إن هذا الكلام يتضمن جهلاً بمعنى التمحيص والاختبار، فإن المراد منه ليس هو تمحيص الأفراد كأفراد خلال أعماهم القصيرة، لكي نتوقع أن يصل كل فرد خلال حياته إلى النتائج النهائية للتمحيص.
بل المراد تمحيص الأمة أو البشرية في أمد طويل، بشكل منتج لتمحيص الأفراد، في نهابة المطاف. ويتم ذلك عن طريق ما نسميه " بقانون الترابط بين الأجيال " فإن كل جيل سابق يوصل ما يحمله من مستوى فكري وثقافي إلى الجيل الذي يليه. ويكون على الجيل الآخر، أن يأخذ بهذا المستوى قدماً إلى الأمام. ثم أنه يعطي نتائجه إلى الجيل الذي بعده وهكذا...
وكذلك الحال بالنسبة إلى نتائج التمحيص، فإن كل جيل يوصل إلى الجيل الذي يليه، ما يحمله من مستوى في الإيمان والإخلاص... فيصبح الجيل الجديد، قد وصل بالتلقين إلى نفس الدرجة – تقريباً – من التمحيص التي وصلها الجيل السابق. ثم أن الجيل الآخر بدوره سيمر بتجارب وسيقوم بأعمال معينة وسيصادف ظروف الظلم والإغراء، فيتقدم في سلم التمحيص درجة أخرى، وهذكا.
وبقانون تلازم الأجيالن سيأتي على الأمة زمان، يكون الجيل الذي فيها، قد انتج التمحيص الإلهي فيه نتيجته المطلوبة. حيث ينقسم المجتمع إلى قسمين منفصلين: إلى من فشل في التمحيص فاختار طريق الضلال محظاَ. وهم الأكثرالذين يملأون الأرض جوراً وظلماً... وإلى من نجح فيه فاختار طريق الهداية والإخلاص محضاً. وبوجود هذه المجموعة يتحقق شرط الظهور.
صفحة (309)
إذن، فكيف يمكننا أن ندعي العلم بعدم تمحيص أكثر الناس، كما قلناه في السؤال. مع أن النتيجة المطلوبة حاصل في الأعم الأغلب منهم. وهذا واضح بالنسبة إلى كل البشر الكفرة والمنحرفين، فإن التمحيص قد أنتج تطرفهم إلى جهة لضلال. كما أنه واضح بالنسبة إلى عدد من المؤمنين المخلصين، حيث تطرفوا إلى جهة الهدى والإيمان. هذه هي نتيجة التمحيص.
نعم، قد تتعلق الإرداة الإلهية، بتأكيد التمحيص وتشديده أكثر مما هو عليه الآن، متوخية تعميق إخلاص المخلصين، لكي يكونوا بحق على المستوى المطلوب لقيادة العالم في اليوم الموعود.
وعلى أي حال، فيبقى شرط الظهور محتمل الإنجاز في أي وقت، فلا يكون منافياً مع مفهوم الانتظار الفوري.
الوجه الثاني: إن التمحيص الدقيق المأخوذ في التخطيط الإلهي، لايجب أن ينتج نتيجة واضحة فعلية كاملة، بالنسبة إلى كل البشر وإنما اللازم هو ان يصل إلى هدفه، وهو إيجاد شرط الظهور.
بيان ذلك: أن التمحيص يكون على مستويين:
المستوى الأول:
ما يكون من موقف كل فرد تجاه مصالحه وشهواته. وهذا التمحيص موجود بوجود البشرية ووجود مفاهيم الحق والعدل والمعلنة بين الناس. ولا ينقطع إلا بانتهاء البشرية. لايختلف في ذلك عصر الغيبة عن عصر الظهور. فإن عصر الظهور ينتج إيضاح الحق وسيطرته على العالم. ولكنه لايقوم بتبديل الغرائز والشهوات.
المستوى الثاني: ما يكن من قبل الفرد تجاه تيارات الظلم واضطهاد الظالمين. وهو تمحيص خاص بما قبل الظهور، لعدم وجود الظلم والظالمين بعده. وهذا هو العنصر المهم الذي أسسه التخطيط الإلهي لتحقيق شرط الظهور.
صفحة (310)
وشرط الظهور لو كان هو حصول النتيجة في كل البشرن لكان حصولها ضرورياً قبل الظهور، كما قال السائل... ولكن شرط الظهور ليس بهذه السعة، وإنما هو حصول عدد من ذوي الإخلاص القوي والإرادة الماضية، بمقدار كاف لزو العالم والسيطرة على البشرية بأطروحة الحق.
وحينما يحصل هذا المقدار من الناس، تكون نتيجة التمحيص الكاملة، قد تمخضت بالنسبة إليهم، بإحرازهم درجة الإخلاص العليا. كما تكون قد تمخضت بالنسبة إلى آخرين في التطرف نحو الإنحراف والفساد.
وأما البشر الآخرون، فلا مانع أن يصلوا إلى بعض درجات التمحيص ويقفوا. وتبقى الدرجات العليا من مواقفهم وردود فعلهم غامضة غبر ممحصة. وهذا كما هو ثابت بالنسبة إلى أغلب البشر قبل نهايات الغيبة، كذلك يمكن أن يكون ثابتاً بالنسبة إلى بعضهم عند أول الظهور أيضاً.
ولكننا – بهذا الصدد – يجب أن نتذكر الدرجات الثلاث، للإخلاص، التي قلناها... ولكها نتيجة للتمحيص وإن اختلفت مراتبها ومداليلها. وما قلناه قبل أسطر وإن كان صحيحاً في درجة الإخلاص العليا، فإنه لايحصل إلا في عدد معين البشر، قد تشكل أكثر البشر في الجيل المعاصر للظهور. ويكون الظهور بنفسه ظرفاً جديداً تتفتح فيه مواهب العديد من الناس على النحو الموجه المطلوب. على ما سوف نسمع في التاريخ القادم.
وعلى أي حال، فمن المحتمل على الدوام وفي أي وقت، أن يكون العدد الطافي لغزو العالم قد تحقق، وإن شرط الظهور قد توفر. فيكون الظهور عبلا هذا التقدير – فورياً أو قريباً جداً. واحتمال تحقق الشرط كاف في احتمل فورية الظهور. ومعه يكون مفهوم الانتظار الفوري، موجوداً خلال عصر الغيبة الكبرى.
* * *
صفحة (311)
الجهة الثالثة:
من التكاليف المطلوبة في عصر الغيبة الكبرى: الإلتزام بالتعاليم الإسلامية الحقة النافذة المفعول فيما قبل الظهور.
وهذا من واضحات الشريعة، فإن مقتضى شمول تعاليمها وعمومها لكل الأجيال،وجوب إطاعتها وتطبيقها على واقع الحياة في كل الأجيال. سواء ما كان على مستوى العقائد والمفاهيم، لأو ما كان على مستوى الأحكام.
ويقابل هذا الوضوح احتمالان رئيسيان:
الاحتمال الأول:
أن ينجرف الفرد مع النيارات المعادية للإسلام، ويتبع عقائدها وأحكامها، ويعبرها نافذة عليه، ويدع أوامر الإسلام ونواهيه، بل وعقائده في سبيلها.
وهذا النحو من السلوك واضح الفساد من وجهة نظر الإسلام. وحسبنا منه أنه مستلزم للعصيان الإسلامي والرسوب في التمحيص الإلهي.
ومعنى فساد هذا الوجه، هو أن العقائد الوحيدة الصحيحة والأحكام الوحيد النافذة في كل العصور، هي عقائد الإسلام وأحكامه. وأما ما يغزو المجتمع المسلم من عقائد غريبة وأحكام وضعية، فلا تعتبر حقاً ولا واجبة الامتثال.
الاحتمال الثاني:
أن المهدي بعد ظهوره – على ما سنعرف في التاريخ القادم – سوف يصدر قوانين جديدة، ويعطي للإسلام تفاصيل وتطبيقات جديدة. فقد يكون من المحتمل أن تكون تلك الأحكام والقوانين سارية المفعول خلال الغيبة الكبرى أيضاً. مما ينتج أن يكون الاقتصار على امتثال الأحكام السابقة على الظهور، غير كافية.
إلا أن هذا الاحتمال غير موجود البتة: لليقين بأمرين:
الأمر الأول:
إن أحكام ما بعد الظهور لن تكون ذات أثر (رجعي) بحيث تشمل الزمن السابق عليها.
فإن الإمام المهدي (ع) إنما يصدر قوانينه الجديدة بناء على مصالح وأسباب تتحقق بعد الظهور، وليس لها في عصر الغيبة الكبرى عين ولا أثر.
صفحة (312)
الأمر الثاني:
أننا – على أي حال – نجهل تلك الأحكام بالمرة، والجهل بالحكم بهذا الشكل، سبب طاف للمعذورية عن امتثاله أمام الله تعالى ورسوله (ص)، بحسب قواعد الإسلام.
إذن، فتكون الأحكام الإسلامية الصادرة المعلنة، منذ عصر الرسالة، نافذة المفعول، بكل تفاصيلها وخصائصها،من دون معارض ولاناسخ، ويجب على الفرد إطاعتها وامتثالها. وهو واضح من وجهة النر الإسلامية.
وهذا هو المراد من عدد من الأخبار على اختلاف مضانيها، تأمر المسلم بالبقاء على ما كان عليه من عقيدة وتشريع... بالرغم من تيار الفن وشبهات الانحراف.
أخرج ابن ماجة(1) عن رسول الله (ص) أنه ذكر التكليف في عصر الفتن فقال: تأخذون بما تعرفون وتعدون ما تنكرون. وتقبلون على خاصتكم وتذرون أمر عامتكم.
والمراد بهذا الحديث الشريف، بعد فهمه على أساس القواعد الإسلامية العامة... وهو وجوب الأخذ بما قامت عليه الحجة من أحكام الإسلام أو عقائده. بمعنى أنه متى دل الدليل الصحيح على كون شيء معين هو حكم إسلامي أو عقيدة إسلامية، وجب الأخذ به، بمعنى لزوم العمل عليه إن كان حكماً ووجوب الاعتقاد به إن كان عقيدة. وأما ما كان محالفاً لذل، فيجب رفضه واعتباره انحرافاً وفساداً.
وأما الذين يشخصون ذلك، ويفهمون ما هو الحكم الإسلامي من غيره، وما هو الدليل الصحيح وما هو الفاسد، فليس هم العامة أو الجمهور الذين ينعقون مع كل ناعق يميلون مع كل ريح... فإنهما – لا محالة – تؤثر فيهم موجات الانحراف وتغريهم المصالح والشهوات. فيحب الاعراض عنهم كوجهين وقادة وأصحاب رأي. وإنما توكل هذه المهمة إلى المختصين بالنظر إلى الأدلة الإسلامية واستنتاج الأحكام، والمفكرين الذين اتبعوا أنفسهم في تحقيق وتدقيق العقائد والمفاهيم والأحكام.
ــــــــــــــ
(1) أنظر السنن ص 1308 جـ 2.
صفحة (313)
وبهذا بريد النبي (ص) أن يلفت نظر الفرد المسلم إلى وجوب الإلتفاف حول هؤلاء الخاصة من العلماء الذين يطلعونه على الحق ويبعدونه عن الباطل، وينقذونه من تيار الفتن، ويحرزون له النجاح في التمحيص الالهي الكبير.
ومثل هذا الحديث عدة أخبار، رواها الصدوق في إكمال الدين(1) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام. ففي أحد الأخبار يقول (ع): إذا أصبحت وأمسيت لاترى إماماً تأتم به ( يعني عصر الغيبة الكبرى ) فأحبب من كنت تحب وأبغض من كنت تبغض، حتى يظهره الله عز وجل.
وفي حديث آخر: تمسكوا بالأمر الأول حتى تستبين لكم. وفي حديث ثالث: فتمسكوا بما في أيديكم حتى يتضح لكم الأمر. وفي حديث رابع: كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع عليكم نجمكم (يشير إلى ظهور المهدي (ع)).
والأمر الأول الذي في اليد، هو أحكام الإسلام وعقائده الصحيحة النافذة المفعول في هذه العصور. ومعنى التمسك به تطبيقه في واقع الحياة، سلوكاً وعقيدة ونظاماً.
وكل هذه الأخبار، تعم العقيدة والأحكام... ما عدا الخبر الأول منها، فإنه خاص بالعقيدة. فإنه أمر الفرد المسلم بحب من كان يحب وبغض من كان يبغض. والحب والبغض بالمعنى الإسلامي الواعي الدقيق، يتضمنان نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى:
ويعتبر الفرد من يحبه مثالاً ومقتدى، بصفته ممثلاً كاملاً للسلوك الإسلامي والكمال البشري. فيحاول الفرد جهد إمكانه أن يحذو حذوه ويقتفي خطاه. حيث لايمكن أن يصل إل الكمال بدون ذلك.
وفي مقابلة من يبغضه الفرد المسلم من المنحرفين والمنافقين. فإنهم مثال للسوء والظلم، يجب الابتعاد عنهم ومغايرة سلوكهم، لكي يمكن للفرد الحصول على الكامال والسلوك الصحيح.
ـــــــــــ
(1) أنظر المصدر المخطوط
صفحة (314)
النقطة الثانية:
إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.
فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح ... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (ع). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.
وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.
ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.
وأخرج الكليني
في الكافي(1) والصدوق في إكمال الدين(2) والنعماني في
الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله
الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(3) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال
وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة.
فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: زالله لأمرنا أبين من هذه
الشمس.
_________________________
(1) أنظر المصدر المخطوط. (2) أنظر المصدر المخطوط. (3) أنظر ص 77.
صفحة (315)
فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق ، كوضوح الشمس المشرقة ، وقيام الحجة فيه على الخلق . فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى ، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف .
ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية ، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام .
* * *
الجهة الرابعة : هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى ، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة ، أو المبادرة إلى الجهاد.
ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى : في محاولة فهم العنوان :
دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة ، على ما سمعنا ، على أن زمان الغيبة الكبرى ، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد . فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث ، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع . أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال ، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان .
دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ (1). وقوله : ﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ (2) .
ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال . بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً ، وأغلب أخبار الخاصة . ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح ، إلا النزر القليل . وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث .
ــــــــــــــــــ
(1) الأنفال : 8 / 60. (2) التوبة 9 / 120 .
صفحة (316)
النقطة الثانية:
إذ يعتبر الفرد المسلم من يحبه مطاعاً في أقواله، واجب الامتثال في أحكامه. لأن أحكامه هي أحكام الإسلام وأقواله تطبيقات لما يرضي الله عز وجل. إذن، فلا يمكن أن يتحقق السلوك الصالح بدون ذلك.
فانظر إلى الجانب العقائدي، كيف يعيش في الحياة متمثلاً في السلوك الصالح ... وإنما حصل التعرض إلى الجانب العقائدي في الأخبار، لا باعتبار اختلاف العقيدة الإسلامية في زمن المهدي (ع). إذ من المعلوم أنه عليه السلام لا يغيّر العقائد والأحكام الرئيسية في الإسلام. وإنما يتصرف فيما دون ذلك.
وعلى أي حال، فنحن الآن غير مسؤولين عن أحكام الهدي (ع) بل يكفينا الاعتقاد بما عرفناه من الإسلام، وإيكال ما يحدث بعد الظهور إلى وقته.
ومن هنا نعرف نعرف أنه لماذا عبر في الخبر عن الأحكام الحالية بالأمر الأول أو ما في اليد، وذلك: بمقايستها إلى أحكام ما بعد الظهور. وكذلك التعبير: بمن كنت تحب ومن كنت تبغض. فإنه بمقايسة من يجب أأن يحبه ويطيعه من أولي الأمر الموجودين بعد الظهور.
وأخرج الكليني
في الكافي(1) والصدوق في إكمال الدين(2) والنعماني في
الغيبة. عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، حين يسأله
الرواي عن تكليفه في زمان الغيبة(3) حين تكثر الفتن ودعاوي الضلال
وتنتشر الشبهات. قال الرواي: فكيف نصنع. قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة.
فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس. قلت: نعم. قال: زالله لأمرنا أبين من هذه
الشمس.
_________________________
(1) أنظر المصدر المخطوط. (2) أنظر المصدر المخطوط. (3) أنظر ص 77.
صفحة (315)
فالمطلوب إسلامياً، هو متابعة خط الأئمة (ع) الذين هم البقاء الأمثل للنبوة والإسلام … باعتبار وضوح ما هم عليه من الحق ، كوضوح الشمس المشرقة ، وقيام الحجة فيه على الخلق . فلا بد من التمسك به والسير عليه خلال الغيبة الكبرى ، لكي ينجو به المسلم من الفتن ويبتعد عن مزالق الانحراف .
ولئن كان هذا الحديث مما لا يومن به إلا القواعد الشعبية الامامية ، فإن الأخبار المتقدمة تعمهم وغيرهم من أبناء الإسلام .
* * *
الجهة الرابعة : هل المطلوب خلال الغيبة الكبرى ، إتخاذ مسلك السلبية والعزلة ، أو المبادرة إلى الجهاد.
ويتم الكلام في هذه الجهة ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى : في محاولة فهم العنوان :
دلنا الوجدان والأخبار الخاصة والقواعد العامة ، على ما سمعنا ، على أن زمان الغيبة الكبرى ، مستغرق بموجات الظلم والانحراف والفساد . فهل من وظيفة الفرد المسلم هو السلبية والانعزال عن الأحداث ، وعدم وجوب إعلان المعارضة ومحاولة تقويم المعوج من الأفراد والأوضاع . أو أن وظيفة الفرد في نظر الإسلام هو العمل الاجتماعي الفعال ، والجهاد الناجز في سبيل الله ضد الظلم والطغيان .
دلت الآيات الكريمة بعمومها على وجوب الجهاد كقوله عز من قائل : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ (1). وقوله : ﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً ، إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ (2) .
ودلت الغالبية العظمى من أخبار التنبؤ بالمستقبل على وجوب السلبية والانعزال . بحيث استغرقت كل أخبار العامة تقريباً ، وأغلب أخبار الخاصة . ولم يكد يوجد من الروايات الآمرة بالمبادرة إلى الجهاد والأخذ بزمام الإصلاح ، إلا النزر القليل . وسنعرض لهذه الأخبار فيما يلي من البحث .
ــــــــــــــــــ
(1) الأنفال : 8 / 60. (2) التوبة 9 / 120 .
صفحة (316)
فأي الوظيفتين تقتضيها القواعد الإسلامية العامة . وهل تقتضي إحداهما على التعيين ، أو تقتضي على الأمرين ، باختلاف الحالات . وكيف يمكن فهم هذه الاخبار على ضوء ذلك . هذا لا بد من بحثه ابتداء بالقواعد العامة ، وانتهاء بالأخبار .
النقطة الثانية : فيما تقتضيه القواعد العامة :
ويمكن أن نعرض ذلك ، ضمن جانبين :
الجانب الأول :
في الأحكام الإسلامية ، على المستوى الفقهي للعمل الإجتماعي أو العزلة .
ينقسم العمل الإجتماعي الإسلامي المقصود به الهداية والإصلاح إلى وجهتين رئيسيتين : أولاهما : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وثانيتهما : الجهاد أو الدعوة الإسلامية . ولكل منهما مجاله الخاص وشرائطهما المعينة .
فالجهاد يتضمن في مفهومه الواعي ، العمل على ترسيخ أصل العقيدة الإسلامية ، إما بنشرها ابتداءً أو الوقوف إلى جانبها دفاعاً ... بأعي عمل حاول الفرد أو المجتمع الوصول إلى هذه النتائج ... سواء كان عملاً سليماً أو حربياً . وإن كان أوضح أفراده وأكثرها عمقاًً ، هو الصدام المسلح بين المسلمين والآخرين .
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فمجاله هو الإطار الإصلاحي للمجتمع المسلم ، مع انحفاظ أصل عقيدته. ومحاولة حفظه عن الإنحراف والتفكك وشيوع الفاحشة ونحو ذلك .
شرائطهما :
وشرائط الامر المعروف والنهي عن المنكر ، عديدة ، فيما ذكر الفقهاء ، تندرج في أمرين رئيسيين :
الأمر الأول :
العلم بالمعروف والمنكر ، فلو لم يكن الفرد عالماً بالحكم الشرعي الإسلامي ، أو لم يكن محرزاً بأن فعل الشخص الآخر معصية للحكم ... لم تكن هذه الوظيفة الإسلامية واجبة .
الصفحة ( 317)
الأمر الثاني :
احتمال التأُير في الفرد الآخر . فلو لم يكن يحتمل أن يكون لقوله أثر ، لم يجب القيام بالأمر والنهي ، فضلاً عما إذا احتمل قيام الآخر بالمعارضة والمجابهة أو إيقاع الضرر البليغ .
ولذلك ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الأمة جميعاً . فقال : لا . فقيل له : ولم ؟ قال : إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر . لا على الضعيف الذي لا يهتدي إلى أي من أي . يقول من الحق إلى الباطل .والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل . قوله : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ . فهذا خاص غير عام (1) .
وكذلك قوله عليه السلام : إنما يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر ، مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم ، فأما صاحب سوط أو سيف ، فلا (2) .
وأما الجهاد فغير مشروط بهذه الشرائط . كيف وإن المفروض فيه التضحية ببذلك النفس والنفيس في سبيل الله تعالى ومن أجل المصالح الإسلامية العليا .وقد أكد القرآن على ذلك في العديد من آياته ،على ما سمعنا قبل قليل ... وفي قوله تعالى : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن .ومن أوفى بعهده من الله . فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين ﴾ (3) .
إذن ، فالجهاد فريضة كبرى لنشر الدعوة الالهية ، داخلة في التخطيط الالهي لهداية الناس ، فيما قبل الإسلام وفي الإسلام ." في التوراة والانجيل والقرآن ". وإنما يقوم به على طول الخط ، أولئك الصفوة ذوي الإخلاص الممحَّص والإيمان الرفيع ... " التائبون العابدون الحامدون الراكعون الساجدون ... " .
ـــــــــــ
(1) وسائل الشيعة جـ 2 ص 533 . (2) المصدر ص 534 . (3) التوبة : 9 / 111 ـ 112 .
الصفحة (318)
وقد ورد عن رسول الله (ص)(1) أنه قال في كلام له : فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه . أن الله أغنى أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها " أي بأسلحتها " .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنه قال : أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فتح الله لخاصة أوليائه ... إلى أن قال : هو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجُنته الوثيقة . فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء ، وديِّث بالصغار والقماءة ، وضرب على قلبه بالأسداد ، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد ، وسيم الخسف ومنع النصف ... الحديث .
وعن الصادق أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : إن الله عز وجل بعث رسوله بالإٍسلام إلى الناس عشر سنين ، فأبوا أن يقبلوا ، حتى أمره بالقتال . فالخير في السيف وتحت السيف . والأمر يعود كما بدأ " يعني عند ظهور المهدي عليه السلام " .
إلا أن الجهاد على أهميته الكبرى في الإسلام ، مشروط بشرطين : الأول : خاص بجهاد الدعوة المتعلق بنشر الإسلام في غير المسلمين . وهو تعلق أمر الولي العصوم به ، كالنبي (ص) أو أحد المعصومين بعده ومنهم المهدي (ع) نفسه .
بخلاف جهاد الدفاع فإنه غير مشروط بذلك . بل يجب عند الحاجة على كل حال .
ولا يفرق في هذا الحكم بين أن يكون الجهاد دموياً أو لم يكن ... بل كان من قبيل الجهاد التثقيفي الإسلامي .
الشرط الثاني : احتمال التأثير ، والوصول إلى النتيجة ،ولو في المدى البعيد .
فلو لم يحتمل الفرد أو المجتمع المجاهد الوصول إلى أي نتيجة أصلاً ... لم يجب الجهاد .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر هذا الحديث وما بعده في الوسائل جـ 2 ص 469 .
الصفحة (319)
وهذا الشرط واضح في الجهاد الدموي ، فإنه لا يكون واجباً مع قصور العدة والعدد . قال الله تعالى : ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً . فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ، بإذن الله ، والله مع الصابرين ﴾ (1). وأما إذا كان الجيش المعادي أكثر من ضعف أفراد الجيش المسلم فلا يجب الجهاد ، باعتبار أن احتمال النصر يكون ضئيلاً .
وأما الجهاد العقائدي التثقيفي ، فهو وإن كان مشروطاً باحتمال التأثير أيضاً ، فإنه إن لم يكن التأثير محتملاً لم يكن هذا الجهاد واجباً ، إلا أن هذا إنما يتصور في الفرد الواحد ، وأما في التثقيف العام للمجتمع ، فهو يقيني التأثير في الجملة ، على عدد من الأفراد قليل أو كثير . فيكون واجباً ، مع توفر شرطه الأول .
فهذه هي وظائف العمل الإجتماعي في الإسلام من الناحية التشريعية الفقهية .
نتائجها :
نستطيع الوصول على ضوء ذلك ، إلى عدة فوائد ونتائج كبيرة . متمثلة في عدة أمور :
الأمر الأول :
إن الجهاد على طول الخط ، في تاريخ البشرية ، مقترون في منطق الدعوة الالهية ، بذوي الإخلاص العالي الممحص ، فإنه ( باب فتحه الله لأوليائه ). لا بمعنى اختصاص وجوبه بهم ، بل بمعنى أن الله تعالى لا يوجد شرائطه في العالم ، إلا في ظرف وجودهم ، بحسب تخطيطه الكبير . فإن مهمة غزو العالم كله ، ونشر العدل المحض فيه ، مهمة كبرى لا تقوم على اكتاف أحد سواهم ، وإلا كان مهدداً بخطر الفشل والدمار .
ولذا حارب النبي (ص) أعداءه وانتصر ،واستطاع أن يبلغ بالفتح الإسلامي مدى بعيداً في الأرض .ولهذا ـ ايضاًـ فشل الفتح الإسلامي حين فقد خصائصه الرئيسية وتجرد الشعب المسلم عما يجب أن يتحلى به من صفات . وبتلك الخصائص سوف يحارب المهدي (ع) وينتصر على كل العالم .
ــــــــــــــ
(1) الأنفال : 8 / 66 .
صفحة (320)
ولكن ينبغي أن نحتفظ بفرق بين أصحاب النبي (ص) وأصحاب المهدي (ع) ، وقد أشرنا إليه فيما سبق : وهو : أن النبي (ص) بُعث في شعب خام غير ممحص الإخلاص قبل ذلك على الإطلاق ولا مر بأي تجربة لنشر العدل ولم يكن همه غير السلب والنهب من القبائل المجاورة . ومن ثم كان المندفعون إلى الجهاد بين يديه (ص) ـ فيما عدا النوادر ـ يمثلون الوهج العاطفي الإيماني وهيمنة القيادة النبوية عليهم ، أكثر مما يمثلون استيعاب القضية الإسلامية من جميع أطرافها وخصائصها .
فلم يكونوا في الأعم الأغلب ، ممحصين ولا واعين ، بالدرجة المطلوبة لغزو العالم كله ... ولو كانوا على هذا المستوى لما بقي العالم إلى الآن يرزخ تحت نير الاستعباد . ولكان النبي (ص) بنفسه هو المهدي الموعود ... كما أشرنا إليه في التخطط الالهي .
ومن ثم رأينا ان هيمنة القيادة النبوية ، حين انحسرت عن المجتمع ، بدأ الوهج العاطفي بالخمود التدريجي . وإن كان قد بقي له من الزخم الثوري ما يبقيه مائتي عام أخرى ، ينطلق من خلاله إلى منطقة ضخمة من العالم . إلا أن الفتح الإسلامي تحول تدريجياً إلى مكسب تجاري (1) ، وفشل عن التقدم في نهاية المطاف .
وهذه النتائج المؤسفة ، يستحيل التوصل إليها ـ عادة ـ لو كان الجيش النبوي ممحصاً وواعياً ، بحسب اتجاهات النفس البشرية وقوانين ترابط الأجيال .
والسر في ذلك ما سبق أن عرفناه ، من أن البشرية عند نزول الإسلام ، كانت مهيئة للشرط الأول من شروط عالمية الدعوة الالهية ... دون الشرط الثاني ، وهو وجود العدد الكافي من ذوي الإخلاص الممحص .
وأما المهدي (ع) فسوف يوجد الله تعالى هذا الشرط في أصحابه ، بعد أن تكون البشرية قد مرت بالظروف القاسية التي تشارك في إيجاد هذا الشرط الكبير .
ومن ثم سوف
يستطيع تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة على العالم بأسره .
_________________________
صفحة (321)
فإن قال قائل : يلزم من ذلك بأن أصحاب المهدي (ع) أفضل من أصحاب النبي (ص) .قلنا : نعم ، الأمر كذلك على الأعم الأغلب . ولا حرج في ذلك . فإن أصحاب المهدي (ع) هم أصحاب للنبي (ص) ومحاربين في سبيل دين النبي (ص) وعدله . وإنما القصور في البشرية التي لم تكن مهيئة لنشر العدل العالمي قبل أن ينتج التخطيط الالهي نتيجته المطلوبة ، وهو إبجاد الشرط الأخير من شرائط الظهور .
الأمر الثاني :
إن الجهاد منوط على طول الخط ... بوجود القائد الكبير الذي له قابلية غزو العالم ونشر العدل فيه . فما لم يتحقق ذلك لا يكون الجهاد واجباً . إلا فيما يكون من جهاد الدفاع الذي لا يكون واجباً على الأمة وإن لم تكون ممحصة ولم تكن لها قيادة .
إلا أن هذا من قبيل الاستثناء لأجل الحفاظ على بيضة الإسلام وأصل وجوده . وقد أثبتت غالب حوادث التاريخ فشل الأمة الإسلامية في حروف الدفاع حال فقدانها للقيادة والوعي . ومن هنا وصل الأمر بنا إلى ما وصل إليه من سيطرة الأعداء ، حتى غزينا في عقر دارنا وأخذ منا طعامنا وشرابنا و وفقد منا استقرارنا وأمننا .
وعلى أي حالة ، ففيما عدا ذلك ، يكون مقتضى القاعدة العامة ، هو إناطة وجوب الجهاد بوجود القائد الذي له أهلية غزو العالم ونشر العدل فيه . ومن هنا كان وجوب الجهاد حاصلاً في عصر النبي (ص) ، وكان مهدداً بالانقطاع التام بعده ، لولا أن القواد المسلمين ، كانوا يحاربون بالوهج العاطفي الذي زرعه النبي (ص) . ومن ثم لم يكن للفتح الإسلامي قابلية الاستمرار أكثر من زمان الوهج ، مع إنعدام التمحيص والقيادة .
وهذه القيادة الكبرى ، هي التي سوف تتجسد في شخص المهدي (ع) ، فيبدأ نشر أطروحته في العالم عن طريق الجهاد ، حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
الأمر الثالث :
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير منوط بوجود القيادة الكبرى ولا الإخلاص الممحَّص ... بل هو مشروع بشكل يشمل الحالات الأخرى .
صفحة (322)
حيث نرى أنه لا يحتاج القيام بهذه المهمة الإسلامية إلا إلى معرفة الحكم الإسلامي مع احتمال إطاعة العاصي وتأثره بالقول . وأما حاجته إلى تضحية مضاعفة أو وعي عالٍ أو إخلاص ممحص ، فغير موجودة ... وهذا واضح .
بل أننا نستطيع أن نفهم من الشرط الذي أنيط به ، وهو توقف وجوبه على عدم الخوف واحتمال الضرر ... وقد سمعنا قول الإمام الصادق عليه السلام : وأما صحاب سوط أو سيف فلا . إن توقفه على ذلك مأخوذ خصيصاً بنظر الاعتبار لكي يواكب النفوس غير الواعية وغير الممحصة ويكون شاملاً لها ، حتى إذا ما خافت الضرر ولم تستطع الصمود ، كان لها في الشريعة المبرر الكافي للانسحاب .
وبهذا يحرز التشريع الإسلامي نتيجتين متساندتين :
النتيجة الأولى :
إن عدداً مهماً من أفراد الأمة ، في عصر التمحيص والامتحان ، يجب عليهم القيام بهذه الوظيفة الإجتماعية الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سواء كان التمحيص قد أنتج فيهم الإخلاص العالي أو لم يكن . وبذلك يحرز الإسلام ـ على الصعيد التشريعي على الأقل ـ حفظ المجتمع المسلم من الإنحدار إلى مهاوي الرذيلة والضلال .
النتيجة الثانية :
إن هذا العدد من أفراد الأمة يكونون ـ بمقتضى قانون التمحيص نفسه ـ واقفين على المحك الأساسي للتمحيص ، من خلال قيامهم بهذه المهمة الإسلامية . فإن تركوها وأحجموا عنها ، فقد فشلوا في الامتحان . وإن قاموا بها أوجب ذلك لهم تكامل الخبرة والتدريب والتربية ، مما يسبب بدروه تحمل المسؤوليات الأكبر والأوسع ، ويضعهم على طريق الإخلاص الممحص والوعي ، في نهاية المطاف .
صفحة (323)
الأمر الرابع :
إن نتائج ترك
الجهاد أهم وأوسع من نتائج ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويكفينا في هذا الصدد ، أن نعرف الأمر على مستويين :
المستوى الأول :
إن الجهاد ... حيث أنه الوظيفة الإسلامية المشرّغى لغزو العالم غير
الإسلامي ، وإرجاع الأراضي الإسلامية السليبة ، فهو أوسع تطبيقاً من الأمر بالمعروف الذي لا حدود له إلا ما كان داخل المجتمع الإسلامي من إنحراف وعصيان .
ومن هنا يكون ترك الجهاد موجباً لسلب الأمة نتائج أضخم ومكاسب أكبر من النتائج والمكاسب المترتبة على الأمر بالمعروف ، كما هو واضح .
المستوى الثاني :
إن الأمر بالمعروف بمنزلة الفرع أو النتيجة أو المسبب عن الجهاد ... وتركه بمنزلة السبب لوجوبه .
وذلك : أنه لا يجب الأمر بالمعروف في منطقة من العالم ، إلا إذا كانت داخلة ضمن حدود البلاد الإسلامية ، فلا بد أن تكون المنطقة قد دخلت في ضمن هذه الحدود أولاً ، ليجب فيها القيام بتلك الوظيفة ثانياً . والغالب أن يكون دخول البلاد إلى حوزة الإسلام ، بالجهاد المسلح . فيكون الجهاد مقدمة لوجوب الأمر بالمعروف ويكون الأمر بالمعروف نتيجة له . حيث تكفلت الوظيفة الإسلامية ، الأولى استاع بلاد الإسلام . وتكفلت الوظيفة الثانية المحافظة على هذه السعة وضمان تطبيق العدل في البلاد المفتوحة الإسلامية .
وأما إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلاد الإسلامية ... فستبدأ بالإنحدار من حيث الإخلاص والشعور بالمسؤولية ، حتى ينتهي بها الحال أن تغزي في عقر دارها وتكون لقمة سائغة لكل طامع وغاصب . كما قال الإمام الرضا (ع) فيما روي عنه (1): لتأمرون بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليهم شراركم(2). فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم . ويتسبب ذلك أحياناً إلى المنطقة الإسلامية بيد القوات الكافرة المستعمرة ، كما حصل في الأندلس وفلسطين .... فيعود الجهاد واجباً لاسترجاعها .فقد أصبح ترك الأمر بالمعروف سبباً لوجوب الجهاد .
ـــــــــــــــــــ
(1) أنظر الوسائل جـ 2 ص 532 وأنظر نحوه في الترمذي جـ 3 ص 317 ، مروياً عن النبي (ص) .(2 يعني يباشرون الحكم فيكم .
صفحة (324)
الأمر الخامس :
نعرف من ذلك كله ، متى تكون العزلة والسلبية واجبة ، ومتى تكون جائزة ومتى تكون محرمة ، بحسب المستوى الفقهي الإسلامي.
فإن العزلة والسلبية ، مفهوم يحمل معنى عدم القيام بالفعاليات الإجتماعية الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فمن هنا تكون العزلة الإسلامية من الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن هنا تكون العزلة محرمة حين يكون ذلك واجباً ، وتكون واجبة حين يكون ذلك حراماً على بعض الوجوه التي نذكرها فيما يلي . وتكون العزلة جائزة إن لم يكن في العمل الإسلامي موجب الوجوب والتحريم .
حرمة السلبية :
فحرمة السلبية ، إنما تتأنى من وجوب المبادرة إلى ميادين العمل الإسلامي ...
أما بالقيام بالجهاد على مستوييه : المسلح وغير المسلح ، مع اجتماع شرائطه . وأما بالقيام بالأمر بالمعروف ومحاولاً الاصلاح في المجتمع الإسلامي ، على مستوييه المسلح وغيره ، عند اجتماع شرائطه ... وخاصة غير المسلح منه ، الذي هو الأعم الأغلب منه .
وعلى أي حال ، فإذا وجب العمل الإسلامي حرمت العزلة ، وكانت عصيانا وانحرافاً إسلامياً خطيراً . وتكتسب أهميتها المضادة للإسلام ، بمقدار أهمية العمل الإسلامي المتروك .
ومن ثم كان ترك الجهاد عند وجوبه ، والفرار من الزحف من أكبر المحرمات في الإسلام ...طبقاً لقوله تعالى: ﴿ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ،فقد باء بغضب من الله،ومأواه جهنم وبئس المصير﴾ (1) . كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند وجوبه حرام إسلامياً ، مؤذن بالعقاب ، كما ورد عن النبي (ص) : إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فليأذنوا بوقاع من الله . وعنه (ص) أنه قال : لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر ، فإذا لم يفعلوا ذلك ، نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء . ومعنى أنه لا ناصر لهم في السماء : ان الله تعالى لا يرضى بفعلهم ولا يقره .
ــــــــــــــــ
(1) الانفال : 8 / 16 .
صفحة (325)
وجوب السلبية :
وتكون العزلة والسلبية واجبة ، عندما يكون ترك العمل الإسلامي واجباً ، والمبادرة إليه حراماً . وذلك في عدة حالات :
الحالة الأولى :
القيام بالجهاد الاسلامي بدون إذن الامام أو القائد الاسلامي أو رئيس الدولة الاسلامية ... فان ذلك غير مشروع في الاسلام ، كما ينص عليه الفقهاء ، سواء كانالقائد غافلاً أو ملتقياً ... فضلاً عما إذا كان العمل موجهاً ضد الامام أو الدولة ، سواء كان عسكرياً أو غيره .
ونحن نفهم بكل وضوح ، المصلحة المتعلقة بهذا الاشتراط . فان القائد الاسلامي أبصر بمواضع المصلحة وموارد الحاجة إلى الجهاد من الفرد الاعتيادي ، بطبيعة الحال وبذلك يكون عمله أدخل في التخطيط الالهي العام لهداية البشر ، من عمل غيره . بل قد يكون عمل غيره هداماً مخرباً ، كما سيأتي في الجانب الثاني من هذه النقطة الثانية .
الحالة الثانية :
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيما إذا لم يكن يحتمل التأثير ، وكان مستلزماً مع الضرر البليغ أو إلقاء النفس في التهلكة . فان هذا الأمر والنهي يكون محرماً وحرمته مطابقة مع القواعد العامة ، فان معنى الاشتراط بعدم الضرر، هو سقوط الوجوب معه ، فلا تكون هذه الوظيفة الاسلامية بلازمة . فان كان الضرر بليغاً ن كان المورد مندرجاً في حرمة القاء النفس في التهلكة أو حرمة التنكيل . فيكون محرماً .وإذا حرم الأمر بالمعروف، كانت العزلة والسلبية المقابلة له واجبة .
صفحة (326)
وهذا التشريع واضح المصلحة بالنسبة إلى الممحصين وغيرهم . أما الممحصين فباعتبار أ، التضحية وتحمل الضرر في مورد يعلم بعدم ترتب الأمر أو تغيير الواقع ، تذهب هذه التضحية هدراً ، بحيث يمكن صرفها في مورد أهم من خدمات الاسلام . وأما بالنسبة إلى غير الممحصين فلنفس الفركة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ضحالتهم في قوة الارادة وضعفهم في درجة الايمان .
الحالة الثالثة :
فيما إذا كانت العزلة أو السلبية ، تتضمن مفهوم المقاومة أو المعارضة أو الجهاد ضد وضع ظالم أو أساس منحرف ... فأنها تكون واجبة بوجوب الجهاد نفسه .
وتكون في واقعها عملاً اجتماعياً متكاملاً ... ولكن أن تكون مخططاً مدروساً وطويل الأمد ، يختلف باختلاف الظروف والأهداف المتوخاة من وراء هذه العزلة .
وتندرج هذه السلبية ، بالرغم من مفهومها السالب الخالي عن الحركة ، تحت أهم أعمال الجهاد . قال تعالى: ﴿ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ف يسبيل الله ، ولا يطؤن موطئاً يغيط الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح . ان الله لا يضيع أجر المحسنين﴾(1) . إذن فالمراد في صدق مفهوم الجهاد والعمل الصالح ، هو إغاضة الكفار والنيل من أعداء الحق ، سواء كان ذلك بعمل إيجابي حركي أو بعمل سلبي ساكن .
كما قد تندرج السلبية في مفهوم الأمر بالمعروف أو النهي عن المننكر ... إذا كانت مما يترتب عليها الاصلاح في داخل المجتمع الاسلامي أو تقويم المعوج من أفراده ، فتكون واجبة بوجوب هذا الأمر والنهي .
ولعل من أهم أمثلة قوله تعالى : ﴿واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع﴾(2) . فان هذا الهجران نوع من السلبية لأجل نهي الزوجة العاصية الناشز عن ما هي عليه من العمل المنكر ضد زوجها .
وكم قد عملت السلبية في التاريخ أعمالاً كبرة وبعيدة الأثر ، قد تعدل الأعمال الايجابية ، بل قد تفوق بعضها بكثير . _____________
_________________________
(1) التوبة : 9/120 . (2) النساء : 4/34 .
صفحة (327)
الحالة الرابعة :
ما إذا خاف
الفرد على نفسه الانحراف ، واحتمل اضطراره إلى الانزلاق تحت إغراء مصلحي أو ضغط
ظالم أو اتجاه عقائدي لا إسلامي .
فأنه يجب على الفرد – في مثل ذلك- أن يجتنب السبب الموجب للانحراف ، يعتزل عنه
، لكي يحرز حسن عقيدته وسلوكه.وتكون الحالة إلى هذه العزلة ملحة ، فيما إذا لم
يجد الفرد في نفسه القوة الكافية لمكافحة التيار المنحرف أو التضحية في سبيل
العقيدة .
إلا أن هذه العزلة لا يجب أن تكون كلية ومطلقة ، بل الواجب هو اعتزال التيار الذي يخاف المكلف من هعلى نفسه أو دينه . وأما اعتزال المجتمع بالكلية ، فهذا غير لازم بل غير جائز إسلامياً ، إذا كانت هناك فرص للعمل الاسلامي الواجب ، من جهات أخرى .
جواز السلبية :
وأما موارد اتصاف السلبية بالجواز ، فهو كل مورد كان العمل الاجتماعي الاسلامي جائزاً أو كان تركه جائزاً أيضاً. فيكون للمكلف أن يقوم به ، أو أن يكون معتزلاً له وسلبياً تجاهه .
إلا أن الغالب هو عدم اتصاف العمل الاسلامي بالجواز ، بل يكون-عند عدم اتصافه بالوجوب- راجحاً أو مستحباً . فتكون العزلة المقابلة له مجرومة ومخالفة للأدب الاسلامي العادل .
وعلى أي حال ، فقد استطعنا أن نحمل فكرة كافية على صعيد الفقه الاجتماعي ،عن العمل والعزلة في نظر الاسلام، من حيث الوجوب والحرمة والجواز . وبذلك ينتهي الكلام في الجانب الأول .
* * *
الجانب الثاني :
من الحديث عن العزلة أو الجهاد ، في ارتباط هذه الأحكام الاسلامية بالتخطيط الالهي العام للبشرية ، وبقانون التمحيص الالهي .
عرفنا فيما سبق ، ما للظلم ولظروف التعسف التي يعيشها الأفراد ، من أثر كبير في تمحيصهم وبلورة عقيدتهم ، ووضعها على مفترق طريق الهداية والضلال .
صفحة (328)
وينبغي أن نعرف الآن ، أن الظلم لا يحدث ذلك مباشرة ... كيف وان مدلوله المباشر ومقصوده الأساسي ، هو سحق الحق وأهله . وإنما يوجب ذلك باعتبار الصورة التي يحملها الفرد المسلم في ذهنه عنه ورد الفعل الذي يقوم به تجاهه نفسياً أو عملياً . ويكون ذلك على عدة مستويات :
المستوى الأول :
أخذ العبرة من الظلم عقائدياً وتطبيقياً . والنظر إليه كمثال سيء يجب التجنب عنه والتحرز عن مجانسته .
فان الظلم بما فيه من فلسفات وواجهات ، وبما له من أخلاقية خاصة وسلوك معين ، سوف لن يخفي نفسه ولن يستطيع ستر معايبه ونقائضه . بل سوف تظهر متتالية نتيجة للتمحيص ... أساليب الظلم والاعيبة وما يبتني عليه من خداع ونقاط ضعف .
وحسبنا من واقعنا المعاصر أن نرى أن صانعي هذه المبادئ ، يحاولون تطويرها وتغييرها ، وإدخال التحسينات والترميمات عليها من بين حين وآخر ، حتى لا تنكشف نقائصها ، ولا تفتضح على رؤوس الاشهاد . إذن فأي مستوى معين من الفكر المنحرف لو بقي بدون ترميم لكانت التجربة والتمحيص ، أو تطور الحضارة البشرية- على حد قولهم- كفيلاً في فضح نقائضه وإثبات فشله .
المستوى الثاني :
إتضاح فساد الأطروحات المتعددة التي تدعي لنفسها قابلية قيادة العالم وإصلاحه ... اتضاحاً حسياً مباشراً . ولا زالت البشرية تتربى – تحت التخطيط الالهي – وتندرج في هذا الادراك ، وإن بوادره في هذا العصر لأوضح من أن تنكر ... بعد أن أصبح الفرد الاعتيادي يائساً من كل هذه المبادئ من أن تعطيه الحل العادل الكامل لمشاكل البشرية.
وقد أشير إلى ذلك في الأخبار بكل وضوح . روى النعماني(1) بسنده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : ما يكون هذا الأمر "يعني دولة المهدي (ع)" حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس "يعني باشروا الحكم فيهم" حتى لا يقول قائل : إنّا لو ولينا لعدلنا. ثم يقوم القائم بالحق والعدل .
___________________________
(1) الغيبة ص 146 .
صفحة (329)
وفي رواية أخرى(1) : إن دولتنا آخر الدول . ولم يبق أهل بين لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا ، لو ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء . وهو قول الله عز وجل : ﴿والعاقبة للمتقين﴾ .
وسنشبع هذه الجهة بحثاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة .
المستوى الرابع :
ما يترتب على هذا اليأس من إدارك وجداني متزايد ، للحاجة الملحة العالمية الكبرى للحل الجديد والعدل الذي يكفل راحة البشرية وحل مشاكلها .
وهذا شعور موجود بالفعل ، بين الغالبية الكبرى من البشر على وجه الأرض ، بمختلف أديانهم ولغاتهم وتباعد أقطارهم . فانظر إلى التخطيط الالهي الرصين الذي ينتج الانتظار للحل الجديد ، من حيث يعلم الأفراد أو لا يعلمون.
المستوى الخامس :
إدراك مميزات العدل الاسلامي والعمل الاسلامي والقيادة الاسلامية ، عند مقارنة نقائه وخلوصه وشموله بالمبادئ المنحرفة والاتجاهات المادية . فيتعين أن يكون هو الحل العالمي المرتقب .
ويزداد هذا الادراك وضوحاً ، كلما تعلق الفرد بالمقارنة والتدقيق والتقيد العلمي . فتبرهن لديه بوضوح أن الأطروحة العادلة الكاملة الضامنة لامتلاء الأرض قسطاً وعدلاً ، هي الاسلام وحده . وللتوسع في هذه البرهنة مجالات أخرى غير هذا الحديث .
المستوى السادس :
الدربة والتربية على الاقدام على التضحية في سبيل الحق ...ذلك الذي ينتجه العمل الاسلامي ، كما سبق أن أشرنا، عن طريق التمحيص الاختياري والاضطراري للأفراد ، وانتقال التمحيص عن طريق قانون تلازم الأجيال .
_______________
(1) أعلام الورى ص 432 .
صفحة (330)
إذا عرفنا ذلك ، فيحسن بنا أن نرى أن أحكام العزلة والجهاد والأمر بالمعروف التي عرفناهنا ، ماذا تؤثر في هذا التخطيط ، على تقدير إطاعتها ، وعلى فرض عصيانها ، وهذا ما نعرض له فيما يلي :
أما الفرد المسلم الذي له من الاخلاص والايمان ما يدفعه إلى إطاعة أحكام الاسلام وتطبيقها في واقعه العملي ، فيندفع حين يريد منه الاسلام الاندفاع إلى العمل ويعتزل حين يريد منه الاسلام السلبية والاعتزال .
... فهذا هو الفرد الذي سيفوز ، بالقدح الأعلى والكأس الأوفى من النجاح في التمحيص الالهي ، ويشارك في إيجاد شرط الظهور في نفسه وغيره .
فإن هو اتصل بالمجتمع ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحاول الاصلاح في أمة الاسلام ... فانه سيشعر عنكثب بفداحة الظلم الذي تعيشه هذه الأمة خاصة والبشرية عامة . وسينقل هذا الشعور إلى غيره ، ويطلع الآخرين بأن أفضل حل لذلك هو تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة المتمثلة بالاسلام .
وإن هو جاهد ، عند وجوب الجهاد أو مشروعيته .. فهذه الوظيفة الاسلامية الكبرى ، تحتوي – كما عرفنا – على جانبين رئيسيين : جانب تثقيفي وجانب عسكري .
فإذا عرفنا أن الجانب التثقيفي ، ليس هو مجرد طلب التلفظ بالشهادتين ، من غير المسلمين . بل هو متضمن – على ما ينص عليه الفقهاء – عرض محاسن الاسلام ، بمعنى إظهار جوانب العدل فيه واثبات أفضليته من النظم الأخرى سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعقائدياً واجتماعياً وأخلاقياً ... ونحو ذلك ... إذا عرفنا ذلك ، استطعنا ان نفهم كيف أن الفرد المخلص لدى الجهاد التثقيفي وإن المفكر الاسلامي لدى البحث عن بعض جوانب الاسلام ... يندفع في تطبيق التخطيط الالهي من حيث يعلم أو لا يعلم .
فإن المفكرين الاسلاميين ، يسيرون بأنفسهم نحو الكمال ... أولاً .
ويثقفون غيرهم من أبناء أمتهم الاسلامية ... ثانياً . ويطلعون غير المسلمين على الواقع العادل للاسلام ...ثالثاً . وينفون الشبهات الملصقة بالاسلام ...رابعاً . ولك ذلك مشاركة فعالة فعلية في التخطيط الالهي وفي إيجاد شرط الظهور . فان لهذا الجو الثقافي الاسلامي الأثر الكبير في فهم المسلمين لأطروحتهم العادلة الكاملة ، واستعدادهم للدفاع عنها ، ونجاحهم في الصمود تجاه التيارات المنحرفة وحصولهم على الاخلاص الممحص في نهاية المطاف .
صفحة (331)
وأما العمل العسركي ، فقد ذكرنا أن ما يمت إلى جهاد الدعوة بصلة لا يشرع وجوده في أيام التمحيص وفقدان الامام . كيف وهو لا يقوم به إلا الأفراد الممحصون ، كما عرفنا . إذن فهذا الجهاد لا يكون إلا نتيجة للتمحيص ، فلا يمكن أن يكون مقدمة له وسبباً لوجوده .
وأما العمل العسركي الدفاعي ، فهو بوجوبه على غير الممحصين الواعين ، يعطيهم درساً قاسياً في تحمل الضرر من أجل الاسلام ، والتضحية في سبيل الله ... ويربيهم عن طريق هذه التجربة تربية صالحة . من حيث أن فكرة وجوب حفظ بيضة الاسلام وأصل كيانه ، واضحة في أذهانهم .
كما أنه يكون محكاً لامتحان الآخرين الذين يتخاذلون عن الدفاع عن الاسلام ويعطون الدنية من أنفسهم للمستعمر الدخيل ، أو يحاربون تحت شعارات لا إسلامية ... فيفشلون في التمحيص الالهي فشلاً مؤسفاً ذريعاً .
فإن أفاد الدفاع وانحسر المد الكافر ، فقد انتصرت التضحية في سبيل الله تعالى ، وتكلل العمل الاسلامي الكبير بالنجاح . وإن خسرت الأمة ذلك وسقطت بين المستعمر الدخيل ، بدأت سلسلة جديدة من حوادث التمحيص والاختبار الالهي ، التي تتمثل بما يقوم به المتسعمر من ظلم وتعسف وما يدسه من تيار فكري ونظام اقتصادي غريب عن الاسلام . وما يكون لأفراد الأمة من ردور فعل تجاه هذا الظم الجديد . فقد ينجح في التمحيص أقوام وقد يفشل آخرون . طبقاً للقانون العام ...
وعلى أي حال ، فالعمل الإجتماعي الاسلامي بقسميه الرئيسيين : الجهاد والأمر بالمعروف ، مشاركة فعالة في التخطيط والتمحيص الالهيين . وهما المحك فشل أعداد كثيرة من المسلمين يتخلفون عن هذا الواجب المقدس وتتقاعس عنه ، فشل في الامتحان وتخرج عن غربال التمحيص ... فتبوء بالذل والخسران .
وأما العزلة ، فإن كانت تتضمن تركاً للعمل الاجتماعي الواجب في الاسلام ، فهي العصيان والانحراف بعينه . وبها يثبت فشل الفرد في الامتحان الإلهي وأما إذا كانت العزلة ، منسجمة مع التعاليم الاسلامية ، واجبة أو جائزة ... فتكون داخلة ضمن التخطيط الالهي لا محالة ، باعتبار ان إدخالها في التشريع يراد به جعلها مشاركة في تنفيذ هذا التخطيط الكبير . وتكون مشاركة الفرد فيها منتجة لعدة نتائج مقترنة مترابطة .
صفحة (332)
النتيجة الأولى :
انسجام عمل
الفرد مع متطلبات التخطيط الالهي ومصالحه .فان العزلة إنما شرعت لمصالح تعود
إلى هذا التخطيط، فيكون امتثال المكلف لوجوبها مشاركة حقيقية ، فيما يراد
انتاجه من المصالح في إيجاد شرط الظهور .
بخلاف ما لو لم يعتزل ، كما لو جاهد بغير إذن أو أمر بالمعروف مع احتمال الهلاك
، فانه يكون من الفاشلين في التمحيص ، فيسقط رقمه من المخلصين الممحصين ... من
حيث أراد العمل الاسلامي .
النتيجة الثانية :
النجاح في التمحيص ، فان المعتزل للعمل حين يراد منه الاعتزال ، يكون قائماً بوظيفته العادلة الكاملة ، ويكون ذلك سبباً لنجاحه في التمحيص ، من حيث كونه صابراً على البلاء محتسباً عظيم العناء .
لكننا يجب أن نلاحظ في هذا الصدد نقطتين مقترنتين :
الملاحظة الأولى :
إن العزلة ، وإن كانت مطابقة للتعاليم والتخطيطات الالهية عند مطلوبيتها ، إلا أن أثرها في إيجاد الاخلاص العالي والواعي في نفس الفرد ، لا ينبغي أن يكون مبالغاً فيه . فان العزلة ، على أي حال ، تعني السلبية والانسحاب ، والسلبية – في الأعم الأغلب – تعني الراحة والاستقرار . ومن الواضح جداً أن الفرد لا يتكامل إخلاصه ووعيه الاسلامي ، إلا بالعمل والتضحية ومواجهة الصعوبات ، لا بالراحة والاستقرار . أو على الأقل ، سيكون تكامل الفرد في حال السلبية أبطأ منه في حال العمل ... في الأعم الأغلب .
ومن هنا نرى الاسلام يمزج في تشريعه بين العزلة حيناً والعمل أحياناً . لكي تكون إطاعة المكلف على طول الخط سبباً لتمحيصه ... عاملاً او معتزلاً .فان العزلة مع استشعار كونها طاعة لله ومع استعداد الفرد في أي وقت للتضحية والفداء ... تشارك مشاركة فعالة في نجاح الفرد في التمحيص .
صفحة (333)
الملاحظة الثانية :
إن العزلة عند مطلوبيتها ، تكون منتجة للتمحيص بالنسبة إلى الفرد المنعزل خاصة دون غيره . بخلاف العمل ، حين يكون مطلوباً ، فانه ينتج تمحيص الفرد القائم بالعمل وغيره .
ومن هذا الفرق إلى الفرق بين المفهومين ، في أنفسهما ، فان العمل حيث يعني الاتصال بالغير بنحو أو بآخر ، فأنه يجعل كلا الطرفين تحت التمحيص ، ليرى من يحسن السلوك فينجح ومن يسيئوه فيفشل .
وأما العزلة ، فحيث أنها لا تتضمن طرفاً آخر ، بل تقتضي الابتعاد عن الغير ، في حدودها ، فلا تكون منتجة للتمحيص إلا للفرد المعتزل نفسه .
النتيجة الثالثة :
حفظ النفس عن القتل من دون مبرر مشروع . كالذي يحدث فيما لو جاهد في مورد النهي الشرعي عن الجهاد ، أو أمر بالمعروف في مورد الضرر البليغ ... أو تابع المنحرفين فأدى به انحرافه إلى القتل ... أو غير ذلك .
ومن المعلوم ما في حفظ النفس من الأهمية ، لا باعتبار أصل تشريعه ، وإن كان مهمّاً جداً ، بل باعتبار دخله في التخطيط الالهي لليوم الموعود . فان قوانين التمحيص إنما تكون مطبقة في العالم عند وجود الأفراد وقيامهم بالسلوك المعين الذي يربيهم ويحملهم على التكامل . وأما إذا أهلك الفرد أو عدد من الأفراد أنفسهم في غير الطريق الصحيح ، فمضافاً إلى أنهم سيبوءون بالفشل في التمحيص ، فأنهم يتسببون إلى قلة الأفراد الممحصين ، ومن ثم الناجحين في التمحيص منهم .
إذن فلا بد من الحفاظ على النفس ، لكي تتعرض للتمحيص ، فلعلها تكون من الناجحين ، وتشارك في إيجاد شرط الظهور .
وهذا هو المفهوم الواعي والغرض الأعمق للتقية الواجبة ، المنصوص عليها في القرآن وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام . وسنعرف عنها بعض التفصيل في النقطة الثالثة الآتية .
صفحة (334)
* * *
وبهذا استطعنا أن نلم بمفهوم العزلة ونتائجه .وعرفنا أن المراد منها ليس هوالانصراف التام عن المجتمع والاعتكاف في الزوايا ... كيف وان العمل الاجتماعي قد يكون واجباً في الاسلام ،فتكون هذه العزلة من المحرمات.
بل المراد منها اعتزال العمل الاجتماعي غير الواجب او العمل المحرم . والعزلة في موارد مطلوبيتها تشارك في المنهج العام للتخطيط الالهي لايجاد شرط الظهور . كما سبق أن فصلنا .
وعلى أي حال ، فالاندفاع في أي من المسلكين : العمل والعزلة ، إلى نهاية الشوط غير صحيح ، وإنما الصحيح هو قصر السلوك على مقتضيات العدل ومتطلبات الاسلام فان كان العمل واجباً كان على الفرد أن يعمل وإن كانت العزلة واجبة كان على الفرد أن يعتزل ، ليكون بهذا السلوك ناجحاً في التمحيص محققاً في نفسه شرط الظهور .
وبهذا انتهى الكلام في النقطة الثانية ، فيما تقتضيه القواعد العامة من الالتزام بالجهاد أو بالعزلة .
النقطة الثالثة :
فيما دلت عليه الأخبار الخاصة من التكليف خلال الغيبة الكبرى ، تجاه ما يكون فيها من الانحرافات وأنواع الظلم والفساد .
وأكثرها – كما أشرنا فيما سبق – دال على لزوم العزلة والابتعاد عن الناس وترك الأقوال والنشاط على المستوى الاجتماعي .وسنرى فيما يلي مقدار مطابقتها للقواعد العامة التي عرفناها . فان استطعنا أن نفهم لها وجهاً صحيحاً منسجماً مع ما سبق أخذنا بها ، وإلا اضطررنا إلى ترك الرواية المخالفة للقواعد ، وخاصة بعد التشدد السندي الذي التزمناه .
صفحة (335)
القسم الأول :
وهذه الأخبار ذات مضامين ومداليل مختلفة ، فنقسمها بهذا الاعتبار إلى أقسام
في الفتنة التي فيها القاعد خير من القائم .
أخرج الصحيحان(1) بلفظ واحد عن رسول الله (ص) أنه قال : ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . من تشرف لها تستشرفه . ومن وجد فيها ملجأ فليعُذ به . وذكر كل من الشيخين لها أكثر من سند واحد .
وأخرج مسلم (2) عنه (ص) : أنها ستكون فتن . الا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها . الا فإذا نزلت أو وقعت ، فمن كان له أبل فليلحق بابله ، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بارضه .. الحديث . وذكر له سندين .
وقد أخرج غيرهما من أصحاب الصحاح ، هذا المضمون غير أننا نقتصر عليهما فيما أخرجاه . وهو مضمون اقتصر إخراجه على مصادر إخواننا أهل السنة ، ولم نجد في المصادر الإمامية له ذكراً .
ولفهم هذه الأخبار أطروحتان ، بعد العلم أن الفتن قد يراد بها التمحيص والإختيار ، وقد يراد بها النتيجة السيئة للتمحيص أعني الكفر والإنحراف . وكلاهما من معانيها اللغوية . وقد جاء طبقاً للمعنى الأول قوله تعالى : "وفتناك فتوناً "(3) وقوله : "وظن داود إنما فتناه" (4) . وطبقاً للمعنى الثاني قوله تعلى : "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "(5) . وقوله:"إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم" (6).
____________________
(1) أنظر البخاري ، جـ 9 ، ص 94 . ومسلم ، جـ 8 ، ص 168. (2) جـ 8 ، ص 169 . (3) طه . 20/40 .
(4) ص 38/24 . (5) المائدة : 5/49 . (6) البروج : 85/10 .
صفحة (336)
ولكن المعنى الأول ن غير مراد من هذه الروايات جزماً ، إذ لا معنى للتخلص والإنعزال عن التمحيص ، بعد كونه قانوناً منطبقاً على كل البشر ، في التخطيط الإلهي . فيتعين أن يراد بالفتن المعنى الثاني ، وهو الكفر والإنحراف . وطبقاً لهذا المعنى يكون في فهم هذه الروايات أطروحتان :
الأطروحة الأولى :
أن النبي (ص) يشير غلى زمان مسقبل بالنسبة إلى عصره ، تحدث فيه الفتن .
وينصح المسلمين بالإنصراف عنها والإنعزال عن تيارها والقعود عن العمل معها أو ضدها .. بل اللازم هو اللجوء إلى ملجأ أو الخروج إلى البوادي والأطراف هرباً من التدخل في الفتنة .
وإذا صحت هذه الأطروحة ، تكون هذه الأخبار ، موافقة للقواعد العامة التي عرفناها عند وجوب العزلة ، ومخالفة لها عند وجوب العمل والجهاد حيث نرى هذه الأخبار تأمر بالعزلة على كل حال .
الأطروحة الثانية :
أن النبي (ص) يشير غلى الفتن نفسها ، بقوله : ستكون فتن . لا إنه يشير إلى الزمان الذي تقع فيه ، كما هو الوجه في الأطروحة الأولى . فإنه لا ذكر للزمان في هذه الروايات أصلاً . فيكون المراد : أن القاعد عن تأجيج الفتن وإثارتها والمشاركة فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي ، كلما كانت أقل ، كان أفضل .
ومعه يكون مضمونها صحيحاً ومطابقاً للقواعد . فان المشاركة في الفتنة مستلزم للإنحراف والفساد لا محالة ، وهو مما لا يرضاه النبي (ص) لأمته ، وينصح بالتجنب عنه . وهذا في غاية الوضوح . ومعه تخرج هذه الروايات عن كونها آمرة بالعزلة . وإنما هي تأمل بالإنعزال عن الفتن بل على وجوبه . فإن هذا العمل قد يكون هو الملجأ الوحيد للتخلص من الفتن . وقد أمر (ص) أن : "من وجد فيها ملجأ فليعُذ به" .
صفحة (337)
وعلى هذه الأطروحة عدة قرائن مرجحة لها من عبائر هذه الأحاديث الشريفة :
القرينة الأولى :
قوله (ص) : من تشرف لها تستشرفه .
فإن المراد أن من تعرض للفتن أثرت الفتن عليه وجرفته بتيارها . يقال : تشرف للشيء إذا تطلع إليه . واستشرف : إنتصب . ومن المعلوم أن الغالب من أفراد الأمة ، ممن لا عمق له في التفكير ، ولا دقة في النظر ، بمجرد اطلاعهم على المذاهب والفلسفات اللاإسلامية ، تنتصب هذه المذاهب في أذهانهم ، بمعنى أنهم يرون لها هيبة وهيمنة ،ويكونون في طريق الإعتراف بها والتصديق بمضمونها .. فيؤدي ذلك بهم إلى الإنحراف عن الإسلام.
وأما العمل الذي يعطي للفرد والآخرين المناعة عن الفتن الكافية للإضطهاد ومناقشتها ، فهو من أعظم الأعمال الإسلامية ، ومما لا تنفيه هذا الروايات ، طبقاً لهذه الأطروحة .
القرينة الثانية :
قوله : الساعي إليها .
فان السعي إليها منضمن للتعرض لها والسير في ركابها . ومنه نعرف أن المراد مما سبقه من القيام في الفتنة والمشي فيها هو ذلك أيضاً . ومعه لا يكون لها أي تعرض للنهي عن العمل ضدها أصلاً .
القرينة الثالثة :
قوله : من وجد فيها ملجأ فليعُذ به ، بعد أن تفهم أن (في) بمعنى (من) فكأنه قال :من وجد منها . ولا شك أ، المراد هو ذلك على أي حال .
والوجه في هذه
القرينة : أن الملجأ لا ينبغي أن نفهم منه خصوص المكان المنزوي أو البعيد ، بل
نفهم منه كل منقذ من الفتنة وما هو مبعد عنها . ومن المعلوم أن الإرتباط بأهل
الحق ، واتخاذ العمل الإسلامي ، خير ملجأ ضد تيارات الفتن والإنحراف .
نعم ، لو انحصر حال الفرد في النجاة من الفتنة أن يفر عنها ويبتعد منها ، وجب
عليه ذلك ، بأن يلحق بالأرياف إذا كان له فيها غنم أو إبل ! بتعبير الرواية .
صفحة (338)
ولعل سبب التركيز على هذا الشكل من السلوك ، في هذه الأحاديث . هو أن أغلب أفراد الأمة الإسلامية في أغلب عصور الغيبة الكبرى ، جاهلون بتفاصيل الشرع الإسلامي وعدم العمق فيه عمقاً يعطي المناعة الكافية عن الإنحراف والتأثر بالمبادئ الغريبة والآراء المريبة . إذن يكون الواجب على الفرد إذ يشعر بمسؤولية صيانة نفسه من ذلك كله .. أن يعتزل المجتمع ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل دينه .. وإن ألقى به الإعتزال في الريف . وهذا حكم صحيح على القاعدة ، كما ذكرنا في الصورة الرابعة للعزلة .
وهذا لا يعني ، أن الفرد المسلم الذي يجد من نفسه قوة في الصمود وقابلية على مجابهة التيار الظالم ، يجب عليه أيضاً أن يعتزل . كلا . بل يجب عليه أن يعمل وأن يخطط لأجل إعلاء كلمة الله وترسيخ الفهم الإسلامي في نفوس الآخرين .
القسم الثاني :
ما دل من الأخبار على عدم المشاركة في القتل ، بل تحمله من الغير ، وإن كان قاتلاً ظالماً .
أخرج إبن ماجة (1) وأبو داود (2) عن أبي ذر ، بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة في حديث قال : قلت : يا رسول الله، أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذن ! ولكن أدخل بيتك . قلت يا رسول الله ، فإن دخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق طرف ردئك على وجهك ، فيبوء بإثمه وإثمك ، فيكون من أصحاب النار .
وأخرجا(3) أيضاً بلفظ متقارب واللفظ لإبن ماجة ، قوله في حديث عن الفتن : فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم وأضربوا بسيوفكم الحجارة . فإن دخل على أحدكم ، فليكن كخير ابني آدم .
_______________________
(1) جـ2 ، ص1308 . (2) جـ2 ، ص 417 . (3) ابن ماجة ، جـ2 ، ص 1310 ، وأبو داود ، جـ2 ، ص 416 .
صفحة (339)
وأخرج الترمذي (1) في حديث بنفس المضمون قال : أفرأيت إن دخل على بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : كن كإبن آدم .
وفي هذه الأحاديث إشارة واضحة إلى قوله تعالى : (واتل عليهم نبأ إبني آدم بالحق ، إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . قال : لأقتلنك . قال : إنما يتقبل الله من المتقين . لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين . إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ،فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين )(2) .
لم نجد هذا المضمون ، في الصحيحين ، ولا في أخبار المصادر الإمامية .
والمدلول العام لهذه الروايات ، هو وقوع القتال في داخل المجتمع المسلم بعد رسول الله (ص) نتيجة للفتن والإنجراف . فيكون من وظيفة المسلم يومئذ ، عدم المشاركة في القتال إلى جنب أي من الفريقين . بل يجب عليه أن يعتزل ويدخل بيته . فإن دخل عليه المقاتلون في جوف بيته ، وجب عليه أن يستسلم للقتل من دون مقاومة . ويكون حاله حال المقتل من إبني آدم الذي يبسط يده لقتل أخيه . وقد مدحه الله تعالى في محكم الكتاب .
إلا أنه لا بد
لنا من رفض هذا المضمون جملة وتفصيلا ، لمعارضته لضرورة الشرع والعقل .
(1) جـ3 ، ص 329 . (2) المائدة : 5/27-29 .
صفحة (340)
فإن الفرد المسلم إذا رأى الحرب قائمة في المجتمع المسلم بين فئتين مسلمتين .. فإن حاله من حيث الإقتناع الوجداني النابع مما يعرفه من قواعد الأمر الأول :
أن يعمل ان أحد الفريقين إلى جانب الحق والآخر إلى جانب الباطل . كما لوكان الرئيس الشرعي للدولة الإسلامية، يحارب فئة باغية عليه منحرفة عنه .. ففي مثل ذلك يجب على المكلف الإنضمام إلى طرف الحق ضد الباطل . طبقاً لقوله عزمن قائل : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )(1) .وإنما يتحقق البغي فيما إذا كان أحد الطرفين المتحاربين يستهدف هدفاً باطلاً. ومن ضرورة الشرع والعقل وجوب محاربة الباطل وحرمة نصرته.
الأمر الثاني :
أن يعلم الفرد أن الحق مجانب لكلا الفريقين ، وأن كليهما ينصر مذهباً باطلاً ويدافع عن هدف منحرف ، أو – على الأقل – يشك في ذلك ويحتمله احتمالاً . وفي مثل ذلك لا يجوز له نصرة أي من الفريقين ، كما هو واضح . فان نصرة أي منهمانصرة للإنحراف والضلال ، يقيناً أو احتمالا ... وكلاهما محرم في الإسلام .
ومدلول هذه الروايات ، من حيث وجوب الإعتزال عن كلا الفريقين ، لو حمل على ذلك بالخصوص ، لكان أمراً صحيحاً . ولعل هذا هو مراد النبي (ص) من قوله : شاركت القوم إذن .يعني في الباطل والإنحراف.إلا أن شمول الرواية لصورة الأمر الأول يبقى نافذ المفعول،وهو أمر غير صحيح .
كما أن الأمر بتحمل القتل لو دُخل في بيته ، أمر لا يمكن قبوله ، لأنه مخالف لضرورة العقل والشرع معاً في وجوب الدفاع عن النفس ، وفي كون المستسلم للقتل قاتل لنفسه ، في الحقيقة فيبوء بإثم نفسه ، لا أن القاتل يبوء بالإثمين معاً . ويكون كلاهما مشمولاً لقوله تعالى : (ومن يقتل مؤمناً متعمدا ًفجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما) (2) .أما إثم القاتل لمباشرته القتل. وأما المقتول فلأنه سبب إلى قتل نفسه .
وقد يخطر في الذهن : أن الفرد إذا كان أعزل عن الأسلحة تماماً ، يكون الدفاع متعذراً عليه . ومعه يكون الأمر بتحمل القتل منطقياً بالنسبة إليه .
وجوابه : أن هذا صحيح بالنسبة إلى الأعزل ، لكنه غير صحيح بالنسبة إلى هذه الروايات ، فإنها واردة في غير العزََّل ، تأمرهم أن يكسروا قسيّهم ويقطعوا أوتارهم وأن يضربوا بسيوفهم الحجارة . فإذا تلفت أسلحتهم وجب عليهم تحمل القتل طواعية.. وهذا مضمون مستنكر في العقل والشرع.. تعلم بعدم صدوره عن النبي(ص).
______________________
(1) المائدة : 5/27-29 . (2) النساء : 4/93 .
صفحة (341)
وأما ما ورد في أخبار الفريقين من أنه إذا التقى المسلمين بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، فهو خاص بغير الدفاع عن النفس جزماً. فإنه إذا كان الفرد مدافعاً عن نفسه يكون محقاً وحربه عادلاً! بضرورة العقل والشرع.
ومن هنا نعلم سلامة موقف "ابن آدم" المقتول. فإنه لادلابلة في الآية على أنه لم يدافع عن نفسه، وإن لم يكن في نيته أن يقتل أخاه. وإنما سيطر عليه أخوه بقوته فقتله. بخلاف ما تدل عليه هذه الرويات، من السلبية المطلقة حتى عن الدفاع عن النفس.
إذن، فلا سبيل إلى الأخذ بهذا القسم الثاني من الروايات. وخاصة طبقاً للتشدد السندي الذي مشينا عليه.
ويكفينا أن نعرف أن كثيراً من الأخبار وضعت ودسّت في أخبار الإسلام، نصرة للجهاز الحاكم المنحرف، الذي كان يحاول أن يسبغ صفة الشرعية على تصرفاته، فيمنع من مجابهة ظلمة ومقابلته بالسيف، لكي تستقيم له الحال، ويهدأ منه البال، منطلقاً من أمثال هذه الأخبار.
القسم الثالث: في الأمر بلزوم البيت
لم نجد هذا المضمون في الصحيحين، ولكن أخرج أبو داود(1)- في حديث عن الفتنة- عن رسول الله (ص): قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم.
وأخرج ابن ماجة(2) عنه (ص) أنه قال: إنها ستكون فتنة وفرقة وإختلاف، فإذا كان كذلك، فأت بسيفك أحداً فاضربه حتى ينقطع. ثم إجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية. وصحح سنده.
وأخرج الصدوق في إكمال الدين(3) عن الإمام الباقر علييه السلام حتى يسأله الراوي: فما أفضل ما يستمله المؤمن في ذلك الزمان – يعني زمان الغيبة – قال: حفظ اللسان ولزوم البيت.
ـــــــــــــــــ
(1) جـ2، ص 417. (2) جـ2، ص 1310. (3) أنظر المخطوط.
صفحة (342)
وأخرج
النعماني(1) في الغيبة عن الإمام الباقر عليه السلام – في
حديث – قال: وإذا كان ذلك، فكونوا أحلاس بيوتكم.
وأخرج الشيخ في غيبته(2) عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:
فإذا كان ذلك فالزموا أحلاس بيوتكم، حتى يظهر الطاهر بن الطاهر ذو
الغيبة.
والمردا من هذه الرواية، كسابقاتها، لزوم البيت، يقال حلس وتحلّس
بالمكان لزق. ويقال: فلان حلس بيته إي ملازق لا يبرحه. وأحُد وهو الجبل
المعروف قرب المدينة المنورة. والمراد يضرب السيف بعد إتلاف السلاح
وكسره.
فيكون المراد الإنعزال والإبتعاد عن المجتمع الذي تسوده الفتنة، فيشمل ما إذا اتصل الفرد به لأجل إصلاحه وتقويمه. ويكون ذلك منهياً عنه في هذه الروايات، خلافاً للحكم الشرعي الإسلامي وقواعده العامة، إلا أن تحمل على خصوص بعض مبررادت العزلة التي ذكرناها، كما لو خاف على نفسه من الإنحراف أو غير ذلك.
القسم الرابع: الفرار من الفتن
أخرج البخاري في موضعبن من صحيحه(3) عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) يقول: يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغني يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن. وأخرجه أبو داود(4) وابن ماجه(5) بنصه.
ـــــــــــــــــ
(1) ص 102. (2) ص 103. (3) أنظر جـ8، ص 129، وجـ9، ص 66.(4) جـ2، ص 418. (5) جـ2، ص 1317.
صفحة (343)
وأخرج ابن ماجة(1): تكون فتن، على أبوابها دعاة إلىالنار. فأن تموت وأنت عاض على جذع شجرة خير لك من أن تتبع واحداً منهم.
وشعف الجبال رؤوسها، وجذع الشجرة أصلها. والمراد من العض عليه زيادة ملازمته والإلتصاق به.. وفيه دلالة على الخروج إلى الأرياف والأطراف.. يسكن الفرد البساتين ويجاور الأشجار أو قمم الجبال، لينججو من مجاورة الفتن واتباع دعاة الباطل.
وهذه الروايات، وإن كانت بسعة مدلولها، مخالفة للقواعد العامة التي عرفناها، إلا أنه بالإمكان تقييدها كما عملنا في سابقاتها، فتبقى خاصة بصورة وجوب العزلة والسلبية شرعاً.. وأما مع حرمتها، يكون الواجب هو العمل الإسلامي الإجتماعي المنتج. وفي هذت القسم من الأخبار ما يؤيد هذا التقييد، حيث نجدها تحث على الجهاد إلى جنب النصح بالفرار من الفتن. بل تخص وجوب الفرار بالعاجز عن الجهاد، ويكون للجهاد الرتبة المقدمة على غيره، كما هو الصحيح في قواعد الإسلام العامة.
أخرج ابن ماجه(2): أن النبي (ص) قال: خير معايش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ويطير على متنه، كلما سمع هيعة أو قزعة طار عليه إليها، يبتغي الموت أو القتل، مظانة. ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه، حتى يأتيه اليقين. ليس من الناس إلا في خير.
وأخرج أيضاً(3) عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً أتي النبي (ص) فقال: أي الناس أفضل؟ قالك رجل مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. قال: ثم من؟ قال: ثم أمرأ في شعب من يعبد الله عز وجل، ويدع الناس من شره.وللترمذي(4) حديث آخر بهذا المضمون.
ـــــــــــــــــ
(1) جـ2، ص 1318، وأنظر نحوه في صحيح مسلم، جـ6، ص 20. (2) جـ2، ص 1316.
(3) جـ2، ص 1317. (4) جـ3، ص 320.
صفحة (344)
إذن فالتكليف الإسلامي في عهد الفتن وافنحراف، منقسم إلى قسمين، لا ثالث لهما. فإن المسلم الشاعر بالمسؤولية تجاه دينه.. أما أن يكون قادراً على الجهاد أو العمل المنتج لتقويم المعوج والكفكفة من التيارات الكافرة. وأما أن لا يكون قادراً على ذلك. فإن كان قادراً على العمل وجب عليه ذلك لا محالة. وأن كان عاجزاً عنه فخير له أن يعتزل الفتنة وأهلها. وأما معايشة المنحرفين مع الضعف في الإيمان والإرداة، فتؤدي إلى مالا يحمد عقباه في الدين والدنيا.. كما هو واضح ومُعاش للناس يومياً.
القسم الخامس:
الأمر بالصبر، مع بيان صعوبة تحققه للمسلم المخلص، في مجتمع الفتن والإنحراف.
أخرج الشيخان(1) عن ابن عباس عن النبي (ص) قال:
من رأي من
أميره شيئاً يكرهه فليبصر عليه، فإنه من فارق الجماعة شهراً، مات إلا مات
ميتة جاهلية. وفي نسخة مسلم: فميتة جاهلية.
وأخرجا(2) عن رسول الله (ص): إنكم ستلقون من بعدي أثرة فاصبروا
حتى تلقوني – وزاد مسلم:- على الحوض.
وأخرج مسلم (3) عن حذيفة بن اليمان في حديث له مع رسول الله (ص) قال (ص): يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يسنّون بسنتي. وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك. فاسع وأطع.
وأخرجت
جملة من الصحاح الأخرى مثل هذه المضمون، ولكننا نقتصر على ما أخرجه
الشيخين، فيما أخرجناه
فهذه هي الأخبار التي تأمر بالصبر.
ـــــــــــــــ
(1) البخاري، جـ9، ومسلم جـ6، ص 21. (2) البخاري، جـ9، ص 60، ومسلم، جـ6، ص 19. (3) جـ6، ص 20.
صفحة (345)
وأما الأخبار الدالة على صعوبة الصبر:
فما أخرجه أبو داود(1) عن المقداد بن الأسود، قال: أيم الله قد سمعت رسول الله (ص) يقولك إن السعيد لمن حنّب الفتن. وإن السعيد لمن جنّب الفتنة. إن السعيد لمن حنّب الفتنة. ولمن ابتلى فصبر فواها.
وما رواه
النعماني في الغيبة(2) عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث:
ولا والله لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم إلا بعد أياس.
وعنه عليه السلام في حديث(3) عما يصيب الناس الشر قبل خروج
المهدي (ع)، قال: فخروجه إذا خرج يكون عند اليأس والقنوط.
وروى الصدوق(4) عن منصور قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا
منصور إن هذا الأمر، لايأتيكم إلا بعد يأس.. الرواية.
وأخرج ابن ماجه(5) عن النبي (ص) قوله: حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً
وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا يدان لك
بهن فعليك خويصة نفسك، فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن على مثل قبض الجمر..
الحديث.
وأخرج الترمذي(6) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص): يأتي
على الناس زمان الصابر على دينه، كالقابض على الجمر.
_________________________
(6) جـ3، ص 359. صفحة ( 346)
صفحة (345)
ويقع الكلام في هذا القسم من الأخبار، ضمن أمرين:
الأمر الأول:
أن الأمر بالصبر مع الحاكم المنحرف وتحمل ظلمه وتعسفه بالسكوت، غير مطابق للقاعدة الإسلامية، والأخبار الدالة عليه لايمكن قبولها بحال. وذلك: لأنها تعانب من الطعن في صدورها عن النبي (ص) وفي دلالتها على المطلوب أيضاً.
اما الطعن في الصدور، فهو وضوح إن هذه الأحاديث تتم في مصلحةالحكام الذين تزعموا على الأمة الإسلامية باسم الإسلام واستبزوا منها دماءها وخيراتها.. فقد أرادوا بوضع هذه الأحاديث أن يأمروا المسلمين بالرضوخ لهم والصبر على جورهم، وينسوا ذلك إلى رسول الله (ص).
فإن قال قائل: كيف تكون هذه الأخبار موضوعة، مع أنها تندد بهؤلاء الحكام، وتصفهم بالفضائح.
أقول: لاتنافي بين الأمرين، إنطلاقاً من إحدى زوايا الثلاث:
الزاوية الأولى:
أن يكون وصف الحكام صحيحاً صادراً عن النبي (ص)، وهو لشهرته، لم يستطيعوا مكابرته وإنكاره، وإنما أضافوا عليه وجوب الطاعة للحاكم المنحرف. فأصبح بعض الواية صحيحاً وبعضها مدسوساً. وهذا هو المظنون بالظن الغالب.
الزاوية الثانية:
أن الحكام استطاعوا في هذه الزوايات أن يعرضوا أضخم صور للظلم ((وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) وزعموا أن الطاعة تكون واجبة بالرغم من ذلك. إذن فكيف الحال في الظلم الأخف من ذلك؟.. أن الطاعة ستكون ألزم على الفرد بطبيعة الحال. إذن فليس هناك صورة من الظلم إلا وتجب فيه الطاعة، للحاكم المنحرف.
الزاوية الثالثة:
أن الظلم في العصور المتأخرة عن صدر الإسلام كان واضحاً جداً لايمكنمكابرتهن ومن هنا لم يكن هناك أي غضاضة أو كشف لسر غامض حين صرح الحكام بذلك. وإنما صرحوا به إستطراقاً إلى غرضهم من ذبك وهو إثبات الأمر بالطاعة منسوباً إلى رسول الله (ص).
صفحة (347)
واما الطعن في دلالة هذه الأخبار، فهو معارضتها بأخبار أخرى رواها الشيخان في الصحيحين، تدل خلاف مضامينها، وتكون أقرب إلى القواعد الإسلامية العامة.
أخرج الشيخان حديثاً(1) بلفظ متقارب واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عمر عن النبي (ص) أنه قال: السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة.
وأخرج مسلم(2) عنه (ص): إنما الطاعة في المعروف.
وأخرج أيضاً(3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص في حديث عن معاوية. قال: فسكت ساعة.. ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. إلى غير ذلك من الأخبار.
إذن فتكون هذه
الأخبار قرينة على تقييد تلك الأخبار بما إذا لم يأمر الحاكم بمعصية لله أو
يشرع قانوناً منحرفاً، أو يؤسس عقيدة باطلة، فإن فعل شيئاً من ذلك فلا طاعة له.
ومن المعلوم أن تقديم الخاص على العام من اوضح ما تقتضيه القواعد العامة.
غير أن هذا التقيدد، ينتج وجوب طاعة الحاكم المنحرف، إذا أمر بطاعة الله عز
وجل. وهو حكم غير صحيح في شريعة الإسلام، فإن وجوب الطاعة خاص بالحاكم الشرعي
العادل. وعلى ذلك يمكن حمل بعض هذه الأخبار السابقة.. مع طرح ما خالف القواعد
العامة منها.
هذا. وأما الأخبار الدالة على صعوبة الصبر في مجتمع الفتن والإنحراف، فهو أمر صحيح واضح.. إذ ما ظنك بفرد صادق بين كاذبين وأمين بين خائنين ومسالم بين معتدين.. كذلك يكون حال المؤمنين بين المنحرفين. وهذا هو طبع التمحيص والتخطيط الإلهي على طول خط الغيبة الكبرى.
ــــــــــــــــــ
(1) البخاري، جـ9، ص 78، ومسلم، جـ6، ص 15. (2) جـ6، ص 16. (3) جـ6، ص 18.
صفحة (348)
الأمر الثاني:
أن الأخبار الدالة على وجود الياس والقنوط، ذات مضمون صحيح، ومطابق للتمحيص.
فإن طول عصر الغيبة بنفسه حلقة من حلقات التمحيص الإلهي. إذ يزداد فيها الظلم، حتى يكتسب الهيبة النفسية على ضعاف النفوس والإدارة، فيظنون قدراً حتمياً ووضعاً أبدياً.. فيحصللديهم اليأس والقنوط.
كما أن امتداد غيبة الإمام المهدي (ع) سوف تنكشف في الضمائر المهلهلة والعقائد المادية عن الشك أو الإنكار.
وحيث يكون وضع النفوس، هو الغالب في كل جيل إذن فسيكون الإتجاه العام للمجتمع، لدى الفاشلين في التمحيص الإلهي، وهم الأغلب من البشر، كما عرفنا، سيكون هو اليأس والقنوط، كما نطقت به هذه الروايات.
القسم السادس:
الأمر بكف اللسان في الفتنة.
سمعنا ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين عن الإمام الباقر عليه السلام في أفضل ما يتستعمله المؤمن في ذلك الزمان – يعني زمان الغيبة – قال: حفظ اللسان ولزم البيت.
وأخرج أبو داود(1) عن رسول الله (ص) قال: ستكون فتنة صماء بكماء عمياء(2) من أشرف لها استشرفت له. واشراف اللسان فيها كوقوع السيف.
ــــــــــــــــ
(1) جـ2، ص 417. (2) وصف الفتنة بهذه الأوصاف بأوصاف أصحابها، أي لايسمع فيها الحق ولاينطق به ولايتضح الباطل عن الحق. هامش السنن.
صفحة (349)
وأخرج الترمذي: تكون فتنة... اللسان فيها أشد من السيف(1) وأخرجه ابن ماحه أيضاً(2) كلاهما عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله (ص):
وأخرج ابن ماجه(3) عنه (ص): أياكم والفتن. فإن اللسان فيها مثل وقع السبف.
ولفهم هذا القسم من الأخبار أطروحتان:
الأطروحة الأولى:
إن المراد كف الللسان والإجتناب عن الكلام، في عصر الفتنة، سواء فيما يذكي أوار الفتنة أو فيما يضادها، ويكفكف من جماحها ويخفف من ضررها.
وهذا هو المفهوم من الإطلاق وسعة المدلول في هذه الأخبار، وخاصة الخبر الأول منها.
ولإذا كان هذا هو المفهوم، فلا بد من تقييده، بمقتضى القواعد العامة، التي تبرر العزلة والسكوت أحياناً وتوجب العمل الإجتماعي تارةً أخرى. فيختص وجوب السكوت، بترك الكلام الذي يكون مشاركة في الفتنة وإذكاء لأوراها. ويبقى الكلام المضاد للفتنة مسكوتاً عنه في هذه الروايات، نعرف أحكامه من الأدلة الأخرى في الإسلام.
الأطروحة الثانية:
أن يكون
المراد: وجوب كف اللسان عن المشاركة في لفتنة نفسها. فإن هذه المشاركة من أشد
أشكال الإنحراف، ومستلزم للفشل في التمحيص الإلهي لامحالة. ومعه تبقى المشاركة
بالقول والعمل في إزالة الفتنة أو تخفف شرها، أو مناقشة اتجاهاتها، واجبة في
الإسلام، طبقاً للقواعد العامة التي عرفناها. من دون أن تدل هذه الروايات على
نفيه.
_________________________
صفحة (350)
وتؤكد هذه الأطروحة قرينتان
القرينة الأولى:
تشبيه اللسان بالسيف، في الرويات. ومن المعلوم أن استعمال السيف بالشكل المستنكر المحرم في عصر الفتنة. إنما هو فيما يوجب تأييدها وتشديدها، لا فيما يكون ضدها، مع اجتماع الشرائط. ومعه يكون استعمال اللسان بالشكل المحرم خاصاً بذلك أيضاً.
ولعل المراد من هذا التشبيه: هو استعمال اللسان في خضم الفتنة موجب – في نهاية الشوط – لهلاك الكثيرين عقائدياً أو حياتياً، فيكون فعل اللسان كفعل السيف من هذه الجهة. ومن المعلوم إسلامياً: أن الكلام الذي يوجب الهلاك هو الكلام الذي يتضمن تأييد الفتنة والسير مع ركب الإنحراف. وأما الكلام الذي يردا به إطفاء الفتنة ومناقشة الأراء المنحرفة، ونحو ذلك، ففيه سعادة الدارين وعز النشأتين ومواكبة العدل الإسلامي الصحيح، فلا يمكن أن يقال عنه: إنه موجب للهلاك.
فنعرف من قرينة التشبيه في هذه الأخبار، أن المراج هو السكوت عن الكلام الذي يكون إلى جانب الفتنة.
لقرينة الثانية:
الأخبار الأخرى الواردة في هذا الباب، الدالة على ان المراد من حفظ اللسان ترك الكلام السيء الموجب لعصيان الله تعالى وغضبه.. وهو معنى ما قلناه من أنه يوجب المشاركة في تأييد الفتنة والإنحراف. ومعه يبقى الكلام ضد الفتنة جائزاً بل واجباً في الإسلام.
أخرج ابن ماجه(1) عن رسول الله (ص) أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو يسكت. وعنه (ص) أيضاً: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لايرى بها بأساً. فيهوى بها في نار جهنم سبعين خريفاً. وفي حديث آخر أيضاً: وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه.
* * *
ـــــــــــــ
(1) جـ2، ص 1313
صفحة (351)
القسم السابع:
الأمر بالتقية في عصر الغيبة الكبرى.
وهذا المضمون مما اقتصرت عليه أخبار الإمامية، دون غيرهم. فقد أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) والشيخ الحر في وسائل الشعيعة(2) والطبرسي في إعلام الورى(3) عن الإمام الرضا عليه السلام، أنه قال لادين لمن لاورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له. وإن أكرمكم عند الهه أعلمكم بالتقية قيل: يا ابن رسول الله: إلى متى؟. قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروجنا قائمنا، فليس منا.. الحديث.
وفي الوسائل(4) عن معمر بن قلاد، قال: سألت أبا الحسن (ع) عن القيام للولاة. فقال: قال أبو جعفر (ع): التقية ديني ودين آبائي، والا إيمان لمن لا تقية له.
وعن أبي عمر الأعجمي قال: كان أبي يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية؟ إن التقية جُنَّةُ المؤمن!.
ومن طرائف ما ورد في التفسير(5) ما روي عن جابر عن أبي عبد الله (ع). قال: أجعل بيننا وبينهم سداً، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاوا له نقباً. قال: هو التقية.
وعن المفضل(6)
قال سألت الصادق (ع) عن قوله تعالى: أجعل بينكم وبينهم ردماً. قال: التقية. فما
استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: إذاً عملت بالتقية لم يقدروا
لك على حيلة، وهو الحصن الحصين. وصار بينك وبين أعداء الله سد لا يستطيعون له
نقباً. قال: وسألته عن قوله: فإذا جاء وعد ربي جعله دكا. قال: رفع التقية عن
الكشف، فانتقم من أعداء الله. أقول: المراد بالكشف ظهور المهدي (ع) في اليوم
الموعود.
_________________________
(5) و (6) المصدر السابق، ص 545.
صفحة (352)
إلى غير
ذلك من الأخبار، وهي من الكثرة إلى حد الإستفاضة بل التواتر.
ومدلولها الإسلامي الصحيح أمران مستشرفان:
الأمر الأول:
المحافظة على النفس من الإضرار التي لا مبرر لتحملها شرعاً.. إبتداءً بالقتل وانتهاءً بما دونه. لا حرصاً على الحياة، بل لأجل الحفاظ على المعتقدين بالحق الواقعي من المسلمين. والحد من نقصان عددهم بالقتل الذي يقع عليهم من قبل المنحرفين الظالمين.. لو واصلوا الأعمال المثيرة لهم واعلنوا الجهاد ضدهم.
الأمر الثاني:
إخفاء الأعمال الإحتماعية الصالحة، التي يكون في كشفها نقصان لنتائجها أو إجتثات لجذورها.
وعن هذا الطريق استطاع الأئمة المعصومون عليهم السلام أن يسندوا الثورات الحاصلة في عصرهم والداعية إلى الرضا من آل محمد (ص).. من دون أن يدعوا أي مجال للآخرين للإطلاع على مستندات هذا الإسناد. كما أشرنا إلى ذلك في التاريخ السابق.
وكلا هذين الأمرين منطلق من منطلق عقلاني عام. وهو واضح لدى كل من يعمل عملاً سياسياً أو عقائدياً، أو غيره. أما الأمر الأول فباعتبار وضوح أن الفرد – مهما كانت عقيدته وعمله – ليس على استعداد أن يضحي بحياته أو بأمنه بلا موجب. أو بموجب ضئيل لا يستحق التضحية. وأما المر الثاني: فباعتبار وضوح قيام العقائد في العصر الحديث على الحياة الحزبية، التي يغلب عليها طابع السرية والتكتم. طبقاً لما قلناه من أن كشف حقائقها وتفاصيلها قد يكون سبباً لنقصان نتائجها أو إجتثاث جذورها.
صفحة (353)
ومن ثم يكون عدم الأخذ بالتقية، مؤدياً – على أقل تقدير – إلى بطء وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين، الذين يشكلون وجودهم أحد شرائط الأساسية للظهور، ليتكفلوا مسؤولية نشر القسط والعدل في العالم تحت قيادة المهدي (ع). فإن من يقوم لالجهاد – عادة - في كل عصر، ليس إلا النخبة من المخلصين الذين يؤمل فيهم وصول التمحيص إلى نتائجه النهائية الصالحة. فإذا لم يكن الأمر بالتقية موجوداً، لوجبت المبادرة إلى الجهاد، وكان اول المطيعين لهذا الوجوب والمطبقين له، هم المخلصون في كل عصر، ومعه، يتسبب الجهاد إلى إستعصائهم أو أكثرهم، مما يؤدي إلى بطء وجود شرط الظهور أو تعذره، فيمتنع تحقق الغرض الإلهي الكبير في هداية العالم.
ولا داعي للإستعجال بالجهاد، فإنه مضافاً إلى عدم تأثيره العاجل بالنحو المطلوب، يكون معيقاً عن إصلاح العالم في اليوم الموعود. وإذا دار الأمر بين الجهاد المستعجل في جزء من العالم وبين الجهاد المؤجل في كل العالم.. يكون الثاني هو انافذ طبقاً للتخطيط الإلهي، باعتباره منسجماً مع الهدف الأسمى من خلق البشرية، الذي عرفناه.
فإن قال قائل: إذا جاهد البعض يبقى البعض الآخر من المخلصين، مذخوراً لتحقيق شروط الظهور.
قلنا له: لو لم يكن الأمر بالتقية موجوداً، وكان الأمر بالجهاد نافذاً، لوجب الجهاد على كل المسلمين.. ولكان تركه عصياناً منافياً للإخلاص، فيجب على كل المخلصين في العالم التصدي له والقيام به، فيؤدي ذلك – تدريجياً – الى استئصالهم جميعاً في كل جيل. لما عرفناه من كونه قله بازاء الكثرة الكاثرة من المنحرفين والكافرين. فينتج تعذر وجود شرط الظهور.
إذن، فالمفهوم الواعي الصحيح للتقية، وهو بعينه المفهوم الصحيح الذي استخلصناه من الأمر بالعزلة وكف اللسان الذي استفاضت به أخبار المصادر العامة. وليس أمراً زائداً ولا جديداً بالنسبة ليكون مثاراً للإستنكار والإستغراب من قبل العامة وأهل السنة. فإن الأمر بالعزلة وكف اللسان، مع جعله منسجماً مع القواعد العامة، يكون مؤدياً إلى عين النتيحة التي يؤديها الأمر بالتقية، وهو الخفاظ على المخلصين، لتحقيق شروط الظهور.. الحفاظ عليهم عقائدياً وحياتياً.
صفحة (354)
فإن قال قائل: إن أهل السنة والجماعة، لا يؤمنون بغيبة المهدي (ع). فكيف يؤمنون بشرط الظهور؟
قلنا: إن شرط الظهور إنما خطط الله تعالى لوجوده، باعتبار استهداف نشر القسط والعدل في العالم في اليوم الموهود. سواء كان القائد المهدي (ع) غائباً قبل ظهوره أو لم يكن. وتكون فكرة شرط الظهور، من الزاوية غير الإمامية لفهم المهدي، أن الله تعالى قد خطط لليوم الموعود، قبل ولادة المهدي (ع). ثم إنه عز وجل سوف يوجد المهدي (ع) عند علمه بنجاز الشرائط المطلوبة. لإذن فبقاء المخلصين ذخراً، امر صحيح من كلتا الزاويتين الإمامية وغيرها، لفهم المهدي (ع).
بل أننا لو تأملنا قليلاً، لوجدنا أن القعود والعزلة وكف اللسان، مساوق مع التقية، من الناحية العملية على طول الخط. فإنه لا يراد من التقية، إلا إتقاء شر الأشرار وتجنب إثارتهم ضد المخلصين وما قد يقومون به من أعمال. إذن فالتقية لا تتحقق إلا بالقعود عن المجابهة وكف اللسان عن المنحرفين. كما أن القعود وكف اللسان محقق للتقية... إذن فقد اتفقت أخبار العامة والخاصة على شيء واحد، أو متشابه.
ومن هذا الذي قلناه، نفهم عدة أمور:
الأمر الأول:
أن العمل الإسلامي الإجتماعي، لكي يكون مواكباً مع التخطيط الإلهي، يجب أن يتحدد بحدود التعاليم الإسلامية.. بدون أن يزيد عليها أو ينقص عناه. ويمثل كل من الزيادة أو النقصان إنحرافاً عن الشريعة الإسلامية.
أما الزيادة، بمعنى إيجاد العمل الإجتماعي في موارد عدم وجوبه أو عند النهي عنه.. فباعتبار كونه موجباً لاستئصال المخلصين، ومعيقاً عن إيجاد شروط الظهور، كما عرفنا. وأما النقصان: بمعنى ترك العمل مع الأمر به في الشريعة، فباعتبار كونه عصياناص وانحرافاً.
صفحة (355)
ومن ثم يبدو بوضوح: إن الإحتجاج بأخبار التقية وغيرها مما سبق، لإهمال العمل الإجتماعي الإسلامي، وتركه في موارد وجوبه.. حجة باطلة، ووجه غير وجيه. حيث عرفنا أن هذه الأخبارـ وإن كانت ذات مدلول واسع بطبيعته، إلا أنها مقيدة لا محالة، بقيد موارد وجوب العمل مع اجتماع شرائطه التي عرفناها. إذ مع وجوبهن تكون التقية والعزلة وكف اللسان عصياناً وإنحرافاًز
الأمر الثاني:
أن الأمر بالتقية وترك العمل الإسلامي، بالشكل الذي فهمناه.. خاص بعصر الغيبة، أو بعصر ما قبل الظهور. لما عرفناه من كونه دخيلاً في تحقيق شرط الظهور وقد حدد في الخبر السابق عن الإمام الرضا (ع) بذلك، حيث قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية، قبل خروج قائمنا فليس منا.
وأما في عصر ما بعد الظهور، فمن المعلوم لدى كل من يؤمن بالمهدي وباليوم الموعود من المسلمين، بل من سائر الأديان، أن تطبيق العدل في العالم، لا يكون إلا باستعمال السلاح والجهاد وترك مجاملة الكافرين والمنحرفين. ويمون حكم التقية وكف اللسان مرتفعاً. ومن هنا سمعنا المهدي (ع )نفسه، خلال عصر غيبته الصغرى يقول – فيما روي عنه -: والله مولاكم أظهر التقية، فوكلها بي. فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج(1).
ومن هنا أيضاً عُبِّر في بعض الأخبار عن العصر السابق على الظهور، بعصر الهدنة.. كالذي روي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: سمعته يقول، وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوى المطاع العالم بالمعروف من المنكر. إلى أن قال: وليس على من يعلم ذلك في الهدنة من حرج، إذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة(2).
ـــــــــــــــــ
(1) أنر تاريخ الغيبة الصغرى، ص 583، وغيبة الشيخ الطوسي، ص161. (2) وسائل الشيعة، جـ2، ص 534.
صفحة (356)
وفي خبر آخر: عن حبيب بن بشير عنه عليه السلام، قال: سمعت أبي يقول: لا والله، ما على وجه الأرض شيء أحب إلي من التقية.. إلى أن يقول: يا حبيب، إن الناس إنما هم في هدنة... الخبر(1).
وسترتفع هذه الهدنة، مع الكافرين والمنحرفين، مع يزوغ فجر الظهور. ويكون بينهم وبين الإيمان بالحق، حد السيف ووقع السلاح، ومناجزة القتال. وسنسمع تفاصيل ذلك في التاريخ القام إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث:
إن ما يعتقده الكثيرون من الإمامية وغيرهم، من اختصاص حكم التقية، في اتقائهم أهل المذاهب الإسلامية الأخرى... باطل غاية البطلان. بل الحكم مشترك بين سائر المسلمين، في اتقاء بعضهم شر بعض، وفي اتقائهم من غير المسلمين، عند عدم وجوب العمل. فإن المحافظة على المخلصين تكون بترك التعرض للقتال، على كلا المستويين، كما هو معلوم. بل أن القتال بين المسلمين لأعظم شراً وأفدح أثراً من القتال مع غيرهم. وحسبنا منه أن نفهم أن وقوعه بين المسلمين، يصدّع جمعهم ويشتت شملهم ويطمع بهم عدوهم ويسهل دخول المستعمر إلى بلادهم، كما حدث بالفعل خلال القرون المتأخرة.
فإن قال قائل: إذن فلماذا ورد الأمر بالتقية في أخبار الإمامية دون غيرهم. قلنا: إن المضمون الواعي الصحيح متحصل من أخبار كلا الفريقين. وإنما هو اختلاف في الاصطلاح، فقد اصطلح عليه كل فريق باسم مستقل، فسمي في أخبار الإمامية بالتقية، وسمي في مصادر أهل السنة بالعزلة. إذن فلم يختص الإمامية برواية المضمون، وإن اختصوا بالاصطلاح.
فإن قال قائل: إن بعض الأخبار طبقت وجوب التقية، على اتقاء الإمامية من غيرهم من المسلمين. وهو يدل على اختصاص هذا الحكم بخصوص هذا المورد، ويكون قرينه على أن المراد من كل أخبار التقية هو ذلك؟
ـــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، ص 544.
صفحة (357)
قلنا له: صحيح، ان هذا التطبيق موجود في أخبار الإمامية ووارد عن الئمة عليهم السلام. ولكنه من باب تطبيق الحكم العام على بغض موارده... باعتبار اقتضاء المصلحة له ف يعصر الأئمة عليهم السلام . لأجل ما كانت تعيشه قواعدهم الشعبية من اضطهاد وتعسف من قبل الحكام في ذلك الحين . فكان الأئمة (ع) ، لأجل أن يضمنوا من أصحابهم عدم التسرع والتطرف في رد الفعل تجاه ذلك ، مما قد يسبب الوصول إلى نتائج وخيمة هم في غنى عنها ... فكان الأئمة (ع) يذكرون حكم التقية مطبقاً على هذا المورد المشار إليه . ومعه لا تكون هذه الأخبار قرينة على الاختصاص .
وإن أوضح دليل ، على شمول حكم التقية لجميع المسلمين من ناحية ، وان الطرف المتقي منه قد يكون من غير المسلمين أيضاً ، من ناحية أخرى ... قوله عز من قائل : ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ، إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾(1) . حيث دلت على جواز تقية المسلمين من الكافرين . وقصة عمار بن ياسر رضوان الله عليه ، مع المشركين في ذلك معروفة مشهورة ، وإنما كانوا يحملونه على البراءة من الاسلام ، لا من مذهب معين !! . هذا ، وشمول الحكم القرآني ، لجميع المسلمين ، يعتبر من ضروريات الدين .
الأمر الرابع :
في فهم أخبار التقية ، بمفرداتها وتفاصيلها . على ضوء ما أسلفناه من الفهم العام . ويكون ذلك ضمن فقرات :
الفقرة الأولى :
"إن
التقية جنَّة المؤمن " بمعنى أنها تستره وتحرسه . والمجن هو الترس الذي يجن
صاحبه .
قال عز وجل : اتخذوا إيمانهم جنة . وفي الحديث : الصوم جنة (2)
. وكله من الحماية والحراسة من الشر باعتبار اللجوء والتستر تحت السبب
الموجب للحماية ، وهو الترس أو الإيمان أو الصوم .
_____________________
(1) آل عمران : 3/28 . (2) مفردات الراغب الاصبهاني ، ص 98 .
صفحة (358)
ومن المعلوم ما للتقية في موارد جوازها أو وجوبها ، من أثر بالغ في حماية الفرد عن كيد الأعداء , وإنحراف المنحرفين , في العقيدة والحياة والعمل . وليس على الفرد ـ في سبيل نيل ذلك ـ إلا أن يسكت عن القول والعمل الذي لا يكون مشروعاً في الإسلام . ومن هنا قال الصادق (ع) , فيما سمعناه من الرواية ,في تشبيه التقية بالسد الذي بناه ذو القرنين , قال : إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة . وهو الحصن الحصين . وصار بينك وبين أعداء الله سد لا يستطيعون له نقباً ... لأن الفرد إذا اتقاهم لم يستطيعوا أن يجدوا ضدة مستمسكاً أو ذريعة لانزال الشر عليه .
الفقرة الثانية :
" إن من لا تقية له لا دين له " أولا إيمان له . وإن " تسعة أعشار الدين في التقية " .
وهذا واضح المقصود بعد الذي عرفناه , من استلزم ترك التقية استئصال المخلصين , من دون مبرر شرعي . فأي دين يمكن أن يبقى لتارك التقية بعد ذلك ؟! .
وذلك : أننا لم نفهم من التقية , فيما سبق , إلا ترك المقدار غير المشروع من الجهاد والامر بالمعروف , مما يؤدي إلى إيقاع الخطر الكبير على المخلصين . وليس لأدلة التقية مؤدى أكثر من ذلك . إذن فترك التقية يعني ارتكاب العمل غير المشروع . فإذا كان هذا العمل موجباً لهلاك بعض المخلصين , كان محرماً , بل من أشد المحرمات في الشريعة , فيكون فاعله ,بعيداً عن الدين والإيمان كل البعد . كما نطقت به الروايات .
وهذا واضح على مستوى سائر الأخيار , سواء منها الواردة عن طريق العامة , أو الواردة عن طريق الخاصة , بعد إعطاء الفهم الموحد السابق لها الذي سمعناه .
الفقرة الثالثة :
قول
الإمام الرضا (ع) ـ في الرواية : إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية .
فقد فسر عليه السلام قوله تعالى : أتقاكم . بمعنى أعملكم بالتقية وأشدكم
تمسكاً بها .
صفحة (359)
وهذا أيضاً مما لا غيار عليه ,بعد الذي عرفناه , وما دلت عليه اللغة من أن اتقاه بمعنى حذره وخافه وتجنبه , أي وقى نفسه وحماها عن شره . ومن هنا كان المتجنب عن عذاب الله تعالى متقياً , والعمل المؤدي إلى النجاة منه تقوى . وكذلك المتجنب من شر الأشرار وكيد المنحرفين يكون متقياً , والفعل المؤدي إلى النجاة منه " تقية "
ومن هنا , يمكن أن نفهم من الآية , الشمول لكلا المعنيين ... بعد أن وافقت اللغة على ذلك . فيكون المراد : إن أكرمكم عند الله أتقاكم من الله ون الناس . وتفسير الإمام الرضا (ع) لها بأحد القسمين , وهو اتقاء شر الناس , لا يعني اختصاصها به , ليكون أمراً مستغرباً . وإنما ذكر أحد القسمين لمصلحة اقتضت ذلك , كمصلحة التوضيح باعتباره معنى خفياً ... مع إبقاء القسم الآخر على فهم السامع وحكم اللغة .... وهو تقوى الله تعالى .
لكن لا يخفى أن المتقي للناس , العامل بالتقية , إنما يكون كريماً عند الله عز وجل , فيما إذا كانت التقية واجبة أو جائزة شرعاً . إذ تكون تقية الناس من تقوى الله عز وجل , وأما في موارد حرمتها ,وهي موارد وجوب العمل الإسلامي العام , فالتقية , تكون معصية مبعدة عن الله عز وجل , منافية مع التقوى , بكل تأكيد .
القسم الثامن :
من الأخبار الدالة على التكليف في عصر الغيبة : مادل على وجوب الإنتظار الفوري ,وتوقع الظهور في كل وقت , بالمعنى الذي سبق أن حققناه .
أخرج الطبرسي في الإعلام (1) والكليني في الكافي والصدوق في الإكمال (2) عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث عن الغيبة أنه قال : فعندما توقعوا الفرج صباحاً ومساء .
وقد سبق أن سمعنا ما قاله المهدي (ع) للشيخ المفيد في رسالته إليه ـ برواية الطبرسي في الاحتجاج (3) ـ من قوله : فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا، وسخطنا، فان أمرنا بغتة فجأة . الخ الرسالة .
ـــــــــــــــــــ
(1) إعلام الورى , ص 404 . (2) انظر المصدرين المخطوطين . (3) جـ 2 , ص 324 .
صفحة (360)
وروي عن
الامام الصادق (ع)(1) أنه قال : وهو يعدد الدين الحق : الورع والعفة
والصلاح ... إلى قوله : وانتظار الفرج بالصبر .
وعن أمير المؤمنين(2) : انتظروا الفرج ، ولا تيأسوا من روح الله ،
فان أحب الأعمال إلى الله عز وجل ، انتظار الفرج .
وفي الاكمال(3) عن النبي (ص) ، قيل له : يا رسول الله ، منتى يخرج
القائم من ذريتك . فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا الله عز وجل
. لا تأتيكم إلا بغتة .
وفي منتخب الاثر (4) عن اكمال الدين أنه أخرج عن الامام الرضا (ع) قوله : ما أحسن الصبر وانتظار الفرج . أما سمعت قول الله عز وجل : فارتقبوا اني معكم رقيب ... فانتظروا اني معكم من المنتظرين ... فعليكم بالصبر ، فإنما يجيء الفرج على اليأس .
وأخرج الترمذي(5)
عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله
من فضله ، فان الله يحب أن يسأل . وأفضل العبادة انتظار الفرج .
وفي الكافي(6) عن أبي الجارود قال : قلت لأبي جعفر : يا ابن رسول
الله ، هل تعرف مودتي لكم وانقطاعي اليكم وموالاتي إياكم . قال : فقال : نعم
... إلى أن يقول : والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله ندين الله عز
وجل به : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ... إلى أن يقول :
وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع .
__________________
(1) منخب الأثر ، ص498 . (2) نفس المصدر والصفحة . (3) أنظر المصدر المخطوط . (4) ص 496 . (5) جـ 5 ، ص 225 .
(6) أنظر المصدر المخطوط .
صفحة (361)
وفيه أيضاً عن الامام الباقر عليه السلام ، في ذكر الدين الذي يقبل فيه العمل . قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ... إلى أن يقول : والورع والتواضع ، وانتظار قائمنا . فان لنا دولة ، إذا شاء الله جاء بها .
إلى غير ذلك من الأخبار ، وسيأتي فيما سنسمعه من الأخبار الناطقة بفضل الانتظار والمنتظرين ، خلال عصر الغيبة ، ما يدل على ذلك أيضاً .
وقد سبق أن تكلمنا عن المفهوم الصحيح للانتظار ، وها قد سردنا الأخبار الدالة على ذلك . وأما السؤال عن منافاة مفهوم الإنتظار مع العلامات المجعولة للظهور ، أو عدم منافاتها معه ، فقد سبق أن ناقشناه . وسيأتي تفصيل ذلك ، في القسم الثالث من هذا التاريخ .
وقد يقول قائل : إن أغلب هذه الأخبار ، لم تنص على أن المراد هو انتظار ظهور المهدي (ع) أو اليوم الموعود . فلعل المراد هو انتظار الفرج بعد أي شدة .
فنقول في جوابه : أنه يمكن الانطلاق إلى اثبات اختصاص هذه الأخبار بانتظار ظهور المهدي (ع) من زاويتين :
الزاوية الأولى :
الاستفادة من الأخبار المصرحة بذلك ، مما ذكرناه ...وجعلها قرينة على أن المراد من الأخبار الأخرى هو ذلك أيضاً.
وليس في ذلك ما ينافي كلا الأطروحتين : الامامية وغيرها في فهم المهدي (ع) . فان انتظاره على كل حال من أفضل العبادة ... سواء كان المهدي (ع) موجوداً غائباً أو لم يكن .
الزاوية الثانية :
إن انتظار الفردج الذي يكون مهماً إلى هذا الحد ، ومشدداً عليه في لسان المعصومين عليهم السلام بهذا المقدار ...حيث نسمع أنه أحب الأعمال إلى الله عز وجل ، وأنه أفضل العبادة ، وأنه أساس من أسس الدين ... هذا لا يمكن أن يكون انتظار الفرج من مشكلة معينة أو صعوبة فردية . فان غاية ما يطلب من الفرد إسلامياً خلال المصاعب هو الصبر ، وعدم الاعتراض على الله في ذلك . وأما انتظار ارتفاع الصعوبة ، فلا يعطي مزية زائدة بحسب ما هو المفهوم منالقواعد العامة في الإسلام .
صفحة (362)
وإنما هذا الانتظار الكبير ليس إلا انتظار اليوم الموعود ، باعتبار ما يستتبعه من الشعور بالمسؤولية والنجاح في التمحيص الالهي ، والمشاركة في إيجاد شرط الظهور ، في نهاية المطاف ...كل ذلك لمن يشعر بهذا الانتظار ويكون على مستوى مسؤوليته ، بخلاف من لا يشعر به ، بل يبقى على مستوى المصلحة والأنانية ...فانه لن ينال من هذه العبادة الفضلى شيئاً .
ونستطيع بكل وضوح أن نعرف أنه لماذا أصبح هذا الانتظار أساساً من أسس الدين ... لأنه مشاركة في الغرض الأساسي لايجاد البشرية ، ذلك الغرض الذي شارك فيه ركب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
إذن فهذه الأخبار ، لا يمكن أن يكون لها معنى ، إلا المشاركة في هذا الهدف الكبير .
* * *
الجهة الخامسة :
في فضل الانتظار
والمنتظرين ، خلال عصر الغيبة الكبرى ... والصابرين على البأساء في عهد الفتن
والانحراف .
وننطلق إلى الكلام في ذلك من ناحيتين :
الناحية الأولى :
فيما تقتضيه
القواعد العامة الاسلاميةمن ذلك :
يقوم الفرد المسلم المخلص في عصر الغيبة الكبرى بعدة مهام إسلامية ، لها أكبر الفضل
وأعظم الأثر في تربية الفرد وتكامله ، وقربه من تعاليم ربه ورضاه .ويفضل في ذلك –
احياناً – حتى على عصر النبوة وعصر الظهور. وتتلخص تلك المهام في عدة أمور :
الأمر الأول :
الإيمان بالغيب . فان الفرد المسلم في هذا العصر ، يختلف حاله عن المسلمين في عهد النبي (ص) من حيث وضحوح الاعتقاد بالعقائد الاسلامية ، وقربها إلى الحس ، طبقاً لما يميل إليه البشر من ميلهم إلى شهادة الحس وانشدادهم إلى الزمان والمكان .
صفحة (363)
وقد كان هذا موفراً في عهد النبي (ص) ، حين كان هو (ص) الذي يمارس الدعوة الاسلاميةبيده ، فتتوفر على يده العديد من المزايا التي لا يمكن أن يوجد مجموعها في أي عصر آخر .
المزية الأولى :
قوة الاقناع الناتجة مما له من الثقافة الالهية العالية ... وما له من الهيبة في نفوس المسلمين .
المزية الثانية :
تلقى الوحي من الله عز وجل ، في القرآن وغيره .حتى لكأن الفرد الاعتيادي آنذاك ، يحس بأثر تعاليم الوحي في حياته العملية ، وتطبقها ف يمجتمعه الذي يعيشه ،ويحس بما يستجد من تعاليم وتوجيهات ... وبما ينزل من قرآنمبشراً ومنذراً ومعلماً ومهدداً .
المزية الثالثة :
العدل الشامل الذي ساد الدولة الاسلامية في عصره (ص) ... ذلكالعدل الذي أعطى الدليل التاريخي الحاسم على مر العصور ، وإلى يوم الظهور الموعود ... على نجاح التجربة الاسلامية في مجال التطبيق .
المزية الرابعة :
النص المؤزر المستمر الذي كان يناله الجيش الاسلامي بقيادته (ص) ، مما لا يمكن أن يخطر على بال ، بحسب التخطيطات العسكرية المعروفة يؤمئذ ... بل في كل عصر ، مع حفظ النسبة بين الجيشين المتحاربين عدة وعدداً . وذلك نتيجة للتوفيق الالهي الذي كان يحالفه في غزواته ، كما نطق به التنزيل ، ودلت عليه التجربة التاريخية .
صفحة (364)
المزية الخامسة :
شخصيته (ص) من حيث كونه المثل الأعلى للخلق الاسلامي الرفيع . فقد طبق على نفسه التعاليم التي جاء به بدقة وإخلاص ، فكان مثلا ًيحتذى وقدوة للورى وكمالاً إنسانياً عالياً ، حتى نطق التنزيل بالاعجاب به وتأييده بقوله عز من قائل : ﴿ وأنك لعلى خلق عظيم ﴾(1) .
إلى غير ذلك من المميزات التي لا شك أن لها الأثر البالغ العميق في تقريب الفرد من الايمان وإيضاحه له وترسيخه في نفسه ... حتى أنه ليكاد يرى جميع العقائد والمفاهيم التي يبشر بها النبي (ص) حسية جلية واضحة للعيان ، بالرغم من كونها أموراً فكرية أو ميتافيزيقية .
ورغم هذا الوضوح ، فقد مدح الله تعالى : ﴿ الدين يؤمنون بالغيب ﴾(2) و ﴿الذين يخشون ربهم بالغيب﴾(3) ، وأثنى عليهم في عدد من مواضيع كتابه الكبير .
وسيتوفر مثل هذا الوضوح ، في تطبيق آخر لهذه المميزات العديدة ، ما عدا الوحي ، في القائد الاسلامي العالمي الجديد ، المهدي (ع) الذي سيتكفل إيضاح الدعوة الاسلامية وتطبيقها على البشر أجمعين .
إلا أن شيئاً من هذه المميزات ، لا يكاد يوجد في عصر الغيبة الكبرى ، عصر الفتن والانحراف . ومن هنا ، كان الإيمان بالعقائد الاسلامية بالنسبة إلى الفرد الاعتيادي ، أبعد عن الحس ، يحتاج إلى صدر أرحب ووجدان أخصب وتعب ف يالفحص والتفكير أكثر ... خاصة بعد الحكم الاسلامي ، وتأكيد القرآن على عدم جواز التقليد في العقيدة ، وشجب اتباع الاباء والمربين بدون برهان ، بل لا بد للفرد أن يأخذ بزمام عقيدته بنفسه ويومن بها عن الوعي واقتناع .
________________
(1) القلم ك 68/4 . (2) البقرة : 2/3 . (3) الأنبياء : 21/49 . والملك : 67/12 ، وفاطر : 35/18 .
صفحة (365)
ومن المعلوم أنه
كلما حصل العناء في سبيل العقيدة الالهية ، أكثر ، واستلزم الايمان تضحية أكبر ...
وكانت النتائج صحيحة صالحة ... كان ذلك موجباً للكمال البشري والقرب الالهي بشكل
أكبر وأعظم .
وهذا المعنى بالذات ، من جملة حلقات التخطيط الالهي لتربية الأفراد المخلصين
الممحصين في عصر الفتن والانحراف . وسنوضح ذلك بعد قليل .
الأمر الثاني :
مما يقوم به الفرد المخلص في عصر الغيبة : تحمل التضحيات والمشاق في سبيل إيمانه وتمسكه بإسلامه ... تلك المشاق التي لم تكن موجودة في عصر النبوة ولن تكون موجودة في عصر الظهور .
فإن المشاق التي تبذل عادة في سبيل العقيدة على قسمين :
القسم الأول :
ما يبذله الفرد عن طواعية واختيار ، من خدمات وأتعاب .وهو ما سميناه بالتمحيص الاختياري .وعرفنا أثره الكبير في تكامل الفرد طبقاً لقانون التمحيص العام .
القسم الثاني :
ما يقع على الفرد من الآخرين في المجتمع ، من قهر ومطاردة وإيلام ، ضد إيمانه وأعماله وعقيدته .
ويختلف هذان القسمان في ثلاثة مستويات رئيسية :
المستوى الأول :
إن القسم الأول مشترك بين عصر النبوة وعصر الغيبة وعصر الظهور . فان لكل عصر من هذه العصور مشاكله التي تحتاج من المخلصين المبادرة إلى حلها .وحسبنا من ذلك ، إن الفرد في عصر النبوة كان يخرج طواعية لينال الشهادة في سبيل الحق والواجب .
ولكن القسم الثاني : غير موجود في المجتمع الذي يحكمه الاسلام ، سواء في عصر النبوة او عصر الظهور ... وإنما هو بعصر الفتن والانحراف ... هذه العصور التي نعيشها ، حيث أصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، وطورد المخلصون على اخلاصهم وحسن تصرفهم .
صفحة (366)
المستوى الثاني :
إن القسم الأول من التضحية منسجم مع العقيدة ، لا يجد الفرد فيه أي مجابهة لها أو مناقضة لمقتضياتها . باعتبار كون القيام به مطابق مع تعاليمها وفي مصلحة الدعوة اليها والتركيز عليها .
وأما القسم الثاني ، فهو يتضمن – بشكل مباشر وصريح – مجابهة للعقيدة ، وأيقاعاً للظلم على الفرد باعتبار ما يحمله من إيمان وما يقوم من عمل في سبيل الحق .
المستوى الثالث :
إن القسم الثاني أكثر إيلاماً للنفس وأصعب تحملا ًللفرد من الأول .
فإن القسم الأول من التضحية ، مهماجر من مصاعب وآلام ، فانه أمر اختياري للفرد لا يجد فيه أسفاً . وإنما يجد فيه المخلص حلاوة الايمان ونور العمل الصالح .
وأما القسم الثاني ، فيجد فيه الفرد ضغط الاضطرار وقسوة المرارة وضيق الالم ... ولولا ثقة الفرد بربه وعقيدته ، وقائده المهدي (ع) ، لكان من الهالكين .
وعلىأي حال ، فمن الجلي أن تحمل التضحية من كلا القسمين ، كما عليه حال العمل العام خلال الغيبة ، أصعب منه وأعقد من تحمل قسم واحد من العمل . وهذا أيضاً أحد عناصر التمحيص الالهي وأسبابه ، على ما سنذكر .
الأمر الثالث :
صمود الفرد ضد الاغراء ، بشكل غير موجود ، لا في عصر النبوة ولا في عصر الظهور .
صفحة (367)
فإن الاغراء الذي قد يواجهه الفرد على قسمين :
القسم الأول :
الاغراء الناتج من مصالحه الشخصية وشهواته النفسية ، باعتبار ما للشهوات
الغريزية من اندفاع الاشباع ، من دون أن تنظر إلى الطرق والوسائل . وقد قيل صدقاً : إن الغرائز لا عقل لها .
القسم الثاني :
الاعراء الناتج من قبل الآخرين ، حين يرى الفرد ما لعصر الفتن والانحراف من جمال وحضارة وتنظيم ... وما لاتباع تياراته وحكامه من ضمان للمال والشهوة والراحة في الحياة . فيأتي كل ذلك إلى نظر الفرد بهيجاً عظيماص يغويه بالاتجاه نحوه والحصول عليه والعمل على الوصول إليه .
والقسم الأول ، مواكب للبشرية على طول وجودها الطويل ، ما دام في الانسان في الانسان شهوات وما دامت له مصالح خاصة . لا يختلف فيه عصر الغيبة الكبرى عما قبله أو ما بعده . وهذا هو المحك الأساسي للتمحيص العام للبشرية أجمعين .
إلا أن القسم الثاني خاص بعصر الغيبة الكبرى ، بصفتها عصر الفتن والانحراف . لوضوح أن المصالح الشخصية التي تقتضي الاغراء بالحصول على القوة والمال ، كلها موجهة إلى دولة الحق ، عند وجودها في عصر النبوة أو عصر الظهور ... بخلافه في عصر الغيبة ، فانها موجهة للحضارة المادية والحكام المنحرفين .
الأمر الرابع :
إيمان الفرد بالمهدي (ع) ، ويتجلى ما يستلزمه من تضحيات ومصاعب ، في مستويات ثلاثة :
المستوى الأول :
كونه إيماناً بالغيب ... فيلاقي من العقبات ما قلناه في الأمر الأول ، سواء كان باعتبار الايمان باليوم الموعود ، الذي يطبق الله تعالى أطروحته الكاملة على البشر . أو باعتبار الإعتبار الإيمان بالمهدي (ع) على الخصوص كقائد لذلك اليوم الموعود .
أو باعتبار الايمان فعلاً بوجود المهدي (ع) وغيبته ... على الاختلاف بين الناس في هذه العقائد الثلاث. فان الايمان بأي واحدة منها إيمان بالغيب ، فضلاً عن الايمان بها جميعاً ، طبقاً للفهم الامامي للمهدي (ع) . فانها جميعاً خارجة عن الحس الاعتيادي . إلالأولئك الخاصة الذين شاهدوا المهدي (ع) على وجه التعيين . وقليل ما هم .
صفحة (368)
المستوى الثاني :
إستلزام طول مدة الغيبة وتماديها ، بحسب الذهنية الاعتيادية للبشر ، فيما شاهدوا من مقادير عمر الانسان ، استلزامه لاستبعاد وجود المهدي (ع) خلال هذه المدة ، وترجيح موته أو عدم ولادته .
كيف وهو المذخور لنشر العدل ورفع الظلم ، فلماذا لا يخرج لنشره وهو يرى الظلم المتفاقم على وجه الأرض . وقد أسلفنتا الجواب على مثل هذه الأسئلة ، فلا نعيد .
المستوى الثالث :
ما يستلزمه الايمان بوجود المهدي (ع) وعلمه بأعمال الناس ومشاهدته للمجتمع عن كثب حال غيبته ... من شعور الفرد بالمسؤولية المضاعفة ، بالتركيز على العمل الصالح على الصعيدين الشخصي والاجتماعي ، ليكون عند حسن ظن قائده به وثقة إمامه .
ومن الواضح ، أن الإيمان بالغيبة وما تتضمنه من مصاعب ، غير موجود ، لا في عصر النبوة ، ولا في عصر الظهور .
إذن ... فهذه أمور أربعة ، تمثل المسؤوليات المهمة والتضحيات الكبرى التي يجب على الفرد المسلم القيام بها خلال الغيبة الكبرى . وهي التي – بمجموعها – جعلت هذه الفترة من عمر البشرية الطويل ، أصعب الفترات ، من حيث تأكد التمحيص وعمق الامتحان . والتي جعلت الفوز فيه بالشكل الكامل الشامل ، قليلاً ومحتاجاً إلى زمان طويل وتربية مستمرة ، سواء على مستوى الفرد ، أو على مستوى الأمة جميعاً .
كل ذلك ، ليتحقق الضمان الأكيد في الحصول على جماعة من الصامدين ضد كل هذه المصاعب ، الناذرين أنفسهم في سبيل ربهم وعقيدتهم على كل حال ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ... ليكونوا هم أعوان المهدي (ع) في نشر القسط والعدل على وجه البسيطة في اليوم الموعود ... وبغير هذا المستوى من الاخلاص ، لن يمكن تحقيق الحكم العالمي العادل ، بأي حال من الأحوال .
صفحة (369)
فهذا هو الكلام في الناحية الأولى ، في ما تقتضيه القواعد العامة من فضل الاخلاص والمخلصين خلال عصر الفتن والانحراف ، بشكل يفوق غيره من العصور .
الناحية الثانية :
فيما نطقت به الأخبار من فضل المؤمنين المخلصين المضحين في سبيل الله في عصر الفتن والانحراف ... المنتظرين لليوم الموعود ، فيما قبل الظهور .
أخرج مسلم (1) والترمذي (2) وابن ماجة (3) عن النبي (ص) أنه قال : العبادة في الهرج كهجرة إليَّ .
والفهم الواعي الصحيح لهذا الحديث الشريف ، يتوفق على تقديم عدة مقدمات :
المقدمة الأولى :
إن المراد بالهرج ، وهو الفتن والانحراف الذي يقع في عصر الغيبة الكبرى .
باعتبار ما نطقت به أخبار الفريقين ومصادر العامة على وجه الخصوص ، من وقوع الهرج والقتل والفتن خلال هذا العصر . فان هذه الأخبار ، تكون قرينه تدلنا على ان المراد بالهرج في هذا الحديث هو عصر الهرج والفتن ، لا نفس الهرج ، وهو القتل .
المقدمة الثانية :
يراد بالهجرة إلى النبي (ص) : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . وهو في واقعه أساس الأعمال الاسلامية جميعاً ومبدؤها الذي تنطلق منه ، لأنها تعبير آخر عن اعتناق الاسلام نفسه .
المقدمة الثالثة:
قد عرفنا ما تقتضيه القواعد من أن الإيمان والعمل الاسلامي ، كلما واجه من العقبات أكثر واحتاج من التضحيات إلى عدد أكبر ، كان مقرباً إلى الله تعالى بشكل أعمق وموجباً لتكامل الفرد بنحو أسرع .
___________________
(1) جـ8 ، ص 208 . (2) جـ 3 ، ص 332 . (3) جـ 2 ، ص 1318 .
صفحة (370)
المقدمة الرابعة :
يراد بالعبادة ، معناها العام ، لا خصوص الصلاة والصوم ، وإن كانت هذه من أقدس أشكال العبادات . بل يراد كل عمل مطلوب في الاسلام يحققه الفرد امتثالاً للأمر الالهي ، وتطبيقاً لتعاليم الإسلام . فتشمل العبادة بهذا المفهوم سائر العال الاسلامية ، الفردية منها والاجتماعية ، كما سبق أن حملنا عن ذلك فكرة كافية ... وحققناه مفصلاً في بحث متكامل عن المفهوم الواعي للعبادة في الاسلام .
إذن ينتج من هذه المقدمات الأربع : أن مراد النبي (ص) من حديثه هذا هو : أن العمل الاسلامي في سبيل الله بمختلف مستوياته ، مما يقع في عصر الهرج والفتن والانحراف له من الفضل عند الله وعند رسوله ، كفضل اعتناق الاسلام نفسه .
وليس ذلك بالعجيب ، بعد الذي سمعناه من الأخبار ورأيناه بالعيان ، من مجابهة الفتن والانحراف ، للعقيدة من مجابهة الفتن والانحراف ، للعقيدة والمعتقدين ، وقهرهم على ترك الإيمان والخروج عن طاعة الله عز وجل ، بمختلف وسائل الظلم والاغراء ... إذن فتكون المحافظة على العقيدة والبقاء على السلوك الصالح ، من الأهمية كالدخول في الاسلام لأول مرة ، وليت شعري ، قد يكون البقاء على العمل الصالح مستلزماً للتضحية والمتاعب أكثر مما يستلزمه اعتناق الاسلام لأول مرة .
وأخرج ابن ماجة (1) والترمذي(2) في حديث رسول الله (ص) قد سبق أن سمعنا قسماً منه ، أنه قال : فان من ورائكم أيامٍ الصبر .الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر . للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون بعمله .
فالعمل الواحد المتشابه ، يتضاعف فضله وأجره ، بتضاعف التضحية في سبيل تحقيقه . حتى إذا ما وصلت التضحية إلى أوجها ، وكان التمسك بالدين كالقبض على الجمر في الشدة والبلاء ، وصل الفضل والأجر إلى أوجه أيضاً ... وكان العمل الواحد ، من الرجل الواحد ، في مثل هذا الظرف ، معادلاً لعمل خمسين عامل مثله ، في حال الرخاء والدعة .
_________________
(1) جـ2 ، ص 1331 . (2) جـ2 ، ص 437 .
صفحة (371)
ورقم الخمسين ، بطبيعة الحال ، لا يراد به التحديد ، بل هو لمجرد المبالغة والتكثير كقوله تعالى : ﴿أ، تستغفر لهم سبعين مرة ﴾(1) . فلا ينافي القول بأن فضل الفرد الصابر المجاهد قد يفرق عمل غيره باضعاف هذا المقدار ، بازدياد ما يتحمل من المحن والآلام .
وروى الكليني في الكافي (2) بسنده إلى عمار الساباطي . قال قلت لأبي عبد الله (ع) : أيما أفضل العبادة في السر مع الامام المستتر في دولة الباطل ، أو العبادة في ظهور الحق ودولته (3) مع الامام منكم الظاهر .
فقال : يا عمار : الصدقة في السر أفضل من الصدقة في العلانية . وكذلك – والله – عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وحال الهدنة ، أفضل ممن يعبد الله عز ذكره ، في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق . وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق ...
إلى أن يقول : قلت : قدر الله رغبتي في العمل وحثثتني عليه .
ولكن أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق ، ونحن على دين واحد .
فقال : أنكم
سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل ، وإلى الصلاة والصوم والحج ، وإلى كل خير
وفقه ، وإلى عبادة الله عز ذكره سراً من عدوكم مع إمامكم المستتر ، مطيعين له
صابرين معه منتظرين لدولة الحق ، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة ...
مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم . فبذلك ضاعف الله عز
وجل الأعمال ، فهنيئاً لكم .
قلت : جعلت فداك ، فما ترى إذن أن نكون من أصحاب القائم ، ويظهر الحق .ونحن اليوم
في إمامتك وطاعتك ، أفضل أعمالاً من أصحاب دولة الحق والعدل .
___________________
(1) التوبة 9/80 . (2) أنظر المصدر المخطوط . (3) في المصدر المخطوط : ودولة . والظاهر أنه تحريف .
صفحة (372)
فقال : سبحان الله
. أما تحبون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد ، ويجمع الكلمة
ويؤلف الله بين قلوب مختلفة ، ولا يعصون الله عز وجل في أرضه وتقام حدوده في خلقه ،
ويرد الله الحق إلى أهله ، فيظهر حتى لا يختفي شيء من الحق ، مخافة أحد من الخلق
(1) . أما والله يا عمار ، لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها
، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد .
فابشروا .
ودلالة على هذه الرواية على تفضيل العبادة والعابدين والصبر والصابرين، خلال عهود الظلم والانحراف ، على العبادة في عهود الراحة والرخاء ، ذلك الرخاء الناتج عن حصول دولة الحق بقيادة الإمام المهدي (ع) وتطبيقه للأطروحة العادلة الكاملة على العالم . دلالة على ذلك ، أوضح من أن يخفى أو أن يكون محلاً للمناقشة .
ولكننا من أجل تجلية الموقف ، نود التعرض إلى نقطتين :
النقطة الأولى :
أنه قد اشترط الإمام الصادق عليه السلام ، في هذه الرواية ، في تحديد فضل الصابرين ... بأن يكونوا مع إمامهم المستتر .يعني : المستتر بإمامته ، لا يباشر الحكم .فقد يقول قائلاً : أننا الآن في عصر الغيبة الكبرى لسنا مع إمام ظاهر ، ولا مع إمام مستتر – بذلك المعنى – فلا يكون لمخلصنا من الفضل ما وصف في هذه الرواية .
ويجاب عن ذلك ، على مستويين :
المستوى الأول :
أننا بالفعل مع إمام مستتر ، طبقاً للمفهوم الامامي ، الذي انطلقت منه هذه الرواية ... ولسنا محرومين من هذه المزية لكي لا يشملنا الفضل الموصوف في الرواية .فان المهم هو كون الفرد موافقاً مع الإمام إماناً وعقيدة . وتستطيع أنت أن تضيف إلى ذلك – إن رغبت - : كونه معاصراً له في الزمان . وكلا هذين الأمرين متوافران لدى من يعتقد بالغيبة .فانه يعتقد أنه على طول الخط معاصراً زماناً مع إمامه المهدي (ع) ،ومتفق معه في العقيدة والإيمان . وأما كون الامام معروفاً بالشخص فهذا ليس له أي دخل في صدق كون الفرد معه ، كما هو واضح .
___________________
(1) في المصدر المخطوط : مخافة أحد من أحد من الحق . وهو تخريف ، يرجح أن يكون صحيحه ما أثبتناه .
صفحة (373)
وبتعبير أدق : إن المهم الذي أكدت عليه الرواية ، هو كون الامام مستتر بإمامته خوفاً من الظالمين ... كون الفرد مطيعاً له عقيدة وسلوكاً . وهذا بنفسه متوفر في عصر الغيبة ، بالنسبة إلى الفرد المخلص ، كما كان متوفراً في عصر الأئمة (ع) . فان كلا العصرين ، هما من عصور الفتن والانحراف وانحسار الحق واستتار الامام . ولا يبقى لمعروفية الامام بشخصه دخل مهم من هذه الجهة .
المستوى الثاني :
أننا نفترض – جدلاً – أن وجود الغيبة يمنع من كوننا مع الامام . أو نجر الكلام إلى من لا يقول الغيبة أصلاً . ولكن مع ذلك نقول بشمول الفضل الموصوف في الرواية للمخلصين الموجودين خلال عصر الفتن والانحراف .
فان ما هو المدار في ثبوت الفضل ، وما هو الأساس في التمحيص الالهي ، على ما عرفنا ، إنما هو الخوف ، من الظلم والصمود ضد كيد الأعداء وضد مطاردة المنحرفين ... فان العمل والعبادة خلال الخوف ، أفضل وأعلى في درجات الكمال ، من العمل في عصور الاطمئنان والرخاء . وهذا الجو العاصف موجود في القرون المتأخرة ، كما هو موجود في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام بدون فرق .فان كلا العصرين ، من عصور الفتن والانحراف.
ويزداد الخوف وتتكاثر المصاعب ضد المخلصين ، في العصور المتأخرة عن عصر الأئمة (ع) من عدة نواحٍ :
الأولى : إن الحكم في ذلك العصر ، مهما كان مصلحياً ومنحرفاً ، كان يقوم باسم الاسلام ، وعلى أساس تطبيقه . على حين لا نجد اليوم على وجه الأرض حاكماً على الاطلاق يمثل هذا الاتجاه . بعد أن اتجهت أساليب الحكم إلى المادية والعلمانية .
الثانية : أن التنظيم العام الذي تقوم عليه الدولة في ذلك العصر ، كان أبسط بكثير مما تقوم عليه الدول اتلآن . من جهات عديدة جداً . في الجهاز العسكري وجهاز الشرطة ونوع الأسلحة وشكل الحكم وأسلوب التجسس والمطاردة ، وتنظيم الدولة ، والأحزاب والتكتلات ... إلى غير ذلك .
صفحة (374)
الثالثة : أنه في ذلك العصر ، كانت تغزو المجتمع تيارات إلحادية وأساليب هدامة ، إلا أنه كانت ضعيفة ، مرفوضة من قبل الرأي العام المسلم ومطاردة من قبل السلطات الحاكمة . وأما التيارات الالحادية ونحوها ، اليوم ، فهي مدعمة بتفكير المفكرين وتأليف المؤلفين ، ووسائل الاعلام العالمية ، ومدعمة أيضاً بالتأييد المطلق من قبل كثير من الدول ، تبذل عليها الميزانيات الطائلة والأساليب الهائلة .
وتطارد من يعارضها ويدعو الناس إلى رفضها والتوجه إلى الحق ، المتمثل بالاسلام وتعاليم الله عز وجل .
ومن هنا نفهم أن الظلم فيما بعد عصر الأئمة (ع) أشد وأوكد ، والتمحيص الالهي أعقد . فإذا كان لأصحاب الأئمة عليهم السلام ، من الفضل ما ذكرته الرواية ، فهو أوكد وأعمق في حق المخلصين المتأخرين عن ذلك العصر . وكلما تعقتد التمحيص وصعب ، كان الفضل عند الله أكثر والكمال المحرز في الإيمان والاخلاص أكبر .
النقطة الثانية :
قول الامام الصادق (ع) – بحسب الرواية - : لا يموت منكم ميت على الحال الذي أنتم عليها ، إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد .
فابشروا .
وهذا واضح وصحيح ، بعد أن نلاحظ أمرين مما قلناه :
الأمر الأول :
ما قلناه ، من أفضلية الممحصين الكاملين الصالحين لقيادة العالم بين يدي المهدي (ع) .من الأعم الأغلب من أصحاب رسول الله (ص) .كما سبق أن برهنا عليه .
الأمر الثاني :
ما قلناه قبل قليل ، من أفضلية من يعيش في عصر الغيبة عمن يعيش في غيره من العصور ، ولو أثبت الفرد الجدارة والصمود ضد الظلم والانحراف .
فإن قال قائل : انهم قد استشهدوا في سبيل الله تعالى دوننا ، فيجب أن يكونوا أفضل منا .
صفحة (375)
قلنا: كلا . فان الشهادة التي نالها الأغلب في بدر وأُحُد ، كانت باعتبار الاندفاع الثوري والوهج العاطفي الحراري الذي أوجده رسول الله (ص) في مجتمعه . كما سبق أن عرفنا . ومثل هذا العمل وإن كان يمثل نجاحاً كبيراً في التمحيص الاختياري ، إلا أنه لا يمكن أن يكون سبباً لتربية الفرد وتكامله ، ودقة تمحيصه ... فان ذلك ما يحتاج إلى زمان طويل وتسلسل تدريجي بطيء ، وتكامل متواصل ... ولا يمكن للفرد أن يقفز دفعة واحدة إلى الكمال ، مهما كانت الظروف التي عاشها صعبة ومتعبة .
ومثل هذه التربية البطيئة ، يمر بها الفرد المسلم بل الأجيال المسلمة في عصر الغيبة الكبرى ، بشكل أطول وآكد بكثير مما مر به أصحاب رسول الله (ص) خلال عقدين من الزمن . وستنتج نتائج أوسع وأعمق وذات مستويات أكبر مما نتج بالنسبة إلى الأغلب ممن عاصر النبي (ص) . كما استطعنا أن نتبين خطوطه العريضة فيما سبق من البحوث .
* * *
وبذلك نستطيع أن نفهم سائر الروايات الواردة في فضل الصامدين على الحق المنتظرين لليوم الموعود .
منها : ما رواه الصدوق في الاكمال (1) عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام ، أنه قال- في كلام له عن المهدي (ع) - : له غيبة يرتد فيها أقوام ، ويثبت على الدين فيها آخرون . ويقال لهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخبار .
وما أخرجه البرقي في المحاسن (2) عن الإمام الصادق (ع) ، قال : من مات منكم على أمرنا هذا فهو بمنزلة من ضرب فسطاطه إلى رواق القائم ، بل بمنزلة من يضرب معه بالسيف ، بل بمنزلة من استشهد معه ، بل بمنزلة من استشهد مع رسول الله (ص) .
___________________________
(1) أنظر المصدر المخطوط . (2) جـ2 ، ص 172.
صفحة (376)
وأخرج أيضاً (1) : من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له ، كان كمن كان في فسطاط القائم (ع) . وعن الإمام الباقر (ع) – في ضمن حديث أنه قال : القائل منكم : إن أدركت القائم من آل محمد نصرته ، كالمقارع معه بسيفه ... الحديث .
بل أن الممحصين الكاملين لأعظم حتى من هذه الدرجة كما تدل عليه روايات أخرى :
منها : ما رواه الصدوق في إكمال الدين (2) أيضاً عن الإمام بن الحسين (ع) في حديث له عن المهدي (ع) : إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره ، أفضل من أهل كل زمان ، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان ، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف . أولئك المخلصون حقاً ... والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً .
وما رواه الشيخ في الغيبة(3) عن النبي (ص) أنه قال : سيأتي قوم من بعدكم ، الرجل الواحد منهم له اجر خمسين منكم . قالوا : يا رسول الله ، نحن كنا معك ببدر وأُحُد وحنين وأُنزل فينا القرآن . فقال : لو تحملون لما حملوا لم تصبروا صبرهم .
إذن فهؤلاء الممحصون الكاملون ، أفضل من عامة المعاصرين للنبي (ص) .
والسر فيه ما قلناه من فجاجة أولئك من حيث التمحيص ، وعمق هؤلاء . والشخص الفج لا يتحمل التمحيص العميق بطبيعته ، وهو معنى قوله : انكم لو تحملون لما حملوا ، لم تعبروا صبرهم .
______________________________
(1) المصدر والصفحة وكذلك الخبر الذي يليه . (2) أنظر المصدر المخطوط . (3) أنظر ص 275 وأخرجه في الخرايج ، ص 195 .
صفحة (377)
ونود أن نعلق على هذه الأخبار الأخيرة بنقطتين :
النقطة الأولى :
إن التعبير بالفسطاط وبالسيف ، إنما جاء في هذه الروايات ، مماشاة مع ما يعرفه الناس في عصر صدور هذه الروايات . وقد سبق أن قلنا في أول القسم الثاني من هذا التاريخ ، أننا يجب أن نبحث عن مصاديق جديدة لمثل هذه التعبيرات ، مناسبة للعصر الذي تتحدث عنه . فيكون المراد بالسيف سلاح الامام المهدي (ع) وبالفسطاط مقره أو عاصمته أو نحوها .
ومن المحتمل أن يكون المراد بالبفسطاط المدرسة الفكرية ، بحسب ما نصطلح عليه اليوم أوالمبدأ المستلزم لاتجاه فكري وسلوكي خاص في الحياة .
والقرينة على ذلك ، ما رواه أبو داود (1) عن رسول الله (ص) في حديث له عن الفتنة ، قال : يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، حتى يصير الناس إلى فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه .وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ... الحديث .
فان المراد منه – بكل وصوح – المدرستين الفكريتين أو المبدأين العقائديين ، شبههما بفسطاطين لجيشين متحاربين كما كان عليه أهل ذلك الزمان .
النقطة الثانية :
عرفنا في الجانب الأول من الحديث عن الانتظار والمنتظرين ، نفس ما أقادتنا إياه هذه الروايات من كون الفرد الممحص الكامل أفضل من كثير من المستشهدين بين يدي رسول الله . كما عرفنا أنه بمنزلة المعاصرين مع المهدي (ع) العاملين في سبيل نصرته
وذلك التجاور المكاني والزماني ، ليس له حساب في العقيدة والعمل ، وإنما الذي يؤخذ بنظر الاعتبار هو درجة الاخلاص ، والايمان . وقد عرفنا أن أصحاب المهدي (ع) على درجة عليا من الاخلاص الممحص وقوة الايمان ... فإذا كان الفرد في عصر الغيبة ممّحصاً بنفس الدرجة كان مثل أصحاب المهدي (ع) بطبيعة الحال .
_________________________
(1) جـ2 ، ص 411 .
صفحة (378)
إلا أن ما ورد في بعض الروايات ، من أن الفرد المخلص في زمان الغيبة ، كالمستشهد بين يدي المهدي (ع) ، مما لا يكاد ينسجم مع القواعد إذ المفروض تماثل الفردين في الاخلاص الممحص ، مع زيادة الآخر بفضل الشهادة في سبيل الله عز وجل . إلا أن ينال هذا الفرد في عصر الغيبة ، الشهادة في سبيل الله أيضاً .
* * *
الجهة السادسة :
في المنزلة السئلة والقيمة المنحطّة لأعداء المهدي (ع) في عصر الهدنة ، عصر الغيبة الكبرى وما قبله .
روى النعماني في الغيبة (1) والصدوق في الاكمال (2) والطبرسي في الاعلام (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أقرب ما يكون العباد إلى الله عز وجل ، وأرضى ما يكون عنهم إذا فقدوا حجة الله ، فلم يظهر لهم ، ولم يعلموا بمكانه . وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجج الله عنهم ولا تبطل بيناته ز فعندها فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً .
وإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه ، إذا افتقدوا حجته ، فلم يظهر لهم . وقد علم أن أولياءه لا يرتابون . ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين . ولا يكون ذلك إلا على رأس شرار الخلق .
ويقع الكلام في هذه الرواية ، ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
فيما هو مقتضى القاعدة لتحديد درجة مسؤولية الفرد تجاه العصيان لأحكام الاسلام في عصر الغيبة الكبرى.
الصحيح هو تضاؤل المسؤولية إلى حد ما في العصيان أثناء عند الفتن والانحراف والاغراء ،عنها في الزمن المعاصر لعصر التشريع ... لكن لا بدرجة يلزم منها انعدام الاختيار وسقوط التكليف .
_________________________
(1) ص 83 وما بعدها . (2) أنظر المصدر المخطوط . (3) ص 404 .
صفحة (379)
ويتم البرهان على ذلك بمعرفة عدة مقدمات :
المقدمة الأولى :
في إيضاح مراتب الجبر والاختيار .
فإن الفرد لا تكون إرادته في كل الأفعال على حد سواء ، بل تختلف على مراتب متعددة ، تضعف في بعضها حتى تنعدم وتوجد في بعضها حتى تتضح ...
كما يبدو من المراتب الآتية :
المرتبة الأولى :
الجبر الفلسفي ، بمعنى أن الانسان يقوم بأعماله ، كما يصدر النور من الشمس والرائحة من الزهر ، أو كالقلم بيد الكاتب والعصا في يد الضارب . وهو أعلى درجات الجبر وانعدام الارادة وفقدان الاختيار .
ويقوم هذا الجبر على أحد أساسين :
الأساس الأول :
الأساس المادي .. كالقول بالمادية التاريخية التاريخية ، الذي يربط التطورات التاريخية ، وجميع تصرفات الأفراد بتطور وسائل الانتاج . فالفاعل المؤثر – في الحقيقة – هي هذه الوسائل ، وليس للانسان أي يد في تغيير ما يقوم به من أعمال .
وهذا واضح من اتجاه الماديين التاريخيين ، إذ لو كان للأفراد اختيار في أفعالهم ، لكانوا هم صانعي التاريخ والمشاركين في تطويره ، ولم يكن تطويره مستنداً تماماً إلى وسائل الانتاج ، كما قد أكدوا عليه .
والظاهر أن كل كل المذاهب المادية ، تقول بالجبر الفلسفي هذا ، باعتبار أن القول بالاختيار اعتراف بأمر ميتافيزيقي لا يمكنهم الايمان به .على أنه يتضمن المنافاة للعلل المادية الضرورية التأثير في الانسان ... تلك العلل التي تقدمها هذه المذاهب .
الأساس الثاني :
الأساس الالهي ، بمعنى أن الله تبارك وتعالى هو الفاعل المؤثر في إيجاد أفعال الانسان ، إيجاداً قهرياً . وأشهر من يقول بذلك هم الأشاعرة من المسلمين واليهود من أهل الكتاب .
صفحة (380)
وكلا الأساسين باطلان في الاسلام : أما الأساس الأول ، فباعتبار مناقضة المادية مع الاسلام في النظر إلى الكون والحياة أساساً كما هو المبرهن عليه في كتب العقائد . وأما الأساس الثاني ، فلاستلزماته بطلان الثواب والعقاب ، وسقوط الفرد عن استحقاقه . كما هو المبرهن عليه في كتب العقائد أيضاً .
المرتبة الثانية :
القسر على فعل معين ، بعد الاعتراف ببطلان الجبر في المرتبة الأولى ... كما لو شد وثائق شخص بحبل- مثلاً – والقي في فمه الماء أو الطعام ، أو نقل من مكان إلى آخر محمولاً .
ولا يسمى ذلك بالاضطرار اصطلاحاً ، وإن كان يمكن أن يسمى به .
المرتبة الثالثة :
الاكراه ، مع افتراض توفر الاختيار في المرتبتين السابقتين .
وأوضح أشكاله هو التهديد أو بالشر المستطير ، لشخص على أن يعمل عملاً ما ، تهديداً قابلاً للتطبيق ... فيضطر الفرد لايقاع الفعل قهراً عليه .
ولهذه الاكراه أشكال أخرى ، كما لو كان التهديد متوجهاً إلى شخص والأمر متوجهاً إلى شخص آخر . كما لو أمرك شخص بفعل ، مهدداً إياك بقتل ولدك مثلاً .وكما لو كان الأمر متعلقاً بايقاع أحد أمور متعددة ، لا بإيقاع شيء واحد . مثل ما إذا قال ذلك الشخص : اعمل كذا أو كذا وإلا قتلتك .
المرتبة الرابعة : الاضطرار ، وهو الالتجاء إلى فعل معين تجنباً لأمر آخر وشيك الوقوع عليه .
كما لو باع داره التي يسكنها لسداد دينه أو الصرف على صحته ... وغير ذلك .
وهاتان المرتبتان غير منافيتين للاختيار بالدقة ، فان الفرد يوقع الفعل بإرادته على أي حال ، وإن كان فعله قد يكون مخالفاً لهوى النفس أو للعقيدة التي يحملها مخالفة شديدة . على حين كانت المرتبتان الأوليتان ، منافيتين مع الاختيار مباشرة ، إذ لا معنى للاختيار الفعلي مع أي منهما .
صفحة (381)
المرتبة الخامسة :
ما نستطيع أن نسميه بالاضطرار غير المباشر .وهو عبارة عن ردود فعل معينة تجاه مؤثرات عامة أو خاصة ، يقوم بها الانسان بإرادته واختياره . لكن لا يكاد يوجد له منها مناص عرفاً وعادة ... وإن وجد المناص منها عقلاً.
يندرج في ذلك الكثير من الأفعال ، كاضطرار التاجر إلى بيع سلعته بأرخص مما اشتراها أحياناً .وكاستمرار المعتاد أو المدمن على شيء ، وعدم استطاعته ترك عادته ، كالادمان على الخمر أو التدخين مثلاً .وكاستمرار المختص بحقل من حقول المعرفة في التدقيق وزيادة البحوث في حقله ، دون الحقول الأخرى .
فالطبيب المتمرس – مثلاً – لا يمكن له أن يكون فيزياوياً أو مهندساً معمارياً . وكالتزام الشخص الاعتيادي بتقاليد مجتمعه وعقائد آبائه . وكاضطرار الجوعان إلى الطعام في موعده ، ما لم يصل إلى حد الخوف من الهلاك، فيكون مندرجاً في المرتبة السابقة .
ولهذه المرتبة مستويان يختلفان في درجة انحفاظ الاختبار .
المستوى الأوةل :
أن تكون ظروف الفرد وملابساته تعيّن عليه الفعل ، بحيث يكون قاصراً عن تركه ، ولا مناص به عرفاً عنه .
المستوى الثاني :
أن لا يبلغ التسبيب إلى درجة القصور ، بل تكون له فرصة الاختيار عرفاً ، وإن كان الدافع إلى الفعل والحافز عليه شديداً .
وأمثلة هذين المستويين ، نسبية تختلف بين فرد وآخر وفعل آخر ، بحسب اختلاف الظروف النفسية والعقلية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، مما يمر به هذا الفرد أو ذاك .فقد يكون الفرد قاصراً عن ترك شيء ، ولا يكون الفرد قاصراً عن ترك شيء ، ولا يكون فرد آخر قاصراً عن ترك نفس الشيء . أو يكون فرد قاصراً عن شيء دون شيء آخر .
فمثلاً قد يكون أحد الأطباء قادراً بحسب ظروفه على أن يختص بالفيزياء أيضاً . ولا يكون طبيب آخر غير قادر على ذلك ، بحسب ظروفه وهكذا .
صفحة (382)
المرتبة السادسة :
الاختيار المطلق ، بمعنى أن يكون للفرد حرية الفعل والترك معاً ، بمقدار خمسين بالمئة على السواء .
وهذا أمر نسبي أيضاً ، فقد تكون أطراف التخيير كلها ممكنة ، وليس في أحدها حافز أكثر من الآخر ... وقد يكون في بعضها حافز أكثر ، وقد يكون في بعضها مثبط أو مبعد . وقد يكون بعضها مضطراً إلى فعله بالمرتبة الثانية أو الثالثة ، ويكون الاختيار باعتبار الأطراف الأخرى ، وهكذا .
المقدمة الثانية :
إذا عرفنا هذه المراتب الست ، أمكننا أن نعرف بوضوح اختلافها في درجة الاختيار ، وأن نلاحظ اختلافها في درجة المسؤولية القانونية المترتبة عليها .
فان كل فعل له أثر قانوني ، تتناسب درجة مسؤولية طاعته وعصيانه مع درجة الاختيار تناسباً طردياً . ويدور التشريع مدار الاختيار تماماً ، سواء كان التشريع عقلياً أو شرعياً دينياً أو قانوناً وضعياً . بل أن كل من يتصدى لوضع أي تشريع فانه يفترض سلفاً أن من يأمره وينهاه ويعاقبه شخص له اختيار الفعل والترك ... وإلا فلا معنى للأمر والنهي ولا للنصح والتوجيه ... ويكون العقاب ظلماً والثواب لغواً . فانه إذا انعدم الاختيار ، انعدمت المسؤولية ، إذ يكون للفرد العاصي عندئذ بأنه كان مقهوراً ومجبوراً على العصيان .. ولا معنى لعقابه حينئذ .
فإن قال قائل : فان هناك الكثيرون ممن يؤمنون بالوجود القانوني للتشريع ويعملون عليه . مع أنهم يؤمنون بالجبر وانعدام الاختيار بالمرة . كالماديين والأشاعرة .
قلنا له : العمل على التشريع من قبل هؤلاء ، ناشيء من أن وجدانهم الارتكازي قائم على الاختيار ، وحياتهم العملية قائمة على الايمان به ، من حيث أن تحمل مسؤولية العصيان أمر عقلاني عام ... فهم مؤمنون بالاختيار عملياً وإن اعتقدوا من الناحية الفلسفية بخلافه ، وغفلوا عن المنافاة بين ثبوت المسؤولية وبطلان الاختيار .
صفحة (383)
وعلى أي حال ، فالمسؤولية القانونية ، تزداد بازدياد الاختيار وتقل بقلته ، كما أنها توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه . فهي موجودة في المرتبة الثالثة وما بعدها بوجود الاختيار في هذه المراتب جميعاً . نعم ، قد يكون الفرد العادي معذوراً في بعض مراتب الاكراه أو الاضطرار الشديدة ، بالرغم من أنه يعتبر عاصياً بالدقة العقلية . كما أنه مع سعة الوعي وعمق الأثر ، قد لا يكون الفرد معذوراً حتى في هذه المرتبة ، كما أنه يجب عليه تحمل الشدائد في سبيل أهدافه .
خذ مثلاً أن فرداً عادياً إذا اضطر إلى سرقة شيء من المتاع أو أكره عليه كان معذوراً ... ولكن لو اكره الرئيس الأعلى للدولة أو أحد علماء الاسلام على مثل هذه السرقة ، لا يكون معذوراً البتة ، لأن في ذلك افتضاح دولته أو دينه ، بل يجب عليه تحمل ما يكره والصبر عليه . حتى لو كان هو القتل – احياناً – إذا كان الهدف من العمق والشمول ، بحيث تبذل في سبيله النفوس .
وتتضاءل المسؤولية ، بنقصان الاختيار ، ففي مورد القصور – مثلاً – تكون المسؤولية منتقيه إلى حد كبير . لكنها في مورد الاضطرار غير المباشر تكون ثابتة على شكل ناقص ، لإمكان أن يتصرف الفرد بشكل يختلف عما قام به من عمل ، ويكون رد فعله تجاه الحافز بشكل آخر . وتكون المسؤولية كاملة في صورة الاختيار المطلق ، بطبيعة الحال .
وليس تفاوت درجات المسؤولية ، بدعاً من القول . بل له أمثلة كثيرة في القوانين . فمثلاً : قسموا القتل إلى عمد وشبه العمد والخطأ . ووجدوا من الظلم إيقاع عقاب المتعمد على شبه العمد أو الخاطئ . كما أنهم قسموه إلى ما كان عن سبق إصرار وما لم يكن . ووجدوا الظلم إيقاع العقاب الذي يستحقه الأول على الثاني . ووجدوا من الظلم – أيضاً – إيقاع عقاب السارق الاعتيادي على السارق في المجاعة .
ونجد في الاسلام أن عقاب الزاني المحصن أشد من عقوبة غير المحصن . إلى غير ذلك من الأمثلة . كل ذلك لأن درجة الاختيار أخذت بالتضاؤل ، فتضاءلت معها المسؤولية ، ومن ثم درجة استحقاق العقاب .
صفحة (384)
ولك من المثالين الأخيرين خير إيضاح ، فان درجة اختيار السارق العادي في ترك السرقة أكبر منها في السارق الجائع الذي لا يجد قوتاً ... وإن كان الأخير مذنباً أيضاً . كما أن درجة اتختيار المحصن المتزوج في التعفف عن الزنا أكبر من درجة الأعزب . وإن كان هذا مذنباً أيضاً ... وهكذا .
وليت شعري ، لا أعلم ماذا يقول الماديون وغيرهم من القائلين بالجبر الفلسفي في مثل هذه الموارد الواضحة قانونياً .فانها مما لا يمكن تفسير الفرق بين مراتبها بناء على رأيهم ، إذ يكون كل العصاة مجبورين على مستوى واحد على العصيان . بل يكون هؤلاء القائلين بالجبر ، مجبورين على اتخاذ هذا الرأي أيضاً !!.
المقدمة الثالثة :
أنه كلما توفرت وازدادت أسباب الايمان بالاسلام بالنسبة إلى الفرد ، ازدادت درجة إمكان اختياره له واعتناقه إياه وإطاعته لتعالميه . حتى ليصبح متساوي الأطراف ، كالمرتبة السادسة ، بل في طرف اعتناقه حفز قوي ودافع شديد ، لا يوجد مثله في طرف تركه . كما كان عليه الحال ، فيما بعد الفتح في عصر النبي (ص) ، حتى أننا سبق أن قلنا لأن الإيمان بالغيب كاد أن يكون حسياً ، وهو ما سوف يكون عليه الحال بعد الظهور . وفي مثل ذلك يكون العصيان ذا مسؤولية كبرى واستحقاق كبير للعقاب .
وكلما صعب طريق الايمان وازدادت عقباته ومزالقه ، وتكثرت التضحيات التي يتطلبها ومقاومة أشكال الظلم والاغراء التي يواجهها ... كانت درجة الاختيار والمسؤولية أقل ، لا محالة ، حتى تصبح من مرتبة الاضطرار غير المباشر بأحد المستويين السابقين . بل قد تنقص عن ذلك في بعض الأحيان .
ومن الممكن القول : ان اكثر حالات العصيان والانحراف في عصر الفتن والانحراف ، حيث تتركز المصالح الخاصة ويقل الوازع الاخلاقي والديني ، ويدرك الفرد أن كثيراً من الأعمال المنحرفة تعتبر ضرورة من ضروريات حياته ، ويتوقف أمنه وراحته عليها ... ان اكثر هذه الحالات هي من قبيل الاضطرار غير المباشر بالمستوى الثاني على أقل تقدير .
صفحة (385)
وأما القصور الحقيقي ، فيمثل الجزء الأقل ، من أسباب الانحراف في العالم ... باعتبار وضوح القضايا الدينية الاولية ، كالتساؤل عن مبدأ العالم والغاية من خلقه . فإذا استطاع الفرد أن يسير سيراً حسناً في اسنتتاجه ، استطاع الوصول إلى الحق لا محالة .ومن هنا ، شجب القرآن تقليد الآباء لمنافاته الصريحة مع تلك القضايا الأولية الواضحة .
ولئن كان القصور ، وهو الجزء الأقل من أسباب الانحراف في العالم ، موجب للعذر عقلاً وشرعاً ، فان الاضطرار غيرالمباشر ، وهو الجزء الأغلب من الأسباب ، غير موجب للعذر أساساً . لوجود الاختيار والمسؤولية فيه إلى درجة كافية . وخاصة بعد اتضاح معالم الحق ، وقيام الحجة والبرهان عليه وإمكان التضحية في سبيله إلى درجة معقولة ، من قبل الفرد العادي .
إذن ينتج من هذه المقدمات الثلاث : إن المسؤولية القانونية ، وان كانت متوفرة للمنحرفين في عصر الغيبة الكبرى، ولم يكن البشر معذورين في عقائدهم وأعمالهم الباطلة . إلا أن الظروف التي يعيشونها تكفكف من عمق المسؤولية وتقلل من درجتها ، بمقدار ما تقلل من درجة الاختيار ، وتجعل الحافز على الانحراف ، قوياً فعالاً .
وإلى مثل ذلك ، وما يشبهه تشير الرواية التي أخرجها الشيخ في الغيبة (1) بطريق صحيح عن زرارة عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال : حقيق على الله أن يدخل الضلاّل الجنة . فقال زرارة : كيف ذلك جعلت فداك ؟ قال : يموت الناطق ولا ينطق الصامت ، فيموت المرء بينهما ، فيدخله الله الجنة .
والشرح الأولي لهذه الرواية : ان المراد من الضلاّل بالتشديد : المنحرفين من المسلمين ، وإدخالهم الجنة إنما يكون بسبب قلة المسؤولية التي أشرنا اليها ، حتى تكاد تنعدم فينعدم العقاب بالمرة وذلك في ظرف معقد خال من التبليغ الاسلامي ، عند موت الناطق بالحق ، وصمت الموجود .
وقد يراد بالناطق والصامت ، الأئمة المعصومين عليهم السلام . فيراد بالصامت الامام المهدي (ع) وبالناطق من قبله منهم عليهم السلام . وتكون الفترة المشار إليها ، هو عصر الغيبة الكبرى الذي نؤرخ له . كما قد يراد بالناطق والصامت أيّ مفكر ومبلغ إسلامي وداعية إلى الحق سواء كان معصوماً أو لا .
__________________________
(1) ص 277 .
صفحة (386)
يكون المراد فترة أو عدة فترات صعبة من عصر الغيبة ، مع افتراض وجود الارشاد إلى الحق في غير هذه الفترات. هذا ، وأما الفهم الدقيق لهذه الرواية ، فله مجال آخر ، ويكفينا في هذا الصدد أن الفرق بين ما قلناه بني ما قلناه وبين مؤدّى هذه الرواية : هو أن قلة المسؤولية التي أشرنا إليها ، ناتج من ظروف الظلم والاغراء . وأما قلة المسؤولية التي تشير إليها الرواية فناتجه من ضعف التبليغ الاسلامي ، وما يسببه من الجهل والفراغ العقائدي بشكل عام .
وكلا الأمران صحيح ، وموجب لضعف المسؤولية ، فضلاً عما إذا اجتمعنا ، كما هو الموجود في عدد من عصور عصر الغيبة الكبرى . ومرادنا من الاستشهاد بهذه الرواية ، رفع الاستغراب من قلة المسؤولية مع الانحراف .
النقطة الثانية :
أنه بالرغم مما قلناه من قلة المسؤولية إلى حد ما في عصر الفتن والانحراف .
إلا أن ذلك لا ينافي قانون التمحيص . ولا ينافي صدق الرواية التي سبقت ودلت على اشتداد غضب الله تعالى على أعدائه إذا غيب حجته .
ويمكن أن نطلع على ذلك من خلال جانبين :
الجانب الأول :
في أن قلة المسؤولية لا تنافي التمحيص .
وذلك : لأننا لم نقل بانتقاء المسؤولية ، كيف ... وإن عصيان الله من أشد الأمور مسؤولية وإجراماً . ولكننا قلنا بقلتها في صورة الاضطرار غير المباشر عن صورة الاختيار المطلق . أو بتعبير آخر ، قلتها في عصر الفتن والانحراف عن عصر التشريع ومجاورة قواد الاسلام ، سواء السابقين منهم أو المهدي (ع) بعد ظهوره .
صفحة (387)
...فكل ما ينتج لدينا هو أن الفرد الفاشل في التمحيص في عصر الغيبة أخف جرماً من شخص فاشل في عصر الظهور .تماماً كما ينتج لدينا أن الشخص الناجح في التمحيص في عصر الغيبة أفضل وأحسن من الشخص "الناجح في عصر الظهور " (1) لأن مضاعفة التمحيص وشدته ، يلازم كله هذين الأمرين .
ومعه يبقى التمحيص على حاله ، من حيث أساليبه ونتائجه :
أما أساليبه ، فباعتبار أن قلة المسؤولية النسبية ، لا تعني تغير الواقع الذي يعيشه الفرد من الظلم والتعسف والانحراف . كما لا تعني انعدام مسؤوليته تجاهه .
وأما نتائجه : فباعتبار أن التمحيص ينتج المطلوب الذي خططه الله تعالى من أجله ، وهو وجود العدد الكافي من المخلصين الممحصين لنصرة المهدي (ع) بعد ظهوره والتشرف بحمل مسؤولية الفتح العالمي . بل أن نتيجة التمحيص تكون بالنسبة إلى الناجحين أفضل كما عرفنا ، وإن كانت بالنسبة إلى الفاشلين فيه قليلة .
الجانب الثاني :
في أن قلة المسؤولية لا تنافي صدق الرواية . وذلك بناء على الايمان بغيبة الامام المهدي (ع) وخط آبائه عليهم السلام ، الذي صدرت هذه الرواية على أساسه .
وذلك : لأن ما قلناه من قلة المسؤولية يشارك فيها ، إلى حد كبير ، البعد عن عصر التشريع وصعوبة الوصول إلى تفاصيل الاسلام إلا للاختصاصيين والمدققين الاسلاميين .وأما في عصر التشريع فهذه الصعوبة غير موجودة.لا مكان الرجوع إلى النبي (ص) أو إلى الأئمة (ع) كل في عصره عند الحاجة . ووجوب ذلك في نظر الإسلام .
ونحن في تاريخ الغيبة الصغرى (2) اقمنا القرائن الكافية التي تثبت أن عدداً من الخلفاء ، كانوا يعرفون حق الأئمة عليهم السلام وصدقهم ... وكانوا – مع ذلك – يناجزونهم المطاردة والتعسف والتنكيل .
_______________________________
(1) لكن هناك بعد الظهور تمحيصاً إضافياً يمنع من صدق هذه النتيجة صدقاً مطلقاً . على ما سوف يأتي في التاريخ القادم .
(2) أنظر ص 447 وما بعدها إلى عدة صفحات .
صفحة (388)
ومن هذا المنطلق بالتعيين ، نعرف المراد من الرواية ، إذ تقول : وإن أشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته ، فلم يظهر لهم ... الخ . وذلك بعد الالتفات إلى مقدمتين :
المقدمة الأولى :
ما عرفناه الآن ، من تضاعف المسؤولية في ذلك العصر ، عنه في عصر الغيبة الكبرى ، وهذا في العصيان الاعتيادي ، فكيف بمطاردة الأئمة (ع) وقواعدهم الشعبية ، مع علم الحكام بأن الحق إلى جانبهم .
المقدمة الثانية :
إن المراد من قوله – في الرواية - : إذا افتقدوا حجته ..النظر إلى أول الغيبة ، فقط . لأن الافتقاد أو الغيبة إنما حصل في ذلك الحين ، وأما ما بعده من الزمان ، فهو استمرار لذلك المعنى ، وليس افتقاداً آخر .
فينتج عن المقدمتين : ان المراد هو اشتداد غضب الله تعالى على الحكام ، في مبدأ الغيبة الصغرى ، حيث كانوا يطاردون أولئك الذين يعرفون أن الحق إلى جانبهم . ويعصون ما يفهمونه من الحكم الاسلامي الصحيح .
فان ناقشنا في المقدمة الثانية ، وقلنا بشمول التجيس لكل عصر الغيبة الكبرى . باعتبار المقابلة بين الفقرتين في الرواية . فانه (ع) يقول : أقرب ما يكون العباد إلى الله عز وجل ... إذا فقدوا حجته ... وأشد ما يكون غضب الله على أعدائه إذا افتقدوا حجته ... الحديث . وحيث علمنا أن جانب الرضا شامل لكل عصر الغيبة ، وغير خاص بأولها ، نعلم أن جانب الغضب شامل لجميعها أيضاً .
وهذا الكلام وجيه إلى حد كبير ، ومطابق مع التخطيط الالهي . لما عرفناه من أن التمحيص حين ينتج نتائجه النهائية في آخر عصر الغيبة الكبرى . يكون الناس على طرفين متناقضين : قلة شديدة الايمان قوية الارادة إلى درجة كبيرة . فهذا هو ما تشير إليه هذه الرواية . غذ يكون لاقرب الالهي والرضا عن أولئك القلة ، ويكون الغضب الشديد على المتطرفين ، من هؤلاء الكثرة .
وأما من خلال هذا العصر ، فمن الواضح ، أن التمحيص كلما سار قدماً وتصاعد درجة ، ازداد إيمان المؤمنين وانحراف المنحرفين معاً . وتصاعد الرضا والغضب المشار إليه في الرواية ، بشكل متدرج مقترن .
صفحة (389)
النقطة الثالثة :
قوله (ع) – في تلك الرواية - : وقد علم الله تعالى أن أولياءه لا يرتابون . ولو علم أنهم يرتابون لما غيب عنهم حجته طرفة عين .وهو تعبير ورد في عدة روايات (1) .
نفهم من ذلك : أن الارتياب والشك بوجود المهدي (ع) أثناء غيبته ناشئ في واقعه من الانحراف والفساد الموجود في هذا العصر ، وأما لو خلي الفكر الانساني المستقيم ونفسه لما رقى اليه الشك .
ونحن وإن كنا قلنا أن طول الغيبة سبب للشك بحسب طبيعة البشر لكونها من الأمور غير المعهودة في ربوعهم . إلا أن الشخص الذي يربط الأمور بمصدرها الحقيقي الأول ، تبارك وتعالى ، ويعرف قدرته الواسعة وحكمته اللانهائية ، لا يستبعد عليه التصدي لحفظ شخص معين أمداً طويلاً ، لأجل تنفيذ العدل في اليوم الموعود . بل يرى أن ذلك لازم ومتعين بعد قيام البرهان على وجود الغرض الأصلي من الخليفة وعلى حقيقته . وانحصار تحقق هذا الغرض بهذا الأسلوب . بحيث لو لم تكن هناك أي رواية تدلنا على وجود المهدي ، لكان اللازم على الفكر الانساني أن يعترف به .
وإنما الذي يمنع من ذلك ، ويزرع في طريقه المصاعب والمتاعب ، هو الانحراف الفكري ، وخاصة إذا وجد لدى بعض القواعد الشعبية الذين بني مذهبهم على الاعتزاز بوجوده والتسليم بإمامته .
ومن هنا نرى أن أولياء الله الممحصين الذين ليس للفتن إلى قلوبهم ولا للضغط والظلم طريق إلى قوة إرادتهم ... لا يرقى إليهم الشك في المهدي (ع) . لأن العوامل النفسية والموانع المنحرفة لذلك غير موجودة لديهم . فيبقون على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، من الايمان بقدرته وحكمته ، فيسلمون بنتيجة الدليل القطعي الدال على وجود المهدي .
ومن هذا المنطلق نعرف ، أنه لو لم يكن الفكر الانساني مدركاً لذلك ، بحيث أمكن سراية الشك إلى أولياء الله تعالى ... لما غيب الله عنهم حجته طرفة عين .
_________________________________
(1) أنظر إكمال الدين المخطوط وغيبة النعماني ، ص 83- 84 .
صفحة (390)
لاستلزامه نقصان الحجة أو بطلانها بالنسبة إلى البشر ، وهو مما لا يمكن أن يصدر من قبل الله تعالى ، فانه ملازم من أحد أمرين غير ممكنين : أما إلغاء إمامته أو تكليف البشر بالاعتقاد بها بدون دليل ، وكلاهما مما لا يكون ... فيتعين المحافظة على ظهوره بالمقدار يثبت وجوده وتقوم به الحجة في الاسلام .
فإن قيل : أنه إذا لم يغب الفرض الالهي الذي عرفناه منحرفاً ، لأنه يؤدي إلى عدم تنفيذ اليوم الموعود . وهو محال ، بعد تعلق الحكمة والمصلحة به لدى الله عز وجل .
قلنا : هذا صحيح ، إلا أن غيبته في الحقيقة ناتجة عما ذكر في الرواية من أن أولياء الله تعالى منذ الأزل ، فأسس تخطيطه منذ خلق الخليفة عليه . وأما القول : بأن الغيبة توجب الارتياب ونقصان الحجة على إثبات وجود المهدي (ع) ، فهو قول باطل ، كما ذكرنا .
ولو فرض هذا القول تاماً صحيحاً احتاج الأمر إلى أن إدخال تغييرات أساسية في التخطيط الالهي لليوم الموعود ، وأدى بنا إلى افتراضات غير واقعية في الخارج ، مما نحن في غنى عن افتراضها ، بعد قيام الدليل القطعي على خلافها .
هذا هو تمام الكلام في هذه النقطة الثالثة .
وبه ينتهي الكلام في الجهة السادسة والأخيرة من الفصل الثالث من هذا القسم الثاني من هذا التاريخ .
وبذلك ينتهي هذا الفصل أيضاً . وبه ختام هذا القسم الثاني من التاريخ .
والحمد لله رب العالمين .
صفحة (391)