فأي هذه الأشكال هو الماركسية؟!.. ليس هو مجموعها بالطبع...
لوجود التنافي بينها... وليس واحد بعينه أولى بماركس من
الآخر... ومن هنا تحار الإشارة في التوجه،
وتزول الحدية في التحديد.
فإذا وصل النقاش بين الماركسيين إلى الأفكار الأساسية،
أصبح من الممكن الإشارة إلى فهمين
متناقضين... كلاهما نسميه بالماركسية. فمثلا بينما آمنت الماركسية الأولى بضرورة تغير كل أوضاع المجتمع نتيجة لتطور وسائل الإنتاج، قال
الماركسيون المتأخرون: إنه إنما يؤثر في تغيير بعض
الأوضاع، وفي حدود الحرية النسبية دون الضرورة
المطلقة.
وهذا المقدار من التناقض مع الفكر الماركسي هو الذي سار
عليه الماركسيون المحدثون، بعد مواجهة العاملين
السابقين... وهو اتجاه منفتح في داخل أوربا يتضمن نقطة قوة من هذه الناحية.
إلا أن هذا الاتجاه ينبئ بإيرادين رئيسين ما دام يعترف
كونه ماركسيا:
الإيراد الأول: إن الفكر الماركسي الموروث... ينبغي أن
يكون خاطئا جملة وتفصيلأ، ويجب إعادة النظر فيه
عموما. فإذا علمنا أن هذا الفكر هو الذي قامت على أكتافه ثورة أكتوبر السوفييتية، حتى ان لينين نفسه سجل أهم تطويراته الفكرية بعد
الثورة، فضلا عن ستالين... عرفنا ان الفكر الذي قامت
عليه ثورة أكتوبر فكر خاطئ... وهذه نتيجة مؤسفة
بالنسبة إلى كل الماركسيين ..
الإيراد الثاني: الخصيصة الرئيسية للماركسية الموروثة
عن ماركس وانجلز... إنما هي استيعاب
الكون والمجتمع بفهم شامل ومتجانس، كما سمعنا.
ومعه... فإيرادات الماركسيين المتأخرين وآراؤهم ، ان
أوجبت الطعن بالماركسية الأولى دون أن تأتي
بالبديل... إذن، فقد خسروا الفهم المستوعب للكون والحياة. وان جاءوا بالبديل، لم يكن هو ماركسية، بل هو
55
منسوب إلى صاحبه كنسبة آراء ماركس إليه... فهي- مثلا- خروشوفية
أو كوفالسونية!...
ومعه ينبغي الابتعاد عن ماركس كمفكر فعلي وإعطاء
الأهمية له من زاوية متحفية فقط. وهذا أيضا مما يعز على
الماركسيين الاعتراف به !.
النقطة الثالثة: سوف نسير في مستقبل البحث على تذليل
هذه الصعوبة التي عرضناها في النقطة
السابقة، على الشكل التالي:
أولا: الاعتماد في فهم الفكر الماركسي على ماركس وانجلز
بصفتهما الواضعين الرئيسين للنظرية... واعتبار ما
ناقض آراءهما من وجهات النظر خارجأ عن الماركسية، وإن كان صادرا عن مفكرين ماركسيين.
ثانيأ: الاعتماد في فهم هذه النظرية وتفسيرها على
المسلك الرسمي السوفييتي الأول المتمثل
بلينين وستالن وبليخانوف... بصفته الحامل الأول لهذه الفكرة إلى العالم.
وهو إذا قورن من ناحية موضوعية إلى مسالك الآخرين الذين
قضت عليهم الثورة، لم يكن أولى منها، كما قلنا... لكن
الآراء الأخرى مجهولة التفاصيل وقليلة المصادر... مضافا إلى أن المسلك الرسمي هو المسلك المعترف به من قبل الشيوعيين في عالم
اليوم.
ثالثا: الاعتماد على المفكرين الماركسيين المحدثين
الذين لم يسمحوا لأنفسهم المناقشة في الأفكار
الماركسية الرئيسية.. ! وإنما قبلوها وحاولوا إيضاحها من جديد. وإذا سنحت لهم المناقشة، فإنما يكون من زوايا جزئية.
... فهؤلاء يعتبرون، على المستوى الرسمي السوفييتي،
نقلة أمناء للماركسية أمثال كيللي
وكوفالسون وأفانا سييف وبوليز وغيرهم... دون الآخرين الذين طعنوا في الأفكار الماركسية الأساسية.
وهنا ينبغي الالماع إلى أن التفسير السوفييتي
للماركسية، هو الأقرب إلى الاعتماد من التفسير
الصيني المادي. لأن التفسير السوفييتي بخطه الطويل هو الوريث المباشر للماركسية- اللينينية بطبيعة الحال، مهما أراد ماوتسي تونغ- وهو في
أقصى الدنيا.-
أن يقول ..
النقطة الرابعة: الخصيصة الثانية التي ذكرناها في
النقطة الأولى لإمكان
56
النقاش، غير متوفرة أيضا في الفكر الماركسي... وهي وجود
مسلمات مشتركة يمكن أن ينطلق منها الجدال أو أن
يقف عندها النزاع. وكيف يمكن أن تكون هذه الحقائق موجودة، بين الماركسية والإسلام، في حين أنهما يبدوان أمام الرأي العام على
طرفي نقيض وبشكل مستقطبين لا يمكن أن يلتقيا أبدا...
وأي شيء تكون هذه الحقائق؟... بعد أن اعتبرت الماركسية
الدين نتاجا بدائيا جدا لوسائل الإنتاج، ونصيرا
للإقطاع، وأفيونا للشعوب، وصورة مكثفة للمثالية المقيتة!!!...
كما اعتبر الدين الماركسية إلحادا وزندقة وضيقا في النظر إلى الكون والمجتمع، وسيرا بالبشرية إلى مهاوي الفساد. ومع وجود هذا التنافي
الشاسع بينهما، لا يمكن أن توجد أي حقيقة مشتركة
بينهما، يمكن ان ينطلق منها الجدال أو أن يقف عندها النزاع.
وقد ينتج من ذلك: أن الفكر الديني لا يستطيع ان يجيب على آراء الماركسيين أو أن يناقشهم... أو على الأقل، لا يستطيع إقناع
الماركسيين بآرائه، فكيف يصح لنا الكلام،
ونحن ننطلق في النقاش من زاوية دينية؟!.
"إلا أن هذه الصعوبة، يمكن تذليلها بكل سهولة... كـما
يلي:
أولا: إن هذه النتيجة المومى إليها، تأتي بالنسبة إلى
الماركسية أيضا... إذ مع انعدام المسلمات
المشتركة، ينجح ايضأ عدم إمكان إقناع المتدينين ضد فكرتهم أيضا، تماما كما هو شأن الماركسيين.
ولكن هل هذه النتيجة صحيحة، بالنسبة إلى المتدينين... هذا
ما سنعرفه فيما يلي.
ثانيا: إن الماركسية انطلقت في فهمها لنظريتها وفي
الاستدلال عليها،
من أمثلة مقتبسة من واقع الطبيعة والمجتمع. فإذا
استطعنا أن نعرف أن الواقع الموضوعي للوقائع،
كالكاسة الفارغة، يمكن أن تملأه بأكثر من رأي وفلسفة وتفسير، ولا يتعين في فهمه الاتجاه الماركسي.
... هذا إذا استطعنا أن نفهم أن ما استشهدت به
الماركسية من الوقائع
إنما هو غيض من فيض لا يمكن الانطلاق منه إلى استنتاج
النظرية العامة. إذا استطعنا هذا وذاك
وغيرهما، استطعنا أن نمشي في النقاش خطوات
57
كبيرة.
ثالثا: إننا سنسمع وجوها للمناقشة مستنتجة من القواعد
الماركسية نفسها. وهي تكون ملزمة بالنسبة إلى من
يؤمن بهذه القواعد مع التأكد من صحة الاستنتاج.
رابعا: إننا قد ننطلق إلى المناقشة من أسس عقلية قد لا
يؤمن بها الماديون... وغايتنا من ذلك بيان: أننا لا
يمكننا الإيمان بنتائج أفكارهم وان آمنوا بها والتزموا
بصدقها، لأنها منافية لمبادئنا العقلية.
خامسا: إننا سوف ننطلق إلى مناقشة الماركسية من مستويين:
المستوى الأول: النظر في تفصيل النظرية وإعطاء المناقشة
لكل فقرة
منها على حدة. وهذا ما سنسير فيه على هدى الفقرات
السابقة.
المستوى الثاني: النفر إلى مجموع النظرية الماركسية ككل
وإعطاء البديل الأصلح عنها. فإننا سنعوض عن المادية التاريخية
بنظرية التخطيط العام الإلهي وسننطلق عن طريق المقارنة إلى
مناقشات أساسية وجديدة. وستكون هذه المناقشات أكـثر عمقا وضبطا وترابطا من المستوى الأول، بالرغم من صحة كلا المستويين. وهذا ما
سنذكره خلال عرض نظرية التخطيط العام لا القسم الثالث
من الكتاب، وسنقتصر في هذا القسم على المستوى الأول من
المناقشات.
النقطة الخامسة: إن الخصيصة الثالثة لا مكان النقاش،
مما عرفناه في النقطة الأولى، وهي تجرد
الباحث وموضوعيته... الذي هو "لشرط الأساسي للدخول في أي نقاش
ولاحتمال قبول أي نتيجة... إذ بدونه يمكن رفض أي
نتيجة، مهما كانت صادقة ومبرهنة.
هذه الخصيصة... استطاع الماركسيون في وضعهم الفكري
والاجتماعي، أن يقيموا القرائن على رفضها
والابتعاد عنها كأنها من الخصائص القاتلة للنظرية والتطبيق !...
ويتلخص بيان موقف الماركسيين من هذه الموضوعية، في
مرحلتين:
المرحلة الأولى: إنكارهم وجود الموضوعية والتجرد الذهني
لأي فكر أصلا. وإنما يعتبر الفكر عموما نتاجا طبقيا
وحزبيا معينا.
قال كوفالسون:
58
(ينبغي التمييز بين الموضوعية والموضوعانية.
التعبير الأول يستخدم لوصف المعرفة العلمية، والثاني
لوصف الموقف النظري (!)
أي على وجه الضبط موقف (اللاتحيز) في معرفة الحياة
الاجتماعية، موقف المراقب غير المتحيز
الموضوعي المزعوم للعمليات الاجتماعية. وقد انتقد لينين الموضوعانية انتقادا حادا، واعتبرها شكلا مستور، ومقنعا للتعبير عن الحزبية" (1).
وأضاف:
" فليس موقف المراقب الحيادي موقف اللامبالاة وعدم
الاكتراث، بل الاشتراك
الفعال في الحياة الاجتماعية " (2).
فكأن الموضوعية عنده، تعني عدم الاهتمام بالحياة
الاجتماعية والانصراف عنها... في حين أن
الاهتمام بها يعني شيئا آخر غير الموضوعية أو الموضوعانية- كما سماها-. وهذا الاهتمام ضروري بطبيعة الحال، إلا أن وجود الموضوعية أيضا ضروري،
لأنها تعني- بكل بساطة- استعداد الذهن لقبول الحقيقة،
وعدمها يعني الجمود على الفكرة لمجرد الموافقة مع الهوى
والمصلحة الخاصة ليس إلا. والدعوة إلى " النضال من اجل
وحدة الموضوعية العلمية والحزبية (3) يحتوي على تهافت
في التفكير، لوجود التنافي الواضح بين الاتجاه
الموضوعي والاتجاه الحزبي.
المرحلة الثانية: إننا حين نستقرى كلمات الماركسيين
ومؤلفاتهم وطرق تفكيرهم، نجدهم قد طبقوا
نظريتهم في انتفاء الموضوعية والتجرد بشكل واضح.
وذلك في عدة حقول:
الحقل الأول: إنهم يستعملون الشتم عند الحاجة لكل
معارض، مهما كانت الفكرة نظرية، او كان
المتناقشون مفكرين على مستوى عال. إسمع معي لينين ينتقد إشتراكية ما قبل ماركس:
(وقد جاءت ثورة 1848 تسدد ضربة قاتلة لجميع الأشكال
الصاخبة المبرقشة اللاغطة لاشتراكية ما قبل ماركس...
وتكشف جميع المذاهب التي تقول باشتراكية لا طبقية وبسياسة لا
طبقية عن ثرثرة باطلة" (4).
(1) المادية التاريخية. كليلة وكوفالسون ص 27/ 28
(2) المصدر ص 28.
(3) المصدر والصفحة.
(4) محتارات لينين !1 ص 16.
59
واسمعه يتحدث عن تقدم الفيزياء الحديثة وكيف يرى أنه:
" قد أثبت بشكل رائع صحة مادية كارل ماركس
الديالكتيكية رغم أنف مذاهب الفلاسفة البرجوازيين
ورغم إرادتهم الجديدة نحو المثالية القديمة المتهرئة (1). وعلى هذا الغرار...
حتى رفيقاه في النضال: بليخانوف وستالين... لم ينجوا من
لسانه:-... بليخانوف الذي قال عنه لينين:
" لا يمكن للإنسان أن يصبح شيوعيأ حقيقيا واعيا ما
لم يدرس كل ما كتبه بليخانوف
في الفلسفة. لأنه خير ما يوجد في مجمل نتاج الفكر
الماركسي في جميع البلدان! (2). قال عنه أيضا:
" لم يتمسك ماركس بشجب دعي لحركة " جاءت في غير أوانها على غرار الماركسي الروسي المرتد بليخانوف الذي اشتهر شهرة لا يغبط عليها... أخذ يصرخ على نمط
الليبراليين:
ما كان ينبغي حمل السلاح (3).
وأما ستالين فحذر منه قائلا:
(ان الرفيق ستالين الذي أصبح أمينا عاما، قد حصر في
يديه سلطة لا حد لها.
وأنا لست على ثقة في أنه سيعرف على الدوام كيف يستعمل
هذه السلطة بما يكفي من الاحتراس (4).
وقال عنه أيضا:
إن ستالين مفرط في الفظاظة... ولهذا اقترح على الرفاق
أن يفكروا في أسلوب
لنقل ستالين من هذا المنصب وتعيين شخص آخر لهذا المنصب،
يمتاز من جميع النواحي الأخرى عن الرفيق ستالين
بميزة واحدة فقط هي أن يكور أكثر تسامحا وأكثر ولاء وأوفر لطفا واشد انتباها للرفاق، وأقل تقلبا في الأهواء (5).
أما أعداؤه الكلاسيكيون، فهم الوحوش الضواري تماما. اسمعه
يقول- فيما يقول-:
(إن ضواري الامبريالية الانجلو فرنسية والأمريكية،
يتهموننا بالاتفاق مع الامبريالية الألمانية،
فيا للمنافقين ويا للأوباش الذين يفترون على حكومة العمال وترتعد
(1) المصد رص 23.
(2) فلسفة التاريغ: بليخانوت. ص 4.
(3) الدولة والئورة من مختارات لينين !2 ص 217.
(4) رصالة إلى المؤتمر من نفس المصدرة4 ص 271.
(5) المصدرص 273.
فرائصهم في الوقت نفسه أمام العطف الذي يبديه عمال
بلدانهم بالذات علينا " (1).
فكيف تقوم الإيديولوجية الكبرى على مثل هذه الشتائم؟ ...
الحقل الثاني: إضفاء أكبر الصفات وأهم آيات المدح
العاطفي والفكري لأي شخص ينسجم معهم في
الفكر والعمل.
وبالرغم من أن الجهة العقلية التامة تقتضي التنزه في
عرض النظريات عن المدح، كالتنزه عن الذم تماما. لكن
قد يشفع لهم انسياقهم العاطفي زيادة عن العطاء العقلي... غير
ان المدح ينبغي أن يقتصر على المقدار الممكن نظريا إضفاؤه على الآخرين... ولكن نجد ما هو أكثر من ذلك...
فإننا بالرغم من أننا نسمع من الماركسية أن الآراء
والأفكار كلها طبقية وحزبية، وإن الحقائق كلها
نسبية...
قال انجلز:
(كذلك تحطم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن
الحقيقة المطلقة النهائية وعن أوضاع الإنسانية
المطلقة المناسبة لها. فليس هناك بالنسبة للفلسفة الديالكتيكية شيء نهائي، مطلق، مقدس، إنها ترى الانهيار في كل شيء... وهي نفسها
ليست سوى انعكاس بسيط لهذا المجرى في الدماغ المفكر )(2).
وبالرغم من أن الماركسية نفسها فلسفة حزبية، تمثل فلسفة
حزب أو طبقة البروليتاريا، كما أكد عليه الشيوعيون
تأكيدا شديدا:
( إن العلم الاجتماعي الماركسي يربط نفسه على المكشوف
بمصالح الطبقة العاملة بالنضال من أجل تحرير
الكادحين من الاستثمار... و في هذا تقوم حزبيته )(3). ...
بالرغم من هذا الأفق الضيق الذي يستحيل معه الانطلاق. فإن
الشيوعيين يؤكدون ان الماركسية تتحدث عن
الواقع بكامله، سواء على المستوى الطبيعي او الاجتماعي.
اسمع لينين يقول:
(إن مذهب ماركس لكلي الجبروت، لأنه صحيح، وهو متناسق
وكامل، ويعطي مفهوما منسجما عن العالم، لا
يتفق مع اي ضرب من الأوهام، ومع أية رجعية... وهو
(1) رسالة إلى المال الأمريكيين من مختارات لينين ج 32
ص 194.
(2) لود فيج فورباخ، انجلز ص 10.
(3) المادية التاريخية: كوفالسون ص 26.
61
الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن
التاسع عشر )(1).
والقول:
(وأهم هذه المكتسبات- الماركسية الديالكتيك، أي نظرية
التطور بالحمل مظاهرها وأشدها عمقا وأكثرها
بعدا عن ضيق الأفق. نظرية نسبية المعارف الإنسانية التي تعكس المادة في تطورها الدائم، (2).
والقول:
" إن مادية ماركس التاريخية كانت اكبر انتصار
أحرزه الفكر العملي )(3).
ويقول غيره:
" إن الفلسفة الماركسية- اللينينية، إذ تدرس قضية
العلاقة بين الموضوع والذات واعم قوانين تطور
العالم المادي والتفكير نفسه، تعطي العلوم الأخرى المفهوم الصحيح للعالم ونظرية وطريقة المعرفة العلمية، (4).
وبقول:
( إنها تدرس القوانين العامة لتطور المجتمع) (5).
إلى غير ذلك!...
ولا تعلم كيف يكون الفكر صحيحا ومطابقا للواقع الموضوعي،طبيعيا
واجتماعيا، مع كونه حصيلة فكر طبقي وحزبي
معين؟!...
الحقل الثالث: إعطاء فهم خاص لبعض الآراء المضادة
للماركسية، بحيث يسهل مناقشتها بسهولة أولا،
وحمل فكرة سيئة عنها سلفا ثانيا. ولعل أوضح مثال على ذلك: تلك الأوصاف والخصائص التي افترضها الماركسيون للميتافيزيقيين.
فإن الميتافيزيق لفظ يوناني، يؤدي معنى: ما وراء
الطبيعة أو ما فوق الطبيعة. ومحصله: أن هناك شيء آخر خارج عالم
الطبيعة الفيزياوي غير محكوم لقوانين الفيزياء الاعتيادية...
موجود، في عالم الواقع ومؤثر في عالم الطبيعة. ولا يمكن أن نفهم من هذا اللفظ الموجز أكثر من ذلك، كما هو واضح. والميتافيزيقي هو الذي
يؤمن بمضمون هذا اللفظ. ليس إلا... (1) مختارات لينين !1
ص 22.
(2) المصدر صر 22.
لا) المصدر والصفحة.
(4) المادية التاريخية: كوفالسون ص 33.
(5) المصدر ص 30.
62
أما الماركسيون، فقد أضفوا على الميتافيزيقي صفات عديدة
وغريبة،تكاد تجعله في عداد المجانين...
قال خالد بكداش:
9 إن الميتافيزيقية: تعني طريقة في التفكير الفلسفي
تنكر الروابط بين الأشياء والحوادث، وتنظر إليها
منفصلا بعضها عن بعض، وتعتبر الطبيعة في حالة جمود واستقرار... " (1).
وقال ستالين:
(تتميز الطريقة الديالكتيكية الماركسية بالخطوط
الأساسية التالية:
ا- إن الديالكتيك- خلافا للميتافيزيقية- لا يعتبر
الطبيعة تراكـما عرضيا للأشياء، وحوادث بعضها
منفصل عن بعض... بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا متماسكا ترتبط فيه الأشياء والحوادث بينها ارتباطا عضويا...
ب- إن الديالكتيك- خلافا للميتافيزيقية- لا يـعتبر
الطبيعة في حالة سكون وجمود، حالة ركود
واستقرار بل يعتبرها حالة حركه وتغير دائمين...
ج- إن الديالكتيك- خلافا للميتافيزيقية- لا يعتبر حركة
التطور حركة نمو بسيطة، لا تؤدي التغيرات الكمية
فيها إلى تغيرات كيفية، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغيرات ظاهرة وأساسية، أي إلى تغيرات كيفية...؟
(2).
وقال بوليتزر:
(وتفصل الميتافيزيقا المادة الخام عن المادة الحية وعن
الفكر. لأن الميتافيزيقا تعتبر
أن هذه مبادئ ثلاثة منعزلة، كل منها عن الآخر" (3).
وقال أيضا:
" وتقوم الميتافيزيقا بعزل الظواهر الاجتماعية كلا
منها عن الأخرى، فتعزل الواقع الاقتصادي عن
الحياة الاجتماعية، وتعزل الحياة السياسية عنهما، كـما أنها تدخل الحواجز في كل هذه الميادين " (4).
وقال أيضا:
" ولا يفهم الميتافيزيقي تاريخ المجتمعات، بل هو
خليط من العوارض (أي
(1) المادية التاريخية: ستالين هامش ص 13.
(2) المصدر نفسه ص 13-15 ملخصأ.
(3) أصول الفلسفة الماركسية!1 ص 58.
(4) المصدر ص 63.
63
الظواهر التي لا سبب لها) ومن الصدف العابثة" (1).
إلى آخر مما ذكروه من خصائص وصفات.:.
وبغض النظر عن أن هذا النقل عن آراء الميتافيزيقيين، لم
يسند إلى أي مصدر من مصادرهم، ولم يدل عليه
اي كلام من كلماتهم. وإنما كل ما في الأمر أن الماركسيين رغبوا بنسبة هذه الآراء إليهم بدون دليل. وإذا أمكنت مثل هذه النسبة
العشوائية لشخص ما، أمكنت لأي شخص آخر... وهذا يعني- بكل
بساطة- سقوط الاعتبار لنقل الماركسيين لآراء خصومهم!..
وبغض النظر- أيضا- عن أن هذا النقل عن الميتافيزيقيين،
صحيح أو خاطئ... فإن مستقبل هذا البحث
كفيل بهذه الجهة.
المهم في المقام: أن أيا من هذه الآراء، غير متضمن في
معنى الميتافيزيقية بأي حال. وإنما هو مفهوم بسيط لا يعني سوى وجود
شيء ما وراء العالم الطبيعي المنظور... فمن أين جاءت هذه
الإضافات؟!...
الحقل الرابع: إن كل فكرة معارضة للماركسيين... لا بد
أن توسم بصفة غير محببة... حتى وإن كانت فكرة مادية واشتراكية.
وإن أعظم صفة رديئة توسم بها الفكرة عندهم هي كونها (مثالية " !... إلى جانب كونها روحية وميتافيزيقية...
فبعد أن نتجاوز مادية ما قبل ماركس والاشتراكيات الأخرى
غير الماركسية، وما وسمت به من هذه
الأوصاف... ينبغي لنا أن نمثل بأهم واقرب الفلاسفة، في المستوى الذهني والفلسفي إلى الماركسية... وهما هيجل ولودفيج فورباخ..
فهيجل... بالرغم من انه الفيلسوف المادي الذي وصل
بالفكر الديالكتيكي إلى أوج ارتفاعه،
فيما قبل الماركسية. وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى الماركسية. وقد مدحه انجلز قائلا:
"ولما لم يكن- هيجل- عبقرية خلاقة وحسب، بل إنسانا
ذا تبحر موسوعي،فإن مؤلفاته في جميع
الميادين ذات قيمة مرموقة (2).
11) المصدر والصفحة.
(2) مختارات انجلز ص 76.
64
بالرغم من ذلك لم ينج من تهمة المثالية. حيث نسمع
لينين، حين يتحدث عن التحريفيين، يقول:
، إنهم
كرزوا بالمثالية، بمثالية أحقر واسخف ألف مرة من مثالية هيجل (1!.
وقال عنه جان كاتابا:
(بيد أن ديالكتيك هيجل تأثر تأثرا ثقيلأ بعب مثاليته " (2).
وفورباخ... وهو الفيلسوف المادي المهم الذي ألف فيه
إنجلز كتابه المسمى باسمه... وسم انجلز نفسه بسمة المثالية مكررا.
منها قوله:
"إن مثالية فورباخ الحقيقية تنكشف حالما تنتقل إلى
فلسفته في الأخلاق والد ين... !" (3).
ليس هذا فقط، بل هو ميتافيزيقي ! أيضا. قال انجلز ضمن
كلامه:
نجد عرضأ عن سير تطور الميتافيزياء الفورباخية نفسها! (/.
ولا نعلم ماذا يعني مفهوم المثالية ومفهوم
الميتافيزيقية أو الميتافيزياء - حسب اصطلاحه-... حين
ينطبق على أمثال هؤلاء الفلاسفة الما ديين؟!...
نعرف من كل ذلك: أن الماركسيين مزجوا في كلماتهم بين
الفكر والعاطفة... وقد يكون لهم بعض
العذر حين تبنوا الحزبية، ورفضوا الموضوعية في التفكير. وأما من يرفض هذا الاتجاه، ويقيم المفكر بمقدار ما يبذل من موضوعية وتجرد... كيف يمكن
أن يركن إلى ما قالوه من كلام؟!...
ومن هنا نفهم ما أردنا إيضاحه في هذه النقطة الخامسة،
وهو أنه مع وجود هذا المنحى العاطفي
الخالي من الموضوعية عند الماركسيين، كيف يمكن النقاش معهم واخذ النتائج منهم؟!... فإنه يكفيهم أن يصفونه بالمثالية والميتافيزيقية، ليعتبروا
كلامه ساقطا من الاعتبار وغير قابل للإصغاء!. (1) مختارات
لينين بر 1 ص 32.
(2) مختارات انجلز ص 67.
(3) لودفيج فورباخ: انجلز. ص كل- 34.
(4) المصدر ص 24.
65
النقطة السادسة: حقا أن من يكون على هذا المستوى الذهني
الذي عرفناه قبل لحظة يتعذر عليه الإصغاء
لأي كلام والالتفات لأي نقاش. وحقا إن الماركسية تجعل للمعتقدين بها (مناعة) عميقة عن التأثر بأي كلام آخر غير كلامها، أو انتهاج أي منهج
سواها.
غير ان لنا في تذليل هذه الصعوبة المنهجية الثالثة فكرة
معينة، هي أن هذه الصعوبة لا ينبغي أن تعيقنا عن
التفكير أو أن تكف أيدينا عن طلب الحقيقة.
فإن أمامنا النظرية الماركسية بمصادرها وتفاصيلها،
بنقاط قوتها وضعفها. فحسبنا أن نعرضها كـما
هي معروضة بنطق أصحابها- كما وعدنا في منهجنا- فنقبل ما هو حق ونرفض ما هو باطل، ونناقش كـما يوصلنا إليه البرهان الصحيح... مخاطبين في ذلك
الرأي العام المفكر الذي يتصف بدرجة مقبولة من
التجرد والعمق.
ولا يهمنا بعد ذلك أن يكون كلامنا مقبولا لدى من ينكر
التجرد والموضوعية، ويعتبرهما حزبية مبطنة
ومساوقة مع الإهمال وعدم الاهتمام.
66
الأسس العامة الفلسفية
للمادية التاريخية
تبدأ الكتب الماركسية- عادة- بنقطة انطلاق معينة، وهي
أن أهم مسألة في الفلسفة على الإطلاق، هي
إن الفكر متقدم على المادة أو أن المادة متقدمة على الفكر... وان اختلفت كلمات الماركسيين في طرح هذه المسألة.
قال انجلز:
" المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة، وبخاصة
الفلسفة الحديثة، هي مسألة العلاقة بين الفكر
والوجود... مسألة معرفة أي عنصر هو الأسبق: الروح أم الطبيعة. إن هذه المسألة قد اتخذت حيال الكنيسة شكلا حادأ، هل العالم من صنع الله أم
هو موجود منذ الأزل.
وقد كان الفلاسفة ينقسمون حسب جوابهم على هذا السؤال،
بهذا الشكل أو ذاك، إلى معسكرين كبيرين. فالذين
كانوا يؤكدون صفة الأسبقية للروح على الطبيعة، والذين كانوا بالتالي يسلمون، في نهاية المطاف، بخلق العالم من أي نوع كان... كان
هؤلاء يؤلفون معسكر المثالية. أما الآخرون، الذين
يعتبرون الطبيعة هو العنصر الأسبق، فكانوا ينتمون إلى
مختلف المدارس المادية " (1).
وقد أجابت الماركسية على هذا السؤال باختيار الجانب
المادي للفكر، وقالت في نفس الوقت بأزلية
العالم، تجنبا للفكرة القائلة بإمكان أن يطفر الكون من العدم إلى عالم الوجود، دفعة واحدة بمحض الصدفة المطلقة، لوضوح سخافتها إلى درجة لا
يمكن حتى مجرد التفكير بها.
(1) مختارات انجلز ص 61- 62. وانظر: لودفيج فورباخ ص 25
وما بعدها. وكذلك: المادية التاريخية لكوفالسون ص 13.
وغيرها من المصادر.
67
يقول انجلز:
( إن الفهم المادي للعالم يعني- بكل بساطة- فهم الطبيعة
كما هي، دون أية إضافة غريبة.)
ولقد كتب لينين بصدد المفهوم المادي عند فيلسوف العهد
القديم وهيراكليت الذي
جاء فيه أن " العالم هو واحد،
وقد كان ولا يزال وسيكون شعلة حية إلى الأبد، تشتعل وتنطفئ تبعا
لقوانين معينة...
" فقال: يا له من شرح رائع لمبادئ المادية الديالكتيكية) (1).
أضاف انجلز قائلا:
(ولكن مسألة علاقة الفكر بالكائن ترتدي أيضا مظهرا آخر:
ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا،
والعالم نفسه، وهل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي... هذه المسألة تسمى في اللغة الفلسفية مسألة مطابقة الفكر والكائن. إن
أكثرية الفلاسفة الكبرى قد أجابوا عنها
بالإيجاب
" (2).
وفي جواب هذا السؤال اختارت الماركسية- مصادرة- جانب
الواقعية خلافا لهيوم وباركلي وإضرابهما.
" ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم- أو على
الأقل معرفته الكاملة، (3). واعتقدت الماركسية
بإمكان اجتماع النفي والإثبات في هذا الواقع الذي اعترفت به، حتى في الشيء الواحد ذاته. واعتبرت الإيمان بهوية واحدة ثابتة للأشياء ضربا ميتافيزيقيا
من
التفكير.
قال انجلز:
(تبدو وجهة النظر العقيمة الشكلية تجريديا عن الهوية،
التي تريد تناول كائن عضوي كشيء مماثل لذاته ببساطة
وكثابت، باطلة... بيد أن الهوية بوضعها هذا لا وجود لها في الواقع حتى في الطبيعة غير العضوية. فكل جسم يتعرض باستمرار لأفعال
ميكانيكية وفيزيائية وكيميائية تحدث فيه على
الدوام تغيرات تبدل هويته " (4).
000. (1) المادية التاريخية لستالين ص 24.
(2) لودفيج فورباخ: انجلز ص 21.
(3) المصدر نفسه ص 22.
(4) مختارات انجلز ص 104.
1،68
... " إن التغير المستمر إي إبطال الهوية المجردة
مع الذات، يوجد أيضا في الطبيعة المسماة بغير
العضوية. والجيولوجيا هي تاريخ هذا التغير المستمر. على السطح تبدلات ميكانيكية (تأكل تجمد) كيماوية (تفتت). في الداخل تبدلات ميكانيكية (ضغط)
حرارة (بركانية) تغيرات كيماوية (ماء، حوامض، مثبتات! على نطاق واسع. ارتفاع
التربة، هزات أرضية الخ... لا.
(إن (مبدأ الهوية) بمعنى الميتافيزياء هو المبدأ
الأساسي للمفهوم القديم عن العالم: ا= ا. كل شيء متماثل مع
نفسه... وهذا المبدأ قد دحضه علم الطبيعة نقطة فنقطة، وفي حال أثر اخرى" (1).
وقال انجلز أيضا:
" أكيد أننا لا نصطدم بأي تناقض في الأشياء ما
دمنا نعتبرها ساكنة وبدون حيلة.
كل لذاته. الواحد إلى جانب الآخر، والواحد بعد الآخر...
وفي حدود ميدان الملاحظة هذا، نخرج من الأمر بنسق
التفكير الدارج: النسق الميتافيزيائي. ولكن الأمر يختلف عن ذلك تماما منذ أن ننظر إلى الأشياء في حركتها، في تغيرها، في حياتها،
في فعلها المتبادل بعضها على بعض. هنا نقع فورا
في تناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض.
بل إن تغير المكان الميكانيكي نفسه لا يمكن أن يتم إلا
لأن جسما ما في لحظة واحدة
بذاتها يكون في مكان وفي مكان آخر معا، يكون موجودا في
مكان واحد بذاته ولا يكون موجودا فيه.
والحركة إنما هي بالضبط، في الصورة التي ينطرح بها هذا
التناقض باستمرار وينحل
في الوقت نفسه " (2).
" وإذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان يتضمن
في ذاته تناقضا، فمن باب
أولى أن تكون كذلك الأشكال العليا لحركة المادة، وعلى
الأخص الحياة العضوية وتطورها.
وقد رأينا فيما سبق أن الحياة تقوم بالدرجة الأولى وعلى
وجه التحديد في أن كائنا ما
هو في كل لحظة ذاته وآخر مع ذلك. فالحياة بالتالي هي
أيضا تناقض... ومذ يتوقف التناقض تتوقف الحياة
أيضا ويحل الموت " (3).
(1) المصدر نفسه ص 155.
(2) المصدر ص 108.
(3) المصدر ص 109.
69
حتى الرياضيات مشمولة لهذا التناقض.
قال انجلز:
9 إن من الأسس الرئيسية للرياضيات العليا واقع أن
المستقيم والمنحني يجب أن يكونا- في بعض الظروف- الشيء
ذاته. والرياضيات العليا تحقق أيضا هذا التناقض الآخر، وهو أن خطوطا تتقاطع أمام أنظارنا، ينبغي- مع ذلك- على بعد خمسة أو ستة
سنتيمترات فقط من نقطة تقاطعها أن تعتبر متوازية، أي
أنها خطوط لا يمكن أن تتقاطع حتى وان امتدت إلى اللانهاية.
إن جذرا ل (آ) ينبغي أن يكون قوة ل (آ) ومع ذلك فان (آ 15)=
جذر آ . إنه لتناقض. إن كمية سلبية يجب أن تكون
مربعا لشيء ما، ذلك لأن كل كمية سلبية مضروبة بنفسها تعطي مربعأ إيجابيا. إن الجذر المربع ل (- 1) ليس فقط تناقضأ، بل هو تناقض
لا معقول، هو لا معنى فعلي. ومع ذلك ففي كثير من
الحالات يكون+ هو النتيجة الحتمية لعمليات رياضية صحيحة.
وفوق ذلك أين ترى تكون الرياضيات، سواء الدنيا أم العليا، إذا كان. محظورا عليها أن تتعامل مع+جذر - 1 (1).
-6-
واعتقدت الماركسية ان هذا التناقض الداخلي هو السبب
الكبير والوحيد للتطور.
قال لينين:
(التطور هو نضال المضادات!.
وقال ستالن:
" تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من
الأدق إلى الأعلى، لا تجري بتطور الحوادث
تطورا تدريجيا متناسقا، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء والحوادث ب (نضال " الاتجاهات المتضادة التي تعمل
على أساس هذه التناقضات " (2). -7-
وهنا نصل إلى قانون: نفي النفي، أو التركيب بين النفي
والإثبات،الذي هو روح التطور عند
الماركسية.
قال انجلز:
(فما هو إذا نفي النفي ؟ انه قانون لتطور الطبيعة
والتاريخ والفكر ، عام للغاية ،
11) المصدر ص 111.
(2) المادية التاريخية: ستالن ص 19.
ولذا له أهمية ومدلول بالغين. إنه- كما رأينا- قانون
على مملكة الحيوان والنبات وعلى الجيولوجيا
والرياضيات والتاريخ والفلسفة " (1).
" فإذا كنت أقول عن جميع هذه العمليات أنها نفي
النفي، فإني أفهمها في ضوء
هذا القانون الوحيد للحركة، وبالتالي لا اخذ بالحسبان
على وجه التحديد خصائص كل عملية خاصة على حدة. ولكن
هذا إنما يعني بالضبط: أن الديالكتيك ليس سوى علم القوانين
العامة للحركة ولتطور الطبيعة والمجتمع البشري والفكر" (2).
دعنا نسمع انجلز يمثل لهذا القانون الماركسي:
( لنأخذ حبة شعير، مليارات من حب الشعير المتماثلة تطحن
وتطبخ وتخفق، ثم تستهلك. ولكن إذا وجدت حبة شعير من هذا النوع
الظروف العادية لها، إذا وقعت على ارض مؤاتية. فإن تحولا معينا يجري
فيها تحت تأثير الحرارة والرطوبة: إنها تنبت، تزول الحبة بوصفها هذا، يقع عليها النفي. تحل محلها النبتة التي تولدت فيها، نفي
الحبة. ولكن ما هو الدور الطبيعي لهذه النبتة؟ إنها
تنمو، تزدهر، تتلقح، وتنتج في نهاية الأمر حبات شعير
جديدة. وما أن تنضج هذه حتى يتلف الساق ويقع عليه النفي بدوره. وكنتيجة لنفي النفي هذا، تكون لدينا من جديد حبة الشعير التي كانت في
البداية، لا مجرد حبة، بل أكثر منها بعشر أو
عشرين أو ثلاثين مرة" (3).
، إن عملية
التطور هذه تتم لدى معظم الحشرات مثلما تتم مع حبوب الشعير، كالفراشات مثلا. فهي تلد من البيضة بنفي البيضة، فتنجز التغيرات في هيئتها
النضج الجنسي، فتتزاوج، فتنتفي بدورها أي تموت، منذ
أن ينتهي التزاوج وتبيض الأنثى بيوضها العديدة " (4).
-8-
وبهذا يتضح مفهوم " الثلاثية
الماركسية: الأطروحة والطباق والتركيب... أو القضية وضدها
والمركب.
والمقصود- عادة- بالأطروحة أو القضية وجود الشيء ذاته،
سواء في
عالم المادة أو عالم الفكر. والمراد بالطبق أو ضد
القضية: تحقق نقيض ذلك الوجود، أما في داخله-
بحسب مفهوم التناقض الماركسي الذي عرفناه، أو في خارج، يعني ما يسبب إلى زوال ذلك الوجود. والمراد بالتركيب:
(1) مختارات انجلز ص 117.
(2) المصدر ص 117- 118.
(3) المصدر نفسه ص 113.
(4) المصدر والصفحة.
71
نفي النفي الذي عرفناه، وهو أن الصراع بين وجود الشيء
وعدمه، بذهن الأطروحة والطباق، يصل بالوجود
إلى وجود أفضل جديد... ثالث، هو غير الأطروحة والطباق السابقين. ويكون
هذا الوجود الجديد بدوره أطروحة لينتفي بالطباق مرة أخرى... وهكذا تستمر الحركة.
وهذه الفكرة التي عرضناها واضحة في المصادر الماركسية
بصيغة:
النفي ونفي النفي، وفيما نقلناه سابقا كفاية للدلالة
عليه. إلا أن التعبير بالثلاثية بإحدى
صيغتيها، نادر الوجود فيما اطلعنا عليه من المصادر، بالرغم من أنه مشهـور عنهم جدا.
فماركس نفسه حين أراد تطبيق القانون لم يعبر بذلك. حيث
نسمعه في كتابه (رأس المال " يقول:
(إن الاستملاك الرأسمالي، المطابق لنمط الإنتاج
الرأسمالي، يشكل النفي الأول لهذه الملكية
الخاصة التي ليست إلا تابعا للعمل المستقل والفردي. ولكن الإنتاج الرأسمالي ينسل هو ذاته نفيه، بالحتمية ذاتها التي تخضع لها تطورات الطبيعة. إنه
نفي النفي.
وهو يعيد ليس ملكية الشغيل الخاصة بل ملكيته الفردية
المؤسسة على مقتنيات ومكاسب العصر
الرأسمالي، وعلى التعاون والملكية المشتركة لجميع وسائل الإنتاج، بما فيها الأرض ) (1).
وكذلك انجلز، فيما سمعنا من التطبيقات وغيرها. وكذلك
ستالـن وبوليتزر وإضرابهما من المفكرين
الماركسيين.
غير ان كتابا ماركسيا حديثا تعرض إلى ذلك بأسلوب يكاد
ان يكون ثانويا واستطراديا... حيث قال:
" لقد راينا ان ما يبرز بصفة النفي، يتبدل بدوره
مع الزمن ويتحول إلى نوعية جديدة، أي نفي نفسه.
وهذه السلسلة من النفي لا نهائية. وانه من الخطأ الظن بأن هذا التطور يجري بشكل سلسة وبدون تناقضات. الواقع أن التطور التصاعدي السائر إلى
الأمام عن طريق النفي يتم بشكل تناقض.
ولتوضح ذلك نتصور نزاعا بين طرفين حول قضية علمية ما. إن
الطرف الأول
يقدم فكرة معينة (نظرية) والطرف الثاني يقدم نفي هذه
الفكرة (ضد النظرية). إن كلا من الطرفين
المتعارضين يمكن أن يصيب بعض الحقيقة، ولكنهما يعارض احدهما الآخر من جانب واحد، ويقف احدهما من الآخر بصفته نافيا له. وتنثسب بين
الطرفيـن معركة فكرية تنتهي بظهور فكرة جديدة
تنفي الفكرتين السابقتين المتصارعتين فيما بينهما
(1) رأس ألمال كارل ماركـس ج 3 ق 2 ص 1138.
72
ولكنها عندما تنفيهما وتنهي الخلاف الناشب بينهما لا
تنبذ تلك العناصر من الحقيقة
التي كانت متمثلة في كل منهما من جانب واحد، بل تضمهما
إلى بعض وتصبح بهذا 9 مركبات يستفيد من
الجوانب الايجابية في تطور الجدال الذي كان ناشبا... ويختفي في الوقت نفسه عنصر الخطأ المؤقت المعارض للحقيقة. إن هذه الدرجة الجديدة
بالذات هي ما نسميه "نفي النفي ". وبالتالي فإن نفي النفي هو النتيجة القانونية لحل صراع الأضداد ) (1).
وطبقا لهذا التسلسل الفكري، وضعت الماركسية: قانون
تراكم التغيرات الكمية وتحولها، في مرحلة
معينة، إلى تغيرات كيفية. والمراد من التغيرات الكمية، باصطلاحها، التغيرات الطفيفة التي تطرأ على الشيء، ومن التغيرات الكيفية ما كان
تغيرا أساسيا ومهما في الشيء. وبهذا الفهم من هذا
القانون: إن التغيرات الطفيفة والقليلة إذا تراكمت أنتجت
تغيرا كبيرا ومهما.
قال ستالن:
(إن الديالكتيك- خلافا للميتافيزيقية-، لا يعتبر حركة
التطور حركة نمو بسيطة،
لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية. بل
يعتبرها تطورأ ينتقل من تغيرات كمية وضئيلة
وخفية إلى تغيرات ظاهرة وأساسية، أي تغيرات كيفية. وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات من حالة إلى
أخرى. وهذه التغيرات ليست جائزة الوقوع بل هي
ضرورية نتيجة تراكم كمية محسوسة وتدريجية.
ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم
حركة التطور، لا من حيث هي حركة دائرية أو
تكرار بسيط للطريق ذاته، بل هي حركة تقدمية صاعدة انتقال من الحالة الكيـفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة وتطور ينتقل من البسيط إلى
المركب، من الأدق إلى الأعلى) (2).
وقال انجلز:
" كل تغير هو مرور من الكمية إلى الكيفية. هو
نتيجة التغير الكمي لكمية الحركة
كيفما كان شكلها، سواء أكانت ملازمة للجسم من داخله أم
مضافة إليه ما خارج. فإن حرارة الماء مثلا ليس
لها بادئ الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت
(1) المادية الديالكتيكية ص 305.
(2) المادية الديالكتيكية لستالن 15- 16.
73
أو نقصت حرارة الماء، جاءت لحظة تعدلت فيها حالة
التماسك التي هو فيها، وتحول الماء إلى بخار في
إحدى الحالات، والى جليد في الحالة الأخرى" (1).
و" يمكن القول بأن الكيمياء هي علم
التغيرات الكيفية الناشثة في الأجسام عن تغيرات كمية " (2).
وأما مقدار الارتباط بين هذين القانونين: قانون نفي
النفي وقانون التغيرات، فهو غير واضح في
المصادر الماركسية...
إن الماركسية، لا بد لها أن تجيب عن السؤال عن هذه
العلاقة بأحد شكليها:
الشكل الأول: ان التغيرات الكمية. مهما كانت ضئيلة- يعتبر
كل واحد منها، او كل مرحلة أو درجة، شكلا من
اشكال التركيب (نفي النفي) النتائج من اطروحة وطباق سابقين عليه، طبقا للقانون الأول. والتغير الكيفي، شكل آخر للتركيب أيضا،
لكنه ضخم ومهم.
فقد اكتسب هذا التغير اصل وجوده من القانون الأول،
واكتسب ضخامته واهميته من القانون الثاني.
إلا ان هذا الشكل لا يكاد يكون صحيحا، لأنه مناف للطفرة
التي قالت بها الماركسية قبل التغير الكيفي. فإنها
تعني ان هذا التغير الذي هو (تركيب ما جديد غير مسبوق بأطروحة
وطباق 4 بل بطفرة تقطعه عن سوابقه. فإن من نتائج الطفرة وخصائصها ان لا يكون ما بعدها ملحقا بما قبلها او معتبرا من نتائجه بشكل من الأشكال.
مضافا إلى أن وجود الأطروحة والطباق للتغير الكيفي سوف
يكون افتراضيا تجريديا، لأنه غير متمثل
بالتغيرات الكمية السابقة عليه، وإلا صرنا إلى الشكل الثاني الذي سوف نتحدث عنه... إذن فأين توجد الأطروحة والطباق؟!...
الشكل الثاني: أنها تعتبر التغيرات الكمية صراعا بين
الأضداد أو بين الأطروحة والطباق ويكون التغير
الكيفي هو التركيب.
(1) المصدر ص 18.
(2) المصدر والصفحة.
74
إلا إن هذا الشكل أيضا غير قابل للتصديق، إذ مضافا إلى
ورود الأشكال الأول السابق نفسه، فإن الطفرة (تقطع)
التغـير الكيفي عن التغيرات الكمية بل يعتبر حادثا جديدا غير ناتج مما سبق. بخلاف التركيب، فإنه يتولد من أحشاء الصراع بين
الأطروحة والطباق، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك.
هذا، ونحن طبقا لهذا الشكل الثاني، لا بد أن نعتبر
القانونين قانونا واحدا ليس إلا. فالتغيرات الكمية عبارة
أخرى عن صراع الأضداد والتغير الكيفي عبارة أخرى عن التركيب أو نفي النفي. فهما تعبيران عن واقع واحد. وبذلك تخسر الماركسية احد
القانونين الرئيسيين، مع أنها قد أكدت على كل
منهما مستقلا تأكيدا كبيرا.
فهل يعني ذلك أن الماركسية، حين تحدثت عن قانون
التغيرات، لاحظته (سلسا) خاليا من الأضداد،
كـما هو مقتضى ألفصل بين القانونين... وهل يمكن للماركسية أن تتحدث بهذا الشكل؟...
- 11-
وينقسم صراع الأضداد إلى تناقض رئيسي وتناقض ثانوي.
فإن (أية عملية ما ليست بسيطة قط، لأنها تدين بوجودها
الخاص إلى عدد كبير من الشروط الموضوعية
التي تصلها بالمجموع. ينتج عن ذلك أن كل عملية هي محل سلسلة من التناقضات ومن بين هذه التناقضات، تناقض رئيسي يوجد منذ بداية العملية حتى
نهايتها ويحدد وجوده وتطوره طبيعة سير العملية، أما
الأخريات فهي تناقضات ثانوية تتعلق بالتناقض الرئيسي.
... ولا تتراكم هذه التناقضات كل منها فوق الآخر، بل هي
تتداخل وتتفاعل حسب قانون الجدلية الأولي. فما هو
تأثير هذا التفاعل؟
تزداد أهمية تناقض ثانوي في بعض الأحوال، فيصبح فترة
معينة تناقضا رئيسيا بينما يصبح التناقض الرئيسي
الأول ثانويا (ولا يعني هذا زوال تأثيره). فليست التناقضات إذن متحجرة، بل هي تتغير. وهكذا يصبح التناقض بين البرجوازية
والبروليتاريا (الذي هو التناقض الرئيسي
الأول) في البلاد المستعمرة ثانويا لفترة معينة، بالرغم من خطورته، إذ ينحل بانتصار الاشتراكية في هذه البلاد... " (1).
-12-
فهذه الفقرات، كافية لعرض الديالكتيك الماركسي، أو
قانون
(1) أصول الفلسـفة الماركسية: بوليتزرص 179- 181.
75
صراع الأضداد، بشكل موجز ومرتب، خال من التشويش وكثرة
الأمثلة والمناقشات... التي تجدها في
المصادر الماركسية.
مناقشة الديالكتيك
-1-
بالنسبة إلى ما ذكره الماركسيون من وجود السؤال الرئيسي
في الفلسفة، حول أسبقية الروح أو المادة...
تكتسب بعض المسائل نوعا من الأهمية، حين تكون نقطة
للخلاف بين جماعتين فكريتين من الناس... لا
تختلف في ذلك المسائل الفلسفية عن غيرها.
فالمسألة المهمة بين المسلمين والمسيحيين هو انه هل صدق
محمد بن عبد الله نبي الإسلام في نبوته أو لا.
والمسألة الرئيسية بين غاليلو والكنيسة هي أن الأرض كروية أو مسطحة. والمسألة الرئيسية بين فريقين من الفلاسفة هي أن الأصل في
التكوين هل هو الماهية أو الوجود وهكذا.
إذن، فمن الطبيعي أن تكون المسألة الرئيسية بين الماديين
والإلهيين هو القول بتقدم الروح أو المادة. ولا
يعني ذلك أنها هي المسألة الأكبر على الإطلاق، لوضوح انه قد توجد انقسامات أخرى فلسفية أو فكرية، تكون مسائل أخرى هي المحك فيها.
وليست هذه المسألة هي أعم المسائل في الفكر الفلسفي. فإن
هناك ما هو اسبق منها واشمل، كالمسألة التي
وقعت محلا للخلاف بين الواقعيين والمثالين- بالمعنى الاصطلاحي- وهو
أنه هل يوجد خارج الذات شيء واقعي أو لا يوجد... لوضوح أن الخلاف في تلك المسألة متفرع على الاعتراف بالواقع الموضوعي، والتسالم عليه بين
الفريقين:
المادي والإلهي. وأما التعبير بالمثالية
والميتافيزيقية، في كلام الماركسيين، على خلاف المعاني
الاصطلاحية والمعروفة لها، بحيث تشمل الفلاسفة الماديين أنفسهم، كهيجل وفورباخ، فيصبحون ماديين ميتافيزيقيين، وواقعيين مثاليين في نفس
الوقت!!... فهذا تهافت ينبغي أن نعرض عنه، وخاصة بعد أن
عرفنا من استعمال هذه الألفاظ كونها لمجرد الطعن
والتجريح
76
.
-2-
وأما القول بأزلية الكون، فقد ثبت في العلم الحديث
بطلانه. فإن مقتضى قانون الديناميك الحراري، هو
أن الأجسام عموما تشع حرارتها حتى تصل إلى الصفر المطلق أو العدم. ومعه... فإذا كان هذا الكون أزليا، إذن فلا بد أن يكون قد
انعدم وانتهى منذ عهد بعيد طبقا لهذا القانون. في حين
أننا نرى الكون موجودا، إذن فلابد أن يكون قد وجد في لحظة
متأخرة بحيث لا زالت حرارته الداخلية سارية المفعول. وهذا
يعني حدوث الكون ونفي أزليته.
إذا كان الكون حادثا... إذن، يدور الأمر بين الاعتراف
بالفاعل الخارجي للكون، أو كونه قد طفر من العدم
إلى الوجود فجأة... وكلا الأمرين مما لا ترغب فيه الماركسية.
وإنكار قانون الديناميك الحرارية، كما حاولت بعض
المصادر الماركسية أن تقوله (1)، يورط المفكر الماركسي بعدة محاذير
باطلة (2)، أوضحها في
(1) المادية الديالكتيكية والعلوم الطبيعية صح119.
(2)((( لا يخفى أن القانون المشار إليه، صحيح ولا مناص
للماركسيين من الاعتراف به في بعض الحدود التي
سنذكرها (انظر المصدر السابق، نفس الصفحة). ولكنه يحتاج إلى تقييدات محتملة، نذكرها مع ما ينبغي أن يكون موقفنا وموقف الماركسية
منها:
التقييد الأول: إن هذا القانون إنما يصح في المادة
المتناهية المحدودة، فقط، دون ما إذا قلنا
بأنها لا متناهية. كما أشار إليه المصدر السابق (الصفحة نفسها).
وهذا صحيح، لأن المادة اللامتناهية تكون قابلة لإشعاع
الحرارة في أمد لا متناهي، فلا يوجب ذلك فناء الكون
وان كان أزليا.
إلا إن الالتزام بلا تناهي الكون أمر غير صحيح... أما
من وجهة نظر المؤلف فباعتبار وجود
البرهان على ذلك في الفلسفة... ولا حاجة إلى ذكره. وأما
من وجهة نظر الماركسية فلأن هنا الموقف
يتضمن (مثالية) متطرفة وميتافيزيقة مكثفة، لأنه يتضمن الاعتراف بوجود أشياء يستحيل الاطلاع عليها حسيا أو إقامة البرهان عليه علميا. مضافا
إلى ما ذكرناه في المتن أعلاه فراجع.
التقييد الثاني: عدم الاعتراف بقانون فناء المادة اعني
القانون القائل بأن المادة يستحيل أن توجد أو أن
تفنى... فإن القانون المشار إليه في المتن إنما يصح لو أنكرنا هذا القانون الأخير، وأما لو قلنا باستحالة فناء المادة، فهو يعني
استحالة فناء الكون. وهذا ما أشار إليه المصدر
السالف الذكر (ص 121). إلا أن هذا التقييد غير صحيح... اما
من زاوية نظر المؤلف فلعدم قيام الدليل عليه، إذ يمكن وجود المادة وانعدامها، من ناحية فلسفية. وأما من زاوية اعم من ذلك: فلأن الحديث
في هذا القانون عن المادة =
77
= بمعناها القديم المغاير للطاقة... وهذا ما أثبتت
الفيزياء الحديثة بطلانه بعد إمكان تحول
المادة إلى طاقة. وهذا هو الذي يفيد الماركسين لأنهم يحرصون على أزلية المادة بهذا المعنى.
وأما لو كان الحديث في هذا القانون عن الطاقة نفسها،
وأنها لا توجد ولا تنعدم، فهذا ما قالته
الفيزياء الحديثة، إلا انه قول بلا دليل لتعذر إقامة
الدليل التجريبي عليه- في المدى البعيد- كما هو
واضح، فإن عدم تمكن العالم من إعدامها في المعمل لا بمعنى عدم إمكان ذلك أساسا، والتعميم يحتوي . على (مثالية) مقيتة لا تتناسب مع
التفكير الماركسي.
التقييد الثالث: إن قانون الفناء الحراري للكون يصح في
المادة بمعناها القديم، ولا يشمل الطاقة.
فإن الإشعاع الحراري يحول المادة إلى طاقة، لا انه يسبب فنائها بالمرة.
وهذا التقييد صحيح- شكليا- إلا أنه غير منتج في نفع
الماركسيين:
أولا: إن استمرار الإشعاع في مدى أزلي، يقتضي في الكون
المحدود،- كما هو مقتضى التجرد
عن التقييد الأول- تحوله جميعا إلى طاقة. ومعنى ذلك
إننا لا يمكن أن نجد ألا الطاقة، ومنذ أمد بعيد.
وقد يخطر في الذهن: إننا لا نجد الآن إلا الطاقة، فعلا،
بعد أن ثبت في الفيزياء الحديثة أن المادة إن هي
إلا طاقة (مضغوطة).
وجوابه: إن معنى التحول إلى الطاقة: انعدام الطاقة
بشكلها المضغوط، وتحولها إلى باقة (مشتتة)
ليست ذات وجود (مادي) متميز. فيكون معنى الفكرة التي قلناها: انه لو كان الكون أزليا لأصبح الكون منذ أمد بعيد طاقة مشتتة، ولم نجد فيه
أنواع المادة وأشكالها المعروفة، على حين نجد ذلك
وجدانا، ومعناه أن الكون ليس أزليا.
ثانيا: إن قانون الفناء الحراري للكون يمكن أن يشمل
الطاقة نفسها. وذلك على أحد مستويين:
المستوى الأول: إن المادـة المعروفة إن تحولت إلى طاقة
محضة ومشتتة، فسوف تكون متجانسة بمعنى متشابهة
الأجزاء خالية من الأشكال المعروفة... ثم أنها تستمر بحركتها الدائبة والسريعة بالتفرق حتى لا يبقى لجزئياتها أي تماسك أو تأثير. وهذا
يعني الانعدام من الناحية العملية، لأن كل
جزيء بمفرده لا يمكن أن نسميه مادة ولا طاقة، وغير مؤثر في
أي تكوين.
المستوى الثاني: إنه ثبت في الفيزياء الحديثة إن الطاقة
إنما توجد مع استمرار الحركة وأما مع السكون
فالطاقة تنعدم.
وبتعبير آخر: إن الجزيء إنما يكون له وجود مع حركته دون
حالة سكونه.
فإذا صح ذلك، أمكننا أن نقول: بأن جزئيات الطاقة
المشتتة للكون تؤول في نهاية المطاف إلى
السكون بعد أن لم يعد لوجودها أية فائدة، بما في ذلك
الاجتماع مرة أخرى، لأنها في حركتها
تتباعد لا تتقارب، طبقا للقانون الحراري. ولا أقل من أن افتراض السكون مما لا يمكن نفيه (علميا)، فهو يعدل القول بأزلية الكون الذي لا يمكن
إثباته (علميا)
أيضا.
إذا سكنت جزئيات الكون انعدمت... فانعدم الكون.
التقييد الرابع: عدم الالتزام بعالم الروح الموجود في
رأي الإلهيين- وراء المادة والطاقة معا.
فإننا إن تحدثنا عن فناء الكون الحراري، بمعناه المختص
بالمادة أو الشامل للطاقة، كان لهذا القانون معنى
مفهوم. وأما إذا كان المراد من الكون ما يشمل الوجود الروحي المجرد، فلا معنى لهذا القانون، لأن الإشعاع المسـتمر (أو تناقص
الوجود بالإشعاع) خاص بالمادة، وغير شامل للروح، ولا
اقل من أن هذا مجال يستحيل على المستوى العلمي التجريبي أن
يناله ولا إثباته، فليس من حقه أن يقول تجاهه أية كلمة
- 78
الذهن الماركسي انه يكون على خلاف قول لينين بأن الكون
شعلة أبدا تثور وتنطفئ طبقا لقوانين
معينة... كما سبق أن سمعنا.
فإن إنكار قانون الفناء الحراري، يعني أن الكون يشع
حرارته باستمرار وبنسبة متشابهة منذ الأزل
إلى الأبد، بدون أن (ينطفئ) أو يناله العدم. وهو على خلاف ما التزم به لينين.
ويبدو ان المقصود من انطفاء شعلة الكون، انعدامه
بالمرة، مرة بعد
مرة، إذن يلزم من اشتعاله بعد الانطفاء وجودة بعد العدم
مرة بعد مرة، وهو يورط الماركسية بالقول
بالصدفة للكون لعدة مرات، ربما لا تكون متناهية على حين أنها هربت منه لمرة واحدة.
ولا ينبغي لنا أن نتحدث عن (القوانين المعينة التي تحكم
الكون حين ينعدم وتنطفئ شعلته، كما لا ينبغي أن
نتحدث عن القوانين (الموضوعية الماركسية، في مثل ذلك، بما في ذلك قانون الـديالكتيك ألذي رأى لينين انطباقه في هذا المورد... إذ
لا معنى لوجود القانون مع انعدام الموضوع.
-3-
وأما ما ذكرناه في الفقرة الثالثة من اعتراف الماركسية
بوجود الواقع و(مكان إدراكه، خلافا
للمثاليين- بالمعنى المصطلح-، فهذا أمر صحيح، نعترف به إجمالا، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيله، إذ يكفينا في بحثنا الآتي هذا المقدار المختصر من
الواقعية.
غير انه مما يلفت النظر انه لا يوجد في المصادر
الماركسية- حسب ما نعلم- استدلال على صحة
الواقعية، وإنما أخذت النظرية بمصادرة ساذجة، وهذا تقييد صحيح، إلا أنه خاص بالاعتراف بوجود العالم الروحي، ولا يستلزم- إلى جانب ذلك- كذب هذا
القانون، لأنه مختص بمجاله المعين وهو المادة. وإنما
المهم في مناقشة الماركسية هي التقييدات السابقة.
هذا مضافا، إلى أن الماركسيين، حين يعممون معنى المادة
إلى الطاقة ويعترفون بالتحول التدريجي إلى
الطاقة، طبقا للفيزياء الحديثة، يتناسون قوانينهم الكلاسيكية... فإن لنا أن نتساءل عن كون هذه الطاقة هل هي مشمولة لها أو لا؟ وما هو
معنى الطباق والتركيب إذا كانت (أطروحة)، وما هو
معنى التغيير الكيفي إذا كانت حركة الطاقة تغيرا كميا؟؟!!..
وهلم جرا... يبدو أن الماركسية تحدثت في قوانينها عن المادة بمعناها القديم، الذي كان في زمن ماركس وانجلز... وأما لو تقدمنا
وتقدم العلم خطوات، كانت قوانين الماركسية فاشلة!..)))
79
مع أن للمثالية أدلتها التي تحتاج إلى المناقشة سواء
على المستوى القديم كباركلي، أو على مستوى
الفيزياء الحديثة التي انطلق منها البعض إلى الالتزام بالمثالية.
كل ما في الموضوع، أن القوانين الماركسية حيث أنها لا
تفيد في إثبات الواقعية باعتبار تفرعها على
الاعتراف به، فقد رأت الماركسية أن الأصلح لها أن تلوذ بالصمت من هذه الجهة وتوكل الأمر إلى الوجدان البسيط. نود في هذا الصدد
الإشارة إلى حقيقة معينة، قلما يلتفت إليها المفكرون على
اختلاف اتجاهاتهم...
وهي أن " القانون الكوني،
أيا كانت صيغته ومدلوله، وفي أي ميدان كان عمله، إنما هو مفهوم ذهني منتزع من عدد من الوقائع الجزئية الخارجية. فقولنا: كل
جسم كبير يجذب الجسم الصغير... ليس إلا صيغة ذهنية أو
تعبيرية منتزعة أو مفهومة باعتبار ملاحظة عدد ضخم من
الوقائع الخارجية التي حدثت فيها الجاذبية لا عالم الكون. فهنا تنجذب تفاحة وهناك تنجذب حصاة وهنالك ينجذب كوكب... وهكذا... فنلاحظ ذلك
ونقول: كل جسم كبير يجذب الجسم الصغير، الذي هو " قانون الجاذبية ".
ولا يمكن أن يكون للقانون بمعناه الواسع وجود واقعي،
وإنما الموجود في الخارج ليس إلا
الجزئيات، والوقائع الخاصة.
والبرهان على ذلك من زاويتنا: الحقيقة الفلسفية القائلة:
بأن الكلي - على سعته- لا يوجد في الخارج، فإن
عالم الوجود الخارجي مساوق مع الجزئية والتعين. والمفهوم القانوني مفهوم كلي لا يمكن أن يوجد في الخارج. والبرهان من زاوية
الماديين: إن القانون الكوني، أيا كان، ليس (مادة) لأنه
مسيطر على المادة والماديات وحاكم فيها. وليس محسوسا، لوضوح أن
ما هو المحسوس هو مدار وانطباق القانون، لا القانون على سعته. فإننا نرى التفاحة تنجذب إلى الأرض لكننا لا نرى قانون
الجاذبية...
فالماديون حين يقولون: بأن الوجود الواقعي منحصر
بالمادة،ويقولون: بأن ما ليس بمحسوس ليس
بموجود-. ينتج من ذلك: أن (القانون غير موجود، باعتباره أمرا غير محسوس.
إن تحدثوا عن (القوانين الموضوعية - كـما هو ديدن
الماركسيين دائما... فهم يتحدثون- لا محالة- عن شيء لا
مادي ولا محسوس، بل عن شيء ميتافيزيقي أو (مثالي مقيت !..
لا ينجو من ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه. فإننا لو
لاحظناه بحياله لوجدناه مفهوما ميتافيزيقيا
مثاليا لا مادي ولا محسوس. وإنما المحسوس- لو صح هذا القانون- هو وقائعه وتطبيقاته الجزئية. فنحن نرى هذه الشعيرة- كـما مثل انجلز- تصبح
نبتة، وهذه النبتة تصبح شجرة، وهذه الشجرة تصبح
ثمرة... لا أننا نرى القانون على شموله وعمومه. هذا ويختص قانون
الديالكتيك بزيادة في اتجاه هذا البرهان نفسه... فإن التناقض الداخلي، في الشيء ذاته بذهن الأطروحة والطباق، أمر غير محسوس، وإنما
المحسوس هو طرد العوامل المتلفة على الشيء من
الخارج. فإذا زرعنا الشعيرة أتلفتها رطوبة الأرض، وإذا دققناها
أتلفها الدق، وإذا قضمناها أتلفها القضم... وهكذا. وأما أن عوامل الفناء موجودة في داخل الشعيرة نفسها، فهو أمر غير محسوس، بل هو
افتراض ميتافيزيقي ليس إلا.
إذن، فليس قانون الديالكتيك على سعته ميتافيزيقيا،
فحسب، بل حتى في موارده الجزئية ميتافيزيقي
أيضا. فما هو رأي الماركسيين في الالتزام بمثل هذه الأمور الميتافيزيقية!!...
إذن، فتعميم قانون صراع الأضداد الميتافيزيقي، إلى كل
المجالات من العلوم الطبيعية والمجتمع،...
حتى الرياضيات... تعميم ميتافيزيقي ليس إلا...
وبغض النظر عما قلناه، والتسليم- جدلا- بإمكان وجود
القوانين الموضوعية المادية... يمكن إيراد إشكالات أخرى تتمثل في
عدة نقاط ضعف:
النقطة الأولى: إن ما حاولته الماركسية من الانطلاق من
الأمثلة
81
الحياتية والعلمية، وإن كان لطيفا... إلا أن فهم
النظرية العامة من هذه الأمثلة، يمكن بأحد
أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن نفترض النظرية سلفا، ثم نحاول حمل
الأمثلة عليها.
الأسلوب الثاني: أن نحاول فهم النظرية من حمل الأمثلة
نفسها. والمفروض أن الماركسية قامت
بالأسلوب الثاني في فهم النظرية...
فهل أفلحت في ذلك. أو أنها قامت- في الواقع- بالأسلوب
الأول من حيث لا تعلم.
إن الأمثلة المأخوذة من الكون والحياة، مهما تزايدت،
فإنها لا تدل على فهم فلسفي معين، بل هي
كالكاسة الفارغة يمكن أن تملأها أي نظرية فلسفية عامة، وضعت لفهم الكون والحياة. ولا يمكن لأي نظرية عامة أن تنجح ما لم تطبق فهمها على كثرة
كاثرة من موارد الكون والحياة. فمثال انجلز عن
حبة الشعير، كـما يمكن فهمه على أساس الديالكتيك،
كذلك يمكن فهمه على أساس مفهوم العلية القائل بالارتباط الضروري بين الفعل والفاعل، كـما يمكن- أيضا- فهمه على أساس العلية بالفهم العلمي
الحديث القائم على مجرد الترتب بين الوقائع... وهكذا،
أي نظرية عامة أخرى.
إذن، فالأمثلة المسبقة من الحياة، لا تدل على النظرية
الماركسية، كـما يريد انجلز أن يقول-... بل
من الضروري للفلسفة أن تقيم البرهان على صحة نظرياتها خارجا عن هذا النطاق، حتى ما إذا تم البرهان عليها أمكن تطبيقها على سائر الوقائع.
أي أن الأسلوب الأول هو الأسلوب الأمثل. وأما إذا
اعتمدت النظرية، على الوقائع اعتمادا كليا، كـما فعلت
الماركسية، ولم يكن لها دليل مسبق، إذن سوف تبقى النظرية للدليل الكافي، لأن الوقائع وحدها، قاصرة عن إثباتها، كـما رأينا.
النقطة الثانية: إن صراع الأضداد، هل يؤدي- كـما ترى
الماركسية- إلى وجود تركيبي أكمل أو لا؟...
إن هذا الصراع- على ما يبدو- يؤدي، حتما، إلى هلاك
المتصارعين، لأنه عنيف ودائم، ولا اقل من
هلاك احدهما، وأما وجود
82
شيء جديد نتيجة لهذا الصراع، فهذا مما لا يمكن أن يكون
معقولا، لأنه خلاف طبيعة الصراع بالضرورة.
على أن الحركة، ليست دائما إلى الأكمل والأعلى، بل قد
تؤدي. الحركة إلى ما هو الأردأ، كتحول الحديد
إلى تراب نتيجة لتآكله بالرطوبة... وقد لا تؤدي هذه الحركة إلى نتيجة بالمرة، مثل بقاء بعض المجتمعات البدائية غير المتطورة إلى
حد الآن، على شكلها البدائي، ولعلها تبقى كذلك حتى
تفنى أو تتفرق.
... وقد تؤدي الحركة إلى زوال الذات بدون بدل... كالفوتونات
الكهربائية عند استقرارها على الأجسام، فإنها تنعدم
بالمرة، لأن لا كتلة لها عند السكون، وإنما تحدث لها
الكتلة عند الحركة، كـما ثبت في الفيزياء الحديثة.
فإذا كانت الحركة صراعا بين الأضداد، لم تكن منتجة
للفرد الأكمل دائما...
الئقطة الثالثة: إننا نستطيع مما سبق أن ننطلق إلى
نتيجة مهمة من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: أننا بعد أن أثبتنا أن القوانين
الكوبية، لا وجود لها على المستوى المادي،
وانما هي مفاهيم ذهنية نعبر بها على المستوى اللغوي عن مجموعة من الوقائع الجزئية التطبيقية... إذن، فقد زال الأساس المهم الذي يقيم عليه
الماديون ماديتهم لا التعويض، بفرضية وجود هذه القوانين
عن فرضية وجود الله... إذ يرون أنه لا حاجة إلى الافتراض
الثاني مع صدق الافتراض الأول.
وهذا منحى عام للماديين، سواء في ذلك الماركسيون وغيرهم.
وإنما يختلف الماركسيون عن غيرهم في فهم هذه
القوانين التي تعوض عن افتراض الخالق في رأيهم. فغير الماركسيين يكتفون من هذه القوانين بالقوانـين الفيزياوية والكيمياوية والفلكية
للطبيعة.
والماركسيون يفهمون كل ذلك طبقا لقانون خاص بهم هو
قانون الديالكتيك الذي عرفناه.
فإذا استطعنا التنزل عن افتراض وجود القوانين المادية،
على ما برهنا عليه... لم يبق أمامنا إلا
الافتراض الثاني، وهو وجود الله تعالى كمدبر
83
للعالم بدل هذه القوانين.
هذا... ونستطيع أن نخطو خطوة أخرى، وهي أننا لو سلمنا -
جدلا- بوجود هذه القوانين، فإن وجودها لا يغني عن
وجود الله، بعد وضوح دلالتها على حسن التدبير في هذا الكون، كما سنشير إليه في الزاوية التالية... وخاصة مع الاعتراف " بحدوث الكون، كما سنبرهن عليه من
الزاوية التي بعدها.
الزاوية الثانية: أكدت الماركسية بإصرار على أن
القوانين الطبيعية،عمياء عفوية الإنتاج... وهذا
واضح جدا على مستوى الفكر المادي، لامناص لهم عن الالتزام به. ولكن هل هو صحيح أو لا.
إننا نصبح مفكرين وعباقرة ومشاهير، لمجرد الاطلاع على
خصائص هذه القوانين. فهل يمكن أن يكون وجود
هذه القوانين- بعد الاعتراف بها- بدون فكر وبدون عبقرية؟!... وهل تكفي الأزلية أو الصدفة لتفسير ذلك؟ إن الجواب على ذلك موكول إلى الرأي
العام في تفكيره الاعتيادي الموضوعي
لا يشذ عن ذلك حتى قانون الديالكتيك نفسه- على تقدير
صحته فإن سريانه في الكون، وإنتاجه للحركة نحو
الأكمل، لا يمكن أن يكون لمجرد أزلية القانون أو لمجرد الصدفة. وإنما يدل بوضوح على عمق الصنع والتدبير.
الزاوية الثالثة: أن القول بأزلية الكون بمعنى عدم وجود
بداية لوجوده... مما لا معنى له بالمرة.
فإن لفظ الكون يعبر عن مجموع ما في عالم الوجود من
أجزاء... فما هو الشيء الذي نقول بأزليته؟ هل
هو المجموع أم الأجزاء؟!... أما المجموع، فلا يمكن أن يكون أزليا، لأنه مفهوم ذهني أو تعبيري غير موجود في الخارج، وإنما المتحقق هو الأجزاء
الكثيرة فقط.
أما تصور وحدتها المجموعية فهو خيال تصوري محض. وليس
المراد الالتزام بأزلية هذا الخيال،
وإنما المراد الالتزام بأزلية الكون الواقعي، فإذا لم يكن المجموع واقعيا لا معنى للالتزام بأزليته... فإن ما هو أزلي هو الموجود الواقعي دون
غيره.
84
وأما الالتزام بأزلية الأجزاء على كثرتها وتشتتها... فهذا
أيضا غير محتمل، فلأن الأجزاء توجد وتفنى
باستمرار، ولا يمكن لأي جزء يعينه أن يبقى محافظا على وجوده منذ الأزل. فإن معنى الحركة- حتى في الفكر الماركسي- هو زوال أشياء وحدوث
أشياء أخرى، طبقا لقانون الديالكتيك أو غيره والكون
متحرك باستمرار، ولا يمكن أن يكون ساكنا.
فإذا لم يكن الكون، لا بمجموعه ولا بأجزائه أزليا، فهو
حادث - إذن- في لحظة معينة. فيدور أمره بين الالتزام بالصانع
الحكيم أو القول بالصدفة المطلقة التي تبرأت الماركسية من
مجرد التفكير بها.
وقد يخطر في الذهن: أن معنى أزلية الكون ليس هو ما
قلناه، بل بمعنى أن الكون عبارة عن مجموعة من
الحوادث المتتابعة من الأزل وإلى الأبد، فأي واقعة لاحظناها وجدناها مسبوقة بأخرى، وهكذا إلى ما لا يتناهى. وهذه السلسلة المتتابعة هي
التي تحفظ للكون أزليته. وجوابه: أن هذا الشكل من التتابع،
ما لم يصل إلى الفاعل الخارجي وهو الخالق الحكيم، الذي
يوجد السلسلة بشكلها اللامتناهي أو يقع في أولها، فلا تكون لا متناهية في العدد... ما لم يكن هذا الشكل مستحيلا، كما سنذكر في النقطة
التالية.
الزاوية الرابعة: إن أزلية الكون، بأي شكل، لو سلمناها،
لا تبرر وجوده من دون فاعل خارجي. فإذن عدم افتراض
هذا الفاعل يؤدي إلى ما يسمى باصطلاح الفلسفة بالتسلسل وهو محال. إذن يتعين القول بوجود الفاعل الخارجي حتى مع الالتزام بأزلية
الكون.
وانطباق فكرة التسلسل، واضحة على هذا التقدير... فإن
ترتب الأحداث والوقائع الكونية على بعضها
البعض، مما لا ينكره أحد، سواء كان بنحو ديالكتيكي أو علمي أو على شكل ثالث... إذن فوجود هذه الحادثة مستند الى حادثة قبلها، وتلك إلى ما
قبلها، وهكذا إلى ما لا نهاية. وهذا هو معنى التسلسل.
وأما استحالة التسلسل، فنحن لا نحتاج في إثباتها إلى
دليل عقلي معقد، لكي تنكره الماركسية بصفته
ميتافيزيقيا أو مثاليا!!.. وإنما الوجدان حاكم باستحالته، إذ يكفي مجرد تصوره إلى استنكار حدوثه.
85
وأوضح أمثلته: ما إذا أمرك شخص، لا مناص لك من طاعته،
أن تخرج من عدة أبواب على أن لا تخرج من
أي باب إلا إذا كنت خرجت من باب قبلها. فإن أمره هذا لا يكون قابلا للإطاعة، باعتبار استلزامه التسلسل. فإنك- لا محالة- تخرج لأول مرة
من باب لم تخرج من باب قبله. وأما تقيدك بهذا الشرط
باستمرار، فهو في عداد المحالات... فالحظ ذلك بنفسك (1).
ومثله، ما لو أمرك بأن تأكل عدة تفاحات على أن تكون كل
تفاحة تأكلها مسبوقة بأكلك تفاحة قبلها... أو أمرك
أن تسمع عدة أبيات من الشعر على أن يكون كل بيت تسمعه مسبوقا
بسماعك لبيت قبله... وهكذ ا.
ومن هنا تضطر أنت، لو أردت الامتثال، إلى قطع هذه
السلسلة بالخروج من باب لم تخرج قبله من باب
آخر، أو سماع بيت من الشعر لم تسمع قبله بيتا... وهكذا. وإلا كانت كل فقرات السلسلة متعذرة التطبيق تماما...
فكذلك الحال في الكون عموما، لو قلنا بأزليته من دون
إسناده إلى صانع خارجي، فإن حوادثه
مربوطة ببعضها البعض منذ الأزل، فإذا لم تستند إلى الصانع تكون كل حوادثه متعذرة الوجود، تماما كأبيات الشعر والتفاحات.
إذن فأزلية الكون مستحيلة التحقق على أساس الفكر المادي...
النقطة الرابعة: انه كـما لا معنى لأزلية الكون، لا
معنى لأزلية قوانينه أيضا بما فيها قانون
الديالكتيك... بشكل أوضح من أزلية الكون. إذ لعل شخصا يتحدث عن أزليه الكون، بعد التنزل- جدلا- عـما عرفناه في النقطة السابقة، يتحدث عنه
على أساس ملاحظة المجموع أو على تسلسل الحوادث
وتتابعها اللانهائي... إلا أن هذا لا معنى له في القوانين
الكونية. لأن الحديث عن مجموع القانون حديث مهمل، لوضوح أن القانون إنما يوجد ضمن تطبيقات، وليس إلى وجود أوسع من ذلك. (1) إن أول من
فكر في هذا الأسلوب في استحالة التسلسل، حسب
اطلاعنا، هو: عبد اللطيف برى، في كتابه: نقد الفكر المادي
والديني، ص 25. نذكره حفظا للحقيقة.
86
وتطبيقات القانون متناثرة مشتتة ليس بينها ترابط من أي
نوع، فلا يمكن أن نتصور فيها تتابعا لا
نهائيا... لوضوح أن جذب التفاحة غير مربوط بجذب ألحصاة... وهكذا.
وإذا كانت التطبيقات، متعددة ومشتتة، وليس للقانون وجود
زائد عليها، إذن فكيف يمكن الالتزام بأزليته.
والأمر بالنسبة إلى قانون الديالكتيك، أوضح واشد... لأننا
لو سلمنا- جدلا- بإمكان أزلية غيره من القوانين،
يتعذر القول بأزليته مع الأسف!!...
لوضوح، أن معنى أزليته بقاؤه على طول المدة، بقاؤه سلسا
من دون تغيير... وهذا ينافي مضمون
القانون نفسه. فإن مضمون القانون هو أن كل شيء يحدث فيه النفي ونفي النفي، على الشكل الثلاثي الذي عرفناه. فإذا كان هذا المضمون شاملا حقيقة
لكل شيء، إذن فهو شامل للقانون نفسه، ومعه يكون قانون
الديالكتيك (أطروحة) جري فيها النفي (الطباق) ويحدث بعده التركيب)...
إذن، فإذا كان هذا القانون أزليا، ينبغي أن نتوقع- طبقا
لمضمونه نفسه- أن يكون قد تغير وتبدل إلى شيء آخر
منذ أمد طويل. وسيكون القانون الذي يخلفه سلسا وثابتا، ولا حاجة إلى القول بتغيره مرة أخرى، بعد زوال قانون الديالكتيك من الكون...
ولا بد أن يكون هذا القانون الجديد، هو الساري
المفعول في العصر الحاضر.
لم يبق لدينا من المناقشات، سوى النظر إلى القانون
الماركسي الثاني،
وهو تحول التغيرات الكمية إلى تغير كيفي، تحولا دفعيا
على شكل قفزة أو طفرة.
إن هذا القانون مما لا أساس له، لعدة نقاط:
النقطة الأولى: ما ذكرناه فيما سبق، من أن الطفرة
بطبيعتها دائما تقطع الواقع اللاحق عن
الواقع السابق، بحيث لا يكون اللاحق ناتجا من السابق بأي حال عن السابق، بل هو حادث جديد منقطع عن سابقه. وهذا هو سر الطفرة وفلسفتها.
87
فما ذكرته الماركسية من أن التغير الكيفي ناتج من
التغيرات الكمية، وأنها بمنزلة الأسباب له...
لا يكون صحيحا، لتخلل الطفرة بينهما... فلا بد أن نفحص عن أسباب أخرى للتغير الكيفي... وإلا كان وجوده مستندا إلى الصدفة المطلقة!!..
النقطة الثانية: أن هذا القانون، لو صح أحيانا، فهو لا
يصح دائما... إذ أن التغيرات الكمية كثيرا
ما لا تنتج تغيرا كيفيا بالمرة، كنقل شيء ما من مكان إلى مكان، وكحركة المروحة الكهربائية وسائر المحركات والآلات، وكحركة النجوم في
مداراتها. فإن كل هذا... وغير هذا... لا ينتج شيئا جديدا
بعد انتهاء التغير الكمي وانقطاع الحركة لو حصل. وقد
يكون التغير الكيفي ناتجا من دون تغيرات كمية. خذ إليك مثلا: الكسار الزجاج، فإنه لو كان ناتجا عن الاهتزاز، لكان ناتجا عن تغير كمي... ولكنه
قد يكون ناتجا عن سقوط جسم ثقيل عليه، فيكون
انكساره تغيرا كيفيا غير ناتج من تغير كمي فيه.
وكذلك إسراج المصباح الكهربائي، وكذلك إشعال النار،
فإنها غير مسبوقة بتغيرات كمية فيها. بل هي
إما حركة في غيره كحركة الفوتونات الكهربائية خلال السلك، الأمر الذي يوجب إسراج المصباح. وإما هي حركة ليست من نوعه كحركة يد الإنسان
الذي يشعل النار فإنها ليست من نوع النار. والقانون
الماركسي لا بد أنه يشترط أن يكون التغير في شيء واحد ومن نوع
واحد.
انظر إلى مثال الغليان الذي أكد عليه انجلز، فإنه حاصل
على كلا الصفتين فهو ذو تغيرات كمية في شيء واحد
(وهو الماء) ومن نوع واحد، فإن الغليان شكل من أشكال ارتفاع
الحرارة وقد لا يكون التغير الكيفي، نهائيا... بل تلحقه تغيرات كمية أخرى، لكن بدون أن تكون منتجة لتغير كيفي. فلئن كان رفع الحرارة قبل
الغليان منتجا للغليان، فإن رفع الحرارة بعد الغليان
غير منتج لشيء، بل يبقى الغليان هو الغليان وتحول السائل
إلى غاز على حاله.
وما الذي يحدث لو ان كل مجموعة من التغيرات الكمية
منتجة لتغير
88
كيفي... إذن، ينبغي أن ننتظر تغيرا كيفيا بعد 90 درجة
من تصاعد الحرارة وربما اقل منها أيضا. مع
أن شيئا من ذلك لا يحدث. إن السر في هذا التأجيل، إلى درجة المئة يكمن في سبب آخر غير هذا القانون الذي يعجز عن تفسيره.
ولو أننا انتظرنا من التغير الكيفي أن يكون أهم وأفضل
من التغيرات الكمية التدريجية، إذن سنصطدم
بتغيرات كيفية أضعف وأسوأ من التغيرات الكمية. ولعل أوضح أمثلته الموت بعد الحياة، فإن استمرار الحياة منتج للموت الذي هو أقل
أهمية منها.
ومن أمثلته (الاحتراق التام) في حالتي الخسوف والكسوف
الذي ينتج بعد الاحتراق الجزئي التدريجي... مع
وضوح أن الاحتراق التام أسوأ من الاحتراق الناقص.
النقطة الثالثة: أن التغير الذي يعتبره انجلز كيفيا، هو-
في واقعه- تغير كمي ليس إلا.
ويمكن أن ننطلق إلى إيضاح ذلك من مثاله الرئيسي: مثال
الغليان.
فإنه يحتوي على تغيرات كمية على عدة أشكال:
الشكل الأول: تصاعد الحرارة، فإنه- بطبعه- تصاعد كمي
وان زاد على المئة. ويوضح ذلك: الالتفات إلى غير الماء من الأجسام
التي تتدرج في إطاره فإن تصاعدها هناك كمي محض.
الشكل الثاني: تحول الماء إلى بخار أو غاز... فإن هذا
يحدث منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، ويتزايد
بتزايدها، لأنه يتناسب مع الحرارة تناسبا طرديا. إذن فالتبخر كان موجودا قبل الغليان ومستمرا في التزايد، والحال نفسها بقيت بعد
الغليان، ولم يحدث شيء جديد.
نعم، لو لم يكن التبخر موجودا، ثم وجد من أول الغنيان،
لكان ذلك تطبيقا للقانون بشكل او بآخر. إلا أن
الأمر ليس كذلك.
الشكل الثالث: النشيش، الذي هو عبارة عن صعود الأجزاء
السفلى من الماء إلى أعلى، نتيجة لتمددها بالحرارة
أكثر من الأجزاء العليا. فإن الحديث فيه كالحديث عن التبخر... من
حيث أن النشيش موجود منذ الدرجات الضعيفة للحرارة، ويتزايد بتزايدها، لأنه يتناسب معها تناسبا طرديا، حتى تصبح تدريجيا واضحة. ولو ارتفعت
الحرارة أكثر من المئة،
89
فسوف يكون الانقلاب أوضح.
ويصدق أيضا ما قلناه في جانب التبخر... فإن النشيش أو الصعود،
لو كان منعدما قبل الغليان، ثم يحدث بحدوثه، لكان تطبيقا
للقانون، ولكن الأمر ليس كذلك.
كل ما في الأمر، أن العرف اللغوي تبانى على تسمية كمية
معينة من هذه السلسلة الصاعدة من الحركات
بالغليان، كـما سمى درجاتها الضعيفة بالنشيش. وكان يمكنه أن يسمي أية مركبة أخرى بهذا الاسم أو بأي اسم آخر. وقد أهمل " التصاعد " اللاحق للغليان من اسم جديد. وفي الواقع كله تصاعد على غرار واحد، وبارتفاع
في كمية الحرارة وكمية التبخر وكـمية الانقلاب
ليس إلا.
ومن هنا نستطيع أن نفهم معنى الطفرة التي لمسها
الماركسيون قبل التغير الكيفي فإن العرف اللغوي
حين يتبانى على أن درجة معينة من الانقلاب هي المسماة بالغليان، دون ما هو أقل منها... فإن هذه الدرجة تحدث مع تصاعد الحرارة في لحظة
معينة، بطبيعة الحال (درجة المئة تحدث بعد التسعة
والتسعين) ولا يكون لها وجود قبل تلك اللحظة. وبمجرد حدوثها يسميها
العرف اللغوي
" فجأة "باسمها الجديد: الغليان.
وهذه المفاجأة هي التي استوحى منها الماركسيون معنى
الطفرة وهي مفاجأة لغوية، كـما أن فكرة التغير الكيفي أساسا
فكرة لغوية، ولا تحتوي من ناحية (علمية) إلا على التغير الكمي.
إذن، فلم نستطع أن نضع يدنا على تطبيق واحد، من أي
نوع،يصلح أن يكون تطبيقا كافيا للقانون
الماركسي، وحاملا لكل صفاته المطلوبة.
ومن مجموع هذه المناقشات ينتج أن الأسس الفلسفية العامة
للمادية التاريخية، لم يثبت صحة شيء
منها، غير الاعتراف بالواقعية. إلا أن هذا لا ينافي وجود بعض اللمعات في التفكير الماركسي، هو الذي حدانا أن نستشهد بها في هذا الكتاب.
الأسس العامة الاقتصادية والاجتماعية
للمادية التاريخية
إن الحياة الاجتماعية جزء من الطبيعة، وتابعة لقوانينها
القاهرة،بطبيعة الحال.
قال ستالين:
(ومن السهل أن ندرك الأهمية العظمى لتطبيق مبادئ
المادية الفلسفية على درس
الحياة الاجتماعية، وعلى درس تاريخ المجتمع... فإذا صح
أن الصلة بين حوادث الطبيعة وتكييف بعضها
بعضا بصورة متبادلة هما قانونان ضروريان من قوانين تطور الطبيعة نتج عن ذلك أن الصلة بين حوادث الحياة الاجتماعية وتكييف بعضها بعضا
بصورة متبادلة، ليسا مجرد احتمالات، بل هما أيضا
قانونان ضروريان من قوانين التطور الاجتماعي.
وبالتالي تخرج الحياة الاجتماعية وتاريخ المجتمع عن
كونهما تكدس
" احتمالات" بل يصبح تاريخ المجتمع تطورا ضروريا، وتصبح دراسة التاريخ الاجتماعي
علما)) (1).
وحيث أن القانون الأهم والأعم للطبيعة، في نظر
الماركسية، هو الديالكتيك مضافا إلى قانون التغير
الكمي والكيفي... إذن يكون المجتمع في حاضره وماضيه ديالكتيكيا، محكوما لقانونه القاهر. وتكون المادية التاريخية من زاوية كونها
تفسيرا للمجتمع، مادية ديالكتيكية بطبيعتها، وإن كانت
خاصة بالمجتمع.
قال كوفالسون:
" إن الموقف الديالكتيكي (الجدلي) من معرفة جميع
الظاهرات الاجتماعية من
(1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 30.
91
دراسة المجتمع، هو أهم مقدمة فلسفية للدراسة الاجتماعية.
وهو يلزم بالنظر من خلال التناقضات إلى المجتمع
بسبيل التطور، (1).
لا وليس من العسير أن نلاحظ أن مبدأ المادية والمبدأ
الديالكتيكي للتاريخية في دراسة المجتمع يخدمان
على السواء هدفا واحدا، هو معرفة الموضوع المدروس، كما هو عليه بحد ذاته، وفي هذا تتجلى وحدتهما العضوية.
إن المجتمع إنما هو نظام موجود ومتطور موضوعيا. ولتكن
هذا التعريف للمجتمع، لا يميزه عن الطبيعة بوصفه
موضوعا خاصا للمعرفة، لأنه تجري هنا وهناك، في المجتمع وفي الطبيعة دراسة قوانين عمل وتغير الأنظمة المادية )) (2).
وقال ستالين:
" أما المادية التاريخية فتوسع نطاق المادية
الديالكتيكية حتى تشمل دراسة الحياة الاجتماعية،
وتطبق هذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعية... أي على درس المجتمع على درس تاريخ المجتمع " (3).
وقال:
" من الواضح أن وجود علم تاريخي، وتطور هذا العلم
شيئان مستحيلان بدون
هذا الفهم التاريخي للحوادث الاجتماعية، فمثل هذا الفهم
فقط يمنع علم التاريخ من أن يصبح فوضى
احتمالات، وكونه أخطاء سخيفة.
وبعد، إذا صح أن العالم يتحرك ويتطور تماما وأبدأ، وإذا
صح أن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانونان
للتطور، أصبح من الواضح أنه ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة لا تتزعزع ولا مبادئ أبدية " للملكية الخاصة
والاستثمار. وليست هناك أفكار أبدية عن خضوع
الفلاحين لكبار ملاكي الأرض والعمال للرأسماليين " (-4). (... وبعد،
إذا صح أن التطور يجري، بانبثاق التناقضات
الداخلية وبالنزاع
بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات، وان غاية
هذا النزاع هي قهر هذه التناقضات والتغلب عليها.
فمن الواضح أن نضال البروليتاريا الطبقي هو حادث طبيعي تماما ولا
مناص منه
" (5).
المادية التاريخية لكوفالسون ص كل. نفس المصدرص 39.
الملكية الديالكتيكية لستالي ص 10. المصدرص 21.
المصدرص 23.
92
يتميز المجتمع على الكون الطبيعي وقوانينه العامة،
بميزتين رئيسيتين:
الميزة الأولى: إن هناك قوانين تحكمه، خاصة به، وهي
منبثقة بدورها من القوانين الكونية العامة ومنسجمة
معها... وسنسمع رأي الماركسية في تأثير قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في تطوير المجتمع.
الميزة الثانية: وجود جو من الحرية والوعي في تصرف
المجتمع، بخلاف الطبيعة،
فإن تصرفاتها عمياء عفوية خاليه من الوعي والهدف، حسب
ما ترى الماركسية. وبطبيعة الحال، يكون مقتضى شمول
القوانين الكونية الضرورية للمجتمع: أن تكون كل تصرفات الناس جبرية " ضرورية لا اثر للوعي فيها. إلا أن الماركسية جمعت بين هذين المفهومين المتناقضين: الضرورة والحرية، واعترفت بهما معا.
قال انجلز:
" غير أن تاريخ تطور المجتمع يختلف جوهريا في نقطة
واحدة عن تاريخ تطور الطبيعة. ففي الطبيعة (بقدر ما نحن نضع جانبأ
رد فعل الإنسان فيها) لا يؤثر بعضها في بعض إلا قوى عمياء لا
واعية، وفي تأثيرها تظهر القوانين العامة. وليس هنا أي هدف واع منشود. لا في الأعراض الظاهرية التي لا عد لها والمرئية على السطح، ولا في
النتائج الختامية التي تؤكد وجود الانتظام في
داخل هذه الأعراض.
أما في تاريخ المجتمع، فالأمر بالعكس. ففي تاريخ
المجتمع يفعل الناس الذين لهم موهبة الوعي
ويعملون بتفكير أو بتأثير عاطفة، وينشدون أهدافا معينة. ولا يصنع هنا شيء دون نية واعية، ودون هدف منشود" (1).
قال بليخانوف:
" ولكننا في الحوادث التاريخية لا نواجه أشياء
جامدة، و(نما نواجه بشرا يعملون،
والبشر يتمتعون بالوعي والإرادة. فيحق لنا بالتالي أن
نتساءل عما إذا كانت الضرورة - التي لا يوجد خارجها مفهوم علمي
للظواهر في التاريخ، كما في علم الطبيعة- لا تنفي فكرة الحرية
الإنسانية.
وإذا صغنا المسألة بكلمات أخرى، فهي تطرح على النحو
التالي: هل من سبيل للتوفيق بين الفعل
الإنساني الحر والضرورة التاريخية.
يبدو لنا للنظرة الأولى أن ذلك غير ممكن وان الضرورة
تنفي الحرية، وبالعكس.
ولكن الأمور ليست على هذا الشكل إلا بالنسبة لمن يتوقف
نظره عند سطح الأشياء، عند قشرة الظواهر. في
الحقيقة أن هذا التناقض "الشهير" هذا التنافي
المزعوم بين الحرية والضرورة ليس له وجود. فإن
الضرورة لا تنفي الحرية إنما هي شرطها الأساسي " (2). وقال
بليخانوف أيضا:
(1) لودفيج نررباخ: انجلزص 53.
(2) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 39.
93
وعلى كل، فمن المؤكد أق مثل هذا التوافق ممكن الوقوع
تماما، وان الشعور بالضرورة يتسق تماما
مع الفعالية العملية التي بلغت مداها. ومهما يكن من أمر فهذا ما صادفناه حتى الآن في التاريخ " (1).
"... إنني لا أستطيع أن أقسم عرى هذا التماثل بين
الحرية والضرورة جاعلا إحداهما تعارض
الأخرى، ولا يمكن أبدا أن أستشعر أن الضرورة تضايقني. إلا أن اختفاء الحرية هذا، ليس في الوقت نفسه إلا تعبيرا تاما عنها (").
"... هذه الحرية المتولدة عن الضرورة. وبعبارة أدق:
أنها الحرية المتماثلة مع الضرورة، إنها الضرورة
التي استحالت إلى حرية. إن هذه الحرية هي نفسها الحرية المواجهة
بعامل قسري، والمعارضة بعائق خارجي (3)... ".
ويذكر بليخانوف أسلوبا رياضيا لحساب احتمالات هذه
الحرية والضرورة من أجل التأكيد على أنه من
الممكن الجمع بينهما تماما. أسمعه يقول:
" لنفرض أن الظاهرة (آ) يتحتم وقوعها إذا توفرت
مجموعة شروط معينة نرمز إليها بحرف (س). وقد أوضحت لي أن
بعضا من هذه الشروط قد تم توفرها، وأن البقية الباقية ستحصل في الوقت (ن).
لقد أقنعتني فسأواجه الحادث (آ) وأكتب كلمة (تام) وأنام
ملء جفوني حتى يحـين
اليوم السعيد حيث يتحقق فيه الحادث وفق تنبؤاتك.
وإليك النتائج، فمن مجموع القيمة (س) للشروط الواجب
توافرها حتى تحدث الظاهرة (آ) ادخلت عملي أيضا الذي سأرمز له بحرف (د).
ولما كنت مستسلما للرقاد لدى حلول الوقت (ن) فإن مجموع الشروط
اللازمة لإيجاد الظاهرة الملمع بها ليس (س) وإنما (س- د). وهذا ما يبدل الوضع. ويجوز أن يحل آخر مكاني ويكون مستسلما للعطالة،
غير ان المثل الذي ضربه له استرخائي قد ترك لديه
أثرا فعالا، إذ رأى أن العطالة أمر مشين. وفي هذه الحال،
تحل القوة (ب) مكان القوة (د).
فإذا كانت القوة (ب) مساوية للقوة (د) (د- ب) فإن مجموع
الأسباب الضرورية لانجاز الظاهرة (آ) تبقى مساوية
ل (س). والظاهرة تقع من تلقاء نفسها في الوقت المحدد (ن).
واذا لم تكن قوتي معادلة للصفر، واذا كنت كفوءا وماهرا
ولم يأخذ مكاني شخص
(1) المصدر ص 15.
(2) المصدر ص 17.
(3) نفس المصدر.
94
سواي، فتكون عندئذ قيمة (س) ناقصة لم تكتمل، وستتحقق
الظاهرة (آ) في زمن متأخر عن الوقت الذي
فرضناه آنفا أو تتم بصورة ناقصة أو لا تتم البتة.
هذا الأمر واضح كالنهار، فإذا لم افقه هذه الحقيقة، أو
تخيلت أن القيمة (س) ستبقى (س) حتى بعد إخفاقي، فا ذلك إلا لأني
أجهل قواعد الحساب.
وهل أكون أنا الوحيد الذي يجهل قواعد الحساب؟ عندما
أنبأتني أن مجموع الشروط (س) سيتم الحصول عليها في الوقت (ن) لم
تشر إلى أنني سأذهب وأنام حالما تنتهي محادثتنا. وكنت على يقين بأنني
سأبقى حتى النهاية عاملا لإتمام الظاهرة (آ). لقد اعتمدت على قوة كان لزاما عليك أن لا تعول عليها كثيرا، بدلا من قوة أخرى كان من
واجبك الاعتماد عليها، وبالتالي فقد أخطأت
بالحساب أيضا.
ولنفترض أنك لم ترتكب أية هفوة وكنت مرتقبا حدوث كل
شيء، فإليك ما ستؤول إليه حساباتك: قد ذكرت أن
مجموع الأسباب (س) ستتحقق في الوقت (ن). ومن جملة هذه الشروط الضرورية يمثل إخفاقي قوة سلبية، كـما يمثل الأثر المثير- وهو الذي
يشيع الطمأنينة في قلوب الرجال الأشداء الموقنين بأن
اتجاهاتهم ومثلهم العليا ليست إلا تعبيرا ذاتيا عن
الضرورة الموضوعية- القوة ألايجابية.
وفي هذه الحالة يتحقق مجموع الأسباب (س) في الوقت
المحدد من قبلك وتتم الظاهرة (1). وهذا يبدو واضحا. ولكن
لماذا جعلتني الفكرة القائلة بضرورة وقوع الظاهرة (آ) في اضطراب، ولم تبدو لي وكأنها تحكم علي بالعطالة؟ ولم جعلتني نتيجة
البراهين التي أوحت بها إلي أنسى المبادئ الأولية
للحساب؟ لا ريب أن ثقافتي كانت على شكل يجعلني أحمل بعنف في
نفسي، ميلا إلى العطالة، وان محادثتنا كانت القطرة التي صبت في كأس دهاق. وتلكم هي القضية بكاملها.
إن الشعور بالضرورة لم يكن من شأنه إلا إعطاء استرخائي
وعجزي المعنوي المناسبة اللازمة حتى يتحققا. ولم
تكن الضرورة سبب ذلك، وإنما السبب هو التربية التي أصبتها.
وهكذا نرى أن الرياضيات علم مفيد جليل القدر، لا يحسن
أن تغرب قواعده عن البال، وخاصة عن بال السادة
الفلاسفة
" (1).
وحـين جمعت الماركسية بين الضرورة والحرية، نفت في نفس
الوقت
" الجبرية المطلقة و" الإرادية " المطلقة. ورأت فيها مذاهب غير صحيحة.
قال بليخانوف في نقد بعض وجهات النظر:
(1) دور.الفرد.. في التاريخ : بليخانوف. ص 25 وط بعدها.
" بيد أن هذه الحقيقة تتسم بالجبرية الصارخة،
لأنها تعود وتزعم أن تاريخ الإنسانية محدد سلفا،
حتى في جزئياته القليلة، بالخصائص العامة للطبيعة البشرية. إن الجبرية هنا تنشأ عن اختفاء الخاص في العام.
ويمكن القول، كما في العادة: ما دامت جميع الحوادث
الاجتماعية محددة بالضرورة، فليس لعملنا أي
اعتبار. وهذه فكرة صحيحة لم يحسن صياغتها، إذ كان من الواجب القول: إذا كان العام يقرر كل شيء، فينجم عن ذلك أن الفردي (بما فيه مجهودي) ليس
له أية أهمية ان مثل هذه النتيجة صحيحة تماما، وإن
كان استعمالها يجري بصورة خاطئة. وعند تطبيق هذه الفكرة
مع المفهوم المادي الحديث عن التاريخ حيث يترك حيزا للعمل الفردي، لا يعود لها أي معنى" (1).
وقال كوفالسون:
" إن الجبرية (الاعتقاد بالقضاء والقدر) تؤدي على
العموم إلى خرافات وسخافات، بتحويلها
الصدفة إلى حتمية تاريخية.
أما الإرادية التي تعتبر التاريخ مجرد إنتاج لإبداع
الناس الحر، لإرادتهم الحرة ولاختبارهم
الحر لأهدافهم، فإنها تتخبط في مأزق أمام كثير من المسائل. مثلأ من وجهة النظر هذه كيف يفسر الدافع الأساسي التالي، وهو أن نتائج النشاط في
التاريخ تكون أحيانا كثيرة جدا مناقضة للأهداف التي
وضعها الناس نصب أعينهم. إن الناس يتمنون الخير،
ولكنهم يصنعون الشر أحيانا " (2).
-6-
ولعل أوضح بيان في أسلوب الجمع بين الضرورة والحرية، من
الناحية الاجتماعية، هو ما ذكره كوفالسون، حين قال:
" إن كان جيل جديد من البشر يجد عند دخوله حلبة
الحياة، ظروفا اجتماعية جاهزة، مصنوعة قبل
ظهوره، ويفعل ويتصرف على أساسها، ويصنعها من جديد أو يغيرها. وهذه الظروف تنشى إمكانيات معينة لأجل هذا النشـاط أو ذاك.
ثم إن مستوى التطور المبلوغ سابقا، يحمل معه طائفة
معينة من القضايا الاجتماعية، فيدركها
الناس ويستهدفون حلها. ولهذا لا يمكن فصل النشاط عن الظروف الموضوعية التي يتحقق في إطارها. إلا أن وجود هذه الظروف الموضوعية لا يقلل البتة من
شأن واستقلال نشاط الإنسان، بل يتيح- بالعكس- فهم
هذا النشاط على نحو افضل " (3)
(1) دور الفرد في التاريخ: بليخانوف ص 97- 98.
(2) المادية التاريخية: كوفالسون ص 43.
(3) المصدر نفسه ص 43.
96
(... ان المجتمع يتطور حسب القوانين الموضوعية، والناس
مقيدون في أفعالهم بظروف مادية معينة. ولكن الناس
يستطيعون في إطار الظروف الموضوعية- وهذا الإطار واسع جدا- أن يتخذوا مختلف القرارات... حسب فهمهم للظروف الموضوعية، لظروف
النشاط الملموسة! (1).
-7-
بعد الانتهاء من هذه المرحلة، يأتي دور الحديث عن قوى
الإنتاج
لنرى مقدار تأثيرها في قيادة المجتمع، ومن ثم في الحرية
أو الضرورة للإنسان.
قوى الإنتاج أو القوى المنتجة، هي الوسائل التي كان ولا
زال الإنسان يستخدمها في "نضاله ضد الطبيعة على حد تعبير
الماديين.
قال بليخانوف:
" إن اليد مع الذراع هي الأداة الأولى والآلة
الأولى التي يستخدمها الإنسان. وعضلات الذراع تؤدي
مهمة النابض الذي يضرب أو يرمي. غير أن الآلة أخذت تظهر خارج الجسم شيئا فشيئا. لقد أفاد الحجر في بادىء الأمر بثقله، بكتلته. وفيما بعد
ثبتت هذه الكتلة على مقبض. وهكذا البلطة
والمطرقة.
إن اليد وهي الأداة الأولى عند الإنسان، تخدمه لإنتاج
أدوات أخرى، وتكييف
المادة للنضال ضد الطبيعة، أي ضد بقية المادة المستقلة.
وكلما ارتقت هذه المادة المستعبدة، نما استخدام الأدوات
والآلات وازدادت أيضا
قوة الإنسان ضد الطبيعة" (2).
وقال ستالين:
" وفيما يلي لوحة تبين الخطوط الكبرى لتطور القوى
المنتجة منذ أقدم الأزمان إلى
يومنا هذا:
الانتقال من الأدوات الحجرية الغليظة إلى الفؤوس
والسهام، وبالتالي، المرور من
الصيد إلى استخدام الحيوانات وتربية المواشي بشكل بدائي.
ثم الانتقال من الأدوات الحجرية إلى المعدنية (الفأس
الحديدية، المحراث الابتدائي المجهز بسكة مصنوعة من الحديد... الخ)
وبالتالي الانتقال إلى غرس النباتات، إلى الزراعة. ومن ثم إجراء تحسين جديد من الأدوات المعدنية لأجل صنع مختلف المواد، وظهور الكير
ذي المنفاخ، وصناعة الأواني الفخارية، وبالتالي
تطور الحرف، وانفصال الحرف عن الزراعة، وتطور
(1) المصدر أيضا ص 45.
(2) فلسفة التاريخ ص 48.
97
الحرف المستقلة أولا. ثم المانيوفاكتورة (أي المصنع) فيما
بعد، ثم الانتقال من أدوات الإنتاج الحرفي
إلى الآلة، وتحويل الإنتاج الحرفي- المانيوفاكتوري، إلى صناعة قائمة على الآلة. ومن ثم الانتقال إلى نظام الآلات وظهور الصناعة
الميكانيكية الحديثة الكبرى. هذه هي بصورة إجمالية
وغير كاملة اللوحة التي تبين تطور قوى المجتمع طوال
تاريخ البشرية. ولا حاجة إلى القول أن تطور أدوات الإنتاج وتحسينها لم يحدثا بصورة مستقلة عن الناس بل حققها الناس الذين لهم علاقة
بالإنتاج
" (1).
-8-
ولكن ما هي علاقات الإنتاج؟..
يجيب ستالن على ذلك في كتابه قائلا:
"... فالناس في نضالهم مع الطبيعة يستثمروها
لإنتاج الحاجات المادية، ليسوا منفردين منعزلا بعضا
عن بعض بل ينتجون رئي جمعيات فالانتاج، دائما، ومهما تكن الثروط، إنتاج اجتماعي. ففي أثناء انتاج الحاجات المادية يقيم الناس فيما بينهم هذه
العلاقات أو تلك ضمن نطاق الانتاج، أي يقيمون بينهم
هذه أو تلك من علاقات الانتاج. ويمكن أن تكون هذه
العلاتات علاقات تعاون وتساعد... كـما يمكن أن تكون علاقات انتقال من شكل من أشكال علاقات الأنتاج إلى آخر... ويمكن ان تكون علاقات سيطرة
علاقات الانتاج.
فهي دائما، وتحت كل الأنظمة، عنصر ضروري لاغنى عنه في
الانتاج، مثلها في ذلك قوى المجتمع المنتجة، سواء
بسواءلما (2).
" يستخلص من ذلك أن الانتاج أو اسلوب الانتاج، يشمل قوى المجتمع المنتجة،
كما يشمل علاقات الانتاج بن الناس سواء. ففيه يتجسد
اتحاد الطرفين خلال عملية إنتاج الحاجات
المادية
" (3،.
تكون علاقات الانتاج دائما مربوطة بتغيرها وتطورها
بتطور القوى المنتجة. وهو تغير وتطور خارج
عن قدرة الناس وإرادتهم، بل هو مؤثر فيهم من حيث لايعلمون.
قال ماركس:
" إن الناس اثناء الانتاج الصناعي لمعيشتهم يقيمون
فيما بينهم علاقات إنتاج معينة ضرورية مستقلة
عن آرائهم. وتطابق علاقات الانتاح هذه درجة معينة من تطور قواهم (1) المادية الديالكتيكية لستالين ص 48.
(2) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 42.
(3) المصدر نفسه ص 43.
98
وقال ستالن:
" خاصية الانتاح الثانية: هي أن تطوره وتغيراته
تبدأ دائما بتغير القوى المنتجة وتطورها،
وبتغير وتطور ادوات الانتاج قبل غيرها. فالقوى المنتجة هي- إذن- أكثر عناصر الانتاج حركة وثورة.
في بادىء الأمر، تتعدل القوى المنتجة وتتطور، وبعدئذ
تبعا لهذه التعديلات وطبقا
لها، تتعدل علاقات الانتاج بين الناس، في علاقاتهم
الاقتصادية.
غير أن ذلك لا يعني أن علاقات الانتاج لا تؤثر في تطور
القوى المنتجة أو أن هذه
لا تتعلق بتلك. فإن علاقات الانتاج التي يتعلق تطورها
بتطور القوى المنتجة، تؤثر بدورها في تطور القوى
المنتجة فتعجله أو تبطؤه.
ومن المهم أن نلاحظ- علاوة على ذلك- أن علاقات الانتاح
لا يمكن أن تتأخر
امدا طويلا عن نمو القوى المنتجة، وأن تبقى في تناقضر
مع هذا النمو. لأن القوى المنتجة لا لستطيع ان
تتطور تطورا تاما إلا عندما تكوت علاقات الانتاج مطابقة لطانم القوف المنتجة... ولذلك، فمهما تتأخر علاقات الانتاج عن تطور القوى
المنتجة، فلا بد ان ينتهي الأمر- وهو فعلا ينتهي- بالمطابقة
بينها وبين القوى المنتجة... وإلا تعرضت الوحدة إلى
خطر التفكك و... إلى وقوع أزمة في الانتاج والى تحطيم القوى المنتجة" (2).
"... فإذن، ليست القوى المنتجة أكثر عناصر الانتاج
حركة وثورة فقط، بل
هي أيضا العنصر الحاسم في تطور الانتاج، وكـما تكون
القوى المنتجة كذلك، يجب أن تكون علاقات
الانتاح
" (3).
-9-
إن تطور علاقات الانتاح يكون سببا في التطور الاجتماعي
ككل،
سواء من الناحية السياسية او الأدبية او الدينية او
الفلسفية او اي شكل آخر في المجتمع.
قال ماركس:
" ومجموع علاقات الانتاح هذه تشكل البناء
الاقتصادي- للمجتمع أب الأساس
(1) الماثية الديالكتيكية: ستالين ص 59 من مقدمة كتاب: مساهمة
في نقد الاقتصاد السياير
لما ركن.
(2) المادية الديالكتيكية أيضاص 45.
(3) المصدرص 4.40
99
الواقعي الذي يقوم عليه " بناء علوي دا
حقوقي وسياسي، وتطابقه كذلك أشكال معينة من الوعي
الاجتماعي والسياسي والفكرى بصورة عامة. فليس وعي الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل على العكس من ذلك، معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد
وعيهم
" (1).
وقال انجلز:
(إننا نرى للظروف الاقتصادية القول الفصل في تحديد
اتتطور التاريخيئ. وعليه فالأصل هو نفسه عامل
اقتصادي
" (2).
9 إن التطور السياسي والحقوقي والفلسفي والديني والأدبي
والفني... الخ يستند
إلى التطور الاقتصاديأ (3).
وإذا صح ذلك، اعني استناد تطور المجتمع إلى تطور علاقات
الانتاج... وصح استناد تطور هذه العلاقات
إلى تطور قوى الانتاج او وسائله... صح- لا محالة-. استناد تطور المجتمع نفسه إلى تطور قوى الانتاج، وبالتالمب إلى آلة الانتاج نفسها.
قال ستالن:
(فالناس... يتغيرون ويتطورون بتغير أدوات الانتاج
وتطورها
" (4).
وقال كوفالسون:
(إن وساثل العمل... ليست دليلا على النجاحات التي
أحرزها الناس في النضال
ضد الطبيعة وحسب، بل الأساس الحاسم لتطور الانتاج
والمجتمع كله
" (5). غيرأن هنا استثناء تؤكد
عليه الماركسية، لكي لا يورد عليها بأننا نرى
كثيرا من الأشياء تتطور بغير العامل الاقتصادي. إن
العامل الاقتصادي- في نظرها- هو السبب الأعمق
والأهم في تطور كل جوانب المجتمع، ولا يعني ذلك مباشرته العمل في كل شيء، بل توجد هناك عوإمل أخرى تعمل متأحرة عنه، وإن كانت كلها تعود،
لى النتيجة، إليه.
(1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 45.
(2) نصوص مختارة: انجلزص 179.
(3) المصدر والصفحة.
(4) الماثية الديالكتيكية ص 48.
(5) المادية التاريخية: كوفالسون ص 60.
قال انجلز:
(إن التطور السياسي والحقوقي والفلسفي والديني والأدبي
والفني... الخ، يستند
ا!! التطور الاقتصادي. ولكنها جميعا تتأثر أيضا بعضها
ببعض، كما تؤثر في الأساس الاقتصادي. فليس صحيحا
أن الوضع الاقتصادي هو السبب، وهو وحده الفاعل، وان كك ما عداه ليس سوى مفعول. ان ثمة- بالعكس- تفاعلا على أساس الضرورة
الاقتصادية التي لها الغلبة في المرجع الأخير.
إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم، ولكن في وسط مكيف لهم على أساس علاقات فعلية موجودة من قبل، في عدادها الظروف
الاقتصادية التي- مهما يكون مدى تأثرها بالظروف الأخرى
السياسة والايديولوجية- لن يقلل ذلك في المرجع الأخير، من
كونها الظروف المحددة التي تؤلف من البداية إلى النهاية، الدليل المرشد الذي يجعلك وحده قادرا على الفهم. دا (1). وقال أيضا:
إ إن العامل المحدد في التاريخ، حسب المفهوم المادي
للتاريخ، هو المرجع الأخير، إنتاج و(عادة
إنتاج الحياة الواقعية. ولم نؤكد أبدا- لا ماركس ولا أنا- اكثر من هذا.
فإذا كان من يعذب هذه القضية ليرغمها على أن تقول أن
العامل الاقتصادي هو المحدد الوحيد، فإنه
ليحولها إلى عبارة فارغة مجردة سخيفة.
إن الوضع الاقتصادي هو الأساس؟ ولكن مختلف عناصر
البنيان الفوقي
- الأشكال السياسية للنضال الطبقي ونتائجه... الأشكال
الحقوقية، وحتى انعكاسات جميع هذه النضالات
الفعلية في دماغ المثتركين فيها، النظريات الجاسية والحقوقية والفلسفية، والمفاهيم الدينية... تمارس كذلك فعلها في سير النضالات
التاريخية، وفي كثير من الأحيان تحدد شكلها على نحو
راجح. فثمة فعل ورد فعل لجميع هذه العوامل التي في غمارها
تنتهي الحركة الاقتصادية... ولولا ذلك، لعمري، لكان تطبيق النظرية على أي عهد تاريخي أيسر من حل معادلة بسيطة من الدرجة الأولى.
إننا نصنع تاريخنا بأنفسنا، ولكن قبل كل شيء بمقدمات
وضمن ظروف جد محددة. والظروف الاقتصادية،
من بين جميع الظروف، هي في النهاية الظروف المحددة. ولكن الظروف السياسية... الخ بل وحتى التقاليد التي تخالط أدمغة الناس تلعب كذلك
دورا وإن يكن غير حاسم. إنها أسباب تاريخية، وفي
المرجع الأخير، أسباب اقتصادية " (2).
"**
(1) نصوص نحتارة، لانجلزص 180. (2) المصدرص 191-192.
101
إلى هنا نكون قد سرنا خطوة مهمة وموفقة، في فهم الأساس
الاقتصادي للتطور الاجتماعي.
ولعل من الراجح الآن ان نبدا بمناقشة هذه الآراء
الماركسية، قبل الدخول في " الفهم الطبقي
الماركسي يا، لكي لا تتكدس علينا المناقشات ويتعذر جانب الوضوح فيها.
إليه الماركسية حيئ حولت علم التاريخ والمجتمع من (فوضى
احتمالات
" إلى " علم " ا!...
إلا أن هذا لا ينافي الاعتراف مع الماركسمية، بألا
المجحمع يتطور تطورا موضوعيا، وذا درجة
كافية من الضبط، ويمكن السيطرة عليه من قبل فاعل داخلي او خارجي. وسيتضح ذلك جليا عند شرج التخطيط العام في القسم الثالث من هذا الكتاب.
وجهذه الدرجة الكافية من الضبط، يمكن تأسيس علم
التاريخ، كفرع عميق من فروع المعرفة الانسانية. ولا
يكون
" فوضى احتمالات وكومة اخطاءسخيفة".
نرى أن الأسباب التي تؤثر في التطور الاجتماعي في
العصور الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل،
ثلاثة رئيسية، اثنان منها موضوعيان، اعني خارج!!ن عن إرادة الناس، ووأحد منها ذاتي، يعود إلى إرأدتهم. السبب الأول: الأسباب الطبيعية العامة.
فإن اعترفنا بالقوانن، عبرنا عنها بالقوان!!ن الكونية،
كقوانين الفلك والفيزياء والكيمياء العامة. وإن
انكرنا القوانين- كما فعلنا- تكون الأسباب هي كل واقعة سابقة بالنسبة إلى اللاحقة، فإن هنا تتابعا بين الحوادث على اي حال، من حين
حدوث الكون إلى نهايته. وقد سبق ان برهنا على حدوث
الكون. وانطلقنا من ذلك على وجود الفاعل الخارجي
الخالق للكون.
ومن هذا النوع من الأسباب قهرية التأثير بالنسبة إلى كل
ما يندرح
تحتها من الوقائع والأشياء، وموضوعي ومستقل تماما عن
إرادة الانسان، وتجعل الانسان- عادة- عاجزا عن مخالفتها او محاولة
تجاهلها.
وهذه الأسباب شاملة بمدلولها المباشر للمجتع، تماما كما
هي شاملة للطبيعة. وبعبارة أخرى: إنها تفهم المجتمع
كما تفهم الطيعة... هنا نرى الانسان يسقط من شاهق كما تسقط الحصاة!!..
السبب الثاني: الأهداف المتوخاة من إيجاد الكون.
والبرهان على ذلك نحتصرقبل الوصول إلى القسم الثالث ممى
الكتاب
اننا بعد أن اثبتنا أن للكـون خالقا ومدبرأ من خارجه،
وثبت في
الفلسفة ان هذا الخالق قادر مطلق وحكيم مطلق ومختار في
تصرفه. يكفينا من ذلك الان ان الخلاف مع الماديين
إنما هو في وجوده، مع التسالم على أنه لو كان موجودا لكان كاملا (مطلقا " ولم يدع أحد وجود الاله الناقص.
كـما ثبت ان كل فعل اختياري، لابد أن يكون
ناشئا من هدف وغرض، معينين، وهذا ما ا اعترفت به الماركسية، كما سمعنا قبل قليل. فكيف إذا كان الفاعل قادرا وحكيما مطلقأ.
... إذن، فلا بد أن تكون أهداف الخالق الحكيم من وراء
خلق
هذا الكون العظيم.. في غاية العمق والدقة والأهمية. وحيث
انه القادر المطلق، فهو- إذن- قادر على تنفيذ اهدافه من خلقه،
بأي شكل من ا لأشكال.
والفاعل الحكيم يستحيل عليه نقض الغرض، اي أن يخالف
أهدافه ويفعل ما لا يحققها أو ما يحقق
اضدادها. فهو إذن- بالضرورة- يتسبب بمدرته إلى تحقيق تلك الأهداف والأغراض. ولا تكون هذه الضرورة منافية لقدرته، باعتبار انسجامها مع إرادته
وحكمته. مع وضوج ان استحالة نقض الغرض (حة! ارفاقي) للفاعل، ولا يمكن ان يتضمن تحميلا قسريأ بالنسبة إليه.
ونحن باعتبار كوننا موجودين في داخل الكون، ومحكومين
بقوانينه واسبابه، لا تستطيع ان ندرك
بالتفصيل، خصائص تلك الأهداف. غير اننا نعلم، على وجه الاجمال، تبعا للاعتقاد بالحكمة المطلقة لخالق الكون، واستغنائه المطلق عن خلقه: ان
خلق الكون من أجل ان يصل الكون إلى كماله، اعني أحسن
واقعية يمكن أن يصل إليها في طريق حركته نحو الأفضل. غير
أننا لانستطيع أن ندرك شكل هذا الكمال، إلا بعد حدوثه.
وهذا السبب، المسمى بالعلة الغائية في اصطلاح الفلسفة،
شامل للبشرية ايضا ني حياتهم الفردية
والاجتماعية، بصفتهم ايضا جزءا من الطبيعة. غير انه يكتسب صيغة أخص واوضح. وذلك بأن نقول: ان الهدف من إيجاد البشرية هو إيصالها إلى كمالها،
اعني- أيضا- أحسن حالة واقعية يمكن ان تصل إليها في طريق
حركتها نحو الأفضل.
105
وكما يستحيل تخلف الأهداف الكونية، ويتسبب الخالق
المدبر إلى تحقيقها لا محالة... كذلك يستحيل تخلف الأهداف المتوخاة
من إيجاد البشرية، ويتسبب الخالق أيضا إلى تحقيقها
بالضرورة. وهذا هو الذي نصطلح عليه بالتخطيط الالهي العام، الذي سنعرض له في القسم الثالث مفصلا.
وانطباق هدا السبب على الحياة البشرية، لايعني بحال،
تحول أفعالهم الاختيارية إلى أفعال ضرورية
قسرية. فإن هذا السبب الغائي، لايزيد- في واقعه- عن السببن الآخرين من حيث التطبيق. بمعنى أن الخالق حين توخى أهدافا معينة من كونه
وبشريته، جعل السبب الأول والثالث الآتي هي
الطرق إلى إنجاز تلك الأهداف، فتحول تلك الأسباب عن واقعها وتغير محتواها يعني بالضرورة تخلف تلك الأهداف، وهو مستحيل لأنه نقض
لغرض الحكيم المطلق، إذن، فلابد ان يبقى السبب
الأول قسريا. والسبب الثالث اختياريا، على ما سنسمع، لكي
ينجز الكون أهد ا فه.
وبكلمة أخرى: إن اختيارية أفعال البشر، دخيلة في
إيصالهم إلى الكمال فالالتزام بقسرية
أفعالهم، مناف مع هذا الهدف وهو محال. السبب الثالث: لتكوين الحياة الاجتماعية، هو الأفعال الاختيارية
للناس أنفسهم، وردود أفعالهم تجاه مختلف الوقائع
والأحداث. وسنعرف مقدار أختيارية هذه الأفعال
في إلفقرة التالية.
وهذا السبب ذاتي- بطبعه- باعتبار أن صفة الاختيار صفة " داخلية " للانسان، كـما أن الدوافع التي يصدر عنها في أفعاله دوافع داخلية أيضا. -3-
نعرف من هذا الذي سمعناه، ما هو الصحيح في مقدار
اختيارية
أفعال الانسان.
إن الانسان يملك الاختيار، بمعنى أن له أن يفعل وان
يترك تجاه أية
واقعة أو حادثة، ولا يمكن أن تكون أفعاله قسرية. وهذا
هو الذي له أكبر الأثر في تربيته وتكامله،
وبالتالي في تربية البشرية ككل وتكاملها، والافصاج عن النيات الحسنة والشريرة. وبدون لا معنى لأي هدف او أي دافع، مما
156
نشعر به وجدانا، كـما لامعنى للخيروالشر، كـما لامعنى
لاعطاء اية قيمة لفعل الانسان، فلايستحق احد
شكرا ولاعقابا.
ولكن الانسان، بالرغم من كونه مختارا، لا يستطيع أن
يتحكم في السببن الأولين النافذي المفعول عليه.
أما السبب الأول: فهو قسري التأثير بالنسبة إليه، لا
اختيار له تجاهه، لوضوج ان كل من القى نفسه
من شاهق، فهو يسقط، وكل من أدخل يده في النار، فإنها تحترق.
وبهذ السبب تتحدد الظروف التي يستطيع الانسان بذل
النشاط من خلالها. لوضوج ان الانسان لو
كان يستطيع ان يخالف قانون الجاذبية - مثلا- لكان نشاطه بشكل يختلف عن نشاطه حال عدم استطاعته لذلك. إذن، فقانون الجاذبية- مهما فسرناه- يحدد
ظرف سلوك الأفراد ويحدد من نشاطهم عموما. وكذلك
الحديث عن غيره من القوانين.
إلا ان هذا السبب بالرغم من قسريته، لا يحول الأفعال
الانسانية إلى
قسر. فإن احتراق اليد بالنار قسري، لكن إدخالها فيها
اختياري على اي حال. وذلك: لأن الانسان إنما
يخص ق غتأرا فيما هو قادر عليه، وهو غير قادر على ان يخالف القوانن او الأسباب العامة بالضرورة. فهو قادر - مثلا- على أن لا يدخل يده في
النار، ولكنه غير قادر على عدم احتراقها لو دخلت.
وهذه الظروف التي توفرها الأسباب العامة، إطار واسع- حسب
تعبير الماركسيين- يمكن أن يتصرف الناس خلالها.
وأما السبب الثاني: فليس له اي قسر مباشر بالنسبة إلى
الأفراد.
ولكن حيث أنه يتضمن تحديد أهداف معينة من خلق الكون
والبشرية، تحدث بالضرورة... ينتج من ذلك: أن الانسان يستطيع أن
يحدد أهدافه القصيرة، لا انه يستطيع ان يحدد اهداف بشريته
عموما، بل هو بالضرورة سائر ضمن هذه الأهداف.
وبكلمة اخرى: ابئ الانسان في كل أفعاله الاختيارية يسير
بالضرورة
نحو هدفـن مزدوجين: اهدافه الشخصية القصيرة، والأهداف
العامة للبشرية.
107
ولا نقصد بالأهداف القصيرة، ما ينجز خلال يوم او شهرة
بل ان الأهداف الفردية مهما طالت، فإنها
قصيرة بالنسبة إلى عمر البشرية الطويل. ومن الطريف: أن الأفعال والأهداف الشخصية، لا تنافي بحاد الأهداف البشرية العامة. ومن هنا،
إن الفرد مهما عمل من اعمال ومما استهدف من اهداف،
فإنه يخدم بذلك الأهداف البشرية العامة من حيث لايعلم.
ذلك لسبب بسيط، وهو ما أشرنا إليه من أن الخالق الحكيم
اوجد السبب الثالث للحياة الاجتماعية، بمعنى انه
اوفر الاختيار للناس، من اجل إنجاز تلك الأهداف العامة. إذن فكل ما يصدر عن الأفراد نتيجة لهذا الاختيار، فهو بالضرورة، يقع في
طريق تحقيق تلك الأهداف.
وبهذا نعرف إحدى الخصائص الرئيسة أطتخطيط العام الذي
سنشرحه
في القسم الثانث: وهي، ان افعال البشر مهما كانت، فإنها
تقع مؤيدة للتخطيط واهدافه، ولامعنى لأن
تقع مضادة لها.
فإن فهمنا الجمع بين الضرورة والحرية، بالشكل الذي
ذكرناه الآن،
فهو، وإلا كان الجمع بينهما تناقضا وكلاما متهافتا ليس
إلا... لوضوح ان الفرد إما أن يكون مختارا حراي
أفعاله، وإما ان يكون مجبورا فيها مقسورا عليها... ولامعنى لأن يكون الفرد حرا ومجبورا في نفس الوقت. ومعه لا نجد اي معنى للحرية
المتولدة من الضرورية أو المتماثلة معها، كما
سمعناه من بليخانوف وغيره من الماركسيين.
ولعل ما ذكره كوفالسون، من أسلوب الجمع بين الحرية
والضرورة،
اقرب إلى ما قلناه من أي شيء آخر. فإنه من الصحيح أن
الجيل حيئ يرد الحياة يواجه ظروفا اجتماعية
جاهزة، يتصرف على أساسها، فإن تلك الظروف تعتبر غير اختيارية بالنسبة إليه، لأنها من صنع غيره، وفعل كل فرد غير اختياري بالنسبة
إلى الفرد الآخر. ومن هنا تدخل هذد الظروف في
الاطار العام الواسع الذي يحدد حرية التصرف الفردية. " إلا ان وجود هذه الظروف الموضوعية لا يقلل البتة من شأن واستقلال
نشاط الانسان، كـما قال
10/9
كوفالسون، بعد أن برهنا على وجوفى الاختيار في ضمن ذلك
الاطار. كما ان الأسلوب الرياضي الذي اتخذه
بليخانوف، يدل على ذلك ايضا، ولايمكن فهمه إلا من هذه الزاوية.
إن الحادثة (آ) إن كان مجموع أسبابها (س) متكونة من
أسباب كونية
قسرية من الشكل الأول الذي ذكرناه، وكان لنا اطلاع كاف
على تفاصيلها، إذن، يمكن التنبوء بحصول الحادثة
في الوقت (ن) بشكل رياضي دقيق غير قابل للتخلف.
وأما إذا كان جزء من مجموع (س) فعل إرادي اختياري لفرد
أو افراد، (د) أو (ب)، فلايمكن التنبوء بوقوع الحادثة بشكل قطعي بأي حال. بل غايته ان نحسب
حساب احتمالات الدوافع التي نعرفها للفرد إلى إنجاز
ذلك العمل. فإن عرفنا له دافعا شديدأ، كان احتمال وقوع
الحادثة (آ) كبيرا، في وقتها المحدد (ن). والا كان أضعف من ذلك.
:من يكون له دافع كبير، سوف نحرز- إلى حد بعيد- أنه لن
يستسلم للنوم، كما افترض بليخانوف لنفسه، بل لم!وف
يبقى عاملا جادا لايجادها، فتحدث في وقتها المحدد، بخلاف ما لو كان دافعه ضعيفأ، فإنه يترك العمل- على الأكثر-، فتفقد الحادثة
جانب الفعل الاختياري، والمفروض أن س- د= صفر أي
ان الحادثة لن تتحقق بتركه العمل لمجرد وجود الجزء
التكويني من الأسباب.
نعم، لو تبدل د إلى ب بمعنى انه قام بالفعل غيره
والمفروض ان:
ب- د... س+ ب- آوهو وجود الحادثة في وقتها المعين.
واما افتراض بليخانوف تأثر وقوع الحادثة عن وقتها (ن) أو
حدوثها
ناقصة عند انعدام (د) وعدم تعويضه ب (ب)... فهذا يعود
إلى مقدار افتراض دخل (د) او الفعل
الاختياري في وقوع الحادثة. فإننا إذا افترضنا له دخلأ كليأ كان وقوع الحادثة بدونه متعذرا اي أن س- د= صفر بالضرورة، وان افترضناه شيئا يحوم حول
الحادثة ويلقي عليها بعض الظلال وحسب، كان ما قاله
بليخانوف، من هذه الناحية، صحيحا.
وإذا كان للفعل الاخزبباري (د) مشاركة ني وقوخ الحادثة (آ)...
امكن التنبوء القطعي بوقوع الحادثة، بشكل مشروط بإنجاز
العمل، تماما
109
كـما هو مشروط بوقوع (س) نفسها. كل ما في الأمر ان (س) يمكن
التنبوء بتحققها بصفتها تكوينية، واما (د) فاختيارية.
وعلى أي حال فالتنبؤ المشروط صادق تماما. بأن نقول: لو حدث (س) وانضم إليه (د)
لحدث (آ) في الوقت (ن). فلو عبرنا عن الاشتراط والتقدير برمز (..) وعنينا من (1) وقوع الحادثة في وقتها المحدد كانت المعادلة
كـما يلي:
.. س+.. د- آ. وكذلك تماما.. س+.. ب= ا. لأن د- ب بح!سب
الفرض.
وانطلاقا من هذا التسلسل الفكري، نجد ان الشعور
بالاضطراب
الذي تحدث عنه بليخانوف عن نفسه، والايحاء الذي فهمه من
ضروره كونه مسترخيا عاطلا، شعور وهمي لا أساس له. إذ
يستطيع بليخانوف ان يسترخي وشمتطيع ان يعمل، باعسباره فردا مختارا
في الفعل والترك. فإذا فعل حدثت الحادثة و(ن استرخى لم تحدث... وليس في ذلك أي شكل من اشكال الضرورة بالنسبة إليه.
فما حاوله بليخانوف، من جعل البرهان الرياضي، دليلأ على
الجمع
بن الضرورة والحرية، غير صحيح... وإنما ينبغي أن نفهمه
بالأسلوب الذي فهمناه.
إن الايمان بالمادية عموما مستلزم للقسر والجبرية في
افعال الانسان.
لأن " القوانين دا المادية ذات تأثير
ضروري قسري دائما شامل لكل أجزاء الكون، بما فيه الانسان،
بشكل لايمكن فيه الاستحفاء.
وإذا كانت قوى الانتاح وعو"مل (المادية
التاريخية يا عموما تنتج إطارا اختياريا للانسان،
فهذا معناه أن تأثيرها غير كامل، بل لها جزء الأثر، ويكون باقي الأثر حوكولا إلى العوامل المادية الأخرى، وتشكل مجموع العوامل حينئذ عنصرا
جبريا في حياة الانسان.
ومعه، فإنكار الجبرية، من قبل المادلن، والتركيز على
جانب الحرية، غريب تماما عن مسالكها
الفكرية... وأغرب منه ما ادعاه كوفالسون من ان الجبرية تؤدي إلى الاعتقاد بالقضاء والقدر. كلا!. فإن هذا الاعتقاد- ببعض أشكاله- يعني: ان الله
يجبر الناس على أعمالهم،
110
وهو اتجاه جبري غير الاتجاه الذي يقول: ان العوامل
المادية تجبرهم على ذلك. ما ينبغي ان
يلتزم به الماديون هو هذا الثاني، لا القول بالقضاء والقدر بطبيعة الحال.
على ان فكرة الاختيار وصفة الحرية في أفعال الانسان،
فكرة (ميتافيزيقية " لا تناسب مع المادية بالمرة. فالالتزام بالحرية من قبل انمادين اتجاه
ميتافيزيقي مثالي مقيت إ إ إ...
وقد بقيت بعض المناقشات الجانبية في كلمات الماركسيين
عن حرية الانسان، لا حاجة إلى التطويل بها،
بل نوكل إدراكها إلى القارىء النبيه. -7-
وصل بنا النماش الان إلى قوى الانتاح وعلاقات الانتاج...
لسنا في خلاف مع الماركسية من حيث مفهوم قوى الانتاج،
فإنها
- بذاتها- امر معاش في المجتمع ة ولا من حيث تطورها عبر
التاريخ البشري، ولا في ان قوى الانتاح تحتاح في
الغالب، إلى علاقات إنتاح معينة على الصعيد الاجتماعي.
كـما اننا لا نناقش في تأثير هذه الأشياء!ا حياة
المجتمع، مباشرة او بالواسطة، شأنها في ذلك
شأن العامل الجغرايخا او الجنسي أو غيرهما، مما ادعى الناس أنه العامل الوحيد في التأثي... وليس كذلك.
وإنما يبدأ النقاش من هذا الدور السحري الكبير الذي
اعطته الماركسية
لهذه الأشياء. فإن ذلك، مما لايمكن الالتزام به لعدة
نقاط:
النقطة الأولى: إن قوى الانتاح قد تتطور ولا يتطور
المجتمع، وقد
رأينا في مجتمعنا العالمي المعاصر، في عدة موارد:
المورد الأول: في اوربا الغربية، كالمانيا وفرنسا
وانكلترا وإيطاليا...
وهي البلدان التي تنبأ ماركس وانجلز، طبقا لنظرياتهم
المادية، بانتقالها إ إع الاشتراكية أسبق من
غيرها.
قال انجلز: فالثورة الشيوعية... إنما ستقع في آن واحد
في جميع البلدان المتمدنة اي على الأقل في
انكلترا واميركا وفرنسا والمانيا (1). وقد اخلفت هذه البلدان ظن هدا المفكر وصاحبه... وبقيت
(1) نصوص نحتارة: انجلزص 49.
111
راسمالية تمامآ لعدة قرون، بالرغم من تطور وسائل
الانتاج من الآلة البخارية إلى الالة التي
تدار بالبنزين إلى الآلة الكهربائية إلى الآلة الذرية. ولا زال النظام هو النظام، بالرغم من هذا التطور الشاسع العظيم لوسائل الانتاج.
فإن اعتذر عن ذلك شخص وقال: بأن نظرية المادية
التاريخية قد تحصل بشكل سريع، وقد تحصل بشكل
بطيء وتكون البلدان الراسمالية قد حصلت النظرية فيها بشكل بطيء.
غير ان هذا الاعتذار، قد يكون مقبولا في التطور القليل
لقوى الانتاح
في مرحلتين مثلا، وأما إذا أصبح التطور بهذا الشكل ولم
تنطبق نظرية المادية التاريخية، فهذا معناه
عدم صحة النظرية ومجافا!ا للواقع. إذ كيف اوجدت الفأس الحديدية
نظام الراسمالية، ولم توجد سلسلة التطورات إلمتأخرة الكثيرة، وخاصة بعد الوصول إلى الصناعات الذرية، نظام الاشتراكية الأول (دكتاتورية
البروليتاريا) فضلا عما بعده.
إن هذا يعني- على الأقل- توقف مفعول الضرورة المادية
التاريخية،
في هذا العصر، بعد أن كان نشيطا فعالا إ إ...
المورد الثاني: في الاتحاد المسوفييتي نفسه والبلدان
الاشتراكية التابعة
له. فإنها تمر الان- طبقا للنظرية- بعصر دكتاتورية
البروليتاريا. وهو عهد واحد قبل عهدين إشتراك!ن
لاحقين له، آخرهما الطور الشيوعي الأعلى، على ما سوف نسمع. وبالرغم من تطور قوى الانتاج ووسائله إلى حد الآلة الذرية، هناك... إلا أن دكتاتورية البروليتاريا بقيت هي هي لم تتطور. المورد الثالث: في الصيئ الشعبية،
فإنها- طبقا للنظرية- تعيش
نفس الفترة. وبالرغم من دخولها في " العهد الذري " لم تمستطع أن تدخل في (العهد الشيوعي ".
المورد الرابع: البلدان الاشتراكية المجاورة للاتحاد
السوفييتي، فإن انحراجها في العالم
الشيوعي لم يكن بسبب تطور وسائل الانتاح فيها، بك بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، التي اوج!بت دخول الجيوش الروسية إلى البلدان والمجاورة
التي كانت محتلة لالمانيا الهتلرية...
فإن اكتذر عن ذلك شخص وقال: بأن تطور وسائل الانتاح في
الاتحاد
112
السوفييتي، اوجب تغيير النظام في البلدان المجاورة،
فرجع التأثير إلى هذا التطور نفسه.
... إن هذا الاعتذار يحتوي على تأويك للنظرية، مجاف
لروحها،
ولما ذكره المفكرون الماركسيون الأوائل الذين اناطوا
نظام كل بلد بتطور وسائل الانتاج فيه لا في غيره.
ولامعنى للتفريق المكاني بين التطور والنظام، بأن يحصل التطور في
مكاق ويحصل النظام في مكان آخر، كـما هو معلوم.
الئقطة المالية: إن علاقات الانتاج، قد تتطوز ولا يتطور
كثير من ظواهر المجتمع، كاللغـة والدين
والقانـون وبعض المؤسسـات ا لاجتما كية...
أما اللغة، فعدم تطورها بتغـير الأنظمة وتطور علاقات
الانتاج،
واضح كل الوضوج. وقد اعترف بذلك الماراسيون المتأخرون،
وقد اعتبرها كوفالسون استثناء من الظواهر
الاجتماعية، حيث نسمعه يقول عن اللغة: 9... ولكن بما ان وجودها وتطورها وخصائصها، لايحددها ا اصبناء التحتي الاقتصادي، فلايمكن
تصنيفها في عدإد عناصر البناء الفوقيا (1).
ومراده من البناء التحتي الاقتصادي، ما عرفناه من قواعد
تطور المجتمع بتطور وسائل الانتاح... كأن هذه
النظرية- لو كانت صحيحة- لكانت قابلة للاستثناء متى شاء المفكر. في حين ان القوانين العامة الضرورية غير قابلة للاستثناء، ووجود
الاسشناء في كل
" قانون) يدل على عدم صحته بنفسه.
وكذلك الدين، فإن أوروبا بقيت مسيحية في عصري القنانة
والاقطاع وبقيت
" علمانية دا في عصر
الانتاج الحرفي والراسمالية الأولى والراسمالية الاحتكارية، بل وفي عصرث كتاتورية البروليتاريا، في القسم الاشتراكي من ا ور و باء
والحديث عن القانون، يشبه هذا الحديث... فإن القانون
الروماني
وجد في محصر القنانة وبقي ساري المفعول إلى عصر الاقطاع
العصر الحرفي والرأسمالية الأولى، بل بقيت روحه
العامة سارية المفعول إلى عصر (1) المادية التاريخية: كيللة كوفالسون ص 86. 1138
الرأسمالحة الاحتكارية.
وكذلك الحديث المؤسسات الاجتماعية، فالنظام الملكي في
بريعلانيا والحبشة وإيران، مر في عهود
مختلفة من زاوية النظرية المادية التاريخية من عهد القنانة إلى عهد الاقطاع إلى عهد الرأسمالية، على اخملاف بين هذه الدول لا حاجة إلى الدخول في
تفاصيله.
بل وكذلك الأنظمة السياسية والحقوقية والدينية
والفلسفية على العموم، قد تتحجر ولاتتطور.
" ويضيف ماركس قائلأ: كذلك هي الحال بالضبط فيما
يتعلق بالأنظمة السياسية والحقوقية والدينية
والفلسفية على العموم " (1).
والحال التي يشير إليها هي التحجر الذي كان يشير إليه
قبل ذلك من
عدم تطور نظام القرابة في بعض المجتمعات القديمة.
وكذلك بعض الأحزاب، كالماسونية، وكذلك بعض الصحف المهمة
التي تبقى مسمتمرة الصدور عدة قرون وفي مختلف العهود.
النقطة الثالثة: إن علاقات الانتاج، إن اوجبت التطور،
فهي
لا توجب شكلا معينا من التطور. إذ لو كان كذلك للزم ان
يتطور العالم كله على شاكلة واحدة، وليس
كذللث. إذن، فهي توجب التطور ثا كل بلد على شكل يختلف عن تطور البلد الآخر.
إذن، فالتطور!أ البلد المعين، أو قل أن أوضاعه بمجموعها
وتفاصيلها غير مستندة إلى تطور علاقات الاشآج... كل
إلى عوامل ا!حرى، تفسر وجود الفرق يين الأنظمة والتواريخ قي نحتلف البلدان.
وبكلمة أخرى: إن هذه التفاصيل غيى مستندة إلى تطور وسا،
ل الانتاج وحدها، وإلا كانت عهود الاقطاع-
مثلا- يأ إلعالم متشاكلة ثا ظواهرها، مع ان الاختلاف بينها ظاهر جدا. ولا يمكن لمجتمعين أن يكونا على شاكلة واحدة. وإنما تستند هذه
التفاصيل إلى اسباب اخرى غير وسائل الانتاح...
أو قل: إلى المركب لن وسائل الانتاج وغيرها، وهذا المركب لايمكن أن نعبر عنه بوسائل الانماج أو علاقات الانتاج بطبيعة الحال. ومعه
لاتكو! وسائل الانتاج هي السبب الكامل ! اي بلد من
(1) أصلى العائلة: انجلزص 35.
114
البلدان على الاطلاق... وإنما لها جزء التأثير. وقد
تكون مشاركتها ضعيفة احيانا وقوية أحيانا.
النقطة الرابعة: اننا سمعنا من المفكرين الماركسيين عدة
امور مترابطة:
الأمر الأول: ان تطور علاقات الانتاج مستند إلى تطور
وسائل الانتاج.
الأمر الثاني: ان تطور المجتمع، بظواهره المختلفة،
مستند إلى تطور علاقات الانتاج.
الأمر الثالث: ان تطور وسائل الانتاج نفسها غير منفصل
عن الانسان
بل الانسان هو الذي يطور هذه الوسائل ويحسنها.
وهذا ينتج عدة اعتراضات لا تكون في مصلحة الفكر
الماركسي. الايراد الأول: ان تطور المجتمع
والناس مستند إلى تطور علاقات الانتاح، المستندة في تطورها إلى تطور وسائل الانتاج، المستند بدوره إلى فكر المجتمع والناس أنفسهم. إذن فالناس
هم الذين يطورون انفسهم، في الحقيقة، ولا يستند التطور
إلى وسائل الانتاج أو علاقاته إلا على سبيل المجاز.
الايراد الثاني: إن إسناد تطور وسائل الانتاج إلى وعي
الناس، مناف
لما ذكره ماركس من:
لا ان الناش اثناء الانتاج الصناقي لمعيشتهم يقيمون
فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن
آرائهم. وتطابق علاقات الانتاج هذه درجة معينة
من تطور قواهم المنتجة" (1).
وقد سبق ان سمعنا هذه العبارة في الفقرة السادسة من هذا
الفصل.
فإن الناس إن طوروا وسائل إنتاجهم عن وعي وعمد وتفكير،
وكانوا يشعرون بأن علاقاتهم الانتاجية
سوف تتغير، وهذا ما يكون مدركا احيانا، ءااث ت يستند تغيير هذه العلاقات إلى وعيهم وعمدهم وتفكيرهم، وليس مستقلا عن آرائهم، كـما قال ماركس.
الايراد الثالث: إذا توقف آ على ب وتوقف ب على آ ايضا...
ينتج
(1) انظر المادية الديالكتيكية. ستاليزص!59. 115
أن لا يوجد آ ولاب. فمثلا، لو كنت لا تحترم صديقك إلا
إذا احترمك، وكان صديقك يتخذ منك نفس
المولف... بحيث لم يكن أحدكما مستعدأ للبدء باحترام صاحبه إلا إذا بداه الآخر بالاحترام... إذن، فسوف لن يحترم أي منكما صاحبه انه ينتظر
المبادرة من قبل الآخر، وهي لا تحدث، إلا على تقدير شرط
مفقود وهو المبادرة الأخرى، وهكذا. وقد التفت
بليخانوف إلى استحالة هذه المناقصة (1).
وكذلك الحال، لوتوقف آعلى ب وتوقف على جى وتوقف جى من
جديد على آ. فإن ذلك يؤدي إلى عدم وجود شيء من هذه
الثلاثة. فإذا طبقنا هذه الفكرة على ما
سمعناه من الماركسية، في هذا الصدد،
وجدنا أن تطور المجتمع يستند إلى تطور علاقات الانتاج،
وتطور علاقات الانتاج يستند إلى تطور
وسائل الانتاج وتطور هذه الوسائل يستند إلى تطور المجتمع. فقد توقف كل من هذه الثلاثة بعضها على البعض، وهو يؤدي - كـما عرفنا- إلى عدم كل
واحد منها.
فإذا أجاب الماركسيون: أن المجتمع الذي يطور وسائل
ألانتاح يمثل
جيلا من الناس، والمجتمع الذي تطوره وسائل الانتاج يمثل
جيلا اخر، فلايكون هذأ الايراد موجودا، بل تكون
سلسلة التطويرات موجودة با ستمرا ر.
إن هذا الجواب، يعني- بكل وضوح- ان الأجيال تربي بعضها
بعضا عن وعي وتفكيى... كل ما في الأمر أدت واسطة
التربية تكون اقتصادية على استمرار. فالمؤثر في
تغيير الجيل اللاحق هو الجيل السابق، بشكل رئيسى. وهذا امر صحيح، على إجماله، لا أن السبب الرئيسي للتغيير مستند إلى علاقات
الانتاج او وسائله، كـما اكدت عليه الماركسية. النقطة
الخامسة: ان الماركسية بعد ان اكدت ان هذا العامل
الاقتصادي هو العامل الأعمق لتطور المجتمع، وليس هو العامل الوحيد في كل التفاصيل إذن فهذا العامل- كـما عرفنا من عدة تصريحات ماركسية- هو
عامل ناقص، ذو تأثير جزئي، وليس عاملا قسريا ضروريا.
فإدا ضممنا إلى دلك، تأكيد الماركسية على وعي الناس
وامعتحدامهم
(1) انظر فلسفة التلى يخ: بليخانوف ص 44.
116
لتفكيرهم استخداما تامأ وحقيقيأ... كان معنى التركيب
بين هاتين الحقيقتين الماركسيتيئ: ان وعي
الناس ؤغكيرهم يمكن أن يحول دون تأثير العامل الاقتصادي. لوضوح أن العامل الجزئي الناقص، يمكن الحيلولة دون تأثيره.
ولو كانت الماركسية قد جزمت بتفرع الوعي الانساني عن
قوى الانتاج. كان لها أن ترفض هذه الفكرة. إلا
أنها أظهرت خلاف ذلك في عدد من المناسبات (1). ومعه يمكن للوعي الحيلولة دون تأثير العامل الاقتصادي، ولو في بعض الأحيان. ولا يكون
العامل الاقتصادي نهائيا. كما أرادت الماركسية
أن تقول.
إذن، فلم يثبت- طبقا لهذه المناقشات- ان العامل
الاقتصادي، هو العامل الحاسم في تطوير
المجتمع، وإن كان ينبغي الاعتراف مع الماركسية، بأن له تأثيرا جزئيا مباشرا او غير مباشر، على عدد من ميادين الحياة، شأنه في ذلك، شأن العوامل
الأخرى. فان الالتزام بنظرية العامل الواحد، على اي
حال. لاتخلو من إمكانية التعرض إلى النقد.
(1) وخاصة في العصور الاشتراكية، ابتداء منأ دكتاتورية
البروليتريا
" فما بعدها، على ما سنسمع
ذلك مفصلأ.
117
المفهوم الطبقي لدى الماركسية
أسندت الماركسية اسلوب تطوير المجتمع بوسائل الانتاج أو
قوى الانتاح طبقا لمفهومها الديالكتيكي العام، إلى
الأسلوب الذي عبر عنه ماركس قائلا:
لا وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة درجة معينة في
تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الانتاج
الموجوده أو مع علاقات الملكية- وليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك- تلك العلاقات التي كانت تتحرك ضمنها القوى المنتجة إلى ذلك الحيـن. فبعد
ان كانت هذه العلاقات أشكالا لتطور القوى المنتجة،
تصبح قيودا لهذه القوى، وعندئذ ينفتح عهد الثورات
الاجتماعية، فإن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء العلوي الهائل على صور مختلفة من السرعة او البطء)) (1).
إن قوى الانتاح أسرع تطورا من علاقات الانتاج. قال
ستالين:
لا فالقوى المنتجة هي إذن اكثر عناصر الانتاج حركة
وثورة. ففي بادىء الأمر تتعدل القوى
المنتجة وتتطور. وبعدئذ، تبعا لهذه التعديلات وطبقا لها، تتعدل علاقات الانتاج بين الناس، أي علاقاتهم الاقتصادية " (2).
ثم قال:
" فمهما تتأخر علاقات الانتاج عن تطور القوى
المنتجة، فلا بد من أن ينتهي الأمر
- وهو فعلا ينتهي- بالمطابقة بينها وبين مستوى تطور
القوى المنتجة، وأن تتخذ طابعا يلائم طابع
هذه القوى المنتجة، والا تعرضت الوحدة إلى خطر التفكك، فيودي إلى حدوث انقطاع في مجموع الانتاج إلى تجمع في نظام الانتاج، بين القوى
المنتجة وعلاقات الانتاج، إلى وقوع أزمة في الانتاج،
إلى تحطيم القوى المنتجة (3 ).
(1) فلسفة التاريخ: بليخانوف ص 47.
(2) المادية الديالكتيكية: ستالين ص 45.
(3) المصدر والصفحة.
118
ثم قال :
" ان الأزمات الاقتصادية، التي تؤدي إلى تحطيم
القوى المنتجة، هي نتيجة لهذا الخلاف- يعني
بين علاقات الانتاج وطابع القوى المنتجة-.
وعلاوة على ذلك، فإن هذا الخلاف نفسه هو الأساس
الاقتصادي للثورة الاجتماعية المدعوة إلى
هدم علاقات الانتاح الحالية، وخلق علاقات جديدة مطابقة لطابع القوى المنتجة ) (1).
وهنا تقول الماركسية كلمة رئيسية في منطقها
الديالكتيكي، و فهمها للمادية التاريخية. بالرغم
اننا لا نجد في المصادر الماركسية التصريح بها كقاعدة عامة، إلا نادرا، وإنما نجد إسهابا في تطبيقها على عهود المادية التاريخية،
وخاصة في نقدها للوضع الرأسمالي. وسنسمع تطبيقاتها بعد
ذلك.
واما هنا، فينبغي أن نسمع القاعدة العامة، مستقاة من
كلام ستالن
حين يقول:
" فإن تطور القوى المنتجة والتغيرات في ميدان
علاقات الانتاج تجري خلال مرحلة معينة، بصورة
عفوية مستقلة عن إرادة الناس. ولكن ذلك لا يدوم إلا إلى حين، أي إلى أن تصبح القوى المنتجة التي برزت وأخذت تتطور في درجة معينة كافية من
النضج. فعندما تبلغ القوى المنتجة الجديدة حد النضج،
تتحول علاقات الانتاج الموجودة والطبقات التي تمثلها، إلى
حاجز كؤود لا يمكن إزاحته من الطريق إلا بالنشاط الواعي للطبقات الجديدة، وبعملها العنيف أي بالثورة.
ويظهر إذ ذاك بشكل رائع الدور العظيم الذي تلعبه
الأفكار الاجتماعية والمؤسسات السياسيه
الجديدة المدعوة إلى إلغاء علاقات الانتاج القديمة ومحوها بالقوة. فإن حاجات المجتمع الاقتصادية وعلاقات الانتاح القديمة، كل ذلك، يولد
أفكارا اجتماعية جديدة " (2).
وقد بدأ الفصل الأول من البيان الشيوعي بالقول:
لا إن تاريخ كل مجتمع إلى يوما هذا، لم يكن سوى تاريخ
نضال بين الطبقات.
فالحر والعبد، والنبيل والعامي، والسيد الاقطاعي والقن،
والمعلم والصانع، أي بالاختصار، المضطهدون
والمضطهدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستتره. حرب كانت تنتهي- دائما- إما بانقلاب ثوري
يشمل
(1) الممدرص 46.
(2) المصدر السابق ص 60.
119
المجتمع بأسره، واما بانهيار الطبقتن المتناضلتين معأ!
(1).
ثم يبدأ مؤلفا هذا البيان، بتطبيق مفهوم هذا الصراع على
عهود التاريخ، كما تفهمها المادية التاريخية.
-3-
ومن هذه الزاوية يكون كلام انجلز صحيحا، حين يقول :
(( لا، ثبت- بالنسبة للتاريخ الحديث على الأقل- ان كل
نضال سياسي هو نضال طبقي، وان كل نضال
تخوضه الطبقات من اجل تحررها، رغم شكله الذي هو بالضرورة سياسي- لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي- هو بالنتيجة نضال لأجل التحرر الاقتصادي ".
ومن الطبيعي، طبقا لهذا التسلسل الفكري، ان يكون المجتمع
منقسما إلى طبقتين فقط، إذ بعد تطور قوى الانتاح
بشكل أسرع من علاقات الانتاج، توجد طبقة " رجعية، تمثل
علاقات الانتاج التي أصبحت قديمة، وتصبح هي
الطبقة الظالمة المضطهدة- بالكسر- ويكون إلى جنبها طبقة
مرتبطة مصلحيا بالشكل الجديد لوسائل الانتاح، وما تقتضيه هذه من علاقات إنتاج... وتصبح هذه الطبقة هي الكثرة المضصهدة- بالفتح- في المجتمع،
وتبدأ بالصراع الطبقي من اجل السيطرة على الطبقة
القديمة وإزالتها من الوجود عن طريق الثورة.
وهنا يوجد فهمان متعاكسان للماركسية في تحديد الوجود
الطبقي في المجتمع:
الفهم الأول: ان الطبقة المضطهدة- بالفتح- بصفتها
تقدمية وثورية، وعلى الأخص: باعتبارها موافقة مع الشكل المتطور من
وسائل الانتاج... سوف يكتب لها النجاج حتما، فتزيل الطبقة
القديمة الرجعية وتحل محلها.
وتعيش هذه الطبقة فترة، حتى ما إذا وصلت وسائل ألانتاج،
في مجتمعها إلى حد النضج، أصبحت هذه الطبقة- بدورها-
رجعية، لأنها تصبح ممثلة للعلاقات الانتاجية القديمة، وتوجد ضدها
طبقة جديدة
(1) البيان الشيوعي لماركس وانجلزص 36.
120
تقدمية، تمثل قوى الانتاج التي جاءت إلى الولادة من
جديد.
وهذا الفهم هو الموافق مع التسلسل الفكري النظرية للماركسية،
وله
شواهد من كلام الماركسيين.
وقد طبقته الماركسية في انتقال المجتمع من عهد الاقطاع
إلى عهد الراسمالية الأولى، فإن الطبقة
الفقيرة في عهد الاقطاع، هي التي اصبحت راسمالية بعد ذلك. على ما سوف نسمع بعد ذلك.
الفهم الثاني: إن الكثرة الكاثرة، من سكان المجتمع، هي
دائما - في المجتمع الطبقي- الطبقة المضطهدة- بالفتح-، فهم في عهد
الرق ارقاء وفي عهد الاقطاع فلاحون اقنان، وفي عهد
الراسمالية عمال بروليتاريون.
والاعتراض الوارد على الفهم الأول من زاوية الفهم
الثاني، هو:
ان الطبقة المضطهدة- بالفتح- حينما تكون كثيرة، أو
ممثلة للأكثرية الكاثرة، كيف تصبح مضطهدة-
بالكسر، إن هذا مخالف لوضع المجتمعات تاريخيا... ولا يحتوي- لو حصل- على ظلم أو إجحاف كبير لأن حكم الأقلية من قبل الأكثرية، كأنه واضح
الممنوعية، وقد أقرته الماركسية في اكثر من عصر من
عصورها الاشتراكية، على ما سنسمع.
وهذا الاعتراض لايرد على الفهم الثاني، لأن الأكثرية،
هنا مضطهدة- با لفتح- با ستمرا ر.
والاعترإض الوارد على الفهم الثاني من زاوية الفهم
الأول: انه كيف يمكن لأكثرية الشعب، وهم
اشخاص بأعيانهم، أن يكونوا ممثلين لأكئر من مرحلة واحدة من مراحل تطور وسائل الانتاج، وما تقتضيه هذه من علاقات. إن الفرد لا يمكن ان يكون
نصيرا إلا لمرحلة واحدة من هذا التطور، طبقا
للنظرية فكيف اصبح الفرد- الممثل للأكثرية- نصيرا لوسائل
الانتاج الجديدة باستمرار.
وبالرغم من ذلك، فإن الماركسية طبقت الفهم الثاني، على
انتقال المجتمع من عهد الرق إلى عهد
الاقطاع، فإن الاقنان أنفسهم اصبحوا فلاحين، ولم يصبحوا إقطاعيين، كما هو المتوقع في الفهم الأول، وهذا ما سنسمع تطبيقاته في الفصل الاتي أيضا.
121
ومع تذبذب الفهم الماركسي بين هذين الوجهين المتعارضين،
وورود الاعتراض على كل منهما من زاوية النظرية
الماركسية نفسها، لا يبقى لأصل هذه الفكرة التي يتفرع عنها الوجهان... قيمة واقعية.
إن النظرية الماركسية، بالرغم من انها أكدت على انقسام
المجتمع إلى طبقتين لا اكثر، لم تستطع في
نفس الوقت إنكار وجود طبقات اخرى، لكنها إعتبرتها طبقات ثانوية غير رئيسية.
قال انجلز: في صدد حديثه عن انكلترا وفرنسا:
" ومنذ عام 1835 اعترف في هذين البلدين بالطبقة
العاملة، البروليتاريا مناضلة
ثالثة من أجل السيطرة. وقد بلغت درجة من البساطة بحيث
أن الناس الذين اغمضوا عيونهم عمدأ وحدهم
الذين لم يستطيعوا ان يروا في نضال هذه الطبقات الثلاث الكبرى وفي تصادم مصالحها تكمن القوة المحركة لكل التاريخ الحديث، (1).
وظاهر هذا الكلام انقسام المجتمع إلى ثلاث طبقات رئيسية
من أول الأمر:
وقال البيان- الشيوعي:
" وخلال العهود التاريخية السابقة نجد المجتمع في
كل مكان تقريبا منظما تنظيما متسلسلا،
والأوضاع الاجتماعية على مراتب ودرجات متفاوتة ،ففي روما القديمة نجد النبلاء ثم الفرسان ثم العامة ثم الارقاء ،في القرون الوسطى نجد
الاقطاعيين الأسياد ثم الاقطاعين الأتباع،
ثم المعلمين ثم الصناع ثم الاقنان. ونجد تقريبا داخل كل طبقة من هذه الطبقات مراتب ودرجات خاصة " (2)
وهذا الكلام واضح كل الوضوح بانقسام المجتمع إلى طبقات
عديدة، سواء في عهد الرق (في روما) او في
عهد الاقطاع (في القرون الوسطى). ثم يقول:
" إلا أن الذي يميز عصرنا الحاضر، عصر
البورجوازية، هو أنه جعل التناحر الطبقي أكثر بساطة: فان
المجتمع آخذ في ألانقسام اكثر فأكثر إلى معسكرين فسيحـين متعارضة،، إلى طبقتين كبيرتين، العداء بينهما مباشر هما البورجوازية والبروليتاريا " (3).
(1) لودفيج فورباخ: انجلزص 58 وانظر ايضا نصوص مختارة
انجلزص 159.
(2) ص 38.
(3) نفس الصفحة من المصدر.
122
وقال كوفالسون:
" إن البنية الطبقية لكل مجتمع هي عبارة عن لوحة
معقدة جدا. وتحليلها يفترض
في المقام الأول ان نفرز في المجتمع المعني: الطبقات
الأساسية التي تفصح العلاقات بينها عن
الخط الرئيسي لتطوره. وعلاوة على ذلك ينبغي ان نأخذ بالحسبان أنه توجد كذلك، عادة، في المجتمع طبقات غير أساسية مرتبطة بوجود مختلف النماذج
الاقتصادية
" (1).
ثم قال: " والحرفيون وصغار
التجار والفلاحون، يمثلون النموذج الاقتصادي البضاعي الصغير. والفلاحون
في المجتمع الرأسمالي هم طبقة وسطية غير اساسية، وموجودة في جميع البلدان تقريبا. وهي تنحل بتأثير العلاقات الرأسمالية، فارزة
البورجوازية الريفية والبروليتاريا الريفية. وفي
جملة من البلدان توجد طبقة كبار ملاكي الأراضي، الذين يلجأون إلى
بقايا أشكال الاستثمار الاقطاعية، علاوة على أشكال الاستثمار الراسمالية. وفضلا عن الرأسماليين والعمال والبرجوازية الصغيرة، توجد
كذلك في المجتمع الراسمالي فئة كبيرة من
المثقفين والمستخدمين. فإن هؤلاء لا يملكون وسائل الانتاج ولا
يصنعون الخيرات المادية، ولهذا لا يشغلون مكانا مستقلا في نظام الانتاج " (2). -6-
وقد اسندت الماركسية كل الظواهر الاجتماعية إلى التناحر
الطبقي،
نشرح أهمها فيما يلي بالتفصيل:
فمن ذلك، وجود الدولة:
وتستقرىء الماركسية نشوء الدولة من أول أمرها، في تاريخ
البشرية، حتى تصل بها إلى العصر الحديث. وسنواكب
هذا الاستقراء في الفصل الاتي عند الحديث عن عهود المادية التاريخية، الذي يمثل الكيان الأساسي لهذه النظرية الماركسية.
والمهم في المقام ان نعرف وجهة نظر الماركسية عن الدولة
من حيث نشأتها ودورها بعد وجودها.
قال انجلز:
" وبما ان الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد
الطبقات، وبما أنها قد نشأت ضمن الاصطدامات
بين هذه الطبقات. فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا، والتي تصبح عن طريق الدولة السائدة سياسيأ أيضا. وتكتسب على هذه
(1) المادية التاريخية: كوفالسون ص 195.
(2) المصدر والصفحة.
123
الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستثمارها.
فإن الدولة القديمة كانت، قبل كل شيء، دولة مالكي
العبيد لقمع العبيد،
الدولة الاقطاعية هيمة النبلاء لقمع الفلاحين التابعين
والأقنان. كذلك الدولة التمثيلية الحديثة هي
أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل راس المال " (1).
وقال- أيضا- عن الدولة:
"إنها لا تؤلف ميدانا مستقلا ولاتتطور بصورة
مستقلة، بل يتوقف وجودها وتطورها آخر الأمر، على
الظروف الاقتصادية لحياة المجتمع " (2).
وهي أيضا ليست سوى تعبير مكثف عن الحاجات الاقتصادية
السائدة في الانتاج " (3).
وقال أيضا:
" إن الدولة تبدو لنا أول قوة فكرية فوق الانسان،
فإن المجتمع ينشىء جهازا لحماية مصالحه
المشتركة من الهجمات الداخلية والخارجية. وهذا الجهاز هو سلطة الدولة. وما أن يولد حتى يجعل نفسه مستقلأ عن المجتمع، وينجح في ذلك بقدر ما يصبح
جهاز طبقة معينة واحدة، وبقدر ما يحقق سيطرة هذه
الطبقة بصورة مباشرة. ونضال الطبقة المضطهدة ضد الطبقة
الحاكمة يصبح بالضرورة نضالأ سياسيا نضالا موجها قبل كل شيء ضد السيطرة السياسية لهذه الطبقة. وادراك الصلة بين هذا النضال السياسي وقاعدته
الاقتصادية يقل، وفي بعض الأحيان يختفي تماما. ولكنه
إذا كان لايختفي دائما عند المناضلين، فإنه ينعدم
غالبأ عند المؤرخين.
... غير أن الدولة، حينما غدت قوة مستقلة إزاء المجتمع،
أحدثت حالا إيديولوجية جديدة، والمقصود هنا
بالضبط أن العلاقة مع الوقائع الاقتصادية تختفي بصورة تامة عند محترفي السياسة واصحاب نظريات قانون الدولة، وحقوقي القانون المدني. وفي
كل حالة خاصة ينبغي للوقائع الاقتصادية ان تأخذ
شكل أسباب حقوقية من أجل أن يصادق عليها القانون. ومن
البديهي انه ينبغي عند ذلك حسبان الحساب الكامل نظام القانون القائم، ولذلك يبدو الشكل الحقوقي كأنه كل شيء، أما المحتوى الاقتصادي،
فلاشيء"
(4).
-7-
ومن ذلك: وجود الدين.
(1) أصل العائلة: انجلزص 227.
(2) لودفيج فورباخ: انجلزص 60.
(3) المصدر نفسه ص 61.
(4) المصدرص 61.
124