المقدمة |
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم أنبيائه والسلام على خاتم خلفائه، وعلى عباد الله الصالحين. الناس - عادة - يؤمنون بالمألوف بلا محاكمة، ﻻ لأنهم استوعبوه، وإنما لمجرد أنهم وجدوه واقعاً إلى جانبهم، أو لمجرد أنهم وجدوا المجتمع يردده من حولهم. فالجميع يعترفون بالشمس، لأنهم وجدوها منذ فتحوا أعينهم للنور، ولو لم تكن الشمس في مرمى أنظارهم ووصفت لهم بحجمها الضخم وحركتها الدقيقة السريعة ولهيبها القوي العالي دون أن يأكل من جرمها شيئاً مدى مليارات السنين، لما اعترفوا بها.. ولكنهم حيث وجدوها، اعترفوا بها، وحاولوا أن يفلسفوا غوامضها - في كل جيل حسب الأفكار الحاكمة عليه - ليجعلوها مطواعة لمرتكزاتهم. ومن هذا النوع اعترافهم بالأرض والنجوم والأجواء وسائر الظواهر الكونية. وعملية تكوّن الإنسان، وتسلسله معترف بها من قبل جميع الناس، لأنهم تكوّنوا بها ويجدون الآخرين يتكوّنون بها، أما لو كان الإنسان بدواً من الأرض، وكان يقال له: أن نوعاً من الحيوان يتكوّن بتلاقح الدورة المنويّة من الذكر بالبويضة من الأنثى، وكانت توصف له عملية الإنجاب حتى الولادة لكان يعتبرها خبطاً في الخيال، كما يصعب عليه الاعتراف بأن عيسى (عليه السلام) خلق من غير أب... ﻻ لشيء إلا لمجرد أنه لم يألف إلا طريقة واحدة في خلقة الإنسان. ومن هذا النوع اعترافهم بطريقة خلقة المبيضات، وطرائق خلقة الزواحف والهوام والبراغش وسائر الحيوانات والنباتات الترابية والمائية. فاعترافهم بالظواهر الكونية وطرائق الخلقة في مسلسلات المخلوقات ليس ناتجاً من استيعابها وتصديقها، وإنما هو وليد ضغط الأمر الواقع على الذهنية العامة للتسليم له. والناس جميعاً - قبل القرن العشرين كانوا يعترفون بمعطيات (هيئة بطليموس) من تراكب السماوات السبع والعرش والكرسي وتراكب الأرضين السبع كطبقات البصل - حسب تعبيراتهم - ومن كون الأرض مركز الكون، ومن حركة جميع السماوات والكواكب والنجوم... إلى آخر معطيات فلسفة أرسطو وطب جالينوس وسائر العلوم التي كانت سائدة في تلك الأجيال. وما كان يتردد أحد في شيء منها إلا ويتهم بالخيانة العظمى - متمثلة في الكفر والزندقة والإلحاد - ثم يعدم قتلاً بالسيف أو جلداً بالسوط أو حرقاً بالنار. ومن هذا النوع كان اعترافهم بالروحانيات والعلوم الغريبة. وهم - جميعاً - في هذا القرن يعترفون بجميع معطيات العلوم الحديثة من الفسيولوجيا والبيولوجيا والتكنولوجيا، وانتهاءً بالنسبية العامة والديالكتيك، ولا يتردد أحد في شيء منها إلا ويتهم بالخيانة العظمى - متمثلة في السخافة والجمود والرجعية - ثم يعدم طرداً عن المجالات الحيوية. ومن هذا النوع إنكارهم للروحانيات والعلوم الغريبة. ﻻ لأن أولئك اعترفوا بمعطيات علومهم عن استيعاب وتصديق، ولا لأن هؤلاء يعترفون بمعطيات علومهم عن استيعاب وتصديق... وإنما لأن كل واحد من أولئك عندما تفتق فيه الوعي وجد المجتمع من حوله يردد أشياءً فرددها معه، كما يكرر عاداته وتقاليده معه، شأن الطفل الذي يدخل مدرسة، فيردد مع زملائه أناشيدهم ويرفع صوته أو يخفضه معهم، ربما دون أن يفهم حرفاً منها. ولذلك حارب الناس جميع الأنبياء والمصلحين والمجددين وأوائل المكتشفين، ﻻ لشيء إلا لأنهم طرحوا أفكاراً لم يكن يرددها المجتمع، فمن استطاع منهم أن ينجو من الإعدام، ويواصل الكفاح حتى يقنع المجتمع بأفكاره أصبح عظيماً تنحني أمامه رؤوس من بادروا إلى حربه بلا هوادة... ﻻ لأن المجتمع لم يكن يرددها ثم استطاع أن يلقنها للمجتمع. وبهذه الببغاوية نعاهم القرآن معزياً رسول الله، قائلاً: (ذلك مبلغهم من العلم) وأعذرهم الرسول متجاوباً مع القرآن، قائلاً: (اللهم اهد قومي فإنهم ﻻ يعلمون). الحضارة والتكتلات: والناس - في القرن العشرين - تمزقوا بفعل عاملين: 1- عامل الحضارة المادية، التي تصاعدت بقوة لتصنيع أكثر مظاهر الحياة حتى بهر وهجها الألباب، فافتتن بها قطاع كبير من الناس، ظانين أنها القمّة النهائية للحياة، فجرفتهم إلى الإلحاد بكل ما وراء المادة. 2- عامل التكتلات الدينية التي تصاعدت بقوة - في تنظيمات رجال الدين وفي تجمعات سياسية - حتى كادت تغطي ثلثي المجتمع، فتجاوب معها قطاع كبير من البشر، قائلين بأن الحضارة المادية ﻻ تعبر إلا عن وجه واحد من وجهي الحياة. هكذا تمزق الناس بفعل هذين العاملين، فمن كان قريباً من قواعد الحضارة المادية تمسك بمعطياتها واعتبر الدين مرحلة تجاوزها الإنسان، ومن كان قريباً من قواعد التكتلات الدينية تمسك بمعطياتها، واعتبر المادية وسيلة لتجاوز الحياة. أما الأكثرية الساحقة من الناس، فأخذوا بمعطيات الحضارة المادية، لتنعيم الحياة وتسهيلها، متسترين بغطاء رقيق من الإيمان بمجمل الأديان، من الاعتراف بوجود الله، وصحة كتبه وصدق رسله في التبشير بالحياة الآخرة، وأما التفاصيل والفروع فلا يجدون ما يلزمهم بها، وربما ﻻ يجدون من يقنعهم، وقد ﻻ يجدون وازعاً داخلياً يدفعهم إلى الاهتمام بها، وإهمال مباهج الحياة ومشاكلها، فيفضلون الاكتفاء من الدين بتزويد ما يردده المجتمع، وأكثر المجتمعات ﻻ يردد من الدين إلا معطياته المتجاوبة مع المفاهيم المألوفة في الذهنيّة العامة. وإذا عرفنا أن الذهنية العامة تؤمن بالمألوف بلا محاكمة، وترفض غير المألوف بلا مناقشة، عرفنا لماذا يكون إيمان الناس - غالباً - غطاءً رقيقاً يتسترون به. من هنا نعرف السبب تهرب الناس - عادة - من الخوض في الحوار حول القضايا الفكرية من الأديان، وفي اتهامها بأنها قضايا ميتافيزيقيّة، أو بأنها قضايا إيمانيّة مجردة ﻻ جدوى منها، وفي محاولة إنكار مردودها، مهما كان مردودها في حياتهم الفردية والاجتماعية. ومن هذه القضايا: 1- قضية الروح وتطوراتها. 2- قضية الروحانيات غير المحسوسة كالملائكة والجن والشيطان. 3- قضية المعجزات وكيفية صدورها. 4- قضية حكومة الإنسان في سائر المخلوقات. 5- قضية المصلح المنتظر، التي تعبر عن معادلة الخير والشر. وهذه قضايا طرحتها الأديان، ولها نتائجها الإيجابية الكبيرة. قضية المصلح المنتظر(عليه السلام): ولسنا في هذه المحاولة، إلا أمام القضية الأخيرة، وهي قضية المصلح المنتظر (عليه السلام)، التي تعبر عن إحدى المعادلات الثابتة، لأنها تتعلق بإحدى الغرائز المتأصلة في البر. فالبشر - بمقتضى تركيبته الخاصة - ﻻ يستقيم على طريقة، بغض النظر عن هوية الطريقة، فلا يبقى على الحق، ولا يدوم على الباطل، ولا يواصل الخير، ولا يستمر على الشر، ويكره الديمومة على شيء، مهما كانت حقيقة ذلك الشيء، وإنما يفضل التأرجح بين الأضداد، فالشجرة تدأب في منهجها ابتداءً من انطلاقها من النواة حتى نهايتها بلا تمزق بين المناهج، والجبل يواصل برنامجه منذ نشوئه حتى انتهاء عمره الطبيعي بلا تبعثر بين البرامج، والنجمة تنفّذ خطّتها من ميلادها حتى وفاتها بدون أدنى انزلاق، والنحلة تؤدي كل واجباتها حتى تسقط ضحية في مسيرة الواجب بلا تردد، ولكنه الإنسان، الذي ﻻ يستطيع توظيب حياته في خط (.. فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين). ولعل غريزة التأرجح بين الأضداد - أو غريزة التطور - وكّلت بالإنسان لتقليبه في المعادلات المختلفة، حتى تكشف كل مخابئه. وتنمي كل ما في أعماقه من نوايا وركائز، فتحقق بذلك هدفاً من أهداف الحياة. وهو تجربة الإنسان (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه). [سورة الجن: الآية 15 - 16]. فاستجابة لهذه الغريزة نجد الإنسان دائم الاندفاع بين أقطاب الإغراء الكثيرة المتنوعة، فهو يجب الشيء ويتدفق نحوه بلهفة حتى إذا تشبع منه أعرض عنه واتجه نحو ضده بشدة. - مثلاً: إنه يجب السفر، فيواصله حتى يجوب الأقطار التي كان يفكر فيها، ثم يخلد إلى مدينة فلا يخرج منها مدى سنوات، ثم يبدأ من جديد رحلات واسعة. - مثلاً: قد ترى إنساناً محافظاً ﻻ تذكر له هفوات، ثم تجده ينفلت بعشوائية، وبعد حين يعاود سيرته الأولى. - مثلاً: قد يظهر جيل محارب يتتبع الخلافات البسيطة، فيتمسك بها لإشعال الفتن والحروب، يعقبه جيل مسالم يتنازل عن أغلى ما لديه هروباً من المواجهة المسلحة. - مثلاً: قد يقبل الناس على الأدب أو المسرح أو الرسم، حتى يقدّمونه على الخبز والماء، ثم يعرضون عنه حتى يفلس تجّاره. وهكذا الدين، قد يظهر نبيّ أو إمام يحرك فطرة الناس في اتجاه الدين فيتهافتون على جوامعه ومجامعه باندفاع مخيف، ثم تتوتر الفطرة فيهم فيتجاهلون كل شيء منه بحيث يتحير دعاته. ويتساقطون تحت تيار الإلحاد، ولا يأخذ التيار مداه، حتى يبدأ بالانحسار، ويتوب الناس إلى رشدهم في اتجاه الدين من جديد، وكأنّه يطرح عليهم لأول مرة، ولم يطرح عليهم لأول مرة، وإنما هي دورة البشر الذي ﻻ يطيق السير على خط واحد. ولهذا كلما ظهر نبي أو إمام، واستطاع أن يعلي كلمة الدين - عرف أن ثورته تستهلك بعده، وأن خلفائه يعانون الثورة المعاكسة - فيبشرهم بأن الردة لن تكون القاضية، وأن المطاف الأخير سيكون لدينه. وأن الله سيظهر من يجدده، ويقود الناس إلى الصراط المستقيم. فما من نبي إلا وبشر بمصلح عالي الصوت، شديد الوطء، يحرك التيار، وأمر الناس بالصبر عبر الخريف، وانتظار ذلك المصلح، والالتفات حوله إذا أدركوه. لقد بشر نوح بإبراهيم، وبشر إبراهيم بموسى، وبشر موسى بعيسى، وبشر عيسى بمحمد، وبشر محمد بظهور المهدي ونزول المسيح، عليهم الصلاة والسلام. فما ظهر دين إلا وطرح فكرة المصلح المنتظر، والديانات الحية اليوم كلها تهيئ لمصلح منتظر وإن اختلفت الأسماء، فاليهودية تبشر بالمسيح، والمسيحية تبشر بأحمد، والإسلام يبشر بالمهدي. معطيات الفكرة: وإذا أغمضنا النظر عن الأسماء نجد أن فكرة المصلح المنتظر تعني: 1- واقعية الأديان في استيعاب المستقبل، وفي استيعاب دورة البشر في الاتجاه نحو الدين والانحراف عنه، وفي الأخبار عن هذه الدورة. 2- تطمين المبشرين بأن لهم المطاف الأخير، حتى ﻻ ييأسوا مهما ارتفعت درجة معاناتهم، ومهما استبدت الثورة المعاكسة بالأجواء. 3- تيئيس العاملين ضد الدين وضد المبشرين به، من نجاحهم في العمل ضد الدين، فإذا استطاعوا أن يهرجوا يوماً أو أياماً، فلا يعني ذلك أنهم أضحوا سادة الموقف، فالدين هو الخط الصحي العام، والانفلات فوضى لن تدوم. 4- تهيئة المؤمنين بالدين لاستقبال المصلح المنتظر، حتى يظلوا متأهبين له، وتأهبهم له يساوي إبقائهم موفوري القوى، وهذا يخدمهم قبل أن يخدم المصلح المنتظر، لأنهم ﻻ يؤخذون على حين غرة من قبل أعدائهم، ولا يجمدهم الخمول، فهم - دائماً - تحت الإنذار، يراقبون الأجواء بلهفة وحذر. 5- تمهيد الأرضية الصالحة للمصلح المنتظر، حتى إذا انتفض ﻻ يجد نفسه غريباً يبني ابتداءً من الحجر الأساس، وإنما يجد نفسه يرفع البناء على أساس من سبقه. وهكذا كان، فلم يبعث نبي إلا وجد من ينتظره(1)، ويسعى إليه من أقاصي الدنيا بهيام عميق. وهذه الظاهرة مما أوفدت أخوة الأنبياء، فكل واحد منهم كان مبشراً به من قبل السابقين عليه، فيصدق السابقين عليه ويبشر اللاحقين به، ويقوم بدور الحلقة الواحدة في المسلسل البعيد الطرفين. وليس الإمام المهدي المنتظر إلا حلقة في هذا المسلسل من المبشرين بهم والمبشرين بغيرهم. ظاهرتان: اليأس والتشكيك: وهنالك ظاهرتان تكتفنان المؤمنين الذين يعيشون في الفترة بين الأنبياء والأئمة: الأولى: ظاهرة اليأس كلما طالت الفترة، ولم يظهر المصلح الموعود به، وربما كانت الفترة تسع عدة قرون وتستهلك بضعة أجيال، فكان الناس يشككون في الأحاديث المبشّرة به، وخاصة في الفترات السابقة التي لم يكونوا يمتلكون وسيلة لنقل الحديث سوى ذاكرة الرواة. الثانية: ظاهرة التشكيك في مقدرة المصلح الموعود به على تغيير الأجواء، لأنهم كانوا يرون التقدم المادي للبشر، وكانوا يظنون أن النبي اللاحق سوف يستخدم الوسائل التي اتبعها النبي السابق، فكانوا يجدون تلك الوسائل غير مجدية، فيعتريهم الشك في قدرته على إنقاذ الناس من براثن السلطان الغاشمة المزودة بالأسلحة الجديدة. دور إبراهيم الخليل (عليه السلام): فمثلاً: في عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام) لم يكن للملوك جيش نظامي، ففي أيام المسلم حتى خدم الملك مزودون بالسلاح ويؤدّون دور الحرس، والشرطة، وفي أيام الحرب يدعى الناس إلى النفير، فينفرون بأسلحتهم، ولذلك جند إبراهيم الخليل (عليه السلام) جيشاً من المؤمنين به، وقاتل في الشام، وانتثر. دور موسى (عليه السلام): فلما ظهر الفراعنة في مصر تطور الأمر من ناحيتين: الأولى: أن الفراعنة حاولوا تأسيس إمبراطورية واسعة - في ظل دعوى الربوبية - فأسسوا جيشاً نظامياً، ووجهوا فصائله إلى الأقطار المجاورة، من أجل إخضاعها لحكم الفراعنة. الثانية: ظهر في أيامهم السحر، وتقدم بسرعة مذهلة، فكان الملك الفرعوني يحكم بسلطتين: سلطة جيش نظامي جرّار، وسلطة سحرة أشداء. والمؤمنون الذين كانوا ينتظرون ظهور موسى بن عمران، كانوا يظنون أن موسى بن عمران - حينما يظهر - يستخدم الأساليب والوسائل التي استخدمها إبراهيم الخليل (عليه السلام) فكانوا يشكّون في انتصاره على الفراعنة، وما كانوا يعلمون أن موسى بن عمران (عليه السلام) يظهر بتسع آيات بينات يتضاءل أمامها السحر والسحرة، وبقوة عصاه التي تلقف ما يأفكون، وبقوة البحر الذي يبتلع فرعون وجنوده. ما كانوا يعلمون ذلك، فكان من الطبيعي أن يشكّوا في انتصار موسى بن عمران على الفراعنة. فلما جاء موسى بن عمران بتلك الوسائل عرف الناس أن أنبياء الله قد يأتون بمثلها. وقضى موسى بن عمران على أسطورة السحر الذي ﻻ يقهر، والجيش الذي ﻻ ينهزم، والملك الذي ﻻ تطاله قوة حتى يقول: أنا ربكم الأعلى. دور عيسى (عليه السلام): ومثلاً: تطور الأمر بعد موسى بن عمران، فظهر في الناس فراعنة من نوع جديد، ﻻ يقهرون أجسام الناس بالسحر والجنود، وإنما يقهرون عقول الناس بالعلم، وليس بأي علم، وإنما بعلم إنساني يحتاج إليه جميع الناس، ظهروا بعلم الطب، وبالإخبار عن الغيبيات، وتقدموا فيهما، حتى كان أحدهم يحيي الميت إذا عرض عليه قبل أن يبرد جسمه، ويفحص المريض بمجرد إلقاء نظرة على وجهه، ويخبر عما أكله المريض أو فعله. فكان المؤمنون الذين ينتظرون عيسى ابن مريم (عليه السلام) يظنون أنه سيظهر بمثل وسائل إبراهيم الخليل، أو بمثل وسائل موسى بن عمران، فكان من الطبيعي أن يشكّوا في مقدرة عيسى ابن مريم على دحر قادة الإلحاد، المتسلحين بالعلم النافع، وما علموا أن الله سينصر رسله في كل زمان بالوسائل المناسبة، فظهر عيسى ابن مريم (عليه السلام) بالعلم المتفوق، فقال: أنا أبرئ الأكمه والأبرص وسائر المصابين بالأمراض المستعصية، ﻻ بالدواء، وإنما بمجرد مسحة يد، وأحيي، ﻻ الميت الجديد الذي لم يبرد جسمه بعد فقط، وإنما أحيي كل الأموات حتى الميت الرميم وإني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وهنا ما ﻻ يدّعيه طبيب وإني أخبركم ﻻ بما أكله المريض أو فعله فأصيب فحسب، وإنما أخبركم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم. فهزم فراعنة العلم بسلاحهم. دور رسول الإسلام (صلّى الله عليه وآله) ومثلاً: تغيّر الأمر بعد عيسى ابن مريم، وخاصة في جزيرة العرب، حيث البشائر تمتد نحوها قاعدة للنبي الذي يظهر بالسيف، فبرزت في الجزيرة ظاهرتان: الأولى: ظاهرة البلاغة الفائقة، التي تجعل من الكلمات اليومية البخسة، والعواطف الرخيصة، عالماً حياً زاخراً بالحكمة والصور والألوان... إننا اليوم ﻻ نستطيع أن نستوعب عظمة المعلقات السبع، ونحن مبهورون بوهج القرآن وما انبثق عنه من كلام النبي وآله (عليهم السلام)، ولكن تجربة عابرة للمقارنة بين المعلقات السبع وبين أي كلام سبقه تكفي للدلالة على ما كان لها من بريق مخيف. الثانية: ظاهرة الفوضى المسلحة، التي تجعل أي إنسان مهما تعالى، مهدداً بالتصفية الجسدية من قبل أي إنسان آخر مهما تدانى. وفي كل اللحظات، وفي جميع الحالات... وهذه الظاهرة تجعل كل من يفكر في الحق والعدل والإنصاف وسائر المثل والقيم الرفيعة، يعتبر هروبه من مثل هذه الجزيرة الساخنة أكبر انتصاراته في الحياة ﻻ خوفاً على حياته أن تهدر بلا مبرر فقط، وإنما خوفاً أن يورّط في معركة تافهة تجرده من كل معنوياته وقيمه بلا بدل. فكيف بنبي يكون رمز السماء على الأرض، ويريد أن يقود النصف المتقدم من البشر في مسيرة الفضيلة والكمال إلى الإنسانية العليا؟ والمؤمنون الذين يقتاتون انتظاره، ويعرفون الوسائل التي استخدمها كل من إبراهيم الخليل وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم (عليهم السلام)، كانوا يظنون أن النبي الجديد يظهر بما يشابه تلك الوسائل، فكانوا يرون أنها متفرقة أو مجتمعة ﻻ تجدي شيئاً في مجتمع البلاغة والفوضى، فيشكّون في انتصار النبي الجديد. فأظهر الله نبيه الكريم وبقرآن يعلو ولا يعلى عليه، فلم تنزل سورة (فاتحة الكتاب) حتى عمد أساطين البلاغة إلى نزع المعلقات السبع من جدران الكعبة ليلاً، حتى ﻻ يعابوا بها، وبسيف، لم يشارك في الاعتداء، وإنما قضى على الاعتداء، فلم يضرب به أحداً إلا دخل النار وعابه الناس. فاستأصل أوبئة الفوضى وأبرأ الجزيرة من جنونها، ولم يبلغ عدد ضحاياه سبعمائة شخص، في جميع حروبه وغزواته وسراياه، فاستطاع ذلك السيف ذاته وبتلك الدماء ذاتها، أن يكتب على لوحة الجزيرة لافتة تشخص أبصار كل من حمل السلاح إلى الأبد: (إنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) [سورة المائدة: الآية 32]، (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزائه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً) [سورة النساء: الآية 93]. فكان قرآنه مطمحاً لكل قرآن، وكان سيفه تجربة لإلغاء السيف، فكان انتصاره الذي فاق كل الاحتمالات والتوقعات وبزّ كل التنبؤات، فإذا بشعب الجزيرة الفوضوي، يمتد برسالته فيكل اتجاه، لينشر الإيمان والحضارة والخير، وليؤسس دولة ذات سيادة عالمية، لم تظهر بمواصفاتها دولة ﻻ من قبلها ولا من بعدها حتى الآن. وهكذا انتصر داوود بشكل وانتصر سليمان بشكل، وانتصر يوسف بشكل. وهكذا غيرهم.. وغيرهم من سائر رسل الله وأنبيائه الكرام. هذا فيمن نعرف من رسل الله وأوضاع مجتمعاتهم والوسائل التي انتصروا بها، وهكذا فيمن لم نعرف من رسول الله وأوضاع مجتمعاتهم والوسائل التي انتصروا بها، ولكن مجمل ما نعرفه عنهم أنهم انتصروا جميعاً، وانتصارهم يكفي للدلالة على أنهم كانوا أقوى من مجمعاتهم، وأنهم جميعاً فاجئوا مجتمعاتهم بأساليب ووسائل لم تكن في الحسبان، وسواء أسميناها معجزات أو أسميناها كفاءات(2)، فجوهر القضية واحد، وهو أنهم تفوقوا على كل القدرات الحاكمة في عهودهم. فلتتقدم المجتمعات ولتتطور، ولتحشد ما استطاعت تحشيده من طاقات وأساليب، فإن الله سيزود رسله وأوصيائهم بما هو أقوى وأعلى، وسيجعل (كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا) [سورة التوبة: الآية 9] (كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) [سورة مجادلة: الآية 21](3). هاتان الظاهرتان موجودتان، بخصوص الإمام المهدي المنتظر: أ- ظاهرة اليأس: الأولى: ظاهرة اليأس منه، فقد طالت فترة غيابه، أكثر مما كان يتوقع، فقد تفانت الأجيال تلو الأجيال وهي تترقب ظهوره سنة بعد سنة، وأسبوعاً بعد أسبوع، وربما يوماً بعد يوم، وكم كان الذين وجدوا بعض علائم ظهوره، فوقفوا على أهبة الاستعداد لتلبية ندائه، وما كانوا يرقدون في الليل إلا ويتوسدون أسلحتهم، حتى إذا أهاب بهم المنادي، ﻻ يكون لديهم ما يعوقهم عن الإسراع إليه؟.. وكم كان الذين قرأوا في الأحاديث: أن توقيت ظهوره يصادف يوم الجمعة، فألزموا أنفسهم بالخروج إلى الصحراء صبيحة أيام الجمعة بكامل أسلحتهم، حتى إذا خرج يلتقيهم وكأنهم على موعد؟... وكم كان الذين رأوا في المنام أشياء أو قرأوا أحاديث، فطبقوها على وقت معين، فبادروا إلى تصفية حساباتهم قبل ذلك الوقت، حتى إذا خرج وقتلوا بين يديه ﻻ يكون عليهم شيء من حقوق الناس أو من حقوق الله ؟... وكم كان الذين يؤجّلون تصفية حسابات خصومهم إلى حين ظهوره، حتى يكون هو الذي يثأر لهم؟... ثم يأتي الرجل في هذا اليوم، فيقرأ أو يسمع أن آبائه ماتوا انتظاراً، ومرت مئات السنين ومئات السنين ولم يظهر الإمام المنتظر، فيمتلكه اليأس من ظهوره، أو يحدّث نفسه قائلاً: حتى لون كان الإمام المنتظر باقياً ويظهر في يوم من الأيام، فما الذي يشير إلى أنني سأراه، ولربما ﻻ يظهر إلا بعد مئات السنين أو آلاف السنين، كما لم يظهر حتى اليوم، وقد مر على غيابه أحد عشر قرناً ومئات الملايين من الشيعة في كل جيل ومن كل مكان يعدّون اللحظات في انتظاره. ثم يستنتج: إذن عليّ أن أجري كل حساباتي على أنه ﻻ يظهر مطلقاً، أو أنه ﻻ يظهر في عهدي على الأقل. وقد عبّر الإمام عن هذا اليأس السافر بقوله: (ستطول غيبته حتى يرجع عنه أكثر القائلين به). ب - ظاهرة التشكيك: الثانية: ظاهرة التشكيك في مقدرة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) على السيطرة العالمية، بعد ظهور الأسلحة الحديثة، وانتشار الأسلحة الذرية، والقواعد الجوية، والصواريخ الالكترونية ذات الآماد البعيدة، والقنابل الأتوماتيكية المزوّدة بالعقول الإلكترونية... ولا يعلم إلا الله ما ستنتجه المعامل العسكرية من وسائل التدمير المخيفة إلى وقت ظهوره (عليه السلام) ... فكيف ينتصر على كل هذه الأسلحة المبيدة والملايين المتزايدة من الجنود التي تملأ القواعد العسكرية في أنحاء العالم، وخاصة إذا كان يظهر بالسيف - كما في بعض الأحاديث المبشرة به - مع أنه لم يعد للسيف مكان إلا في المتاحف الأثرية؟. ولعلنا نبحث الموضوع فيما يأتي بإذن الله تعالى. ج - ظواهر جديدة أُخر: وبالنسبة إلى الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) تضاف إلى هاتين الظاهرتين اللتين كانتا تطبعان كل المؤمنين في الفترة بين الرسل، تضاف إليهما ظواهر جديدة. الثالثة: ظاهرة التشكيك في حياته حتى الآن، فقد مرّ على ميلاده الميمون صلوات الله عليه حتى كتابة هذه الأسطر ألف ومائة وإحدى وأربعون سنة هجرية. ونحن في دورة من عمر البشرية ﻻ تأذن بأن يبلغ أي فرد مائتين من السنين مهما كانت ظروفه الصحية والمناخية ملائمة. الرابعة: ظاهرة التشكيك في فائدة الإمام الغائب. فشأن الإمام شأن الرسول في أن الله يخوله قيادة المجتمع، فإن لم يستطع قيادته عملياً لأسباب يتحمل مسؤوليتها المجتمع ذاته، فلا أقل من قيادته الفكرية للمجتمع، فإن لم يستطع هذه أيضاً، فبماذا يعود على المجتمع؟... وماذا يهدف الله تعالى من إبقائه حياً، طالما ﻻ يأذن له بالاتصال بأحد من خلقه؟... الخامسة: ظاهرة التشكيك في إيجابية فكرة الإمام المهدي لسببين: الأول: تكريس اليأس عن جدوى أي عمل إيجابي قبل ظهوره مادام الله سبحانه وتعالى قدّر أن تملأ الأرض ظلماً وجوراً قبل ظهوره. الثاني: تكريس اليأس عن جدوى أيّ عمل إيجابي بعد ظهوره مادام الله عز وجل قدّر أن يملأ الأرض - به - عدلاً وقسطاً، بغض النظر عن قلة أنصاره وكثرة أعدائه. وهذان القدران يعلنان تعطيل أدوار الآخرين، وبالتالي يوحيان بتجميد كل الطاقات المؤمنة به. لأن أي عمل إيجابي ﻻ يعني غير تحدي القدر الذي يضحك من كل المتحدين. أو مجاراة القدر الذي ﻻ تنشطه المجاراة. السادسة: ظاهرة التساؤل عن موعد ظهوره. وهل يظهر في وقت قريب؟ أو أنه يظهر إلا بعد فترة طويلة من الآن؟ ثم ما هي علائم ظهوره؟ وهل العلائم الواردة في الأحاديث المبشرة به صحيحة أم ﻻ؟ وإذا كانت صحيحة فلماذا لم يظهر مع أن تلك العلائم قد ظهرت - حسب رأي العلامة المجلسي (رحمه الله) قبل ثلاثمائة عام؟... السابعة: ظاهرة التساؤل عن الأدلة التي تثبت أصل فكرة الإمام المهدي المنتظر من الكتاب والسنة؟.. الثامنة: ظاهرة التساؤل عن أن فكرة الأمام المهدي المنتظر (عليه السلام) هل هي من عناصر الفكر الشيعي فقط؟ أو أن المسلمين - جميعاً - يعترفون بها؟... الثامنة: ظاهرة تسائل تقول: حتى لو ثبتت فكرة الإمام المنتظر شيعياً أو عند كل طوائف المسلمين، فهل يسوقنا التمرد عليها أو إهمالها، إلى منعطفات دينية أو اجتماعية أو فردية؟... ملاحظة ومناقشة الظواهر: بخصوص هذه الظواهر نقدم ملاحظتين: الملاحظة الأولى: نعترف بأن هذه الظاهر موجودة، ولكن وجود هذه الظاهر ﻻ يغيّر شيئاً من واقع الإمام المنتظر، فاليأس والتشكيكات والتساؤلات المتنوعة تلف كثيراً من الأمور حتى تحجب الرؤية وتربك المفكرين، وخاصة في المجالات السياسية والقيادية، التي تمسك بمصير الناس ومقدراتهم، فتكون مناخاً ملائماً للأوهام والتخيلات، وحلبة واسعة ترحب بصراعات الآراء والمصالح، ولكنها ﻻ تغيّر شيئاً من وقائع الأمور. ومتى كانت التشكيكات والتساؤلات تزحزح شيئاً عن واقعه؟ الملاحظة الثانية: نحاول أن نناقش هذه الظواهر على أساس سؤال يقول: هل هذه الظواهر صحية أو غير صحية، فالظواهر إذا كانت صحية تعبر عن شيء. وإذا كانت غير صحية تعكس أمراض مجتمعها فلا تعبر عن شيء. الأقسام الأربعة لظاهرة اليأس: الظاهرة الأولى: وهي ظاهرة اليأس من وجود الإمام المنتظر، أو من ظهوره مطلقاً، أو من ظهوره في وقت قريب. ولتحقيق مدى صحية هذا اليأس نقسم اليأس إلى أربعة أقسام: 1- اليأس من المستحيل، كاليأس من أن يصير 2+2 = 3 أو = 5 ومثل اليأس من اجتماع الضدين والنقيضين - بحدودهما المذكورة في علم المنطق - وهذا اليأس معقول. 2- اليأس من الذات. مثل يأس الفرد من أن يحمل جبلاً على ذراعيه أو من أن يطير في الهواء بلا وسائل. وهذا اليأس مقبول. 3- اليأس من الغير، مثل يأس فلاح من أن يزوره الملك في كوخه، وهذا اليأس منطقي في كثير من الحالات، وليس صحيحاً على العموم، فكم من المفاجآت تخترق جدران اليأس؟ وكم بزغت الآمال من ظلام يأس مطبق؟ ولعل اتخاذ الموقف أمام هذا القسم من اليأس - الذي يمكن أن نسميه بـ(اليأس العادي) - من المنعطفات الخطيرة التي تفرز العظماء عن التافهين، فالتافهون عندما يصطدمون بهذا القسم من اليأس يتراجعون، أو ينهزمون إلى الأبد فينتحرون، بينما العظماء يصمدون، أو يواصلون الكفاح، وكثيراً ما ينقشع ضباب اليأس عن عيونهم، وتتضح أمامهم سبل الانتصار. وهذا القسم من اليأس يعتري كل فرد من البشر مرات عديدة في عمره، ثم ينكشف عنه، كما تنكشف سحب الربيع عن الأفق الحالم. وهذا ﻻ يعني: أن اليأس غير صحيح على الإطلاق، فلربما تتضافر المعاكسات بشكل كثيف، يتراءى كأنه جدار ﻻ يمكن، فييأس حتى العظماء، وقد يكفهر الجو فييأس حتى رسل الله المتصلون بالسماء، ويستبد بهم اليأس، ولكن الله الذي جعل لكل شيء دورة في الحياة الدنيا يعلم أن ذروة كل شيء منتهاه، وأن قمة اليأس هي مبدأ الفرج، فيقول: (... حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) [سورة يوسف: الآية 110]. وإنما يعني هذا الكلام، أن اليأس من الغير أكثره كاذب، وأقله طبيعي، ولكن يمكن نسفه بالمحاولة، على أن تكون المحاولة في حجم المعوقات. 4- اليأس من الله، وهو أن يعتقد فرد بأن الله قد أغلق أبوابه، أو أنه ﻻ يجد لأمره مخرجاً، أو لعقدته حلاً. وذلك أن الإنسان - عادة - يملك انطباعات معينة عن الأشياء المتعايشة معه، وعلى ضوء هذه الانطباعات يرتب لكل شيء - في تصوره - أسباباً ونتائج، فإذا جرب كل الأسباب الواردة في تصوره، ولم تسفر عن النتيجة المتوخاة، ظن أن ﻻ سبب يؤدي إليها على الإطلاق، وأمام هذا الظن يلجأ المؤمن إلى الله، ويحدّث نفسه بأنني جربت كل الأسباب التي كنت أعرفها، ولم يؤد شيء منها إلى النتيجة التي كنت أحاولها، ولكنني كفرد من البشر يكون عملي محدوداً، فلعل هنالك سبباً أو أسباباً يؤدي كل واحد مها إلى تلك النتيجة، وأن الله المحيط بكل شيء يعرفها جيداً، فالأفضل أن أترك الأمر لله يصرفه كما يشاء. ونتيجة لهذا الإيمان ﻻ يدب إليه اليأس، وإنما يحافظ على الأمل في مشاعره، ولا يتراءى له بصيص من النور إلا ويبدأ التجربة وبما أن تطورات الحياة كثيرة، ربما تترتب الأمور بشكل تقدم إليه تلك النتيجة بلا محاولة. أما غير المؤمن فإذا جرب الأسباب التي يعرفها، ولم تنته إلى النتيجة التي يريدها انكفأ على نفسه في ظلام من اليأس ثقيل. وهذا اليأس ﻻ يعني الجهل بالله وقدرته غير المتناهية فقط، وإنما يعني الجهل بالحياة وأبعادها البعيدة، وهو الضلال في منطق القرآن: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)؟ [سورة الحجر: الآية 56] (ولا تيأسوا من روح الله إنه ﻻ ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) [سورة يوسف: الآية 87]. هذا فيما لم يسبق إليه وعد من الله، أما إذا وعدنا الله بشيء، ولم نجد في أفقنا القريب المحدود إشارات تمتد إليه، فيأسنا منه لمجرد ذلك يدل على أن مدانا أضيق من حبل المشنقة. أوَ ليس العلم المادي المحدود يقدم إلى البشر كل يوم أشياء لو حدّثت بها كتب السماء لم يصدقها، لكن البشر يضطر إلى الاعتراف بها حينما يراها بالعين المجردة، أو على الشاشة الصغيرة، فكيف بالله العظيم، الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً؟... وبالنسبة إلى الإمام المهدي المنتظر، وعد الله بإظهاره وتمكينه في الأرض، ولن يمنعه من تنفيذ وعده مانع في الأرض ولا في السماء. وقد قرر منذ الأزل توقيت غيابه وظهوره - وفق حكمته البالغة - ورتب لغيابه وظهوره وتمكينه أسباباً كافية، كما قرر حركة النجوم، وتوقيت غيابها وظهورها - بالنسبة إلى إنسان الإنسان، ورتب لتفاعلاتها أسباباً كافية. أما كون توقعاتنا تستعجل ظهوره، وكون تصوراتنا تستبطئ فتره غيابه (عليه السلام)، فهذه أمور ناتجة من الجهل بالحكمة العليا، ولا تأثير لها على حركته مطلقاً، كما أن توقعاتنا وتصوراتنا - مهما كانت - ﻻ تؤثر على حركة النجوم أبداً. وإذا كانت توقعاتك وتصوراتك ﻻ تغير حركة قلبك ومعدتك، ولا تقدم ولا تؤخر ميلاد ابنك ووفاة زوجتك، فهل تريد لهذه التوقعات والتصورات، أن تستطيل حتى تغيّر إرادة الله في إدارة كونه، وتبدل حكمة الله في نشاط أوليائه؟ إن علينا - في مثل هذه الأمور - أن نعلم: أن الله إذا وعد شيئاً نفذه في الوقت الذي يشاء، وبالأسلوب الذي يشاء، ولا تعاكسه الظروف والأحوال لأنه هو الذي يخلق الظروف والأحوال ويصرفها كما يشاء. وإذا علمنا ذلك ﻻ يمتلكنا اليأس من ظهور الإمام المهدي المنتظر، ولا نرى أنه تأخر أكثر مما ينبغي، بل نعرف أنه سيظهر في الوقت المحدد لظهوره، ونتوقع أن يصادف ظهوره أي يوم من أيامنا. وأية ساعة من ساعاتنا. مناقشة التشكيك: الظاهرة الثانية: وهي ظاهرة التشكيك في مقدرة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) على السيطرة العالمية بعد ظهور الأسلحة الحديثة، ويمكن مناقشة هذا التشكيك بما يلي: 1- إن الله وعد بنصرة الإمام المنتظر (عليه السلام) وتمكينه في الأرض، حسب تأويل قوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض...) (سورة القصص: الآية 5 - 6] وحسب تصريح النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بقوله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يظهر رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً). ووعد الله، والله ﻻ يخلف الميعاد، ووعد الله أقوى الضمانات لنجاح الإمام المنتظر في رسالته العالمية، ﻻ بالنسبة إلينا نحن الذين نحاول أن نعرف شيئاً من ذلك التحول الكبير فقط، وإنما حتى بالنسبة إلى الإمام المنتظر نفسه، المكلف بنقل العالم كله من مرحلة الفوضى والمناقضات إلى مرحلة الاستقرار والانسجام. 2- يكفي - في هذا المجال - أن نعلم أن الله ينصر أوليائه الكبار. بالمفاجآت الكبيرة التي ترتبك لها قادة الرأي في العالم، بحيث ﻻ يطيقون التفكير وإذا فكروا ﻻ يستطيعون التدبير، لأن المفاجآت تأتي ساحقة شاملة، لو تكتّل العالم كله في الصف الآخر، لما استطاع المقاومة ولا الصمود. وتاريخ الأنبياء كلهم أفضل شاهد حيّ، على أنهم ما كانوا يواجهون التحديات التقليدية التي يستطيعها البشر، لتحديات تقليدية مثلها، حتى يتم التوازن، فترجح الكفة مرة لصالح الأنبياء، وترجح مرة أخرى لصالح أعدائهم. - فكما أن نوح (عليه السلام) فاجأ العالم كله بطوفان اجتاح المعمورة كلها، ولفّ البشرية والحيوانية والنباتية الفاسدة جمعاء، حتى يسمح بالسلالات المفضلة أن تؤسس الحياة البشرية والحيوانية والنباتية من جديد، حتى صاح بأعلى أصواته: (ﻻ عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) [سورة هود: الآية 43]. - وكما أن إبراهيم الخليل (عليه السلام) فاجأ الرأي العام بجعل النار برداً وسلاماً في العراق، وانتصاره العسكري الساحق في الشام، وبناء الكعبة في الحجاز. - وكما أن داوود فاجأ الدنيا عندما قرض دولة الظلم، وقتل رأسها وقادتها، جالوت وأعوانه، بأحجاره التي سددها الله فلم تخطئ واحدة منها، وأعلن العدالة الواقعية التي ﻻ تعتمد على الشهود والبينات. - وكما أن سليمان بن داوود (عليه السلام) فاجأ البشرية كلها، عندما بسط سلطانه على كل الكائنات، فسخر الجن والإنس، وجعل جيشاً من الوحوش، ومظلة من أجنحة الطيور المحلقة، ووضع عرشه على الريح، حتى لم يعد على الأرض إنسان يفكر إلا في تنفيذ أوامره. - وكما أن يوسف (عليه السلام) قفز قفزته الرائعة من البئر والسجن والعبودية إلى العرش، حتى قال له أخوته الذين أرادوا به كل سوء: (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين) [سورة يوسف: الآية 91]. وحتى قالت زليخا التي اتهمته وزجّت به في السجن: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) [سورة يوسف: الآية 51 - 52]. - وكما أن موسى بن عمران (عليه السلام) طوى تاريخ الفراعنة وجيوشهم في البحر، وأربك العالم الذي استحوذ عليه السحر بتسع آيات بينات، وبعضاه التي تلقف ما يأفكون. - وكما أن عيسى ابن مريم (عليه السلام) فاجأ الأطباء الأفذاذ ومن ورائهم العقل البشري حتى اليوم، بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الرميم... - وكما أن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) فاجأ المنكرين جميعاً بالقرآن، وفاجأ الجزيرة العربية بقيادته العسكرية التي صاح بها العباس أمام أبي سفيان - في فتح مكة - : ويلكم لقد جاءكم بما ﻻ قبل لكم به. هكذا الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) يفاجئ بما ﻻ قبل للعالم به، أما تفاصيل تلك المفاجئة، فتهمه أكثر مما تهمنا، والذي كلفه بتلك المهمة العالمية الضخمة، وفّر له الوسائل المناسبة لأدائها، كما وفّر لمن سبقه من أوليائه العظام، الوسائل المناسبة، لأداء مهماتهم. سلاح الإمام المهدي (عليه السلام): 3- يبدو من مواصفاته المنقولة إلينا، أنه يأتي بنوع جديد من السلاح، تكون لديه الأسلحة المتقدمة رمزية ﻻ جدوى منها، وأنه يأتي بنوع جديد من التكتيك تصبح التكتيكات الحديثة أمامه تقليدية ﻻ فحوى لها. ففي الأحاديث المبشرة به إشارات إلى ذلك. بمقدار ما كانت الكلمات القديمة والعقول القديمة تتحمل المضامين غير المعروفة، التي ﻻ تتحملها الكلمات والعقول المتطورة اليوم، وتبدو الإشارات واضحة رغم رمزية التعابير. إذا تأملنا النصوص التالية: - ورد في وصف سيفه: (أنه يعرف أعداء الله فيقتلهم، ويعرف أنصار الله فيدعهم) ولعل السلاح الذي يميز بين الأفراد، فيقضي على غير المؤمن. ويترك المؤمن، ليس سيفاً، وإنما هو نوع آخر من السلاح غير الموجود حتى اليوم، ولكن ورد التعبير بالسيف، لأنه كان أبرز سلاح يقاتل به في فترة صدور الأحاديث، ولو كان المعصومون (عليهم السلام) يستخدمون غير الاسماء المعروفة، لكان الرواة يمتنعون من نقلها خشية أن تقابل بالسخرية والاستخفاف. - وورد في وصف سيوف أنصاره: (ولهم سيوف من حديد، ﻻ كسيوفكم، إذا ضرب به أحدهم جبلاً قطّه) وظاهر أن السلاح الذي إذا ضرب به أحدهم جبلاً قطّه ليس سيفاً. وإنما سلاح آخر. - وورد في كيفية انتصاره: (أنه إذا ظهر توقفت الأسلحة، فلم تتحرك في وجهه) ولعله إشارة إلى أنه يظهر بسلاح تكون الأسلحة الموجودة في ذلك الوقت رمزية أمامه. ولعله إشارة إلى أنه يستخدم نوعاً من السلاح يعطل كل الأسلحة الموجودة، أو يجمد كل الآليات المتحركة. - وورد في وسائل انتصاره: (يسير أمامه الرعب مسيرة شهر) وفي نص آخر: (أنه يحكم بالرعب) و(ينصر بالرعب) وهذا النوع من التعبير يشير إلى أن سلاحه أو تكتيكه شيء جديد مخيف ينهار أمامه القادة، فلا يحسنون غير الاستسلام. - وورد في وسائل الإعلام التي تعلن عن ظهوره: أنه في الليلة التي يظهر في صبيحتها: (يجعل النور عموداً بين الأرض والسماء. فتشرق الأرض بنور ربها كالنهار) ويعلم جميع الناس أن الكون يتمخض عن ظاهرة كبرى... وفي صبيحة تلك الليلة يهتف جبرئيل في الهواء: (ألا قد ظهر المهدي بمكة، فاتبعوه) فيسمع صوته جميع البشر. ويعلمون أن تلك الظاهرة انطلقت وستأخذ طريقها إلى الانتشار. أما النصوص التي تقول بأنه يظهر بالسيف فقد يمكن تفسيرها بما يلي: - إن السيف رمز السلاح، أو رمز القوة، فيكون معنى هذه الأحاديث: أنه يظهر بالسلاح، أو أنه يظهر بالقوة. - ورد في بعض هذه الأحاديث أنه يحمل السيف، ومعنى حمله السيف أنه يختاره شعاراً، واختيار السيف شعاراً يختلف عن استخدام السيف سلاحاً وحيداً في معاركه، فاختيار النسر شعاراً لدولة، أو اختيار المنجل والمطرقة شعاراً لدولة، أو اختيار النخلة أو سنبلة القمح، ﻻ يعني أنها الوسائل الوحيدة التي تعتمد عليها الدولة وإنما ترمز إلى بعض المنطلقات الفكرية أو الحيوية للدولة. - لعل المقصود من ظهوره بالسيف. إنه إذا أراد إعدام شخص أمر بضرب عنقه، انطلاقاً من التعاليم الإسلامية، التي تأمر بإراحة الضحية وعدم تعذيبه بالوسائل المختلفة للإعدام. فيكون السيف، السلاح الذي يخيف المجرمين داخل دولته، ﻻ أنه سلاحه في معاركه وفتوحاته. - في بعض تلك الأحاديث تصريح بأن السيف الذي يحمله، هو سيف ذو الفقار، وهو السيف الذي استخدمه جدّه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في معارك الإسلام الحاسمة، وورد أنه نزل من السماء، وأصبح فيما بعد من جملة التراث المقدس الذي توارثه الأئمة الأطهار (عليهم السلام). فربما يحمله الإمام، ليرمز إلى أنه أتى لتجديد الإسلام، ولم يأت بدين جديد - كما يحلو للبعض أن يتهمه بذلك على أثر شجبه كل الاجتهاد الباطلة. وربما يحمله ليؤكد انتسابه إلى رسول الله. دحضاً للتهم التي تطاله في نسبه نظراً لقدم عهد أبيه وظهوره في مظهر رجل بسنّ الأربعين، ورداً للتهم التي تقول: بأنه ليس من ذرية رسول الله، نظراً لقتله أعداداً كبيرة من المجرمين زعماً منهم أن ذرية رسول الله يحاولون الابتعاد عن الخوض في الدماء حتى دماء المجرمين. وربما يحمله تبركاً به، باعتباره السيف الذي فتح الطريق أمام الإسلام. وربما يحمله كذكرى جده أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كانت حياته كلها تضحيات مرة في سبيل الحق. وربما يحمله، في جملة ما يحمله من مواريث الأنبياء، ومنها خاتم سليمان، وعصا موسى بن عمران، وتابوت بني إسرائيل، وأشياء أخرى، وذو الفقار أبرز تلك الأشياء، فيشتهر بأنه ظهر بالسيف. فرفعه السيف شعاراً، أو حمله رمزاً، ﻻ يعني استخدامه سلاحاً وحيداً في معاركه، وإنما تشير جملة من الدلائل والقرائن على أنه يستخدم أسلحة أخرى، شديدة الفتك والتدمير، إلى درجة رهيبة، تخلع قلوب القادة العسكريين، فيستسلمون لتجاربها الأولية، ويستقبلونها بالرايات البيض. والأسلحة المتطورة: 4- وربما يستخدم الأسلحة المتطورة الموجودة في حين ظهوره، ويحرك الجيوش المتثائبة في المعسكرات، ويكون تكتيكه سلاحه الفعّال، الذي يستولي به على القواعد العسكرية، ويعتمد في تكتيكه على عنصرين المفاجئة والسرعة - كما يظهر من بعض الأحاديث -. فلا يشترط في الثائر الذي يخترق المغيب إلى كبد السماء، أن يكون قد حشد في مغيبة قوىً أكثر من القوى المتصارعة على الأرض، وإنما يشترط أن يملك الخطة التي بها يسيطر على قوة ضارية من تلك القوى. وكل الثائرين الذين قفزوا من تحت الأرض إلى دفة الحكم لم تكن وسيلتهم سوى خطة ناجحة. فإذا ظهر الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وتوافد إليه حواريوه الثلاثمائة والثلاثة عشر، والتف حوله من أنصاره الأشداء حتى زادوا على ألف رجل انطلق من مكة يبسط سلطانه على الحجاز، فأيّدته المعسكرات، وسار بها إلى الشام يحتاج سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ثم انعطف نحو العراق فانفتح له، تتجمع لديه قوة عسكرية ضخمة، يستطيع أن يوجه فصائلها نحو الخليج وإيران والهند وأفغانستان شرقاً، وأن يوجه ما تبقى منها إلى أفريقيا غرباً، واستيلائه السريع على الحجاز وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق خلال أيام وبدون مقاومة تذكر من جهة، وخططه الجديدة المنتصرة من جهة أخرى ومفاجآته الخاطفة من جهة ثالثة، وانتصاراته المتتابعة التي ﻻ تتعثر بهزيمة من جهة رابعة، ترفع أنصاره فوق السحاب معنوياً ومادياً وتخفض بأعدائه تحت الصفر معنوياً ومادياً وتجعل منه قائداً مظفراً رهيباً تنخلع لاسمه قلوب وتطمئن إليه قلوب. وطاقاته الروحية: هذا إذا اكتفى باستخدام طاقاته المادية كقائد، أما إذا ضم إليها طاقاته الروحية كإمام، ووجد الناس - بالفعل - عناصر السماء وراءه، فرأوا الملائكة يقاتلون بين يديه ووجدوا الأموات قد نشروا من قبورهم يحملون أسلحتهم إلى شتى الجبهات للدفاع عنه، ووجدوا الإمام يأمر الصحراء أن تنخسف بأعدائه، فتبتلع الصحراء جيشاً كاملاً برمّته، ويأمر السحاب أن يدمدم على قوم فيمطرهم بالصواعق حتى ﻻ ينجو منهم أحد، ويأمر أسلحة أعدائه أن تكر عليهم فتعود إليهم الأسلحة التي في أيديهم حتى تبيدهم عن بكرة أبيهم. فإذا استخدم الإمام كل صلاحياته المادية والروحية، فهل يجرؤ ملك أو رئيس أن يشهر نفسه - مهما بلغت قواته - لمقارعة قوى الأرض والسماء متكرّسة في شخص؟ وهل يوجد شعب يسمح لرئيسه أن يعرّضه لبطشة ماحقة تدعه بدءاً. والطاقات البنّاءة: هذا إذا اكتفى باستخدام صلاحياته الكفاحية فقط، وأما إذا ضمّ إليها طاقاته البنّاءة، ففجّر خيرات البر والبحر، واستمطر خيرات الجو، وجاء بالعلوم الكثيرة التي سيّرها الأنبياء على البشرية المنحرفة، فرفع مستوى العقول، وزكّى المواهب ونوّر الأفكار، وفك عقد الحياة، فمكّن الحضارة السعيدة التي ﻻ تكدرها المشاكل، وأعلن العدالة الشاملة التي ﻻ تلوّثها الجرائم، فمسح المتاعب عن الجباه، وكشف القلق والحيرة عن العيون، فإن شعوب العالم تتهافت عليه لتقديم ولائها إليه، وللانضمام إلى كنفه الوادع السعيد. توقيت الظهور: 5 - إن توقيت ظهوره توقيت أكثر من دقيق وأكثر من حكيم، ومن نوع ربما لم يتفق في عمر البشرية كلها بهذا الشكل الحاسم، ولهذا يكون توقيت ظهوره وحده نصف خطته، ولهذا التوقيت أهمية فرضت انتظارها مئات السنين. ذلك أن الناس في تأرجحهم بين الأديان والمذاهب بحثاً عن الأفضل ﻻ يعتمدون على الآخرين بمقدار ما يعتمدون على أنفسهم، ولا يعتمدون حتى على الغيب بمقدار ما يعتمدون على أنفسهم - وخاصة من أقنعتهم الديالكتيك بسقوط كل المعادلات، وأوصلتهم القيادات المصلحية والانتهازية إلى حافة اليأس من إخلاص الغير، وإلى التشكيك حتى في الشعارات المخلصة - فإذا قيل لأي فرد: إن الإسلام هو المسلك الوحيد إلى السعادة الفاضلة في الدنيا والآخرة، قد يعترف به لياقة للمجتمع الذي يتظاهر مثله بالإسلام، أو مجاملةً للقائل: أو تقليداً ورثه مع ما ورثه من آبائه من التقاليد وبنى عليها تشريفاته الاجتماعية. ولكنه ﻻ يؤمن به، إيمانه بالضوء الأحمر الذي يوقف سيارته على مفترق الطريق، أو إيمانه بختم موظف الجمرك الذي يسمح له بتجاوز الحدود، أو إيمانه بالأوراق النقدية التي يتعامل بها على ما يختار من بضائع وخدمات. فهو يؤمن بالإسلام بمقدار ما دخل في القانون والسياسة والاجتماعيات والكماليات، ولا يؤمن به كقانون يفرض نفسه بقوة البوليس، ولا يؤمن به كسياسة تضمن له مستقبلاً لامعاً. كنتيجة طبيعية لهذه الازدواجية الناتجة من الاسترخاء الإيماني، تزعجه الحدود الإسلامية التي تمنعه من الاقتحام في بعض المغريات، ولا يجد إيجابيات الإسلام، فلا يشعر بالطمأنينة التي تركّز نزاوته وهواجسه على مطامح مشروعة، ولا يلمس السعادة التي يشيعها الإيمان حول المؤمن، ولا يتضح أمامه الخط الأفضل الذي يهدي إليه الإسلام، لأن البناء الناقص أطلال ومواد تثقل ولا تنتج. ولهذا فالمسلم الناقص الإسلام - وأكثر المسلمين اليوم ناقصو الإسلام - يقبل الإسلام على تذمر، وهذا التذمر يأخذ أبعاده من خلال تساؤلات مصدرها معاناة، ومن خلال شبهات قواعدها محاولات للبحث عن أعذار تصونه عن لوم المجتمع إذا تحلل من مظهر الإسلام، ومن خلال انتقادات يوجهها إلى أبيه وأمه وسائر المؤمنين الملتزمين الذين يصمهم بالقشريين والمتزمتين والمتطرفين. وقد يعلن هذا التذمر، إذا التقفته كتلة تشجعه أو بديل يعتمد عليه. ولكنه على العموم، يجب أن يحافظ على الإسلام، كمظهر من المظاهر الاجتماعية، طالما ﻻ يكلفه عناءً، فإذا اصطدم بشيء من مصالحه، أو رفع إلى أزمة عاصفة، بادر إلى التحلل منه بلا تردد، وكأنه ﻻ عهد له به. ويبدو أن هذه الظاهرة كانت تمسح المجتمع في عهد الحسين (عليه السلام)، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء، قلّ الديّانون). وبما أن البدائل التي طرحت مقابل الإسلام كثيرة من داخل الأمة الإسلامية وخارجها، ابتداءً من عهد الفتوحات الإسلامية التي اعتمدت السيف - ﻻ الإيمان - مدخلاً إلى الإسلام، حيث تقمصت الفلسفة اليونانية أزيائها المناسبة للتغلغل والدس في الأمة، ومروراً بعهودنا التي تسترت فيها الديالكتيك ببراقعها المتنوعة لأداء ذات الدور، وانتهاءً بعهد - ما قبل الظهور - الذي تأخذ فيه الفسفات البشرية أقنعتها وواجهاتها المشكلة للقيام بمهمة تمزيق الأمة من داخلها، وبالفعل أدت إلى انشقاق الأمة طوائف وفرقاً تنبأ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأمهاتها يوم قال: (... وستفترق أمتي بعدي ثلاثاً وسبعين فرقة...)... وأما البدائل التي من خارج الأمة في صيغ أديان وفلسفات سابقاً. وفي صيغ أحزاب ومبادئ حالياً، فإحصاؤها يحتاج إلى قاموس يسع مجلدات. البشر في كل الاتجاهات: - وبما أن البشر يعتمد على تجربته الشخصية أكثر مما يعتمد على تجربة غيره، وحتى أكثر مما يعتمد على الغيب - إذا كان مؤمناً به -. - وبما أن لكل جديد وهجاً يغري، وكيل الوعود جزافاً سهل، والغريق يبحث عن أي يد تمد إليه. - وبما أن البشر - ﻻ زال - يعتقد بأنه قادر على استيعاب الحياة، وعلى وضع أفضل الخطط التي تسعده عبر الحياة وتستنفد أهدافه فيها، وعلى قيادة نفسه بنفسه في معزل عن السماء. بذلك كله، اندفع في كل اتجاه من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، يلبي كل نداء، ويتحرك مع أية ريح كما أتقن وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (... وهمج رعاع. أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، ﻻ يلجئون إلى ركن وثيق، ولا يستضيئون بنور العلم..). فكانت حصيلته تناقضات عشوائية، الناجح فيها هو الأقوى في النطاح، والفاشل فيها من له أدنى تروٍّ وأناة، وضياع في خطوط متحركة ودوامات تدوخ وتبتلع، وتضحيات هائلة في الأرواح والأعصاب والأفكار، يتبعها تخلف وقنوط. وهذه الرحلة: رحلة التجربة التي بدأتها الأمة - بعد فترة وجيزة من تكوّنها - عبر الأديان والفلسفات والأحزاب والمبادئ، بحثاً عن الأفضل، بعد انحرافها عن دينها الحق، على إثرعوامل كثيرة أهمها: - اتجاهها إلى قيادة مفروضة عليها، ومحسوبة عليها، واضطهادها قادتها السماويين. - وعدم استيعابها دينها الحق، نتيجة لانجراف عديد من الرواة والمحدثين الذين ائتمنوا على سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في تيار تلك القيادة المفروضة المحسوسة على الأمة. على أثر ذلك أصيبت الأمة، وأصيب البشرية. أصيبت الأمة بإصابتين: - أصيبت الأمة في ذاتها كخير أمة أخرجت للناس، يفترض فيها أن تكون أكثر الأمم مناعة وسعادة، فكانت أكثر الأمم تمزقاً وشقاءً، كما تنبأ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) حين قال: (تتداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها...)، (... تأتيكم الفتن كقطع الليل المظلم... تدع الحليم حيران...) (... قالوا: أوَ عن قلة فينا يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكن غثاء كغثاء السيل). - وأصيبت الأمة في مركزها، كأمة مرشحة لقيادة البشرية جمعاء، فلم تكن أمة قائدة لبقية الأمم، ولم تكن أمة قائدة لأمة أخرى تقودها إلى الخير أو إلى ما يمكن أن يسمى خيراً، وإنما كبقرة حلوب تحلب ولا تسمن، أو كما في بعض الحديث: (.. غرضاً يرمى...). وأصيبت البشرية بإصابة واحدة: أصيبت البشرية في قيادتها الروحية، فخسرت القيادة التي تبشرها بحضارة الروح، وتضمها إلى حضارة المادة، ووجد في ظل تفاعل هاتين الحضارتين مجتمعاً إنسانياً غنياً بمعطيات تلبي كل نداءات الإنسان، وتدفع عجلة التطور إلى الأمام بمحركين. فبقيت البشرية - بما فيها الأمة الإسلامية - تعاني صراعاً داخلياً حاداً بين العقل والضمير الأخلاقي من جهة، وبين الغرائز من جهة. والعقل معصوم ﻻ يتلوث بالشذوذ، فهو رسول من رسولي الله إلى الإنسان كما في الحديث: (إن لله على الناس حجتين: رسول باطن هو العقل، وعقل ظاهر هو الرسول). والضمير الأخلاقي حرّ شجاع ﻻ يصمت ولا يتلعثم، فهو محكمة الله في داخل الإنسان، المعبّر عنه في منطق القرآن (بالنفس اللوّامة) [سورة القيامة: الآية 2]. (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) [سورة القيامة: الآية 15]. إلا أن العقل والضمير ﻻ يكفيان لقيادة الإنسان فالعقل، وإن كان قوي الحجة، واضح الصوت، إلا أنه يشبه رجل الدين الحصيف الجليل، الذي يعترف به الجميع. ولا ينفذون كلمته. لأنه غير مسلح بالإرهاب والإغراء. والضمير الأخلاقي، وإن كانت محكمته مستمرة طول العمر، وصوته جهوري يعكره سعادة من يخالفه نهاراً ويؤرقه ليلاً، إلا أنها تشبه المحاكم العائلية، التي تصدر أحكاماً خلقية للتنبيه، أو تصدر أحكاماً قضائية مع وقف التنفيذ. والإنسان ﻻ يخضع إلا للقوة المنفّذة. بينما الغرائز تشبه عصابة مغامرة من الشباب الأقوياء، التي ﻻ تتورع عن شيء في سبيل مآربها، فيجتاح منطق العقل والضمير الأخلاقي، بغرورها العنيف. وربما تسخر العقل من أجل التخطيط لمآربها بالعنف، كما قد تسخر العصابات الشريرة، الخبرات الخيرة لجرائمها تحت التهديد بالقوة. إذن فالعقل والضمير الأخلاقي ﻻ يكفيان لتوجيه الإنسان وقيادة غرائزه، ولذلك كان العقل والضمير الأخلاقي يستغيثان السماء دائماً، لإمدادهما بالرسل. الإنسان في التجارب المرة: والإنسان طالما آمن بنفسه في ظل فكرة الديموقراطية التي تجعل الشعب صنماً يعبد من دون الله. وكالما اقتنع بأنه يستطيع قيادة نفسه بدون مدد من السماء. وطالما بدأ رحلته التجريبية عبر الأديان والمذاهب والمبادئ والأحزاب وسائر ما قد يطرحه الفكر البشري للتجربة. وكلما استغنى بالقيادات البشرية التي يختارها بخبراته، عن القيادات الإنسانية التي تختارها السماء، فعليه أن يكمل الرحلة حتى نهاية المطاف، وأن يجرب كل ما ينتجه الفكر البشري من طرائق ومناهج، وأن يختبر كل أنواع القيادات الفردية والجماعية، وأن يمتحن قدراته من خلال آلاف التجارب والاختبارات التي يمارسها على مختلف الشعوب في شتى جنبات الأرض. حتى إذا فشلت تجاربه كافة، وأفلست قياداته جمعاء، فوجد المجاعات تكتسح الجماعات كما تكتسح رياح الخريف أوراق الشجر، ورأى البؤس والشقاء والكآبة في كل الوجوه... عند ذلك يبلغ به اليأس من نفسه مبلغ القنوط، يكفر بكل شيء اسمه فكرة ومبدأ... ويلعن كل شيء اسمه قيادة وقائد... ويحارب كل ما يعبّر عن تأليه الشعب وعصمته... فتنهار الأنظمة والحكومات. وتتخلى الأجهزة الرسمية والهيئات الدولية، وتتفكك الجيوش والتكتلات فيتسابق الأقوياء لنهب الضعفاء ويستأسد الضعفاء للدفاع عن أنفسهم وصيانة حقوقهم، فليجأ كل إلى سلاحه، ولا يطمئن أحد إلى كفاحه، فتعم الفوضى مسلحة بالعلم والآلة بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. فتعود البشرية كلها أيد ترفع إلى السماء، وتنقلب الأنفاس دعوات تتسابق إلى الله، وتغدو النظرات توقعات ترقب الأفق البعيد، بانتظار تفجير المعجزة، وإظهار المصلح الموعود، فحينئذ يظهر الإمام المنتظر، ليجد الناس يرددون كلمته قبل أن يقولها هو، ويقضون على من يريدون مقاومته قبل أن يقضي عليهم هو، فيمشي على الحرير بلا عثرات. الاعتراف بالعجز: 6- إن العقل إذا فقد المدد الخارجي، واستفردته الغرائز، يعجز عن مقاومتها، فلا يستطيع الهيمنة على الفرد، وإذا عجز عن بناء شخصية الفرد، ﻻ يستطيع تكوين جبهة تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، مقابل جبهة الغرائز التي تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها. ومهمة الأنبياء - في مجال المجتمع - تتلخص في إمداد العقل، لتكوين جبهة، تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، حتى يجد كل فرد نفسه أمام طريقين، ومردداً بين خيارين كما يقول القرآن الكريم: (وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة) [سورة البلد: الآية 11]. وأما أولئك الذين وهبهم الله عقولاً وإرادات جبّارة، يستطيعون بها أن يمارسوا الإيمان عقيدة وحياةً في المناخ المضاد، فهم ليسوا من مصاف البشر العادي، وإنما هم من مصاف الأنبياء، واعتبرهم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إخوانه في الحديث المعروف الذي قال فيه: (آه، شوقاً إلى إخواني...). فإذا لم يستقبل العقل مدد السماء، وفقد سلطانه لتقنين الغرائز، فإنها ستتمرد عليه تدريجاً، وتستخدمه لأغراضها، والعقل ﻻ يكف عن إطلاق نداءاته، فإنه يستخدم رغم نداءاته وضد أهدافه، فالمجرمون المحترفون - جميعاً - يستخدمون عقولهم في التخطيط لجرائمهم - وسواء أسميناه عقلاً أو فكراً، فالنتيجة واحدة -. وإذا تنكرت الغرائز للعقل، فإنها تسعى لتقنينه، وتأخذ في النمو بشكل تصاعدي حتى تغطي ظاهرة الحياة الفردية والاجتماعية - كأي نبات تحرر من ضوابطه، وكأي حيوان فقد ضوابطه، وكأي فرد من البشر استطاع التمرد على ضوابطه -. وعندئذ، تبدأ الغرائز بالخروج من الأطر التي يرسمها لها العقل، وتعمل لتبرير هذا الخروج، وإسباغ الشرعية عليه، بسنّ القوانين التي تصدر لتبريرها أكثر مما تعمل لتحديدها، وما أسهل إسباغ الشرعية على نزوات الغرائز، طالما القوانين تصدر عن مجموعة من نفس البشر الذي أطلق غرائزه، فلا يبقى شيء من المعاصي إلا ويبرره القانون بشكل من الأشكال، وإذا كانت المعاصي كلها شذوذاً، فالمجتمع الذي ينخر فيه الشذوذ ﻻ بد أن ينتهي بالانهيار. ولنأخذ مثلاً لذلك، غريزة حب السلطة والاستعلاء، هذه غريزة كبحها العقل القرآني بإعلان غلق أبواب السماء في وجهه من يمارسها: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين ﻻ يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) [سورة القصص: الآية 83]. ومعلوم أن هذه الآية ﻻ تلغي هذه الغريزة في المجتمع، ولكن شتان بين أن تمارس علناً، وبين أن تموه في أهداف مشروعة، حذراً من أن يكتشفها المجتمع، فتأتي النتائج عكسية. ثم جاءت وبرزت هذه الغريزة في أساليب الاعتراف بحب الاستعلاء الثورية والانتخابية، والحزبية، وغيرها. فانطلق أصحاب هذه الغريزة لممارستها بلا قناع، وإذا كانت هذه الغريزة ﻻ تقف عن حدّ، وإذا كان أصحابها كثيرون، وإذا كانت المجالات التي يمكن التزاحم عليها محدودة، فمن الطبيعي أن ينقلب مفهوم (تعاون البقاء) الإنساني النبيل إلى (تنازع البقاء) الوحشي الرخيص. وبمقتضى مشروعية (تنازع البقاء) يسعى الأفراد من داخل الأسرة الواحدة، إلى تحشيد ما يمكن تحشيده من أفراد وأشياء، لممارسة (تنازع البقاء) على أي شيء يمكن التنافس عليه. وبمقتضى مشروعية (تنازع البقاء) يبقى الحق دائماً مع الأقوى، لمجرد أنه أقوى، فالناجح في ممارسة حق (تنازع البقاء) المشروع، عظيم تظفر لمفرقه أكاليل الغار، وليس جانياً يعاب أو يلام. وهكذا تتكون التكتلات المسلحة بالأسلحة المناسبة لكل مرحلة، ابتداءً من الأشقاء في الأسرة الواحدة، ومروراً بالمدرسة والسوق والشارع، والدوائر الانتخابية، والمجالس الرسمية، والمحافل الدولية، والدول الكبيرة، ثم تشتعل بينها الحروب المشروعة - حسب المبدأ المذكور بأشكالها المختلفة. وإذا كانت الثروات الطبيعية والعلوم الحديثة، ومبدأ (سباق التسلح) مكنت الدول الكبار من إعداد معدات عسكرية تكفي لإبادة الحياة على وجه الأرض ملايين المرات. وإذا كان تجويع شعوب العالم لأجل التوفير على المعدات العسكرية مشروعاً حسب مبدأ (تنازع البقاء) وطبق القوانين الصادرة من المجالس - ذات الصلاحية - وإذا كان تحريك هذه المعدات لتدمير الحياة على الأرض - أيضاً - مشروعاً اتخذ بشأنه قرار الدول الكبار وفق معادلات معينة وبأسباب معينة، وإذا كانت مطامع الدول الصناعية القوية تدفعها إلى احتلال الدول الغنية بالمنتجات الأولية وفق مبدأ (تنازع البقاء) فمن الطبيعي جداً أن يأتي الوقت الذي يتحرك فيه جنون بعض قادة العالم - على إثر عصرات قوية - فتنطلق فيه جميع المعدات العسكرية للانقضاض على بعضها - اتباعاً لفكرة الضربة القاضية - فتشتعل المدن الكبار، لتتحول خلال دقائق إلى محارق لعشرات الملايين من البشر، وتنتشر في الأجواء سحب ذرية بحثاً عن بقايا البشر، لإصابتها بالعاهدات المخيفة فتنفرط الحكومات وأجهزة الأمن والشرطة، ولا يبقى إنسان قادر على الحركة إلا ويكون مذعوراً قلقاً معطل المشاعر، ﻻ يدري أيبكي أقربائه الذين ماتوا قتلاً أو حرقاً؟ أم يواسي الآخرين الذين جرحوا وتشوهوا؟ أم يحمي نفسه من الغارات والمخاوف المتوقعة؟ أم يبحث عن القوت والسلاح والمال والمكان وسائر الأشياء التي قد تمد في حياته؟؟ هكذا يفقد كل إنسان توازنه، وتتفاعل فيه المخاوف والمطامع، عالماً بأن أجهزة الحكومات قد تعطلت فلا يحميه إلا نفسه، ولا يعاقبه إلا ندّه، فيتحرك عشوائياً يقتل وينهب ويغتصب ويدمّر، طاغياً خائفاً، فيسود القطاعات البشرية المتبقية طوفان عارم من القلق والفوضى، ويصبح كل فرد ظالماً أو مظلوماً، أو ظالماً ومظلوماً في آن واحد. في مثل هذه الأوضاع الموحشة القلقة التي قضت على ثلثي البشر، وبقي الثلث الآخر بين الأنقاض والأشلاء والرماد يعاني الموت بالتقسيط، ينطلق صوت العدالة والسعادة فتمتصه المشاعر قبل الآذان، وتصفق له القلوب قبل الأكف. والناس إذا أصيبوا يبحثون عن الملجأ مهما كان، فكيف إذا كانت الإصابة رهيبة كتلك والملجأ وديعاً مثل هذا؟ في حين الظهور: 7- إن الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) عندما يظهر بفتح طريقه بقوة السلاح من الحجاز عبر سوريا والأردن إلى فلسطين، وهناك يذهب إلى بيت المقدس لأداء الصلاة، وحينما يتقدم الصفوف ويهم بتكبيرة الإحرام، ينزل المسيح (عليه السلام) من السماء الرابعة إلى بيت المقدس، فيتراجع الإمام المهدي (عليه السلام) من المحراب ويقول للمسيح: (تقدم فصلِّ بنا يا روح الله) فيأخذ المسيح (عليه السلام) بعضد الإمام المهدي (عليه السلام) ويعيده إلى المحراب، ويقول له: (بك تقام الصلاة) فيتقدم الإمام المهدي ويقتدي به المسيح، وعندما يرى المسيحيون أن المسيح يصلى خلف المهدي يؤمنون به بلا قتال. والمسيحيون - اليوم - يشكلون الأكثرية الساحقة في الدول الكبار، فإذا استسلمت له الدول الكبار، فإن بقية الدول تعلن ولاءها له رغباً ورهباً. ونحن نرى - في أيامنا هذه - أنه ﻻ يظهر ثائر، إلا ويشغل كل الدوائر السياسية في العالم، ويضع كل أفراد شعبه أيديهم على قلوبهم خشية بطشه، رغم أن الثائر ليس إلا رجلاً عسكرياً استخدم تكتيكاً معيناً للسيطرة على عاصمة بلاده، ورغم أن الناس تعودوا أن يستفيقوا على الثورات، وعرفوا حدود الثورات، ووجدوا أن الثائر صبيحة ثورته أكثر الناس فزعاً من المعاكسات، فيبادر إلى غلق الحدود مع جيرانه، والمفاوضة مع السفارات المعتمدة في بلاده، والمعسكرات النائية، وربما يتنازل لها عن كثير من كرامته وكرامة بلاده، للاطمئنان على حياته. فكيف إذا ظهر قائد فتح مجموعة من البلاد وأسقط عدة حكومات، واستسلمت له الدول الكبار خلال أيام؟ الولاية التكوينية للإمام (عليه السلام): 8- في الأحاديث المنقولة بهذا الخصوص دلالات واضحة على أنه يستخدم ولايته التكوينية لبسط سلطانه على الأرض، فهو وعد الله الذي ورد في القرآن: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ﻻ يشركون بشي شيئاً...). فإذا شاء الله أن يمكّنه في الأرض كما مكّن سليمان ويوسف (عليهما السلام)، فإن الأمر لا يحتاج إلى أن نجهد نحن للتعرف على كيفية انتصاره. نشر العدل العام: 9- بالإضافة إلى أنه يطمئن الناس إلى عدالة قضيته، عن طريق المعجزات التي تحفّ بحركته، وعن طريق إظهاره مواريث الأنبياء، وإذا اطمأن الناس إلى عدالة شخص أسرعوا إلى التجاوب معه. والناس دائماً يلتفون حول من يحسن رفع شعار الحق وإن كان مبطناً بالباطل، فكيف إذا اطمأنوا إلى شخص أنه حق ﻻ يشوبه باطل. ظاهرة التشكيك في حياته (عليه السلام): - الظاهرة الثالثة، وهي ظاهرة التشكيك في حياته حتى الآن... ويمكن مناقشة هذه الظاهرة علمياً ودينياً. تفنيد التشكيك علميّاً: 1- أما مناقشته علمياً فكما يلي: الأول: إن التفوّق موجود في جميع الموجودات، ابتداءً بالجمادات والنباتات وانتهاءً بالحيوان والإنسان، وذلك على إثر تغيير بسيط في التركيب الكيمياوي أو الفسيولوجي... ففي الأجرام الفضائية توجد نجوم تفوق جميع النجوم في حجمها وكهربتها وعمرها نتيجة لتوفر مواد فيها غير متوفرة في بقية الأجرام الفضائية. وفي النباتات تظهر نباتات متفوقة في الحجم والفاعلية، وهكذا في الحيوان والإنسان. والعاديات تشكل طبقة مألوفة، ثم ترتفع فوقها طبقة المتفوقات، التي تعلو عليها جميعاً قمة المتفوقات، وتكون خارجة على المألوف وخارقة للعادة بفاصل كبير، وإذا كان لكل فصيل من الكائنات متفوق يظهر في زمان، فماذا يمنع أن يكون الإمام المنتظر قمة العمرين، وظهر في هذا الزمان لفارق في تركيبه الجسماني. ولا نريد أن نملأ الصفحات بذكر النماذج المتفوقة، فإن دراسة لعلوم الطبيعيات تشهد بوجود التفوق في جميع المخلوقات. الثاني: إن العلم ﻻ يستطيع أن ينفي شيئاً، لأنه ليس إرادة تفرض على الكائنات، وتحدد مسارها، وإنما هو انطباع حاصل من استقراء بعض الكائنات، وليس حاصلاً عن استقصائها جمعاء، لأن البشر وإن استطاع استقصاء جميع المصاديق المعاصرة من فصيل مطروح للدرس، فإنه ﻻ يستطيع استيعاب الزمان حتى يستقصي جميع المصاديق، فيأخذ عنها انطباعاً مطمئناً إلى اعتماده على الاستقصاء، واستقراء بعض المصاديق يولد انطباعاً يصلح لتوسيع (أرشيف المعلومات) ولا يولد قاعدة ثابتة يمكن الاعتماد عليها للحكم على ما لم يتم استقراؤه من المصاديق. وقد ثبت في (علم المنطق): (أن الجزئي ﻻ يكون كاسباً ولا مكتسباً) ويعني بالجزئي كل استقراء لم يستوعب الكل ولو بانفلات مصداق واحد. لذلك يبقى العلم التجريبي في نطاق (النظرية) أو (الانطباع) الذي يصلح لإعطاء فكرة عن الفصائل المدروسة، ولا يصلح قاعدة لمعرفة كل مصاديق هذه الفصائل، فلهذا نجد الكائنات تواصل تطورها وتوالدها، ونجد العلماء يسيرون خلفها لالتقاط مزيد من الصور. لتوسيع أرشيف معلوماتهم، وهم يغيّرون معلوماتهم كلما وجدوا نموذجاً يختلف عن النماذج المعروفة. - مثلاً كانوا يقولون بوحدة أصل الأنواع، وبأن القرد أصل الإنسان، ثم غيّروا معلوماتهم بهذا الخصوص. - وغيروا معلوماتهم حتى الآن عدة مرات في تحديد تاريخ الإنسان على الأرض. - وغيروا معلوماتهم في طريقة تكوّن الأرض، وفي المواد التي يتكون منها النفط. وغيروا معلوماتهم بالنسبة إلى أشياء كثيرة فيما يتصل بالأجرام الكونية، والشهب والزلازل، والمعادن، وعدد العناصر الأولية للكون، والطب وغيرها... حتى أصبح تغيير المعلومات شيئاً سهلاً ومألوفاً ﻻ يفاجئ أحداً ولا يعاب عليه أحد، فما من كشف جديد إلا ويساوي تغيير سلسلة من المعلومات: والعلماء يرون اليوم أن تركيبة جسم البشر المعروف حالياً ﻻ يتحمل البقاء طويلاً، وهم يبحثون عما يساعده على البقاء لفترة أطول. وهذا يعني عدم استحالة البقاء الطويل، كما يعني أنهم يتوقعون العثور على وسيلة للبقاء الطويل، فلا مفاجئة إذا عرفوا شخصاً عثر على تلك الوسيلة وجربها في نفسه. الثالث: لقد توصل علم الطب إلى أن الجسم البشري صالح للبقاء الطويل إذا لم يتعرض لنكسات صحية، ذلك أن الجسم مركب من خلايا عادية وخلايا نبيلة، فالخلايا العادية، وإن كانت تستهلك بسرعة على أثر الفعاليات العضلية، إلا أن الجسم مزود بأجهزة لتوليد كل أنواع الخلايا العادية التي يحتاجها الجسم. والخلايا النبيلة وإن كان عددها معيّناً منذ الولادة، ولا يوجد في الجسم جهاز لتوليد بدل ما يتحلل منها، إلا أنها قوية وصالحة للقاء الطويل إن لم تتعرض لصدمات. صحيح أن الإنسان قد يولد وهو يحمل في داخله آفات تفتك به من الداخل باستمرار، وصحيح أن البيئة المعاصرة ملوّثة تحرم جسم الإنسان من الظروف الصحية الملائمة، ولكن هذا ﻻ يعني أنه ﻻ يمكن لأي إنسان أن يتخلص منها، فإذا ولد إنسان سليماً من الآفات الداخلية، وتخلص من البيئة الملوثة، فالمفروض أن يعمر طويلاً. الرابع: إن تجارب التحنيط أثبتت أن الجسم البشري قابل لمقاومة الزمان مدى السنين، بمسحة بسيطة من مواد كيماوية اسمها (المومياء) وخلايا جسم الميت - رغم عدم تجددها - إذا كانت صالحة للبقاء، فهل تكون خلايا جسم الحيّ - مع تجددها - غير صالحة للبقاء، غير أن البشر استطاع أن يعرف وسيلة لحفظ جسم الميت ولم يستطع أن يعرف وسيلة لحفظ جسم الحيّ، ولكن نجاح التحنيط ألقى الضوء الأخضر على طريق البقاء. الخامس: إن التشكيك في طول عمر الإمام المنتظر ناتج من (استبعاد) أن يعيش إنسان أكثر من ألف عام في الوقت الذي ﻻ يعيش الناس - غالباً - مائة عام، و(الاستبعاد) ليس دليلاً علمياً، فكل علماء الأمس كانوا يقولون: (استبعاد) أو(استحالة) جميع حصائل العلم الحديث اليوم، وكل علماء اليوم يقولون: (استبعاد) أو(استحالة) أشياء ستحقق في الغد. فـ(الاستبعاد) ليس دليلاً يمكن الاعتماد عليه لنفي شيء. تفنيد التشكيك دينياً: 2- وأما مناقشته دينياً فكما يلي: الأول: تقول المصادر الدينية بأن العديدين من البشر عاشوا طويلاً، فالنبي نوح كانت فترة رسالته قبل الطوفان تسعمائة وخمسين سنة كما يقول القرآن الكريم: (فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان)(4) وحياة نوح وسعت ثلاث مراحل، المرحلة الأولى، تبدأ بميلاده وتنتهي ببعثته رسولاً إلى قومه. المرحلة الثانية، تبدأ ببعثته رسولاً إلى قومه وتنتهي بالطوفان، المرحلة الثالثة تبدأ بالطوفان وتنتهي بوفاته. وفي بعض الحديث أن مجموع حياته بلغت ألفين وخمسمائة سنة(5). والحضر وإلياس كانا من قبل موسى بن عمران، ولا زالا حيين يرزقان. وعيسى ابن مريم ولد قبل حوالي ألفي سنة وعاش إلى اليوم، ولن يموت قبل أن ينزل من السماء، ويوجّه المسيحيين إلى الدين الحق، كما يقول القرآن: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) [سورة النساء: الآية 159](6). والأعور الدجال كان قبل أيام النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ولا زال حياً. وسيبقي حتى يقتل بيد عيسى ابن مريم عند ظهور الإمام المنتظر، وعوج بن عناق - سبط آدم - عاش ثلاثة آلاف سنة حتى قتله موسى بن عمران. حسب النصوص الواردة في شأنه. وإذا عاش غير الإمام المنتظر طويلاً فماذا يمنع أن يعيش الإمام المنتظر طويلاً، وهو لم يبلغ حتى الآن من العمر ما بلغه أولئك. سؤال: إذا كان الإنسان القديم يعيش طويلاً، فلأن معدل الأجسام والأعمار لكل الكائنات الأرضية كان أعلى نتيجة لفتوّة الأرض وقوة حرارتها الباطنية، أما في هذه الفترة من عمر الأرض، التي انخفضت فيها حرارة الأرض الباطنية، وبالتبع انخفضت معدل جميع الكائنات الأرضية فلا يمكن لإنسان أن يعيش أطول من المعدل بكثير. جواب: أولاً: صحيح أن نسبة الحرارة الباطنية للأرض تنعكس على معدلات الكائنات الأرضية، ولكنها ليست السبب الوحيد لتحديد تلك المعدلات، فالتركيبات الكيمياوية هي التي تقرر المعدلات، وحرارة الأرض تساهم في تقرير المعدلات عن طريق انعكاسها على التركيبات الكيمياوية، فإذا أمكن التوفير على تلك التركيبات ارتفعت المعدلات حتى مع انخفاض حرارة الأرض، وإذا حدث التهريب لنسبة معينة من تلك المركبات انخفضت المعدلات حتى مع ارتفاع حرارة الأرض. ومن هنا تسود الأوساط العلمية فكرة تسميد الكائنات النباتية والحيوانية بالمواد الكيمياوية لتصعيد معدلاتها. ثانياً: إن أكثر المعمرين الذين ذكرناهم ﻻ يعتبرون من الإنسان القديم، لأنهم لازالوا أحياء حتى اليوم، كالخضر وإلياس والمسيح والدجال. الثاني: تؤكد النصوص المبشرة بالإمام المنتظر، على أنه هو المهدي بن الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنه هو الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن تملأ ظلماً وجوراً، وقد وردت بشأنه تلويحات سماوية في الكتب المقدسة، وتصريحات نبوية عن جميع الطرق الإسلامية، والنصوص التي تصرح باستمرار حياته حتى يظهر ويظهر الله به دينه على الدين كله مستفيضة إن لم تكن متواترة. والأحاديث التي وصلتنا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حول المهدي المنتظر. ونسبه ومواصفاته النفسية والجسدية. تتجاوز ألف حديث (نذكر في هذا الكتاب قسماً منها) وردت بجميع الطرق الإسلامية وتتواجد في كافة الصحاح والمجاميع المعتبرة، وبأسانيد فيها مجموعة موثقة لدى جميع المسلمين. وهل باستطاعة مسلم أن يجد هذا الحشد الكبير من الأحاديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثم ينكر محتواها؟ مع العلم بأن المسلمين يأخذون بالخبر الواحد. وبالسند الواحد إذا كان موثقاً. الثالث: إن الناس - عادة - إذا وثقوا بشخص أو بمصدره يقبلون كل ما يصلهم منه ويخطئون أنفسهم إذا لم يستطيعوا هضم بعض ما يصلهم منه، فأنت تضع نفسك في كف قائد طائرة تقلها، وأنت ﻻ تعرف شخصه ولا شيئاً من خبره ثقةً بإدارة شركة طيران ﻻ تعرف شيئاً منها، رغم كل ما تسمع وتقرأ عن أخطاء قادة الطائرات، وربما تسلم قلبك أو دماغك لمبضع جراح، ثقة في المعاهد التي تخرّج الأطباء، رغم كل ما يتناهى إليك من زيف الشهادات ومداهنة المعاهد لطلابها، والجندي يخوض معركة ساخنة فيها الموت، ثقة بقيادته التي قد يعرفها بالطيش والمجون... وهكذا الناس يتعاملون مع المصادر التي استقطبت ثقتهم فيما يفهمون وفيما ﻻ يفهمون من توجيهاتها اتكالاً على ثقتهم بها، ويسفهون أنفسهم فيما يستغربون تطميناً لتلك الثقة أن ﻻ تخدش. فالأحرى بمن آمن بالله ورسله ورسالاته، إيمان العقل والقلب والضمير. أن ﻻ يتردد في قبول ما قد يبدو له لديه مستغرباً أو مستبعداً، خاصة وهو يعلم أن قدرة الله مطلقة، وأن الله ﻻ يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وإذا سألت أحد المؤمنين بالله: هل يستطيع أن يخلق من هذه الأرض. ومن مثل هذه البيئات المعاصرة، إنساناً يعيش بكامل نشاطه النفسي والجسدي ملايين السنين دون أن يهدّه الزمان؟ فسيكون الجواب حتماً بالإيجاب. وطالما هو يحمل مثل هذا الإيمان بقدرة الله، فكيف يمكن له أن ينكر أو يشكك في حياة إنسان عاش ألفاً واحداً من السنوات، بعد أن ثبت في الأوساط المعبرة عن الله، أن الله خلق هذا الإنسان، ولا يزال يهيئه لإحداث تطور عالمي كبير. فالإيمان بالله، والعلم بأن رسول الله قد أخبر بالإمام المنتظر، ﻻ يتوافقان مع إنكاره أو التشكيك فيه مهما كانت المبررات. والذي ينكر الإمام المنتظر أحد شخصين: إما غير مؤمن بالله في قرارة نفسه وإن تظاهر بالإيمان، فيأخذ بمعطيات عقله على حساب مقتضيات إيمانه. وإما شاك في أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أخبر بالإمام المنتظر. فعلينا أن نحول الشخص الأول على الأدلة التي تقول بأن وجود إنسان ألف عام أو أكثر ممكن علمانياً، وأن نحول الشخص الثاني على المصادر التي يأخذ منها دينه ليجد فيها وجه الإمام المنتظر.
|
1- يلاحظ قوله تعالى: (وكانوا يستفتحون على الذين كفروا) - إلى آخره - وغيره ويلاحظ تفاسير القرآن عند الحديث عن ذلك. 2- إنما ذكرنا لفظ الكفاءات أيضاً تمشياً مع من يفرون من الألفاظ لنستوقفهم كي يتذكروا ويتدبروا وإلا فالمعجزة كفاءة خاصة جعلها الله تعالى في أفراد معينين من البشر. 3- يبقى في مجال التحليل الروحي البحث، بحث لم أعرف من سبق إليه، ولعلي أول من يطرحه، ولا أطرحه لاتخاذ موقف معين، وإنما ليكون إشارة الضوء على هذا الطريق الذي قد يعود بحصائل ترفد كثيراً من الغوامض، وتساهم في الإجابة على العديد من المعضلات الروحية. وتمهيداً لهذا البحث الذي سوف أطرحه في صيغة سؤال نقول: يمكن أن نسمى مجتمع إبراهيم الخليل بـ(مجتمع الإيمان والتسليم) فالناس كانوا - بعد الطوفان مؤمنين ومسالمين، ولكنهم أخطئوا في توجيه الإيمان إلى الأصنام ونمرود، ونمرود ذاته وجد أن الإيمان هو الطابع العام فاستغله لمصلحته الشخصية وصنع الجنة والنار، وحمورابي وجد أن التسليم ظاهرة عامة فاستغله لوضع قانونه، وإبراهيم الخليل في حد ذاته كان إيمانياً، والجانب الإيماني أبرز ظاهرة طبعت حياته، فشيد الكعبة، وكرس المجتمع في اتجاه العبادة، وشرع الحج. ويمكن أن نسمي مجتمع موسى بن عمران بـ(مجتمع السحر والعسكر) فاتجه الناس إلى استلهام القوى المنظرة والخفية، فعبدوا رمز القوة، فرعون، وخنعوا بجنوده، وقدسوا سحرته، فكانوا مع القوة ولكنهم أخطئوا في تحديد القوة التي يصح اتّباعها، وموسى بن عمران (عليه السلام) كان رمز القوة في أعلى درجاتها، فهو رسول الله الذي خلق السماوات والأرض، وقد انتزع فرعون من عرشه وغلوائه، وأطبق البحر عليه وعلى جنوده، وأتى بتسع آيات بينات أذهلت جميع المتعاملين مع القوى الخفية حتى (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون). [سورة الأعراف: الآية 121 - 122]. ويمكن أن نسمي مجتمع عيسى ابن مريم بـ(مجتمع الطب والمغيبات) فاتجه الناس إلى الأطباء والمخبرين عن المغيبات، حتى منحوهم السيادة والقيادة، واتبعوهم في كل ما يقولون وما يتنبئون. وتكريم الأطباء مقبول، فالطب علم إنساني مستحب، واحترام المخبرين عن المغيبات معقول - إذا كان معتمداً على أسس مشروعة - ولكن المغالاة في حقهم حتى اتّباعهم في الإلحاد، وتقديم كلمتهم على كلمة الأنبياء مرفوض، وعيسى ابن مريم (عليه السلام) تجلت معجزاته في تحديات فسيولوجية، جسدية، يمكن تنظيرها بالطب من صياغة طين بهيئة الوطواط والنفخ فيه لينطلق طيراً في الهواء، وشفاء المصابين بالأمراض المستعصية بمسحة يد، وإحياء الأموات - الذين ابيضت عظامهم في ظلام اللحود - بكلمة، وفي الإخبار عن المغيبات حتى ما يكتنزه الناس في بيوتهم. ويمكن أن نسمي مجتمع الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بـ(مجتمع البلاغة والسيف) فاتجه الناس إلى عبادة البلاغة والسيف، فلم يكن يستحوذ على مشاعرهم إلا رجل البلاغة، ولم يكن يهيمن على حياتهم إلا رجل السيف، والبلاغة في التعبير فضيلة، والسيف لفتح الطريق أمام الحق لابد منه، والانحراف في ذلك أن يكون رجل البلاغة أو السيف حاكماً غير مسؤول. والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بلغ في البلاغة درجة التحدي العام المطلق (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) [سورة البقرة: الآية 23 - 24]. وبلغ في مقدرته على حمل السيف، أن أعاد الجزيرة إلى صوابها دون أن يقتل سبعمائة رجل، وكانت قبله دولاب دم، ومفرمة بشرية. وإذا استعرضنا مجتمعات الأنبياء نجد التجانس بينها وبينهم، بفارق واحد، وهو أنها كانت على باطل، وأنهم كانوا على حق. إذن فالتجانس بين الأنبياء ومجتمعاتهم موجود وواضح: والسؤال هو: هل المجتمعات هي الأصل، والأنبياء كانوا امتداداتها؟ أو أن الأنبياء هم الأصل والمجتمعات كانت امتداداتهم؟ مع العلم أن ما يؤيده الاختبار الخارجي والقرآن والكريم والسنة المطهرة هو الثاني دون الأول. وبتعبير أوضح: هل المجتمع هو الذي يتقلب في أطواره المختلفة، فتقوده محركاته الذاتية في كل بضعة قرون إلى طور معين، نتيجة لتفاعلاته الداخلية المعقدة، كما يغير النهر مجراه بعوامله الخاصة، وكما تغير الأرض مظاهرها الجغرافية وفق معادلاتها الباطنية، فتجعل من قاعات بحار قمم جبال، وتجعل قمم جبال قاعات بحار. أو أن الأنبياء - وأصحاب الولاية منهم بصورة خاصة - طاقات كونية كبيرة، فهم المحركات الأساسية للمجتمعات، فحينما يتجه أي واحد منهم إلى الوجود البشري، تسبقه موجاته وخصائصه إلى المسرح البشري - وهذه ما تسمى في لغة العصر الحديث بـ(الارهاصات) - فتلقفها المشاعر المرهفة في الناس، وإن كانت محطات الاستقبال الشعورية، تلونها في كل فرد بطابعها الخاص، فتظهر موجاته وخصائصه من خلال كل واحد بشكل، فينال كل فرد زخماً جديداً يرفعه إلى مستوى أعلى من مستواه الذي كان عليه قبل اتجاه نبي زمانه إلى الوجود البشري، ولا ينافي ذلك أن يزداد السعيد سعادة وأن يزداد الشقي شقاوة. تماماً كالنجوم، فكل نجمة تقترب من الأرض، تسبقها كهربتها الخاصة إلى سطح الأرض، فتكون زخماً جديداً ينشط الكائنات الحية وإن كانت تلك الكهربة - نتيجة للتفاعلات المختلفة - تصطنع في كل كائن حي بطابعه، فتكون حدة في الشوك وسماً في الأفعى، وروعة في الوردة، ووهجاً في المعادن. أرأيت الشمس، كيف يبادر شعاعها إلى الأفق؟ ثم كيف يعزز ذلك الشعاع في المواشير؟ وكيف يطبع بطابع الزجاجات المختلفة التي يمر عبرها؟ وكيف يمنح العيون صفاءً ويزيد الفحم عتمة، ويعطي الصخر صلابة، ويعقد في السنبلة حبة، ويخلع على الأشجار وشاحاً أخضر؟ هكذا نجد خصال كل نبي في قومه، والسؤال الذي بدأنا به: هل النبي أخذ خصاله من قومه، وبلورها في صيغة نبوية؟ أو أن النبي منح خصاله لقومه، فطبعها كل واحد منهم بطابعه الخاص به؟.. ولا شك أن الثاني هو الصحيح الذي دلت عليه الآيات والروايات والواقع الخارجي. وإذا أردنا الانتقال من أوضاع الأنبياء وتفاعلاتهم مع مجتمعاتهم إلى وضع الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وتفاعلاته مع مجتمعه، نجد أن خصائصه بدأت تظهر على المسرح البشري منذ أوائل القرن العشرين، فأبرز خصائصه (العلم والقوة) علم يستثمر كل طاقات الأرض والفضاء، فيعيش كل فرد حتى يرى ابناً من صلبه دون أن يكتسحه بؤس أو عناء، وقوة تلف الأرض براية واحدة، وتدع الذئب يرعى مع الغنم في قطيع، وقد بدأ العلم والقوة يطبعان المجتمع البشري كله وفي كل المجالات، بشكل سريع يوحي بأن نجمة العلم والقوة قد اقتربت من الأفق، وحان ظهورها للأبصار. 4- سورة العنكبوت: الآية 14. 5- وهنا يحاول البعض التخلص من دلالات القرآن والتاريخ على أن الإنسان قد يعيش طويلاً، فيقول: (إن العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون السنين والحساب، ولم يكونوا يفهمون من الظاهر الكونية سوى القمر، فكانوا يحسبون به الأيام، فكان الشهر عندهم سنة، فإذا قالوا خمسين سنة - مثلاً - عنوا خمسين شهراً). ويمكن الإجابة على هذا القول: أولاً: إن العرب في الجاهلية لم يكونوا بهذا المستوى. ثانياً: إن التعبير بالسنة لم يكن مختصاً بالعرب، فكل الناس كانوا يضبطون أعمارهم وأعمالهم بالسنة كما كانوا يضبطونها بالشهر وبالأسبوع وباليوم وبالساعة. ثالثاً: إن صح هذا القول فعلينا أن نعدل جميع التواريخ، فكلما وردت كلمة (سنة) نبدلها بكلمة (شهر). رابعاً: علينا بعد ذلك أن نُخطّئ كل التواريخ، لأنها تقول - مثلاً -: فلان عاش سبعين سنة، وتزوج (كذا) من النساء ورزق (كذا) ولداً، وفتح (كذا) بلداً، مما ﻻ يمكن أن يقوم به طفل كل عمره أقل من ست سنوات. خامساً: إن النصوص الإسلامية التي تحدد أعمار نوح وخضر وإلياس و... نصوص لم تصدر في الجاهلية، وإنما صدرت في الإسلام. سادساً: إن القرآن بنفسه يتولى تحديد مفهوم السنة في كل الشرائع، فيركز على أن السنة تهني اثني عشر شهراً في كل الديانات، لأن الله قررها هكذا منذ الأزل، فيقول: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم...) [سورة التوبة: الآية 36]. ولا يمكن أن يعلن القرآن هذا القرار بمثل هذا الزخم، ثم يخرج القرآن ذاته على هذا القرار فيستخدم المفهوم الجاهلي للسنة. 6- قد يناقش في ذكر عيسى ابن مريم مع بقية العمرين، بأنه يعيش في السماء، فهو خارج عن نطاق هذا البحث، الذي يدرس حدود حياة إنسان الأرض، ولا يحاول دراسة حدود حياة إنسان السماء التي قد تكون حياة روحية أشبه بحياة الملائكة. وقد نجيب على هذه المناقشة بما يلي: الأول: صحيح أن الحديث مكرس لمعرفة دود حياة إنسان الأرض، ولكن عيسى ابن مريم إنسان الأرض، وقد عاش فترة من عمره على الأرض، وسيعيش فترة أخرى من عمره على الأرض، وبين هاتين الفترتين يمضي فترة من عمره في السماء وهذا ﻻ يخرجه من نطاق إنسان الأرض. الثاني: إن أرضنا هذه وكل الأجرام السابحة في الفضاء وكل السماوات داخلة في نطاق الدنيا، فعالم الأرض وعالم السماء عالم واحد، ولعل مقاييس الجسم البشري فيهما واحدة. الثالث: إن عيسى ابن مريم يعيش الآن في السماء مجسمة الترابي، ولا يعيش بروحه عيشة روحية كالملائكة، وحينما يرجع من السماء إلى الأرض يرجع بجسمه الترابي، وتأكيد القرآن على أن لم يقتل ولم يصلب، للدلالة على أن الله رفعه إليه بجسمه الترابي، وإلا لم تكن مزية لعيسى ابن مريم على غيره، فكل الأموات يرفعون بأرواحهم إلى الله. |