فائدة الإمام الغائب |
الظاهرة الرابعة: وهي ظاهرة التشكيك في فائدة الإمام الغائب، فيمكن مناقشة هذه الظاهرة بما يلي: الولاية التنفيذية: 1- إن الإمام - بمفهومه اللغوي - مطلق من يُؤتم به، أي يُقتدى به، سواءً كان المقتدي به كثيراً أو قليلاً وسواء أكان الذي يقود عبره حقاً أو باطلاً، فإمام الجماعة إمام لأن من هم خلفه يقتدون به في تنظيم حركات الصلاة، ورئيس الدولة إمام لأن من هم في دولته يتقدون به في تنظيم تصرفاتهم الجسمانية، والنبي إمام لأن من هم في محيط دعوته يقتدون به في تنظيم تصرفاتهم الروحانية فقط، إذا كانت رسالته روحانية بحتة، أو يقتدون به في تنظيم تصرفاتهم الروحانية والجسمانية معاً، إذا كانت رسالته روحانية وجسمانية معاً. وبما أن الإمام - بمفهومه اللغوي - مطلق من يُقتدى به، بغض النظر عن نوعية الخط الذي يقود عبره، عبّر الله تعالى عن الفراعنة، بـ(أئمة) فقال: (... وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) [سورة القصص: الآية 41] كما عبّر عن الأنبياء من أولاد إبراهيم (أئمة) فقال: (... وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [سورة الأنبياء: الآية 73]. والإمام - بمفهومه الاصطلاحي - كل من يخوله الله قيادة تكوينية، وإذا لم يخوله الله قيادة تكوينية، فليس إماماً، حتى ولو كان نبياً، وحتى ولو كان رسولاً، وهكذا يختلف مفهوم (الإمام) عن مفهوم (النبي) كما يختلفان عن مفهوم (الرسول). وإذا أردنا إيضاح الفارق بين هذه المفاهيم علينا أن نقول: النبي والنبوة: أ - (النبي) هو الذي ينبئه الله ويخبره مباشرة بما يشاء، والنبوة رتبة ينالها كل من علم الله تعالى فيه كمالاً روحياً يؤهله للاطلاع على ما وراء المحسوسات بالحواس الخمس، فيمنحه الله سبحانه قدرة على رؤية ما وراء الحجب والمسافات ورؤية الروحانيات كالملائكة والجن والشيطان وقد سجل الله تعالى هذين الأمرين لإبراهيم الخليل (عليه السلام) في القرآن حيث قال: (... وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات) [سورة الأنعام: الآية 75]. كما أن الله يمنحه كرامة عظمى، فلا يتصل به بواسطة رسول من الناس، وإنما يتصل به وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل إليه رسولاً من الملائكة، فيكون متصلاً بالسماء مباشرة، وإن كان قد يأمره الله بالتنسيق مع نبي معاصر له، أو باتباع رسول سبقه، مع بقائه نبيّاً ينبئه الله بصورة مستقلة ومباشرة. فيشبه - في العرف الدوبلماسي - السفير الذي تأتيه الحقيبة الدوبلماسية مباشرة، ولا يكون كالقنصل الذي يستقبل الأوامر الصادرة إليه من حكومته بواسطة سفير، وقد نصت بعض الأحاديث الشريفة على أن الرسل سفراء الله. والنبي قد يؤمر برسالة معينة إلى الناس فيكون نبيّاً رسولاً وقد ﻻ يؤمر برسالة إلى الناس، وإنما بمهمات خاصة خارجة عن لطاق الشرائع، فيكون نبياً غير رسول. الرسالة والرسول: ب - و(الرسول) هو الذي يؤمر - من قبل الله - بتبليغ رسالة معينة، سواء أكانت تلك الرسالة موجهة إلى أناس معينين أو إلى الناس أجمعين، فبخصوص يونس بن متّى يقول الله تعالى: (... وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)(1). بينما يقول للنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله): (... وما أرسلناك إلا كافة للناس)(2) وسواء أكان ذلك الرسول مأموراً من قبل الله مباشرة أو بواسطة رسول من الناس، فمثلاً قال الله تعالى لموسى بن عمران - عنه وعن أخيه هارون -: (... اذهبا إلى فرعون)(3) و(اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)(4). فيما قال عن ثلاثة من رسول عيسى ابن مريم: (... إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث)(5). وفي بعض الحديث، أن هؤلاء الثلاثة لم يكونوا ممن يستقبلون الرسالة مباشرة من قبل الله، وإنما كانوا من المؤمنين برسالة عيسى ابن مريم. و(الرسالة) شريعة، قد تكون شاملة تعطي فلسفة الكون والحياة والإنسان وتنظيم نشاطات الإنسان بجانبيها الروحي والمادي، وربما تكون محدودة تعطي فلسفة الكون والحياة والإنسان فقط، أو تنظم النشاطات الروحية فحسب. وربما تكون محصورة بتصحيح بعض الأخطاء الطارئة على مسيرة قوم مؤمنين. و(الرسالية) صلاحية يخولها الله تعالى لمن تتوفر فيه مواصفات تؤهله لحمل رسالة السماء إلى الناس، وهذه المواصفات يلزم أن تبلغ درجة (العصمة) في مستوى رفيع حتى تؤهل صاحبها لاستقبال الرسالة مباشرة من السماء، ويلزم أن تبلغ درجة (العصمة) في مستوى أقل من ذاك حتى تؤهل صاحبها لاستقبال الرسالة من رسول من الناس. فالرسول إذا تلقى رسالته مباشرة من السماء أصبح رسولاً ونبياً، كما يقول الله بحق إسماعيل (عليه السلام): (وكان رسولاً نبياً)(6)، وإذا تلقى رسالته من رسول من الناس، أصبح رسولاً غير نبيّ - في بعض المصطلحات. الإمامة والإمام: ج: و(الإمام) هو الذي يؤمر من قبل الله بـ(الولاية التنفيذية) سواء أكان الإمام رسولاً، مثل إبراهيم الخليل الذي خاطبه الله تعالى بقوله: (إني جاعلك للناس إماماً)(7). أو كان نبياً غير رسول، مثل الألوف من الأنبياء الذين لم يصلنا حتى أسماؤهم أو لم يكن نبياً ولا رسولاً بل وصياً لنبي مثل آصف بن برخيا وصي سليمان بن داود، ومثل يوشع بن نون وصي موسى بن عمران. والأنبياء الأئمة كثيرون سجل القرآن بعضهم مثل إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب الذين قال عنهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) [سورة الأنبياء: الآية 73]. والإمامة - مثل الرسالية - صلاحية يخوّلها الله كل من تنسج مواصفاته مع (الولاية التنفيذية). وقد ظهرت للناس آثار (الرسالية) وصلاحية (الإمامة) من الله حينما خلق الكون وضبطه بكل عوالمه وخلائقه الكثيرة المعقدة بإدارة شاملة محكمة ﻻ تنفلت منها نبضة عصب ولا حبة مطر، ولا هبة نسيم، ولا أدنى من ذلك ولا أكبر، وتظهر هذه الإدارة في حركات المجرات المخيفة، وفي شبكات الريّ المنتشرة في كافة أنحاء ورقة الكرم، وفي المهمات الحساسة التي تؤديها الخلية المجهولة في دماغك، وفي التفاعلات الدقيقة التي تنجزها مليارات الأشعة الفاعلة في الكون. والناس عندما يجدون البروتين الموجب يدور حول البروتين السالب (كذا) دورة في الثانية، يقولون البروتين الموجب يدور حول البروتين السالب، ولكنهم ﻻ يتساءلون: من الذي يدير هذه حول تلك؟ وعندما يرون حبات المطر تتساقط هنا ﻻ هناك، يقولون: السيول تجتاح هذه المنطقة، والمواشي تموت في تلك المنطقة على إثر الجفاف، ولا يتساءلون من الذي أسقط المطر هذه المنطقة وحرم منه تلك. وعندما يسمعون بأن فجوات هوائية تحدث هنا بينما هناك يرتفع ضغط الهواء، أو عندما يعرفون مياهاً جوفية هنا، وأطنان الأورانيوم هناك، وحبات ألماس ترقد هناك، يكتفون بالاطلاع عليها والاستفادة منها فحسب، ولا يحاولون التعرف على الجهاز الإداري الذي يؤدي هذه الأعمال، ولا استيعاب الأسباب التي تنتهي بهذه التركيبات، تماماً كالبدوي السائح الذي يدخل مدينة متحضرة بلا مترجم ولا دليل فيري الشاشة الصغيرة هنا تتابع عرض مشاهدها، وهناك هوائية جبارة جامدة تحت الشمس والمطر، وهنالك آليات متحركة تتراكض في خطوط متشابكة من الفجر إلى الفجر، وإلى جانبها غرفة كبيرة تضج بأصوات آلات حديد تتحرك تلقائياً وتعج بالأسلاك متزاحمة متراكبة وفوق البيوت أجسام كبيرة تسبح في الهواء وتزعق بلا انقطاع، وعلى بعض الجدران آلة صماء معلقة يأتي الناس إليها فيرمون النقود في جيبها ويظلون يتكلمون ويضحكون لها وهي ﻻ ترد عليهم. فيذهب إلى نجمة كبيرة مرمية وسط الشارع ليخطفها إلى كوخه فينفضه تيار الكهرباء، ويحاول أن يمرّ الشارع فيصرخ به الرجال، ويريد أن ينام على الرصيف فيقوده رجال الشرطة إلى موقف، ويدخل المطعم ويختار طعاماً يروق له منظره فلا يستطيع تناوله. وتماماً كالطفل الذي يجد أسلحة أبيه، فيحاول التعرف عليها والاستفادة منها في أغراضه الطفولية فتنفجر بين يديه، فتدمره وتقضي على حياته. لابد أنك رأيت في حياتك مثل ذلك البدوي ومثل هذا الطفل. بهذا الشكل يتعامل كبار علماء الطبيعيات مع الكون، فيرون الأشياء وكأنها مبعثرة، وكأن كل شيء يتحرك ارتجالياً وبدافع ذاتي بلا هدف ولا وسيلة ولا خطة، لذلك يجهدون أكثر مما ينبغي، ويهدرون طاقات بشرية ومادية هائلة، ثم يستفيدون أقل مما ينبغي. ويأتي أدلاء الكون ومصادر الوحي، فيقولون: إن الكون كله وحدة مترابطة مشدودة بالأسباب والمسببات، ومسيرة بإرادة شاملة محكمة، فما من حبّة مطر إلا ويأتي بها ملك ليضعها في موضعها المناسب، وما من نطفة إلا ويفصل ملامحها ويخطط جغرافية حياتها وأعمالها ملك، ولا تتحرك ريح ولا موج ولا نجم ولا سحاب إلا ويحركه ملك وفق خطة حكيمة، ولا تنبض خاطرة في دماغك إلا بوحي ملك أو شيطان. صحيح أن الله يصمم جميع الأقدار، وأنه يستطيع أن يدير كل العوالم بلا جهاز إداري، ولكن شاء أن يديرها بجهاز إداري، ففي بعض الحديث: (أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها) كما أن الله قادر أن يرزق جميع الناس من فوق رؤوسهم ومن تحت أقدامهم بلا سعي ولا حاجة أحد إلى أحد. ولكنه شاء أن يرزق الناس بمساعيهم، وأن يرزق بعضهم ببعض. (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا) [سورة الزخرف: الآية 32] وكما أن الله قادر أن يلهم كل واحد من الناس شرائع دينه بلا وسائط، كما ألهم الحيوانات وظائفها بلا وسائط فقال: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً) [سورة النحل: الآية 68] ولكنه شاء أن يعلمهم شرائعهم بواسطة الأنبياء والأوصياء والعلماء. وكما أن الله قادر على أن ينزع خصائص الأرض من الناس ليعيشوا كالملائكة، هوايتهم الهدي وشهوتهم العبادة ولكنه شاء أن يتعرضوا للتجربة، حتى يبلغ كلٌّ مداه فقال: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) [سورة هود: الآية 118]. وكما أن الله قادر أن يوجد جميع الأنواع ارتجالاً من ﻻ شيء، ولكنه شاء - بحكمته البالغة التي لم يؤهلنا لاستيعابها - أن تكون سنة الخلق في مسلسلات متوالدة، هكذا شاء الله أن يوكل الكائنات إلى جهاز إداري هرمي - وأن ﻻ ينفذ شيء إلا بعلمه الدقيق وإرادته المباشرة - إلا أن هذا الجهاز موكل بتنفيذ إرادة الله في خلقه. فوظف مجموعات من ملائكته في هذا الجهاز موكل بتنفيذ إرادة الله في خلقه. فوظف مجموعات من ملائكته في هذا الجهاز أسماهم في القرآن بـ(المدبرات أمراً) [سورة النازعات: الآية 5]. وجعل على كل قسم ملكاً من أعظم ملائكته فوكل (رضوان) بالجنة، ووكل (مالك) بجهنم، ووكل (جبرائيل) بالرسالات والرسل وعقاب المتمردين عليها، ووكل (إسرافيل) بنفخة الصور، ووكل (ميكائيل) بالأرزاق ووكل ملكاً عظيماً اسمه (الروح) بالأقدار، ووكل (عزرائيل) بالأرواح، ووكل ملكاً بالرياح، وملكاً بالبحار، وملكاً بالشمس، وملكاً بالقمر، وملكاً بالأرض، وملكاً بكل سماء من السماوات، وجعل لكل قسم من هذه الأقسام فروعاً، ووظف على كل فروع ملكاً تتناسب مؤهلاته مع مهمته في تسلسل إداري دقيق(8) ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية، رجلاً من البشر يمثل قمة الهرم. وإذا أردنا التشبيه فمن الممكن أن تشبّه الرجل القمة برئيس مجلس الوزراء، وأن تشبّه الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية بالوزراء، وأن تشبه الفروع الممتدة من كل قسم بالمديريات المتفرعة من كل وزارة والرجل القمة في جهاز الإدارة التنفيذية يطلق عليه لقب (الإمام) ويقال له: صاحب الولاية كما يقال له: صاحب العهد. اقتباساً من قوله تعالى: (... ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) [سورة طه: الآية 115]. وإلى جانب هذا الجهاز الإداري الشامل الدقيق الذي يتولى الجانب التكويني للكائنات، يوجد جهاز إداري شامل دقيق آخر، يتولى الجانب التشريعي للكائنات فيما أتاح لها الإرادة المستقلة لإتمام التجربة وهذا الجهاز أيضاً جهاز واسع له أقسام عديدة، وعلى كل قسم ملك من أعظم ملائكة الله، ولكل قسم فروع عليها ملائكة تتناسب إمكاناتهم مع مهامهم، وتتوالى قواعده الهرمية، ويكفي لمعرفة مدى سعة هذا الجهاز أن نعلم: أولاً: أن كل إنسان عليه ملكان يراقبانه ويسجلان تصرفاته حتى النفخة والنأمة أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فيوظف به ملكان بالليل من غروب الشمس إلى شروقها، ويوظف به ملكان آخران بالنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهؤلاء الأربعة إذا تركوه ﻻ يعودون إليه أبداً، ومعنى هذا أنه يوظف كل يوم أربعة من الملائكة بكل فرد. ثانياً: أن في قلب كل إنسان (لمّتان) أي جماعتان: جماعة من الملائكة تأمره بالخير، وجماعة من الشياطين تأمره بالشرّ، وهنا نقطة الاحتكاك الساخنة بين الملائكة والشياطين وموقف الإنسان أشبه بموقف الحكيم، فإذا مال نحو الشياطين ضعفت كتلة الملائكة، وإذا مال نحو الملائكة ضعفت كتلة الشياطين. ومن هنا يجد الإنسان في داخله نازعة الخير ونازعة الشرّ. ثالثاً: أن الله يوكل ملائكة عظاماً بالأنبياء والأوصياء وخيار عباده الصالحين لتسديدهم وتأييدهم، كما يوكل بأنبيائه وأوصيائهم ملائكة يعلمونهم، ويخبرونهم عما يريدون الاطلاع عليه من غيب - في حدود صلاحياتهم - وبهذا يفسر قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) [سورة الجن: الآية 26]. وقوله عز وجل: (... ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) [سورة البقرة: الآية 225]. رابعاً: أن كل نبي أو وصي يستخدم جماعات من البشر لتحمل أعباء التبليغ، وما قد يترتب عليه من احتكاك يؤدي إلى كفاح. هذا الجهاز الواسع أيضاً ركبه الله تركيباً هرمياً، ووكل بكل قسم من أقسامه ملكاً من أعظم ملائكته، ثم جعل فوق الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية رجلاً من البشر يمثل قمة الهرم، وهذا الرجل يكون نبياً أو وصي نبي منصوص من قبل الله، وتشترط فيه مواصفات تبلغ درجة العصمة، لأن الملائكة معصومون، ولا يمكن أن يقود المعصومين غير معصوم. وإذا أردنا التشبيه، فمن الممكن أن نشبه الرجل القمة برئيس المجلس التشريعي الأعلى، وأن نشبه الملائكة الموكلين بالأقسام الرئيسية بأعضاء المجلس التشريعي، وأن نشبه الفروع الممتدة من كل قسم بالمديريات المتفرعة من المجلس التشريعي الأعلى، أو بالمجالس، أو باللجان التشريعية الفرعية. ولا يطلق على الرجل القمة في جهاز الإدارة التشريعية سوى لقب (الرسول). وما دمنا شبهنا جهاز الإدارة التنفيذي بمجلس الوزراء، وشبهنا جهاز الإدارة التشريعية بالمجلس التشريعي الأعلى، فلا بد أن نقول: إن أي تشبيه في هذا المجال ليس تشبيهاً حقيقياً، وإنما هو تنظير لمجرد تقريب أصل الفكرة إلى الأذهان، خاصة ونحن - في الأساس - لا نملك المعلومات الكافية في هذا المجال، لأن المستوى الثقافي في فترة نزول القرآن وصدور الحديث ما كان يسمح بإعطاء معلومات كافية في مثل هذا المجال ولا يزال كذلك. فوارق الأجهزة الإلهية مع الأجهزة البشرية: كما أنه لابد من بيان فوارق هيكليّة بين الأجهزة الإلهية والأجهزة البشرية: 1- في الأجهزة البشرية يكون رئيس مجلس الوزراء غير رئيس المجلس التشريعي، إلا في حالات استثنائية يعطّل فيها الدستور وتعطل فيها الديموقراطية، وذلك لسببين: الأول: ألاّ يتعرض رئيس المجلس التشريعي للضغوط، فيشرع بحرية كاملة ما يمليه ضميره حسب رؤيته للمصلحة العامة، ولا يشرع ما تمليه مصلحته أو مصالح الآخرين بخلاف رؤيته للمصلحة العامة. الثاني: أن يبقى رئيس مجلس الوزراء ووزرائه - دائماً - تحت طائلة الحساب من قبل المجلس التشريعي، فلا تؤثر فيهم الضغوط المختلفة التي يتعرضون لها - باستمرار - من قبل أصحاب المصالح الكبار. بينما في الأجهزة الإلهية كثيراً ما يكون رجل واحد قمة لجهاز الإدارة التنفيذية وقمة لجهاز الإدارة التشريعية جميعاً، وذلك لسببين: الأول: المفروض فيه أنه معصوم. فلا تؤثر فيه الضغوط المختلفة التي يتعرض لها. مع العلم بأنه ﻻ يتعرض للضغوط بمقدار ما يتعرض لها رئيس مجلس وزراء. لأن مسلكية رئيس مجلس الوزراء، ﻻ تختلف عن مسلكية مطلق فرد. فيعرف الناس مداخلة ومخارجه، وغالباً ما يكون وصوله إلى مركزه عن طريق التملق واستجداء الثقة، فيكون مطمعاً للآخرين في الوقت الذي تكون فيه مسلكية النبي أو الإمام مترفعة عن كل ما يغري ويرهب. فتنحسر عنه أطماع أصحاب المصالح الخاصة. الثاني: أنه يرى نفسه - دائماً تحت طائلة الحساب من قبل الله سبحانه وتعالى، فلا يسمح لنفسه بالتفكير في محاورة الضغوط مطلقاً. 2- في الأجهزة البشرية، يكون مجلس الوزراء جهازاً تنفيذياً مستقلاً، فبمجرد انتخاب أعضائه من قبل الشعب، يصبح ذا سلطة مستقلة في التشريع، ويصبح مصدر الشرعية - حسب معطيات الأنظمة الديموقراطية، صحيح أن الملك أو رئيس الجمهورية - في بعض النظم - يكون صاحب القرارات الهامّة، أو رئيس الجمهورية - في بعض النظم - يكون صاحب القرارات الهامّة، أو صاحب الأطروحة التي ﻻ ترد، ولكن هذه ديموقراطية - بمفهومها الكامل - بالإضافة إلى أنه يبقى للمجالس التشريعية حدّ أدنى من الصلاحية وصحيح أن قرارات المجالس ﻻ تصبح سارية المفعول. إلا إذا حملت توقيع الملك أو رئيس الجمهورية، ولكنه نوع من الروتين، فلا تتخذ المجالس التشريعية قراراتها إلا ويوقعها الملك أو رئيس الجمهورية وإذا كانت لديهما نوايا مختلفة فإنهما يبذلان تأثيرهما على المجالس التشريعية حتى ﻻ تتخذ المجالس التشريعية مقررات ﻻ يرغبان فيها، أما إذا فشلا واتخذت مقرراتها، فإنهما ﻻ يترددان - عادة - في التوقيع عليها حفاظاً على الحدّ الأدنى من المبادئ التي يتظاهران بها. فيما يختلف الأمر بالنسبة إلى الأجهزة الإلهية تماماً، فالجهاز التنفيذي - حتى بعد تعيين أعضائه من بل الله تعالى - ﻻ يصبح ذا سلطة مستقلة في التنفيذ، لأنه برمته ليس قادراً على شيء إلا بإرادة مباشرة من الله سبحانه. كما أن الجهاز التشريعي - حتى بعد تعيين أعضائه من قبل الله عز وجل - ﻻ يصبح ذا سلطة مستقلة في التشريع، لأن الله جلّ جلاله، يبقى هو المصدر الوحيد للشرعية، وهو الذي يشرع ما يشاء بحكمته، وأما الجهاز التشريعي فليس - في الواقع - أكثر من جهاز تبليغي، وليست له أية سلطة أو صلاحية في التشريع وإنما عليه أن يبلغ إلى الناس - حرفياً - كل ما يصل إليه من الشريعة من قبل الله تعالى. أسمعت قول الله سبحانه - وهو يخاطب أعم أنبيائه-: (فإنما عليك البلاغ)(9)، (فذكر إنما أنت مذكر)(10) (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشي)(11)، (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً)- (12)، (ولولا أن ثبتّناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً)(13)، (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)(14). صحيح أن لبعض الأنبياء الكبار نوعاً محدوداً من الصلاحية، فمثلاً: إبراهيم الخليل رأى أشياء كالختان، وتقليم الأظافر، وإزالة الشعر من الجسد... فمارسها، فأقرها الله في الدين، وعرفت - فيما بعد - بـ(سنن إبراهيم). ومثلاً: كانت فرائض الصلوات، التي أمر الله نبيه بتبليغها ركعتين ركعتين، فرأى النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يضيف ركعة سبحانية إلى صلاة المغرب، وأن يضيف ركعتين سبحانيتين إلى كل من صلاة العشاء، وصلاة الظهر وصلاة العصر، فأقرّ الله ذلك، وعرفت - فيما بعد - بـ(سنة رسول الله). والواقع أن كل ما ورد من الأحاديث عن سنن المرسلين من أمثال هذين الموردين، لابد أن نوجههما بأحد توجيهين: الأول: أن هذه الأحاديث ﻻ تعني أن المرسلين كانوا يشرّعون بالمفهوم المتداول للتشريع بمعنى سنّ القانون - وإنما تعني أنهم في بعض الأحيان كانوا يخرجون من إطار المعنى الحرفي للنص إلى روح النص، من باب تنقيح المناط، ثم يطبقون المناط المستخلص على المصاديق التي لم ترد في نص الوحي، وكان اجتهادهم صحيحاً، لأنهم كانوا في المستوى المناسب. بدليل إقرار الله سننهم مع أن الله ﻻ يستحيي من الحق، ومع ملاحظة النصوص السابقة التي تحدد صلاحية الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في التبليغ. وهذا يعني أن سننهم كانت حصيلة اجتهادات صائبة، ﻻ أكثر. الثاني: أنهم ربما كانوا يتفاعلون مع أشعة الوحي، بمعنى أنهم كانوا يتلقون نوعاً من الوحي الخفيّ - خارجاً عن نطاق المضمون الصريح للوحي - بحيث ربما كان يتراءى أنه شيء منهم، ثم كان الله تعالى يقرّ ذلك، تعبيراً عن تكريم الله إياهم. وصحيح أيضاً أن في الأحاديث الصحيحة، مجموعة أحاديث تقول: (إن الله أدب نبيّه بتأديبه. ففوض إليه دينه).. وهذه المجموعة من الأحاديث. كانت تاريخياً نقطة الانطلاق لفرقة (المفوّضة) الذين ادعوا بأن الله سبحانه وتعالى اعتزل أمر الشريعة كليّاً. وتركها للنبي يقرر فيها ما يشاء. ويمكن دراسة هذه المجموعة من الأحاديث من منطلقين: الأول: منطلق النقض، بأن هذه المجموعة من الأحاديث - حسب تغيير المفوضة لها - تناقض الآيات التي تحدد صلاحية الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في التبليغ، والحديث متى نقض القرآن سقط. الثاني: منطلق الحلّ، بأن الجزء الأول من هذه الأحاديث يمهد فهم الجزء الثاني منها بشكل آخر، لأن معنى (إن الله أدب نبيّه بتأديبه) أن الله تعالى أعطى لنبيّه مقاييس دينه بشكل تأديبي تركه يتفاعل معها. حتى ﻻ يعبر إلا عنها، ولا يقلع إلا من مواقعها، وعندما بلغ هذا المستوى فوض إليه بيان الحلال والحرام ﻻ سن الحلال والحرام. وهو يعلم أن النبي (صلّى الله عليه وآله) كلما تحرك ﻻ تخرج حركته من نطاق هذه المقاييس. كما أنك قد ترّبي ابنك على عملك حتى ترى أنه تفاعل معه بعمق، وعندئذ تسلم إليه مقاليد عملك مطمئناً إلى أنه - مهما تعامل - لن يخرج - ﻻ في الشكل ولا في المضمون - من المقاييس التي ارتضيتها لعملك. وربما يوحي الحديث الشريف - في وصف رسول الله -: (.. كان خلقه القرآن) بما يشبه معنى تفاعل النبي (صلّى الله عليه وآله) مع المقاييس الإسلامية في صيغة عملية بنفس القوة التي يعبر بها القرآن عنها في صيغة نظرية، وحتى كأنهما وجهان لعملة واحدة، النبي وجهها العملي والقرآن وجهها النظري. وربما يؤكد التحليل الذي ذكرناه لأحاديث التفويض، قول الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(15) وهذا يعني أن النبي عطف هواه على الوحي، حتى لم يبق له هاجس ولا كلام سوى الوحي، وتفويض الله دينه إليه - في مثل هذه الحالة - ﻻ يعني إلا تفويضه صلاحية التعبير عن دينه في بيان الحلال والحرام ﻻ صلاحية التشريع. من كل ذلك نستخلص أنه - في مجال الأجهزة الإلهية - ﻻ توجد سلطة مستقلة، فجهاز الإدارة التنفيذية ﻻ تنفذ شيئاً إلا بإرادة الله، وجهاز الإدارة التشريعية ﻻ تعبر إلا عما شرعه الله، والله تعالى وحده، هو صاحب السلطة المطلقة والمستقلة على الجهازين، وعلى كل ما ينفذانه أو يعبران عنه. 3- في الأجهزة البشرية يكون الاعتماد على الانتخاب فيعتمد في رئيس وأعضاء المجلس التشريعي على الانتخاب العام ليشترك في التشريع كل من له صلاحية إعطاء الرأي، إما بنفسه إذا فاز في الانتخاب - ليكون رئيساً أو عضواً في المجلس التشريعي، وإما بواسطة منتخبه إذا لم يفز هو في الانتخاب، كما يعتمد في رئيس المجلس التنفيذي على الانتخاب العام، عن طريق كسب ثقة أكثرية أعضاء المجلس التنفيذي على الانتخاب ولو عن طريق رئيسه الذي نال الثقة من المجلس التشريعي المنتخب... فيبقى الرأي العام معتمداً - ولو بوسائط - ويبقى الشعب صاحب الحق المطلق في اختيار حكامه واتخاذ قراراته. وأما بالنسبة للأجهزة الإلهية فالاعتماد كله على التعيين فالله هو صاحب الحق الأول والأخير في اختيار قمة وأعضاء الإدارة التنفيذية والإدارة التشريعية، لأنه الوحيد المطلع على ما في أعماق النفوس، وما وراء النوايا فهو الأولى بهذا الحق من غيره أياً كان. كما أنه هو صاحب القرارات كلها، لأنه أعرف من سواه بما يمكن أن تفسر عنه تلك القرارات في الآحاد القريبة والبعيدة، ولعل القرآن أشار إلى أنه ﻻ يمكن الاعتماد على انتخاب البشر، طالما هو معرض للخطأ ولو كان الناخب نبيّاً من أولي العزم في مستوى موسى ابن عمران (عليه السلام) فقال: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا)(16)، (فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمّه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)(17). ولعل القرآن - كذلك - أشار إلى أنه ﻻ يمكن الاعتماد على القرار البشري طالما هو معرّض للخطأ، فقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [سورة الأحزاب: الآية 36]. 4- في الأجهزة البشرية يعتبر الجهاز التشريعي أهم من الجهاز التنفيذي، ولذلك يلزم أن ينتخب مباشرة من قبل الأمة، وأن يكون على اتصال وثيق ودائم بالشعب، في الوقت الذي ينتخب الجهاز التنفيذي من قبل الجهاز التشريعي، أو يكتفي باكتساب رئيسه ثقة الجهاز التشريعي. وأما بخصوص الأجهزة الإلهية فالجهاز التنفيذي أهم من الجهاز التشريعي، إذ ﻻ مجال للتشريع - بمفهومه المعروف من وضع القانون - في الأجهزة الإلهية، لأن الله تعالى هو المشرّع الوحيد والمطلق. فتنحصر مهمة الجهازين في التنفيذ بفارق بسيط، وهو أن الجهاز التنفيذي ينفذ في مجال الكون والجهاز التشريعي ينفذ في مجال الشريعة، وإذا انحصرت مهمة الجهازين في التنفيذ فالظاهر أن مهمة الجهاز التنفيذي أدق وأشمل، من مهمة الجهاز التشريعي الذي ﻻ يعدو - غالباً - بتبليغ الشريعة وحمايتها من المعتدين عليها بمحاولة الدس فيها أو القضاء على حملتها. كل هذا فيما قد نفهم، ولعل غير ذلك هو الصحيح في الواقع والله العالم. والملائكة الذين ما كان يروق لهم خلق خليفة في الأرض وقالوا الله: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) [سورة البقرة: الآية 30] وأجابهم الله تعالى منبّهاً إلى إحاطته بنواياهم بقوله: (واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) [سورة البقرة: الآية 33] لعلهم كانوا يكتمون التحفظ من أن يغدو خليفة الأرض وليّاً عليهم، وقد تتابعت البوادر التي أكدت أن تحفظهم كان يعبّر عن واقع، فقد أمروا بالسجود لآدم فور نفخ الروح في جسمه، ثم استوعب الرموز التي لم يكن بمقدورهم استيعابها. وحيث أن الله تعالى جعل للإمام - أي إمام معصوم - مهمتين: مهمة الولاية التكوينية، ومهمة الولاية التشريعية - كأهم ما جعل الله تعالى للإمام - فالغيبة عن الظهور في المجتمعات ﻻ تعجزه عن القيام بأية من مهمتيه. فأما بالنسبة إلى مهمته التكوينية فالإمام الغائب يؤديها في غيبته بتوفر ولعلها مهمته الكبرى، فغيبته ﻻ تؤثّر عليها مطلق لأن أداءها ﻻ يتوقف على الظهور بين الناس. ولعل ما ورد في الأحاديث الشريفة من تشبيه فائدة الإمام الغائب بفائدة الشمس الغائبة خلف السحاب إشارة إلى أن الإمام في غيبة يؤدي ولايته التكوينية، كما أن الشمس الغائبة خلف السحاب تؤدي خدمتها في تربية الكائنات الدائرة في محيط شعاعها رغم السحاب الذي قد يحجب عنها بعضاً من تلك الكائنات. وأما بخصوص مهمته التشريعية فالإمام المنتظر باعتباره استمراراً للنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ﻻ تكون مهمته في التبشير بمفاهيم جديدة لم تكن معروفة من قبل حتى يتوقف أداؤها على معايشة الناس. وإنما تتلخص مهمته الكبرى في صيانة المفاهيم التي نزل بها القرآن وبشر بها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله). وأداء مهمة صيانة الشريعة ﻻ يتوقف على معايشة الناس، لأنه فور ما يجد أياً من المفاهيم الإسلامية معرضاً للتشويه، يستطيع المبادرة إلى إيضاحه وتأصيله بواسطة بعض من يمكنهم الاتصال به. 2- ولعل هناك سبباً آخر لانتقال الإمام المنتظر إلى هذا العالم قبل موعد ظهوره بفترة طويلة، وهو أعداده لمهمّات خاصة لم تطرح حتى اليوم على الذهنية البشرية، ونحن - في هذه الفترة من عمر البشر - لا نستطيع استجلاء تلك المهمات، ولكن قد نستطيع أن نستشف بعض ملامحها من خلال الأحاديث المبشّرة بالحضارة المنتظرة (كالحديث الذي يقول بأنه يستنفد خيرات الأرض والسماء، وأنه يأتي ببقية العلم مائة حرف ويطيل أعمار الناس ويكمل عقولهم...) التشكيك في إيجابية فكرة الإمام المهدي (عليه السلام): الظاهرة الخامسة: ظاهرة التشكيك في إيجابية فكرة الإمام المهدي لسببين: الأول: تكريس اليأس عن جدوى أي عمل ايجابي قبل ظهره، مادام الله سبحانه وتعالى قدّر أن تملأ الأرض ظلماً وجوراً قبل ظهوره. الثاني: تكريس اليأس عن جدوى أي عمل إيجابي قبل ظهوره، مادام الله عز وجل قدّر أن تملأ - به - الأرض عدلاً وقسطاً، بغض النظر عن قلة أنصاره وكثرة أعدائه. وهذان القدران يعلنا تعطيل أدوار الآخرين، وبالتالي يوحيان بتجميد كل الطاقات المؤمنة به، لأن أي عمل إيجابي - قبل ظهوره - ﻻ يعني غير تحدّي القدر الذي يضحك من جميع المتحدين، وأي عمل بعد ظهوره ﻻ يعني سوى مجاراة القدر الذي ﻻ تنشطه المجاراة. والجواب: أولاً: إن الله إذا قدّر شيئاً ﻻ يعني أنه يوجده من الفراغ، بل أبت عادة الله أن لا يقدّر شيئاً إلا إذا توفرت أسبابه. فالقدر ﻻ يلغي دور الأسباب، وإنما يعزز دور الأسباب، والاطلاع على وجود قدر معين - عن طريق مصادر الوحي - يدفع إلى محاولة إيجاد أسبابه، لأنه يوحي بأن هذه المجادلة ﻻ تواجه معاكسات، وإنما تتكامل حتى تصل إلى نتيجة إيجابية، ومعرفة نجاح المحاولة تشّجع عليها ولا تثبط عنها أبداً. ثانياً: إن الاطلاع على أن الأرض ستملأ ظلماً وجوراً قبل ظهور الإمام المنتظر، ﻻ يوحي باليأس عن جدوى أي عمل إيجابي بما يلي: أ - إننا ﻻ نعلم - بالضبط - متى يظهر الإمام المنتظر، فربما يكون ظهوره بعد هذا التاريخ بعشرات أو مئات السنين - ﻻ سمح الله -. ب - أقصى ما يمكن أن يقال: أن معرفتنا بأن الأرض ستملأ قبل ظهور الإمام ظلماً وجوراً توحي بأن الأعمال الإصلاحية ﻻ تنتج على المستوى العالمي، بل يبقى الظلم والجور طاغيين على الوضع العام العالمي، وهذا ﻻ ينافي في نجاح المحاولات الإصلاحية على المستويات المحلية. ج - حتى مع لو علمنا - وبكل تأكيد - أن المحاولات الإصلاحية ﻻ تثمر على الإطلاق، فهذا العلم ﻻ يلغي التكليف، لأن الأعمال الإصلاحية تنعكس على القيمين عليها قبل أن تنعكس أو ﻻ تنعكس على سواهم، فالمفروض عليهم أن يقوموا بها تصعيداً لمستواهم، بالإضافة إلى أن الأعمال الإصلاحية لو لم تنعكس إيجابياً على الناس فإنها تنعكس عليهم سلبياً، فتكون من باب إتمام الحجة، الذي لابد منه لتثبيت المفاهيم، وإفراز العناصر الممّوهة عن بعضها وإعادة كل إلى واقعه، ليحق الحق وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة. ثالثاً: إن الاطلاع على أن الله قدّر أن تملأ - به - الأرض عدلاً وقسطاً، ﻻ يعني أنه وحده - وبطريقة معجزة - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وإنما يعمل ذلك بأنصاره، وإلا لماذا ينتظر أن يتكاملوا (313) رجلاً. رابعاً: إن الإعلان المسبق عن نجاح أيّ قائد على المستوى العالمي وانتصاره الساحق في معركة التغيير، أقوى ما يرفع معنويات أنصاره فوق المستحيل، ويكرس في نفوسهم أملاً ﻻ يتزعزع، ويسهل عليهم التضحية، لأن انتصاره خير ضمان لخلودهم حتى ولو سقطوا في الدرب قبل انتهاء المسيرة، فلذلك نجد أيّ قائد ينتفض من تحت الأرض يحاول تسكع البراهين المسبّقة لنجاحه وانتصاره حتى يضمن التفاف أنصاره حوله في الأزمات، فكيف يمكن أن يكون الإعلان المسبق عن الانتصار العالمي والنجاح المخيف - بالنسبة إلى الإمام المنتظر - ظاهرة سلبية تكرس اليأس في نفوس أنصاره والمؤمنين بإمامته؟ خامساً: إن تجربة التاريخ تؤكد إيجابية فكرة الإمام المهدي (عليه السلام) بشكل مخيف: ففي الجانب السلبي نجد السلطات المعاصرة لميلاده، والسلطات التي تلت ميلاده حتى اليوم تعمل بأقصى طاقاتها للقضاء على هذه الفكرة، فقديماً لم تكن التدابير العسكرية التي اتخذتها السلطات قبل ميلاده، وعنده ميلاده وبعد ميلاده للقضاء على شخصه إلا أدلة قاطعة على مدى صدمتهم بهذه الفكرة. وحديثاً ليس الإرهاب الفكري الذي يحاول تطويق هذه الفكرة إلا شاهداً على مدى ما يعانيه أعداء التشيّع من أصل فكرة الإمام المهدي (عليه السلام) بعد أن يئسوا من إمكانية القضاء على شخصه. وفي الجانب الإيجابي نجد أن جميع أجيال الشيعة كانوا ولا زالوا يشجعون آمالهم ويهدهدون أحلامهم بفكرة الإمام المهدي (عليه السلام)، وأظن أنه لولا فكرة الإمام المهدي (عليه السلام) لما استطاع التشيع أن يخترق ظلمات التاريخ، وإنما كان يختنق بروائح المجازر وغياهب السجون، فليس الزخم الذي يخرج أنقاض التشيع من تحت الكوابيس والمآسي والويلات بفتوة عنفوان أكثر من ذي قبل إلا زخم فكرة الإمام المهدي (عليه السلام). ولا أدلّ على مدى حيوية هذه الفكرة من أن جميع الحروب والتهريجات التي شنّت وتشنّ عليها ما زادتها إلا نشاطاً وصفاءً في أذهان مئات الملايين. ولا أدل على مدى حيوية هذه الفكرة من الكثيرين في كل الأجيال الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية انتحلوا هذه الفكرة ليحرقوا بها المراحل إلى القمة، وما خاب ظن أحد منهم فلم ينتحلها أحد إلا ونال أكثر مما كان يطمح إليه رغم توفر الأدلة على زيف كل من انتحلها حتى اليوم، وهل توجد أكثر إيجابية من فكرة ينجح بها كل من يدعيها ولو كذباً وزوراً؟ وإذا فحصنا التاريخ وجدنا فكرة النبوة أقوى الأفكار قبل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الذي ختم النبوة، فقبله كان الكثيرون من طلاب السلطة والشهرة يحاولون الانتماء إلى النبوة بسبب أو نسب، وعن طريق الادعاء - مجرد الادعاء - كانوا ينالون الذي يريدون. وبعد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) حيث ختم النبوة أصبح المُتمهديون يقومون بدور المتنبين، وهذا يكشف أن المهدوية ورثت قوة النبوة. إن فكرة لم ينتم إليها أحد بأي سبب أو نسب إلا وحلق فوق الرؤوس ﻻ تكون فكرة سلبية، ولكن المهرجين ضدها في ضلال مبين. ظاهرة انتهاء فكرة الإمام المهدي (عليه السلام): الظاهرة السادسة: ظاهرة انتهاء فكرة الإمام المهدي إلى الاتكالية طالما هو يفجر الثورة الكبرى في اللحظة المناسبة. فكأنها توحي إلى الناس جميعاً بأن ﻻ تعملوا أي شيء، فإنني سأعمل كل شيء. والجواب: أولاً : إن إعطاء كل شيء حجمه، ووضع الأشياء في أطرها ينتهي بالموضوعية ﻻ بالاتكالية، فإذا قلنا بأن الشمس ستشرق في وقت معين، وتضيء الدنيا، فليس معنى ذلك قتل الشمعة التي أقصى تضحيتها أن تنير دائرة محدودة حولها. فما من رسول من أولي العزم إلا وكانت تسبقه البشائر بظهوره ونجاحه في قيادة عملية التغيير إلى الأفضل، وما كانت هذه البشائر توحي بالاتكالية إلى أحد، وإنما كانت تعيد الآمال إلى حجم الطاقات التي تنطلق منها حتى ﻻ يحاول أكثر مما يستطيع فيزهد فيما يستطيع ويعجز عما ﻻ يستطيع ويضيع بين ما ﻻ يرضى به وبين ما لا يقدر عليه. إن الإعلان عن وجود رئيس الجمهورية - مثلاً - في مكتبه الأعلى، ﻻ يعني إلا إعادة الموظفين إلى دوائرهم المختلفة حسب صلاحياتهم. ﻻ إقالتهم من وظائفهم. وإن الإعلان عن وجود المصلح الأكبر على الطريق ﻻ يثبط أحد من إصلاح من يستطيع من أهله ومجتمعه وشعبه. ثانياً: إن كل فرد يدخل حلبة الصراع الاجتماعي الرهيب يشعر بالعجز عن إنجاز ما يطمح إليه قبل أن يدخل الحلبة: وهذا الشعور بالعجز ينسف كثيراً من الآمال التي تضيع طريقها إلى النور. فتكريس هذه الآمال في المصلح المنتظر تشجع الآمال المنهارة على قارعة الطريق أن تنهض وتواصل السير فمهما تقلبت الأجواء فلها المطاف الأخير. فالمقدمة ﻻ تستسلم إذا علمت أن ورائها جيش ساحق، ولكنها تستسلم فور ما تعلم أنها يتيمة ﻻ تعقبها نجدة. ثالثاً: إن هنالك من ﻻ يخوضون الممارسات العنيفة لأسباب مختلفة، ولكنهم إذا سئلوا عن السبب أجابوا بأن الإمام المهدي (عليه السلام) سيظهر ويصلح العالم، ﻻ لأنهم يرون أن فكرة الإمام المهدي (عليه السلام) تؤدي بهم إلى الموقف الذي يقفونه، ولكنهم ﻻ يريدون إعلان السبب الواقعي، ويريدون وضع حد لمتابعة السؤال، فيظن البعض أن إيمانهم بالإمام المهدي (عليه السلام) هو السبب الواقعي لاتخاذ ذلك الموقف. كما أن المؤمنين بالله إذا سئلوا عن ترك قضية ولم يريدوا كشف السبب الواقعي أجابوا بالتوكل على الله، فيظن الملحدون أن الإيمان بالله يؤدي إلى الاتكالية وترك الأمور على عواهنها. بينما الذين يعرفون موارد استخدام هذه التعبيرات يدركون أن هذا النوع من الإجابة قد يكون بمثابة رد دوبلماسي لسؤال ﻻ يريد عنه المسؤول جواباً. وقد يكون لغير ذلك أيضاً. وعن فلسفة الغيبة؟ لماذا غاب الإمام المهدي دون أسلافه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)؟ والجواب: إضافة إلى الإلماع الذي سبق منا: إلى ذلك يحتاج إلى بيان مقدمة، وهي: إن وجود الحجة من قبل الله - نبياً كان أو وصياً - أمر ﻻ بد منه لسببين: 1- لما ثبت في علم الكلام من أنه ﻻ بد من وجود الحجة ولولاه لساخت الأرض بأهلها. 2- لأن الحجة يشكل جبهة الحق، التي لابد أن تقاوم جبهة الباطل حتى يبقى على الأرض طريقان طريق الحق وطريق الباطل، يجد كل إنسان نفسه أمام خيارين ﻻ خيار واحد كما يقول القرآن الكريم: (وهديناه النجدين)(18) ولولا الحجة الذي يؤسس جبهة الحق ويقودها لأمكن أن ينحاز الناس إلى الباطل ووجد كل إنسان نفسه - مهما أوتي من صفاء الضمير - مضطراً إلى السير في طريق الباطل إذ ﻻ يجد بديله. وبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ارتبك طريق الحق وصارت الخلافة ملكاً عضوضاً كما أخبر الرسول نفسه، فلو كان الأئمة يغيبون لتقلصت جبهة الحق وسدت طريقه ووجدت الأجيال أنفسها أمام طريق الباطل وحدها فكان على الأئمة أن يظلوا في الناس ظاهرين مهما تعرضوا للتقتيل والتنكيل، حتى يشكلوا جبهة الحق ويستمر الصراع في الحياة بين الجبهتين ولو غابوا لما بقي من الشيعة عين ولا أثر. لأن الشيعة الذين يشكلون جبهة الحق الأصيلة. لم يكونوا قد اكتملوا كياناً راسخاً يصمد للزعازع، لم يكونوا قد اكتملوا كياناً فكرياً ولا كياناً اجتماعياً فبقي الأئمة واستمروا ما واجهتهم من ويلات ونكبات. أما وبعدما انكسرت سطوات العواصف وانتهى يزيد والمنصور والرشيد والمتوكّل من جهة ومن جهة أخرى تماسكت الشيعة كتلة صخرية منتشرة القواعد في أعماق التخوم الإسلامية وفكراً مركزاً كثير المصادر والرواة، بحيث تستطيع الصمود عبر التاريخ حتى ولو غاب إمامهم، لم تكن عندئذ ضرورة لبقاء الإمام ظاهراً معرضاً لكل الاحتمالات في جميع الأحوال، فغاب الإمام ليظهر في الوقت المناسب يداً تعلو فلا تطال وكلمة تدوي فلا ترد، وبقيت الشيعة فكرة أصيلة وطائفة صلداء. المعجزة وأبعادها يلاحظ أن الناس كانوا يطالبون الرسل وسائر الأولياء بالمعجزات وربما طالبوهم بمعجزة معينة، فكانوا يستجيبون لهم ويطلقون المعجزات خاصة إذا عرفوا إخلاص الطلب وبراءة الطالب. 1- فلماذا المعجزة؟ 2- وما هي المعجزة؟ والجواب عن السؤال الأول: أن الأنبياء يدّعون أنهم على اتصال بالله عز وجلّ، ويكلمهم الله بشكل من الأشكال التي بينها بقوله: (ما كان للبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً)(19). وربما يدّعون أكثر من ذلك كالمعراج: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)(20). وكالعلوم الغريبة: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء)(21). والأوصياء باعتبار أنهم امتداد للأنبياء بشكل أو بآخر، ويدعون الناس إلى اتباعهم على هذا الأساس.. والناس جميعاً يعلمون - بالفطرة - أن الله هو مصدر الكون والحياة.. ... عبر هذه كلها كان من الطبيعي أن يطالبهم الناس بإثبات علاقتهم بالله!. ولا يمكن إثبات علاقة بشر بالله إلا عن طريق المعجزات التي تثبت أن لصاحبها علاقة فوقية. هذا هو الجواب عن السؤال الأول: لماذا المعجزة؟ وأما الجواب عن السؤال الثاني: ما هي المعجزة؟ إن المعجزة ليست تفجيراً في نظام الكون، ولا استعلاءً على نظام الكون، ولا مفهوماً فوقياً يحجر على العقول. وإنما هي نوع بسيط من التعامل مع القوى الفوقية، وهي بالنسبة إلى البشر العادي: خرق للمألوف بغير المألوف. ومن نافلة القول: أن الحياة المعجزية ليست صرعة خرافية تفوح بالشهرة وأرضها من ترابة النجوم، وسمائها تسطع بأقمار المجد الزائف.. وإنما هي حياة واقعية ولكنها أعلى من الحياة العادية بدرجة. ذلك: أن الكون مؤلف من مجموعات متنوعة من الطاقيات والماديّات.. وهذه مسلطة على بعضها البعض، ويلاحظ أن ما هو ألطف وأضعف ظاهراً مسلط على ما هو أظهر حجماً وأكثف. ففي الماديات الحديد مسلط على التراب ومشتقاته من نبات وحيوان والنار مسلطة على الحديد، والماء مسلط على النار، والهواء مسلط على الماء والنور مسلط على الهواء... وعلى العموم الطاقيات مسلطة على الماديات. فالروح مسلطة على الجسد، والجاذبية مسلطة على الأجسام الكثيفة في مدى معين. والنسبية العامة مسلطة على الأجرام الضخمة في آماد بعيدة. هذا كله في مجال المحسوس المألوف. وإذا استطعنا الخروج عن مجال المحسوس المألوف - ولو بأذهاننا - تتراءى أمامنا آفاق من الطاقيات التي تتحكم في جميع الماديات والطاقيات المحسوسة. وتبدو السلطات متدرجة في شكل هرمي قاعدته الواسعة مؤلفة من الماديات.. وفوقها الطاقيات المحسوسة أو المألوفة. وفوقها الطاقيات غير المحسوسة وغير المألوفة، التي يعبر عنها بالروحانيات - حسب المصطلح - من الجن، والشيطان، والملائكة، وأرواح الناس.. وهي الطاقيات العاقلة المكلفة. وفوقها الكلمات... وفوقها الأسماء... وفوقها.. وقمتها الله - جل جلاله - الذي هو مصدر جميع الماديات، والطاقيات وهو محيط بكل شيء. ومهيمن على كل شيء. إذن: فالله - سبحانه وتعالى - هو الخالق الذي منه تبتدئ الأشياء، وإليه تعود. ثم الأسماء.. وهي القوى العظمى لأن الله خلقها بلا وسائط وهي من قدرته الخاصة به. ثم الكلمات.. وهي قوى كبرى، قد خلقها الله - تعالى - بواسطة الأسماء.. ثم الروحانيات.. التي خلقها الله بواسطة الكلمات. ثم الماديات التي خلقها الله سبحانه بواسطة بعض الروحانيات وهي: (فالمدبرات أمراً)(22)*. *** والبشر العادي ﻻ يستطيع تفهم ما هو خارج عن وسطه الذي نشأ وترعرع فيه، فإذا تفوّق على جواذب هذا الوسط يؤهل لتفهم بعض تلك الآفاق الطاقية، وربما للتعامل مع بعض مخلوقاتها - بنسبة تفوقه على مستلزمات وسطه - وقد يؤشر إلى هذا التفوق، وذاك السقوط قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه..)(23). فمن يرتفع عن الوسط العادي الذي تعيشه عامة الناس، ويتعامل مع أدنى طبقة من الطاقيات غير المألوفة يستطيع تحريك جميع الماديات، والطاقيات المتصلة بالماديات بشكل غير مألوف ﻻ تستطيعه سلطات الأرض وثقافة الأرض. وهذه هي أدنى درجات التفوق التي يتعاطاها الأولياء العاديون وربما المرتاضون أيضاً - في حدود خاصة بنسبة التفوق الروحي -، وهكذا كل من استعلى على شهواته الجسدية ومطامحه الأرضية مدة ﻻ تقل عن أربعين يوماً - غالباً -.. كطي الأرض.. والمشي على الماء.. ومخاطبة الروحانيات.. والاطلاع على ما وراء الحواجز والمسافات.. وربما: الإشراف على الزمان، والإخبار عما انطوى في ضمير الماضي، أو ﻻ يزال جنيناً في أحشاء المستقبل. ولهذه الدرجة طريقان: الطريق الرحماني الذي يؤدي إلى (الكرامة) والطريق الشيطاني الذي ينتهي إلى (السحر) أو (التسخير). ومن انحدر من سلالة عالية لم تتلوث بجواذب الأرض ومستلزمات الوسط العادي على الإطلاق.. (وتقلبك في الساجدين)(24). (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها)(25). فمن كان له مثل هذا التراث المقدس الذي يعصمه عن الانهيار والانزلاق - وهي صفة العصمة - ثم يواصل سيره التصادعي - كما نلاحظ في أربعينات النبي (صلّى الله عليه وآله) في غار حراء، واعتكافات جميع الأولياء. فإنه يستطيع أن يستوعب طبقات عليا من الطاقيات، وربما يوفق للتعامل معها - حسب مستواه - فيأتي بما يعجز عنه كثير من الناس حتى أصحاب الكرامات كإحياء الرميم، وفلق البحر، ورد الشمس، وشق القمر... وهذه هي (المعجزة) التي تختص بأصحاب العصمة من الأنبياء والأوصياء والملائكة - على اختلاف درجاتهم - الذين يتعاملون مع الكلمات. التعامل مع الكلمات: وقد لوح القرآن الحكيم بشخصيات من الأنبياء والأوصياء كانوا يتعاملون مع الكلمات. فمثلاً: يحيى النبي (عليه السلام) كان يتعامل مع كلمة واحدة: (إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله)(26). وآدم (عليه السلام) كان يتعامل مع عدة كلمات: (فتلقى آدم من ربه كلمات)(27). بينما كانت مريم الصديقة (عليها السلام) تتعامل مع جميع الكلمات: (وصدّقت بكلمات ربها)(28). - مع الاحتفاظ بالفواصل البعيدة بين التصديق بالكلمة، وبين تلقي الكلمة، وبين العلم بالكلمة -. ومن هنا تكون الدرجات التي - لعل - أعلاها العلم بالكلمة. ولذلك اختلف التعبير القرآني من مورد إلى مورد. فقال تعالى في شأن الخضر: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)(29). والتنوين في (علماً) ليس تنوين التعظيم، فليس بمعنى (علماً جمعاً) بدليل التنكير في (عبداً) و(رحمة). وقال سبحانه في خصوص آصف بن برخيا: (قال الذي عنده علم من الكتاب)(30). بينما قال - عز من قائل - بالنسبة إلى سيد الأوصياء: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)(31). ولعل العلم بالكلمة - الذي يساوي إتمام الكلمة - هو الذي يؤدي إلى الولاية الكونية، التي توصّل إليها إبراهيم الخليل بعد أن مرّ بتجارب في نفسه وماله وفي ولده: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً)(32). مع العلم بالفاصل البعيد بين العلم بالكلمة، وبين الكلمة ذاتها. (فالكلمة) لها فاعليتها الخاصة وقد ﻻ تكون لها القدرة على التعامل مع بقية الكلمات لأنها من نوعها - حتى لو لم تكن في مستواها. فيما العالم بالكلمة قد يكون من نوعية أعلى، فيكون في مقدوره التعامل مع مجموعة من الكلمات. فعيسى ابن مريم (عليهما السلام) لم يكن من سنخ الناس، وإنما كان كلمة من كلمات الله أظهرها الله تعالى في هيكل بشري: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم)(33). (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)(34). مع ما في الآية الأولى من الحصر بـ(إنما)، وفي الآية الثانية إرجاع ضمير المذكر في (اسمه) إلى (كلمة) باعتبارها طاقة إيجابية، وكذلك تعريف الكلمة لمريم بأن اسمه (المسيح عيسى ابن مريم) كي ﻻ تستغرب أن يكون ابنها كلمة الله. فكان عيسى ابن مريم (عليهما السلام) كلمة الله، ذات الكلمة، ولذلك كان من أولي العزم، لأن العزم ﻻ يمكن أن ينفصل عن الكلمة. وكان له نشاط معجزي مذهل منذ أن ألقاه إلى مريم، إلى أن رفعه الله، وكانت له مسلكية شخصية مختلفة عن مسلكية سائر البشر (ومع ذلك) لم يكن نشاطه الرسالي في مستوى نشاط سائر أولي العزم من الأنبياء، من نوح وإبراهيم وموسى ومحمد (عليه وعليهم الصلاة والسلام) حيث كانت رسالاتهم تأسيسية، فيما كانت رسالته تصحيحيّة. وأما آدم (عليه السلام) فقد كانت مبادئ نفسه عالية جداً،. يكفي: أنه كان روح الله، أي من القدرة المطلقة مباشرة - على ضيق في التعبير - فكان لديه الاستعداد الكافي للتعامل مع جميع الأسماء: (وعلّم آدم الأسماء كلها)(35). ولكنه كان مثقلاً بجسده الذي جمع الله فيه كل خواص الأرض من (سهلها، وحزنها، وطيبها، وسبخها، وعذبها وأجاجها) كما في الحديث الشريف: فابتلى بخلط مطامح الروح بمطامح الجسد: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)(36). ونتيجة لذلك فقد اختلف مستواه من مستوى التعامل مع (الأسماء كلها) إلى مستوى التعامل مع مجموعة معينة من الكلمات: (فتلقى آدم من ربه كلمات)(37). (وأما) كبار الرسل، وكبار الملائكة فإنهم يتعاملون مع الأسماء التي هي أعلى طبقات الطاقيات، فيتصرفون بها في جميع الخلائق مما هي دون الأسماء. وهذه درجة فوق المعجزة، وتختص بأصحاب (العصمة الكبرى) وهم أصحاب الولاية العامة، الذين يأتون بما يعجز عنه أصحاب الكرامات والمعجزات حتى الملائكة والأنبياء والأوصياء. وأصحاب (العصمة الكبرى) رغم قلة عددهم يشكلون درجات بل لكل واحد منهم مستوى وصلاحيات خاصة به: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات)(38). وسيّدهم وأفضلهم ذلك اليتيم الفقير الذي جاء بما فوق المعجزات، وتحدّى من سوى الله عز وجل فعجزوا عن الردّ عليه. (قل إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين)(39). (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)(40). (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)(41).
|
1- سورة الصافات: الآية 147. 2- سورة سبأ: الآية 28. 3- سورة طه: الآية 43. 4- سورة طه: الآية 42. 5- سورة يس: الآية 14. 6- سورة مريم: الآية 54. 7- سورة البقرة: الآية 124. 8- لعل القدماء تلقوا معلومات مشابهة لذلك من الأنبياء، وبسبب انحرافهم عن تعاليم الأنبياء، ومع تفاعل غريزة العبادة بالمعلومات الناقصة أو المشوهة اتجهوا إلى تسمية الملائكة الموكلين بالاقسام التكوينية (آلهة) ثم اتجهوا إلى نحت التماثيل لهم لذلك نجد الشبه بين اختصاصات (آلهة) القداس ومهمات الملائكة الموكلين بالأقسام التكوينية. 9- سورة آل عمران: الآية 20. 10- سورة الغاشية: الآية 21. 11- سورة طه: الآيات 2 و3. 12- سورة الإسراء: الآية 39. 13- سورة الإسراء: الآيات 74 و75. 14- سورة الحاقة: الآيات 44 - 47. 15- سورة النجم: الآية 3-4. 16- سورة الأعراف: الآية 155. 17- سورة الأعراف: الآية 143. 18- سورة البلد: الآية 10. 19- سورة الشورى: الآية 51. 20- سورة النجم: الآية 9. 21- سورة النمل: الآية 16. 22- سورة النازعات: الآية 5. * يلاحظ أن هذه مصطلحات لا نكاد نعرف مغزاها، فإنها غالباً أعمق من تفكير البشر، وقدرته المعنوية... 23- سورة الأعراف: الآياات 175 - 176. 24- سورة الشعراء: الآية 219. 25- من زيارة وارث التي يزار بها الحسين (عليه السلام). 26- سورة آل عمران: الآية 39. 27- سورة البقرة: الآية 37. 28- سورة التحريم: الآية 12. 29- سورة الكهف: الآية 65. 30- سورة النمل: الآية 40. 31- سورة الرعد: الآية 43. 32- سورة البقرة: الآية 124. 33- سورة النساء: الآية 171. 34- سورة آل عمران: الآية 45. 35- سورة البقرة: الآية 31. 36- سورة طه: الآية 115. 37- سورة البقرة: الآية 37. 38- البقرة: الآية 253. 39- سورة يونس: الآية 38. 40- سورة يونس: الآية 38. 41- سورة هود: الآية 13. |